रास्ते में
في الطريق
शैलियों
وكان للفتاة - فتاتى أنا لا السقاء - قطة صغيرة عزيزة عليها، فاتفق أن مر كلب ضال، وكانت هى - أعنى القطة لا الفتاة - واقفة على العتبة، فدنا منها الكلب وهى غافلة، ولعلها كانت مغفية، فأحست أنفاسه وهو يشمها، ففتحت عينيها وهى تتثاءب وانتفضت مذعورة.. وثبت وثبة، قطعت بها عرض الشارع، ولم يكف هذا لإطمئنانها، فدخلت من باب ألفته مفتوحا، وكان فى ساحة البيت شجرة «جميز» فانطلقت تتسلقها، ولم تزل تصعد فيها حتى صارت على أعلى فرع فيها. وكانت الفتاة قد بصرت بالقطة وهى تعدو مذعورة، وتدخل البيت المقابل لبيتها.. فانحدرت مسرعة ودخلت وراءها ونظرت فلم تجد شيئا، فارتدت إلى الباب وقد أغرورقت عيناها بالدموع. وأقبل صديقى فى هذه اللحظة فسألها عما بها، فقالت له إن الكلب أفزع القطة فهربت لا تدرى إلى أين وهى تخشى أن يأخذها الجيران.
فركل صديقى الكلب - أعنى أن صديقى ركل الكلب، والمعنى واضح فى الحقيقة ولكنى أوثر هذا الايضاح اتقاء لكل غلط - ودخل مع الفتاة البيت ووقفا وأرهفا آذانهما، فسمعا مواء خافتا فتلفتا ، ثم عرفا أن القطة على الشجرة فجعلا ينظران من هنا ومن ههنا ويميلان رأسيهما إلى اليمين والشمال حتى رأياها، وجعلت الفتاة تدعوها بأصوات مختلفة أن تنزل والقطة تأبى أن تطمئن وتخشى إغراء الأصوات المهيبة بها أن تنزل، فتصعد حتى بلغت القمة فدعت الفتاة صديقى أن يتسلق الشجرة ليجيئها بالقطة، فهز رأسه وقال لها: «حرام عليك.. هل تريدين أن أقع فأموت»؟ فتوسلت إليه فلم يلن، وقال إن القطة لا تلبث متى هدأ روعها أن تنحدر من تلقاء نفسها. وكان هذا صحيحا فما يمكن أن تظل القطة على الشجرة طول عمرها، ولكن قلب الفتاة أبى أن يطمئن فخرجت باكية ورأيتها أنا فانطلقت أعدو إليها، وقد أحسست أن قلبى يتفطر، وسألتها ماذا يبكيها.. فقصت على الحكاية، وقالت إن صاحبي لايريد أن يتسلق الشجرة خوفا على عمره، فقرضت أسنانى وقلت: «أنا أفعل» ففرحت وأبرقت أسارير وجهها، وقالت: «صحيح»؟ قلت: «بالطبع صحيح.. وهل تظنين أنى مثله أخاف على عمرى.. ومم أخاف»؟
وخلعت حذائى ورميت الطربوش وشرعت أتسلق الشجرة المخوفة حتى صرت بين أغصانها الغلاظ المتشابكة، وذهبت أزحف على الغصون السميكة التى يحمل الواحد منها جملا لا غلاما خفيفا مثلى حتى بعدت عن الأرض جدا، وحتى أنها كانت تكلمنى فلا أسمع وأصيح بها أن ترفع صوتها وأحتاج أن أنحنى وأفرق الأوراق لأرى أين هى. ولم أزل أصعد حتى دنوت من القطة، ولكنها كانت مع ذلك لا تزال بعيدة، وشاء الحظ أن تخاف القطة فلفت حول الشجرة وأصبحت على فرع فى الناحية الأخرى، وكانت الفروع هناك أمتن وأسمك. فدرت كما دارت ومددت يدى فقبضت عليها ودسستها فى جيبى، وكان الهبوط أخطر من الصعود وأشق.. ولكن الله سلم.
