هذه النصوص صريحة في أن بعض ما أعد للأشقياء والسعداء من عذاب ونعيم لا يمكن أن يتناول الأجسام؛ وإلا فكيف نؤول العذاب بالنار التي تأكل الجلود فيبدل الله جلودا غيرها ليدوم العذاب؟! وكيف لا يكون التمتع بالحور والولدان، والفاكهة المختلفة الضروب والألوان، والأنهار المترعة باللبن والخمر والعسل المصفى، وكلها لذة للشاربين، كيف لا يكون هذا كله نعيما للجسم والروح معا، وللجسم أولا؟! (د)
وأخيرا، نصل إلى مسألة السببية التي أثارها الغزالي واختلف فيها مع الفلاسفة اختلافا كبيرا.
ظن الغزالي أن القول بالسببية، أي بوجود علاقة ضرورية بين الظاهرة وما يراه الفلاسفة سببا لها لا يتفق والدين، الذي يرد كل ظاهرة أو فعل لله وحده، والقادر على أن يخلق الظاهرة من غير ما يراه الفلاسفة سببا لها لولاه لم تكن.
ونراه يقول في هذا: «الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وبين ما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ، ولا ذاك هذا؛ ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر؛ فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، وذلك مثل: الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار ... إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف. وإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه لخلقها على التساوق، لا لكونه ضروريا في نفسه، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل ... وإدامة الحياة مع جز الرقبة، إلى جميع المقترنات، وأنكر الفلاسفة إمكانه وادعوا استحالته.»
هكذا وضع حجة الإسلام المسألة محاولا جعل المتكلمين في طرف، والفلاسفة في طرف، وزاعما أن في رأي الفلاسفة حدا من قدرة الله المطلقة!
ولم يسع ابن رشد، في سبيل الرد على الغزالي وأمثاله، إلا أن يلجأ إلى المشاهدة والحس وقوة ما فيهما من دلالة؛ فيقرر أن إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تشاهد في المحسوسات سفسطة، وأن من يتكلم بذلك إما أن يكون مخالفا لما يعتقد، أو عجز عن التخلص من شبهة سفسطائية عرضت له. ثم يذهب إلى أن الفصل في أن هذه الأسباب تكتفي بنفسها في خلق ما يصدر عنها من أفعال، أو تحتاج في ذلك إلى سبب أعلى، أمر ليس بديهيا، بل يحتاج إلى بحث وفحص كثير، كما يقرر في تهافته.
وبعد استعانته بالحس، نراه يستعين بالمنطق الذي يؤكد أن العقل ليس شيئا أكثر من إدراك الموجودات بأسبابها، وأن الذهاب إلى نفي الرابطة الضرورية بين الأشياء وأسبابها رفع للعقل، ومبطل له.
على أن القول بقانون السببية هذا ليس معناه إثبات خالقين متعددين بجانب الله، وذلك ما خافه المتكلمون.
ذلك بأن القول بأن النار سبب أو علة للإحراق - وهذا مثل من الأمثلة - لا ينفي أنها لا تفعل ذلك من نفسها، بل من قبل مبدأ أعلى هو شرط في وجودها، فضلا عن إحراقها، فضلا عما في الذهاب مذهب السببية وقانونها من الإقرار لله بالحكمة البالغة، التي تجعل لكل شيء سببا، وترتب كل أثر على مؤثر، مع الاعتراف بأن كل هذه الأسباب والمؤثرات من صنع إله عالم قادر حكيم، وأن كل شيء يرجع في آخر الأمر إليه وحده.
ذلك ما كان من الغزالي ضد الفلاسفة، ومن ابن رشد ردا عليه، وقد أطلنا في عرضه قليلا؛ لأن في ذلك عرضا موجزا لقضية حرية الفكر والتقليد، والعقل والوحي، والحكمة أو الفلسفة والشريعة من أهم نواحيها: ناحية الهجوم وناحية الدفاع.
अज्ञात पृष्ठ