وأسفل، منه تبتدئ وهو ما١ إذا غير الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات٢ وإن كان صحيح الإعراب ... وبين الطرفين مراتب كثيرة متفاوتة٣:
وإذ قد عرفت معنى البلاغة في الكلام وأقسامها ومرابتها، فاعلم
_________
١ أي هو طرف للبلاغة إذا غير الكلام عنه إلى مرتبة هي أدنى منه وأنزل.
٢ التي تصدر عن محالها بحسب ما يتفق من غير اعتبار اللطائف والخواص الزائدة على أصل المراد.
٣ أي بعضها أعلى من بعض بحسب تفاوت المقامات ورعاية الاعتبارات والبعد من أسباب الإخلال بالفصاحة بناء على أن البلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال في الجملة، لكن الحق كما في عبد الحكيم أنها مطابقة الكلام لجميع ما يقتضيه الحال لكن بقدر الطاقة.
هذا وبلاغة الكلام تتفاوت باختلاف الخصوصيات كما أو كيفا والمقام واحد، وباختلاف الخصوصيات تبعًا لاختلاف المقامات، وبترك خصوصية مراعاة لحال المخاطب.
وللبلاغة طرف أسفل وطرف أعلى وما بينهما: أما الأسفل فهو الكلام الفصيح الذي طابق أدنى مطابقة وليس تحته إلا ما يلتحق بأصوات الحيوانات. وأما الأعلى فهو حد الإعجاز الكلام الإلهي وما يقرب منه "وهو أبلغ كلام البشر".. وبينهما مراتب لا تحصى.
ولنا أن نتسائل. هل في طاقة البلغاء -بالطبع أو بالاكتساب- الوصول إلى حد الإعجاز، ولو بأن يأتوا بمثال أقصر سورة من القرآن؟ وللجواب على ذلك.
أقول: ولا شك أن علوم البلاغة ترسم أصول البيان العربي والسليقة العربية ومناهج الأداء والأسلوب، وبالوقوف على ذلك يمكن مع سلامة الذوق محاكاة أهل هذه السليقة في بلاغتهم، فنتكلم عن علوم البلاغة - لأنها قواعد السليقة العربية، وهل توصل إلى حد الإعجاز، وهل هي صالحة كأداة للوصول إلى مرتبة الإعجاز؟ ولا شك أن علوم البلاغة لا تؤدي إلى الوصول لحد البلاغة؛ لأنها لا تعرفنا المقامات بل الخصوصيات وحدها، ولو فرضنا جدلًا أنها تعرفنا مع الخصوصيات المقامات أيضًا، فلا تسلم الإحاطة بها لو فرضنا الإحاطة بها فإنها لا تعطيك قدرة على إنشاء كلام بليغ بدليل أن كثيرًا من علماء البلاغة لم يستطيعوا الإتيان بكلام بليغ، ولو فرضنا أنها تعطي الملكة فلا شك في أن الملكة البشرية لا تقدر على مراعاة الخصائص كلها في الكلام البليغ.
1 / 47