افتتاح
القسم الأول
الباب الأول: عصر ابن تيمية
1 - الناحية السياسية
2 - الناحية الاجتماعية
3 - الناحية العقلية والعلمية
الباب الثاني: حياة ابن تيمية
1 - أسرته ونشأته ودراساته ومكانته العلمية
2 - جهاده التتار وكفاحه الظلم والمنكرات
3 - خصومه، محنته، ووفاته
अज्ञात पृष्ठ
الباب الثالث: منهج وتطبيقات
1 - المنهج
2 - التطبيقات
القسم الثاني
الباب الأول: في الفقه وأصوله
1 - أصول الفقه
2 - فقه ابن تيمية
الباب الثاني: في التفسير
1 - سورة الأعلى
2 - تفسير سورة الفلق
अज्ञात पृष्ठ
3 - سورة الناس
الباب الثالث: في الاجتماع والسياسة
1 - في الاجتماع
2 - في السياسة
خاتمة البحث
افتتاح
القسم الأول
الباب الأول: عصر ابن تيمية
1 - الناحية السياسية
2 - الناحية الاجتماعية
अज्ञात पृष्ठ
3 - الناحية العقلية والعلمية
الباب الثاني: حياة ابن تيمية
1 - أسرته ونشأته ودراساته ومكانته العلمية
2 - جهاده التتار وكفاحه الظلم والمنكرات
3 - خصومه، محنته، ووفاته
الباب الثالث: منهج وتطبيقات
1 - المنهج
2 - التطبيقات
القسم الثاني
الباب الأول: في الفقه وأصوله
अज्ञात पृष्ठ
1 - أصول الفقه
2 - فقه ابن تيمية
الباب الثاني: في التفسير
1 - سورة الأعلى
2 - تفسير سورة الفلق
3 - سورة الناس
الباب الثالث: في الاجتماع والسياسة
1 - في الاجتماع
2 - في السياسة
خاتمة البحث
अज्ञात पृष्ठ
ابن تيمية
ابن تيمية
تأليف
محمد يوسف موسى
افتتاح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم إنا نستمد بك المنحة، كما نستدفع بك المحنة، ونسألك العصمة، كما نستوهب منك الرحمة.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ويسر لنا العمل كما علمتنا، وأوزعنا شكر ما آتيتنا، وانهج لنا سبيلا يهدي إليك، وافتح بيننا وبينك بابا نفد منه عليك. لك مقاليد السماوات والأرض، وأنت على كل شيء قدير.
1
अज्ञात पृष्ठ
وبعد، فهذا كتاب كلفت بكتابته عن علم من أعلام العرب والإسلام، وهو الإمام «ابن تيمية»، وقديما أعجبت بفقهه إعجابا شديدا، ورأيته أحد الأئمة الذين شاء الله أن يجدد بهم الإسلام، وأن يعز بهم دينه وشريعته، وأن يحفظ به وبأمثاله أمة العروبة والإسلام.
وقد جعلته على قسمين وخاتمة، وكل قسم ينتظم أبوابا ثلاثة. وعنيت في القسم الأول ببيان عصره من نواحيه المختلفة، وبالكلام على حياته الخصبة المباركة وجهاده، وبتجلية منهجه في البحث، مع ذكر تطبيقات له في العلوم المختلفة.
وفي القسم الثاني، عنيت بالكلام على آرائه في الدين والحياة؛ في الفقه وأصوله، وفي تفسير ما اضطلع به من كتاب الله، وفي الاجتماع وسياسة الحكم وأصوله التي يقوم عليها.
وأخيرا، أشرت إلى مكانته ومنزلته العلمية، وإلى خصومه وأنصاره - وما أكثرهم! - فيه. كما أشرت إلى مقدار ما نفيد من دراسته ومنهجه في الحياة، وإلى أثره فيمن بعده.
ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدا، ومنك نستمد العون والتوفيق والسداد.
محمد يوسف موسى
روضة القاهرة في سنة 1381ه/1962م
القسم الأول
عصره وحياته ومنهجه
الباب الأول
अज्ञात पृष्ठ
عصر ابن تيمية
البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه
كما يقول العليم الحكيم، ومن أصدق من الله قيلا! وللبيئة - كما للوراثة - أثرها الكبير في الإنسان إلا أن يشاء الله، سواء في ذلك البيئة الطبيعية والاجتماعية والسياسية. وقد تحكمت البيئة في حياة كثير من الناس ومصايرهم، وبخاصة الذين صبروا على ما فيها من عادات وتقاليد متأصلة، فلم يعملوا للخروج عنها مع ما قد يكون فيها من ضلال وفساد، ومنهم من كانوا يقولون كما حكى الله عنهم:
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون .
1
ولم يخرج عن أحكام البيئات الضالة إلا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وكذلك المصلحون المجددون الذين ثاروا على ما توارثوه من عادات وتقاليد ليست من الحق في شيء، فعملوا على الوقوف دونها وتغييرها، وتحملوا صابرين راضين بما لقوا من اضطهاد وبلاء في هذه السبيل، ومنهم كان الإمام تقي الدين ابن تيمية، كما سنعرف في القسم الخاص بحياته وجهاده وكفاحه.
