ولعل من الخير أن نذكر هنا - بعد ما تقدم - أن الأستاذ الشيخ محمد عبده، في ردوده على الأستاذ فرح أنطون، صاحب مجلة الجامعة، انتهى إلى أنه «ليس من الممكن لمسلم أن يذهب إلى ارتفاع ما بين حوادث الكون من الترتيب في السببية والمسببية، إلا إذا كفر بدينه قبل أن يكفر بعقله».
ويعلل هذا بأن ما يحصل في الكون لا يكون عن صدفة واتفاق، بل عن نظام قدره الله في علمه الأزلي، والأسباب والمسببات بعض ما انتظم هذا العلم، فهي تصدر عنه على حسب ترتيبها فيه، ثم ينتهي بأن «الفلاسفة وجمهور المتكلمين واللاهوتيين على وفاق في حقيقة المسألة، وإن اختلفت العبارات، فابن رشد - رحمه الله - لم يخرج بآرائه عن المليين.» ونقول: إن المتكلمين، الذين هم على وفاق في هذه المسألة مع الفلاسفة كما يقول الشيخ، ليسوا هم الأشاعرة وأهل السنة، وفيما قدمناه عن الغزالي دليل على هذا أي دليل.
ومهما يكن، فقد ختم فيلسوف قرطبة كتابه «تهافت التهافت»، الذي خصصه للرد على الغزالي وهدم كتابه «تهافت الفلاسفة»، بقوله:
وهذا الرجل - يعني الغزالي - كفر الفلاسفة بثلاث مسائل: إحداها هذه؛ أي إنكارهم لبعث الأجساد، وقد قلنا كيف رأي الفلاسفة في هذه المسألة، وأنها عندهم من المسائل النظرية؛ والمسألة الثانية قولهم إنه - أي الله تعالى - لا يعلم الجزئيات، وقد قلنا: إن هذا القول ليس من قولهم، والثالثة قولهم بقدم العالم، وقد قلنا: إن الذي يعنون بهذا الاسم ليس هو المعنى الذي كفرهم به المتكلمون.
ثم قال في النهاية:
وقد رأيت أن أقطع ها هنا القول في هذه الأشياء، والاستغفار من التكلم فيها، ولولا ضرورة طلب الحق مع أهله - وهو كما يقول جالينوس: رجل واحد من ألف - والتصدي إلى أن يتكلم فيه من ليس من أهله، ما تكلمت في ذلك - علم الله - بحرف، وعسى أن يقبل العذر في ذلك، ويقيل العثرة بمنه وكرمه وفضله، لا رب غيره.
وما أحسن ما ختم به رده عدوان الغزالي على الفلسفة ودفاعه عنها!
خاتمة المطاف
على أنه برغم هذا كله، بل كان من أجل هذا كله، لم تخل حياة ابن رشد - مثله مثل غيره من الموهوبين المجدودين - من متاعب وآلام، حسدا وبغيا من جماعة لم يهبهم الله ما وهبه، ولم ينالوا من الخير ما ناله.
لقد توفي الخليفة يوسف أبو يعقوب، فولي بعده سنة 580ه ابنه يعقوب، الذي لقب بالمنصور، فنال لديه فيلسوفنا ما كان له من المكان العلي لدى أبيه، إلا أن القدر كان له بالمرصاد، فابتدأ يظهر سوء الظن به وبعقيدته، وكان هذا مقدمة لنكبته والحكم بنفيه.
अज्ञात पृष्ठ