وقد يكون من هم القائل أن يقول: «زيد ذاهب» يقصد أولا إلى الإخبار بهذا والحديث عن زيد، ثم يقول: هذا ظني، أو أظن، أو ظننت. فهنا كلامان، وحكم الاسمين على أصلنا الرفع، وأسلوب الكلام أن يتأخر الفعل ويتقدم الاسمان، فيجيء ترتيب اللفظ في النطق على ترتيب المعنى في النفس، وخطوره بالفكر، على أنه يمكن أن يفهم هذا مع المتوسط أيضا؛ إذ تقول: زيد أظن ذاهب.
وهذا هو تفسير سيبويه لمعنى الإلغاء في كتابه، قال في «باب الأفعال التي تستعمل وتلغى»: «وكلما أردت الإلغاء فالتأخير أقوى ... وإنما كان أقوى؛ لأنه إنما يجيء بالشك بعدما يمضي كلامه على اليقين، أو بعدما يبتدئ وهو يريد اليقين، ثم يدركه الشك، كما تقول: «عبد الله صاحب ذاك، بلغني» وكما قال: «من يقول ذلك؟ تدري؟» فأخر ما لم يعمل في أول كلامه، وإنما جعل ذلك فيما بلغه بعدما مضى كلامه على اليقين وفيما يدري، فإذا ابتدأ كلامه على ما في نيته من الشك أعمل الفعل قدم أو أخر، كما قال: زيدا رأيت، ورأيت زيدا. وكلما طال الكلام ضعف التأخير إذا أعملت.» ا.ه.
وقد يفهم هذا المعنى مع تقديم الفعل، إذا بدا في الكلام ما يدل على استقلال الثاني بالحديث والقصد إلى الإخبار، كما تقول: ظننت لزيد ذاهب. ولولا أن استقلال الثاني من غرض المتكلم كان وجيها أن يؤكد الكلام بعد فعل يدل على معنى الشك أو الرجحان، فقد سيق القول مساق التأكيد والتحقيق، ثم قيل: إن هذا مبلغ ظني، وجهد رأيي. وهذا التفسير قد تردد في كلام سيبويه في مواضع من كتابه.
وما ورد من الرفع بعد ظن فهو على هذا، والكلام فيه كلامان. وما الأدوات التي عدها النحاة معلقة للفعل عن العمل إلا دلائل على أن الكلام الثاني مستقل يقصد إلى الإخبار به، فيذكر معه ما يشهد بابتداء الكلام واستئنافه، وأنه لم يجئ بمنزلة اللاحق وإن جاء في اللفظ متأخرا.
فهذا تفسير كلام النحاة وما قالوه في الإلغاء والتعليق، على وجه يغني عن كثرة الاصطلاح وتعديد الأقسام، ويريح من كثير من الخلاف، ثم هو يرسل حكم الإعراب واحدا مستقيما، غير مردد ولا مضطرب.
فليس لنا من موضع نجيز فيه الرفع والنصب، أو نفضل أحد الوجهين على صاحبه، وإنما هو المعنى الذي يراد بيانه يوجب سبيلا واحدا مخصصا للأداء. (3) باب الاشتغال
الموضع الثالث من المواضع التي ردد النحاة فيها الحكم بين النصب والرفع باب الاشتغال. وهو باب دقيق عويص، وعر النحاة فيه البحث وأكثروا الخلاف.
وأصل هذا الباب أنك تقول: لقيت زيدا، فزيد منصوب وهو مفعول «لقيت» كما يعرب النحاة، ولك أن تقدم «زيدا» لسبب ما من أغراض التقديم، فتقول: زيدا لقيت، أو زيدا لقيته، وهذا التركيب الأخير وحده هو موضع الاشتغال ولأجله خلق الباب، وأطيلت أبحاثه.
والعقبة التي لوت طريق النحاة، هي أن الفعل قد نصب الضمير واستوفى بذلك عمله، فليس له أن ينصب الاسم المتقدم بعد ما شغل بضميره، واضطروا بحكم نظرية العامل وحكم فلسفتهم فيها، أن يقدروا لنصب هذا الاسم عاملا محذوفا واجب الحذف، يفسره الفعل المذكور، وتقدير الكلام عندهم: «لقيت زيدا لقيته.»
والفعل المقدر يسمى: «المضمر على شريطة التفسير» والفعل المذكور في الكلام يسمى: «المشغول أو المفسر»، والضمير المتصل به يسمى: «الشاغل».
अज्ञात पृष्ठ