ولذلك، يجب علينا أن نبدأ هذا الكتاب بالكلام، دون تفصيل، عن العصر الذي عاش فيه ابن تيمية وما سبقه بقليل،
2
فنعرض أولا للحال السياسية، ثم بعدها للحال الاجتماعية؛ لننتهي بالحال العقلية والعلمية.
ومن ثم نتبين أي زمن عاش فيه من نواحيه كلها، وكيف كان قدرا مقدورا عليه أن يكافح ما رأى فيه من فساد، وذلك من حين بلغ الشيخ أشده واستوى وآتاه الله حكمة وعلما.
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الأول
الناحية السياسية
(1) تمهيد
ظلت الدولة العربية الإسلامية دولة موحدة في الشرق والغرب طوال عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية، لها أهدافها وغاياتها المعروفة، وتصدر عن رأي واحد جميع، وسياسة واحدة يرسمها الخليفة بالمدينة، ثم بدمشق من بعد.
وكان أول هزة عنيفة نالت من هذه الوحدة، ما كان من صراع معروف بين الأمويين والعباسيين، وانتهى هذا الصراع بقيام الدولة العباسية في الشرق والدولة الأموية بالغرب في الأندلس، ثم بالدول الأخرى التي قامت بشمالي أفريقية.
واستقر الأمر للدولة العباسية بالمشرق، ومشت قدما إلى الأمام حتى كانت فتنة الأمين والمأمون، فكانت إيذانا بتمزق الوحدة الإسلامية. ثم جدت عوامل أخرى جعلت عقد الوحدة ينتثر، وتظهر في رقعة الوطن الإسلامي الأكبر دولة صغيرة هنا وهناك، وكان لذلك أثره القوي في مركز الخلافة وضعف نفوذ الخلفاء وسكون ريحهم.
نعم، مرت الدولة العباسية من ناحية القوة والضعف بأدوار مختلفة، كان لخلفائها في بعضها الكلمة العليا والحكم النافذ، وفي بعضها لم يكن لهم من الحكم والخلافة إلا الاسم والرسم، فكانت السيادة الفعلية للمتغلبين عليهم، أمثال بني بويه الديالمة (334-447ه)، والأتراك السلاجقة (447-590ه)، وفي بعضها الآخر كانوا يسترجعون شيئا من القوة الذاهبة والعز الذي ولى، حتى انتهى أمرهم على أيدي التتار سنة 656ه.
وقد كان اصطناع الخليفة المعتصم بالله (218-227ه) للأتراك، يتخذ منهم جندا يستغني به عن العرب والموالي من خراسان إيذانا ببدء طور الضعف وزوال هيبة الخلفاء وذهاب الوحدة للأمة.
وذلك بأنه عندما أحس هؤلاء الجند الأتراك بأنهم عدة الخلفاء وقوتهم، أخذوا في الاستئثار بالسلطان حتى تحكموا في الخلافة وأمورها، بل في الخلفاء وحياتهم، وانتهى الأمر بأن صار الخليفة في منزلة من الهوان لا يملك من أمر نفسه شيئا.
وهذه المنزلة تظهر للباحث من حالة النظر في بعض كتب التاريخ، مثل: «الطبري» وصلته، و«الكامل» لابن الأثير، و«مروج الذهب» و«التنبيه والإشراف» للمسعودي، و«البداية والنهاية» لابن كثير، و«تاريخ بغداد» للخطيب ، و«شذرات الذهب» لابن العماد الحنبلي .
अज्ञात पृष्ठ
وكان لذلك أثره المحتوم: استقلال كثير من أمراء الأطراف، وظهور عدد غير قليل من الدول في رقعة البلاد العربية الإسلامية؛ مثل الفاطمية بمصر، والحمدانية بالجزيرة، والسامانية فيما وراء النهر، والبويهية، والخوارزمية، والسلجوقية، وذلك كله فضلا عن الدول التي ظهرت بالمغرب.
هذا، وقد كان مما حدث في مصر والشام في هذا العصر حدثان لهما في هذين البلدين الشقيقين أكبر الخطر من الناحية السياسية والاجتماعية معا، ولهما في حياة ابن تيمية بصفة خاصة أثر أي أثر، هما: ظهور التتار بالمشرق واستيلاؤهم على بغداد وزحفهم إلى الشام ومصر، والثاني: خروج الفرنج الصليبيين إلى هذين الإقليمين أيضا.
وينبغي أن نتناول هنا - ولو بإيجاز - هذين الحدثين اللذين عاصرهما الشيخ ابن تيمية، وأخذ كل منهما جانبا كبيرا من جهاده الحربي والسياسي، راجعين إلى ابن الأثير، وهو مؤرخ ثقة معاصر، وإلى غيره من المؤرخين المعاصرين له أو الذين جاءوا بعده. يقول ابن الأثير في أحداث سنة 617ه: «لقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم؛ منها ظهور هؤلاء التتر - قبحهم الله - أقبلوا على المشرق ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها، وستراها مشروحة مفصلة إن شاء الله تعالى.
ومنها، خروج الفرنج - لعنهم الله - من المغرب إلى الشام، وقصدهم ديار مصر، وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها، لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم.»
