الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الأول: الحياة الاجتماعية في العصر العباسي الأول
مقدمة
1 - سكان المملكة الإسلامية في هذا العصر
2 - الصراع بين العرب والموالي
3 - الشعوبية
4 - الرقيق وأثره في الثقافة
5 - حياة اللهو وحياة الجد
6 - حياة الزندقة وحياة الإيمان
الباب الثاني: الثقافات في ذلك العصر
تمهيد
7 - الثقافة الفارسية
8 - الثقافه الهندية
9 - الثقافه اليونانية الرومانية
10 - الثقافة العربية
11 - الثقافات الدينية
12 - امتزاج الثقافات
أهم الأحداث في ذلك العصر
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحركة العلمية في العصر العباسي الأول
1 - وصف الحركة العلمية إجمالا
2 - معاهد العلم في العصر العباسي
3 - مراكز الحياة العقلية
4 - الحديث والتفسير1
5 - التشريع
6 - اللغة والأدب والنحو
7 - التاريخ والمؤرخون
الخلاصة
الجزء الثالث
ضحى الإسلام
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
في العقائد والمذاهب الدينية في العصر العباسي الأول
تمهيد في نشأة علم الكلام
1 - المعتزلة
2 - الشيعة
3 - المرجئة1
4 - الخوارج1
خاتمة
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الأول: الحياة الاجتماعية في العصر العباسي الأول
مقدمة
1 - سكان المملكة الإسلامية في هذا العصر
2 - الصراع بين العرب والموالي
3 - الشعوبية
4 - الرقيق وأثره في الثقافة
5 - حياة اللهو وحياة الجد
6 - حياة الزندقة وحياة الإيمان
الباب الثاني: الثقافات في ذلك العصر
تمهيد
7 - الثقافة الفارسية
8 - الثقافه الهندية
9 - الثقافه اليونانية الرومانية
10 - الثقافة العربية
11 - الثقافات الدينية
12 - امتزاج الثقافات
أهم الأحداث في ذلك العصر
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحركة العلمية في العصر العباسي الأول
1 - وصف الحركة العلمية إجمالا
2 - معاهد العلم في العصر العباسي
3 - مراكز الحياة العقلية
4 - الحديث والتفسير1
5 - التشريع
6 - اللغة والأدب والنحو
7 - التاريخ والمؤرخون
الخلاصة
الجزء الثالث
ضحى الإسلام
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
في العقائد والمذاهب الدينية في العصر العباسي الأول
تمهيد في نشأة علم الكلام
1 - المعتزلة
2 - الشيعة
3 - المرجئة1
4 - الخوارج1
خاتمة
ضحى الإسلام
ضحى الإسلام
تأليف
أحمد أمين
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
لعل أصعب ما يواجه الباحث في تاريخ أمة هو تاريخ عقلها في نشوئه وارتقائه، وتاريخ دينها وما دخله من آراء ومذاهب. ذلك أن مدار البحث في المسائل المادية وما يشبهها واضح محدود ، وما يطرأ عليها من تغير ظاهر جلي. أما الفكرة فإذا حاولت أن تعرف كيف نبتت، وكيف نمت، وما العوامل في إيجادها، وما العناصر التي غذتها، وما الطوارئ التي طرأت عليها فعدلتها أو صقلتها؛ أعياك ذلك، وبلغ منك في استخراجه الجهد؛ لأن الفكرة أول أمرها لا مظهر لها نستدل به عليها، وقد تتكون من عناصر قد لا تخطر ببال، ويعمل في تغييرها وتعديلها عوامل في منتهى الغموض. والمذاهب الدينية قد يكون الباعث عليها غير ما ظهر من تعاليمها؛ قد يكون الباعث عليها سياسيا، وهي في مظهرها الخارجي مجردة من كل سياسة، وقد يكون الباعث لها إفساد الدين، فتتشكل بشكل المتحمس للدين، وقد يكون المذهب صالحا كل الصلاح، ولكن يحكيه أعداؤه فيشوهونه ويلغون فيه فيفسدونه، فيقف الباحث حائرا ضالا، يتطلب بصيصا من نور يهديه، أو أثرا في الطريق سلكه من قبله فيحتذيه.
وفوق هذا، فالأفكار متنوعة، والآراء متعددة، وقضايا كل عصر تخالف ما قبلها، ويراها الباحث فيظنها أول وهلة جديدة، لم ترتبط بما قبلها برباط، ولم تتصل به أي صلة، فيعمل فكره فيما عسى أن يكون بينهما من قرابة أو نسب، وما قد يصل بينهما من سبب.
ففي سبيل الله ما يلاقي مؤرخ الفكر من عناء لا يتناسب وما يحصله من نتاج! •••
سرت في «ضحى الإسلام» سيري في «فجر الإسلام»، رائدي الصدق والإخلاص للحق، فإن أصبت فحمدا لله على توفيقه، وإن أخطأت فالحق أردت، ولكل امرئ ما نوى.
عنيت بضحى الإسلام المائة سنة الأولى للعصر العباسي (132-232ه)؛ أعني إلى خلافة الواثق بالله؛ فهو عصر له لون علمي خاص، كما أن له لونا في السياسة والأدب خاصا، امتاز بغلبة العنصر الفارسي، وبحرية الفكر إلى حد ما، وبدولة المعتزلة وسلطانهم، وبتلوين الأدب من شعر ونثر لونا احتذي على كر الدهور، واختلاف العصور. كما امتاز بتحويل ما باللسان العربي إلى قيد في الدفاتر وتسجيل في الكتب، وما باللسان الأجنبي إلى لغة العرب. وهو في كل هذا يخالف العصور قبله والعصور بعده، مخالفة تجعله حلقة قائمة بنفسها، يصح أن تسمى، وأن تدرس، وأن تميز. على أني أحيانا يدعوني إيضاح الفكرة إلى أن أربطها بما كان منها في العصر الذي قبله، كما قد يدعوني تسلسلها إلى أن أتجاوزه إلى العصر الذي بعده.
وقد رتبته أبوابا أربعة:
الباب الأول:
في الحياة الاجتماعية في ذلك العصر، واجتزأت منها بما له أثر قوي في العلم والفن.
والباب الثاني:
في الثقافات المختلفة؛ دينية، وغير دينية.
والباب الثالث:
في الحركات العلمية، ومعاهد العلم، وحرية الفكر، ومزايا البلدان في تلك الحركات.
والباب الرابع:
في المذاهب الدينية، وتاريخ حياتها، وأشهر رجالها، وأهم أحداثها.
وكنت أحزر أنه سيكون حجمه حجم «فجر الإسلام»، فلما شرعت في تأليفه اتسع علي موضوعه، وغرمتني مناحيه، وواجهت مسائل لم تكن خطرت لي، فتركت البحث على سجيته، والقول على طبيعته، فإذا هو ضعف فجر الإسلام أو يزيد، فاضطررت أن أجعله جزأين، في كل قسم بابان.
وأتقدم إلى القراء اليوم بقسمه الأول، راجيا ألا يفرغوا من قراءته حتى أقدم إليهم قسمه الثاني.
على أني لم أقل في كل موضوع إلا كلمته الأولى، ولم أنظر إليه إلا نظرة الطائر، ولو حاولت أن أستوفي الكلام في كل فصل لكان من كل فصل كتاب. فإن نجحت في إثارة الباحثين لنقده، وتصحيح خطئه، وتوسيع مباحثه، فذلك حسبي، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
23 رمضان سنة 1351
19 يناير سنة 1933
أحمد أمين
الباب الأول
الحياة الاجتماعية في العصر العباسي الأول
مقدمة
يصور بعض المؤرخين الحالة (وقد سقطت الدولة الأموية، وقامت الدولة العباسية) تصويرا يخيل إليك معه؛ أن هناك حدودا فاصلة بين الدولتين، وأن صفحة للتاريخ قد ختمت بانتهاء الدولة الأموية، وأن صفحة أخرى بدئت بقيام الدولة العباسية، وأنه ليس هناك كبير علاقة بين الأمة الإسلامية في عهدها الأول، والأمة في عهدها الثاني. وهذا التصوير أبعد ما يكون عن الصحة! وعلى الأخص من الناحيتين؛ الاجتماعية، والعقلية.
فقد حدثت حوادث في صدر الإسلام، وفي عهد الدولة الأموية، أخذت تعمل عملها منذ وجودها، واستمر تأثيرها مع سقوط الأمويين، وقيام العباسيين. خذ لذلك مثلا: تعاليم الإسلام؛ فقد ظلت تعمل وتنتشر، مؤثرة في البلاد المفتوحة ومتأثرة بها، وكذلك الشأن في انتشار لغة العرب؛ فلم يكن قيام الدولة العباسية صفحة جديدة لهذين العاملين، وإنما كانت مهدا لامتدادهما. ومن أوضح المثل على ذلك: عملية الامتزاج بين الأمم الفاتحة والمفتوحة؛ فقد بدأت من عهد عمر بن الخطاب، ووقفت وقفة صغيرة لما أصاب الأمم المغلوبة من الدهش. ثم بدأت تخضع للنظم الاجتماعية؛ من تزاوج، ودخول في الإسلام، وتعلم للعربية، ثم ظهور جيل جديد يحمل الدم العربي والأجنبي معا، بل يحمل مع ذلك خصائص الأمم المختلفة التي يتكون منها دمه، سواء كانت خصائص جسمية، أو عقلية، أو خلقية، أو روحية. وأخذ هذا الجيل في الظهور في عهد الدولة الأموية، وظل ينمو ويتعاقب في الدولة العباسية، وكان من نتائج هذا الامتزاج: أن كل جنس بدأ يتعلم من الأجناس الأخرى ما يشعر بأنها آخذة منه بحظ أوفر، فالعربي يأخذ من الفرس والرومان حضارتهم، والفرس تأخذ من العرب الدين، واللغة، وهكذا.. وهذه العمليات ظلت سائرة في العهد العباسي، كما كانت سائرة في العهد الأموي.
بل أستطيع أن أقول إن الدولة الأموية لو قدر لها أن تستمر في الحكم الزمن الذي حكمته الدولة العباسية؛ لظهر على يديها من الحركات العلمية والإصلاحات الاجتماعية؛ قريب مما ظهر على يد العباسيين. ودليلنا على ما نقول: (1)
أن الدولة الأموية نفسها، وهي هي. كانت الحركة العلمية، والمذاهب الدينية، والنظم الاجتماعية؛ في آخرها أرقى منها في أولها، فانتظمت تعاليم الخوارج، ونشأ الاعتزال، واعتنقه بعض الخلفاء الأمويين، ونظمت حلقات الدروس في المساجد، وأخذ العلماء يبحثون مسائل في القدر، وغير القدر، وتناقشوا مع اليهود والنصارى، وبدأت نواة التأليف، والترجمة، وظهرت الكتابة الفنية، إلى كثير من أمثال ذلك. ولو كان اتساع الحركة العلمية من عمل العباسيين وحدهم؛ لكان آخر الدولة الأموية يشبه أولها. (2)
أن الأمويين أنفسهم لما انتقلوا إلى الأندلس، وكونوا فيها مملكة عاصرت العصر العباسي الأول؛ لم يكن تشجيعهم للعلم ولحركة الترجمة والتأليف أقل كثيرا من عمل العباسيين، وكذلك مدنيتهم وحضارتهم، وأكبر فرق بينهما: نشأ مما أحاط بالعباسيين من مدنيات العراق القديمة، والفرس، واليونان، وما أحاط بالأمويين بالأندلس من مدنية لاتينية. فأما الميل إلى التوسع في الحضارة، ومنه العلم، والأخذ بأوفر حظ من النظم الاجتماعية التي تليق بهم؛ فكان حظ الدولتين معا.
ذلك بأن المملكة الإسلامية، كانت من أول عهدها تسير متنقلة في أطوارها الطبيعية. ويسلمها طور إلى طور، فتنتقل من طور تغلب فيه البداوة، إلى طور من الحضارة، ثم إلى طور آخر، وهكذا.. وجاءت الدولة العباسية، والأمة سائرة إلى الحضارة بطبيعة ما يحيط بها من ظروف، فسارت في هذا الاتجاه، والخطأ كل الخطأ أن يفهم أنها أوجدته من عدم!
نعم! إن هناك عوامل ظهرت مع العباسيين، وبعضها من عملهم؛ كغلبة النفوذ الفارسي، ونقل العاصمة من الشام إلى العراق. وكان لهذه العوامل أثر غير قليل في نمو الحركة العلمية والاجتماعية، ولكن هذه الحركات كانت حركات مساعدة فقط، ولو لم توجد لاستمرت الأمة في سيرها إلى الحضارة، وإن كان يكون سيرها أبطأ. فسلطة العنصر الفارسي كانت تنمو في الحكم الأموي، وعلى الأخص في آخره، ولو لم يتح لها فرصة الدولة العباسية، لأتيحت لها فرص أخرى مختلفة الأشكال. والعراقيون كان يصح أن يستخدموا في الحركة العلمية (والعاصمة في الشام)؛ بل نحن نرى بالفعل حركة الحسن البصري وتلاميذه الدينية بالبصرة تنمو وتقوى، والحركة اللغوية تنمو وتقوى؛ بمثل أبي عمرو بن العلاء، وقرينه عيسى بن عمر الثقفي بالبصرة أيضا في عهد الدولة الأموية. ولم يكن اتساع هاتين الحركتين في العهد العباسي إلا أثرا لهؤلاء وأمثالهم، وتقدما طبيعيا نتج من نشاط تلاميذهم.
ولكن مما لا شك فيه أن الحياة الاجتماعية التي كانت تحياها الدولة العباسية لونت العلوم والآداب بلون خاص، وجعلت لها صفات خاصة، ما كانت تكون لو استمرت الدولة الأموية في حكمها.
وهذا ما سنحاول وصفه في الباب الآتي. وسنقتصر من وصف الحياة الاجتماعية، على ما له أثر كبير في العلم والفن.
الفصل الأول
سكان المملكة الإسلامية في هذا العصر
واضح أن الأمم تختلف في ميزاتها اختلافا كالذي بين أفرادها؛ فهي تختلف في عاداتها ، وتجاربها، وفي منهج تفكيرها، وكفايتها، ودرجة عقليتها، ومقدار ثقافتها، وحدة عواطفها، أو هدوئها.
وفوق ذلك؛ نرى أن لكل أمة «أدبا» يختلف عن أدب الأمم الأخرى، وأدب كل أمة منتزع من طبيعة إقليمها، وتاريخها، وخيالاتها، وملوكها وسوقتها، وعقلائها وسخفائها، وصلحائها ومجرميها، ومن نظامها السياسي، وعلى الجملة من كل شيء يتصل بحياتها.
نستطيع بعد ذلك أن نقول إن المملكة الإسلامية في هذا العصر كانت مكونة من أمم مختلفة؛ فقد كان من أجزائها المغرب حينا، ومصر والشام وجزيرة العرب، والعراق، وفارس، وما وراء النهر. وكانت هذه الأمم تختلف فيما بينها كل الاختلافات التي أبناها. وكلها خضعت للحكم الإسلامي، وتكون منها جميعا مملكة واحدة، وكان لكل أمة من هذه الأمم مزايا وصفات عرفت بها؛ فشهر العرب مثلا بالقدرة على الشعر؛ حتى قال أحمد بن أبي داود: «ليس أحد من العرب إلا وهو يقدر على قول الشعر، طبعا ركب فيهم، قل أو كثر
1 ». واشتهر أهل السند بالصيرفة، والعلم بالعقاقير. يقول الجاحظ: «إن السند لهم طبيعة في الصرف، لا ترى بالبصرة صيرفيا إلا وصاحب كيسه سندي، واشترى محمد بن السكن أبا رواح السندي، فكسب له المال العظيم، وقل صيدلاني عندنا، إلا وله غلام سندي، فبلغوا أيضا في الخبرة، والمعرفة بالعقاقير، وفي صحة المعاملة، واجتلاب الحرفاء مبلغا حسنا»،
2
واشتهر أهل مرو، وخراسان بالبخل؛ حتى قال في العقد الفريد: «أجمع الناس على بخل أهل مرو، ثم أهل خراسان؛ قال ثمامة بن أشرس: ما رأيت الديك قط في بلدة إلا وهو يدعو الدجاج، ويثير الحب إليها، ويلطف بها. إلا في مرو، فإني رأيته يأكل وحده! فعلمت أن لؤمهم في المأكل. ورأيت في مرو طفلا صغيرا في يده بيضة، فقلت له: أعطني هذه البيضة! فقال: ليس تسع يدك؛ فعلمت. أن اللؤم والمنع فيهم بالطبع المركب، والجبلة المفطورة.»
3
واشتهر اليمانون بالعشق، والحجازيون بالدل،
4
كما اشتهر العراقيون بالظرف. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
إن قلبي بالتل تل عزاز
5
مع ظبي من الظباء الجوازي
شادن، لم ير العراق، وفيه
مع ظرف العراق دل الحجاز
وعدد الجاحظ مزايا كل أمة في عصره، فقال: «ميزة سكان الصين الصناعة، فهم أصحاب السبك، والصياغة، والإفراغ، والإذابة، والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط، والنحت، والتصاوير، والنسج. واليونانيون يعرفون العلل، ولا يباشرون العمل، وميزتهم الحكم والآداب. والعرب لم يكونوا تجارا ولا صناعا، ولا أطباء، ولا حسابا، ولا أصحاب فلاحة، فيكونوا مهنة. ولا أصحاب زرع لخوفهم من صغار الجزية ... ولا طلبوا المعاش من ألسنة المكاييل، ورءوس الموازين، ولا عرفوا الدوانيق، والقراريط. فحين حملوا حدهم، ووجهوا قواهم إلى قول الشعر، وبلاغة المنطق، وتشقيق اللغة، وتصاريف الكلام وقيافة البشر، بعد قيافة الأثر، وحفظ النسب والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآثار، وتعرف الأنواء، والبصر بالخيل، والسلاح، وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المناقب، والمثالب - بلغوا في ذلك الغاية. وميزة آل ساسان في الملك والسياسة، والأتراك في الحروب ... وليس في الأرض كل تركي كما وصفنا. كما أنه ليس كل يوناني حكيما، ولا كل صيني في غاية من الحذق. ولا كل أعرابي شاعرا، قائفا. ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعم وأتم. وفيهم أظهر وأكثر.»
6
وقال في موضع آخر في الكلام على الزنج: «وهم أطبع الخلق على الرقص، والضرب بالطبل؛ على الإيقاع الموزون، من غير تأديب، ولا تعليم. وليس في الأرض أحسن حلوقا منهم.»
7 «واشتهر الهند بالحساب، وعلم النجوم، وأسرار الطب، والخرط، والنجر، والتصاوير، والصناعات الكثيرة العجيبة.»
8
كذلك كانوا يختلفون في الأهواء، والميول السياسية، يوضح ذلك ما رواه ابن قتيبة: «قال محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لرجال الدعوة حين اختارهم للدعوة، وأراد توجيههم: أما الكوفة وسوادها، فهناك شيعة علي بن أبي طالب. وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف، وتقول: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل. وأما الجزيرة فحرورية مارقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى. وأما أهل الشام؛ فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان، وطاعة بني مروان؛ عداوة لنا راسخة وجهلا متراكما. وأما أهل مكة والمدينة؛ فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر. ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير، والجلد الظاهر ، وصدورا سليمة، وقلوبا فارغة، لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النحل، ولم تشغلها ديانة، ولم يتقدم فيها فساد، وليست لهم اليوم همم العرب، ولا فيهم كتحازب الأتباع بالسادات، وكتحالف القبائل، وعصبية العشائر. ولم يزالوا يذلون، ويمتهنون، ويظلمون ويكظمون، ويؤملون الدول، وهم جند لهم أجسام وأبدان، ومناكب وكواهل، وهامات ولحى وشوارب، وأصوات هائلة، ولغات فخمة تخرج من أفواه منكرة.»
9
كذلك كان في كل أمة من هذه الأمم طوائف مختلفة لها شعائر، وعادات خاصة؛ فمنهم يهود حافظوا على تقاليدهم، وحرموا التزاوج إلا منهم، ونصارى تمسكوا بشعائرهم وعاداتهم، ومجوس يقيمون هياكلهم، ويوقدون نيرانهم.
كما نجد خلافات في الآداب، ففرس لهم أدب هو نتيجة تاريخهم، وحياتهم الاجتماعية، وعراقيون لهم آداب قديمة ورثوها مما اعتورهم من الدول، ومصريون لهم أدب كذلك، وأدب هندي، وأدب شامي، وأدب يوناني روماني.
دع عنك الاختلافات الإقليمية؛ فأمة تعيش في جبل، وأخرى في سهل، وجو بارد شديد البرودة، وحار شديد الحرارة، وأمة ساحلية، وأمة صحراوية. وما يستتبع ذلك من خلاف بين الأمم في العادات، والطبيعة، والمزاج.
كل هذه الاختلافات التي لم نذكر منها إلا أمثلة قليلة؛ كانت تكون المملكة الإسلامية في العصر العباسي الأول، وكانت ساحتها وعاء تصهر فيه هذه المواد المختلفة، وتتفاعل فيه كما تتفاعل الأجسام المختلفة كيماويا. وقد كانت هناك عوامل قوية ساعدت على هذا الامتزاج ألممنا بها في الجزء الأول من كتابنا.
10
ولكن لابد أن نزيد هنا كلمة عن شيء كان ظاهر الأثر في هذا العصر؛ وهو «عملية التوليد».
ونعني بالتوليد؛ أن يتزاوج رجل من أمة وامرأة من أمة أخرى؛ فينشأ بينهما نسل يجري في عروقه دم الأمتين. وقد امتاز العصر العباسي الأول بكثرة هذا الجيل من الناس. وكان هذا التوليد ظاهرة قوية؛ نتجت عن اختلاط الأجناس، ومن نظام الرق والولاء الذي طبق عقب الفتح الإسلامي. فقد أصبح البيت الإسلامي - وخصوصا بيوت الخلفاء والأمراء والأغنياء - «عصبة أمم»، ينتج من النسل ما يحمل خصائص الأمم المختلفة. خذ لذلك مثلا: بيت أبي جعفر المنصور؛ فقد كان في بيته أروى بنت منصور الحميري، أولدها المهدي، وجعفرا الأكبر. وأمة كردية كان المنصور اشتراها فتسراها؛ فولدت له جعفرا الأصغر. وأمة رومية يقال لها «قالي» أولدها «صالحا المسكين»، وامرأة من بني أمية أولدها بنتا تسمى «العالية.»
11
هذا مع أن أبا جعفر المنصور لم يسرف في التسري إسراف من أتى بعده. «وكان للرشيد زهاء ألفي جارية من المغنيات والخدمة في الشراب؛ في أحسن زي من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر.»
12 «ويقال: إنه كان للمتوكل أربعة آلاف سرية.»
13
وسيأتي من ذلك الشيء الكثير عند الكلام في الجواري.
كانت هذه الجواري المختلفة الأنواع توزع على الفاتحين، وتباع في أسواق النخاسين، وتهدى كما تهدى الطرف اللطيفة، وتمنح كما يمنح المال. وكانت الحرائر من الأمم المختلفة تتزوج من غير جنسها، وكان هؤلاء وهؤلاء ينسلن نسلا عديدا، وكان نسلهن أكثر من نسل العربيات الخالصات؛ لقلة عدد العربيات إذا نسب لغيرهن. بل كان ولوع الناس بالاختلاط بغير العرب أقوى وأشد، وميلهم إلى الإماء أكثر منه إلى الحرائر. ولذلك سببان:
الأول:
أن الجمال في كثير من نساء هذه الأمم المفتوحة أوفر، والحسن أتم؛ قد صقلتهن الحضارة، وجلاهن النعيم. هذا إلى ما حبتهن به طبيعة الإقليم؛ من بياض البشرة، وصفرة الشعر، وزرقة العيون، ونحو ذلك.
الثاني:
ما أشار إليه الجاحظ؛ من أن عادة التزوج بالحرائر كانت في عهده كعادتنا الآن! لا ينظر الرجل إلى من يريد أن يتزوج، ولكن تتوسط «الخاطبة»، فتروي له من محاسنها ما تشاء، وقد لا يتفق ذوقها وذوقه.. هذا إن صدقته! وليس ذلك هو الشأن في الأمة، فهو يراها قبل أن يقدم على تملكها. قال الجاحظ: «قال بعض من احتج للعلة التي من أجلها صار أكثر الإماء أحظى عند الرجل من أكثر المهيرات:
14
إن الرجل قبل أن يملك الأمة قد تأمل كل شيء منها، وعرف ما خلا حظوة الخلوة، فأقدم على ابتياعها بعد وقوعها بالموافقة. والحرة إنما يستشار في جمالها النساء، والنساء لا يبصرن من جمال النساء وحاجات الرجال، وموافقتهن قليلا ولا كثيرا! والرجال بالنساء أبصر.. وقد تحسن المرأة أن تقول: كأن أنفها السيف! وكأن عينها عين غزال! وكأن عنقها إبريق فضة ...! وكأن شعرها العناقيد ...! وهناك أسباب أخر، بها يكون الحب والبغض.»
15
ومن أقوال العرب المشهورة: «الأمة تشترى بالعين وترد بالعيب، والحرة غل في عنق من صارت إليه!» وقالوا: «عجبت لمن لبس القصير؛ كيف يلبس الطويل! ولمن أحفى شعره؛ كيف أعفاه! وعجبا لمن عرف الإماء؛ كيف يقدم على الحرائر!»
16
وقد اشتهرت الأصقاع المختلفة بميلهم إلى أجناس مختلفة من النساء، بحكم الجوار، وبحكم ما كانوا يأسرون ويسترقون «من ذلك: أن أهل البصرة أشهى النساء عندهم؛ الهنديات وبنات الهنديات، والأغوار،
17
واليمن أشهى النساء عندهم؛ الحبشيات وبنات الحبشيات، وأهل الشام أشهى النساء عندهم؛ الروميات وبنات الروميات. وكل قوم فإنما يشتهون جلبهم وسبيهم إلا الشاذ، وليس على الشاذ قياس.»
18
من هذا الاختلاط الذي أبنا طرفا منه؛ نشأ جيل جديد يحمل ميزات خاصة، حتى بعض الخلفاء أنفسهم كانوا من هذا الصنف؛ «فالخيزران سبية هي من خرشنة،
19
ولدت موسى الهادي، وهارون الرشيد، ابني محمد المهدي.. وشاهسفرم
20
بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز ولدت للوليد بن عبد الملك يزيد بن الوليد الناقص، وإبراهيم بن الوليد المخلوع.»
21
ومروان بن محمد؛ ابن أمة كردية
22
وأبو جعفر المنصور، أمه بربرية اسمها سلامة. والمأمون؛ أمه أمة تسمى مراجل. والمعتصم، أمه أمة تسمى ماردة. والواثق؛ أمه أمة تسمى قراطيس، والمتوكل؛ أمه أمة تسمى شجاع.
23
ومثل ذلك في العلماء، والشعراء. قال الأصمعي: «كان أكثر أهل المدينة يكرهون الإماء، حتى نشأ منهم علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهل المدينة فقها، وعلما، وورعا، فرغب الناس في السراري.»
24
خضع هذا الصنف من المولدين لقوانين «الوراثة»، فكسب من آبائه وأمهاته صفات خاصة، وكان صنفا ممتازا. والعرب من قديم آمنوا بأن الزواج بالأباعد خير من الزواج بالأقارب. وروي في الخبر: «اغتربوا لا تضووا.»
25
وقال الشاعر:
فتى لم تلده بنت عم قريبة
فيضوى، وقد يضوى رديد القرائب
وقال آخر:
أنذر من كان بعيد الهم،
تزويج أولاد بنات العم
فليس بناج من ضوى وسقم!
ورووا: «إن عمر نظر إلى قوم من قريش؛ صغار الأجسام. فقال: مالكم صغرتم؟ قالوا: قرب أمهاتنا من آبائنا. قال: صدقتم؛ اغتربوا. فتزوجوا في البعداء فأنجبوا!»
والواقع أيد هذه النظرية؛ فالمولدون في العصر العباسي كانوا من أظهر العناصر، ولهم ميزات مختلفة في أجسامهم، وعقولهم، وصناعاتهم؛ وذلك باختلاف أمهاتهم. يقول أحد القواد: «ما في الدنيا أحد أشجع من أبناء خراسان المولدين، ولا أفتك منهم!»
26
ويقول الأصمعي: «بنات العم أصبر، والغرائب أنجب، وما ضرب رءوس الأبطال كابن الأعجمية!» «وسئل بعضهم عن ولد الرومية. فقال: صلف، معجب، بخيل. قيل: فولد الصقلبية؟ قال: طفس، زنيم. قيل: فولد السوداء؟ قال: شجاع، سخي. قيل: فولد الصفراء؟ قال: هم أنجب أولادا، وألين أجسادا، وأطيب أفواها. قيل: فولد العربية؟ قال: أنف، حسود
27 ... إلخ. ويقول الجاحظ: «رأينا الخلاسي من الناس؛ وهو الذي يتخلق بين الحبشي، والبيضاء، والعادة من هذا التركيب أنه يخرج أعظم من أبويه، وأقوى من أصليه ومثمريه. ورأينا اليسري من الناس؛ وهو الذي يخلق من بين البيض، والهند، لا يخرج ذلك النتاج على مقدار ضخم الأبوين، وقوتهما، ولكنه يجيء أحسن وأملح»
28
ويقول في العلة في ميزة النصارى على اليهود في الشكل والعقل: «إن الإسرائيلي لا يزوج إلا الإسرائيلي، فكانت الغرائب لا تشوبهم، وفحولة الأجناس لا تضرب فيهم.»
29
إن شئت؛ فانظر في كتاب الأغاني، تجد أن أكثر من نبغ من المغنيات في الحجاز، ثم في العراق؛ في العصر الأول العباسي من «مولدات المدينة»، أو من تلاميذهن. ومولدات المدينة؛ نساء نتجن من آباء عرب، وأمهات من غير العرب، أو شئت فانظر إلى كثير من العلماء، والأدباء، وتحر أجناس آبائهم وأمهاتهم، تجدهم من المولدين. وقد رأيت شهرة مولدي خراسان، ومولدي الأعجام عامة؛ بالشجاعة. وقديما ظهر باليمن عنصر ممتاز سماهم العرب «الأبناء»، «وهم الذين أرسلهم كسرى مع سيف بن ذي يزن لما جاء يستنجده على الحبشة؛ فنصروه، وملكوا اليمن، وتدبروها وتزوجوا في العرب، فقيل لأولادهم الأبناء، وغلب عليهم هذا الاسم ؛ لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم.
30 » ومن مشهوري العلماء من الأبناء: طاووس ابن كيسان، ووهب بن منبه التابعيان، غير أن هؤلاء الأبناء كانوا من أب فارسي وأم عربية يمنية. والمولدون في عصرنا العباسي كان أكثرهم من أب عربي وأم أعجمية. •••
وكما كان هناك «توليد» بين الأجسام، كان هناك توليد عقلي، فعقول الناس من الأمم المختلفة كان يتناوبها اللقاح، فالفارسي يحمل عقلا فارسيا، ثم يعتنق الإسلام، ويتعلم اللغة العربية، فينشأ مزيج من العقلين، تتولد منه أفكار جديدة، ومعان جديدة. واليوناني النصراني أو الرومي النصراني، أو العراقي اليهودي يخالط العربي المسلم، ويتبادلان الرأي والقصص والفكرة، فينشأ من ذلك فكر جديد، وهكذا، ومن ثم كان «الأدب العربي» بمعناه الواسع الذي يشمل كل ثقافة ليس في الحقيقة أدبا عربيا؛ وإنما هو «مزيج» طبع بالطابع العربي الإسلامي؛ فسمي أدبا عربيا. ولنذكر مثلا يوضح هذا: ذلك أننا نرى العرب في جاهليتها، أدبها أدب عربي بالمعنى الصحيح، وهو إن اقتبس شيئا مما حوله؛ فقد كان اقتباسه قليلا خفيفا. أما الروح الغالبة القوية فهي الروح العربية، فهو يمثل الحياة العربية أحسن تمثيل، ويصور حياتهم الاجتماعية أتم تصوير، فيه خيالهم، وفيه طريقة صيدهم، وفيه وصف حروبهم، ولهوهم، وجدهم، وبداوتهم. فإذا نحن طفرنا إلى العصر العباسي وجدنا الناس، وخاصة الفرس الذين دخلوا في الإسلام، وكانت لهم غلبة على مرافق الدولة لم يعودوا يتذوقون بذوقهم الفارسي الشعر العربي الجاهلي، وإنما يتذوقون ما ألفوا من التغني في شعرهم بالحب، والخمر. فظهر العباس بن الأحنف الخراساني البيئة، وأبو نواس الفارسي الأم؛ يشبعان ذوقهما. الأول: في عشقه، والثاني: في خمرياته. قد كان للعربي الجاهلي شعر في الحب، وشعر في الخمر. ولكن شتان بين خمريات طرفة؛ وخمريات أبي نواس، وشتان بين شوق امرئ القيس، وشوق العباس. ويعجبني في ذلك قول الجاحظ: كم بين قول امرئ القيس: «تقول وقد مال الغبيط بنا معا»، وبين قول علي بن الجهم:
سقى الله ليلا ضمنا بعد هجعة
وأدنى فؤادا من فؤاد معذب
فبتنا جميعا لو تراق زجاجة
من الراح فيما بيننا لم تسرب!
31
لم تكن الحضارة وحدها هي التي أنتجت هذا الفرق. ولكن كان من أكبر العوامل فيه: تزاوج الأجناس، وتزاوج الأفكار، كالذي كان في الشعر. فقد أخذ الفرس الوزن العربي، والقافية العربية، والأسلوب العربي، ولكن أخذوا بجانب ذلك الخيال الفارسي، والذوق الفارسي. انظر إلى القصيدة التي يقولها الخريمي: يذكر بغداد ويصف ما انتابها من الفتن أيام الخلاف بين الأمين والمأمون، والتي مطلعها: قالوا ولم يلعب الزمان ببغداد وتعبر به عوابرها!؟
32
تحس بنفس قصصي، ممتع طويل، لا عهد للعرب به من قبل. وانظر أنواع الحكم الهندية الفارسية العربية التي تجدها في أقوال ابن المقفع، وانظر القصص الذي في ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة. وانظر أنواع المقامات التي تجلت في عمل البديع والحريري. كل هذا وأمثاله: أنواع لا يعرفها العرب الخلص، وإنما كانت من غير شك نتيجة عملية التوليد التي أشرنا إليها. وما كانت تكون لو عاش العرب وحدهم، أو الفرس وحدهم. ومثل ذلك يقال فيما ظهر من أنواع العلوم المختلفة، التي سنوضحها في فصول تالية.
والخلاصة أن لقاح العقول أنتج مخلوقات جديدة؛ لها ميزاتها الخاصة. كما كان الشأن في توليد الأجسام. •••
وبعد: فمع هذه الاختلافات المتنوعة - التي أبنا - كانت هناك روح واحدة، ترفرف على العالم الإسلامي. هي روح شرقية، توحد بين أفرادها، مهما اختلفت أجناسهم وأنواعهم. هذه الروح هي التي أخضعت الفلسفة اليونانية لما دخلت في بلادها، فأسبغت عليها ثوبا من روحانيتها، وإلهاماتها. وهي التي جعلت علماء التاريخ والاجتماع يدركون خصائص مشتركة بين الشرق، تخالف تلك التي للغرب. روح ورثها الشرقي من أجيال، وساعد على تكوينها بيئاتهم الطبيعية، والاجتماعية، وجعلتهم يتذوقون غير ما يتذوقه الغربي، ويدركون الأشياء على غير النمط الغربي، كما جعلت لهم مدنيات؛ تخالف - من وجوه كثيرة - المدنيات الغربية. جاءت الأديان المختلفة من: بوذية، ويهودية، ونصرانية. فصبغت هذه الروح صبغة خاصة، صبغة لا مادية، تؤمن بإله فوق هذا العالم، وترجو جنة، وتخاف نارا، وترى أن وراء هذه السعادة الدنيوية والشهوات الجسمية سعادة أخرى روحية! فلما جاء الإسلام ، ونشر سلطانه على الممالك الشرقية؛ زاد هذه الروح وقواها، وعمل في توحيدها، فقد كانت هذه الأمم المختلفة تخضع لقانون واحد، ولنظام في الحكم واحد، وتتكلم بلغة واحدة، ويدين أغلبها بدين واحد، ورحلات العلماء في منتهى القوة على صعوبة المواصلات، والرحالون يتبادلون الآراء والمعتقدات، ويدعون دعوات دينية وسياسية، والحكام يرسلون من مركز الخلافة مزودين بتعاليم واحدة في جوهرها.
كل هذا: وحد بين الأمم المختلفة، وكون منها ما يصح أن يسمى أمة واحدة، لها أدب واحد، وثقافة واحدة، وعلم مشترك.
