55

والآن نراه فارسا يصول ويجول في حلبة صراع أخرى مع خصوم أشداء أجمعوا أمرهم على عدائه ومناوأته، صراع لم يخمد أواره وينقشع غباره إلا بوفاته ولحاقه بربه الذي يعلم السر وأخفى.

خصومه

كان خصومه في هذا الصراع المستميت من الفقهاء والمتصوفة، وهو الذي خلقهم بصراحته وجرأته، وبذهابه إلى آراء لم تؤثر عن الفقهاء السابقين، وإرساله كلمات أحجم عن التصريح بمثلها الأولون والآخرون، ومست بعض ما يعده القوم مقدسات لا يجوز المساس بها، بل ينبغي أن تظل هكذا أبد الآبدين.

وهذه الأسباب التي جلبت على ابن تيمية خصومات كثير من معاصريه من الفقهاء وأصحاب الحديث وغيرهم، قد عرفها وأحسها كثير من عارفي الشيخ ومحبيه ومقدريه، وفي هذا يقول ابن رجب وهو يتحدث عن الشيخ عماد الدين الواسطي وإجلاله وتعظيمه لابن تيمية: ولكن كان هو وجماعة من خواص أصحابه ربما أنكروا من الشيخ كلامه في بعض الأئمة الكبار الأعيان، وفي أهل التخلي والانقطاع (يريد الزهاد والمتصوفة) ونحو ذلك، وكان الشيخ رحمه الله لا يقصد بذلك إلا الخير والانتصار للحق .

وطوائف من أئمة أهل الحديث وحفاظهم وفقهائهم كانوا يحبون الشيخ ويعظمونه، ولم يكونوا يحبون له التوغل مع أهل الكلام ولا الفلاسفة، كما هو طريق أئمة أهل الحديث المتقدمين كالشافعي وأحمد ...

وكذلك كثير من العلماء، من الفقهاء والمحدثين والصالحين، كرهوا له التفرد ببعض شذوذ المسائل التي أنكرها السلف على من شذ بها، حتى إن بعض قضاة العدل من أصحابنا (يريد الفقهاء الحنابلة) منعه من الإفتاء ببعض ذلك.

1

ثم يذكر ابن رجب بعد هذا، وهو ينقل عن الذهبي بعض ما قاله فيه: «ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها.

حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه، وبدعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يماري، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده ...

فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية مصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة فينجيه الله، فإنه دائم الابتهال، كثير الاستغاثة والاستعانة به، قوي التوكل، ثابت الجأش ...» إلى آخر ما قال.

अज्ञात पृष्ठ