1 (2) أولا: ظهور التتار
عن هذا الحدث، نجد المؤرخ نفسه يتحدث عن مقدار ما في خروج التتار إلى البلاد الإسلامية بصفة عامة، فيقول: «لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة؛ استعظاما لها كارها لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين! ... ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي.
إن هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين. فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتل بمثلها، لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها ...
ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج. وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة ...
فإن قوما خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان ... ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر؛ مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكا وتخريبا وقتلا ونهبا، ثم يتجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق ... في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله ...
ومضى طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل فعل هؤلاء وأشد؛ هذا ما لم يطرق الأسماع مثله.
अज्ञात पृष्ठ
فإن الإسكندر، الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا، لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشر سنين ولم يقتل أحدا، إنما رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء (أي التتار) قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلا، وأعدل أهل الأرض أخلاقا وسيرة، في نحو سنة، ولم يبت أحد من البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم ويترقب وصولهم ...»
ثم يتكلم المؤرخ الثقة عن ديانتهم وبعض عاداتهم وتقاليدهم، فيقول: «أما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئا؛ فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرهما، ولا يعرفون نكاحا، بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه.»
2
وليس فيما يقوله ابن الأثير وغيره من المؤرخين عن ابتلاء العالم، وبخاصة البلاد الإسلامية، بالتتار وما ارتكبوه من الفظائع وعظيمات الأمور، شيء ما من المبالغة، فإن زحفهم الجياش، ومدهم المتلاطم الأمواج، قد أوقع الرعب في العالم كله حتى للقارة الأوروبية، وبدل الناس جميعا من بعد أمنهم خوفا .
ونعتقد أن المؤرخ «جيبون» قد صدق حين يمثل لقارئه مدى ما أصاب العالم من ذعر ورعب بسبب موجات التتار أو المغول، وذلك بقوله: «إنها كانت أشبه بهزات الطبيعة العنيفة التي تغير وجه الأرض»، وحين يقول: «إن بعض سكان السويد، وقد سمعوا عن طريق روسيا نبأ ذلك الطوفان المغولي، لم يستطيعوا أن يخرجوا كعادتهم للصيد في سواحل إنجلترا؛ خوفا من المغول!»
3
سقوط بغداد وأثره
يذكر المؤرخون لسقوط بغداد وذهاب الخلافة العباسية من العراق، أو على الأقل لتعجيل هذا المصير الذي كان حتما مقضيا، عوامل مختلفة؛ منها ما وصلت إليه الدولة من الضعف والفرقة لعوامل لا ضرورة لذكرها هنا، ويكفي أن نشير إلى الصراع بسبب الجنس، والنزاع العنيف بسبب اختلاف العقيدة أو المذهب الديني، وانصراف بعض الخلفاء ورجالات الدولة إلى ضرب من الحياة أنساهم الواجب عليهم لأمة العروبة والإسلام.
ولكن إذا كان كل ذلك حقا، فهل من الحق أن الخلاف بين أهل السنة والشيعة الرافضة، كان من تلك العوامل التي يسرت للتتار دخول بغداد أيضا؟ هذا ما يقرره كثير من المؤرخين، ومنهم ابن كثير الذي عاصر تلك الأحداث.
إنه يذكر في حوادث سنة 656ه أن وزير الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين، وهو مؤيد الدين محمد بن العلقمي - وهو من الرافضة - عمل لذلك بسبب ما كان من عداء وحرب بين أهل السنة وشيعته، «فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد ...» إلى آخر ما قال.
अज्ञात पृष्ठ
4
ومهما يكن من أمر، فقد أخذ التتار بغداد، وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها، وأزالوا معالم الحضارة والثقافة الإسلامية، وكان لذلك كله أكبر الآثار في حياة مصر والشام وسائر بلاد الإسلام. ونكتفي هنا بالكلام عن الناحية السياسية وحدها.
ليس علينا أن نتتبع التتار في معاركهم في الشرق حتى كفى الله شرهم وارتدوا على أدبارهم، ولكن نتعرض فحسب إلى مجيئهم بجموعهم إلى الشام ومحاولتهم امتلاك هذا القطر أولا ثم مصر ثانيا، ثم إلى ما كان من قيام الخلافة بمصر بعد بغداد.
في سنة 658 صار ملك العراقين وخراسان وغيرها من بلاد الشرق للسلطان هولاكو ملك التتار، فأصبح الطريق مفتوحا أمامه إلى الشام، فبادر إليها بجيوشه عابرين الفرات، وما لبثوا أن ملكوا حلب ثم دمشق، وجاسوا خلال الديار، وقد ملأ الرعب قلوب الأهلين بعد أن وصل التتار إلى غزة في طريقهم إلى مصر كنانة الله في أرضه.
وأرسل هولاكو رسله إلى مصر بكتاب يهدد فيه الملك المظفر قطز تهديدا بالغا بدأه بقوله: «من ملك الملوك شرقا وغربا»، وفيه يقول له: «فعليكم بالهرب وعلينا الطلب، فأي أرض تأويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص!»