الفصل الثاني
الصراع بين العرب والموالي
يظهر أن العرب في الجاهلية لم يكن لهم شعور قوي بأنهم أمة! إنما كان الشعور القوي عندهم؛ شعور الفرد بقبيلته، ذلك أننا إذا رجعنا إلى ما نرجح صحته من الشعر الجاهلي، وجدناه مملوءا بالشعور القبلي، فالعربي يمدح قبيلته، ويتغنى بانتصارها، ويعدد محاسنها، ويهجو القبيلة الأخرى من أجل قبيلته. ولكن قل أن نجد شعرا يتغنى فيه العربي بأنه عربي! ويفخر فيه على غيره من الأمم. والسبب في ذلك واضح، وهو: أن العرب في الجاهلية لم يكونوا أمة بالمعنى الصحيح. فلم يتحدوا لغة ولا دينا، وليست لهم آمال وطنية واحدة، ولا ما هو شرط أولي للأمة؛ وهو وجود شخص، أو هيئة مكونة من عدة أشخاص، لها قوة تنفيذ أوامرها على كافة أفرادها، وحملهم على طاعتها. وطبيعة المعيشة القبلية التي كانت تعيشها تأبى ذلك.
أضف إلى ذلك؛ أنه لم يكن هناك ما يشجع العرب على هذه الفكرة؛ لأنهم إذا نظروا هذا النظر لم يشعرهم ذلك بعظمة، ولا فخر، فحولهم الفرس من ناحية، والروم من ناحية، وعلاقة العرب معهم ليست علاقة تشعر بالقوة؛ فهم يتعاملون معهم تجاريا، ولكن ليست علاقة الند بالند، بل علاقة الفقير بالغني، والضعيف بالقوي، ومن تاجر منهم، وانتقل إلى فارس والروم ورأى عظمتهم، استضعف نفسه. نعم! وردت بعض قصص قد تنقض ما نقول؛ كالذي رواه القظامي عن الكلبي: من وفود العرب على كسرى
1
وافتخار النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم، لا يستثني فارس، ولا غيرها، وأن أمة لو قرنت بالعرب لفضلتها (العرب) بعزها ، ومنعتها، وحسن وجوهها، وبأسها، وسخائها، وحكمة ألسنتها، وشدة عقولها، وأنفتها، ووفائها ... إلخ، ولكنا نشك في هذا الخبر شكا كبيرا، فإنا لم نجد هذا الخبر إلا عن الكلبي، وهو مشهور بالوضع. ولأن هذا الحديث لم نجد أحدا رواه في العصر الأموي مع أهميته؛ إنما روي عن الكلبي وحده في العصر العباسي، هذا إلى أن ما فيه من الصنعة الفنية؛ دليل على وضعه، بل عندنا من الأخبار الصحيحة ما ينقضه، ذلك ما يقوله قتادة، وهو من مشهوري التابعين؛ وهو كذلك: عربي صميم، من سدوس. قال عند تفسير قوله تعالى
وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها : «كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، معكومين على رأس جحر بين الأسدين؛ فارس والروم. لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه. من عاش منهم عاش شقيا! ومن مات ردي في النار! يؤكلون، ولا يأكلون! والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض، كانوا فيها أصغر حظا، وأدق فيها شأنا منهم، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام، فورثكم به الكتاب. وأحل لكم به دار الجهاد، ووسع لكم به من الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس!!».
2
والعرب لما انتصرت قبيلة منهم على فرقة من الجيش الفارسي يوم ذي قار؛ عدت ذلك فخرا عظيما، مع أنه ليس بشيء ذي خطر، فأي فرقة لأي أمة عرضة للانهزام، ولكن العرب أحسوا بالفخر العظيم لانتصارهم، كأنهم ما كانوا يتوقعون أن تهزم حملة فارسية، بل في نفس هذه القصة مستند قوي لما نقول، وهو: أن العرب لما انتصروا يوم ذي قار لم يتغنوا بنصرة العرب على الفرس، إنما تغنوا بنصرة القبائل التي اشتركت في الحرب، وهم: الشيبانيون، والمجليون واليشكريون، ولم تتجل في الغناء روح عربية عامة.
ويخبرنا الطبري: أنه عندما أراد عمر فتح فارس تخوفوا من الفرس، وعجبوا كيف يستطيعون أن يحاربوهم! يقول: «وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم (إلى المسلمين) وأثقلها عليهم؛ لشدة سلطانهم، وشوكتهم، وعزهم ، وقهرهم الأمم». وروى أن المثنى بن حارثة تكلم فقال: «يا أيها الناس، لا يعظمن عليكم هذا الوجه، فإنا قد تبحبحنا ريف فارس، وغلبناهم على خير شقي السواد، وشاطرناهم، ونلنا منهم، واجترأ من قبلنا عليهم، ولها إن شاء الله ما بعدها!!»
3
فالذي يظهر لنا من هذا كله: أن العربي في الجاهلية كان يعتز بقبيلته. والمحمدة التي يفتخر بها هي التي يأتي أفراد قبيلته، فلما رهن حاجب ابن زرارة قوسه عند كسرى ووفى ابنه بالرهن! كان الذي يفتخر بذلك قبيلة تميم،
4
والذي يفتخر بالشعر أو الشجاع قبيلته، وقل أن يتجاوزوا ذلك إلى عد المكرمة، مكرمة أمة!.
فلما جاء الإسلام، تكون العرب أمة، وكانت فيها خصائص الأمة التي أشرنا إليها؛ من اتحاد لغة ودين وميول، ومن وجود حكومة على رأسها، وأعقب ذلك الانتصار على أضخم أمتين كانتا في عصرها، وهما فارس، والروم. ولكن مع هذا لم تنمح الروح القبلية، فوجدت النزعتان معا: «نزعة العربي لقبيلته، ثم بطنه، ثم فخذه»، و«نزعته للدم العربي، والأمة العربية، والجنس العربي»، وسارت النزعتان جنبا إلى جنب، في صدر الإسلام، وصرنا نسمع العربي يفتخر بقبيلته في الإسلام، كما كان في الجاهلية، وزاد في الإسلام الافتخار بالجنس العربي، كالذي يقول:
إنا من النفر الذين جيادهم
طلعت على عاد بريح صرصر
وسلبن تاجي ملك قيصر بالقنا
واجتزن باب الدرب لابن الأصفر
5
فأما النوع الأول (وهو العصبية القبلية) فالحوادث التاريخية في العصر الأموي، والقصائد الأموية كلها تفسر هذه النزعة، ولا تفهم إلا بها. ولنسق لك أمثلة للدلالة عليها: يقول رجل من بني أسد بن خزيمة يمدح يحيى بن حيان:
ألا جعل الله اليمانين كلهم،
فدى لفتى الفتيان، يحيى بن حيان
ولولا عريق في من عصبية
لقلت وألفا من معد بن عدنان
ولكن نفسي لم تطب بعشيرتي،
وطابت له نفسي بأبناء قحطان
وروى المبرد عن شيخ من الأزد ثقة، عن رجل منهم: أنه كان يطوف بالبيت وهو يدعو لأبيه. فقيل له: ألا تدعو لأمك؟! فقال : إنها تميمية
6
ودعبل يفتخر باليمن، ويعدد مناقبهم ، ويرد على الكميت افتخاره بنزار، في قصيدة تبلغ ستمائة بيت، أولها:
أفيقي من ملامك يا ظعينا
كفاني اللوم مر الأربعينا
7
وقد ذكر المسعودي طرفا من القصيدتين،
8
وعقب ذلك بقوله:
ونمى قول الكميت في النزارية، واليمانية، وافتخرت نزار على اليمن، وافتخرت اليمن على نزار، وأدلى كل فريق بما له من من المناقب، وتحزبت الناس، وثارت العصبية في البدو والحضر، وتبع ذلك أمر مروان بن محمد الجعدي، وتعصبه لقومه من نزار على اليمن، وانحراف اليمن عنه إلى الدعوة العباسية.
وكان عند كثير من ولاة العرب هذه النزعة السيئة في الحكم، وقبيلته حوله ترى أنه إذا ولي الرجل فقد وليت قبيلته، فلما ولي ابن هبيرة العراق اعتقدت فزارة أنها وليت الحكم. فلما عزل وتولى خالد بن عبد الله القسري اشرأبت أعناق قسر، وذلت فزارة. وقال الفرزدق:
لعمري لئن نابت فزارة نوبة
لمن حدث الأيام تحسبها قسر
وفي العصر العباسي، لما تولى معن بن زائدة الشيباني اليمن قتل من أهلها تعصبا لقومه من ربيعة، وغيرها من نزار، فكان عقبة بن سالم (والي عمان والبحرين) يقتل من القيسيين تعصبا لقومه من قحطان، وكيدا لمعن لما عمله في اليمن.
9
والأمثلة على ذلك كثيرة لا حصر لها، والذي يهمنا في موضوعنا هنا هو النزعة الثانية، وهي نزعة العرب ضد الموالي:
اعتنق العرب الإسلام، وسمعوا قوله تعالى:
إن الدين عند الله الإسلام
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
وآمنوا بأن الإسلام خير الأديان، وأن الناس حولهم في ضلال، وأنهم حماة الإسلام، وحملة الدين القويم، وأن عليهم دعوة الناس كافة، ليتخلوا عن دياناتهم السابقة، ويدخلوا فيه، وكان من بعد ذلك الجهاد، فظفروا بفارس ودكوا عرشها، وانتصروا على الروم، وهزموا جيشها، واستولوا على كثير مما في أيديها. وعلى الجملة فقد رأوا: أن سيادة العالم كانت للفرس والروم، فانتقلت فجأة إليهم! وأن هؤلاء الفرس الذين كان العرب بالأمس يخشون بأسهم أصبحوا تحت حكمهم! وهؤلاء الروم الذين كان العرب يتمنون أن يفتحوا لهم باب الشام ومصر، ليتاجروا فيها قد هزموا، وفروا أمامهم إلى عقر دارهم! كل هذا رفع من نفسية العرب. وغلا كثير منهم في ذلك فشعروا بأن الدم الذي يجري في عروقهم دم ممتاز، ليس من جنسه دم الفرس والروم وأشباههم! وتملكهم هذا الشعور بالسيادة والعظمة، فنظروا إلى غيرهم من الأمم نظرة السيد إلى المسود. وكان الحكم الأموي مؤسسا على هذا النظر! والحق: أن العرب في هذا لم يطيعوا الإسلام في تعاليمه! فالله تعالى: يقول
إنما المؤمنون إخوة
ويقول النبي:
صلى الله عليه وسلم «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.» ويقول عمر: «لو كان سالم، مولى حذيفة حيا لوليته!!» وإذا قلت العرب؛ فلست أعني جميعهم، فقد كان هناك طائفة كبيرة من خيارهم تدين بتعاليم الإسلام، وتجعل مقياس الفضل التدين لا الدم؛ فقد كان علي بن أبي طالب لا يفضل شريفا على مشروف، ولا عربيا على عجمي، ولا يصانع الرؤساء وأمراء القبائل، فكان هذا من آكد الأسباب في تقاعد العرب عنه!»
10
وروى المدائني: أن طائفة من أصحاب علي مشوا إليه فقالوا: «يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من الناس.» وإنما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال. فقال لهم: «أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟!»
11
ولكن سواد العرب، وحكام بني أمية وولاتهم، كانت عندهم هذه العصبية العربية قوية، يحقرون معها من لم يكن منهم. وكتب الأدب وحوادث التاريخ مملوءة بالشواهد على ذلك: نزل جرير بقوم من بني العنبر فلم يضيفوه حتى اشترى منهم القرى! فانصرف وهو يقول:
يا مالك بن طريف، إن بيعكم
رفد القرى مفسد للدين والحسب!
قالوا نبيعكه بيعا فقلت لهم:
بيعوا الموالي واستحيوا من العرب!
قال المبرد: إن جلة الموالي أنفت من هذا البيت؛ لأنه حطهم ووضعهم، ورأى أن الإساءة إليهم غير محسوبة عيبا.
12
وقال المختار لإبراهيم بن الأشتر يوم خازر، وهو اليوم الذي قتل فيه عبيد الله بن زياد : «إن عامة جندك هؤلاء الحمراء (يريد الموالي )، وإن الحرب إن ضرستهم هربوا، فاحمل العرب على متون الخيل، وأرجل الحمراء أمامهم.»
13
وروى الأغاني: أن رجلا من الموالي خطب بنتا من أعراب بني سليم وتزوجها. فركب محمد بن بشير الخارجي إلى المدينة، وواليها يومئذ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، فشكا إليه، فأرسل الوالي إلى المولى، ففرق بين المولى وزوجته، وضربه مائتي سوط، وحلق رأسه ولحيته وحاجبيه!
فقال محمد بن بشير:
قضيت بسنة وحكمت عدلا،
ولم ترث الحكومة من بعيد!
وفيها يقول:
وفي المائتين للمولى نكال،
وفي سلب الحواجب والخدود!
إذا كافأتهم ببنات كسرى
فهل يجد الموالي من مزيد؟
فأي الحق أنصف للموالي
من إصهار العبيد إلى العبيد؟!
14
وكان الحجاج، أحد أركان الدولة الأموية، ينفذ هذه السياسة في شدة ودقة؛ فقد وسم أيدي النبط بالمشراط، وفي ذلك يقول الشاعر في مولى:
لو كان حيا له الحجاج ما سلمت
صحيحة يده من وشم حجاج
15
ولما نزل الحجاج واسطا نفى النبط منها، وكتب إلى عامله بالبصرة، وهو الحكم بن أيوب، يقول: إذا أتاك كتابي فانف من قبلك من النبط، فإنهم مفسدة للدين والدنيا. فكتب إليه: قد نفيت النبط، إلا من قرأ منهم القرآن، وتفقه في الدين. فكتب إليه الحجاج إذا قرأت كتابي فادع من قبلك من الأطباء، ونم بين أيديهم ليقفوا عروقك، فإن وجدوا فيك عرقا نبطيا فاقطعه! والسلام.
16
وأمر الحجاج أن لا يؤم الكوفة إلا عربي.
17
ولما قبض على سعيد بن جبير، وكان قد خرج مع ابن الأشعث على الحجاج؛ قال له الحجاج: أما قدمت الكوفة وليس يؤم بها إلا عربي، فجعلتك إماما؟! قال: بلى. قال: أفما وليتك القضاء فضج أهل الكوفة، وقالوا لا يصلح القضاء إلا لعربي! فاستقضيت أبا بردة بن أبي موسى الأشعري، وأمرته ألا يقطع أمرا دونك! قال: بلى. قال: أوما جعلتك في سماري وكلهم من رءوس العرب؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك علي؟ ... إلخ.
18
ويقول الأصفهاني: كانت العرب إلى أن عادت الدولة العباسية إذا أقبل العربي من السوق ومعه شيء فرأى مولى دفعه إليه ليحمله عنه، فلا يمتنع، ولا السلطان يغير عليه! وكان إذا لقيه راكبا، وأراد أن ينزل فعل، وإذا رغب أحد في تزوج مولاة خطبها إلى مولاها دون أبيها وجدها.
19
وطرب الموالي طربا شديدا لما مدحهم جرير بن الخطفى ببيت قال فيه:
فيجمعنا والغر أولاد سادة
أب لا يبالي بعده من تغدرا
فاجتمعوا حوله يسلمون عليه، ويسألونه كيف أنت يا أبا حزرة؟ وأهدوا له مائة حلة!
20
بل احتقر العرب طائفة المولدين الذين ذكرنا طرفا من نبوغهم، وخصائصهم في الفصل السابق، وسموا ابن العربي من الأمة «الهجين». قال في لسان العرب: الهجنة من الكلام ما يعيبك، والهجين: العربي ابن الأمة لأنه معيب.
21
قال ابن عبد ربه: «وكانت بنو أمية لا تستخلف بني الإماء، وقالوا: لا تصلح لهم العرب.» ويقول الأصمعي: في تعليله ذلك: «إن الناس يرون أن امتناعهم عن توليتهم كان للاستهانة بهم. وإن هذا غير صحيح؛ إنما كانوا يمتنعون عن توليتهم لأن بني أمية كانوا يرون أن زوال ملكهم على يد ابن أم ولد.» ونحن أميل إلى تعليل الناس من تعليل الأصمعي؛ لأن قولهم هو الذي يتمشى مع الواقع والمنطق الصحيح. وسياسة بني أمية كلها تؤيد ذلك؛ فهم إذا اختاروا واليا راعوا عربيته، وإذا اختاروا قاضيا أو إماما يصلي بالناس راعوا ذلك. وليسوا في هذا يرجعون إلى ضرب من التنجيم كما يزعم الأصمعي. وقد لاقى بنو أمية كثيرا من العنت لتعيين خالد بن عبد الله القسري واليا على العراق، ولاقى هو كثيرا من هجو الشعراء لأن أمه أمة رومية. وأكبر دليل على نقض قول الأصمعي: أنهم ولوا فعلا يزيد بن الوليد وإبراهيم بن الوليد، ومروان بن محمد، وأمهاتهم إماء! ولو كانوا يعتقدون بالتهجين ما ولوهم؛ إنما الحكمة في توليتهم أن الموالي بدءوا يقوون في آخر العهد الأموي، فاضطر الناس لضرب من الخضوع أمام قوتهم.
وذهب أعرابي إلى سوار القاضي، فقال: إن أبي مات، وتركني وأخا لي، وخط خطين ناحية، ثم قال: وهجينا لنا، ثم خط خطا آخر ناحية ، ثم قال: كيف ينقسم المال بيننا؟ فقال : المال بينكم ثلاثا إن لم يكن وارث غيركم. فقال له: لا أحسبك فهمت! إنه تركني، وأخي، وهجينا لنا. فقال سوار: المال بينكم سواء، فقال الأعرابي: أيأخذ الهجين كما آخذ ويأخذ أخي؟ قال: أجل! فغضب الأعرابي، وقال: تعلم والله إنك قليل الخالات بالدهناء!
22
وحكى الجاحظ قال: قلت لعبيد الكلابي، وكان فصيحا فقيرا: أيسرك أن تكون هجينا ولك ألف جريب؟ قال: لا أحب اللؤم بشيء! قلت: فإن أمير المؤمنين ابن أمة. قال: أخزى الله من أطاعه! ويقول الرياشي:
إن أولاد السراري
كثروا يا رب فينا
رب أدخلني بلادا
لا أرى فيها هجينا
وكتب محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب يعير أبا جعفر المنصور: «واعلم أني لست من الطلقاء أولاد، ولا أولاد اللعناء، ولا أعرقت في الإماء، ولا حضنتني أمهات الأولاد! إلخ.»
فالحق أن الحكم الأموي لم يكن حكما إسلاميا، ويسوى فيه بين الناس، ويكافأ فيه من أحسن؛ عربيا كان أو مولى، ويعاقب فيه من أجرم؛ عربيا كان أو مولى، ولم يكن الحكام فيه خدمة للرعية على حساب غيرهم. كانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية لا النزعة الإسلامية؛ فكان الحق والباطل يختلفان باختلاف من صدر عنه العمل؛ فالعمل حق إذا صدر عن عربي من قبيلة! وهو هو باطل إذا صدر عن مولى أو عربي من قبيلة أخرى! ولسنا الآن بصدد أن نبحث إذا كان الموالي أسعد حظا تحت حكم العرب منهم تحت حكم الفرس أو الروم أو أشقى؟ فذلك ما يهم الباحث السياسي.
ولا بد أن نكرر هنا ما سبقت الإشارة إليه من أن هذا النظر القاسي الذي وصفناه ليس نظرا عاما كان عند العرب جميعهم، إنما كان هو النظر السائد بين البدو والولاة. أما نظر المساواة فقد كان سائدا في الأوساط العلمية والدينية، فالعالم يشرف بعلمه سواء كان مولى أو عربيا. ومن سادة التابعين من كانوا موالي، والناس منحوهم من الإجلال ما منحوا العرب، لا تفاضل بينهم إلا بالدين والعلم؛ فنجد الزهري، ومسروق بن الأجدع ، وشريحا، وسعيد بن المسيب، وقتادة من سادات التابعين، وهم من العرب، كما نجد الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وسعيد بن جبير، وعطاء بن يسار وربيعة الرأي، وابن جريج، من سادة التابعين، وهم من الموالي. والناس من عرب وموال يأخذون عنهم على السواء، وينتقلون من حلقة أحدهم إلى حلقة الآخر، حتى لترى الحسن البصري ينقد خلفاء بني أمية، وينقد يزيد بن المهلب! ويرى أن يزيد وصحبه وبني أمية وأصحابهم ضلال مارقون! ويقول: والله لوددت أن الأرض أخذتهم خسفا جميعا! ثم يأتي يزيد بن المهلب في رهط من قومه إلى الحسن، ويهم أحدهم بقتله، فيقول يزيد: «اغمد سيفك؛ فوالله لو فعلت لانقلب من معنا علينا!»
23
ولما مات تبع الناس كلهم جنازته حتى لم يبق بالمسجد من يصلي العصر، ولم يستنكر الناس عمل الحجاج في قتله الآلاف من العرب والموالي، كما استنكروا قتل سعيد بن جبير وهو مولى؛ لعلمه ودينه!
هذا الذي ذكرنا هو الذي يفسر لنا ما يروى في كتب التاريخ والسير من قصص مختلفة، تدل على احتقار الموالي حينا واحترامهم حينا. ويظن الظان لأول وهلة أن بينهما تضاربا، والحق أن لا تضارب، وأن الأوساط السياسية وأوساط أشراف القبائل وأوساط البدو كانت تحقر الموالي، وأن الأوساط الدينية والعلمية ما كانت تتعصب لجنس ولا دم، وإنما كانت تتعصب للدين والعلم، وتقومهما حيث كانا. •••
كان يقابل هذه العصبية العربية عصبية أخرى، من الموالي، وخاصة الفرس؛ فقد تملكهم العجب، كيف غلبهم العرب! وعبر بعضهم عن هذا المعنى: بأن حكم العرب لهم ضرب من سخرية القدر! وكانوا يفخرون على العرب بمجدهم القديم، وعزهم التالد، وأنهم أهل الحضارة العظيمة، ومن عرفوا كيف يسوسون الملك، ويدبرون الحكم. وأنهم لما حكموا لم يكن لهم إلى العرب حاجة، ولما حكم العرب لم يستطيعوا أن يحكموا إلا بمعونتهم.
لم تكن عند الفرس نزعة قبلية، ولم يكونوا يعنون بالأنساب عناية العرب بها،
24
وإنما كانوا يتعصبون أحيانا للبلدان؛ فقد كان أهل خراسان مثلا من أشد الناس عصبية بعضهم لبعض. وكانت العصبية القوية عندهم العصبية للأمة. وذلك طبيعي؛ لأنهم قطعوا من عهد بعيد طور البداوة، وتحضروا، وكانوا أمة بكل معناها الصحيح، وبدأوا يفخرون على العرب في العهد الأموي؛ كالذي رأيت من شعر إسماعيل بن يسار،
25
فقد كان يتغنى دائما بمجد الفرس، ودخل على هشام بن عبد الملك في خلافته، فاستنشده فأنشده قصيدة يقول فيها:
إني وجدك ما عودي بذي خور
عند الحفاظ، ولا حوضي بمهدوم!
أصلي كريم، ومجدي لا يقاس به!
ولي لسان كحد السيف مسموم!
أحمي به مجد أقوام ذوي حسب
من كل قرم بتاج الملك معموم
26
جحاجح سادة بلج مرازبة
جرد عتاق مساميح مطاعيم
27
من مثل كسرى وسابور الجنود معا
والهرمزان لفخر أو لتعظيم؟!
أسد الكتائب يوم الروع إن زحفوا
وهم أذلوا ملوك الترك والروم!
يمشون في حلق الماذي سابغة
مشي الراغمة الأسد اللهاميم
28
هناك إن تسألي تنبي بأن لنا:
جرثومة قهرت عز الجراثيم
فغضب هشام، وقال أعلي تفتخر، وإياي تنشد قصيدة تمدح بها نفسك وأعلاج قومك؟ غطوه في الماء، فغطوه في البركة حتى كادت نفسه تخرج، ثم أمر بإخراجه وهو يشر، ونفاه من وقته إلى الحجاز.
29
ولكن هذه النزعة صدها الأمويون صدا عنيفا، وعاقبوا عليها في قوة وجبروت، فتحولت من فخر ظاهر إلى دعوة سرية، وكانت الدعوة العباسية.
غير أننا نقرر هنا كالذي قررناه من قبل؛ وهو أن هذه النزعة لم تكن نزعة الفرس عامة، فمنهم من دخل الإسلام إلى أعماق نفوسهم، كمن سميناهم من التابعين، ولم ينسوا أن للعرب عليهم نعمة لا تقدر؛ وهي: أنهم هدوهم إلى الإسلام، واستنقذوهم من ضلال المجوسية إلى هداية الوحدانية. في الأوساط العلمية والدينية كان الفرس لا يؤمنون بعربية وفارسية، إنما يؤمنون بإسلام سوى بين الناس أجمعين، ولكن كثيرا من سواد الناس ومن أشارف الفرس كانوا يكرهون العرب، وخاصة الحكام والبيت الأموي. روى صاحب الأغاني: «أن إسماعيل بن يسار استأذن على الغمر بن يزيد بن عبد الملك يوما فحجبه ساعة، ثم أذن له، فدخل يبكي، فقال الغمر: يا أبا فائد تبكي؟ قال: وكيف لا أبكي ، وأنا على مروانيتي ومروانية أبي أحجب عنك. فجعل الغمر يعتذر إليه وهو يبكي. فما سكت حتى وصله الغمر بجملة لها قدر، وخرج من عنده فلحقه رجل. فقال له: أخبرني ويلك يا إسماعيل أي مروانية كانت لك أو لأبيك؟ قال: بغضنا إياهم، امرأته طالق إن لم تكن أمه تلعن مروان وآله كل يوم مكان التسبيح، وإن لم يكن أبوه حضره الموت، فقيل له: قل لا إله إلا الله، فقال: لعن الله مروان، تقربا بذلك إلى الله تعالى، وإبدالا له من التوحيد، وإقامة له مقامه!»
30
كره الموالي الحكم الأموي كراهة عميقة، فسعوا في إسقاطه، وقد كانت وجهة نظرهم أن الأمويين لم يعدلوا في حكمهم لنا، وترقبنا انتقال الأمر من خليفة إلى خليفة. فكان أمر الظلم على السواء، اللهم إلا إذا استثنينا عمر بن عبد العزيز؛ وهو فذ، وليس في الإمكان أن نحور الأمر من العرب إلى الفرس، فيكونوا هم الحاكمين؛ لأن السلطة الكبرى لا تزال في يد العرب، ولأنه إذا أثيرت هذه الدعوة تجمع العرب وغير الفرس من الموالي علينا. فلندع إذن إلى نقل الخلافة من يد الأمويين إلى يد الهاشميين، فنجد القلوب مستعدة لقبول الدعوة لأن الهاشميين عرب، ولأنهم أقرب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ،من الأمويين، وهذا يسرع في قبول الدعوة ويصبغها بصبغة دينية. وأخيرا فنحن إذا عضدنا الهاشميين رأوا أنهم وصلوا إلى الحكم بمعونتنا، ونجحوا بتدبيرنا. فيكون ظاهر الحكم لهم وباطنه لنا، نتولى المناصب العالية، وندير شئون الدولة ونترك لهم أبهة الخلافة، ومظهرها الخارجي؛ فلهم الشكل ولنا الجوهر. لعل هذا كان أهم ما يدور في خلد المؤسسين من الفرس للدعوة العباسية. قال نصر بن سيار يخاطب النزارية واليمانية ويحذرهم هذا العدو الداخل عليهم، بقوله:
أبلغ ربيعة في مرو وإخوتهم
فليغضبوا قبل ألا ينفع الغضب
ولينصبوا الحرب إن القوم قد نصبوا
حربا، يحرق في حافاتها الحطب
ما بالكم تلقحون الحرب بينكم
كأن أهل الحجا عن رأيكم عزب
وتتركون عدوا قد أظلكمو
مما تأشب، لا دين، ولا حسب
قدما يدينون دينا ما سمعت به
عن الرسول، ولم تنزل به الكتب
فمن يكن سائلا عن أصل دينهمو
فإن دينهمو: أن تقتل العرب
31
وكتب إبراهيم الإمام لأبي مسلم الخراساني: «إن استطعت ألا تدع بخراسان أحدا يتكلم بالعربية إلا قتلته فافعل! وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله، وعليك بمضر فإنهم العدو القريب الدار فأبد خضراءهم، ولا تدع على الأرض منهم ديارا.»
32
كانت خراسان مهد الدعوة العباسية، وكانت قطرا عظيما، يبلغ نحو ضعف ما يطلق الاسم عليه الآن. وقد تولاها أمراء من العرب بين مضري ويماني؛ فكانوا يحكمون حكما عربيا، بل قبليا؛ فأجج ذلك نار الحقد بين العرب والفرس أولا، وبين اليمانيين والمضريين ثانيا، فالأزديون يمثلون اليمانيين، وتميم وقيس يمثلون المضريين، وكل يعمل للزعامة والغلبة، فإذا تولاها يماني واسى اليمانيين وحدهم، وحقر من شأن غيرهم، والعكس، والفرس بين هؤلاء وهؤلاء ضائعون، تولى خراسان المهلب ابن أبي صفرة وآله عهدا طويلا، وهم أزديون (أي يمانيون) فكانت السلطة بيدهم، وحكموا حكما عربيا قبليا، وكانوا في منتهى الثروة والغنى، فكانوا يمدون اليمانيين أولا بمالهم وبجاههم. قال المدائني: «باع وكيل يزيد بن المهلب بطيخا جاءه من مغل بعض أملاكه بأربعين ألف درهم، فبلغ ذلك يزيد؛ فقال له يزيد: تركتنا بقالين، أما كان في عجائز الأزد من تقسمه فيهن؟»،
33
وكان عمر بن عبد العزيز يبغض يزيد بن المهلب وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم.
34
وتولى قتيبة بن مسلم وكان باهليا أي مضريا؛ «فتنكرت له أمراء القبائل لإذلاله إياهم، واستهانته بهم، واستطالته عليهم.»
35
وأخيرا تولى خراسان نصر بن سيار، وكان مضريا كذلك؛ «فمكثت أربع سنين لا يستعمل في خراسان إلا مضريا.»
36
لهذا وأمثاله ساءت العلاقة بين اليمانيين والمضريين.
فلما شعروا باجتماع الفرس عليهم فكروا أن يجمعوا كلمتهم، ويوحدوا صفوفهم، فقد رأينا نصر بن سيار ينبه العرب إلى أن الفرس تريد أن تهلك العرب، فأولى أن يتحد العرب كما اتحد الفرس، بل نرى أن الأمر قد وصل إلى أكثر من ذلك؛ «فقد تواعدت قبائل العرب من ربيعة ، ومضر واليمن على وضع الحرب، والاجتماع على قتال أبي مسلم الخراساني.»
37
ولكن أبا مسلم وقومه بدهائهم أججوا نار الفتنة بين قبائل العرب من جديد، «فجعل أبو مسلم يكتب إلى شيبان الخارجي يذم اليمانية تارة، ومضر أخرى. ويوصي الرسول بكتاب مضر؛ أن يتعرض لليمانية ليقرءوا ذم مضر، والرسول بكتاب اليمانية؛ أن يتعرض لمضر ليقرءوا ذم اليمانية.»
38
ويرسل أبو مسلم لعلي بن الكرماني (أحد زعماء اليمانيين) من يقول له: أما تأنف من مصالحة نصر بن سيار، وقد قتل بالأمس أباك وصلبه؟ ما كنت أحسبك تجامع نصر بن سيار في مسجد تصليان فيه!
39
وأخيرا بعد حوادث ودسائس نجح أبو مسلم، و«تقدم نصر بن سيار إلى أبي مسلم يلتمس منه أن يدخل مع مضر، وبعثت ربيعة وقحطان إلى أبي مسلم مثل ذلك، فتراسلوا بذلك أياما، فأمرهم أبو مسلم أن يقدم عليه وفد الفريقين حتى يختار أحدهما ففعلوا. وقدم الوفدان، وسمع أبو مسلم وشيعته الخطب في ذلك» ثم أعلن أبو مسلم اختياره، فقال: «قد اخترنا علي بن الكرماني وأصحابه من قحطان، وربيعة ... فنهض وفد مضر، عليهم الذلة والكآبة.»
40
اجتمع على الدولة الأموية اليمنية والربعية والعجم، وكان في النقباء
41 (وهم القادة والزعماء الذين حاربوا الدولة الأموية) كثير من العرب؛ منهم قحطبة الطائي. وكان من أعظم العرب نفوذا في قومه، وقد خطب في أهل خراسان يحقر العرب، ويعظم الفرس؛ في لهجة غريبة، فكان فارسيا أكثر من الفرس أنفسهم! إذ يقول: يا أهل خراسان هذه البلاد كانت لآبائكم الأولين، وكانوا ينصرون على عدوهم لعدلهم، وحسن سيرتهم؛ حتى بدلوا وظلموا، فسخط الله عز وجل عليهم؛ فانتزع سلطانهم، وسلط عليهم أذل أمة كانت في الأرض عندهم، فغلبوهم على بلادهم ... واسترقوا أولادهم؛ فكانوا بذلك يحكمون بالعدل، ويوفون بالعهد، وينصرون المظلوم، ثم بدلوا وغيروا، وجاروا في الحكم، وأخافوا أهل البر والتقوى من عترة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فسلطكم عليهم لينتقم منهم بكم، ليكونوا أشد عقوبة؛ لأنكم طلبتموهم بالثأر.
42
وبعد أن أدى العرب عملهم نكل أبو مسلم بهم، وقتل زعماءهم . •••
سقطت الدولة الأموية، وقامت الدولة العباسية، ونال الفرس بعض أمنيتهم لا أمنيتهم كاملة، فأمنيتهم الكاملة أن تقوم دولة فارسية بملوكها وعمالها، ولكن ما نالوه ليس قليل الخطر، فالخلفاء العباسيون مقتنعون أن دولتهم قامت على أكتاف الفرس، وكذلك العلماء والمؤرخون، فداود بن علي
43
يخطب فيقول: يا أهل الكوفة، إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا حتى أتاح الله لنا شيعتنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقنا، وأفلج بهم حجتنا، وأظهر بهم دولتنا، وأراكم الله ما كنتم به تنتظرون، وإليه تتشوقون؛ فأظهر فيكم الخلفة من هاشم، وبيض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشام ... إلخ
44
وأبو جعفر المنصور يقول: «يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا، وأهل دعوتنا.»
45
ويقول الجاحظ: «دولة بني العباس أعجمية خراسانية، ودولة بني مروان عربية أعرابية.»
46
وكانوا يسمون باب خراسان في بغداد باب الدولة؛ لإقبال الدولة العباسية من خراسان.
47
وأوصى المنصور ابنه قبل وفاته فقال: «وأوصيك بأهل خراسان خيرا فإنهم أنصارك وشيعتك، الذين بذلوا أموالهم في دولتك، ودماءهم دونك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم؛ أن تحسن إليهم، وتتجاوز عن مسيئهم، وتكافئهم على ما كان منهم، وتخلف من مات. منهم في أهله وولده»
48
استتبع هذا غلبة الفرس ونفوذهم، حتى عد المؤرخون من أهم خصائص هذا العصر النفوذ الفارسي، وضعف النفوذ العربي. ولكن إلى أي حد غلب العرب؟ وهل كان نفوذ الفرس في الدولة العباسية كنفوذ العرب في الدولة الأموية؟ وهل انتهى بذلك الصراع بين العرب والموالي؟ الحق أنه لم يكن كل ذلك، فالخلفاء العباسيون عرب هاشميون - ولو من قبل الأب - وهم يفخرون بذلك، ويعدونه من أكبر مناقبهم، وهم إن حفظوا للفرس معونتهم؛ فلن ينسوا عربيتهم، ويوم يشعرون بأن الفرس زاحموهم في سلطانهم سينكلون بهم كما نكل المنصور بأبي مسلم والرشيد بالبرامكة والمأمون بالفضل بن سهل؛ فالفرس في العصر العباسي الأول كان لهم نفوذ كبير، ولكن ليس معنى هذا انعدام نفوذ العرب. كانت أعظم المناصب كالوزارة في الفرس، ولكن كان الخليفة عربيا هاشميا، وكان له قواد من العرب كما له قواد من الفرس، وكان له ولاة من العرب، وولاة من الفرس، فجند المنصور كانوا أقساما أربعة: يمنية، ومضرية، وربعية، وخراسانية.
49
وفي اليوم الذي ولى فيه المأمون طاهرا الشرطة ولى جماعة من الهاشميين كور الشام.
