هذه العلوم وأثرها
كانت مصر والشام في العصر الذي عاش فيه ابن تيمية؛ أي في القرنين السابع والثامن (وكل منهما يعتبر إلى حد كبير امتدادا للقرن السابق له)، يموجان موجا بالعلم على مختلف فروعه، وبالثقافة بمتنوع ألوانها، وكان طريق العلم والمعرفة ممهدا لسالكيه.
كان يدرس في هذه المؤسسات العلمية التي ملأت البلاد: علوم القرآن، والتفسير، والحديث، والسنة النبوية، والفقه بمذاهبه المعروفة، والنحو والصرف، وسائر علوم اللغة العربية، والتاريخ، وتاريخ الرجال وطبقاتهم ...
وبجانب هذه العلوم الإسلامية المعروفة، كان يوجد مكان ملحوظ لعلوم أخرى من علوم الحياة؛ مثل: الفلسفة، والهيئة أو الفلك، والهندسة، والرياضيات، والطب وما يتصل به، إلى غير ذلك كله مما عرفه العرب والمسلمون من علوم وفنون عديدة مختلفة.
وكان الطب يدرس في تلكم الأيام على ما ينبغي؛ أي من الناحية النظرية والعملية، فقد كان في القاهرة ودمشق وحلب مدارس للطب خاصة، كما كان هذا العلم يدرس في مدارس أخرى بجانب غيره من العلوم، وكانت المارستانات موطن الدراسة العلمية لهذا العلم.
ومن أجل ذلك كله، نستطيع أن نقرر بأن هذا العصر كان عصرا مجيدا من ناحية الثروة العلمية التي جمعت فيه في علوم الدين واللغة والتاريخ وعلوم الحياة أيضا، حتى إنه ليعتبر بحق عصر المؤلفات المطولة والموسوعات الجامعة في علوم القرآن، والتفسير، والحديث، والفقه، والتاريخ، وطبقات الرجال، وغيرها من العلوم الإسلامية المختلفة.
ولكنه لم يكن فيه من أصالة الفكر والتجديد والابتكار في الآراء، حظ كبير يتميز به ويتناسب ولو إلى حد ما مع كثرة ما جمع فيه من معارف وعلوم، اللهم إلا ما كان لدى نفر قليل على رأسهم الشيخ ابن تيمية كما سنعرف بعد حين.
هذا، وقد كان لإنشاء المدارس آثار طيبة جدا من نواح كثيرة، ولكن - في رأينا - كان لها أثر آخر غير محمود نكتفي هنا بالإشارة إليه؛ ونعني به أنها أذكت روح التعصب بين الفقهاء والعلماء، وهذا ما أدى إلى تباغضهم وتحاسدهم أحيانا كثيرة.
فقد كانت المدرسة تخصص أحيانا لعلم واحد كالحديث، أو لمذهب واحد من المذاهب الفقهية ، وهكذا، فكان كل فريق بما لديهم فرحين وعليه مستمسكين وله ينصرون، غير مبالين ولا طالبين في حالات كثيرة للحق في ذاته، وغير ملتفتين إلى أن العلم وطلبه يقضي بالتعاون والتناصر عليه متى ظهر في أي جانب ومهما كان قائله.
ولهذه العصبية التي قد تؤدي إلى الخلاف والجدل بغير حق، عرق قديم في العالم الإسلامي كما في سائر العالم كله بين أصحاب المقالات والمذاهب المختلفة؛ نعرف ذلك بين أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها من مذاهب الشيعة وابن حزم، ونعرفها بين المعتزلة والأشاعرة وغيرهم من رجال الفرق الإسلامية، ونعرفها بين أهل السنة وأهل الرأي، ونعرفها بين الفلاسفة والمتصوفة، وبين غيرهم من رجال الفقه وعلم الكلام.
अज्ञात पृष्ठ