ولكن الملك المظفر لم ينخلع قلبه من هذه الرسالة، وأعد للأمر عدته مستعينا بالله الذي ينصر عباده المؤمنين به حق الإيمان، وذلك أنه - كما يذكر ابن كثير - لما بلغه ما كان من أمر التتار بالشام، وأنهم عازمون على الدخول إلى ديار مصر، بادرهم قبل أن يبادروه، فخرج في عساكره وقد اجتمعت الكلمة عليه، حتى انتهى إلى الشام.
ثم التقى الجمعان بالشام على «عين جالوت»، وكان قتال شديد انتهى بنصر الإسلام وأهله انتصارا مبينا، وبهزيمة التتار هزيمة شنيعة وبفرارهم، فلحق بهم الجيش الإسلامي يقتلونهم في كل موضع ومكان.
ولما بلغ هولاكو ما صار على جيشه من المسلمين بعين جالوت، أرسل جيشا آخر يحاول استعادة الشام، فحيل بينه وبين ما يشتهون، ورجعوا إليه خائبين خاسرين؛ وذلك على يد الملك الظاهر بيبرس الذي خلف الملك المظفر، وكان ذلك بفضل الله وتضامن المصريين ومن عاونهم من أمراء الشام وأهله.
ويذكر المقريزي أن الملك المظفر، وقد عاين أن المسلمين زلزلوا زلزالا شديدا، ألقى خوذته على الأرض وصرخ بأعلى صوته: «وا إسلاماه (ثلاث مرات)! يا الله انصر عبدك قطز على التتار، وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، كان بعدها نصر الله المبين.»
ثم يقول المقريزي: «وأما التتار، فإنهم لما لحقهم الطلب إلى أرض حمص، ألقوا ما كان معهم من متاع وغيره وأطلقوا الأسرى، وعرجوا نحو طريق الساحل ، فتخطف المسلمون منهم وقتلوا خلقا كثيرا وأسروا أكثر. فلما بلغ هولاكو كسرة عسكره وقتل نائبه كتبغا، عظم عليه، فإنه لم يكسر له عسكر قبل ذلك، ورحل من يومه.»
अज्ञात पृष्ठ
5
وهكذا هزم الله التتار على أيدي المصريين ومن انضم إليهم من جند الشام من العرب وغيرهم، وأيقن التتار أن مصر لهم بالمرصاد، وأن قضاء الله هو الغالب، وأن العزة لله ورسوله وللعرب وللمؤمنين. •••
هذا عن الأثر السياسي الأول لسقوط بغداد بأيدي التتار، وإزالة الخلافة العباسية عنها، وكان الأثر الثاني هو إقامة هذه الخلافة بمصر بعد أن أصبحت مثابة للمسلمين ودرعا لهم، وستبقى كذلك بفضل الله إلى يوم الدين.
ظل منصب الخلافة شاغرا بعد قتل آخر الخلفاء ببغداد ثلاث سنين ونصف سنة، وفي هذه الفترة علا شأن مصر وبخاصة بعد وقوفها أمام التتار وردهم على أعقابهم مدحورين إلى غير رجعة.
وأحس القائمون بمصر من المماليك بضرورة العمل لإضفاء صفة «الشرعية» على ولايتهم وسائر تصرفاتهم، وكان من ذلك أن فكروا في إقامة خليفة بالقاهرة يستمدون منه سلطاتهم شرعا دون أن يتحيف ذلك شيئا من إمرتهم ونفوذهم، وقد تم لهم هذا على أيسر سبيل، وفرح الناس فرحا شديدا باحتضان مصر للخلافة والخلفاء الشرعيين.
وذلك بأن قدم إلى مصر سنة 659، في عهد سلطنة الملك الظاهر بيبرس، الأمير أبو القاسم أحمد ابن أمير المؤمنين الظاهر بأمر الله، وهو عم الخليفة المستعصم الذي قتله التتار ببغداد، فخرج السلطان الظاهر إلى لقائه ومعه القاضي والوزير والعلماء والأعيان وآخرون من دونهم.
وفي الإيوان بقلعة الجبل أثبت الأمير نسبه بمحضر السلطان ومن معه، فبويع بالخلافة، وكان أول من بايعه شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، وتلاه السلطان والقاضي ثم الأمراء ومن إليهم،
6
ولقب «المستنصر بالله»، وضرب اسمه على السكة، وكتب ببيعته إلى الآفاق.
فلما كان يوم الجمعة بعد ذلك بأيام، ركب الخليفة إلى الجامع بالقلعة، وخطب على المنبر ذاكرا شرف بني العباس، ثم دعا للسلطان ونزل وصلى بالناس. وبعد بضعة عشر يوما ، في رابع شعبان من ذلك العام، ألبس الخليفة السلطان بيده خلعة توليته، وفوض إليه الأمور في البلاد الإسلامية، ولقبه بقسيم أمير المؤمنين، وقرأ فخر الدين بن لقمان رئيس الكتاب تقليد الخليفة للسلطان.
अज्ञात पृष्ठ
وكانت بيعة السلطان للخليفة، كما يذكر المقريزي في كتابه «السلوك»، على العمل بكتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وعلى أخذ الأموال بحقها وصرفها في مستحقيها.