50
وقد ولى المنصور محمد بن خالد بن عبد الله القسري الحرمين،
51
وولاة الرشيد للأمصار كان كثير منهم عربا،
52
واشتهر في هذا العصر من أمراء العرب وقوادهم سعيد بن سلم الباهلي، ومعن بن زائدة الشيباني، وأبو دلف العجلي، وروح بن حاتم بن قبيصة، والمهلب ابن أبي صفرة، وثمامة بن أشرس، إلى كثير من أمثال هؤلاء.
كل هذا جعلنا نقول: إن الانقلاب العباسي جعل كفة الفرس راجحة، ولكنه لم يعدم الكفة الأخرى العربية، وهذا ما جعل الصراع يستمر في هذا العصر، فلنتبعه في إيجاز:
نرى في هذا العصر أن الناس ما يزالون ينزعون إلى الفخر بالنسب العربي، والولاء العربي، حتى لنرى أبا مسلم الخراساني يصطنع لنفسه نسبا عربيا، فيزعم أنه من نسل سليط بن عبد الله بن عباس.
53
وكتاب الأغاني يحدثنا: أن إسحاق الموصلي (وهو من هو من القرب من الرشيد) تناظر مع ابن جامع بحضرة الرشيد فتغالطا فسبه ابن جامع، فمضى إسحاق إلى خازم بن خزيمة (وهو عربي) فتولاه،
54
وانتمى إليه، فقبل ذلك منه؛ فقال إسحاق:
إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي،
ودافع ضيمي خازم وابن خازم
عطست بأنف شامخ وتناولت
يداي الثريا قاعدا غير قائم
55
فهذه القصة تدلنا دلالة واضحة على حاجة الأعاجم في هذا العصر - حتى الأشراف منهم - إلى الانتماء إلى العربي بالولاء؛ ليحتمي به ويدافع عنه. ويحكي الأغاني أيضا أنه كان لعلي بن الخليل صديق فارسي، فغاب مدة وقد أصاب مالا ورفعة، ثم عاد إلى الكوفة، وادعى أنه من تميم فقال يهجوه:
يروح بنسبة المولى،
ويصبح يدعي العربا!
فلا هذا، ولا هذا
ك يدركه إذا طلبا!
إلى أن يقول:
يشم الشيح والقيصو
م جلفا جافيا، جشبا!
إذا ذكر البرير
56
بكى
وأبدى الشوق والطربا!
وليس ضميره في القو
م إلا التين، والعنبا
57 !
ويحكي في موضع آخر: أن والبة بن الحباب كان يدعي النسب إلى العرب فقال فيه أبو العتاهية:
أوالب أنت في العرب
كمثل الشيص في الرطب!
هلم إلى الموالي الصيد
في سعة وفي رحب!
فأنت بنا لعمر الله
أشبه منك بالعرب
58
وادعى رجل النسبة إلى العرب فقال فيه بشار:
ارفق بعمرو إذا حركت نسبته
فإنه عربي من قوارير!
ويقول فيه:
إن عمرا فاعرفوه
عربي من زجاج!
مظلم النسبة لا
يعرف إلا بالسراج
وقال مخلد الموصلي:
أنت عندي عربي
ليس في ذاك كلام!
عربي، عربي
عربي، والسلام!!!
شعر أجفانك قيصو
م، وشيح، وثمام!
59
أفلو كان العرب قد ذلوا في هذا العصر، وحقر شأنهم على الوصف الذي يصفه بعض المؤرخين؛ كانت هذه الحركة (أعني حركة الانتساب إلى العرب والاعتزاز بهم) تبلغ هذا المبلغ؟
إنما الذي نشاهده كذلك أن الحركة العربية دوفعت بحركة أخرى فارسية، وأن الصوت الخافت الذي كنا نسمعه من مثل إسماعيل بن يسار في العهد الأموي فيعاقب عليه؛ أصبح الآن شديدا وقويا حرا. ونرى بشارا زعيم هذه الحركة يفخر مرة بخراسان ويقول:
وهجاني معشر كلهمو
حمق، دام لهم ذاك الحمق
ليس من جرم، ولكن غاظهم
شرفي العارض قد سد الأفق
من خراسان، وبيتي في الذرى،
ولدى المسعاة فرعي قد سمق
60
ويفخر مرة بالعجم فيقول:
ونبئت قوما بهم جنة
يقولون من ذا؟ وكنت العلم!
ألا أيها السائلي جاهدا
ليعرفني أنا أنف الكرم!
نمت في الكرام بني عامر؛
فروعي، وأصلي: قريش العجم!
ويقول ذلك أمام المهدي فلا يعاقبه كما فعل هشام بابن يسار؛ بل يسأله: من أي العجم أنت؟ فيقول: من أكثرها في الفرسان، وأشدها على الأقران، أهل طخارستان. بل كان يتبرأ من الولاء، ويقول:
أصبحت مولى ذي الجلال، وبعضهم
مولى العريب! فخذ بفضلك فافخر
مولاك أكرم من تميم كلها
أهل الفعال، ومن قريش المشعر!
فارجع إلى مولاك غير مدافع
سبحان مولاك الأجل الأكبر!
بل كان يدعو الموالي إلى نبذ ولائهم للعرب، فيروي الأغاني: أن رجلا من بنى شريف، قال لبشار : «يا بشار، قد أفسدت علينا موالينا تدعوهم إلى الانتفاء منا، وترغبهم في الرجوع إلى أصولهم، وترك الولاء وأنت غير زاكي الفرع، ولا معروف الأصل! فقال له بشار: والله لأصلي أكرم من الذهب، ولفرعي أزكى من عمل الأبرار، وما في الأرض كلب يود أن نسبك له بنسبه.»
61
وقال له عربي: ما للموالي والشعر؟ فقال يهجو العرب:
أحين كسيت - بعد العري - خزا،
ونادمت الكرام على العقار؟
تفاخر يا ابن راعية وراع
بني الأحرار، حسبك من خسار!
تريغ
62
بخطبة كسر الموالي،
وينسيك المكارم صيد فار
وكنت إذا ظمئت إلى قراح؛
شركت الكلب ولغ الإطار
63
وتغدو للقنافذ تدريها
ولم تعقل بدراج الديار!
64
وتتشح الشمال للابسيها،
وترعى الضأن بالبلد القفار!
65
ولبشار كثير من هذا الضرب، يدلنا على ما نقول من أنه كان زعيم الحركة العدائية للعرب، كما يرينا ما كان له ولأمثاله من حرية - في هجاء العرب - لم يكونوا يعهدونها في العصر الأموي.
وكثر ادعاء الناس للانتساب إلى كسرى كذلك حتى قال جحظة:
وأهل القرى كلهم ينتمو
ن لكسرى ادعاء! فأين النبيط؟
66
مما لا شك فيه أن نفوذ الفرس قد قوي في عهد العباسيين الأولين، وكان هذا النفوذ يزداد قوة يوما فيوما.
قد كان استخدام الموالي في العهد الأموي نادرا، وكان يقابل بامتعاض. قد استخدموا - مثلا - رجاء بن حيوة، وكان مولى كندة. واستخدم عمر بن عبد العزيز مولى، وجعله واليا على وادي القرى، فعوتب على ذلك. ولكن ما كان شاذا في العصر الأموي صار هو المألوف في العصر العباسي. ابتدأ المنصور يكثر من استخدام الموالي، يقول السيوطي: «إن المنصور أول من استعمل مواليه على الأعمال، وقدمهم على العرب. وكثر ذلك بعده حتى زالت رياسة العرب وقيادتها.»
67
وليس معنى هذه العبارة أن أحدا قبله من خلفاء بني أمية لم يستعمل مولى قط، وإنما المعنى أن المنصور اتخذ استعمال الموالي مبدأ له وقاعدة، ورأسهم على العرب. وهو بهذا المعنى أول من فعل ذلك، والجهشياري في كتابه تاريخ الوزراء يروي لنا ما يفهم منه أن أكثر من تولى الأعمال للمنصور موالي.
68
ويقول المسعودي في المنصور : إنه أول خليفة استعمل مواليه وغلمانه، وصرفهم في مهماته، وقدمهم على العرب، فاتخذت ذلك الخلفاء من بعده (من ولده) سنة؛ فسقطت وبادت العرب، وزال بأسها، وذهبت مراتبها.
69
ويروي الطبري: «أنه كان للمنصور خادم أصفر على الأدمة، ماهر لا بأس به؛ فقال المنصور يوما: ما جنسك؟ قال: عربي يا أمير المؤمنين. قال: ومن أي العرب أنت؟ قال: من خولان، سبيت من اليمن، فأخذني عدو لنا فجبني فاسترققت، فصرت إلى بعض بني أمية، ثم صرت إليك. قال: أما إنك نعم الغلام، ولكن لا يدخل قصري عربي يخدم حرمي. اخرج عافاك الله فاذهب حيث شئت!»
70
ويروي الأغاني: أن أبا نخيلة وقف على باب أبي جعفر، واستأذن فلم يصل، وجعلت الخراسانية تدخل، وتخرج فتهزأ به، فيرون شيخا أعرابيا جلفا فيعبثون به. فقال له رجل عرفه: كيف أنت يا أبا نخيلة؟ فأنشأ يقول:
أصبحت لا يملك بعضي بعضا
تشكو العروق الآبضات
71
أيضا!
كما تشكى الأزجي الفرضا
كأنما كان شبابي قرضا!
فقال له الرجل: وكيف ترى ما أنت فيه في هذه الدولة؟
فقال:
أكثر خلق الله من لا يدرى
من أي خلق الله حين يلقى!؟
وحلة تنشر ثم تطوى،
وطيلسان يشترى فيغلى
لعبد عبد، أو لمولى مولى
يا ويح بيت المال! ماذا يلقى؟
72
ولكن مع هذا كله استخدم المنصور بعض العرب؛ فقد ولى سلم بن قتيبة الباهلي البصرة كما ولى مولى كور البصرة والأبلة
73
ورأيت قبل أن جند أبي جعفر كانوا عربا وعجما، فلما جاء الرشيد زاد نفوذ الفرس بفضل البرامكة، وقد كانوا المصرفين للدولة وشئونها، فاستتبع نفوذهم نفوذ جنسهم، واتخذوا لذلك سياسة محكمة؛ منها: ما يرويه لنا الطبري: أن الفضل بن يحيى (البرمكي) اتخذ بخراسان جندا من العجم سماهم «العباسية»، وجعل ولاءهم لهم (للعباسيين)، وأن عدتهم بلغت خمسمائة ألف رجل، وأنه قدم منهم بغداد عشرون ألف رجل، فسموا ببغداد «الكرنبية» وخلف الباقي منهم بخراسان على أسمائهم ودفاترهم.
74
وزاد نفوذهم كذلك في عهد المأمون، فقد انتصر الفرس نصرة ثانية كالتي كانت بين العباسيين والأمويين؛ لأن أغلب الفرس تعصب للمأمون، وأكثر العرب تعصبوا للأمين، فعدت غلبة المأمون نصرة فارسية، فطيفور يذكر لنا في تاريخه: «أن العرب كانوا يركبون ومعهم القسي والنشاب بين يدي المأمون.»
75
ويروي الطبري: «أن رجلا تعرض للمأمون بالشام مرارا فقال له: يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم أهل خراسان، فقال «المأمون»: أكثرت علي يا أخا أهل الشام! والله ما أنزلت قيسا عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد! وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط، وأما قضاعة فسادتها تنتظر السفياني وخروجه فتكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاريا أعزب، فعل الله بك.»
76
فلما جاء المعتصم أحل الترك محل الفرس، فنكل الترك بالفرس والعرب جميعا، كما سيتضح ذلك عند الكلام على العصر الثاني إن شاء الله. •••
كان لنفوذ الموالي، وخاصة الفرس مظاهر عدة: (1)
إن قصور الخلفاء ملئت بالموالي يستخدمون في أعمال شتى، وبيوت الحريم ملئت بالخصيان، وقد أخذ المسلمون ذلك عن البيزنطيين، ولم تكن هذه العادة معروفة عند العرب. (2)
قصر المراكز الكبيرة كالوزارة على الفرس تقريبا. (3)
نفوذ العادات والتقاليد الفارسية كإحياء يوم النيروز، ولبس القلنسوة. (4)
انتشار الثقافة الفارسية وسنفرد له بابا خاصا.
لم يستسلم العرب لقوة الموالي ونفوذهم بل قاوموا، وكان بين الجانبين صراع عنيف حينا، وهادئ حينا، واتخذ هذا الصراع أشكالا مختلفة، فمثلا: يعتمد الصراع على الدس عند الخليفة فيكيد العرب للموالي، ويكيد الموالي للعرب. ومن أجل هذا كان تنكيل الخلفاء بالوزراء من حين إلى حين، حتى قال قائلهم:
إن الوزير وزير آل محمد
أودى، فمن يشناك كان وزيرا
وكان تاريخ الوزراء سلسلة نكبات، ولسنا نستبعد أن كثيرا منها كان سببه ما يشعر به الخلفاء - تحت تأثير الدسائس - من نفوذ الفرس، وقوة سلطانهم، واستبدادهم بالأمور دونهم. يقول ابن خلدون: «وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجابهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشاركوه في سلطانه، ولم يكن معهم تصرف في أمور ملكه، فعظمت آثارهم، وبعد صيتهم، وعمروا مراتب الدولة وخططها بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم، واحتازوها عمن سواهم من وزارة وكتابة، وقيادة وحجابة، وسيف وقلم.» ويقول: «إن البرامكة مدحوا بما لم يمدح به خليفتهم! وأسنوا لعفاتهم الجوائز والصلات، واستولوا على القرى والضياع ... حتى آسفوا البطانة، وأحقدوا الخاصة، فكشفت بهم وجوه المنافسة والحسد، ودبت إلى مهادهم الوثير من الدولة عقارب السعاية، حتى لقد كان بنو قحطبة (أخوال جعفر) من أعظم الساعين عليهم!»
77
ويتناقش نعيم بن حازم العربي مع الفضل بن سهل الفارسي بين يدي المأمون، فيحسن الفضل نقل الخلافة إلى العلويين، فيقول نعيم للفضل: إنك إنما تريد أن تزيل الملك عن بني العباس إلى ولد علي، ثم تحتال عليهم ثم تصير الملك كسرويا.
78
وكثير ممن تولى المناصب الكبيرة من الفرس كان ينكل بمن استطاع من العرب؛ كالذي كان بين الأفشين وأبي دلف العجلي، فقد كان الأفشين فارسيا من «أشروسنه» بآسيا الصغرى، وكان قائد جيوش المعتصم، وكان يكره العرب من أعماق نفسه، وكان يقول: «إذا ظفرت بالعرب شدخت رءوس عظمائهم بالدبوس.»
79
وسيأتي له ذكر عند الكلام في الزندقة. وأبو دلف العجلي عربي من نزار، وكان يعيش عيشة عربية، كريما شجاعا ممدحا، وبابه مفتوح للشعراء والأدباء والسؤال، وماله مقسم عليهم، وكان أحد قواد المعتصم أيضا «وكان سيد أهله، ورئيس عشيرته من عجل وغيرها من ربيعة. وكان شاعرا مجيدا شجاعا بطلا مغنيا.
80
فيحدثنا التنوخي في كتابه «الفرج بعد الشدة»: أن الأفشين هم بقتل أبي دلف وصفده بالحديد، وأجلسه على نطع بين يديه يقرعه ويخاطبه بأشد غضب، ويهم بقتله! فيعلم أحمد بن أبي داود (وهو عربي وقاضي المأمون والمعتصم) فيسرع إلى الأفشين ويدخل عليه من غير استئذان خيفة أن يعجل عليه، ويقول له: إن أبا دلف فارس العرب وشريفها؛ فاستبقه وأنعم عليه، فإن لم تره لهذا أهلا فهبه للعرب كلها، وأنت تعلم أن ملوك العجم لم تزل تفضل على ملوك العرب! ومن ذلك ما كان من كسرى إلى النعمان حتى ملكه، وأنت اليوم بقية العجم فأنعم على شريف من العرب بالعفو عنه! فيأبى ذلك الأفشين ثم يشعر ابن أبي داود بمكانته عند المعتصم حتى ليستطيع أن يتكلم على لسانه، فيقول للأفشين: إني رسول أمير المؤمنين إليك، وهو يقول: لا تحدث في القاسم بن عيسى حدثا فإنك إن قتلته قتلت به! وذهب إلى المعتصم فأخبره الخبر فأقره عليه، وبذلك نجا أبو دلف سيد العرب من سيد العجم!
81
وكان أحمد بن أبي داود من ناحية أخرى يستخدم منصبه فيقضي حوائج العرب، «فيقول للمعتصم «فلان الهاشمي»، وفلان القرشي، وفلان الأنصاري، وفلان العربي.» ولا يزال يتلطف حتى تقضى مطالبه.
82
وشكل آخر من شكل الصراع (وهو الصراع الأدبي الذي كان معروفا في العصر الأموي) وهو الافتخار بالأنساب من طريق الأدب؛ كالذي كان بين عبد الله بن طاهر (الفارسي) يفتخر بنسبه في الفرس، فيرد عليه محمد بن يزيد (العربي الأموي) يفتخر بالعرب، فقد قال عبد الله بن طاهر قصيدة يفخر بها بمآثر أبيه وأهله ويفخر بقتلهم الأمين، يقول فيها:
أقصري عما لهجت به
ففراغي عنك مشغول
أنا من قد تعرفي نسبي
سلفي الغر البهاليل
ومنها:
وأبي من لا كفاء له
من يساوي مجده؟ قولوا!
ومنها:
انظر المخلوع كلكله
وحواليه المقاويل
فثوى والتراب مضجعه
غال عنه ملكه غول
قاد جيشا نحو نائلة
ضاق عنه العرض والطول
من خراسان مصمصهم
كليوث ضمها غيل
وهبوا لله أنفسهم
لا معازيل، ولا ميل
83
ويقول محمد بن يزيد: لما بلغتني هذه القصيدة امتعضت العرب، وأنفت أن يفخر عليها رجل من العجم لأنه قتل ملكا من ملوكهم بسيف أخيه لا بسيفه. فيفخر عليها هذا الفخر، ويضع منها هذا الوضع، فرددت عليه قصيدته، ومطلعها:
لا يرعك القال والقيل
كل ما بلغت تضليل
يا ابن بيت النار موقدها
ما لحاذيه سراويل
من حسين من أبوك ومن
مصعب غالتكمو غول
نسب في الفخر مؤتشب،
وأبوات أراذيل
قاتل المخلوع مقتول
ودم المقتول مطلول
ومنها:
ما جرى في عود أثلتكم
ماء مجد فهو مدخول
قدحت فيه أسافله
فأعاليه مهازيل
ويقول قائل من الفرس:
بهاليل غر من ذؤابة فارس
إذا انتسبوا لا من عرينة أو عكل!
همو راضة الدنيا، وسادة أهلها
إذا افتخروا لا راضة الشاء والإبل
فيقول آخر عربي:
لا تغترر أنك من فارس
في معدن الملك وديوانه
لو حدثت كسرى بذا نفسه
صفعته في جوف إيوانه!
وهناك شكل ثالث من أشكال الصراع؛ هو الصراع العلمي، وسنعرض له بعد.
كانت نتيجة هذا الصراع هزيمة العرب، وغلبة الموالي، ولكن يجب أن نقرر أن هزيمتهم التامة كانت من الناحية السياسية والإدارية، فأما دينيا ولغويا فقد انتصر العرب فلم تستطع المجوسية أن تساير الإسلام، ولم تستطع لغات الموالي أن تضع من شأن لغة العرب بل خدمتها وعملت على ترقيتها من نواح مختلفة، وظل الموالي الذين يخدمون أغراضهم السياسية، وينجحون فيها، يخدمون في الوقت نفسه الدين واللغة؛ يضعون قواعدهما، ويضبطون شواردهما، وحركات الزندقة التي كانوا ينفثونها من حين لآخر أخمدت في قوة، وإن كانت قد تركت أثرا ضئيلا، كما أن سعي بعضهم لإحلال اللغة الفارسية محل العربية لم يصادف في عصرنا الذي نؤرخه آذانا سميعة، وظلت اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وهي لغة الدين، ولغة العلم، وأقبل الموالي على تعلمها، وإجادتها إجادة تقرب من إجادة أهلها، وحسبك دليلا أن أبا مسلم الخراساني كان يجيد العربية، ويفهم أراجيز رؤبة.
84
وأن أكثر الكتاب المجيدين في العربية في هذا العصر كانوا فرسا، وأن الأصمعي يحكي عن عصره: إن مما يخل بالمروءة التكلم في مصر عربي بالفارسية.
85
الفصل الثالث
الشعوبية
نستطيع بعد الذي ذكرنا في الفصل السابق أن نقول: إن عصرنا الذي نؤرخه كانت تسود فيه ثلاث نزعات:
النزعة الأولى:
تذهب إلى أن العرب خير الأمم، ولهم في ذلك حجج، نجملها فيما يأتي: (1)
أنهم عاشوا حياتهم متمتعين باستقلالهم؛ فهم في جاهليتهم جاوروا دولتي الفرس والروم، وكلتاهما دوخ البلاد وأسس ملكا عظيما، وكلتاهما كان له من الجند والعدد والعدة ما لا يحصى كثرة، ومع هذا فلم تجرؤ كلتاهما أن تمس استقلال العرب، وأن تطأ ديارهم، تملقوهم، واستعانوا باللخميين في الحيرة، والغسانيين في الشام، ومنحوهم المال، وقدموا لهم الديار ليحموهم من غارات عرب الجزيرة عليهم؛ فهم كانوا أحوج إلى العرب من حاجة العرب إليهم!
ولم يشأ أصحاب هذه النزعة أن يعتقدوا أن زهد الفرس والروم في أرضهم، وعدم إقدامهم على إخضاعهم منشؤه أن أرض الجزيرة ليس فيها من الخيرات والثروة ما يطمع، بل اعتقدوا أن انصراف الفرس والروم عنهم إنما كان لشجاعة العرب، وإقدامهم وصبرهم، وأن لهم من أرضهم منعة تجعل حربهم حرب عصابات، لا يستطيع الجيش المنظم أن يجاريهم في أشكال حروبهم، ولا أن يقف أمامهم. وأما في إسلامهم؛ فقد حافظوا على استقلالهم، بل أضاعوا استقلال الفرس، وأخضعوهم لحكمهم، وكسروا جيوش الروم، وطردوهم من أملاكهم! (2)
أن لهم صفات خلقية امتازوا بها؛ فهم أكرم الناس لضيف، وأنجدهم لمستصرخ، يعقر أحدهم ناقته التي لا يملك سواها للطارق ينزل به، وهو ممسك بعنان فرسه؛ كلما سمع هيعة
1
طار إليها! وهم أوفى الأمم؛ يتكلم أحدهم الكلمة فتكون صكا، ويلجأ إليه لاجئ فيفي بحق جواره، حتى ليحتكم فيه جاره حكم الصبي في أهله، وهم على ذلك قادة الأمم في البيان، وحسن التعبير، وهم معدن الشعر، ولهم في حسن البديهة، وقول الأمثال السائرة، وإبداع الكلام ما ليس لغيرهم، وهم أحفظ الناس لأنسابهم فليس أحد منهم إلا يعرف نسبه، ويسمي آباءه، وإذا انتسب أحدهم إلى غير آبائه عرفوا أنه دعي؛ حفظوا أنسابهم، وبنوا على ذلك أحسابهم! (3)
بينهم نشأ الإسلام، ورسول الله من أنفسهم، وهم الناشرون له بين الأمم، والداعون إليه، والحامون لدعوته، فكل من أسلم من العجم ففي عنقه منة من العرب لا تقدر؛ هم الذين أنقذوه من دينه القديم، وهم الذين أخرجوه من الشرك إلى التوحيد، وهم الذين اصطلوا نار الحروب لهدايته، وهم الذين قتلوا أنفسهم لحياته.
هذه هي أهم حجج الذاهبين إلى هذا الرأي.
ويروون أن جماعة اجتمعوا بالمربد، ومعهم ابن المقفع، فسألهم: أي الأمم أعقل؟ فنظر بعضهم إلى بعض؛ فقالوا لعله أراد أصله من فارس، فقالوا: فارس. فقال ابن المقفع: ليسوا بذلك إنهم ملكوا كثيرا من الأرض، ووجدوا عظيما من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، فما استنبطوا شيئا بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم. قالوا: فالروم؟ قال: أصحاب صنعة. قالوا: فالصين؟ قال: أصحاب طرفة. قالوا: الهند؟ قال: أصحاب فلسفة. قالوا: السودان؟ قال: شر خلق الله ... إلخ. قالوا: فقل، قال: العرب. فضحكوا! قال ابن المقفع: إني ما أردت موافقتكم، ولكن إذا فاتني حظي من النسب فلا يفوتني حظي من المعرفة. إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، ولا آثار أثرت، أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما يشاء فيحسن، ويقبح ما يشاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، وافتتح الله دينه وخلافته بهم إلى الحشر، فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم خصم.
2
ويروى لابن المقفع أيضا أنه قال وقد جرى ذكر الشعر وفضيلته: «أي حكمة تكون أبلغ أو أغرب أو أعجب من غلام بدوي لم ير ريفا، ولم يشبع من طعام؛ يستوحش من الكلام، ويفزع من البشر، ويأوي إلى ما لم يره، ولم يعهده، ولم يعرفه، ثم يذكر محاسن الأخلاق ومساوئها، ويمدح ويهجو ويذم، ويعاتب ويشبب، ويقول ما يكتب عنه، ويروى له ويبقي عليه؟!»
3
ونحن مع شكنا في هذه الرواية عن ابن المقفع - لأسباب ليس هذا موضعها - فإننا نثبتها لأنها تمثل هذه النزعة.
4
ويقول الجاحظ: «ليس في الأرض كلام هو أمتع، ولا أنفع، ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان من طول سماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء.»
5
وهذه النزعة كان يمثلها أشراف العرب وبدوهم، كما كان يمثلها قوم من العجم أسلموا إسلاما عميقا، وأحبوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من أعماق نفوسهم، وأحبوا العرب؛ لأن النبي منهم، ولأنهم أسلموا على أيديهم .
النزعة الثانية:
تذهب إلى أن العرب ليسوا أفضل من غيرهم من الأمم، ولا أي أمة أفضل من أي أمة، «والناس كلهم من طينة واحدة، وسلالة رجل واحد.» وإنما التفاضل بين الأفراد لا بين الأمم، «وليس تفاضل الناس فيما بينهم بآبائهم وأحسابهم، ولكن بأفعالهم وأخلاقهم، وشرف أنفسهم وبعد هممهم؛ ألا ترى أن من كان دنيء الهمة ساقط المروءة لم يشرف، وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها، ومن أمية في أرومتها، ومن قيس في أشرف بطن منها! إنما الكريم من كرمت أفعاله، والشريف من شرفت همته.»
6
يقف هؤلاء موقفا على السواء بين الأمم، فلا عربي أفضل من أعجمي لأنه عربي، ولا أعجمي أفضل من عربي لأنه أعجمي، وليست العربية ولا الأعجمية عاملا من عوامل التفاضل، إنما عامل التفاضل الدين وحده عند قوم، والشرف وسمو الخلق عند آخرين، وفي هذا المعنى جاء القرآن الكريم:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم . وفي الحديث: «ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.» و«المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.» ويقول المأمون: «الشرف نسب؛ فشريف العرب أولى بشريف العجم من وضيع العجم بشريفهم، وشريف العجم أولى بشريف العرب من وضيع العرب بشريفهم.»
7
وابن قتيبة بعد أن دافع عن العرب وأبان فضلهم على غيرهم من الأمم، عاد فنقد كل ذلك وقرر المساواة فقال في آخر كتابه «تفضيل العرب»: «وأعدل القول عندي، أن الناس كلهم لأب وأم؛ خلقوا من تراب، وأعيدوا إلى التراب، وجروا في مجرى البول، وطرأ عليهم الأقذار، فهذا نسبهم الأعلى الذي يردع به أهل العقول عن التعظيم والكبرياء والفخر بالآباء، ثم إلى الله مرجعهم فتنقطع الأنساب، وتبطل الأحساب إلا من كان حسبه التقوى، أو كانت ماتته طاعة الله.»
8
وحجة هؤلاء أن في كل أمة الطيب والخبيث، ولكل أمة محاسنها ومساوئها، وخير ميزان توزن به الأعمال الدين أو الخلق. ولسنا نستطيع ذلك في الأمم إنما نستطيعه في الأفراد؛ ففرد خير من فرد بدينه أو بخلقه، ولا شيء غير ذلك، وهذا الصنف من الناس يسمون «أهل التسوية»؛ أي الذين يسوون بين الأمم، ولا يجعلون فضلا لأمة على أخرى، ويمثلهم أكثر المتدينين والعلماء من العرب والعجم؛ لأن روح الإسلام وقواعده تؤيد هذا المذهب.
النزعة الثالثة:
تميل إلى الحط من شأن العرب، وتفضيل غيرهم من الأمم عليهم، وحجتهم في ذلك: (1)
أن العرب ليس لها أي ميزة، على حين أن كل أمة لها ميزة تفخر بها؛ فالرومان تفتخر بعظم سلطانها، وكثرة مدائنها، وعظيم مدنيتها. والهند تفخر بحكمتها وطبها، وكثرة عددها وأنهارها وثمارها. والصين تزهى بصناعاتها، وفنونها الجميلة، وما إلى ذلك. ولا نجد العرب تمتاز بشيء يضارع ما ذكرنا؛ جدب في أرض، وبداوة في عيش، كانوا في جاهليتهم يقتلون أولادهم من الفقر، ولا يستقر لهم حال من الغزو والسلب، ويفعلون المكرمة الصغيرة كإطعام جائع، وإغاثة ملهوف فيملئون الدنيا بها شعرا ونثرا، ويتيهون بذلك فخرا. (2)
قالوا: بم يكون الفخر؟ أبالملك؟ فأين ملك العرب من ملك الفراعنة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة؟! أو من سليمان الذي أوتي من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده؟! أو من ملك الإسكندر، وقد بلغ مطلع الشمس ومغربها! أم بالنبوة؟ فجميع الأنبياء من غير العرب ما خلا أربعة؛ هودا وصالحا وإسماعيل ومحمدا. أم بالصناعة والعلم؟ فالعرب أضعف الأمم في ذلك شأنا، وأعقمهم يدا، وأجدبهم عقلا. أم بالشعر؟ فلم ينفرد العرب به، فلليونان شعر موزون مقفى، وللرومان شعر كذلك. أم الخطب والبيان؟ فللفرس واليونان والرومان خطب محبرة، وبيان ساحر، فما الذي يفخرون به بعد ذلك؟ يفخرون بالكرم والوفاء؟ وقولهم في ذلك أطول وأعرض من فعلهم، ويفتخرون بالأنساب وقد كانوا في جاهليتهم لا يتقيدون بنوع الزواج المعروف في الإسلام، بل كان من أنواع زواجهم شيوع المرأة بين عدة رجال، وكانوا في حروبهم يسبي بعضهم نساء بعض، ويستمتع بها من غير زواج، فكيف يدري أحدهم أباه! (3)
وإن فخرتم بالإسلام، فليس الإسلام دين العرب وحدهم، بل هو دين الناس. والإسلام نفسه حارب نزعتكم، فهدم العصبية الجاهلية، وجعل مقياس الشرف التقوى، فالدين بيننا وبينكم، والدنيا نحن نحظى بها وأعرف بمزاياها، وأكثر تفننا في شئونها.
ويمثل هذا الصنف - ممن يحقرون العرب، ويضعون من شأنهم ويسودون كل أمة عليهم - من ظلوا على دينهم القديم، أو أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، أوغلبت عليهم النزعة الوطنية، فكرهوا من العرب أنهم أزالوا ملكهم، وأضاعوا استقلالهم.
هذه هي النزعات الثلاث التي كانت في ذلك العصر، وعلى هذا النحو كانوا يتجادلون. وقد أطلق على أصحاب النزعتين الأخيرتين اسم «الشعوبية»، وكان أحق الناس بهذا الاسم الطائفة الثانية؛ لأنهم يقولون «بالشعوب»، أي يقولون بأنه لا فرق بين الشعوب من عرب وغيرهم في الشرف والخسة، فكان أمامهم أن يتسموا باسم مشتق من «المساواة»، أو باسم مأخوذ من الشعوب، يدل على أن الشعوب سواء، فاختاروا الثاني وسموا «الشعوبية». ولذلك يقول في العقد الفريد: «الشعوبية وهم أهل التسوية» ويقول في الصحاح: «الشعوبية فرقة لا تفضل العرب على العجم.» ولكن لا نلبث أن نراهم أطلقوا هذا الاسم على الصنف الثالث أيضا؛ فلو قرأنا ما كتب الجاحظ، وصاحب العقد وغيرهما، وجدنا أنهم انساقوا في تسمية المعادين للعرب «بالشعوبية». والظاهر أن تسميتهم بهذا الاسم تأخرت عن تسمية أهل التسوية به، كما تأخرت الفرقة الثالثة عن الفرقة الثانية تاريخيا، فطبيعي - وقد كان العرب متغلبين في العصر الأموي، وكانت النزعة الأولى على أشدها وقوتها وسلطانها - أن يبدأ الموالي فيقولون بالمساواة فقط، وكل أمنيتهم أن يظفروا بذلك، حتى إذا اشتد الجدل، وأحس الموالي بقوتهم وسلطانهم أيام الرشيد والمأمون؛ ظهرت النزعة الثالثة تضع من شأن العرب، وترفع من غيرهم؛ فانسحب اسم «الشعوبية» عليهم، وصار يطلق على أصحاب النزعتين معا، بل حتى صار أكثر ما يطلق على الصنف الثالث، قال في اللسان: «والشعوبي هو الذي يصغر شأن العرب، ولا يرى لهم فضلا على غيرهم.»
يستنتج مما ذكرنا أن لفظ الشعوبية مأخوذ من الشعوب جمع شعب، وهو جيل الناس، وهو أوسع من القبيلة، وأشمل، قال الزبير بن بكار: «الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة.» وعلى هذا فالعرب شعب، والفرس شعب ، والروم شعب، وهكذا. وقد ذهب قوم إلى أنها مأخوذة من الشعوب في قوله تعالى:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . وقالوا: إن المراد بالشعوب بطون العجم، وبالقبائل قبائل العرب، وهو تفسير في نظرنا غير صحيح، وأوضح دليل على ذلك أن العرب لم تكن تفهمه حين نزول الآية، فقد نقل إلينا الطبري آراء كثير من الصحابة والتابعين في تفسير الآية، وكلها تدور حول أن المراد بالشعوب النسب البعيد، أو البطون والقبائل دون ذلك. والذي يظهر أن تفسير الشعوب بالعجم، والقبائل بالعرب تفسير شعوبي وضعه أعجمي، واستطرد منه إلى القول بأن العجم أفضل من العرب؛ لأن الله قدمهم في الذكر. قال ابن قتيبة: «وبلغني أن رجلا من العجم احتج بقول الله عز وجل:
يا أيها الناس .. الآية. وقال: الشعوب من العجم، والقبائل من العرب، والمقدم أفضل من المؤخر. وقد كنت أرى أهل التسوية يحتجون بهذه الآية، وقد غلطوا من وجهين؛ أحدهما: أن تقديم الذكر لا يوجب تقديم الفضل. قال الله عز وجل:
يا معشر الجن والإنس
فقدم الجن على الإنس، والإنس أفضل منها. والوجه الآخر: أن العجم ليست بالشعب أولى من العرب، وكل قوم كثروا وانشعبوا فقد صاروا شعوبا».
من الجائز أن يكون اسم الشعوبية أخذ من الشعوب بعد أن فسرت الآية بهذا التفسير، ولكنه يكون مرتكزا على أساس خطأ. وأرجح أن اسم الشعوبية لم يستعمل إلا في العصر العباسي الأول، بدليلين ظنيين؛ الأول: ما أسلفنا، وهو أن هذه النزعة التي تحاول مساواة العرب أو تحقيرهم لم تتخذ شكلا قويا واضحا يصح أن يطلق على معتنقيه اسم إلا في هذا العصر، أما قبل ذلك فقد كانت نزعة خفية لا تستطيع الظهور، وإذا ظهرت أخمدت، والحاجة إلى الاسم إنما تكون بعد أن يتخذ المبدأ شكل عقيدة عامة أو حزب. الثاني: أننا لم نر من أطلق هذا الاسم على هذه النزعة في العصر الأموي، نعم إن الأصفهاني في الأغاني قال: إن إسماعيل بن يسار كان شعوبيا، ولكن من الواضح أن الأصفهاني (وهو عباسي) سمى إسماعيل بالاسم الذي يستحقه لما رفع شأن العجم، وتغنى في ذلك بشعره أمام هشام بن عبد الملك، وليس المعنى أن إسماعيل بن يسار عرف بذلك الاسم في عصره، وذلك كما عدوا سلمان الفارسي متصوفا، مع أن قائلا لم يقل بأن اسم الصوفية عرف في عهد سلمان. كذلك روي عن مسروق «أن رجلا من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية، فأمر عمر ألا تؤخذ منه.» ومسروق تابعي كان في العصر الأموي، وقد فسر ابن الأثير الشعوب في هذا القول بالعجم، قال في اللسان: «ويجوز أن يكون جمع الشعوبي، وهو الذي يصغر شأن العرب، كقولهم اليهود والمجوس في جمع اليهودي والمجوسي.» ونحن نستبعد التفسير الثاني؛ لأنه صادر من متأخرين، وقد فسروه بما عرفوه بعد عصر مسروق، والذي نراه: أن مسروقا أراد أن رجلا من الشعوب الأخرى غير العرب أسلم، وإذن لا يكون فيه دليل.