وتناولت القطة منى بعد أن أخرجتها من جيبى، وكدت أخنقها وأنا أحاول إخراجها - فقد كان لابد أن أقبض على عنقها لأتقى أسنانها وأظافرها - وأهوت عليها تقبلها وتضمها إلى صدرها وتمسح لها شعرها، كأنها طفل رضيع لا قطة لعينة كانت منذ دقيقة على قمة جميزة ضخمة تحاورنى وتعرض عنقى للدق وأنا مازلت فى مقتبل العمر. وكنت أنا أنظر إليها راضيا قرير العين فرفعت عينها إلى، والقطة مضمومة إلى صدرها، وقالت إنها مدينة لى بالشكر ففركت كفى مسرورا ومرتبكا، فما كنت أنتظر شكرا ولا شبهه وإذا بها تصرخ فذعرت، فقالت: «يداك» فنظرت فيهما فألفيتهما مخدوشتين فأخفيتهما وراء ظهرى، وقلت إن هذا من لحاء الشجرة وسيزول ولا شك، فقالت: «لا.. تعال» فقلت: «إلى أين»؟ قالت: «معى.. أغسلهما لك فى البيت.. مسكين..».
فنظرت إليهما مرة أخرى، وقلت: «فكرة..».
ودخلنا البيت معا.. ونسينا صديقى فى بيت الجار.. تحت الشجرة.
ووصلت القطة المستنقذة ما كان قد انقطع.
الفصل الحادي عشر
فى رأس السنة
دهش الثلاثة ووقفوا حيث هم - آذانهم مرهفة، وأحداقهم ثابتة، وأنفاسهم معلقة. وكانت الليلة ليلة العام الجديد - أو رأسه - وقد تهيأ حامد للخروج، ولبس ثياب السهرة وأدار الراديو وراح يتمشى فى الغرفة، ريثما تجىء جارته فتنقر له على النافذة المفتوحة.. فيمضى بها إلى العشاء والرقص والمرح. وكانت الإذاعة فى تلك اللحظة رواية متخيرة، ولكن حامدا لم يكن باله إليها وإنما أراد أن يغرق ضجات الطريق المتقطعة فى ضجة أخرى أكبر لأنها أدنى - لا تنقطع ولا تفتر فيألفها ويتسنى له أن يفكر، بعد أن تسكن أعصابه إلى وقعها المتصل، فى أمره مع جارته أو فيما ينبغى أن يصنع ليحمل أباه العتيق الطراز على الرضى بما تقتضيه حياة العصر الجديد. ولم تكن به حاجة إلى أبيه، ولكنه لم يكن يريد أن يفسد بينهما الحال أو أن يضيف إلى عبء السنين التى يحملها عبء الشعور بخيبة الأمل - إذا وسعه ألا يفعل. وكان أبوه فى تلك اللحظة قد دخل بالمفتاح الذى أعطاه إياه حامد ليروح ويجىء كما يشاء. ولم يشعر به حامد لأن خواطره كانت تستغرقه ولأن الراديو كان أعلى من أن يسمح بالالتفات إلى باب يفتح أو يغلق، ثم لأن الرجل لم يكد يرد الباب حتى وقف مذهولا، فقد سمع ضحكات نساء ولغط رجال، وكان ريفيا ساذجا فيه ورع وتقوى يعرف الراديو ويصغى بخشوع إلى ما يذاع من كتاب الله، وقد يتفق له أن يسمع بعض المقطوعات الموسيقية.. ولكنه لم يشهد فى حياته رواية تمثل، ولم يخرج عن عادته فى التبكير فى النوم إلا فى الفلتات القليلة. فإذا كان قد وقف الآن مستغربا منكرا، فلا شك أنه كان معذورا. ولم يكن يفهم شيئا من الأصوات التى تأدى إليه أو يفطن إلى دلالة الكلام. وكان المذيع يصف حركة الروليت بعد أن توضع النقود، وتذهب العجلة تدور وتخفت الأصوات انتظارا لوقوف الكرة عند الرقم السعيد.. ولكن الرجل لم يكن يعرف أن هذا مذيع يصف للسامعين ما لا يرون، بل كان يظنه أحد رفقاء حامد ابنه فى سهرة جمع فيها طوائف شتى من الرجال والنساء.. نعم والنساء فما فى هذا شك، أليست هذه امرأة تقول: «اسرع يا ميمى.. أسرع.. بين ال 7 وال 8..».
अज्ञात पृष्ठ