لقد بلغ من المنزلة والحظوة لدى الخليفة المنصور درجة ارتفعت فيها الكلفة أو كادت، فلم يكن يلزم نفسه رعاية ما تراعيه حاشية الملوك من الملق والأدب الزائد المصنوع، وكان - كما يرويه لنا القاضي أبو مروان الباجي - متى حضر مجلس المنصور وتكلم معه، أو بحث عنده في شيء من العلم، يخاطب المنصور فيقول: تسمع يا أخي! وربما قربه هذا الخليفة في مجلسه على كل أصحابه.
وفي سنة 591ه، أراد المنصور غزو الفونس، ملك كاستيلا وليون، فجاء إلى قرطبة واستدعى ابن رشد إلى مجلسه، فلما حضر أجلسه بجانبه، وقربه إليه أكثر من المعتاد، وجاوز به مكان أقرب الناس إليه، وغمره بعطفه الكبير حتى قال - وقد خرج من لدنه - لمهنئيه من تلاميذه وأصحابه بهذا العطف، بعد أن أرجف الأعداء بأن أمير المؤمنين قد أمر بقتله: «والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء؛ فإن أمير المؤمنين قد قربني دفعة إلى أكثر مما كنت أؤمله فيه، أو يصل رجائي إليه.»
على أن الأيام السود في حياة ابن رشد قد جاءته تسعى؛ فإن المراكشي يذكر أن المنصور أخذ عليه أنه في شرحه لكتاب «الحيوان» لأرسطوطاليس قال عند ذكره للزرافة: «وقد رأيتها عند ملك البربر - يريد المنصور.» فرأى هذا في ذلك إهانة له ولأسرته المالكة، إلا أنه أسرها في نفسه ولم يبدها له، ولم يشفع له عنده، كما يذكر ابن أبي أصيبعة، ما اعتذر به من أنه كتب «ملك البرين»؛ أي أفريقية والأندلس، فغلط الكاتب لتقارب الكلمتين في الحروف.
كذلك يروي نفس المؤرخ أن جماعة من أهل قرطبة، من الذين كانوا ينازعونه الشرف والمجد، أخذوا يتلمسون الوسائل لإيغار صدر الخليفة عليه كما يحدث عادة بين النظراء إلا من عصم الله، وأسعدهم الحظ بأن رأوه كتب بخطه في بعض تلاخيصه حاكيا عن بعض قدماء الفلاسفة: «فقد ظهر أن الزهرة إحدى الآلهة.» فطاروا بهذه الكلمات فرحا إلى المنصور، وأوهموه أنها من كلام ابن رشد لا حكاية لقول بعض القدماء.
كان من هذا وذاك أن استدعى المنصور ابن رشد في حفل ضم رجال الدين والرؤساء والأعيان بالمسجد الجامع الأعظم بقرطبة، وكانت محاكمة لا ظل للعدالة فيها للقاضي الأكبر أو لشيخ القضاة، الذي كان مثلا أعلى في قضائه وتحري العدل التام.
ذلك بأن الحسدة والدساسين قد أجمعوا أمرهم، وخيلوا للناس أن الأمر ليس إلا الاختيار بين الدين والفلسفة؛ ولهذا لم يمكن - كما يقول الأنصاري - عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام، وكان بعد هذا أن أمر المنصور بلعنه وطرده ونفيه، ونفي من كان معروفا على مذهبه، وبإحراق كتب الفلسفة كلها، اللهم إلا الطب والحساب وما يكون وسيلة من علم النجوم إلى معرفة أوقات الصلاة واتجاه القبلة، وأمر بكتابة منشور عام للبلاد كلها بفضيحة هؤلاء ومروقهم من الدين، ووجوب الاعتبار بهم وبمصيرهم.
على أن الأنصاري بعد روايته مسألة الاتهام والحكم بالنفي وسياقة المنشور، نقل عن أحد رجال الدين، الذين اتصلوا بابن رشد أيام توليه قضاء قرطبة، أنه برغم رعاية أبي الوليد رعاية تامة شعائر الدين، زل زلة لا جابر لها تبعد صاحبها عن الدين.
ذلك أنه شاع أن ريحا عاتية تجري بالشؤم ستهب يوم كذا ، واشتد جزع الناس لهذا حتى اتخذوا الغيران والأنفاق تحت الأرض، ولما سار ذكر هذه الريح في كل الجهات جمع والي قرطبة طلاب العلم والفقهاء، وفيهم القاضي ابن رشد وصديقه ابن بندود، فلما انصرفوا من عند الوالي قلت: إن صح أمر هذه الريح فهي ثانية الريح التي أهلك الله بها قوم عاد، فلم يتمالك ابن رشد نفسه أن التفت إلي وقال: «والله وجود قوم عاد ما كان حقا، فكيف سبب هلاكهم؟!» فوجم الحاضرون، وأكبروا هذه الزلة التي لا تصدر إلا عن كافر مكذب للقرآن.
ونرى من الخير أن ننقل عن الأنصاري نفسه تلك الوثيقة الرسمية الدالة على روح ذلك العصر، أي المنشور الذي أمر الخليفة كاتبه أبا عبد الله بن عياش بكتابته إلى مراكش وغيرها؛ لنرى كيف تفكر العقول إذا غلبتها الأساطير، وكيف تنفث القلوب سما إذا ملأها الحقد والكيد. وها هو ذا:
قد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، وأقر لهم عوامهم بتفوق عليهم في الأفهام، حيث لا داعي يدعو إلا - لعل الصحيح: إلى - الحي القيوم، ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم، فخلدوا في العالم صحفا ما لها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق، بعدها من الشريعة بعد المشرقين، وتباينها تباين الثقلين، يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها، وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقا، ويسيرون فيها شواكل وطرقا! ذلك بأن الله خلقهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون؛ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم. ألا ساء ما يزرون!
अज्ञात पृष्ठ