وقد يستأنس - على ما نقول - بأن أكثر أسماء المذاهب التي وضعت في صدر الدولة الأموية لم تكن فيها ياء بالنسبة؛ كالخوارج، والشيعة، والمرجئة، والمعتزلة، ولم تؤلف هذه النسبة إلا في آخر العهد الأموي، أو صدر العصر العباسي؛ كالجهمية، والقدرية، ثم الراوندية، والخرمية، والشعوبية، وأقدم ما وصل إلينا من الكتب التي استعملت لفظ الشعوبية كتاب البيان والتبيين للجاحظ.
يمكننا أن نستنتج من دراستنا للشعوبية النتائج الآتية: (1)
أن دعاة الشعوبية بدءوا دعوتهم مستندين على تعاليم الإسلام نفسه؛ فهو لا يفضل شعبا على شعب، والعقوبة أو المثوبة عنده إنما وضعت على الأعمال لا على الأجناس، وقد يكون العبد الرقيق والنبطي الذليل عند الله في أعلى عليين، وسيده المكاثر بأهله وولده وماله أسفل سافلين، ثم تدرجوا من ذلك إلى تحقير العرب وشئونهم، وبيان ميزة الأمم الأخرى عليهم، وساعدهم على ذلك ما كان للفرس من نفوذ ظاهر في الدولة العباسية. (2)
أن الشعوبية لم تكن عقيدة محدودة التعاليم، لها شعائر ظاهرة معينة كما نقول في المذاهب الدينية، فإنا نستطيع أن نقول : إن هذا شافعي، وهذا حنفي، فيمكننا أن نحدد وجوه الخلاف، ونبين الفروق في الشعائر، كما نستطيع أن نقول إن هذا من أهل السنة والجماعة، وهذا معتزلي؛ فندرك ذلك، ولكنا لا نستطيع أن نفعل ذلك في الشعوبية؛ لأنها نزعة أكثر منها عقيدة، فهي أشبه بالأرستقراطية، والديمقراطية، بل هي في الحقيقة نوع من الديمقراطية يحارب أرستقراطية العرب؛ لذلك لا نستطيع أن نحصر معتنقيها؛ فهم في كل بلد، وفي كل قطر، ومن كل جنس، كما لا نستطيع اليوم أن نحصي من ينزعون إلى الديموقراطية، أو الاشتراكية. (3)
مما ساعد على هذه النزعة الشعوبية أنها تساند النزعة الوطنية، والعصبية الدينية؛ فالعرب أزالوا استقلال فارس، وحكموا مصر والشام والمغرب وأهلها ليسوا عربا، فاستتبع ذلك أن كثيرا من الفرس كانوا يحنون إلى ملكهم واستقلالهم، وكثير من نصارى الشام ومصر كانوا يكرهون العرب المسلمين الذين أجلوا الروم النصارى عن بلادهم، ويتمنون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وإن كان لا بد أن يحكموا فمن أهل دينهم.
نعم، إن من دخل في الإسلام من الفرس وأهل مصر والشام والأندلس كانوا أقل حدة في هذه النزعة الوطنية، ولكن لم يكن كلهم قد دخل الإسلام إلى أعماق نفوسهم، وتملك مشاعرهم إلى حد أن تغلب النزعة الدينية النزعة الوطنية. (4)
يمكن أن نستنتج مما تقدم: أن الشعوبيين كانوا أصنافا مختلفة؛ منهم فرس، ومنهم نبط، ومنهم قبط، ومنهم أندلسيون. وقد صبغت شعوبية كل صنف من هؤلاء صبغة خاصة؛ فالفرس صبغت صبغة وطنية تدعو إلى الاستقلال، واتخذت في بعض الأحيان شكل زندقة وإلحاد، والنبط ظهرت في شكل عصبية للأرض وزراعتها، وتفضيل معيشة الحرث والزرع على الصحراء ومعيشتها، والقبط ثاروا ثورات مختلفة على العرب، وأرادوا طردهم من بلادهم، وكانت آخر ثورة كبيرة في عهد المأمون، فلما هزموا لجئوا إلى الكيد «بأعمال الحيلة، واستعمال المكر، وتمكنوا من النكاية بوضع أيديهم في كتاب الخراج.»
9
وفي الأندلس ظهر ابن غرسية، ووضع رسالته في الشعوبية، ورد عليه كثير من العلماء. (5)
هذه الشعوبية كانت درجات مختلفة تبتدئ معتدلة هادئة، وتنتهي متطرفة عنيفة، فنرى قوما معتدلين مالوا إلى تسوية العرب بغيرهم كما رأيت، وآخرين حقروا من شأنهم، وسلبوهم كل مزية، كما نرى قوما فرقوا بين العرب والإسلام، فهاجموا العرب من حيث هم أمة، ولم يعرضوا للإسلام بمكروه، بل صرحوا بأن الإسلام دين الناس جميعا لا العرب وحدهم، وكثير ممن حكينا قولهم في ذم العرب كانوا من هذا الصنف، بل يصح لنا أن نعد ابن خلدون شعوبيا بهذا المعنى؛ فقد حكينا ملخص رأيه في العرب في الجزء الأول من «فجر الإسلام»،
10
وهو رأي في أشد العنف والقسوة على العرب وخصائصهم، قل أن نرى شعوبيا متطرفا وصل إلى ما وصل إليه في صراحته وشدته، ولكنه في رأينا كان مسلما حقا حر التفكير في حدود الدين، على حين أنا نرى قوما آخرين لم يفرقوا بين العرب والإسلام، وأدتهم كراهيتهم للعرب إلى كراهيتهم لكل ما جاء عنهم، ومن ذلك الدين، وقد حكى الجاحظ عن قوم من هؤلاء، فقال: «وربما كانت العداوة من جهة العصبية؛ فإن عامة من ارتاب بالإسلام إنما جاءه ذلك من الشعوبية، فإذا أبغض شيئا أبغض أهله، وإن أبغض تلك اللغة أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام؛ إذ كانت العرب هي التي جاءت به، وكانوا السلف.»
11
وقد دعت هذه النزعة قوما إلى أن يتبرموا من الشعوبية؛ إذ هي باب الإلحاد. (6)
نلحظ شيئا من الوفاق بين بعض تعاليم الخوارج والشيعة والمعتزلة؛ فالخوارج كما علمت يرون أن الخليفة لا يشترط فيه أن يكون قرشيا، بل ولا عربيا، والذي أرى أن هذه النزعة منهم لا يقصد منها تحقير العرب، وإعلاء شأن غيرهم، وكيف يكون ذلك وأكثر الخوارج كانوا عربا خلصا، وهذا الرأي صدر عنهم حين الخلاف بين علي ومعاوية، والشعوبية لم تتكون بعد؛ فالظاهر أن رأيهم هذا صدر عن اجتهاد بحت، دعا إليه محض الرغبة في إصلاح أمور المسلمين. وأما المعتزلة فنرى المسعودي يقول: «وقد زعم جماعة من المتكلمين منهم ضرار بن عمرو، وثمامة بن أشرس، وعمرو بن عثمان الجاحظ أن النبط خير من العرب.» وهؤلاء الثلاثة من رءوس المعتزلة . وأرى أن رأي المسعودي (وتبعه في ذلك «جولدزيهر»
12 ) خطأ، ويظهر لي أن خطأهما جاء: من أن ضرارا وأصحابه ذهبوا إلى أبعد ما ذهب إليه الخوارج، فلم يقتصروا على أن يقولوا: إن الخلافة لا يلزم أن تكون في قريش ولا في العرب، بل قالوا: إن غير العربي ولو نبطيا أولى من القرشي؛ لأنه يسهل خلعه إذا جار وظلم. ودليلنا على ذلك ما جاء في شرح النووي على مسلم: «ولا اعتداد بسخافة ضرار بن عمرو في قوله: إن غير القرشي من الهوان خلعه إن عرض منه أمر.»
13
وقد فهم الفاهمون من هذا أن ضرارا وصحبه يفضلون النبطي على العربي، وهو فهم غير صحيح بل هو العكس، يرمي في وضوح إلى القول بأن العربي أشرف، وأن من المصلحة أن نولي غير المعتز بعصبيته ليسهل خلعه، وذكر النبطي على أنه مثل في الخسة! والجاحظ - بوجه خاص - من الصعب عده شعوبيا؛ فقد انبرى في كتابه «البيان والتبيين» للرد على مطاعن الشعوبية، وسفه رأيهم، بما يدل على إخلاص فيما يقول، نعم إنه ألف رسالة في فضل الموالي، وعد مناقبهم، ولكنه ذكر ذلك على لسانهم، وقد صرح بأنه ألف هذه الرسالة أيام المعتصم جالب الأتراك، وذكر أنه إنما ألفها لا ليفضل بها بعض الجنود على بعض: «وقد كانت جند الخلافة إذ ذاك على خمسة أقسام؛ خراساني، وتركي، ومولى، وعربي، وبنوي.»
14
وإنما ألفها ليؤلف بين قلوبهم إن كانت مختلفة، وليزيد في الألفة إن كانت مؤتلفة.
15
وليحذر من المنافقين يدسون الدسائس ليوغروا الصدور، ويفرقوا القلوب، ويقول: «إن كان لا يمكن ذكر مناقب الأتراك إلا بذكر مثالب سائر الأجناد؛ فترك ذكر الجميع أصوب، والإضراب عن هذا الكتاب أحزم.»
16
وعلى الجملة؛ فقد صرح فيه «أنه يرمي إلى تعديد مناقب الترك، من غير أن يتعرض لذم غيرهم.» ولكنه لم يضبط قلمه، فجمح به أحيانا إلى تفضيل الترك على غيرهم في بعض الأمور، لكن من العسير عد هذا القدر شعوبية.
على أن الجاحظ في نظرنا لم يكن يعبر عن رأيه في مدح الشيء وذمه، بل كان يذم الشيء ويمدحه إجابة لدعوة كبير، أو رغبة في إظهار مقدرته البيانية على تصوير الشيء بصورتين متباينتين، فإن نحن اعتمدنا على القرائن فما في كتاب البيان والتبيين أدل على نفسه، ولذلك نرجح أنه ليس شعوبيا.
وأما التشيع فقد كان عش الشعوبية الذي يأوون إليه، وستارهم الذي يستترون به، وسيأتي طرف من ذلك عند الكلام في الشيعة. (7)
يذهب ابن قتيبة إلى أن الذين اعتنقوا الشعوبية هم سفلة الناس وغوغاؤهم فيقول: «ولم أر في هذه الشعوبية أرسخ عداوة، ولا أشد نصبا للعرب من السفلة، والحشوة، وأوباش النبط، وأبناء أكرة القرى. فأما أشارف العجم، وذوو الأخطار منهم، وأهل الديانة، فيعرفون ما لهم وما عليهم، ويرون الشرف نسبا ثابتا.» ولكن يظهر أنه اقتصر على من يتظاهر بالشعوبية، وهؤلاء كانوا كما ذكر ابن قتيبة. أما الأشراف فكانت حركتهم سرية خفية، لا يجرءون أن يظهروا بها لكبر مراكزهم، وخشية من الشك فيهم عند الخلفاء، فهم يؤيدون من وراء حجاب هذه الحركة، فلا يراها ابن قتيبة وأمثاله. وقد ذكر ابن قتيبة أن ممن ذهب مذهب الشعوبية «قوما تحلوا بحلية الأدب، فجالسوا الأشراف، وقوما اتسموا بميسم الكتابة فقربوا من السلطان، فدخلتهم الأنفة لآدابهم، والغضاضة لأقدارهم من لؤم مغارسهم، وخبث عناصرهم، فمنهم من ألحق نفسه بأشراف العجم، واعتزى إلى ملوكهم وأساورتهم، ودخل في باب فسيح لا حجاب عليه، ونسب واسع لامدافع عنه، ومنهم من أقام على خساسته ينافح عن لؤمه، ويدعي الشرف للعجم كلها ليكون من ذوي الشرف، ويظهر بغض العرب بتنقصها، ويستفرغ مجهوده في مشاتمها، وإظهار مثالبها، وتحريف الكلم في مناقبها، وبلسانها نطق، وبهممها أنف، وبآدابها تسلح عليها، فإن هو عرف خيرا ستره، وإن ظهر حقره، وإن احتمل التأويلات صرفه إلى أقبحها، وإن سمع سوءا نشره، وإن لم يجده تخرصه!»
17
فالحق أن الشعوبية لم تكن في السفلة وحدهم، وهؤلاء السفلة لم يكونوا الآخذين بزمامها، وإنما كان معهم كثير من الطبقة المتعلمة الراقية، وإن لم يرق نسبها إلى الملوك والأشراف، وهؤلاء هم الذين كان لهم الأثر الشعوبي في الأدب والعلم - كما سترى - من وراء هؤلاء وهؤلاء طبقة بلغت أعلى المناصب في الدولة، فكانوا يمدونهم سرا بجاههم وبمالهم، فقد ألف علان الشعوبي كتابا في مثالب العرب؛ فأجازه طاهر بن الحسين عليه بثلاثين ألفا ...
وإذ كان هؤلاء العقلاء الماكرون هم رؤساء هذه الدعوة كانت حربهم علمية أدبية دينية أكثر منها ثورات ظاهرة. •••
بلغت هذه الحركة أوجها في القرن الثالث الهجري، وساعد على ذلك الخلفاء العباسيون، تعصبوا للإسلام، ولم يتعصبوا كثيرا للعربية؛ فحاربوا الزندقة، ولم يحاربوا - في شدة - النزعة العجمية، وذلك طبيعي لأن أكثرهم كما أبنا مولدون. ولقي العرب من العجم عنتا شديدا، فالوزراء أكثرهم عجم، والدسائس تدس في القصور لإضعاف شأن العرب، وإذا ثار العرب في جزيرتهم أو في الأطراف نكل بهم قواد العجم وجيوشهم أشد تنكيل، وفي أعماق نفوسهم شعور بأنهم ينتقمون منهم من يوم القادسية، ولم يكن شعور الترك الذين جلبهم المعتصم بأحسن حالا من شعور الفرس، وكثر الشعر في هذا القرن والذي بعده من الأعاجم الذين تعلموا العربية، يفخرون بنسبهم، ويعتزون بقومهم، فافتتح ذلك بشار بن برد كما رأيت، وتبعه ديك الجن الشاعر المشهور. قال في الأغاني: «وكان شديد التشبب والعصبية على العرب، يقول: ما للعرب علينا فضل، جمعتنا وإياهم ولادة إبراهيم عليه السلام، وأسلمنا كما أسلموا، ومن قتل منهم رجلا منا قتل به، ولم نجد الله عز وجل فضلهم علينا إذا جمعنا الدين!»
ويقول قائلهم:
فلست بتارك إيوان كسرى
لتوضح أو لحومل فالدخول
وضب في الفلا ساع، وذئب
بها يعوي، وليث وسط غيل
وكان «الخريمي» الشاعر المشهور يكثر في شعره من الاعتزاز بالنسب الفارسي والتحقير من شأن العرب؛ فيقول:
إني امرؤ من سراة الصغد ألبسني
عرق الأعاجم جلدا طيب الخبر
ويقول:
أبا الصغد بأس إذ تعيرني جمل
18
سفاها ومن أخلاق جارتي الجهل
فإن تفخري يا جمل، أو تتجملي
فلا فخر إلا فوقه الدين والعقل
أرى الناس شرعا في الحياة، ولا يرى
لقبر على قبر علاء ولا فضل
وما ضرني أن لم تلدني يحابر
ولم تشتمل جرم على ولا عكل
19
إذا أنت لم تحم القديم بحادث
من المجد لم ينفعك ما كان من قبل
ويقول:
وناديت من مرو وبلخ فوارسا
لهم حسب في الأكرمين حسيب
فيا حسرتا لا دار قومي قريبة
فيكثر منهم ناصري ويطيب
وإن أبي ساسان كسرى بن هرمز
وخاقان لي لو تعلمين نسيب
ملكنا رقاب الناس في الشرك، كلهم
لنا تابع طوع القياد جنيب
نسومكمو خسفا، ونقضي عليكمو
بما شاء منا مخطئ ومصيب
فلما أتى الإسلام وانشرحت له
صدور به نحو الأنام تنيب
تبعنا رسول الله حتى كأنما
سماء علينا بالرجال تصوب
ويقول المتوكلي، وكان من ندماء المتوكل:
أنا ابن الأكارم من نسل جم
20
وحائز إرث ملوك العجم
ومحيي الذي باد من عزهم،
وعفى عليه طوال القدم
وطالب أوتارهم جهرة،
فمن نام عن حقهم لم أنم
معي علم الكابيان
21
الذي
به أرتجي أن أسود الأمم
فقل لبني هاشم أجمعين،
هلموا إلى الخلع قبل الندم
ملكناكم عنوة بالرما
ح طعنا وضربا، بسيف حذم
وأولاكم الملك آباؤنا،
فما إن وفيتم بشكر النعم
فعودوا إلى أرضكم بالحجاز
لأكل الضباب، ورعي الغنم
فإني سأعلو سرير الملوك.
بحد الحسام، وحرف القلم
22 •••
وقد شعر العرب بخطورة موقفهم، ولكن لم يستطيعوا دفع الشر عنهم، ونجد في كثير من الشعر في ذلك العصر والذي بعده ظلا من الحسرة والألم، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في الفصل السابق، ونرى هذا المعنى واضحا بعد في شعر المتنبي، فيألم وقد زار شعب بوان بفارس من ضعف اللغة العربية بها فيقول:
ملاعب جنة لو سار فيها
سلمان لسار بترجمان!
ويقول:
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
ويقول في قصيدة أخرى:
وإنما الناس بالملوك، وما
تفلح عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولا حسب
ولا عهود لهم ولا ذمم
بكل أرض وطئتها أمم
ترعى بعبد كأنها غنم!
يستخشن الخز حين يلمسه
وكان يبرى بظفره القلم! •••
والآن نعرض للأشكال المختلفة التي حارب بها الشعوبية العرب:
فقد عمدوا إلى مزية العرب الظاهرة التي يعتزون بها ، وهي البلاغة، وقوة الخطابة، وحضور البديهة، فأخذوا ينتقصونهم في ذلك من نواح مختلفة:
كان العرب إذا خطبوا أكثروا من الإشارة بأيديهم، يمثلون بها أغراضهم، ويستعينون بذلك على إيضاح المعنى، وقوة التأثير في السامعين، وكثيرا ما يستعملون في إشاراتهم المخصرة (وهي ما يمسكه الإنسان بيده من عصا، أو مقرعة أو عكازة أو قضيب)، وكثيرا ما كانوا يشيرون في خطب السلم بالمخصرة، وفي خطب الحرب بالقسي، وأحيانا كانوا يتكئون أثناء خطبهم على القسي، وكثيرا ما يلبسون للخطابة زيا خاصا؛ فيضعون العمامة وضعا يدل على تأهبهم للخطابة، فجاءت الشعوبية تهزأ بهم في ذلك، وتقول: أي ارتباط بين الكلام والعصا، وبين الخطبة والقوس، وهما إلى أن يشغلا العقل، ويصرفا الخواطر، ويعترضا الذهن أشبه، وليس في حملهما ما يشحذ الذهن، ولا في الإشارة بهما ما يجلب اللفظ. وقد زعم أصحاب الغناء أن المغني إذا ضرب على غنائه قصر عن المغني الذي لا يضرب على غنائه، وحمل العصا بأخلاق الفدادين أشبه، وهو بجفاة الأعراب وعنجهية أهل البدو، ومزاولة إقامة الإبل على الطرق أشكل، وبه أشبه.
23
وقد رد عليهم الجاحظ في كتابه البيان والتبيين، وأفرد لذلك بابا خاصا سماه «كتاب العصا» من أجل ذلك، كما عابوهم في جوهر الموضوع، فقالوا: ليست الخطابة ميزة امتزتم بها وحدكم؛ فهي شيء في جميع الأمم، حتى إن الزنج مع غباوتها، وفساد مزاجها لتطيل الخطب. وأخطب الناس الفرس لا العرب، ولهم فوق خطبهم التأليف في صناعة البلاغة، ومعرفة الغريب ككتاب «كازوند»، ومن احتاج إلى العقل والأدب والعلم بالمراتب والعبر والمثلات، والألفاظ الكريمة والمعاني الشريفة؛ فلينظر إلى سير الملوك (ملوك الفرس).
24
بل أين معانيكم وحكمكم وخطبكم وطريقة تفكيركم مما للفرس واليونان والهند؟ وأين كلامكم الجافي، وأصواتكم الغليظة من طول اعتيادكم مخاطبة الإبل؛ مما لهؤلاء من معنى دقيق، ولفظ رشيق، وصوت رقيق؟! وقد قارن الجاحظ بين بلاغة الفرس والروم، وبلاغة العرب، فقال: إن الأولى صادرة عن تفكير وروية، والثانية صادرة عن بديهة وسرعة خاطر.
كذلك عابوا العرب في آلاتهم الحربية، فسخروا من رماحهم، ومن عري خيولهم، ومن قناتهم الصماء مع أن الجوفاء أخف محملا، وأشد طعنة، ومن قلة الخبرة في تنظيم جيوشهم؛ فلم يكونوا يعرفون الميمنة ولا الميسرة، ولا القلب ولا الجناح، ولا يعرفون من آلات الحرب العرادة، ولا المجانيق، وقارنوا بين حالة الجيش العربي والجيش الفارسي في تنظيمه وفي آلاته، وأبانوا ما للأول من حقارة، وما للثاني من عظم. وفات الشعوبية أن هذه المقارنة أحقر لشأنهم، وأوضع لمكانتهم؛ فهؤلاء العرب بآلاتهم الساذجة الحقيرة سحقوا الفرس بآلاتهم الضخمة العظيمة، وجيوشهم المنظمة الكثيرة!
25
ونوع آخر من مسالك الشعوبية، وهو أنهم في هذا العصر أكثروا من التأليف في مناقب العجم، فسعيد بن حميد البختكان كان كاتبا شاعرا مترسلا عذب الألفاظ، وكان يدعي أنه من أولاد ملوك الفرس، وكان شديد العصبية مع العرب، وألف كتاب «انتصاف العجم من العرب»، وكتاب «فضل العجم على العرب وافتخارها».
26
ونرى ابن النديم ينقل عن كتاب اسمه «مفاخر العجم»
27
وفي مقابل ذلك يضعون الكتب في مثالب العرب؛ كالهيثم بن عدي (وهو من أشهر العلماء بالأخبار والرواية) جالس المنصور والمهدي والهادي والرشيد، وقد وضع عدة كتب في المثالب؛ منها: «كتاب المثالب الصغير»، و«كتاب المثالب الكبير»، و«كتاب مثالب ربيعة»، و«أسماء بغايا قريش في الجاهلية، وأسماء من ولدن». ويتصل بهذا كتاب له اسمه: «كتاب من تزوج من الموالي في العرب».
28
وكذلك سهل بن هارون صاحب «بيت الحكمة»، قال فيه ابن النديم: «كان حكيما فصيحا شاعرا، فارسي الأصل، شعوبي المذهب، شديد العصبية على العرب، وله في ذلك كتب كثيرة.»
29
وقد وضع رسالته المشهورة في البخل، ولعل ذلك منه نزعة شعوبية؛ لأن العرب كانوا يتمدحون كثيرا بالكرم، ويعدونه من أكبر مناقبهم، كما اشتهر الفرس بالبخل، فوضع سهل هذه الرسالة يقلب فيها قيمة الكرم والبخل، ويعد الكرم رذيلة والبخل فضيلة، وروى له صاحب زهر الآداب أبياتا تدل على شعوبيته، يفتخر فيها بفارسيته، ويذم العربية، ويقارن بين بيته في ميسان، وبيت آخر عربي فيقول:
أجعلت بيتا فوق رابية
فرع النجوم كأنه نجم
كبييت شعر وسط مجهلة
بفنائه الجعلان والبهم؟
30
وألف علان الشعوبي (وأصله من الفرس) كتاب «الميدان في المثالب»، قال ابن النديم: إنه هتك فيه العرب، وأظهر مثالبها، ويحتوي على مثالب قريش، ومثالب تيم بن مرة، ومثالب بني أسد بن عبد العزى، ومثالب بني مخزوم، وعدد القبائل كلها وذكر مثالبها.
31
وألف أبو عبيدة معمر بن المثنى (وهو من أشهر العلماء في النحو والأخبار، وكان أصله من يهود فارس) كتبا كثيرة تعرض فيها للعرب، منها «كتاب لصوص العرب»، وكتاب «أدعياء العرب»، كما ألف كتاب «فضائل الفرس».
32
وقال فيه ابن خلكان: «وكان يكره العرب، وألف في مثالبها كتبا.»
33
وقد صور لنا ابن قتيبة نوعا من الطعن الذي كان يستعمله أبو عبيدة؛ فقد عمد إلى مفاخر العرب فتهكم بها، كانوا يفخرون بقوس حاجب، ويعتزون بوفائه، فتضاحك عليه واستضحك الناس منه، واستسخف فعل حاجب، وخساسة عوده، وقلة ثمنه، ويذكره قول الشاعر:
أيا ابنة عبد الله، وابنة مالك،
ويا ابنة ذي البردين، والفرس الورد!
فيهزأ بالشعر، ويعجب في سخرية من التمدح بأن أباها ذو بردين وفرس ورد، ويقارن ذلك بملوك فارس وتيجانها، وأن أبرويز كان يرتبط تسعمائة وخمسين فيلا على مرابطه، وتخدمه ألف جارية، وفي حجرته التي يشرف منها على الداخل عليه ألف إناء من ذهب.
34
وكتب المثالب هذه - على ما يظهر - عمدت إلى ما صدر عن كل قبيلة من بيت تعير به، أو عمل تؤاخذ عليه، أو جريمة ارتكبها أحد أفرادها فقيدتها وأذاعتها؛ للتشهير بالعرب جميعا. كما أن كتب مناقب العجم ومفاخرها عمدت إلى ما استحسن من عادات الفرس، وعظمة ملوكها، ونظام جيوشها، وسياسة ملكها فشادت به. ولم يصلنا شيء من هذه الكتب - على ما أعلم - كما لم يصلنا أي كتاب ألف في بيان دعوى الشعوبية، وإنما وصل إلينا نتف من أقوالهم وآرائهم، أهمها ما ورد في كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وما ورد في العقد الفريد لابن عبد ربه، وما نقله ابن قتيبة في كتابه «العرب».
والظاهر أن أكبر سبب في ضياع هذه الكتب أن المسلمين عدوا هذه النزعة الشعوبية نزعة ضد الإسلام، فتحرجوا من نقل الكتب المؤلفة فيها، وتقربوا إلى الله بإعدامها، وبرئ المخلصون من الميل إليها، كما فعل الزمخشري في أول كتابه المفصل؛ فقد حمد الله «إذ جبله على الغضب للعرب، والعصبية لهم، وبرأه من الانضواء إلى لفيف الشعوبية».
ولم يقتصر هؤلاء الذين ذكرنا من علماء الشعوبية على وضع كتب المثالب؛ بل يظهر أنهم وضعوا في الأدب قصصا كثيرة تؤيد جانبهم، وقد اختلقوها اختلاقا، وكانت هذه أخطر على العرب من الحرب الظاهرة؛ لأن نقضها أصعب، والوقوف على بطلانها أعسر، ويمكننا أن ندرك أنهم لجئوا في ذلك إلى نوعين: النوع الأول: الوضع؛ وهو أن يضعوا القصص الشنيعة في شرح الأبيات أو الأمثال، ويختلقوا القصة اختلاقا، كما فعل أبو عبيدة في شرح المثل: «جبان ما يلوى على الصفير»؛
35
فقد نقل البكري في كتابه «التنبيه على أوهام أبي علي القالي في أماليه»؛ حكاية في ذلك عن أبي عبيدة لا نستطيع ذكرها لشناعتها!
36
وروى الهيثم بن عدي قصة طويلة، تتلخص في أن رجلا من تنوخ نزل بحي من بني عامر، فخرجت إليه جارية، فقالت: ممن أنت؟ قال: من تميم، فذكرت له أبياتا في ذم تميم، فقال لها: لست من تميم بل أنا من قبيلة عجل، ففعلت ذلك، وما زال الرجل يذكر القبائل قبيلة قبيلة، وهي تروي الأبيات في ذمها حتى استنفد القبائل. ولما انتسب إلى بني هاشم قالت: أتعرف الذي يقول:
بني هاشم عودوا إلى نخلاتكم
فقد صار هذا التمر صاعا بدرهم!
فإن قلتمو: رهط النبي محمد
فإن النصارى رهط عيسى ابن مريم!
37
والحكاية كلها على ما يظهر من وضع الشعوبية، أو من وضع الهيثم بن عدي نفسه، يرمي واضعها إلى ذكر مثالب القبائل العربية.
والنوع الثاني: نسبة الشيء إلى غير قائله، وهو طريق سلكوه لإفساد الأدب العربي، وإضاعة معالمه؛ حتى لا يكون للعرب أدب موثوق به، وتلك أكبر بغية لهم، ومن الأمثلة على ذلك: أن يقول أبو عبيدة البيتين الآتيين:
هينون لينون أيسار ذوو كرم
سواس مكرمة أبناء أيسار
إن يسألوا الخير يعطوه وإن خبروا
في الجهد أدرك منهم طيب أخبار
إنها للعرندس الكلابي يمدح بني عمرو الغنويين، فينكر الأصمعي عليه ذلك، ويقول: محال أن يمدح كلابي غنويا لما بينهما من العداوة!
38
ولو فحصنا الأدب في ضوء هذه النظرية؛ لو جدنا الشيء الكثير الموضوع للحط من العرب، وإفساد الأدب، مما لا نستطيع أن نستقصيه هنا. «كان في هذا العصر ثلاثة هم أئمة الناس في اللغة والشعر وعلوم العرب، لم ير قبلهم ولا بعدهم مثلهم، عنهم أخذ جل ما في أيدي الناس من هذا العلم، بل كله؛ وهم: أبو زيد الأنصاري، وأبو عبيدة، والأصمعي.»
39
وقد اشتهر أبو زيد بحفظ الغريب من اللغة والنحو، وتنازع الرياسة الاثنان الآخران، ويظهر أن الأصمعي بحكم عربيته كان يتعصب للعرب، وكان يتشدد فيما يروي، فلا يجيز إلا أصح اللغات، وكان لا يجيب في القرآن، ولا في الحديث خشية الخطأ.
40
وكان لا يقول في شيء برأيه، وكان لا يفسر شعرا فيه هجاء.
41
كأنه كان يرى أن ذلك يمس دينه! وكأنه يرى أن في الهجاء حطا من المهجو أو قبيلته، وفي ذلك مساس بالعربية، وكان يمتاز عن أبي عبيدة بحسن إلقائه، ولطف نغمته. أما أبو عبيدة فيظهر أنه كان أوسع علما، وأكثر ثقافة، يعرف تاريخ الفرس لفارسيته، والثقافة اليهودية ليهودية آبائه، والثقافة الإسلامية لأنه نشأ فيها. ولكنه لم يكن يحسن التعبير كالأصمعي، وكان حر الرأي يفسر القرآن برأيه، فيؤاخذه الأصمعي على ذلك،
42
وليس للعرب حرمة في نفسه؛ إذ ليس بعربي، بل في نفسه الكراهة لهم، فهو يطلق لسانه في هجوهم، وذكر مثالبهم. وقد استغوى الناس بسعة اطلاعه، كما استغوى الناس الأصمعي بفصاحته وحسن بيانه. قال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا إجماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة.
43
وقالوا: «إن طلبة العلم كانوا إذا أتوا مجلس الأصمعي اشتروا البعر في سوق الدر، وإذا أتوا مجلس أبي عبيدة اشتروا الدر في سوق البعر! لأن الأصمعي كان حسن الإسناد والزخرفة لرديء الأخبار والأشعار حتى يحسن عنده القبيح، وإن الفائدة مع ذلك عنده قليلة. وإن أبا عبيدة كان معه سوء عبارة، مع فوائد كثيرة، وعلوم جمة.»
44
ويظهر أن كلا من الأصمعي وأبي عبيدة كان في عصره يمثل فكره؛ فالأصمعي يمثل العربية، والتعصب لها، وحب العرب وإجلالهم والإشادة بذكرهم، وأبو عبيدة يمثل فكرة الشعوبية، والبحث عن معايب العرب والتشهير بهم. وكان كل زعيما، يلتف حوله من يؤيدون فكرته، ويناصرونه ويتعصبون له؛ العرب حول الأصمعي، والفرس حول أبي عبيدة، فنرى إسحاق بن إبراهيم الموصلي (وهو فارسي) يقول للفضل بن الربيع:
عليك أبا عبيدة فاصطنعه
فإن العلم عند أبي عبيدة
وقدمه، وآثره عليه،
ودع عنك القريد بن القريدة!
45
ويقول أبو الفرج الأصفهاني: إن إسحاق الموصلي «كشف للرشيد معايب الأصمعي، وأخبره بقلة شكره وبخله وضعة نفسه، وأن الصنيعة لا تزكو عنده، ووصف له أبا عبيدة بالثقة والصدق والسماحة والعلم، وفعل مثل ذلك للفضل بن الربيع، واستعان به، ولم يزل حتى وضع مرتبة الأصمعي وأسقطه عندهم، وأنفذوا إلى أبي عبيدة من أقدمه.»
46
ونجد أبا نواس - ونزعته الفارسية لا تنكر - يقدم أبا عبيدة على الأصمعي، ويقول: «أما أبو عبيدة فإنهم إن أمكنوه قرأ عليهم أخبار الأولين والآخرين، وأما الأصمعي فبلبل يطربهم بنغماته.» ونجد الأصمعي من ناحية أخرى يذم البرامكة، ويقول:
إذا ذكر الشرك في مجلس
أضاءت وجوه بني برمك
وإن تليت عندهم آية
أتوا بالأحاديث عن مزدك
وأبو عبيدة يشيد بذكر الفرس، ويؤلف كتاب «فضائل الفرس»، ويؤلف كتابا في أخبار الفرس يصف فيه طبقات ملوكهم ممن سلف وخلف، وأخبارهم وخطبهم، وتشعب أنسابهم، وما بنوه من المدن وكوروه من الكور، واحتفروه من الأنهار، وأهل البيوتات منهم، وما وسم به كل فريق من السهارجة وغيرهم.
47
ومن آثار الشعوبية أنهم لونوا ما رووا من تاريخ الفرس لونا زاهيا جميلا، ونسبوا إلى ملوكهم الحكم الرائعة، والسياسة الحكيمة، وكسوه أبهة وعظمة بالغوا فيهما، وزعموا أن الفرس من ولد إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، والعرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وإسحاق ابن سارة الحرة، وإسماعيل ابن هاجر الأمة؛ فهم أفضل من العرب لأنهم بنو الأحرار، وأما العرب فبنو اللخناء.
48
وهي دعوى غير صحيحة علميا، وإنما وضعت ليرفع الفرس من شأنهم، وليفخروا بها على العرب، كما زعموا أن سابور سمي ذا الأكتاف؛ لأنه أوقع بالعرب في العراق، وخلع أكتافهم.
49
وأغرب من ذلك ما اخترعه شعوبية النبط من حديث نسبوه إلى علي بن أبي طالب؛ فقد رووا أن رجلا سأله فقال: أخبرني يا أمير المؤمنين عن أصلكم معاشر قريش. فقال: نحن قوم من نبط كوثى، ورووا عن ابن عباس أنه قال: نحن معاشر قريش من النبط من أهل كوثى! وفي رواية أخرى عن علي أنه قال: من كان سائلا عن نسبتنا فإنا نبط من كوثى.
50
وقد أتعب العلماء أنفسهم في تفسير هذه الأحاديث، فقال بعضهم إنهما أرادا التبرؤ من الفخر بالأنساب، وقال قوم إن كوثى اسم من أسماء مكة، ولو أنصفوا لأراحوا أنفسهم من تأويل هذا الهذيان.