7
ونشير هنا إلى أن هذه الخلافة كانت رمزية لا أكثر، وذلك ما كان يتفق وطبيعة ذلك الزمان والحاكمين المتسلطين فيه، فلم يكن للخليفة - كما يقول المقريزي في «الخطط» - أمر ولا نهي، إنما حظه أن يقال: أمير المؤمنين!
ومهما يكن، فقد تبنى الخلافة بلد قوي، وآوت إلى ركن شديد، وأصبحت الأنظار ترنو إلى مصر بعد أن ردت التتار عن الشرق والإسلام والمسلمين، وبعد أن ظفر سلاطينها من المماليك بسند شرعي يتمثل في تقليد الخلفاء إياهم وتوليتهم لهم. (3) ثانيا: ظهور الفرنج
إذا كان ظهور التتار بالشام لم يكن إلا بعد سقوط بغداد سنة 656 كما رأينا، فإن الفرنج بدءوا في غاراتهم على الشام ومصر قبل ذلك بأكثر من قرن ونصف من الزمان، فإن ابن الأثير يذكر في حوادث سنة 491 أنه في سنة 490 خرج الفرنج إلى بلاد الشام، ثم يقول: «وقيل - أي في بيان سبب خروجهم إلى الشام - إن أصحاب مصر من العلويين (يريد أصحاب الدولة الفاطمية الشيعية) لما رأوا قوة الدولة السلجوقية، وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة، ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم من دخولها وحصرها، خافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام؛ ليملكوها ويكونوا بينهم وبين المسلمين، والله أعلم.»
8
ومهما يكن سبب خروج الفرنج إلى الشام، فإنهم استمروا في غاراتهم عليها وعلى مصر، ينتصرون مرة وينهزمون أخرى، وظلت الحرب سجالا بين الطرفين نحو قرنين من الزمان، حتى انتهى الأمر بطردهم نهائيا، على يد الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون سنة 690ه، وفي هذا يقول ابن كثير: «وفيها فتحت عكا وبقية السواحل التي كانت بأيدي الفرنج من مدد متطاولة، ولم يبق لهم فيها حجر واحد، ولله الحمد والمنة.»
9
من أجل ذلك كان عدم الاستقرار في مصر والشام هو طابع ذلك العصر؛ بسبب هؤلاء الصليبيين الذين انضم إليهم التتار، وقد ظهروا في الميدان في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وكانت معارك لا يكاد يخمد أوارها حتى تندلع من جديد هنا أو هناك في الشام ومصر، وكان على الشيخ ابن تيمية وأمثاله واجب يقومون به، وقد قاموا به فعلا.
अज्ञात पृष्ठ
ولسنا هنا في مقام قص أخبار أولئك الصليبيين حتى انتهى أمرهم وألقتهم سيوف المجاهدين إلى البحر، فقد حفلت بذلك كتب التاريخ التي هي على حبل الذراع لمن يريد. ولكن نشير إلى أمور تعتبر من صوى ذلك الزمن وأعلامه، ومنها يتبين أي عصر عاش فيه ابن تيمية حين رأى نور الحياة: (أ)
توطدت أقدام الصليبيين بالشام منذ زمن بعيد، واستولوا على أكثر حصونها وقلاعها ومدنها، ثم عكا ويافا وبيروت وصور وعسقلان وغيرها، كما ملكوا بيت المقدس سنة 492، وقتلوا بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا، منهم كثير من أئمة المسلمين وعلمائهم وزهادهم وعبادهم، وذلك فضلا عما سبوه من الحريم والأولاد.
10 (ب)
إلا أن مصر، بأهلها وأولي الأمر فيها، لا تنام على ثأر ولا ترضى بالضيم، والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، ومثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، كما يقول الرسول
صلى الله عليه وسلم .
ولذلك كان من الطبيعي أن تهب مصر لنجدة إخوانهم بالشام، وأن يعمل البلدان الشقيقان على رد عادية الفرنج، بل لطردهم من الأماكن المقدسة. ومن أجل هذا يروي التاريخ أن المعارك والحروب لم تفتر بينهم وبين المعتدين طوال تلك السنين. (ج)
ثم دار الفلك دورات، وتأذن الله بالفرج بعد الشدة، وبالنصر المبين على الصليبيين، فهب جيش مصر، بقيادة السلطان والبطل الخالد صلاح الدين الأيوبي لحرب هؤلاء العتاة الذين عاثوا في الأرض فسادا، وعبثوا بالأماكن المقدسة حتى أحالوا المسجد الأقصى أول القبلتين كنيسة.
وكان أن فتح الله عليه كثيرا من مدن الشام وحصونها، واستنقذها من أيدي غاصبيها الظالمين. ومن هذه المدن والبلاد: عكا، ويافا، وعسقلان وما جاورها، وطبرية، واللاذقية، وبيروت، وصور،
11
ثم بيت المقدس، وغير ذلك كله من البلاد والنواحي الهامة الأخرى.
