ولم يشأ أصحاب هذه النزعة أن يعتقدوا أن زهد الفرس والروم في أرضهم، وعدم إقدامهم على إخضاعهم منشؤه أن أرض الجزيرة ليس فيها من الخيرات والثروة ما يطمع، بل اعتقدوا أن انصراف الفرس والروم عنهم إنما كان لشجاعة العرب، وإقدامهم وصبرهم، وأن لهم من أرضهم منعة تجعل حربهم حرب عصابات، لا يستطيع الجيش المنظم أن يجاريهم في أشكال حروبهم، ولا أن يقف أمامهم. وأما في إسلامهم؛ فقد حافظوا على استقلالهم، بل أضاعوا استقلال الفرس، وأخضعوهم لحكمهم، وكسروا جيوش الروم، وطردوهم من أملاكهم! (2)
أن لهم صفات خلقية امتازوا بها؛ فهم أكرم الناس لضيف، وأنجدهم لمستصرخ، يعقر أحدهم ناقته التي لا يملك سواها للطارق ينزل به، وهو ممسك بعنان فرسه؛ كلما سمع هيعة
1
طار إليها! وهم أوفى الأمم؛ يتكلم أحدهم الكلمة فتكون صكا، ويلجأ إليه لاجئ فيفي بحق جواره، حتى ليحتكم فيه جاره حكم الصبي في أهله، وهم على ذلك قادة الأمم في البيان، وحسن التعبير، وهم معدن الشعر، ولهم في حسن البديهة، وقول الأمثال السائرة، وإبداع الكلام ما ليس لغيرهم، وهم أحفظ الناس لأنسابهم فليس أحد منهم إلا يعرف نسبه، ويسمي آباءه، وإذا انتسب أحدهم إلى غير آبائه عرفوا أنه دعي؛ حفظوا أنسابهم، وبنوا على ذلك أحسابهم! (3)
بينهم نشأ الإسلام، ورسول الله من أنفسهم، وهم الناشرون له بين الأمم، والداعون إليه، والحامون لدعوته، فكل من أسلم من العجم ففي عنقه منة من العرب لا تقدر؛ هم الذين أنقذوه من دينه القديم، وهم الذين أخرجوه من الشرك إلى التوحيد، وهم الذين اصطلوا نار الحروب لهدايته، وهم الذين قتلوا أنفسهم لحياته.
هذه هي أهم حجج الذاهبين إلى هذا الرأي.
ويروون أن جماعة اجتمعوا بالمربد، ومعهم ابن المقفع، فسألهم: أي الأمم أعقل؟ فنظر بعضهم إلى بعض؛ فقالوا لعله أراد أصله من فارس، فقالوا: فارس. فقال ابن المقفع: ليسوا بذلك إنهم ملكوا كثيرا من الأرض، ووجدوا عظيما من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، فما استنبطوا شيئا بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم. قالوا: فالروم؟ قال: أصحاب صنعة. قالوا: فالصين؟ قال: أصحاب طرفة. قالوا: الهند؟ قال: أصحاب فلسفة. قالوا: السودان؟ قال: شر خلق الله ... إلخ. قالوا: فقل، قال: العرب. فضحكوا! قال ابن المقفع: إني ما أردت موافقتكم، ولكن إذا فاتني حظي من النسب فلا يفوتني حظي من المعرفة. إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، ولا آثار أثرت، أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما يشاء فيحسن، ويقبح ما يشاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، وافتتح الله دينه وخلافته بهم إلى الحشر، فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم خصم.
2
ويروى لابن المقفع أيضا أنه قال وقد جرى ذكر الشعر وفضيلته: «أي حكمة تكون أبلغ أو أغرب أو أعجب من غلام بدوي لم ير ريفا، ولم يشبع من طعام؛ يستوحش من الكلام، ويفزع من البشر، ويأوي إلى ما لم يره، ولم يعهده، ولم يعرفه، ثم يذكر محاسن الأخلاق ومساوئها، ويمدح ويهجو ويذم، ويعاتب ويشبب، ويقول ما يكتب عنه، ويروى له ويبقي عليه؟!»
3
अज्ञात पृष्ठ