واستغل الفرس سلمان الفارسي استغلالا عظيما، فرووا له من الزهد والحكمة والعلم ما لم يرو لأي صحابي آخر، حتى جعلوا عمره فوق أعمار الناس؛ فقيل إنه أدرك عيسى (عليه السلام) وروى أبو الشيخ في طبقات الأصفهانيين أن أهل العلم يقولون: عاش سلمان ثلثمائة وخمسين سنة، فأما مائتان وخمسون فلا يشكون فيها!
51
ورووا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه تلا هذه الآية
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم
فقالوا من يستبدل بنا؟ فضرب
صلى الله عليه وسلم
على منكب سلمان. ثم قال: «هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لناله رجال من فارس.» وهو الذي قيل فيه: سلمان منا أهل البيت، وهو الذي أشار على النبي
صلى الله عليه وسلم
بحفر الخندق. ومن ذلك الحين عرف العرب كيف يستعملون الخنادق في الحروب؛ فهم في ذلك مدينون للفرس. وعلى الجملة فقد اتخذه الفرس وسيلة لبيان عظمتهم، وأن لهم فضلا كبيرا على المسلمين.
52
وكان للشعوبية مجال فسيح في الحديث، فقد وضعوا الأحاديث الكثيرة في فضل الفرس، وأسندوها إلى الثقات من الصحابة والتابعين؛ مثل ما روي أن الأعاجم ذكرت عن رسول
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «لأنا ببعضهم أوثق مني بكم.» وفي رواية «لأنا ببعضهم أوثق مني ببعضكم.»
53
وفي حديث آخر: «سيأتي ملك من ملوك العجم فيظهر على المدائن كلها إلا دمشق.»
54
وفي حديث «لا تسبوا فارسا فما سبهم أحد إلا انتقم منه عاجلا أو آجلا.» «ورأى النبي
صلى الله عليه وسلم
كأنه ردفه غنم سود، فردفته غنم بيض، ما يرى السود فيها لكثرتها، فأخبر النبي بذلك أبا بكر فقال: السود العرب ويسلمون، والبيض العجم يسلمون بعدهم، حتى ما يرى فيهم العرب لكثرتهم. فقال
صلى الله عليه وسلم
بذلك أخبرني الملك سحرا»
55
ومن هذا القبيل ما وضعوه من الأحاديث الكثيرة حول الإمام أبي حنيفة الفارسي الأصل، يزعمون أن النبي
صلى الله عليه وسلم
أشار بها إليه أو نص عليه؛ كالذي روى: لو كان العلم معلقا عند الثريا لتناوله رجل من فارس، وكالذي رووا: أن آدم افتخر بي وأنا أفتخر برجل من أمتي اسمه نعمان، وكنيته أبو حنيفة هو سراج أمتي. ورووا أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «إن سائر الأنبياء يفتخرون بي، وأنا أفتخر بأبي حنيفة، من أحبه فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني.»
56
والحق إن العرب ومن تعصب لهم قابلوا عملهم بمثله، فوضعوا الأحاديث الكثيرة في تفضيل العرب، ووجوب حبهم، مثل: «من غش العرب لم يدخل في شفاعتي، ولم تنله مودتي.» ومثل: «إذا اختلف الناس فالحق في مضر.» ومثل: «أحبوا العرب لثلاث؛ لأني عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة في الجنة عربي.» ومن ألطف ذلك أنهم رووا حديثا للنبي
صلى الله عليه وسلم
مع سلمان الفارسي نفسه، ذلك أن رسول الله قال: «يا سلمان لاتبغضني فتفارق دينك. قال: قلت: يا رسول الله، كيف أبغضك وبك هداني الله؟! قال: لا تبغض العرب فتبغضني.» ... إلخ.
57
وتعاليم الإسلام التي تدعو إلى المساواة، وتعلم أن الفضل ليس إلا بالتقوى؛ تأبى مدح الفرس أو العرب أو أي أمة لجنسيتها.
ونكاد نجد إصبع الشعوبية في كل علم حتى في الفقه؛ فلو قرأت مثلا باب الكفاءة في الزواج، لرأيت أن الأئمة أنفسهم لم تؤثر فيهم العصبية أي أثر، فالإمام مالك العربي لم يعتبر الكفاءة، وعنده أن العجمي يتزوج العربية من غير أن يكون للولي حق الاعتراض، ومذهب أبي حنيفة الفارسي يعتبر الكفاءة؛ فالقرشيون
58
أكفاء لبعض، وليس غير القرشي كفئا لهم، والعجمي ليس كفئا للعربية. ولكن سرعان ما نجد نظرية توضع على بساط البحث يهدم بها الجزء الأكبر من العصبية العربية، وهي: «شرف العلم فوق شرف النسب.» قال قاضيخان: «الحسيب يكون كفئا للنسيب، فالعالم العجمي يكون كفئا للجاهل العربي والعلوية، لأن شرف العلم فوق شرف النسب.»
59
وقالوا: «وكيف يصح لأحد أن يقول إن مثل أبي حنيفة أو الحسن البصري وغيرهما ممن ليس بعربي لا يكون كفئا لبنت قرشي جاهل، أو لبنت عربي بوال على عقبيه؟!»
60
ويطول بنا القول لو عددنا أثر الشعوبية في كل علم.
ومما نأسف له أن الشعوبية أزهرت في عصر تدوين العلوم، وكل حركة علمية كانت بعد إنما أسست على ما دون في هذا العصر العباسي الشعوبي، ولم يكن لنا علم مدون قبل ذلك، وهذا يجعل استكشاف الآثار الشعوبية صعبا غامضا، فلو كان لدينا تاريخ مدون في العصر الأموي لفهمنا كيف تلاعب به الشعوبيون في العصر العباسي، ولو كان لدينا تاريخ للفرس موثوق به دون أثناء حكم الفرس؛ لأدركنا في وضوح كيف جمله الشعوبيون. ولو كان العرب في العصر الإسلامي الأول وضعوا كتبا في الأنساب ومناقبها ومثالبها ووصلت إلينا لعرفنا ما اختلقه الشعوبيون عليهم لإفساد أنسابهم، والحط من شأنهم، وهكذا في كل العلوم. ولكن قدر أن يقترن تدوين العلم بسطوة الشعوبية، فكان ذلك من سوء حظ العلم، ولذلك أجهد العلماء أنفسهم في تعرف أسرار الشعوبية، وخفاياها وآثارها في العلم، وما يزال المدى أمامهم فسيحا، والبحث في مهده.
ومع هذا فقد كان للشعوبية جانب حسن؛ فقد أتت الشعوبية وكل شيء للعرب يمجد، من نسب عربي، ولغة عربية، ورأي عربي، وعادات عربية، فأخذ الشعوبيون يعرضون هذا للنقد والتحليل؛ عرضوا أنساب العرب للنقد ، كالذي فعل أبو عبيدة مع غلوه، فكان يرد على قوم ينتسبون للعرب، فيبين أن النسبة كاذبة مختلقة، وفي كتاب الأغاني عن أبي عبيدة من هذا الشيء الكثير، وعرضوا اللغة العربية للنقد؛ فسيبويه في كتابه النحو يخطئ العرب في بعض أقوالهم، ويدعي العرب أن البلاغة ليست إلا فيهم، فيرد الشعوبية بأن هناك أمما أخرى لها بلاغة ولها خطب، ولها حكم لا تقل عما للعرب، وينبهون على أن عادات العرب ليست المثل الأعلى للعادات؛ ففيها الحقير المرذول، والجيد المحمود، كل هذا النقد وأمثاله استتبع نتيجة جيدة من بعض الوجوه، وهي: عرض ما للأمم الأخرى من كل ذلك لتكون المقارنة أتم، فتعرض الكلمات الفارسية بجانب الكلمات العربية، والحكم الأجنبية والبلاغة الأجنبية بجانب البلاغة والحكم العربية، والنظام الفارسي والأدب الأجنبي بجانب النظام والأدب العربيين، ونحو ذلك، وهذا من غير شك مفيد للعلم والعقل.
نعم، لو وقفت الشعوبية عند هذا الحد فلم يتهجوا على العرب بقلب محاسنهم مساوئ، والتشهير بهم بالحق حينا، وبالباطل أحيانا، ولم يحاولوا إفساد الدين بالزندقة، وإفساد العلم بالأكاذيب، ولو وقفوا عند ذلك لأحسنوا، ولكنهم أفرطوا فخسروا كثيرا وكرهوا ومقتوا كثيرا.
الفصل الرابع
الرقيق وأثره في الثقافة
قبل أن نتكلم في الرقيق وأثره، يجب أن نبين في كلمة موجزة موقفه القانوني في المملكة الإسلامية، وبعبارة أخرى ما كان يطبق من الأحكام الإسلامية عليه.
تقضي تعاليم الإسلام - أو على الأقل المبادئ التي استنبطها الأئمة من أصول الأحكام، وجرى عليها العمل حتى عصرنا الذي نؤرخه - بأن «سبب الرق: وقوع الكافر أسيرا في يد المسلمين عند الحرب»، فإذا حارب المسلمون الكافرين فمن أسر من المحاربين منهم جاز للإمام أن يسترقه، كما يجوز له أن يسترق أهل البلد الذي فتح في الحرب، رجالا كانوا أو نساء.
1
وهذا الكفر والوقوع في الأسر هما سببا الرق، ولا يشترط لأجل بقاء الرق بقاء سببه؛ فلو وقع كافر في الأسر فاسترق ثم أسلم لا يزول عنه الرق.
2
وهذا الرقيق يعد مالا، شأنه في ذلك شأن المتاع، فمن استرق في الحرب عد جزءا من الغنيمة كالآلات الحربية، وكالنقود وكالخيل. وعلى الجملة مثله كمثل كل شيء مقوم وقع في يد الفاتحين، وشأن هذه الأشياء أن الإمام ينقلها إلى دار الإسلام، ثم يأخذ خمسها يصرفه في الصالح العام؛ من إعطاء للفقراء والمساكين، وصرف في وجوه البر المختلفة، وأما أربعة الأخماس فتوزع على من اشترك في القتال، والرقيق يفعل به ذلك، فخمسه للصالح العام، والباقي يقسم على المقاتلين. وقد ميزوا عند القسمة على المحاربين بين الفارس والراجل، وبعبارة أخرى بين الخيالة والرجالة؛ فجعل للفارس سهمان في قول بعض الفقهاء، وثلاثة في قول بعضهم، وللراجل سهم واحد، على هذا النمط الذي أبنا كان يوزع الرقيق.
وإذا كانت الحروب في صدر الإسلام تكاد تكون دائمة، وكان النصر للمسلمين يكاد يكون متلاحقا مطردا، والبلاد المفتوحة والأمم المغلوبة لا تكاد تعد؛ أمكننا أن نتصور كيف كان الرقيق لا يحصى كثرة، وكيف كان مختلفا متنوعا تنوع الأمم التي اشتبك معها المسلمون في قتال. وإذا كنا أبنا كيف يوزع الرقيق؛ فهمنا كيف انتشر بين المحاربين، ودخل في بيت كل منهم، وإذا كان الرقيق يعد مالا، وتجري عليه كل العقود المالية من بيع وشراء وإجارة ورهن؛ أمكننا أن نفهم أنه لم يقتصر على المحاربين، بل كان في متناول أيدي الناس جميعا، وكان له سوق يشتري منه من شاء، ويستخدمه كما شاء! •••
هذا من الناحية المالية، وأما علاقة الرجال بالإماء من الناحية الجنسية فنجملها فيما يأتي:
هناك سببان يحلان المرأة للرجل؛ عقد الزواج، وملك اليمين؛ فأما عقد الزواج فلا يحل للرجل الحر أن يتزوج أكثر من أربع، أعني أنه لا يحل له أن يكون على ذمته في وقت واحد أكثر من أربع زوجات، ولكن يحل له أن يطلق منهن، ويتزوج غيرهن بعد انقضاء عدتهن، هذا هو قول أكثر الفقهاء، وإن كان لغيرهم أقوال أخرى لا محل لها هنا، وهذا الحكم عام، سواء كانت الزوجات الأربع حرائر أو إماء، وكل الذي ذكره الفقهاء في هذا الموضوع أنه لا يحل أن يعقد الرجل عقد زواج على أمة إذا كان متزوجا حرة، ولكن العكس يصح، فيجوز له أن يتزوج حرة على أمة، وقد لوحظ في ذلك أن زواج الأمة بعد زواج الحرة امتهان للحرة، وجرح لشرفها وعزتها.
والأمر الثاني مما يحل المرأة للرجل «ملك اليمين»؛ أعني ملكية الرجل للأمة، قال تعالى:
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم
والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين
فمن ملك جارية جاز أن يتسراها، وهي حل له سواء كان متزوجا أو غير متزوج، وسواء كان متزوجا واحدة أو أربعا. ولا يتقيد الرجل في ذلك بعدد؛ فيحل له أن يتزوج إلى أربع، وأن يملك من الجواري ويتسرى منهن ما شاء من العدد، وإن كثر.
3
من أجل ذلك كان البيت الإسلامي فيه - غالبا - زوجة أو زوجات، وكان بجانبهن عدد من الجواري قد تسراهن رب البيت.
وكثيرا ما كان يقع الخلاف بين الحرائر والجواري السراري، وذلك طبيعي، حتى ذهب بعض اللغوييين إلى أن تسميتهن بالسراري كان سببه الغيرة؛ نقل اللسان عن بعضهم أن السرية الأمة التي يتسراها صاحبها منسوبة على غير قياس إلى السر وهو الإخفاء؛ لأن الإنسان كثيرا ما يسرها ويسترها عن حرته، وكثيرا ما ينسل الرجل الواحد الحرائر والجواري فيفخر أولاد الحرائر على أولاد الجواري، ويعتزون بأنه لم يجر في عروقهم دم رقيق، كالذي كان بين الأمين والمأمون، فكلاهما ولد الرشيد، ولكن أم الأمين زوجة حرة، وأم المأمون جارية سررية، وقد ضربنا قبل أمثالا من هذا القبيل ببيوت الخلفاء ونسلهم المتنوع، وكانت بيوت غيرهم من الرعية مثل بيوتهم في هذا الباب. •••
وهذا الرقيق الذي أبنا من رجال ونساء لا يسترد حريته إلا بأن يعتقه مالكه. وقد عقد الفقهاء بابا طويلا للعتق، أبانوا فيه الألفاظ التي يكون بها العتق، وما يعرض له من أشكال، والذي يهمنا منه الآن: كلمة في «أم الولد»؛ ذلك أن الأمة إذا ولدت من سيدها سميت «أم ولد»، وقد رفعوها فوق منزلة الجارية التي لم تلد منه ، ومنحوها حقوقا لم تنلها غيرها، أهمها: أنه لا يصح لمالكها (وهو مستولدها) أن يبيعها، ولا أن يهبها. وعلى ذلك جرى جمهور الفقهاء، ولكنها تبقى حلا لمالكها حتى يموت، فإذا مات صارت حرة، تجري عليها كل أحكام الحرائر، أما الأولاد الذين جاءوا منها فأحرار.
هذا هو الوضع القانوني لمسألة الرقيق، والنظام الذي كان يسود في عصرنا الذي نؤرخه، وهو قدر لا بد منه لفهم النتائج الأدبية والعلمية والاجتماعية.
وقد كان المسلمون والنصارى واليهود على السواء في تملك الرقيق، ولكن التسري لم يكن نظاما مشروعا عند اليهود والنصارى، وإن ارتكبه بعضهم خروجا على القانون؛ فقد رووا أن أبا جعفر المنصور أهدى طبيبه جورجيس بن بختيشوع النصراني ثلاث جوار حسان روميات، مع ثلاثة آلاف دينار، فرد الجواري فسأله المنصور: لم رددتهن؟ قال: لأنا معشر النصارى لا نتزوج أكثر من امرأة واحدة ما دامت المرأة، ولا نأخذ غيرها.
4
ولكن من ناحية أخرى يروي الجاحظ أن «طيمانو» رئيس الجاثليق قد هم بتحريم كلام عون العبادي (وكان نصرانيا) عندما بلغه أنه اتخذ السراري، فتوعد عون الجاثليق وحلف: لئن فعل ليسلمن.
5
وروى القفطي: أن النصارى عاتبوا يوحنا بن ماسويه على اتخاذ الجواري، وقالوا: خالفت ديننا، وأنت شماس! فإما كنت على سنتنا، واقتصرت على امرأة واحدة، وكنت شماسا لنا، وإما أخرجت نفسك عن الشماسين، واتخذت ما بدا لك من الجواري. فقال لهم: إنما أمرنا في موضع واحد ألا نتخذ امرأتين ولا ثوبين، فمن جعل الجاثليق أولى أن يتخذ عشرين ثوبا من يوحنا الشقي في اتخاذ أربع جوار؟ فقولوا لجاثليقكم أن يلزم قوانين دينه حتى نلزم معه، فإن خالف خالفناه.
6
وقد كانت المملكة البيزنطية تحرم على من ليس نصرانيا أن يتملك رقيقا نصرانيا، ولكن المسلمين أباحوا لليهود والنصارى أن يتملكوا الأرقاء، ولو كانوا مسلمين.
انتشرت تجارة الرقيق في المملكة الإسلامية في ذلك العهد، كما انتشرت في غيرها من الممالك، وكان في بغداد شارع يسمى «شارع دار الرقيق»
7
انتهب في الفتنة بين الأمين والمأمون، وبكاه شاعر في قصيدة طويلة آخرها :
ومهما أنس من شيء تولى
فإني ذاكر دار الرقيق
وقد سمي تاجر الرقيق «نخاسا»، وكان في الأصل يطلق على بائع الدواب، واشتهر في ذلك العصر كثير من النخاسين في بغداد، وسبب شهرتهم ما لهم من جوار حسان يأوي إليهن الشعراء والأدباء، منهم بالكرخ نخاس يكنى «أبا عمير»، كان له جوار قيان لهن ظرف، وكان من جواريه جارية تسمى «عبادة»، هواها عبد الله بن محمد البواب فيقول:
لوتشكى «أبو عمير» قليلا
لأتيناه من طريق العيادة
فقضينا من العيادة حقا
ونظرنا في مقلتي «عبادة»
8
ومنهم أبو الخطاب النخاس، كان له جارية مغنية تعرف بذات الخال، كان يهواها إبراهيم الموصلي.
9
ومنهم حرب بن عمرو الثقفي، كان نخاسا، وكان له جارية مغنية، وكان الشعراء والكتاب وأهل الأدب ببغداد يختلفون إليها يسمعونها، وينفقون في منزله النفقات الواسعة، ويبرونه ويهدون إليه، وفيها وفيه يقول أشجع:
أشكو الذي لاقيت من حبها
وبغض مولاها إلى الرب
من بغض مولاها ومن حبها
سقمت بين البغض والحب
فاختلجا في الصدر حتى استوى
أمرهما فاقتسما قلبي
تعجل الله شفائي بها
وعجل السقم إلى حرب
10
ومر «أبو دلامة» بنخاس يبيع الرقيق، فرأى عنده منهن من كل شيء حسن، فانصرف مهموما، فدخل إلى المهدي، فأنشده قصيدة يفضل فيها النخاسة على الشعر مطلعها:
إن كنت تبغي العيش حلوا صافيا
فالشعر أعذبه وكن نخاسا
11
ولئن كان المستهترون من الأدباء يغبطون النخاسين على نخاستهم؛ فكثير من العقلاء كان يكره هذه الحرفة ويمقتها. دخل ناس على معاوية، فسألهم عن صنائعهم فقالوا: بيع الرقيق. قال: بئس التجارة، ضمان نفس، ومؤونة ضرس!
12
وكان على تجار الرقيق عامل من عمال الحكومة يشرف على أعمالهم، ويراقب تجارتهم يسمى «قيم الرقيق».
كان هؤلاء الأرقاء أنواعا مختلفة؛ فمنهم السود وكانت أهم أسواق ذلك الصنف مصر وجنوب جزيرة العرب وشمال أفريقيا، وكانت القوافل تأتي بهم وبالذهب من الجنوب، وكان الثمن العادي للعبد في منتصف القرن الثاني حول مائتي درهم. وقد رووا أن كافورا الإخشيدي الحبشي الذي ملك مصر قد بيع في أول أمره سنة 312ه بثمانية عشر دينارا؛ لأنه كان خصيا.
13
وفيه يقول المتنبي لما غضب عليه:
من علم الأسود المخصي مكرمة؟
أقومه البيض أم آباؤه الصيد؟
أم أذنه في يد النخاس دامية
أم قدره وهو بالفلسين مردود؟
وذاك أن الفحول البيض عاجزة
عن الجميل فكيف الخصية السود؟
ومنهم البيض، ومن أشهرهم الأتراك والصقالبة، وقد كان الناس يفضلون الصقالبة على الأتراك، كما يدل على ذلك جملة للخوارزمي وردت في كتاب يتيمة الدهر: «ويستخدم التركي عند غيبة الصقلبي.»
14
وقد كان أهم مركز لتجارة الرقيق الأبيض مدينة سمرقند؛ فقد اشتهرت بإصدار أحسن الرقيق من هذا النوع، وعظمت تجارته في المملكة الإسلامية، وفي أوروبا، وكان تجاره في أنحاء أوروبا من اليهود.
15
وقد كان لكل نوع من أنواع الرقيق ميزات خاصة يعرف بها؛ «فالهنديات عرفن بالوداعة، ولين الجانب، والهدوء، وحسن رعاية الطفل، ولكن سرعان ما يعرض لهن الذبول. وامتاز الرقيق من رجال الهنود بتدبير المنزل، والمهارة في الصناعات اليدوية، ولكنه عرضة للموت الفجائي في ريعان شبابه، وأغلب ما يجلب الرقيق الهندي من «قندهار»، واشتهرت السنديات بالخصر النحيل، والشعر الطويل. واشتهرت مولدات المدينة (يعني الإماء اللاتي نشأن بالمدينة وربين فيها) بالدلال، والميل إلى السرور والفكاهة والمجون، وبحسن الاستعداد للنبوغ في الغناء. وعرفت مولدات مكة بدقة المعصم والمفصل، والعيون الناعسة، والأمة البربرية (المغربية) لا تبارى في حسن الإنتاج، وهي لدماثة خلقها ولين عريكتها صالحة لأن تعود نفسها القيام بأي نوع من العمل، والمثل الأعلى للجارية كما قال أبو عثمان الدلال: أن تكون من أصل بربري، فارقت بلادها، وهي في التاسعة من عمرها، ومكثت ثلاث سنين في المدينة، ومثلها في مكة، ثم رحلت إلى العراق في السادسة عشرة من عمرها لتتثقف بثقافته، فإذا بيعت في الخامسة والعشرين كانت قد جمعت بين جودة الأصل، ودلال المدنيات، ورقة المكيات، وثقافة العراقيات.» «والسودانيون كانوا يغمرون الأسواق، وقد عرفوا بقلة الثبات والإهمال، كما عرفوا بالميل إلى الضرب على الدف والرقص، وهم أحسن خلق الله بياض أسنان لكثرة لعابهم ، ويعابون عادة بنتن الإبط، وخشونة الملمس.» «والحبشيات عرفن بالضعف والترهل، والاستعداد لأمراض الصدر، وهن على العكس من السودانيات لا يحسن الغناء ولا الرقص، ولكنهن قويات الخلق، موضع للثقة، أهل للاعتماد عليهن.» «والتركية بيضاء البشرة، على حظ عظيم من جمال وحياة، ولها عينان صغيرتان جذابتان، وهي في الغالب بدينة أميل إلى القصر، ولود، كريمة نظيفة تجيد الطهي، ولكن لا يوثق بها ولا يعتمد عليها.» «والأمة الرومية بيضاء البشرة في حمرة، ناعمة الشعر زرقاء العينين، طيعة مستعدة للتشكيل بما يحيط بها من ظروف، مخلصة ثقة. والعبد الرومي يجيد تدبير المنزل، ويحب النظام، ويميل إلى القصد في الإنفاق، ويجيد الفنون الجميلة.» «والأرمن شر الجنس الأبيض، بنيتهم جيدة ولكن أقدامهم قبيحة، لا يعرفون بالعفة، وتفشو فيهم السرقة، خشونة في طباعهم، وخشونة في كلامهم. إذا أنت تركت الأرمني ساعة بلا عمل عمد إلى الأذى يرتكبه، وهو إنما يعمل للخوف، فيجب أن تحمل له العصا دائما، وتعنفه ليعمل ما تريد.
16
إذن كان الرقيق وعلى الأخص الجواري مختلفات الأنواع؛ هنديات، وسنديات، ومكيات، ومدنيات، وسودانيات وحبشيات، وتركيات، وروميات، وأرمنيات. وقد شبه الجاحظ أصناف الرقيق عند النخاسين بألوان الحمام؛ فشبه الصقالبة بالحمام الأبيض، وشبه الزنج بالحمام الأسود ... إلخ.
17
وهذا ما جعل قصور الخلفاء والأمراء والأغنياء مأوى لرقيق من أمم متعددة، تختلف في الطباع والعادات واللغات؛ فالطبري يحدثنا: أن المأمون لما غضب على الفضل قتله أربعة من غلمانه: غالب المسعودي الأسود، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفق الصقلبي.
18
وقدمنا أن المتوكل كان له أربعة آلاف سرية
19
من مختلف الأجناس طبعا، ودخل أحمد بن صدقة على المأمون في يوم السعانين،
20
وبين يديه عشرون وصيفة جلبا، روميات مزنرات، قد تزين بالديباج الرومي، وعلقن في أعناقهن صلبان الذهب، وفي أيديهن الخوص والزيتون، فقال له المأمون: ويلك يا أحمد قد قلت في هؤلاء أبياتا فغنني فيها، ثم أنشدني:
ظباء كالدنانير
ملاح في المقاصير
جلاهن السعانين
علينا في الزنانير
وقد زرفن أصداغا
كأذناب الزرازير
وأقبلن بأوساط
كأوساط الزنابير
فغناه بها فلم يزل يشرب، وترقص الوصائف بين يديه أنواع الرقص.
21
والرشيد يمدحه مروان بن أبي حفصة بقصيدة، فيعطيه مالا ويعطيه عشرة من رقيق الروم
22
وكان لمحمد بن شفوف الهاشمي ثلاثة غلمان مغنيين، اثنان صقلبيان؛ خاقان وحسين، وكان خاقان أحسن الناس غناء، وكان حسين يغني غناء متوسطا، وهو مع ذلك أضرب الناس، وكان الغلام الثالث يقال له حجاج، حسن الوجه، رومي الغناء.
23
وكان لبشار جارية سوداء يقول فيها:
وغادة سوداء براقة
كالماء في طيب وفي لين
كأنها صيغت لمن نالها
من عنبر بالمسك معجون
24
وكان لأبي الشيص الشاعر جارية سوداء، وكان يتعشقها، وفيها يقول:
يا ابنة عم المسك الذكي ومن
لولاك لم يتخذ ولم يطب
ناسبك المسك في السواد وفي ال
ريح فأكرم بذاك من نسب
25
وكان لإبراهيم بن المهدي جارية رومية تكنس البيت، ولا تحسن العربية.
26
وكان للمهدي جارية نصرانية، تعلق في صدرها صليبا من ذهب.
27
إلى كثير من أمثال ذلك، فأنت ترى أن البيوت ما كانت تخلو غالبا من رقيق، جارية أو غلام، وأنهم من أجناس مختلفة، وديانات مختلفة، وثقافات مختلفة، وقد رأيت فيما قصصنا أن الخلفاء والأغنياء تركوا لمماليكهم حرية الديانة؛ فقد تكون الجارية نصرانية تلبس الصليب والزنار، وتلبس لبسها القومي وتتكلم بلغتها، ولا تحسن العربية، ولهذا من النتائج ما سننبه عليه. •••
اتجه العباسيون إلى تعليم الجواري - على اختلاف أنواعهن - اتجاها قويا، وأكثر عنايتهم كانت بتعليمهن الغناء؛ فقد انتشر الغناء في هذا العصر انتشارا عظيما، وعد حاجة من حاجات الإنسان الضرورية، فترى المغنين والمغنيات في المحال العامة، وفي الشوارع، وفي قصور الخلفاء، وفي بيوت الأغنياء والفقراء، ونما ذوق الناس في الغناء نموا غريبا، وملئت الكتب بالحكايات عنه، وشغف الناس به حتى ليغني مغن على الجسر فيجتمع السامعون حوله، ويخاف من سقوط الجسر بهم،
28
وحتى كان بعضهم يكاد ينطح العمود برأسه من حسن الغناء.
29
ولم يتحرج الخلفاء ولا أولادهم من اختراع الأصوات، والتغني بها، فصاحب الأغاني يحدثنا أن الواثق والمنتصر كان لهما أصوات يغنى بها، وكانا يجيدان ذلك،
30
وعقد فصلا طويلا ممتعا لأولاد الخلفاء وصنعتهم في الغناء،
31
وكان لعلية بنت الخليفة المهدي ثلاثة وسبعون صوتا (دورا)، ويحدث أحمد بن أبي داود القاضي فيقول: كنت أعيب الغناء وأطعن على أهله، فخرج المعتصم يوما إلى الشماسية في حراقة يشرب، ووجه في طلبي فصرت إليه، فلما قربت منه سمعت غناء حيرني، وشغلني عن كل شيء، فسقط سوطي من يدي، فالتفت إلى غلامي أطلب منه سوطه، فقال لي: قد والله سقط سوطي، فقلت له: فأي شيء كان سبب سقوطه؟ قال: صوت سمعته شغلني عن كل شيء فسقط سوطي من يدي، فإذا قصته قصتي! قال: وكنت أنكر أمر الطرب على الغناء، وما يستفز الناس منه، ويغلب على عقولهم، وأناظر المعتصم فيه، فلما دخلت عليه يومئذ أخبرته بالخبر فضحك وقال: هذا عمي كان يغنيني:
إن هذا الطويل من آل حفص
نشر المجد بعدما كان ماتا
فإن تبت عما كنت تناظرنا عليه في ذم الغناء سألته أن يعيده. ففعلت وفعل، وبلغ بي الطرب أكثر مما بلغني عن غيري فأنكره، ورجعت عن رأيي منذ ذلك اليوم.
32
دعاهم الشغف بالغناء إلى تعليمه الجواري للتمتع بغنائهن ومنظرهن معا، وتعلم الغناء استتبع تعلم الأدب؛ لأن الناس في ذلك العصر كانوا يتغنون بالشعر العربي الفصيح، مثل شعر عمر بن أبي ربيعة، وبشار، ومسلم بن الوليد، وأبي العتاهية، والمغنية لا تحسن أن تغني هذه الأشعار إلا إذا حفظت كثيرا من الشعر، وأجادت مخارج الحروف، واطلعت على كثير من الأدب.
بل رأينا أحاديث كثيرة عن مغنيات كن يغنين بما يخترعن من شعر وصوت، يقول أبو دلامة من شعر له:
هذي رسالة شيخ من بني أسد
يهدي السلام إلى العباس في الصحف
تخطها من جواري المصر كاتبة
قد طالما ضربت في اللام والألف
وطالما اختلفت صيفا وشاتية
إلى معلمها باللوح والكتف
33
حتى إذا نهد الثديان وامتلآ
منها وخيفت على الإسراف والقرف
34
صينت ثلاث سنين ما ترى أحدا
كما يصون تجار درة الصدف
35
وكانت عريب المغنية تروي الجاريات الأشعار ليتغنين بها
36
ويقول المبرد: «حدثني الجاحظ عن إبراهيم بن السندي قال: كانت تصير إلي «هاشمية» جارية «حمدونة»، في حاجات صاحبتها، فأجمع نفسي لها، وأطرد الخواطر من فكري، وأحضر ذهني جهدي، خوفا من أن تورد علي ما لا أفهمه، لبعد غورها واقتدارها، على أن تجري على لسانها ما في قلبها.» وكذلك ما يؤثرعن خالصة وعتبة جاريتي ريطة بنت أبي العباس.
37 »
ويقول المسعودي: «لما أفضت الخلافة إلى المتوكل أهدى إليه ابن طاهر هدية فيها مائة وصيف ووصيفة، وفي الهدية جارية يقال لها «محبوبة»، كانت لرجل من أهل الطائف قد أدبها وثقفها، وعلمها من صنوف العلم، وكانت تحسن كل ما يحسنه علماء الناس، فحسن موقعها من المتوكل.»
إذن كانت الجارية كثيرا ما تعلم أدبا، وتعلم فنا، وخاصة الغناء، وكان هذا التعلم يغلي قيمتها أضعاف ثمنها؛ فقد عرضت جارية بثلاثمائة دينار، فلما علمها إبراهيم بن المهدي الغناء عرض في ثمنها ثلاثة آلاف دينار،
38
وقد بيعت عريب المغنية الشهيرة بخمسة آلاف دينار.
39
ودحمان يشتري جارية بمائتي دينار، فيعلمها ويبيعها بعشرة آلاف دينار،
40
واشترى الرشيد جارية من الموصلي بستة وثلاثين ألف دينار يحسبها من بابته،
41
إلى كثير من أمثال ذلك.
وقد كان إبراهيم الموصلي مغني الرشيد على ما يظهر، من أكثر الناس نشاطا في تعليم الجواري وتثقيفهن، ومن أسبقهم في التوجيه إلى ذلك، يحدث ابنه فيقول: «لم يكن الناس يعلمون الجارية الحسناء الغناء، وإنما كانوا يعلمونه الصفر والسود، وأول من علم الجواري المثمنات أبي، فإنه بلغ بالقيان كل مبلغ، ورفع من أقدارهن.» وفي ذلك يقول أبو عيينة الشاعر، وكان يهوى جارية يقال لها «أمان»، طلب مولاها فيها ثمنا كبيرا:
قلت لما رأيت مولى أمان
قد طغى سومه بها طغيانا
لا جزى الله الموصلي أبا
إسحاق عنا خيرا ولا إحسانا
جاءنا مرسلا بوحي من الشي
طان أغلى به علينا القيانا
من غناء كأنه سكرات الحب
يصبي القلوب والآذانا
42
وألف هو (إبراهيم الموصلي) ويزيد حوراء شركة لشراء الجواري، وتعليمهن الغناء، والمشاركة في ربحهن.
43 •••
نشر هؤلاء الجواري نوعا من الثقافة كان لا بد منه في مثل مدنية العباسيين، وهو لا بد منه في كل مدنية، وأعني بذلك الفنون الجميلة، وما يتبعها من رقي في الذوق الفني؛ فقد كان بجانب الحركة العلمية في ذلك العصر حركة أخرى لا تقل عنها شأنا، وهي الحركة الفنية من غناء وتصوير ورقص، والحق أن الناس شعروا إذ ذاك شعورا قويا بالجمال، وتفنن شعرائهم (وخاصة مسلم بن الوليد، وأبا نواس) في وصف الجمال والولوع به، وقراءته من غير ملل، كما قال أبو نواس:
للحسن في وجناته بدع
ما إن يمل الدرس قاريها
ويحكي الجاحظ: أن من رأى الديك والدجاجة يشربان الماء، وكان عطشانا ذهب عطشه من قبح حسو الديك والدجاجة، ومن رأى الحمام يشرب الماء، وكان ريان يشتهي أن يكون فيه في الماء لجمال شربه.
44
وهذا من غير شك يدل على شعور بالجمال قوي، وكان العتابي يعد جمال كل مجلس أن يكون سقفه أحمر، وبساطه أحمر، ويقول بشار:
هجان عليها حمرة في بياضها
تروق بها العينين والحسن أحمر
45
وشعروا بجمال المعنى، كما شعروا بجمال الصورة؛ فأكثروا من القول في جمال الروح وجمال الحديث. فيقول بشار:
وكأن رجع حديثها
قطع الرياض كسين زهرا
وكأن تحت لسانها
هاروت ينفث فيه سحرا
ويقول:
وبكر كنوار الرياض حديثها
تروق بوجه واضح وقوام
والحق إن الجواري كن أكبر عامل في نشر الشعور بالجمال، وما يتبعه من فنون جميلة، وأن الناس في العصر الذي نؤرخه لم يكتفوا بالجواري من ناحية جمالهن الخلقي، بل شغفوا بهن من ناحية الجمال الفني أيضا، ليجمعوا بين الجمالين. كانوا يميلون إلى الغناء وإلى الرقص، وإلى التفنن في الملبس، وإلى غير ذلك من ضروب الفن، فأخذوا يعلمون الجواري هذه الفنون، وسرعان ما تحول النبوغ فيها من الرجال إلى الجواري، وأخذ نوابغ المغنيين يلقنون جواريهم ألحانهم وأصواتهم وطريقة غنائهم؛ فإبراهيم الموصلي يعلم جواريه فنه حتى يحسنه، وعبد الله بن طاهر كان يعلم الغناء علما تاما؛ فيصنع الأصوات يلقنها لجواريه، والمغنون ينقسمون إلى حزبين: حزب القديم، وحزب الجديد، فينقسم الجواري إلى قسمين تبعا لمن أخذن الفن عنهم، وامتلأ كتاب الأغاني بتراجم الجواري المغنيات؛ أمثال عريب ومتيم وبذل وذات الخال وفريدة وأمثالهن، وعقد الفصول الطوال في نوادرهن، وميزة كل منهن، ونوع تفوقهن.