अज्ञात पृष्ठ
غير أن الأمر لم يستتب نهائيا على هذا الوضع، فإن رغبة الصليبيين الجامحة في امتلاك موطن المسجد الأقصى لم تهن أو تضعف، والاعتداء يغري بالاعتداء مرارا؛ ولذلك كانت المدينة الواحدة، مثل عكا وبيت المقدس، كانت تنتقل من طرف إلى طرف أكثر من مرة، كما هو معروف من التاريخ. (د)
وكان من ذلك أن رأينا الحرب سجالا بين الطرفين، وأن خرج كثير من الفرنج في البحر إلى الشام وأرسوا بعكا وبيتوا أمرهم على قصد بيت المقدس؛ استنفادا له من المسلمين، وكان هذا سنة 600 على ما يقصه علينا ابن الأثير، ثم كثرت غاراتهم ببلاد الشام على ما يرويه المؤرخ نفسه في أحداث سنة 604.
وبعد بضع سنوات رأى الفرنج أن يشغلوا مصر بنفسها حتى لا تمد يدها لنجدة الشام، وطمعا فيها نفسها من ناحية أخرى، فسارت منهم جموع كثيرة بحرا إلى دمياط، وبعد حصار طويل وقتال شديد استولوا عليها، ولكنهم لم يلبثوا بها إلا يسيرا؛ إذ اضطرهم جيش مصر إلى الجلاء عنها سنة 618 بعد أن ذهب الكثير ما بين قتيل وأسير وغريق في البحر، بحمد الله تعالى.
12 (ه)
وننتهي من هذا العرض الموجز بالإشارة إلى أن الفرقة دبت بين ملوك بني أيوب بعد وفاة أبيهم السلطان صلاح الدين حتى صاروا أحزابا وفرقا، فقويت نفوس الفرنج بكثرتهم وبمن جاءوا إليهم من البحر، فطلبوا من المسلمين أن يردوا إليهم ما كان صلاح الدين افتتحه من أيديهم، وتم الصلح على أن يرد إليهم بيت المقدس وحده فتسلموه، وكان هذا سنة 626،
13
ثم استرده المسلمون منهم بحمد الله سنة 636.
14
وهكذا كان ذلك العصر مليئا بالأحداث السياسية، وكان أهم هذه الأحداث ما نعرفه من غارات الفرنج والتتار مجتمعين ومنفردين على الشام ومصر، والمعارك التي قامت بين المسلمين وبينهم على مدى الزمان، حتى أدال الله منهم، وتخلص منهم الإسلام وبلاده إلى غير رجعة.
الفصل الثاني
अज्ञात पृष्ठ
الناحية الاجتماعية
عاش الشيخ ابن تيمية في مجتمع بعيد عن أن تجمعه وحدة أو ما يقاربها في الجنس والمنزلة الاجتماعية، أو في الدين ومذاهبه التعبدية، أو في القضاء والقواعد التي يتحاكم الناس بموجبها، أو في غير ذلك كله مما يجعل لأفراد المجتمع وحدة لها أسسها وأهدافها وغاياتها المشتركة؛ بل كان مجتمعا متنافرا في هذه النواحي وما إليها بسبيل، ويتضح ذلك من هذه الكلمات التي نتناوله بها.
أجناس وطبقات
كان المجتمع في الشام ومصر في ذلك الزمان يموج بكثير من الأجناس المختلفة، بل المتباينة، في الطباع والعادات والتقاليد، وفي فهم الحياة وألوان المعيشة، ومع هذا فقد عاشت هذه الأجناس في هذين البلدين في عصر واحد، وامتزج بعضها ببعض حالة الحروب وفي ظل السلام، وكان لذلك أثر كبير فيما كانوا عليه هم وذرياتهم من الناحية النفسية والفكرية ونحوهما.
التقى في هذا العصر أقوام من أجناس مختلفة: أتراك، ومصريون، وشاميون، وعراقيون وفدوا إلى الشام وبخاصة بعد خراب بغداد، وفرنجة وتتار وقعوا في الأسر وأقاموا في البلاد، وأرمن وإسرائيليون.
هؤلاء جميعا وآخرون غيرهم، عاشوا في صعيد واحد على اختلافهم في عاداتهم وأخلاقهم وتقاليدهم، فكان منهم مجتمع لا يعرف الاستقرار، بل مجتمع فيه من الاضطراب وعوامله شيء كثير، وكان لهذا أثر بالغ خطير في الحياة السياسية والفكرية والقضائية حينذاك.
وكان من الطبيعي أن يكون المجتمع الذي يقوم على هذا النحو، طبقات يتلو بعضها بعضا في المراتب الاجتماعية، وفي السلطان والنفوذ، وذلك ما سنفصل فيه القول بعض التفصيل بعد هذه الإشارة؛ وذلك لأن التدرج الطبقي في تلكم الأيام كان له شأن كبير في ابن تيمية ونشاطه وكفاحه.
وفي هذا وذاك يقول المؤرخ المقريزي من كلام طويل له عن التتار خاصة وأثرهم في الشام ومصر، ما يحسن أن ننقل بعضه بنصه، وذلك إذ يقول:« فلما كثرت وقائع التتر في بلاد المشرق والشمال وبلاد القبجاق، وأسروا كثيرا منهم وباعوهم، تنقلوا في الأقطار، واشترى الملك الصالح نجم الدين بن أيوب جماعة منهم، سماهم البحرية، ومنهم من ملك ديار مصر وأولهم المعز بن أيبك. ثم كانت للملك المظفر قطز معهم الواقعة المشهورة على عين جالوت، وهزم التتار وأسر منهم خلقا كثيرا صاروا بمصر والشام.