والآن نذكر طرفا من أنواع الفنون التي نشرنها:
فأول ذلك الغناء، وقد غمرن العراق بالغناء الجيد، وما يتبعه من لهو ومجون، وقد كان هؤلاء الجواري في هذا على نوعين؛ جوار مغنيات للخاصة، فالخليفة له جوار يغنينه، والأمراء والأغنياء كذلك، ثم هم يتهادون هذه الجواري حبا في التجدد، وفرارا من الاقتصار على صوت واحد.
وهناك نوع آخر، وهو قيان عامة، وأكثر ما يكون أن نخاسا يملكهن، فيعرضهن للغناء في محال يأوي إليها الفتيان لسماعهن، والإنفاق عليهن، ومن نماذج ذلك ما حكاه لنا صاحب الأغاني عن ابن رامين؛ فقد كان له منزل بالكوفة، وله جوار مغنيات أشهرهن اسمها «سلامة الزرقاء»، وكان أجل مقين بالكوفة، يجتمع في بيته الفتيان للسماع والشراب، ويقولون فيه وفي قيناته الشعر. وممن كان يختلف إليه روح بن حاتم المهلبي، ومحمد بن الأشعث، ومعن بن زائدة، وابن المقفع، وأمثالهم يسمعون وينفقون عن سعة، وينشدون أشعار الغزل. ولما خرج ابن رامين حاجا بجواريه بكى الشعراء لخروجه، ووصفوا لوعتهم من فرقة مجلسه، كما وصفوا كثرة الناس الذين كانوا يغشون بيته؛ من ذلك قول أحدهم:
أية حال يا ابن رامين
حال المحبين المساكين
تركتهم موتى ولم يتلفوا
قد جرعوا منك الأمرين
وسرت في ركب على طية
ركب تهام ويمانين
يا راعي الذود لقد رعتهم
ويلك من روع المحبين
فرقت جمعا لا يرى مثلهم
بين دروب الروم والصين
46
وفي الحق إن هذا النوع من الجواري أثر أثرا سيئا في نشر الخلاعة والمجون، ومن قرأ رسالة القيان المنسوبة للجاحظ، أو قرأ وصف «الوشاء» في باب ذم القيان، في كتابه «الموشى»؛ أدرك ما كان لهن من أثر ترى ظله في شعر الشعراء الخليعين في ذلك العصر، وما كان أكثرهم!
47
ويعلل الجاحظ فساد هؤلاء الفتيات بقوله: «وكيف تسلم القينة من الفتنة، أو يمكنها أن تكون عفيفة؟ وإنما تكتسب الأهواء، وتتعلم الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهي إنما تنشأ من لدن مولاها إلى أوان وفاتها فيما يصد عن ذكر الله من لهو الحديث، وبين الخلعاء والمجان، ومن لا يسمع منه كلمة جد، ولا يرجع منه إلى ثقة ولا دين، ولا صيانة مروءة، وتروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوت فصاعدا، يكون الصوت فيما بين البيتين إلى أربعة أبيات، عدا ما يدخل في ذلك من الشعر، إذا ضرب بعضه ببعض كان من ذلك عشرة آلاف بيت، ليس فيها ذكر الله إلا عن غفلة، ولا ترهيب من عقاب، ولا ترغيب في ثواب، وإنما بنيت كلها على ذكر العشق والصبوة والشوق، ثم لا تنفك من الدراسة لصناعتها، منكبة عليها تأخذ من المطارحين الذين طرحهم كله تجميش! وهي مضطرة إلى ذلك لأنها إن أهملتها نقصت، وإن لم تستفد منها وقفت، وكل واقف فإلى نقصان أقرب.»
48
وغير هذا نشر الجواري أنواعا من الظرافة، قلدهن فيها الناس، وجروا على أثرهن، كحب الأزهار وتعشقها، فيحدثنا «الأغاني» أن «متما» جارية علي بن هشام «كان يعجبها البنفسج جدا، وكان عندها أثر من كل ريحان وطيب، حتى إنها من شدة إعجابها لا يكاد يخلو من كمها الريحان، ولا تراه إلا كما قطف من البستان.»
49
وفطن الناس إذ ذاك إلى دلالة الأزهار على المعاني فيقول شاعرهم:
أهدت إليه بنفسجا يسليه
تنبيه أن بنفسها تفديه
فارتاح بعد صبابة وكآبة
ورجا لحسن الظن أن تدنيه
ويقول آخر:
سر بالآس الذي أهدت له
ثم لما أهدت الورد جزع
ذاك أن الآس باق دائم
ولأن الورد حينا ينقطع
ونوع آخر ظريف انتشر بينهم، وهو كتابة الأشعار الرقيقة والجمل الظريفة تطريزا على الأقمصة والأردية والأكمام ونحوها. قال الماوردي: رأيت جارية ونحن عند محمد بن عمرو بن مسعدة عليها قميص مكتوب في وشاحه:
أغيب عنك بود لا يغيره
نأي المحل، ولا صرف من الزمن
وعلى طراز الرداء:
أقل الناس في الدنيا سرورا
محب قد نأى عنه الحبيب
وقال: ورأيت جارية لبعض الهاشميين، يقال لها عريب، عليها قميص موشح بالذهب، مكتوب في وشاحه:
وإني لأهواه مسيئا ومحسنا
وأقضي على قلبي له بالذي يقضي
فحتى متى روح الرضا لا ينالني
وحتى متى أيام سخطك لا تمضي
وكتبن على العصائب، ومشاد الطرز والذوائب، والزنانير والمناديل والوسائد والبسط، والأسرة والكلل والنعال والخفاف، وبالحناء على الأقدام والراح.
50
ونجح هؤلاء الجواري في إشعار الناس بالظرف، والتزام حدوده، حتى أصبح للظرفاء عرف خاص في الزي والنظر، والطعام والشراب، وما إلى ذلك. وحتى أخذ «الوشاء» هذا العرف، ودونه قانونا للظرفاء في كتابه «الموشى».
ولسنا نرجع الفضل في ذلك كله للجواري؛ فإن لمواليهم أيضا أثرا لا ينكر، فإبراهيم الموصلي وأمثاله من المغنين هم الذين علموا الجواري غناءهم، ولقنوهن أصواتهم، والطبقة الراقية هي التي أوحت إلى الجواري ضروب الظرافة، ولكن مما لا شك فيه أنه قد كان للجواري الفضل في نشر هذه الفنون الجميلة بين طبقات الشعب المختلفة؛ لأنهم كانوا أكثر ولوعا بهن، وأشد تقليدا لهن، وأميل للتخلق بما يستحسن.
وكان للجواري فضل آخر، وهو أنهن من أمم مختلفة كما رأيت؛ فهنديات، وتركيات، وروميات، وغير ذلك، وقد كان كل صنف يجلب وقد تكونت عاداته أو كادت؛ فالروميات تحملن عادات قومهن في الغناء وضروب الظرافة، وهكذا بقية الأمم، ثم أتين المملكة الإسلامية فنشرن عاداتهن، ووقعت أبصارهن على عادات غيرهن، فخضع ذلك كله لقانون الانتخاب. ومن أجل ذلك كان الغناء غناء منتخبا، وهذا ما يفسر النزاع الشديد الذي حكاه الأغاني من طائفة تتعصب للقديم، وأخرى تتعصب للجديد، وما الجديد إلا ما أدخل عليه من نغمات فارسية ورومية، وكذلك سائر الفنون.
وفن آخر كان للجواري أثر كبير فيه، كأثرهن في سائر الفنون الجميلة، ذلك هو «الأدب». ونرى أن للمرأة في كل أمة وفي كل عصر فضلا على الأدب من ناحيتين؛ الأولى: ما تثيره في نفوس الرجال من عاطفة قوية تجيش في صدورهم، فتخرج على ألسنتهم شعرا رقيقا وأدبا ممتعا، والثانية: مشاركة المرأة الرجل في إخراج القطع الفنية والأدبية في المواضيع التي تمس شعورهن، وهن عليها أقدر!
كان هذا هو الشأن في العصر العباسي، ويظهر لنا أن «الجواري» كن أنشط من «الحرائر » في النوعين معا؛ أعني في ناحية الإنشاء الأدبي ، وفي ناحية الإيحاء إلى الشعراء. ويرجع السبب في ذلك إلى النظام الاجتماعي إذ ذاك، فقد كان الناس - كما نقلنا قبل عن الجاحظ - يغارون على الحرائر أكثر مما يغارون على الجواري، ويحجبون الحرة، ويشددون في تحجيبها. وإذا أراد أحد أن يتزوجها بعث «بخاطبة» تنظر إليها، وتصف للرجل محاسنها وعيوبها، أما هو فلا يراها إلا بعد الزواج. ولكن الجارية شأنها غير ذلك؛ فهو لا يعير بها كما يعير بقريبته الحرة، ثم هي سافرة إلى حد بعيد، بحكم أنها في كل وقت عرضة لأن تباع وتشرى، وهي تقضي للرجل حوائجه، وإذا أراد أحد من عامة الناس أن يستمع لغناء، أو يلهو بالقينات في بيوت المقينين فهن اللائي يغذين ميله إلى السماع، ورغبته في اللهو، وهن بحكم سفورهن اللائي يقع عليهن نظر الناس. أما الحرائر فلا يقع عليهن إلا نظر أقاربهن؛ لذلك كان طبيعيا أن الأدباء والشعراء يغذون أدبهم وشعرهم بالجواري، أكثر مما يغذونه بالحرائر. ومن ناحية أخرى فقد عني الرجال بتعليم الجواري كما يظهر أكثر من عنايتهم بتعليم الحرائر، ودعاهم إلى ذلك الناحية التجارية؛ فقد رأيت أن علم الجارية وأدبها كان يقوم في سوق الرقيق بأكثر ما يقوم بدنها، وأن الجارية إذا قومت بمائتي دينار جاهلة، قومت بأضعاف ذلك مغنية أو أديبة، والمال في كل عصر هو قوام الحركات الاجتماعية، أما الحرائر فلم يكن يعنى بتعليمهن وتربيتهن إلا طبقة قليلة، وهي طبقة الأشراف ومن في حكمهم وقليل ما هم. وسبب آخر: وهو أن الناس كانوا يرون أن الجواري هن ملهى الرجال، فحاول القائمون بأمورهن أن يرقوا هذه الملاهي بكل ما يتطلبه اللاهون، ورأوا أن الجارية إذا كانت مغنية أديبة موسيقية شاعرة كان ذلك أفعل في قلوب الرجال، فلم يألوا جهدا في تحقيق مطالبهم.
نعم نجد كثيرا من الحرائر اشتغلن ببعض العلوم، ولكن أكثر ما اشتغلن به كان الباعث عليه دينيا ككثير من المحدثات والمتصوفات. ولكن هذا ليس موضوعنا هنا، إنما موضوعنا الاشتغال بالفنون، والجواري من غير شك في هذا الباب كن أكثر وأظهر .
مصداق ذلك أنا نجد من الناحية الإنشائية كثيرا من الجواري أدبيات متفننات، لا يدانيهن في ذلك الحرائر، فيقول الأغاني في عريب: «كانت مغنية محسنة، وشاعرة صالحة الشعر، وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام، ونهاية في الحسن والجمال والظرف وحسن الصورة، وجودة الضرب، وإتقان الصنعة والمعرفة بالنغم والأوتار، والرواية للشعر والأدب.»
51
ويقول في «متيم»: «كانت صفراء مولدة من مولدات البصرة، وبها نشأت وتأدبت وغنت، وأخذت عن «إسحاق الموصلي» وعن أبيه من قبله، وكانت من أحسن الناس وجها وغناء وأدبا، وكانت تقول الشعر ليس مما يستجاد، ولكنه يستحسن من مثلها.»
52
ويقول في «دنانير» جارية يحيى بن خالد البرمكي: «كانت من أحسن الناس وجها، وأظرفهم وأكملهم، وأحسنهم أدبا، وأكثرهم رواية للغناء والشعر.»
ومن الناحية الأخرى كان الجواري أكثر إيحاء للشعراء بمعاني الشعر للسبب الذي بينا، فبشار يعشق جارية يقال لها «فاطمة»، سمعها تغني فهويها، وقال فيها الشعر، كما قال الشعر في جارية له سوداء. وحياة دعبل الخزاعي، ومسلم بن الوليد (صريع الغواني) مملوءة بما حدث لهم مع الجواري والشعر فيهن، وأبو نواس كان يهوى جارية اسمها «جنان»؛ وهي جارية لآل عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وكانت جميلة أديبة تعرف الأخبار وتروي الأشعار، يقال: إن أبا نواس لم يصدق في حبه امرأة غيرها، وقد أكثر فيها من بدائع شعره، وشغف العباس بن الأحنف بفوز، وكانت جارية لمحمد بن منصور، فأتى في شعره فيها بالممتع.
هذا قليل من كثير مما ملئت به كتب الأدب من شعر وقصص، ومما كان بين الفتيان والشعراء والأدباء، وبين الجواري في ذلك العصر.
ولئن اغتبط الأدباء بما أنتجته هذه الحالة الاجتماعية من شعر رقيق، وفن بديع، فإن رجال الدين والخلق ساءهم ما نتج عن ذلك من لهو خليع، واستهتار شنيع. وأخذ الأولون يحثون الناس على الاستمتاع بهذه الحياة وجني ثمارها، وأخذ الآخرون ينعون على الناس لهوهم وفجورهم، ثم يفرون من هذا كله إلى الزهد في الحياة، والهرب من لذائذها، كما سنعرض ذلك في الفصل التالي.
الفصل الخامس
حياة اللهو وحياة الجد
هل كان الناس يعيشون في ذلك العصر عيشة ترف ونعيم، ولهو ومجون، أو عيشة جد وعفة؟ وهل كان الخلفاء العباسيون الأولون يتحرون أوامر الدين ويتقيدون بها، ولا ينعمون إلا بما أحل الله، كما يصورهم بعض المؤرخين، أو هم تحللوا من كثير من القيود، وأسرفوا في اللهو كما يصوره آخرون؟ وهل كانت حالة الشعب رخية سعيدة، أو بائسة شقية؟ وما أثر ذلك كله في العلم والفن والأدب؟
ذلك ما نحاول الإجابة عنه في هذا الفصل. •••
إذا نحن نظرنا نظرة عامة لنقارن بين الحياة الأموية، والحياة العباسية وجدنا الأولى أقل تكلفا، وأكثر سذاجة، وأدل على الذوق العربي البدوي البسيط. وأكبر ظاهرة تراها أن سيطرة العنصر العربي في العهد الأموي صبغته بهذه الصبغة، وجعلته إذا أراد الترف والنعيم، تخير من ترف الأمم الأخرى ونعيمها، ولم يأخذه كما هو بحذافيره، ثم هو يعدل فيه حسب ذوقه وميوله، ويجعله شيئا آخر عربيا لا فارسيا صرفا، ولا روميا صرفا. رأوا الموائد الفارسية، وأدخل الخلفاء والأمراء على موائدهم نوعا من التحسين، ولكن لم يكن العربي البدوي إذا دخل على معاوية أو عبد الملك يشعر بأنه في جو آخر بعيد كل البعد عما يعرفه.
روى ابن خلدون: «أن الحجاج أولم في اختتان بعض ولده، فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس، وقال: أخبرني بأعظم صنيع شهدته. فقال له: نعم أيها الأمير، شهدت بعض مرازبة كسرى، وقد صنع لأهل فارس صنيعا، أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة (أربعا على كل واحد)، وتحمله أربع وصائف، ويجلس عليه أربعة من الناس؛ فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحائفها، ووصائفها. فقال الحجاج: يا غلام انحر الجزر وأطعم الناس.»
1
كأنه كره ذلك واستعظمه، ونبا عن ذوقه العربي، وعده فخفخة كاذبة، وأبهة لا يستسيغها، فنفر من ذلك إلى عادات قومه. وكذلك شأنهم في الدواوين، وضروب الحضارة الأخرى. وعلى الجملة فالذوق العربي واضح كل الوضوح في العهد الأموي، والعلاقة بين دمشق ومكة والمدينة، وأعني من الناحية الاجتماعية لا السياسية علاقة متينة، يتفاهمون كل الفهم، ويتذاوقون كل الذوق، والإسلام مفهوم لديهم في بساطته وتقاليده على نحو أحسن مما فهم به في العصر العباسي.
أما العباسيون فلم يكن شأنهم كذلك، لئن كان الأمويون ينقلون إليهم بعض العادات مع صبغها بصبغتهم، فالعباسيون كانوا هم الذي ينتقلون بحذافيرهم إلى العادات الجديدة، والتقاليد الجديدة. خذ لذلك مثلا «النيروز»؛ كان عيدا للفرس قديما، ولم نسمع في العهد الأموي أن كان له شأن ذو بال، ولكن العباسيين اتخذوه عيدا قوميا يحفلون به حفلهم بعيد الفطر، ويتبارون فيه بالهدايا والقصائد، ويجلس فيه الخلفاء للتهنئة. وقل مثل ذلك في الأزياء؛ فانتشرت القلنسوة الطويلة، وضروب الأزياء الفارسية، اتخذ القضاة القلانس العظام، واتخذ الخلفاء العمائم على القلانس، وتفننوا في العمامة ونوعوها تبعا للطبقات كما كان يفعل الفرس؛ فللخلفاء عمة، وللفقهاء عمة، وللبغالين عمة، وللأعراب عمة. ولكل قوم زي؛ فللقضاء زي، ولأصحاب القضاء زي، وللشرط زي. وأصحاب السلطان على مراتب، ولكل مرتبة زي؛ فمنهم من يلبس المبطنة، ومنهم من يلبس الدراعة، ومنهم من يلبس «البازيكند». وكانت الشعراء تلبس الوشي والمقطعات، والأردية السود. وقد كان شاعر في هذا العصر يتزيا بزي الماضين فهجاه بعض الشعراء.
2
والخلفاء الأمويون إذا وهبوا فإنما كانت أكثر جوائزهم الإبل، أخذا بمذاهب العرب وبداوتهم. أما في دولة بني العباس فجوائزهم كانت أحمال المال، وتخوت الثياب، والخيل بمراكبها.
3
وعلى الجملة فقد انتقل الناس في العهد العباسي إلى عادات الأمم الأخرى وتقاليدهم، وأفرطوا في ذلك كل الإفراط، على العكس من العهد الأموي، ومن ثم انقطعت الصلات الاجتماعية والمشاكلات بين المسلمين في العراق والمسلمين في جزيرة العرب، أو كادت. ويحدثنا الأغاني حديثا طريفا عن ناهض بن ثومة؛ وهو شاعر بدوي جاف من الشعراء في العهد العباسي، شهد حفلة عرس في حلب فدار عقله واختبل فكره مما رأى، مما لا عهد له به في البادية، عجب وأفرط في العجب من الاحتفاء بالعروس، ومن ألوان الملابس، ومن ألوان الأطعمة والشراب، ومن آلات الغناء الفارسية، حتى أمعن الناس في الضحك من إمعانه في الغفلة!
4
ولقد كان يجن حقا لو شهد حفلة العرس هذه في بغداد. •••
أفرط قوم من الناس في هذا العصر في اللذائذ يتحرونها، ويتفننون في الاستمتاع بها، وكلما ملوا نوعا ابتكروا نوعا، وإذا أخذوا يهدءون نشط الدعاة يستحثونهم على الإغراق فيها، والأخذ بأكبر حظ منها. ونحن إذا تتبعنا تاريخ الدولة العباسية في هذا الباب وجدنا أن الدولة كانت تسير خطوات متدرجة إلى هذه الغاية، وأن كل خليفة كان يعلو غالبا درجة في سلم الترف والنعيم عمن قبله. وأننا لو خططنا رسما بيانيا لاتجه صاعدا باستمرار في عصر كل خليفة تقريبا، والناس في كل عصر وخاصة في هذه العصور تبع لإمامهم.
بدأت الدولة العباسية، وحولها أعداء كثيرون؛ من أمويين وصنائعهم، ولما اختير للخلافة السفاح ثم المنصور غضب كثيرون من البيت العباسي نفسه، وغضب شيعة علي، فكان لابد لقيام الدولة من خلفاء جادين غير لاهين، يصرفون كل وقتهم في تأسيس الدولة، واصطناع الموالين، وكبح جماح الثائرين، وسفك دم الخارجين، حتى إذا انتهى هذا الدور، ومهدت الأمور، وقتل الخارجون، واستكان أمثالهم؛ هدأت الدولة، فكان أمام الخليفة الذي يأتي بعد وقت من الفراغ والهدوء يجد فيه متسعا لشيء من اللهو والترف والنعيم، ولكن ليس يجد كل وقته، فعليه تنظيم داخل المملكة، بعد أن كان أكثرهم من قبله موجها إلى تنظيم الأمور الخارجية، حتى إذا استتب الخارج والداخل جاء خلفاء، وقد جرت الأمور في نصابها، وسارت على الأسس التي شيد الأولون بنيانها، ورأى هؤلاء الخلفاء المال الكثير يجبى إليهم في سعة، من جراء ما وضع الأولون من حماية للخارج، وتنظيم للداخل، فنعموا وأسرفوا في النعيم، وكان من وقتهم متسع لذلك كله!
كان يمثل هذه الأدوار تماما الخلفاء العباسيون، وتاريخهم شاهد على ما نقول؛ فأبو العباس السفاح (أولهم) كان يؤثر الجد والعلم على ضرب اللهو، يقول: «إنما العجب ممن يترك أن يزداد علما، ويختار أن يزداد جهلا! فقال له أبو بكر الهذلي: ما تأويل هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال يترك مجالسة مثلك وأمثال أصحابك، ويدخل إلى امرأة أو جارية، فلا يزال يسمع سخفا، ويروي نقصا!». ولما تزوج أم سلمة حلف لها ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، وحاول بعض المقربين إليه في خلافته أن يوسوس إليه، ويثير ملاذه وشهواته بذكر الجواري وأنواعهن فلم يفلح.
5
وكانت حياته حياة سفك للدماء،
6
وقضاء على المعارضين.
ووليه المنصور، وهو رجل الدولة العباسية ومؤسس بنيانها، الذي قضى على أعدائه وأعدائها من أهل بيته، ومن غيرهم؛ فلم يكن له في اللهو مجال. روى الطبري عن يحيى بن سليم قال: «لم ير في دار المنصور لهو قط، ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث إلا يوما واحدا، فإنا رأينا ابنا له يقال له عبد العزيز (توفي وهو حدث) قد خرج على الناس متنكبا قوسا متعمما بعمامة، مترديا برداء في هيئة غلام أعرابي، راكبا على قعود، بين جوالقين فيهما مقل ونعال، ومساويك، وما يهديه الأعراب، فعجب الناس من ذلك وأنكروه، فعبر الغلام الجسر، وأتى المهدي بالرصافة فأهدى إليه ذلك، فقبل المهدي ما في الجوالقين وملأهما دراهم،. وانصرف الغلام، فعلم أنه ضرب من عبث الملوك.»
7
وترى من هذا أن الناس أنكروا العمل على بساطته ولطافته؛ لأنهم لم يألفوا شيئا من اللهو. وسمع المنصور جلبة في داره فقال: ما هذا؟ قالوا: خادم جلس بين الجواري، وهو يضرب لهن بالطنبور، وهن يضحكن، فقام حتى أشرف عليهم فرآهم فلما بصروا به تفرقوا، فأمر فضرب رأس الخادم بالطنبور حتى تكسر الطنبور، ثم أمر بالخادم فبيع.
8
وكان حازما لا لهو له، يشعر بالتبعة، ويضطلع بها، ولما سمع شعر طريف بن تميم العنبري:
إن قناتي لنبع لا يؤيسها
غمز الثقاف ولا دهن ولا نار
متى أجر خائفا تأمن مسارحه
وإن أخف آمنا تقلق به الدار
إن الأمور إذا أوردتها صدرت
إن الأمور لها ورد وإصدار
قال: أنا أحق ببيتيه منه، وأنا الذي وصف لا هو. وكانت ما تزال به بقية من بداوة، وميل إلى البساطة؛ بلغه أن عبد الله بن مصعب بن الزبير قد اصطبح مع جارية تغنيه بشعر له فيه غزل، وفيه استهتار، فقال المنصور: لكن الذي يعجبني أن يحدو بي الحادي الليلة بشعر طريف العنبري؛ فهو آلف وأحرى أن يختاره أهل العقل. فدعا حاديا يحدو له، وألقى عليه شعرا في الفخر بمكارم الأخلاق، فحداه به فقال المنصور: هذا والله أحث على المروءة، وأشبه بأهل الأدب. ثم عاد الربيع، وقال: أعطه درهما. فقال: يا أمير المؤمنين حدوت بهشام بن عبد الملك فأمر لي بعشرين ألف درهم، وتأمر لي أنت بدرهم! فقال: إنا لله، ذكرت ما لم نحب أن تذكره؛ وصفت رجلا ظالما أخذ مال الله من غير حله، وأنفقه في غير حقه، يا ربيع اشدد يديك به حتى يرد المال. فما زال الحادي يبكي ويتشفع حتى كف عنه.
9
وهو كذلك لا يحب الشراب، ولا يشرب على مائدته شراب، ولما قدم بختيشوع الطبيب عليه أمر المنصور بطعام يتغذى به، فلما وضعت المائدة بين يديه طلب شرابا؛ فقيل له: لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين. فقال: لا آكل طعاما ليس معه شراب. فأخبر المنصور بذلك فقال: دعوه.
10
ثم هو لا يسرف في عطاء لحاد ولا لشاعر ولا لمادح، ويؤنب أولاده إذا أسرفوا في العطاء، ولا يتعالى في ثوب يلبسه، ولا مائدة تمد إليه، إنما هو مقتصد في كل ضروب الحياة، مقتصد حتى فيما أحل الله، وربما غلا في الا قتصاد غلو من بعده في الإسراف. لقد زعموا: أن أمه المغربية لما حملت به رأت أنها وضعت أسدا سجدت له الأسد، والحق أنه لولا أن له همة أسد يعاف الصغائر، ولا يشغله لهو عن تدبير، ما استطاع أن يؤسس هذه المملكة، ويخلفها لمن أتى بعده مضبوطة محكمة، لا تحتاج منه إلا أن يحفظ ما ورث.
أسلم المنصور البلاد، وهي وحدة لم يشذ عنها إلا الأندلس، وهي هادئة مطمئنة لا تؤذن بفتن ذات بال، والخزائن مملوءة بالمال، والعرب من سكان المملكة آخذون في الانكماش، قد ضعف سلطانهم ونفوذهم، والموالي يطاردونهم ليحصروهم في جزيرة العرب، بدوا كما كانوا في الجاهلية، ويحلون محل العادات العربية عادات فارسية، ومحل البساطة في العيش العربي التعقد في العيش الحضري. وعلى الجملة فقد طرأ دور آخر يجد فيه الخليفة والناس على أثره وقتا للفراغ والجدة، ومصدرا خصبا للترف والنعيم.
أخذ الناس يشعرون بعد موت المنصور بشيء من الراحة، وقد أجهدوا أنفسهم في عهده بما يتطلبه تأسيس دولة من مشقة، وتذليل صعوبات جمة، وملوا الإفراط في الجد والاقتصاد اللذين اتصف بهما المنصور، وتطلعوا لحياة فيها سعة في المال، وطرف من النعيم؛ فوجدوا ذلك في الخليفة «المهدي». وفي الحق إن السنوات العشر التي حكمها كانت جسرا بين حياة الجد والجفاف، والعمل في عصر المنصور، وحياة الترف والنعيم في عصر الرشيد ومن بعده.
كان المهدي سخيا كريما؛ فتنفس الناس من شح المنصور. لقد خلف المنصور أربعة عشر مليون دينار، وستمائة مليون درهم،
11
ففرقها المهدي في الناس، سوى ما جبي في أيامه. وكثرة المال في كل جيل وفي كل عصر داعية الترف والنعيم، واللهو واللعب، ومن ثم أخذ الناس يقدرون فضيلة الكرم تقديرا أعلى مما كانوا يقدرونه في عصر المنصور، وأخذوا يذمون البخل ذما شنيعا، ويقصون عن البخلاء قصصا فكهة لاذعة، ربما كان من آثارها وضع الجاحظ لكتاب «البخلاء».
اجتمع في المهدي حب للفنون الجميلة، وميل شديد إلى الكرم؛ فجرى الناس على أثره، وأنفقوا الأموال على الفنانين فرقي الفن، وبدأ ينتشر بين طبقات الشعب. أخذ المهدي يجلس للمغنين، ويسمع غناءهم بعد أن كان أبوه المنصور يستلذ الحداء، فيحدثنا «الأغاني» «أن المهدي كان يسمع المغنين جميعا، ويحضرون مجلسه فيغنونه من وراء الستارة لا يرون له وجها»، إلا فليح بن أبي العوراء «فقد سأله في بيتين أن ينادمه فأحضره مجلسه بين أهله ومواليه، فكان فليح أول من عاين وجهه في مجلسهم.»
12
ويقول صاحب كتاب أخلاق الملوك: «كان المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء متشبها بالمنصور نحوا من سنة، ثم ظهر لهم فأشار عليهم «أبو عون» بأن يحتجب عنهم، فقال «المهدي»: إليك عني يا جاهل إنما اللذة في مشاهدة السرور، وفي الدنو ممن سرني، فأما من وراء وراء فما خيرها ولذتها؟»
13
وأثاب على ذلك الأمور الكثيرة، على عكس أبيه؛ «فقد كان المنصور لا يثيب أحدا من ندمائه وغيرهم درهما، فيكون له رسما في ديوان، ولم يقطع أحدا ممن كان يضاف إلى ملهية أو ضحك أو هزل موضع قدم من الأرض. أما المهدي فكان كثير العطايا يواترها، قل من حضره إلا أغناه.»
14
وحسبك بالمهدي أنه تخرج في قصره ولداه زينة الدنيا، وبهجة عصرهما في الظرف والغناء: إبراهيم بن المهدي وعلية بنت المهدي.
وكان كذلك يحب القيان، ويحب الحديث عن النساء في غير دعارة، ذكر الجاحظ: «أن المهدي كان يحب القيان وسماع الغناء، وكان معجبا بجارية يقال لها «جوهر»، كان اشتراها من مروان الشامي، وله فيها شعر.»
15
وقد اتفق صاحب الأغاني والطبري على أنه لم يكن يشرب النبيذ، ولكنه في هذا أيضا خطا خطوة أخرى وراء أبي جعفر؛ فقد رأينا المنصور لا يشربه، ولا يسمح لأحد أن يشربه على مائدته. أما المهدي فيذكر الطبري أنه ما كان يشربه، ولكن لا تحرجا، بل كان لا يشتهيه، وكان أصحابه يشربون عنده بحيث يراهم، وكان وزيره يعقوب بن داود يعظه في ذلك، ويلح عليه في حسمه عن السماع، وإسقائه النبيذ، ويهدده بالتخلي عن منصبه، والمهدي يحتج بأن عبد الله بن جعفر كان يسمع.
16
كذلك كان المهدي مترفا في ملبسه ومأكله، يحمل إليه الثلج إلى مكة وهو يحج! وكان أول خليفة فعل ذلك.
والحق إن المهدي على ما يظهر كان معتدلا في لهوه وترفه، ولكن ما كاد يرخي للناس العنان في هذا السبيل حتى استطابوه، وأفرط فيه المستهترون، ولم يقفوا عند حد. لم يجرءوا في عهد المنصور أن يستهتروا لأنه ضرب لهم مثلا من نفسه بالجد والحزم، فلما رأوا المهدي يخطو خطوة جرواهم وقفزوا، وبلي الناس في عهده ببشار يبث فيهم غزله المكشوف، ويفتنهم بشعره الداعر، ويملأ البلاد بالحث على المغازلة، حتى ضج الأشراف إلى المهدي من شعره؛ مثل يزيد بن منصور خال المهدي، وطلبوا إليه أن يقف هذا التيار لما خافوا على نسائهم وبناتهم، فتدخل المهدي حينئذ، ونهى بشارا عن الغزل فيقول:
قد عشت بين الريحان والراح وال
مزهر في ظل مجلس حسن
وقد ملأت البلاد ما بين ف
غفور إلى القيروان فاليمن
17
شعرا تصلي له العواتق والث
يب صلاة الغواة للوثن
ثم نهاني المهدي فانصرفت
نفسي صنيع الموفق اللقن
فالحمد لله لا شريك له
ليس بباق شيء على الزمن
ومع هذا ظل في خبث يتغزل من طريق خفي، ويحتمي بنهي المهدي، فيقول:
يا منظرا حسنا رأيته
من وجه جارية فديته
بعثت إلي تسومني
ثوب الشباب وقد طويته
والله رب محمد
ما إن غدرت ولا نويته
أمسكت عنه وربما
عرض البلاء وما ابتغيته
إن الخليفة قد أبى
وإذا أبى شيئا أبيته
ونهاني الملك الهما
م عن النساء فما عصيته
بل قد وفيت، ولم أضع
عهدا، ولا وأيا وأيته
18
وأنا المطل على العدى
وإذا غلا الحمد اشتريته
وأميل في أنس النديم
من الحياء وما اشتهيته
ويشوقني بيت الحبيب
إذا غدوت وأين بيته
حال الخليفة دونه
فصبرت عنه وما قليته
ويقول:
دفنت الهوى حيا فلست بزائر
سليمى ولا صفراء ما قرقر القمري
وتركت لمهدي الأنام وصالها
وراعيت عهدا بيننا ليس بالختر
19
ولولا أمير المؤمنين محمد
لقبلت فاها أو لكان بها فطري
لعمري لقد أوقرت نفسي خطيئة
فما أنا بالمزداد وقرا على وقر
ثم يبلغ المهدي حسن صوت إبراهيم الموصلي فيقربه إليه، ويكون هو أول من يعلي شأنه، ثم يعلم أن الموصلي يشرب ويستهتر فيريده على ملازمته، وترك الاستهتار، فلا يستطيع الموصلي ذلك فيضربه ويحبسه. يقول إبراهيم الموصلي: إن المهدي دعاني يوما فعاتبني على شربي في منازل الناس، والتبذل معهم فقلت: يا أمير المؤمنين إنما تعلمت هذه الصناعة للذتي وعشرتي لإخواني، ولو أمكنني تركها لتركتها، وجميع ما أنا فيه لله عز وجل. فغضب المهدي غضبا شديدا، وقال: لا تدخل على موسى وهارون ألبتة، فوالله لئن دخلت عليهما لأفعلن ولأصنعن! فقلت: نعم. ثم بلغه أني دخلت عليهما، وشربت معهما، وكانا مستهترين بالنبيذ فضربني ثلثمائة سوط ثم قيدني وحبسني.
20
في الحقيقة إن المهدي فتح للناس باب اللهو، ورسم لهم حدا يقفون عنده فتخطوه، وحاول أن يقفهم عند الحد الذي رسمه بإيقاع العقوبة على من تجاوزه فلم ينجح. •••
انتقل الناس نقلة أخرى من حيث السرف في الترف في عهد الرشيد، ويرجع ذلك إلى أسباب؛ منها ما كان من النشوء الطبيعي للأمة، فكان من انضباط أمورها ما زاد ثروتها، ومكنها من أن تعيش عيشة ناعمة، فقد حكى ابن خلدون: أن دخل المملكة في عهد الرشيد كان في كل سنة 7015 قنطارا.
21
والقنطار في حسابه عشرة آلاف دينار، فيكون مجموع ذلك سبعين مليون ومائة وخمسين ألف دينار. وهي ميزانية ضخمة، تدلنا مهما بولغ فيها على غنى الدولة، وتمكنها من حياة النعيم.
والسبب الثاني: عظم سلطان الفرس في عصره وعلى رأسهم البرامكة، والفرس من قديم يعرفون بالميل إلى اللهو والسرور، والإفراط في حب النبيذ، وقد كانت الديانة الزرادشتية تبيح شرب النبيذ بل تجعله من شعائرها، وما يزال النبيذ كما يقول الأستاذ «براون» إلى اليوم ظاهرة قوية في الحياة اليومية للفرس الزرادشتية. كان الفرس قديما يفرطون في شرب النبيذ، وكانوا يفرطون في سماع الغناء، وكانوا يفرطون في فنون كثيرة من اللهو الطيب، واللهو الخبيث. فلما عاد سلطانهم في الدولة العباسية، وخاصة في عهد الرشيد والمأمون نشروا مع نفوذهم حياة الأكاسرة، وما كان فيها من حضارة ولهو وعبث؛ نقلوا جدهم من نظم سياسية ونحوها، ونقلوا لهوهم من نبيذ ومجالس غناء وغزل، وما إلى ذلك.
وسبب ثالث: يرجع إلى طبيعة «الرشيد» نفسه وتربيته، فيظهر لي أنه كان شابا حاد العاطفة، ولكن ليس من هذا النوع الذي يستسلم كل الاستسلام لشهواته، بل هو مع ذلك قوي النفس، جندي بالغريزة وبالتربية، طالما قاد الجيوش وشرق وغرب، هذه الحدة في العاطفة، وقوة النفس ونضارة الشباب أظهرته بمظاهر مختلفة، يوعظ فيتأثر بالموعظة إلى أن يجهش بالبكاء، ويسمع الغناء فيطرب له كل الطرب، يسمع إبراهيم الموصلي يغني، وبرصوما يزمر، وزلزلا يضرب الدف، فيدعوه الطرب أن يتكلم بكلمة فيها شيء من التورع الديني، يقول: يا آدم لو رأيت من يحضرني من ولدك اليوم لسرك. ثم يندم على قولته فيستغفر الله.
22
نمت عنده العاطفة الدينية، ونمت بجانبها أيضا عاطفة الفنون؛ فهو يصلي، ويكثر من الصلاة، وهو يسمع الغناء فيستجيده، والشعر فيطرب له، تتجه عواطفه إلى جهات مختلفة فيصل فيها إلى نهايتها، يسمع قول أبي العتاهية:
خانك الطرف الطموح
أيها القلب الجموح
لدواعي الخير والشر
دنو ونزوح
هل لمطلوب بذنب
توبة منه نصوح؟
كيف إصلاح قلوب
إنما هن قروح!
أحسن الله بنا أن
الخطايا لا تفوح
سيصير المرء يوما
جسدا ما فيه روح
بين عيني كل حي
علم الموت يلوح
كلنا في غفلة وال
موت يغدو ويروح
لبني الدنيا من الدن
يا غبوق وصبوح
رحن في الوشي وأص
بحن عليهن المسوح
كل نطاح - من الده
ر - له يوم نطوح
نح عى نفسك يا مس
كين إن كنت تنوح
لتموتن وإن عم
رت ما عمر نوح!
فيبكي وينتحب
23
ويرضى عن البرامكة فيعجب بهم كل الإعجاب، ويقربهم كل القرب، ثم يغضب عليهم ويستفز الحساد عواطفه عليهم، فينكل بهم كل التنكيل، ويعجبه الغناء فيقرب إبراهيم الموصلي تقريبه للعلماء والقضاة، ولا يسأل عن مال ينفقه متى استطاع المغني أو الشاعر أن يصل إلى موضع يثير منه إعجابه. تعجبني جملة لصاحب الأغاني يصف بها الرشيد، تمثل خير تمثيل قوة عاطفته؛ إذ يقول: «كان الرشيد من أغزر الناس دموعا في وقت الموعظة، وأشدهم عسفا في وقت الغضب والغلظة.»
24
من أجل ذلك لا عجب أن تراه متدينا شديد التدين، يصلي في اليوم مائة ركعة، وأن تراه حينا غضوبا يسفك الدم لشيء لا يستحق سفك دم، وطروبا يملك الطرب عليه نفسه ومشاعره، وهذه صفات من السهل أن تتصور اجتماعها في شخص واحد.
تقرأ كتاب الأغاني فتخرج منه في كثير من الأحيان على صورة للرشيد يخيل إليك معها أنه عاكف على اللهو والطرب، لا عمل له إلا أن يسمع الغناء، ويخالط الندماء، ويثيب الشعراء، وله العذر في ذلك؛ لأنه لم يؤلف كتابه تاريخا يصف فيه أعمال الخلفاء المختلفة ، ويقومهم بما أتوا من حسنات وسيئات، إنما ألف كتابه في الغناء، فمن الطبيعي أن يقصر قوله على هذا الضرب وما إليه، كما تقصر كتب طبقات النحاة واللغويين كلامها على العلماء من الناحية النحوية واللغوية، وإذا كان هناك خطأ فمن ناحية من يفهم أن الغناء وحده يمثل حياة الرجل المختلفة النزعات.
وتقرأ ابن خلدون فيقصر تصويره على الناحية الجدية والدينية، ويذهب إلى أن الرشيد لم يكن يعاقر الخمر لأنه كان يصحب العلماء والأولياء، ويحافظ على الصلوات والعبادات، ويصلي الصبح في وقته، ويغزو عاما ويحج عاما، ويستدل أيضا بأنه كان من العلم والسذاجة بمكان، لقرب عهده من سلفه، ولم يكن بينه وبين جده أبي جعفر بعيد زمن «إنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق، وفتاويهم فيها معروفة، وأما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها، ولا تقليد الأخبار الواهية فيها، فلم يكن الرجل بحيث يواقع محرما من أكبر الكبائر عند أهل الملة، ولقد كان أولئك القوم كلهم بمنجاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم، وسائر متناولاتهم؛ لما كانوا عليه من خشونة البداوة، وسذاجة الدين التي لم يفارقوها.»
25
ونحن مع اتفاقنا في الرأي مع ابن خلدون في أن الرشيد لم يشرب الخمر، إنما المعروف عنه أنه شرب النبيذ، فلسنا نتفق معه على ما يستخلص من قوله من أنه كان بمنجاة من السرف والترف، وأنه كان يعيش عيشة ساذجة، وأنه لم يواقع محرما، فهذا أيضا إفراط في التقديس لا تدل عليه سيرة الرشيد، خصوصا وأن أدلته في هذا النوع أدلة خطابية؛ فقرب عهده من المنصور لا يستوجب أن يعيش عيشته، وقد صرح هو مرارا بأن الترف والنعيم في عصر الرشيد كان أكثر منه في عصر المنصور، ولو كان قرب العهد يكفي في الاستدلال لما رأينا الأمين (وهو قريب العهد من الرشيد) يسير سيرته.
والعجب أنه عقد فصولا طويلة يتعرض فيها لوصف الحضارة والنعيم والترف في أيام الرشيد والمأمون، وتفننهم في المطعم والمشرب والملبس، وهو هو الذي وافق «المسعودي» و«الطبري »، على ما حكياه في إعراس المأمون ببوران بنت الحسن، وأن المأمون أعطاها في مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت، وأوقد شموع العنبر في كل واحدة مائة من
26
وبسط لها فرشا كان الحصير منها منسوجا بالذهب، مكللا بالدر والياقوت ... إلخ.
27
هل هذا ليس سرفا في الترف؟ وهل قرب عهد المأمون من الرشيد كقرب عهد الرشيد من المنصور جعلت الناس يعيشون عيشة السذاجة كما يقول؟
الحق إن ابن خلدون مخطئ في وصفه عصر الرشيد بالسذاجة، وأنه وقومه كانوا بمنجاة من السرف والترف، والحق أيضا أن ابن خلدون صور جانبا صحيحا من جوانب الرشيد في صلاته وتقواه، ولكن لم يكن هذا كل جوانبه، فله جانب هو الذي وصفه الأغاني، وإن عذرنا الأغاني لما بينا فلسنا نعذر ابن خلدون، وهو مؤرخ عليه أن يذكر نواحي الرجل المختلفة!
وكأن ابن خلدون فهم أن الذي يصلي مائة ركعة، ويجالس الفضيل بن عياض لا يتأتى منه أن يجلس مجالس لهو يسمع فيها الغناء، يظهر فيها مظاهر الترف على أتم وجوهها. إن كان فهم ذلك كان خطأ، والطبيعة الإنسانية لا تأباه.
وفي رأينا أن الرشيد كان يجد فيمعن في الجد، ثم يلهو فيمعن في اللهو خضوعا لحدة العاطفة مع الميول المختلفة.
قال أبو البختري وهب بن وهب القاضي: كنت عند الرشيد يوما واستدعى ماء مبردا بالثلج، فلم يوجد في الخزانة ثلج، فاعتذر إليه بذلك، وأحضر إليه ماء غير مثلوج، فضرب وجه الغلام بالكوز، واستشاط غضبا. فقلت له: أقول يا أمير المؤمنين وأنا آمن؟ فقال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من الغير بالأمس (يعني زوال دولة بني أمية)، والدنيا غير دائمة ولا موثوق بها، والحزم ألا تعود نفسك الترفه والنعمة، بل تأكل اللين والجشب، وتلبس الناعم والخشن، وتشرب الحار والقار. فنفحني بيده، وقال: لا والله لا أذهب إلى ما تذهب إليه؛ بل ألبس النعمة ما لبستني فإذا نابتني نوبة الدهر عدت إلى نصابي غير خوار.
28 •••
جاء الأمين فزاد في اللهو نغمة بل نغمات. ومها قال محققو المؤرخين من أن كثيرا من الأخبار وضعت في عهد المأمون لتشويه سمعة الأمين، والحط من شأنه، وتبرير ما فعل به، فإن ميله إلى الإفراط في اللهو والشراب والغلمان مما لا يسهل إنكاره.
روى الطبري قال: لما ملك محمد (الأمين) طلب الخصيان، وابتاعهم وغالى بهم، وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه ورفض النساء الحرائر والإماء، حتى رمي بهم،
29
ففي ذلك يقول بعضهم:
لهم من عمره شطر، وشطر
يعاقر فيه شرب الخندريس
وما للغانيات لديه حظ
سوى التقطيب بالوجه العبوس!
إذا كان الرئيس كذا سقيما
فكيف صلاحنا بعد الرئيس؟
فلو علم المقيم بدار طوس
لعز على المقيم بدار طوس
30
وروى أيضا: أنه لما ملك وجه إلى جميع البلدان في طلب الملهين، وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق، ونافس في ابتياع فره الدواب، وأحد الوحوش والسباع والطير، وغير ذلك. واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقواده، واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال، وما بحضرته من الجواهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه، وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته، ومواضع خلوته ولهوه ولعبه، وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها مالا عظيما وفيها قال أبو نواس مدائحه.
31
ويصفه وزيره الفضل بن الربيع فيقول: «ينام نوم الظربان،
32
ولا يفكر في زوال نعمة، ولا يروي في إمضاء رأي ولا مكيدة، قد ألهاه كأسه، وشغله قدحه، فهو يجري في لهوه، والأيام تضرع في هلاكه، قد شمر عبد الله (المأمون) له عن ساقه، وفوق له أصيب أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحنف النافذ، والموت القاصد، قد عبى له المنايا على متون الخيل، وناط له البلاء في أسنة الرماح، وشفار السيوف».
33
جاء المأمون بعد الأمين، ولكن لم تكن شهوات المأمون وملاهيه كشهوات الأمين وملاهيه. لهو الأمين لهو شاب غر رأى سلطانا ومالا، وليس له عقل ناضج، فأنفق كل وقته في إرواء شهوته. وأما المأمون فرجل حنكته التجارب، وعلمه (ما قاسى من الأهوال في الحروب وما تحتاج المملكة من خلق جديد) الحزم والبصر بالأمور، ثم كان له ملاذ عقلية تشغل وقته، فهو يحب الكتب ويحب الفلسفة، ويحب الجدل في المسائل الدينية والفقهية، وحوله العلماء من كل نوع يباحثهم ويجادلهم، وهو مع ذلك يلهو لهوا خفيفا فيشرب النبيذ،
34
ويقيم بعد قدومه بغداد عشرين شهرا لا يسمع ثم يسمع،
35
وكان يزين مجلسه ويغنيه إسحاق الموصلي، كما كان أبوه إبراهيم الموصلي يزين مجلس أبيه الرشيد، قربه المأمون وأعلى شأنه، وكذلك قرب إليه عمه إبراهيم بن المهدي وكان مبدعا في غنائه.
وكان الناس قد تجرعوا غصص البؤس أيام الفتن بين الأمين والمأمون، وخربت بغداد، وعم البؤس والشقاء فما عادت السكينة حتى شعروا أنهم في حاجة أن يعوضوا ما فقدوا، فلهوا وأفرطوا.
هذه ناحية من نواحي القصور شرحناها لما كان لها من أثر كبير في الفن والأدب. ولها نواح أخرى مختلفة؛ فناحية سياسية ليست تهمنا في موضوعنا، وناحية علمية من تشجيع للعلم، وإنفاق للمال في سبيله، وعقد مجالس للجدل والمناظرات، وبذل الجهد في تحصيل الكتب، وإنشاء دورها والعمل على ترجمتها، وكان من أعظم الخلفاء أثرا في ذلك المنصور والرشيد والمأمون، وهذه الناحية سنوضحها عند الكلام في الحركة العلمية. •••
وإذ كثر القول في الشراب، وروينا ما قال ابن خلدون من أن بعض الخلفاء كانوا يشربون النبيذ لا الخمر، وشاع أن فقهاء العراق يرون حل النبيذ، وكان لهذا القول أثر في الأدب؛ كان لا بد لنا من كلمة في الشراب.
كثر الشراب عند العرب، وتعددت أنواعه، وقد كانوا يأخذون عمن جاورهم من الأمم الأخرى أنواعا من الشراب، وألوانا من عاداته؛ فقد أخذ أهل الشام عن الروم نوعا من الخمر ممزوجا بالعسل، ونقلوا اسمه الرومي (وهو «الرساطون
Rosatun »)، ولم يكن يعرفه عرب الحجاز،
36
كما أخذ بعض الأمويين عن الفرس شرابا اسمه «الهفنجة»، كانوا يشربونه سبعة أسابيع في بعض منازل القمر، فشربه الوليد بن يزيد كذلك.
37
وهكذا كان للأمم أشربة وعادات في الشراب أخذت تتسرب إلى المسلمين، فلما جاء العباسيون تفننوا في أنواعه، وفي مجالسه والمنادمة عليه.
وقف الإسلام يحارب الخمر، ويحرم السكر، ونزلت الآية:
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون .
ومع هذا فنرى أن أسئلة أثيرت حول هذه الآية الكريمة: ما المراد بالخمر؛ أهي عصير العنب وحده، أم كل مسكر خمر؟ وما هو القدر المحرم؟ أكل نوع مما يسكر كثيره فقليله حرام، أم بعض الأنواع يحل قليله؟ وظهرت في عالم الفقه مسألة النبيذ هل يحل أو لا يحل، وما القدر الذي يحل؟ وظهر هذا الخلاف من عهد الصحابة فمن بعدهم، ورأينا عمر بن عبد العزيز في العهد الأموي يشعر بخطر هذا الخلاف في النبيذ وضرره، فيصدر كتابا إلى الأمصار يحرم فيه النبيذ،
38
إلى أن كان عصر الأئمة فكان بينهم الخلاف السابق، فذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إلى سد الباب بتاتا، ففسروا الخمر في الآية السابقة بما يشمل جميع الأنبذة المسكرة من نبيذ التمر والزبيب والشعير والذرة والعسل وغيرها، وقالوا: كلها تسمى خمرا، وكلها محرمة. أما الإمام أبو حنيفة ففسر الخمر في الآية بعصير العنب مستندا إلى المعنى اللغوي لكلمة الخمر، وأحاديث أخرى، وأداه اجتهاده إلى تحليل بعض أنواع من الأنبذة كنبيذ التمر والزبيب إن طبخ أدنى طبخ، وشرب منه قدر لا يسكر، وكنوع يسمى «الخليطين»، وهو أن يأخذ قدرا من تمر ومثله من زبيب فيضعهما في إناء ثم يصب عليهما الماء ويتركهما زمنا، وكذلك نبيذ العسل والتين، والبر والعسل.
39
ويظهر أن الإمام أبا حنيفة في هذا كان يتبع الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود؛ فقد علمت من قبل
40
أن ابن مسعود كان إمام مدرسة العراق، وعلمت مقدار الارتباط بين فقه أبي حنيفة وابن مسعود، ودليلنا على ذلك: ما رواه صاحب العقد عن ابن مسعود من أنه: كان يرى حل النبيذ، حتى كثرت الروايات عنه، وشهرت وأذيعت واتبعه عامة التابعين من الكوفيين، وجعلوه أعظم حججهم، وقال في ذلك شاعرهم:
من ذا يحرم ماء المزن خالطه
في جوف خابية ماء العناقيد؟
إني لأكره تشديد الرواة لنا
فيه، ويعجبني قول ابن مسعود
41
على كل حال كان هناك جدال شديد بين الفقهاء في النبيذ كالذي كان بينهم في الغناء؛ فابن أبي ليلى يحرم النبيذ ويجادل فيه أبا حنيفة، وأبو حنيفة يرد عليه، وعبد الله بن إدريس كان الوحيد بين فقهاء الكوفة يحرم النبيذ فيرد عليهم ويردون عليه ... إلخ
42
ولما كان كثير من فقهاء العراق يرون حل النبيذ اشتهر العراقيون بحل النبيذ؛ فقال شاعرهم:
رأيه في السماع رأي حجازي
وفي الشراب رأي أهل العراق
43
وانتقل هذا الجدل إلى الأدباء والشعراء، وأخذوا يتلاعبون بهذه الآراء، فقال بعضهم: «أباح أهل الحرمين الغناء وحرموا النبيذ، وأباح أهل العراق النبيذ وحرموا الغناء فأوجدونا في الرخصة فيهما عند اختلافهما إلى أن يقع الاتفاق».
44
وقال ابن الرومي:
أباح العراقي النبيذ وشربه
وقال: حرامان المدامة والسكر
وقال الحجازي: الشرابان واحد
فحل لنا من بين قوليهما الخمر
سآخذ من قوليهما طرفيهما
وأشربها لا فارق الوازر الوزر
45
وعلى الجملة فإن كثيرا اتخذوا هذه الآراء تكئة يصلون بها إلى أغراضهم، ولم تكن هي الباعث على شربهم؛ فإنهم لم يقفوا عند النوع الذي حللوه، ولا القدر الذي أباحوه، فليس من فقيه أباح أي نوع من النبيذ إلى حد الإسكار، ولكنها خلاعة الأدباء، وتظرف الشعراء.
أما أبو نواس وشيعته فلم يركنوا إلى هذا الضرب من الحيل بل جاهروا بها مع الإقرار بتحريمها، وقال زعيمهم (أبو نواس):
فإن قالوا حرام قل حرام
ولكن اللذائذ في الحرام
وقال:
ألا فاسقني خمرا، وقل لي هي الخمر
ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر •••
قلد الأغنياء والخاصة قصور الخلفاء، وعاشوا عيشة بذخ وترف، بل زادوا في لهوهم، لما تقتضيه طبيعة مجالس الخلفاء من حشمة ووقار لا يلتزمها غيرهم من الأغنياء.
فقد كثر أولاد الخلفاء وأقاربهم، وأحصي ولد العباس من رجال ونساء وصغار وكبار، فكان عددهم أيام المأمون ثلاثة وثلاثين ألفا ،
46
وكانوا ممتازين في رقتهم وجمالهم: «كان يقال: انتهى جمال ولد الخلافة إلى أولاد الرشيد، ومن أولاد الرشيد إلى محمد وأبي عيسى، وكان أبو عيسى إذا عزم على الركوب جلس الناس له حتى يروه أكثر مما يجلسون للخلفاء.»
47
وقد أولع كثير من أفراد هذا البيت بالغناء والفنون الجميلة؛ فعلية بنت المهدي كانت «من أحسن الناس وأظرفهم، تقول الشعر الجيد، وتصوغ فيه الألحان والإيقاعات، وأطبعهم في الغناء، وأحسنهم صوتا.»
48
ثم أبو عيسى بن هارون الرشيد المشهور (كما أسلفنا) بجماله: «كان أحسن الناس وجها ومجالسة وعشرة، وأمجنهم وأحدهم نادرة وأشدهم عبثا»
49
وسبب موته: أنه كان يحب صيد الخنازير، فوقع عن دابته فلم يسلم دماغه.»
50
وتبعهم في ذلك أولاد الخاصة؛ فقد كان حفيد الفضل بن الربيع (وزير الرشيد)، وهو عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع مغنيا ماهرا، وماجنا مستهترا
51
يصطبح في حدائق النرجس، ويعيش عيشة لهو وخلاعة. وأمثالهم كثيرون يطول ذكرهم. وسرت العدوى من أولاد الأغنياء إلى الطبقة الوسطى؛ فكانوا يحتذون حذوهم، ويسيرون على منهاجهم.
تفننوا في فن العمارة، وأجادوا تشييد القصور، ووصفها ابن الجهم فقال:
صحون تسافر فيها العيون
وتحسر عن بعد أقطارها
وقبة ملك كأن النجو
م تصغي إليها بأسرارها
وفواره ثأرها في السماء
فليست تقصر عن ثأرها
إذا أوقدت نارها بالعراق
أضاء الحجاز سنا نارها
ترد على المزن ما أنزلت
على الأرض من صوب أقطارها
لها شرفات كأن الربيع
كساها الرياض بأنوارها
ويصف أحدهم شيئا من قصر الواثق فيقول: «لم يزل الخدم يسلمونني من خدم إلى خدم، حتى أفضيت إلى دار مفروشة الصحن، ملبسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب، ثم أفضيت إلى رواق أرضه وحيطانه ملبسة بمثل ذلك، وإذا الواثق في صدره، على سرير مرصع بالجوهر، وعليه ثياب منسوجة بالذهب، وإلى جانبه «فريدة» جاريته، عليها مثل ثيابه، وفي حجرها عود.» إلخ.
52
وبالغوا في الموائد وتنسيقها، وألوان طعومها، فوصف العماني الشاعر ما أكل على مائدة محمد بن سليمان بن علي، فقال:
جاءوا بفرني لهم ملبون
بات يسقى خالص السمون
53
مصومع أكوم ذي غضون
قد حشيت بالسكر المطحون
ولونوا ما شئت من تلوين
من بارد الطعام والسخين
ومن شراسيف ومن طردين
ومن هلام ومصيص جون
54
ومن أوز فائق سمين
ومن دجاج فت بالعجين
فالشحم في الظهور والبطون
وأتبعوا ذلك بالجوزين
وبالخبيص الرطب واللوزين
وفكهوا بعنب وتين
والرطب الأزاذ والهيرون
55
ويقول أبو العتاهية: دعيت إلى بيت مخارق (أحد المغنين) فجئته، فأدخلني بيتا نظيفا فيه فرش نظيف، ثم دعا بمائدة عليها خبز سميذ، وخل وبقل وملح، وجدي مشوي فأكلنا منه، ثم دعا بسمك مشوي فأصبنا منه حتى اكتفينا، ثم دعا بحلواء فأصبنا منها وغسلنا أيدينا وجاءونا بفاكهة وريحان، وألوان
56
من الأنبذة فقال: اختر ما يصلح لك منها، فاخترت وشربت.»
57
وكان ذلك قبل أن يتزهد.
وقل ما شئت في مجالس اللهو والشراب، وما كان يجري فيها من خلاعة ومجون امتلأ بوصفها كتاب الأغاني، ودواوين الشعراء مثل بشار، وأبى نواس، ومسلم بن الوليد.
58
أولعوا بالغناء وتفننوا فيه، وأبدعوا في مجالسه من ملح وتنادر وشراب، وغير ذلك، وذهبوا فيه مذهبين جديد وقديم، وتعصب كل فريق لمذهب.
59
ولعبوا بالنرد والشطرنج وغلوا فيهما
60
وعنوا بتربية الحمام، وتغالوا في أثمانه،
61
وتهارشوا بالديوك والكلاب،
62
ولعب أبو نواس بالكلاب زمانا حتى عرف منها ما لا تعرفه الأعراب،
63
وانتشر القمار حتى في حانات الفقراء
64
وأولعوا بالنقش والتصوير فكثر رسم الصور على الكأس كما في شعر بشار وأبى نواس، ورثى أبو الشبل مسرجة له مصورة تصويرا بديعا كسرها كبش له،
65
وأغربوا في الهدايا يوم النيروز يبدعون فيها نقشا وتصويرا. ورقصوا فكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي يجيد الرقص، واشتهر في عصره بالرقص جماعة.
66
وأحبوا البساتين وأكثروا الخروج إليها، والأزهار يزينون بها موائدهم، ويتغزلون في لونها وعبيقها،
67
إلى كثير من أمثال ذلك.
كثر النعيم، وكثر العنصر الفارسي العريق في المدينة، الممعن في الترف، وكثر الجواري يجلبن من الأصقاع المختلفة، وكثر الجمال وسفر؛ إذ لم تكن عامة الإماء يطالبن بحجاب، فقويت النزعة إلى اللهو والخلاعة والمجون التي وصفنا، وشعر قوم من الشعراء بهذه النزعة من الناس أمثال بشار وصريع الغواني وأبي نواس، فقادوا زمامها وألهبوها ، وسهلوا السبيل لها.
إن سكر القوم شعروا بالحاجة إلى أبيات من الشعر تروي عاطفتهم، وتزين لهم عملهم، وتحملهم على المضي في شربهم؛ رأوا في شعر هؤلاء إرواء لغلتهم، وإن تشببوا في فتاة أو غير فتاة فشعر الشعراء كفيل أن يجدوا فيه بغيتهم في صريح من القول غير كناية، وبشار يخصص يومين في الأسبوع للمتطرفات من النساء يأخذن عنه شعره الماجن، وينشرنه في الناس.
فلا عجب إن رأينا الحياة لاهية لاعبة، ورأينا شعر الشعراء في ذلك العصر إلا القليل منهم داعرا فاجرا.
وهنا ظاهرة واضحة، وهو أن هذا العراق الذي كان في العصر الأموي جادا إذا قيس بغيره من الشام والحجاز
68
أصبح الآن في العصر العباسي لاهيا، بل هو محط أنظار اللاهين، وسائر الأمصار إنما تقتبس من لهوه.
والسبب في ذلك أمور أهمها - على ما يظهر - شيئان؛ الأول: المال؛ فالعراق كان مصب أموال المملكة الإسلامية الغنية - بحكم أنه مركز الخلافة - والمال كل شيء في اللهو يتبعه حيث يكون الترف، وإنما يكون الترف حيث يكون المال، والعراق أكثر البلدان مالا، وأعزه جاها، وكل نابغ في فن - ومنه الأدب - إنما ينفق سوقه في العراق، ومن نبغ في غيره ولم يرحل إليه خمل ذكره، وضاع فنه، فأي مغن مشهور لم يكن في العراق؟ وأي نابغة في الشعر لم يكن في العراق؟ وأي جارية امتازت بجمال أو غناء لم تكن في العراق؟
والسبب الثاني: أن العراق كان أكثر بلاد الله خليطا، فقديما تعاقبت عليه أمم مختلفة، ومدنيات متتابعة، وفي العصر العباسي كان حاضرة الخلافة، وكان مقصد الأمم. وكان مسكن العنصر الأرستقراطي من الفرس، وكان محط الراحلين من الهند والروم وغيرهم. وكان يجلب إليه أحاسن الرقيق من كل جنس، ولهؤلاء جميعا تاريخ في اللهو، وإمعان في الحضارة، وتفنن في التر ف، فلما حلوا بالعراق ووجدوا السبل ممهدة عرضت كل أمة فنها، وأنواع حضارتها، فكان من ذلك معرض عام أخذ العراق من كل شيء منه بحظ وافر، وأخذت البلدان الأخرى من العراق بقبس. •••
ولكن من الحق أن نقول: إن هذا الوصف الذي وصفنا ليس حال الناس جميعهم، فما كانوا كلهم أغنياء ولا كلهم هازلين، وما كان ذلك لأمة من الأمم في أي عصر من العصور، وما كان العالم الإسلامي كله هو العراق وملاهيه، ولا كان العراق كله يحيا هذه الحياة؛ فإن أنت قرأت كتاب الأغاني، وتنقلت في صحفه من ضرب من اللهو إلى ضرب، أو قرأت ديوان أبي نواس فرأيت أكثره خمرا ومجونا، فلا تظن أن ذلك يمثل حياة العصر بأجمعها، إنما هو يمثل ناحية واحدة من نواحيها المتعددة، ووجوهها المختلفة، وعذر الأغاني أنه ألف في طبقات المغنين، والمغنون في كل عصر موطن اللهو وبيئة المجون.
على أننا نريد أن ننبه على أمر فطن له ابن خلدون وهو: وضع الأخبار الكاذبة في الملاذ تقربا إلى الكبراء، فكانوا يبالغون في أخبار الملاهي ليغروهم عليها، وليكسبوا هم من وراء ذلك مالا أو جاها أو نحوهما.
حور وولدان ومن كل ما
تطلبه فيها سوى الناس!
ويقول آخر:
أذم بغداد والمقام بها
من بعد ما خبرة وتجريب
ما عند سكانها لمختبط
خير ولا فرجة لمكروب
69
يحتاج باغي المقام بينهمو
إلى ثلاث من بعد تتريب
كنوز قارون أن تكون له
وعمر نوح وصبر أيوب
كما كرهها جماعة من أهل الورع والصلاح والزهاد، وعلتهم في الكراهية ما عاينوا بها من الفجور والظلم والعسف، وكان بعض الصالحين إذا ذكرت عنده بغداد يتمثل:
قل لمن أظهر التنسك في النا
س وأمسى يعد في الزهاد
الزم الثغر والتواضع فيه
ليس بغداد منزل العباد
إن بغداد للملوك محل
ومناخ للقارئ الصياد
70
ويقول بشر بن الحارث: «بغداد ضيقة على المتقين؛ لا ينبغي لمؤمن أن يقيم بها.»
71 •••
كانت كثرة الأموال بالعراق ووفرة ما يحمل إليها من خراج الأقطار سببا في ارتفاع الأسعار، وذلك إن احتمله الأغنياء فإنه يبئس الفقراء، وقد شكا أبو العتاهية ذلك، وصوره تصويرا دقيقا فقال:
من مبلغ عني الإما
م نصائحا متواليه
إني أرى الأسع
ار أسعار الرعية عالية
لم تكن أموال الدولة موزعة توزيعا متفاوتا ، ولا كانت الفروق بين الطبقات فروقا طفيفة، إنما كانت هناك هوات سحيقة بين الطبقات، فكثير من مال الدولة ينفق على قصور الخلافة والأمراء ورؤساء الأجناد وعمال الدولة، وهم ينفقون جزافا على المقربين من أدباء وعلماء ومغنيين وجوار، وأتباع وطبقة تجار ومن إليهم، وهؤلاء في درجة من الثروة دون الأولى، وعامة الشعب يفشو فيهم الفقر والبؤس. كانت بغداد تعجب أرباب الأموال لما يجدون فيها من عيش رغد وهناءة ونعيم:
كانت بغداد تعج بأرباب الأموال لما يجدون فيها من عيش رغد وهناءة ونعيم.
أعاينت في طول من الأرض والعرض
كبغداد دارا أنها جنة الأرض؟
صفا العيش في بغداد واخضر عوده
وعيش سواها غير صاف ولا غض
تطول بها الأعمار إن غذاءها
مريء وبعض الأرض أمرأ من بعض
72
فأما الفقراء وذوو الحاجة فضاقت عليهم بغداد بما رحبت، ولم يستطيعوا العيش فيها ولا المقام بها:
بغداد دار طيبها آخذ
نسيمها منى بأنفاسي
تصلح للموسر لا لامرئ
يبيت في فقر وإفلاس
لو حلها قارون رب الغنى
أصبح ذا هم ووسواس
هي التي نوعد لكنها
عاجلة للطاعم الكاسي
وأرى المكاسب نزرة
وأرى الضرورة فاشيه
وأرى غموم الدهر را
ئحة تمر وغادية
وأرى اليتامى والأرا
مل في البيوت الخالية
من بين راج لم يزل
يسمو إليك وراجيه
يشكون مجهدة
بأصوات ضعاف عاليه
يرجون رفدك كي يروا
مما لقوه العافيه
من يرتجى للناس
غيرك للعيون الباكية
من مصبيات جوع
تمسي وتصبح طاوية
من يرتجى لدفاع كر
ب ملمة هي ماهية
من للبطون الجائعا
ت للجسوم العارية
يا ابن الخلائف لا فقد
ت ولا عدمت العافية
إن الأصول الطيبا
ت لها فروع زاكية
ألقيت أخبارا إليك
من الرعية شافية
73 •••
كان المال عرضة أن يأتي في طرفة عين، ويذهب في طرفة عين؛ ذلك لأن عطاء الخلفاء والأمراء والولاة إذ ذاك كان لا يقف عند حد، ومصادرتهم للأموال لا تقف كذلك عند حد، قد يعجب أحدهم من غمة المغني، أو بيت الشعر أو الكلمة الطيبة، أو الجواب الحسن فيهب الألوف، وقد يكره ذلك فيهدر الدم، ويصادر المال!
وصف العتابي هذه الحالة في عصره فقد سئل: لم لا تتقرب بأدبك إلى السلطان؟ فقال: «لأني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شيء، ويرمي من السور في غير شيء، ولا أدري أي الرجلين أكون!»
74
والمفضل الضبي يدعوه رسول المهدي، فيخاف ويتوهم السعاية به، ثم يتطهر ويلبس ثوبين استعدادا للموت فإذا مثل بين يديه سلم فرد عليه، فلما سكن جأشه سأله عن أي بيت قالته العرب أفخر، ثم سأله مسائل أخرى، فلما أحسن الجواب سأله عن حاله فشكا إليه دينه فأمر لهم بثلاثين ألف درهم.
75
وحكى الجاحظ في كتابه الحيوان: أن أبا أيوب المورياني وزير المنصور بينا هو جالس في أمره ونهيه إذ أتاه رسول أبي جعفر فامتقع لونه، وطارت عصافير رأسه، وذعر ذعرا نقض حبوته، واستطار فؤاده، ثم عاد طلق الوجه، فتعجبنا من حاله وقلنا له: إنك لطيف الخاصة، قريب المنزلة، فلم ذهب بك الذعر واستفزعك الوجل؟ فقال: سأضرب لكم مثلا من أمثال الناس: زعموا أن البازي قال للديك: ما في الأرض شيء أقل وفاء منك! قال: كيف؟ قال: أخذك أهلك بيضة فحضنوك، ثم خرجت على أيديهم فأطعموك على أكفهم، حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت هاهنا وهاهنا وضججت وصحت، وأخذت أنا من الجبال فعلموني، وألفوني، ثم يخلى عني فآخذ صيدي في الهواء فأجيء به إلى صاحبي! فقال له الديك: إنك لو رأيت من البزاة في سفافيدهم مثل ما رأيت من الديوك، لكنت أنفر مني. ولكنكم أنتم لو علمتم ما أعلم لم تتعجبوا من خوفي مع ما ترون من تمكن حالي.»
76
ولما قتل المأمون الفضل بن سهل عرضت الوزارة على أحمد بن أبي خالد فأبى، وقال: لم أر أحدا تعرض للوزارة وسلمت حاله.
77 «وكانوا يرفعون الأخبار إلى المأمون ولو لم تصح بالعدول، ويقول صاحب الخبر: لو لم نرفع إلا ما يثبت بالعدول لم يتهيأ ذلك في السنة إلا مرة أو مرتين.»
78
ودعي محمد بن الحارث بن بسخنر إلى الواثق في يوم لم يكن يدعى فيه فقال: داخلني فزع شديد وخفت أن يكون ساع قد سعى بي، أو بلية قد حدثت في رأي الخليفة علي، فتقدمت بما أردت.» إلخ، وكانت النتيجة أن غناه فأمر له بعشرة آلاف درهم وتخوت.
79
ووشي برجل يقال له «الفضيل بن عمران» إلى أبي جعفر المنصور، وكان المنصور جعله كاتب ابنه جعفر وولى أمره، وشي به أنه يعبث بجعفر، فبعث المنصور برجلين، وأمرهما أن يقتلا الفضيل حيث وجداه، وكتب إلى جعفر يعلمه أمرهما به وقال: لا تدفعا الكتاب إلى جعفر حتى تفرغا من قتله، فضربا عنقه! وكان الفضيل رجلا عفيفا دينا! فقيل للمنصور: إن الفضيل كان أبرأ الناس مما رمي به، وقد عجلت عليه. فوجه رسولا وجعل له عشرة آلاف درهم إن أدركه قبل أن يقتل. فقدم الرسول قبل أن يجف دمه، وقد استنكر ذلك جعفر وقال لمولاه سويد: «ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل عفيف دين مسلم بلا جرم ولا جناية؟ فقال سويد: هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء وهو أعلم بما يصنع.» إلخ.
80
أنتجت هذه الحياة التي وصفنا من رفاهية قوم وبؤس آخرين، ولهو قوم وجد آخرين؛ حركتين ظاهرتين في تاريخ هذا العصر:
أولاهما: ظهور فرقة المتطوعة للنكير على الفساق ببغداد. يقول الطبري في سبب ظهورهم: «إن فساق الحربية
81
والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذى شديدا وأظهروا الفسق، وقطع الطريق، وأخذ الغلمان والنساء من الطرق، لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم، لأن السلطان كان يعتز بهم، وكانوا بطانته فلا يقدر أن يمنعهم من فسق يركبونه. فلما رأى الناس ذلك، وما قد أظهروا من الفساد في الأرض والظلم والبغي وقطع الطريق، وأن السلطان لا يغير عليهم قام صلحاء كل ربض، وكل درب فمشى بعضهم إلى بعض ... إلخ.»