ثم كثرت الوافدية في أيام الملك الظاهر بيبرس وملئوا مصر والشام ... فغصت أرض مصر والشام بطوائف المغل، وانتشرت عاداتهم بها وطرائقهم. هذا وملوك مصر وأمراؤها وعساكرها قد ملئت قلوبهم رعبا من جنكيز خان وبنيه، وامتزج بلحمهم ودمهم مهابتهم وتعظيمهم.
وكانوا (أي التتار) إنما ربوا بدار الإسلام، ولقنوا القرآن وأحكام الملة المحمدية، فجمعوا بين الحق والباطل، وضموا الجيد إلى الرديء، وفوضوا لقاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية من الصلاة والصوم والزكاة والحج، وناطوا به أمر الأوقاف والأيتام، وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية كتداعي الزوجين وأرباب الديون، ونحو ذلك.
अज्ञात पृष्ठ
واحتاجوا في ذات أنفسهم إلى الرجوع لعهد جنكيز خان والاقتداء بحكم «الياسه»،
1
فلذلك نصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم، والأخذ على يد قويهم وإنصاف الضعيف منه على مقتضى ما في «الياسه»، وجعلوا إليه مع ذلك النظر في قضايا الدواوين السلطانية عند الاختلاف في أمور الإقطاعات؛ لينفذ ما استقرت عليه أوضاع الديوان وقواعد الحساب ...» إلى آخر ما قال.
2 •••
وبعد هذا، لنا أن نقول بصفة عامة بأن المجتمع كان فيه قوتان كبيرتان لكل منهما نفوذها؛ الأولى: طبقة الأمراء وعلى رأسهم السلطان، وكان لها نصيب الأسد من النفوذ والجاه إن لم يكن النصيب كله، ومصدر ذلك سلطان الحكم وقوته.
والأخرى: هي طبقة العلماء والفقهاء وكبار رجال الدين، ومأتى نفوذ هؤلاء هو الدين نفسه، هذا الدين الجياش بالقوة والذي يقوى به - حتى على من بيدهم الحكم - من يمثله حقا ويعمل به في كل الشئون والأحوال. ويرى العارفون بالتاريخ ما كان في هذا العصر من نفوذ عز الدين بن عبد السلام، ومحيي الدين النووي، وابن تيمية، وأمثالهم جميعا، على السلاطين أنفسهم ومن إليهم، وعلى الشعب والأمة كلها، وسنرى في الفصل الخاص بحياة ابن تيمية مصداق ذلك كله.
ويكفي هنا أن نشير إلى أحد مواقف الشيخ عز الدين بن عبد السلام مع سلاطين عصره وأمرائه، وذلك حين أراد الملك المظفر الخروج لقتال التتار بالشام، وجد قلة ما عنده من المال في خزانته، وأنه «محتاج إلى المساعدة بشيء من أموال الرعية لإقامة الجند وتجهيزهم للسفر وما يعينهم على ذلك»، فجمع القضاة والفقهاء والأعيان لاستشارتهم في هذا، وطلب الموافقة على ما عزم عليه، فسكت من كان في المجلس إلا الشيخ عز الدين الذي قال: «إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على الحاكم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء من السلاح والسروج الذهبية والفضية، والكبابيش المزركشة، وأسقاط السيوف والفضة وغير ذلك، وتبيعوا ما لكم من الحوائص الذهبية والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على سلاحه ومركوبه ويتساووا هم والعامة. وأما أخذ الأموال من العامة مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة، فلا.»
3
قال الشيخ هذه الكلمة المدوية غير ناظر لما يلقاه بسببها من اضطهاد وبلاء، ولكن الملك المظفر قبلها منه وعمل بمشورته، فكان النصر من الله القوي العزيز.
وبلغ من مهابة الشيخ عز الدين في قلوب السلاطين والأمراء، أنه لما مات سنة 660 ومرت جنازته بالملك الظاهر بيبرس ورأى كثرة الخلق الذين معها، قال لبعض خواصه: «اليوم استقر أمري في الملك؛ لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه؛ لانتزع الملك مني!»
अज्ञात पृष्ठ
4
وبعد هذا، نشير إلى ما كان للشيخ محيي الدين النووي المتوفى سنة 676 في عهد الملك الظاهر بيبرس من مواقف مشهودة خطيرة معه، ومراسلات إليه فيها التوجيه الرشيد والنصح الصريح الشديد، وفيها طلب أن يعدل مع الرعية وأن يرفع عنهم المكوس الظالمة.
5
وإذا كان الواحد من أولئك الفقهاء العلماء لا يخاف في الله لومة لائم، ويرعى لما آتاه الله من العلم كرامته ومن الدين حرمته، فقد كان في ذلك العصر من تنزله الحاجة أو الحرص على الدنيا ومتاعها منزلة الدون ، فهو يستذل للسلطان ويضرع إليه في قصة له، وكان معاصرا لابن تيمية.
وفي هذا، ينقل السيوطي صور قصة «رفعها الفقير إلى رحمة ربه محمد بن مالك، يقبل الأرض وينهي إلى السلطان (هو الظاهر بيبرس) أيد الله جنوده وأبد سعوده أنه أعرف أهل زمانه بعلوم القراءات والنحو واللغة وفنون الأدب، وأمله أن يعينه سيد السلاطين ومبيد الشياطين - خلد الله ملكه، وجعل المشارق والمغارب ملكه - على ما هو بصدده من إفادة المستفيدين والمسترشدين بصدقة تكفيه هم عياله، وتغنيه عن التسبب في صلاح حاله ...
وقد نفع الله بهذه الدولة الظاهرية الناصرية الناس خصوصا وعموما، وكشف بها عن الناس أجمعين غموما، ولم بها من شعث الدين ما لم يكن ملموما؛ فمن العجائب أن يكون المملوك من مرتدي خيراتها وعن يمين عنايتها غائبا محروما، مع أنه من ألزم المخلصين للدعاء بدوامها، وأقوم الموالين بمراعاة زمامها.
لا برحت أنوارها زاهرة، وسيوف أنصارها قاهرة ظاهرة، وأياديها مبذولة موفورة، وأعاديها مخذولة مقهورة، بمحمد وآله.»
6
ونعتقد أن هذا الصنف من العلماء لا يخلو منه عصر، وهو لا يذكر بجانب العلماء والفقهاء الآخرين الذين أحاطهم الله برعايته، وملأت هيبتهم قلوب السلاطين والأمراء وعامة الأمة، بما عرفوا للدين من حرمة، وللعلم من كرامة، أمثال العز والنووي وابن تيمية وتلاميذهم، حتى كان الواحد منهم تهون عليه نفسه، ولا يعطي الدنية في دينه أو كرامته.
وكانت الطبقة الثالثة تجيء بعد هاتين الطبقتين السالفتين: الحكام ورجال العلم والدين، وهذه الطبقة الثالثة تشمل العامة والشعب من تجار وصناع وزراع، وهم الذين عليهم الكد والكدح، ولم يكن الواحد منهم يصل إلى ثمرة عمله كله، لما كان ينوبهم من مظالم ومكوس مختلفة تئودهم أحيانا كثيرة.
अज्ञात पृष्ठ
وكان الشيخ ابن تيمية يعنى كل العناية بهذه الطبقة العاملة: فهو عليها حان عاطف، ولها موجه مرشد، وكثيرا ما عمل لرفع ما كان ينزل بهم من مظالم على اختلاف ضروبها، كما كان كذلك معنيا بالطبقة الأولى الحاكمة، فهو يبذل جهده في إبعادهم عن الظلم، وتوجيههم للخير في الدنيا والدين، وسنعرف من ذلك الكثير بعد حين. •••
ولعل من الواجب أن نلاحظ أن العلماء ورجال الدين البارزين بصفة خاصة، كانوا يعيشون في ذلك العصر معيشة راضية، بفضل ما كان يغدقه عليهم السلاطين والأمراء من وظائف ذات مرتبات طيبة؛ رغبة منهم في استمالتهم إلى جانبهم وضمانا لرضاهم عنهم؛ لأن إليهم قياد العامة في السخط والرضا.
وفي ذلك يذكر المؤرخ ابن كثير أنه في سنة 690 طلب القاضي بدر الدين بن جماعة من القدس على البريد إلى الديار المصرية لتوليته قضاء القضاة، بدل تقي الدين ابن بنت الأعز الذي عزل من هذا المنصب، فجاء القضاة إلى تهنئته.
ثم يقول عن ابن بنت الأعز: «وكان بيده سبعة عشر منصبا، منها: القضاء والخطابة، ونظر الأحباس، ومشيخة الشيوخ، ونظر الخزانة، وتداريس كبار.»
7
ويقول عنه ابن السبكي وعن مناصبه العديدة: «إنه كان من أحسن القضاة سيرة، جمع بين القضاء والوزارة، وولي مشيخة الخانقاه وخطابة الجامع الأزهر، وتدريس الشريفية وتدريس الشافعي والمشهد الحسيني بالقاهرة ...» إلى آخر ما قال عن المحنة التي جرت له.
8
وكذلك يقول المقريزي: «ولزم ابن بنت الأعز داره ولم يترك بيده شيء من الوظائف، وكان بيده سبع عشرة منها، وهي: القضاء بديار مصر، وخطابة الجامع الأزهر، ونظر الأحباس، ومشيخة الشيوخ، ونظر التركة الظاهرية ... وعدة تداريس، وألزم الإقامة في زاوية الشيخ نصر المنبجي خارج القاهرة ...» إلى آخر ما قال.
9
وبعد هذا نجد ابن كثير يذكر في حوادث سنة 701 أنه: «في يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول جلس قاضي القضاة وخطيب الخطباء بدر الدين بن جماعة بالخانقاه الشمساطية شيخ الشيوخ بها عن طلب الصوفية له بذلك ورغبتهم فيه، وذلك بعد وفاة الشيخ يوسف بن حمويه، وفرحت الصوفية به وجلسوا حوله. ولم تجتمع هذه المناصب لغيره قبله، ولا بلغنا أنها اجتمعت إلى أحد بعده في زماننا هذا: القضاء والخطابة ومشيخة الشيوخ.»
अज्ञात पृष्ठ