وكان لهذه الحركة زعيمان، لكل زعيم برنامج، فأما أحدهما: وهو خالد الدريوش فبرنامجه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولكنه لا يثور على السلطان، فهو يطلب الإصلاح، ويتولاه في حدود الطاعة للحكومة، والزعيم الآخر : سهل بن سلامة الأنصاري، برنامجه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كذلك، والعمل بكتاب الله وسنته، ومقاتلة من خالفه، كائنا من كان، سلطانا أو غيره. ويقول الطبري: إنه تبعهما خلق كثير وكان كل من أجاب سهلا هذا عمل على باب داره برجا بجص وآجر ونصب عليه السلاح والمصاحف، وكان ذلك سنة 201 وسنة 2020ه وقد انتهى أمرهما بالقبض عليهما وحبسهما.
82
وظاهر أن الذي دعا إلى هذه الحركة كما يقول ابن خلدون: «توافر أهل الدين والصلاح على منع الفساق وكف عاديتهم.» وقد استمرت هذه الحركة تبدو حينا وتخمد حينا، فقد جاء بعدهم فرقة الحنابلة تدعو كذلك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يطول ذكره.
ثانيتهما: حركة الزهد؛ ذلك أن قوما يئسوا من الغنى، ورأوا أن نفوسهم لا تطاوعهم للقرب من ذوي الجاه، أو حاولوا ذلك ففشلوا فلجئوا إلى القناعة يرضون أنفسهم عليها، وقالوا: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون!
وقوما عافت نفوسهم ما رأت من شهوات لا حد لها، ورأوا أن النفس إذا نالت ما طمحت تفتحت أمامها شهوات وشهوات، وللوصول إلى كل شهوة متاعب وعقبات، ففضلوا أن يقمعوها، وقالوا مع القائل:
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فإن أهملت تاقت وإلا استقرت
أو مع الآخر:
والنفس راغبة إذا رغبتها
وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقوما يئسوا من حب، أو صدموا صدمة عنيفة في منصب أو جاه أو مال؛ فلم يجدوا إلا الزهد يركنون إليه ويأنسون به، ويتسلون به عما فقدوا.
وكثيرا زهدوا تدينا لما في الزهد من خفة المؤونة، وسهولة الحساب، يقولون كما قال محمد بن واسع: «يعجبني أن يصبح الرجل وليس عنده غداء، ويمسي وليس له عشاء، وهو مع ذلك راض عن الله!» صرفوا نفوسهم عن الشهوات، وأكثروا من ذكر الموت والقبور، وعدوا أنفسهم في الموتى، وآثروا ما يبقى على ما يفنى، ورفضوا أن يمدوا أيديهم لأخذ عطاء من خليفة أو وال، وقدموا بالقليل، كالذي فعل إبراهيم بن إسحاق الحربي؛ عاش أكثر عمره على كسر يابسة وملح، وربما عدم الملح ، ورفض أن يأخذ ألف دينار بعث بها إليه المعتضد، وأنفق مرة في شهر رمضان كله درهما وأربعة دوانيق ونصفا.
83
كل هذه الأصناف كان منها في العصر الذي نؤرخه، وكما كان بشار وأبو نواس وأضرابهما يمثلون نزعة اللهو، ويضرمون نارها كان أبو العتاهية يعبر عن نزعة الزهد، ويروي نخلة الزاهدين؛ فإن قال أبو نواس في الدعوة إلى اللهو:
جريت مع الهوى طلق الجموح
وهان علي مأثور القبيح
وجدت ألد عارية الليالي
قران النغم بالوتر الفصيح
ومسمعة متى ما شئت غنت
متى كان الخيام بذي طلوح
تمتع من شباب ليس يبقى
وصل بعرى الغبوق عرى الصبوح
قال أبو العتاهية:
رغيف خبز يابس
تأكله في زاويه
وكوز ماء بارد
تشربه من صافيه
وغرفة ضيقة
نفسك فيها خاليه
أو مسجد بمعزل
عن الورى في ناحيه
تدرس فيه دفترا
مستندا بساريه
معتبرا بمن مضى
من القرون الخاليه
خير من الساعات في
فيء القصور العاليه
تعقبها عقوبة
تصلي بنار حاميه
فهذه وصيتي
مخبرة بحاليه
طوبى لمن يسمعها
تلك لعمري كافيه
فاسمع لنصح مشفق
يدعى أبا العتاهية
والناس يتنازعون أيهما أشعر، أبو نواس أم أبو العتاهية، وليسوا يفضلون أحدهما في الحقيقة استنادا إلى الناحية الفنية، وإنما كلاهما يمثل نزعة خاصة، وكل فريق يفضل من عبر عن نفسه، وجلى نزعته. •••
كان للحالة الاجتماعية التي ألممنا بها نتائج علمية وأدبية وفنية.
من ذلك: أن غزارة الأموال في يد الخلفاء والولاة ومن إليهم، ووفرة عطاياهم وقلة الأموال في يد سواهم؛ جعلت الفنون الجميلة ومنها الشعر لا تزهر إلا في أحضان الخلفاء ومن إليهم، وتذبل في غير جوهم. قد كان من المعقول أن يفيض شعور الرجل وتهيج عواطفه وتغلي نفسه فينطق بالشعر يهدئ من شعوره، ويخفف من غليانه، لا يرجو من ذلك إلا إرواء لعاطفته الفنية، وهذا هو كل مطمحه في الثواب. وكان من المعقول أن يجيد الفنان إشباعا لنهمه الفني، في فقر أو غنى، ورخاء أو شقاء، ولكن يظهر أن قليلا كان عندهم هذا السمو الفني، وأكثرهم رأى أن قليلا من الفن وأبياتا من الشعر إذا لوحظ فيها ذوق الممدوح لا ذوق الفن تدر عليه من الأموال ما لا يحلم به، وهو إذا أرضى عاطفته عاش عيشة كفاف، فاندفع يطلب هوى الخليفة أو الأمير، وسال السيل وجرى التيار كله، إلا القليل النادر، نحو القصور، يقفون بأبوابها الأيام والشهور، حتى يؤذن لهم، وأصبح الشعراء والفنانون أداة من أدوات الزينة، وطرفة جميلة تحلى بها الدور والقصور، ولهم في ذلك بعض العذر، فمن من هؤلاء يرى من هو أقل منه - شعرا وفنا - يعمل بيتين أو ثلاثة في مدح أمير فينال عشرة آلاف درهم، ثم تقوى نفسه وتسمو همته، ويترفع عن أن يسلك مسلكه ويجري مجراه؟ كذلك الشأن في الغناء، يقول الأصفهاني: إن مجموع ما أخذ إبراهيم الموصلي من الرشيد كان أكثر من مائتي ألف دينار.
84
ولا تكاد تقرأ صفحة من الأغاني حتى تجد فيها شاعرا يمدح، وألوفا تمنح! ومهما كان في هذه القصص من المبالغة فالأساس صحيح.
كان من نتائج هذا أن أصبح أكبر مجرى يصب فيه الشعر هو المديح، وهو باب أبعد ما يكون في نظرنا عن الشعر الصحيح، وتعاقب الشعراء يصوغون معانيه السائغة وغير السائغة، حتى ارتشفوا آخر نقطة منها، بينما الأبواب الأخرى من وصف عاطفة سامية، وتحليل لشعور بجمال الطبيعة وجمال الزهور، ونحو ذلك لم تمس إلا مسا رقيقا.
وكان من نتائج هذا أيضا أن مؤرخ الأدب والفن في هذا العصر يكاد لا يؤرخ إلا العراق، فأما مصر والشام والحجاز فأدبها أدب خفيف، وفنها لا يكاد يؤبه له، وكل نابغ في شعر أو فن لا يجد مشتريا لسلعته إلا العراق.
ونرى أن الأدب أصبح يمثل هاتين النزعتين البارزتين خير تمثيل؛ نزعة اللهو، ونزعة الزهد، فأما نزعة اللهو فما قيل في الخمر والنسيب وما إليهما، وتجد ذلك في دواوين الشعراء أمثال أبي نواس ومسلم بن الوليد، وفي كتاب الأغاني. وأما نزعة الزهد؛ فما قيل في الموت والبعث والحساب، وما قيل في حياة الزهاد ومأثور قولهم وفعلهم. وعقدت الفصول الطوال تشرح نفسيتهم وتروي حكمهم؛ فنرى الجاحظ في الجزء الثالث من كتاب البيان والتبيين يضع كتابا يعنونه «كتاب الزهد» يقول في أوله: «نبدأ باسم الله وعونه بشيء من كلام النساك في الزهد، وبشيء من ذكر أخلاقهم ومواعظهم.» وصارت هذه الأقوال والقصص تغذي هذا الفريق من الناس الذين زهدوا في الحياة، وأصبحنا نرى المؤلفين في الأدب بعده ينسجون على منواله، ويجعلون باب الزهد ركنا من أركان الأدب؛ فابن قتيبة يخصص كذلك بابا للزهد في كتابه عيون الأخبار، وابن عبد ربه في العقد الفريد وهكذا، وتقرأ هذه الفصول فتراها تمثل حياة هي على النقيض من اللهو.
أما العلم فقد كان هناك علمان: علم ديني، وعلم دنيوي إن صح هذا التعبير؛ فأما العلم الدنيوي من فلسفة وطب ورياضة وفلك، فقد نما كذلك في كنف الخلفاء والأمراء والأغنياء، وقل أن تجد عالما في ذلك العصر في علم من هذه العلوم إلا كان له أمير أو غني يمده بمعونته، ولذلك كانوا نسبيا في سعة من العيش.
أما العلم الديني فقد كان الباعث عليه أخرويا غالبا، فنما وأزهر خارج القصور أيضا، كعلم التفسير والحديث، ومن أجل هذا أيضا لم يكن نمو هذا النوع من العلم وإزهاره قاصرا على العراق، بل تجده حيث الباعث الديني، في كل قطر وكل إقليم، فإذا أنت أرخت لعلوم القرآن وعلوم الحديث، أو علوم اللغة، أرخت لمصر والشام والحجاز كما أرخت للعراق، وتقرأ تراجم هؤلاء العلماء فترى في أكثرهم فقرا مدقعا، وبؤسا واضحا، ورضى بالقليل، وأمثلة ذلك لا تحصى.
وسيأتي عند الكلام في الحركة العلمية وصف ما كان لهؤلاء العلماء من جد في طلب، واحتمال نصب، وسفر بعيد، في فقر شديد؛ مما يدعو إلى الإعجاب، ويعد المثل الأعلى للحياة العلمية.
الفصل السادس
حياة الزندقة وحياة الإيمان
كما قد رأينا في الفصل السابق حياة فيها لهو ومجون، ونعيم ورخاء، وحياة فيها جد وزهد وبؤس وشقاء؛ نرى في هذا الفصل ألوانا أخرى من الحياة؛ هي حياة القلب والعقل ، والعاطفة والدين، فنرى صراعا بين الشك والزندقة والإلحاد، وبين الإيمان الخالص والاعتقاد الصادق. ويخيل إلينا ونحن نقرأ تاريخ هاتين الحركتين أننا في موقف قتال مستعر، تستخدم فيه كل وسائل الحروب؛ فخدع ومكايد ووسائل سرية أحيانا، ولجوء إلى السيف وسفك للدماء أحيانا، وعقد مجالس ومقارعة بالحجج أحيانا، ثم الحرب سجال؛ يوم ينتصر فيه الملحدون بما يثيرون من شكوك وأوهام، وبما يضللون من ناشئة وشبان، فإن عجزوا ظاهرا استعملوا طريق الغواية سرا، تحت مظهر التشيع، أو الغيرة على الإسلام أو نحو ذلك، ويوم ينتصر فيه المؤمنون فينكلون بالملحدين تنكيلا، ويوقعون بهم قتلا وتشريدا، ثم بما يؤلفون من كتب ينقضون شبههم، ويبطلون حججهم.
ولكن لم يعن المؤرخون بتسجيل هذه الحرب ووقائعها كما عنوا بتسجيل الحروب السياسية، إنما يعثر الباحث في ثنايا الكتب على نتف مبعثرة، قد يستطيع في عناء أن يؤلف منها وحدة، ويكون منها سلسلة متصلة الحلقات.
الزندقة:
نلاحظ في هذا العصر الذي نؤرخه تردد كلمة «الزندقة» على الألسنة، وكثرة اتهام الناس بها حقا وباطلا، وتنبه الرأي العام إلى هذا المعنى تنبها دقيقا؛ فهم يسمعون شعر الشاعر فسرعان ما يلتفتون إلى شيء فيه يتهمونه من أجله بالزندقة، أو يرون فعلا صدر من إنسان، أو كلمة قالها جدا أو هزلا، أو إشارة أشار بها فيرمونه بالزندقة.
1
ونحن إذا قارنا بين انتشار هذه الكلمة في العصر الأموي والعصر العباسي، وجدنا استعمال الكلمة في العصر الأموي قليلا نادرا، وفي العصر العباسي فاشيا شائعا؛ فمثلا اتهم عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب الوليد بن يزيد بن عبد الملك بالزندقة في العصر الأموي، واتهم الوليد بن يزيد كذلك، ولكن هذا قليل نادر، أما في العصر العباسي فالأخبار بالزندقة مستفيضة، والمتهمون بها كثيرون.
والسبب في ذلك: أن الزندقة في بعض معانيها (وهو الشك أو الإلحاد) إنما تقترن عادة بالبحث العلمي، وهو في العصر العباسي أبين وأظهر، ذلك أن العلم الذي كان شائعا في العصر الأموي كان العلم الديني؛ من جمع للحديث وتفسير للقرآن الكريم، واستنباط الأحكام الشرعية منهما . وهذه لا تثير في النفوس شكوكا تبعث على الزندقة ، إنما الذي قد يثير هذه الشكوك مذاهب الكلام، والجدال الديني حول المسائل الأساسية في الأديان، والبحث الفلسفي على النحو الذي يبحثه أرسطو وأفلاطون في المادة والصورة، والجزء الذي لا يتجزأ والجوهر والعرض، وما إلى ذلك. وهذه الأشياء كانت قليلة في العصر الأموي، وهي وفيرة جدا في العصر العباسي.
وسبب ثان هو أن بعض الفرس رأوا أن انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين لم يحقق مطالبهم؛ فقد انتقلوا من يد عربية (وهي اليد الأموية) إلى يد أخرى هي يد العباسيين، ومطمح نفوسهم أن تكون الحكومة فارسية في مظهرها وحقيقتها، في سلطتها ولغتها ودينها، ورأوا أن ذلك لا يتحقق والإسلام في سلطانه، فأخذوا يعملون لنشر المانوية والزرادشتية والمزدكية ظاهرا إن أمكن، وخفية إذا لم يمكن، فكان من ذلك فشو الزندقة.
يضاف إلى ذلك أن الدولة الأموية - كما قدمنا - كانت دولة العرب، فالحكم في أيديهم والملك لهم، وولاتهم ورجالهم عرب، والموالي أذلاء مضطهدون. والعرب لا تعرف الزندقة كثيرا، ولا تميل إليها؛ فهم مطمئنون إلى ملكهم وإلى دينهم، فلما أتت الدولة العباسية انتعش الموالي، وخاصة الفرس، وأصبح أكثر السلطان في أيديهم، وغلبوا على العرب، وقد كانت لهم ديانات سابقة لم ينسوها جميعا لما اعتنقوا الإسلام، وكانوا لا يجرءون في الحكم الأموي أن ينبسوا بكلمة، وكان همهم الأول أن يتحرروا سياسيا لا دينيا، فكانت دعواتهم السرية واجتماعاتهم وتدابيرهم للسياسة لا الدين. والزندقة إنما هي في الدين لا في السياسة، فلما نجحوا واطمأنوا وغلبوا بدأت تلعب في رءوسهم الديانات القديمة والجديدة فكانت الزندقة.
نرى اسم الزنادقة مقرونا بالمجان في عهد أبي جعفر المنصور، فيذكر الطبري: «المنصور وجه مع محمد بن أبي العباس بالزنادقة والمجان، فكان فيهم حماد عجرد، فأقاموا معه بالبصرة يظهر منهم المجون، وإنما أراد بذلك أن يبغضه إلى الناس.»
2
وكان محمد بن أبي العباس مرشحا للخلافة، فأراد من إحاطته بالزنادقة والمجان أن يكرهه الناس، فيتسنى له أن يرشح ابنه المهدي، ولعل ذلك كان سببا في لفت نظر المهدي إلى الزنادقة، فقد كان قرب محمد بن أبي العباس منهم مبعدا له عن الخلافة، فليتقرب هو إلى الله وإلى الناس باضطهادهم!
على كل حال لم يعرف عن المنصور إمعان في اضطهادهم، وكانت سياسته - على ما يظهر - قمع الفتن الظاهرة فقط. فلما جاء المهدي كان من أظهر المسائل في تاريخه تنكيله بالزنادقة، والفحص عنهم؛ فقد عين رجلا وكل إليه أمرهم سماه «صاحب الزنادقة». يقول في الأغاني: «لما نزل المهدي البصرة كان معه حمدويه صاحب الزنادقة، فدفع إليه بشارا، وقال: اضربه ضرب التلف.»
3
وقال في موضع آخر: «أمر المهدي (عبد الجبار) صاحب الزنادقة فضرب بشارا.»
4
وهذه أول مرة نسمع فيها بتعيين رجل خاص يعهد إليه أمرهم، يبحث عنهم، وينكل بهم. ويقول الطبري في حوادث سنة 167: وفيها جد المهدي في طلب الزنادقة، والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم، وولى أمرهم «عمر الكلواذي».
5
ويقول المسعودي في المهدي: «إنه أمعن في قتل الملحدين والمداهنين عن الدين لظهورهم في أيامه، وإعلانهم باعتقاداتهم في خلافته لما انتشر من كتب ماني، وابن ديصان
6
ومرقيون؛ مما نقله عبد الله بن المقفع وغيره، وترجمه من الفارسية والفهلوية إلى العربية، وما صنف في ذلك ابن أبي العوجاء
7
وحماد عجرد، ويحيى بن زياد، ومطيع بن إياس من تأييد المذاهب المانوية والديصانية
8
والمرقونية، فكثر بذلك الزنادقة، وظهرت آراؤهم في الناس. وكان المهدي أول من أمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين ممن ذكرنا من الجاحدين وغيرهم، وأقاموا البراهين على المعاندين، وأزالوا شبه الملحدين فأوضحوا الحق للشاكين.»
9
إذن قام المهدي بعملين نحو الزنادقة؛ إنشاء إدارة للبحث عنهم ومحاكمتهم، وإنشاء هيئة علمية لمناظرتهم، وتأليف الكتب للرد عليهم.
وعلى الجملة؛ فقد كان المهدي شديد الاهتمام بهذه الفئة، حتى لم ينس أن ينصح ابنه إذا قلد الأمر أن ينكل بهم، فالطبري يذكر: «أن المهدي قال لموسى (هو ابنه الهادي) يوما وقد قدم إليه زنديق فاستتابه فأبى أن يتوب، فضرب عنقه وأمر بصلبه: يا بني إن صار لك هذا الأمر فتجرد لهذه العصابة (يعني أصحاب ماني)؛ فإنهم فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش، والزهد في الدنيا، والعمل للآخرة، ثم تخرجها إلى تحريم اللحم، ومس الماء الطهور، وترك قتل الهوام تحرجا وتحوبا، ثم تخرجها من هذا إلى عبادة اثنين أحدهما النور، والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات، والاغتسال بالبول، وسرقة الأطفال من الطرق لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور، فارفع فيها الخشب، وجرد فيها السيف، وتقرب بأمرها إلى الله لا شريك له؛ فإني رأيت جدك العباس في المنام قلدني بسيفين، وأمرني بقتل أصحاب الاثنين.» «فقال موسى بعد أن مضت من أيامه عشرة أشهر: أما والله لئن عشت لأقتلن هذه الفرقة كلها، حتى لا أترك منها عينا تطرف. ويقال إنه أمر أن يهيأ له ألف جذع، فقال هذا في شهر كذا، ومات بعد شهرين.»
10
وقد أنفذ الهادي وصية أبيه، فكان يقتل الزنادقة، ويروي الطبري في حوادث سنة 169: أن الهادي اشتد هذه السنة في طلب الزنادقة، فقتل منهم فيها جماعة؛ فكان ممن قتل منهم يزدان بن باذان كاتب يقطين، وابنه علي بن يقطين من أهل النهروان. ذكر عنه أنه حج فنظر إلى الناس يهرولون في الطواف فقال: ما أشبههم إلا ببقر تدوس في البيدر. وله يقول العلاء ابن الحداد الأعمى:
أيا أمين الله في خلقه
ووارث الكعبة والمنبر
ماذا ترى في رجل كافر
يشبه الكعبة بالبيدر
11
ويجعل الناس إذا ما سعوا
حمرا تدوس البر والدوسر
12
فقتله موسى ثم صلبه.
13
ولما ولي هارون الرشيد سلك سبيل من قبله من الخلفاء في تعقب الزنادقة، فيحدثنا الطبري في حوادث سنة 171 أن الرشيد في هذه السنة أمن من كان هاربا أو مستخفيا، غير نفر من الزنادقة، منهم يونس بن فروة، ويزيد بن الفيض.
14
حتى المأمون بلغه خبر عشرة من الزنادقة من أهل البصرة، يذهبون إلى قول «ماني»، ويقولون بالنور والظلمة، فأمر بحملهم إليه بعد أن سموا واحدا واحدا؛ فكان يدعوهم رجلا رجلا، ويسألهم عن دينهم فيخبرونه بالإسلام فيمتحنهم بأن يظهر لهم صورة ماني، ويأمرهم أن يتفلوا عليها، ويتبرءوا منها، ويأمرهم بذبح طائر ماء وهو الدرج، وقد أبوا ذلك فقتلهم.
15
وفي عهد المعتصم كانت حادثة عظمى في تاريخ الزندقة، وهي محاكمة «الأفشين» (قائد جيوش المعتصم)؛ فإنه لما شق عصا الطاعة اتهم بالزندقة، وألفت محكمة لمحاكمته، كان من أعضائها محمد بن عبد الملك الزيات، وأحمد بن أبي داود، وقد اتهم الأفشين بجملة تهم: (1)
أنه عمد إلى رجلين كانا قد وجدا بيتا فيه أصنام في أشروسنة، فأخرجا الأصنام منه، وحولاه مسجدا، وصار أحدهما إماما للمسجد، والآخر مؤذنا، فضربهما الأفشين كلا ألف سوط، حتى عريت ظهروهما من اللحم.
وقد دافع عن نفسه، بأنه كان بينه وبين ملوك السعد عهد أن يترك كل قوم على دينهم؛ فكان عمل الإمام والمؤذن تعديا على ما التزمه من حرية الأديان. (2)
واتهم كذلك بأنه عثر في بيته على كتاب قد زين بالذهب والجوهر والديباج، فيه كفر بالله.
ورد على هذه التهمة بالإقرار بها، وأنه ورث الكتاب عن آبائه، والكتاب فيه أدب من آداب العجم، وفيه كفر؛ فانتفع بما فيه من أدب، وترك ما فيه من كفر، ولم يكن بحاجة إلى مال حتى يجرد الكتاب من حليته، وليس شأن الكتاب بعد ذلك إلا شأن كتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك، وهما في منازل القضاة، لم يعترض عليها معترض! (3)
واتهم أيضا بأنه كان يأكل المخنوقة، ويزعم أنها أرطب لحما من المذبوحة، وكان يقتل شاة سوداء كل يوم أربعاء، يضرب وسطها بالسيف، ثم يمشي بين نصفيها ويأكل لحمها.
وقد رد على هذا بأن من شهد عليه بهذه الشهادة، يعترف خصومه بأنه ليس ثقة ولا معدلا، وليس بين منزل الشاهد ومنزل الأفشين باب أو كوة يطلع عليه منها ويتعرف أخباره. (4)
واتهم بأن أهل مملكته كانوا يكتبون إليه باللغة الأشروسنية ما تفسيره بالعربية إلى إله الآلهة، من عبده فلان بن فلان: فماذا أبقى بعد لفرعون إذ يقول
أنا ربكم الأعلى .
وقد أجاب بأن هؤلاء القوم كانوا يكتبون لأبي وجدي كذلك، ولي قبل أن أدخل في الإسلام ، فكرهت أن أضع نفسي دونهم، فتفسد علي طاعتهم. (5)
واتهم خامسا أن أخاه كتب إلى «قوهيار» إنه ليس من ينصر هذا الدين الأبيض (يريد المجوسية) إلا أنا وأنت وبابك؛ فأما بابك فقد قتل نفسه بحمقه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري، ومعي الفرسان وأهل النجدة والبأس، فإن وجهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب، والمغاربة، والأتراك. والعربي بمنزلة الكلب، اطرح له كسرة، ثم اضرب رأسه بالدبوس. وهؤلاء الذباب (يعني المغاربة) إنما هم أكلة راس. وأولاد الشياطين (يعني الأتراك) فإنما هي ساعة حتى تنفد سهامهم، ثم تجول عليهم الخيل جولة، فتأتي على آخرهم، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم.
وخلاصة هذه التهمة العظمى محاولته قلب المملكة الإسلامية، ومحو الخلافة، ومحو الدين الإسلامي، وإعادة المملكة العجمية كما كانت، بلغتها ودينها وسلطانها. وقد أنكر هذا الكتاب، وقال إن عمل أخيه لا يلزمه، ولو صح لكانت هذه حيلة مني، أريد أن أستميله حتى يثق بي، ثم آتي به الخليفة لأحظى به عنده. (6)
واتهم أيضا بتهمة ترك الاختتان.
فقال إنه خاف أن يقطع ذلك من جسده فيموت، وما علم أن في ترك الاختتان الخروج من الإسلام.
فرد إلى الحبس، ومنع عنه الطعام والشراب إلى أن مات، ثم صلب، وأحرق بالنار
16
وقد مدحه أبو تمام أولا بمدائح كثيرة؛ منها:
لقد لبس الأفشين قسطلة الوغى
محشا بنصل السيف غير مواكل
17
وجرد من آرائه حين أضرمت
به الحرب حدا مثل حد المناصل
وسارت به بين القنابل والقنا
عزائم كانت كالقنا والقنابل
18
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى
بعقبان طير في الدماء نواهل
تراه إلى الهيجاء أول راكب
وتحت صبير الموت أول نازل
19
فلما صلب وأحرق عاد فذمه في قصيدة طويلة منها:
قد كان بوأه الخليفة جانبا
من قلبه حرما على الأقدار
فإذا ابن كافرة يسر بكفره
وجدا كوجد فرزدق بنوار
ومنها:
ما زال سر الكفر بين ضلوعه
حتى اصطلى سر الزناد الواري
نارا يساور جسمه من حرها
لهب كما عصفرت شق إزار
طارت لها شعل يهدم لفحها
أركانه هدما بغير غبار
فصلن منه كل مجمع مفصل
وفعلن فاقرة بكل فقار
20
مشبوبة رفعت لأعظم مشرك
ما كان يرفع ضوءها للساري
صلى لها حيا وكان وقودها
ميتا ويدخلها مع الفجار
يا مشهدا صدرت بفرحته إلى
أمصارها القصوى بنو الأمصار
رمقوا أعالي جذعه فكأنما
وجدوا الهلال عشية الإفطار
ويقول التبريزي: «لم يكن الأفشين كافرا، ولا منافقا، وإنما كان رجلا من الفرس اصطفاه المعتصم لحسن طاعته وخدمته، واعتمد عليه في مهام أموره، حتى وكل إليه مقاتلة بابك الخرمي، فمضى إليه في ألوف وأسره، غير أن الحساد أفسدوا ما بينهما، فذكروا للمعتصم: أنه منطو على خلافك، وقالوا للأفشين: إن المعتصم قد عزم على القبض عليك، فانقبض عنه حذرا من القبض عليه. فتحقق للمعتصم بانقباضه ما كان أخبر به عنه، فأخذه وأحرقه وصلبه. وقيل إن السبب في ذلك هو ابن أبي دواد لأمر جرى بينهما.» وليس هنا موضع تحقيق ما اتهم به الأفشين، فمحل ذلك البحث التاريخي، وإنما يهمنا هنا منظر الزندقة، وما وجه إليه من التهم وطريقة محاكمته. •••
وبعد، فماذا كان يفهم من كلمة «الزندقة» في هذا العصر الذي نؤرخه، وماذا يعنون عندما يتهمون رجلا بالزندقة، وماذا كان الباعث عليها؟
الحق إن كلمة «الزندقة» لم يكن معناها واحدا عند الناس على السواء؛ فمعناها في أذهان الخاصة والعلماء غير معناها في أذهان العامة.
فأما العامة وأشباههم؛ فكانوا يطلقون على المستهتر الماجن «زنديقا»؛ فإبراهيم بن سيابة الشاعر كان يرمى بالزندقة، ولم يكن يعرف عنه قول في الدين، إنما كان يعرف عنه أنه كان خليعا ماجنا، طيب النادرة، يحب الغلمان، ويحبه المجان.
21
وآدم حفيد عمر بن عبد العزيز اتهم بالزندقة لأنه كان خليعا ماجنا منهمكا في الشراب، يشرب الخمر فيفرط في شربها، وتجري على لسانه وهو سكران أبيات فيها مساس بالدين، كأن يقول:
اسقني واسق خليلي
في مدى الليل الطويل
لونها أصفر صاف
وهي كالمسك الفتيل
في لسان المرء منها
مثل طعم الزنجبيل
ريحها ينفح منها
ساطعا من رأس ميل
من ينل منها ثلاثا
ينس منهاج السبيل
فمتى ما نال خمسا
تركته كالقتيل
ليس يدري حين ذاكم
ما دبير من قبيل
إن سمعي عن كلام ال
لائمي فيها الثقيل
لشديد الوقر إني
غير مطواع ذليل
قل لمن يلحاك فيها
من فقيه أو نبيل
أنت دعها وارج أخرى
من رحيق السلسبيل
تعطش اليوم وتسقى
في غد نعت الطلول!
وكان يقول:
اسقني واسق غصينا
لا تبع بالنقد دينا
اسقنيها مرة الطعم
تريك الشين زينا
ومن أجل ذاك يتهم بالزندقة، فيأخذه المهدي ويضربه ثلثمائة سوط على أن يقر بالزندقة، فيقول: والله ما أشركت بالله طرفة عين، ومتى رأيت قرشيا تزندق؟ ولكنه طرب غلبني وشعر طفح على قلبي، أنا فتى من فتيان قريش، وأشرب النبيذ، وأقول ما قلت على سبيل المجون، ثم هجر الشرب والمجون بعد ذلك، وكان يكره أن يرى الشرب
22
والشراب، ويقول:
شربت فلما قيل ليس بنازع
نزعت وثوبي من أذى اللؤم طاهر
23
فترى أن «آدم» لم يتزندق زندقة علمية، وإنما غلبه الشرب فنطق بقول فيه هجر، فاتهم بالزندقة، على هذا المعنى العامي الشائع.
والواقع أن كثيرا من الشعراء في ذلك العصر أفرطوا في دعوة الناس إلى الفجور والإباحة، وحملهم على الاستهتار. ولم يكتفوا أن يدعوا إلى ما يدعون إليه من غير تعرض للدين، بل تعرضوا له أحيانا، وأخذوا يجهرون بأقوال فيها تهكم، وفيها سخرية، فيسخرون ممن يقول بتحريم الخمر، ويسخرون ممن يخوف بالدار، وممن يذكر بيوم البعث وما فيه من حساب، فيقول بشار:
لا خير في العيش إن كنا كذا أبدا
لا نلتقي وسبيل الملتقى نهج
قالوا: حرام تلاقينا! فقلت لهم
ما في التلاقي ولا في قبلة حرج
وبدأ هذا النوع خفيفا، ثم أخذ يشتد حتى وصل إلى ضرب من الإلحاد، وكان من أشدهم في ذلك أبو نواس كأن يقول:
وملحة باللوم تحسب أنني
بالجهل أوثر صحبة الشطار
بكرت علي تلومني فأجبتها
إني لأعرف مذهب الأبرار
فدعي الملام فقد أطعت غوايتي
وصرفت معرفتي إلى الإنكار
ورأيت إتياني اللذاذة والهوى
وتعجلا من طيب هذي الدار
أحرى وأحزم من تنظر آجل
علمي به رجم من الأخبار
ما جاءنا أحد يخبر أنه
في جنة من مات أو في النار!
ويقول:
يا ناظرا في الدين ما الأمر
لا قدر صح ولا جبر؟
ما صح عندي من جميع الذي
تذكر إلا الموت والقبر
ويقول:
قلت والكأس على كفي
تهوي لالتثامي
أنا لا أعرف ذاك اليوم
في ذاك الزحام
24
على أن بعض هؤلاء الشعراء الذين ترد على لسانهم هذه الأقوال وأمثالها كانوا يقولونها وهم مطمئنون إلى دينهم، ولكن غلبهم الطرب، وجرى الشعر على لسانهم فتحرك بمثل هذا، وذلك مثل الذي ورد من شعر آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز.
والذين كانوا يستمعون لهذا القول يختلفون فيما بينهم؛ فطائفة تسخط لمثل هذا، وتحكم على قائله بالإلحاد والخروج من الدين، وطائفة لا ترى هذا جدا من القول، وإنما هو نوع من أنواع التملح، لم يقل إلا على سبيل الفكاهة والمجون، وعلى هذا الأساس الأخير شاع في ذلك العصر وصف الزنديق بالظرف، فأبو نواس يصف العباس بن الفضل بن الربيع فيقول:
نديم كأس محدث ملك
تيه مغن وظرف زنديق
بل شاع اتهام بعض الناس بأنه لا يتزندق عن عقيدة، وإنما يتزندق ليشتهر بالظرف، ففي الأغاني: أن محمد بن زياد كان يظهر الزندقة تظارفا، فقال فيه ابن مناذر:
يا ابن زياد، يا أبا جعفر
أظهرت دينا غير ما تخفي
مزندق الظاهر باللفظ في
باطن إسلام فتى عف
لست بزنديق ولكنما
أردت أن توسم بالظرف!
25
وقال غيره:
تزندق معلنا ليقول قوم
إذا ذكروه زنديق ظريف
فقد بقي التزندق فيه وسما
وما قيل الظريف ولا اللطيف!
وعلى الجملة فالزندقة بهذا المعنى معناها التهتك، ثم التدرج فيه إلى الخروج عن الدين أحيانا بألفاظ ماسة، ثم المغالاة في ذلك، إلى أقوال فيها معنى الإلحاد لا عن نظر وتفكير. كل هذا كان شائعا فاشيا، وكل هذا كان معنى «الزندقة» في أذهان العامة وأشباههم، وعلى هذا المعنى قالوا: «إن علامة الزندقة شرب الخمر، والرشا في الحكم، ومهر البغي.»
26
وهناك معنى آخر للزندقة، كان يفهمه الخاصة وأشباههم. ويعنون به اعتناق الإسلام ظاهرا، والتدين بدين الفرس القديم باطنا، وخاصة مذهب ماني، ذلك أنه كان في ذلك العصر طائفة لم تؤمن بالإسلام ولكن آمنت بسلطانه، ورأت أنه لا سبيل لنيل الجاه والسلطان والمال إلا بالإسلام فاعتنقته ظاهرا، وظلت تخلص لدينها القديم، وقوم من هؤلاء كان لهم غرض أعمق من هذا؛ إذ رأوا أنهم لا يستطيعون إفساد العقيدة الإسلامية إلا بالانتساب إليها أولا، حتى يؤمن جانبهم، وحتى يسهل على النفوس الأخذ بقولهم، ثم هم بعد ينفثون تعاليمهم على أشكال مختلفة؛ طورا في العلم والدين، وطورا في الأدب، وطورا في وضع مثالب العرب، ومن حين لآخر لآخر كان يعثر على بعضهم فينكل بهم، ولكنهم لا يبيدون، أحيانا يعملون أفرادا، وأحيانا يعملون جماعات، وعصرنا الذي نؤرخه مملوء بهذه الأمثال، فعبد الكريم بن أبي العوجاء يتهم بالزندقة، ويفسد أحاديث رسول الله بما يضع فيها، ويقر حين يقتله المنصور بأنه وضع أربعة آلاف حديث مكذوب مصنوع.
27
وحماد الراوية يفسد اللغة والأدب بما يعمله من شعر يضيفه إلى الشعراء المتقدمين، ويدسه في أشعارهم «حتى إن كثيرا من الرواة قالوا: قد أفسد حماد الشعر لأنه كان رجلا يقدر على صنعته فيدس في شعر كل رجل ما يشاكل طريقته.»
28
وصالح بن عبد القدوس يدس في الأشعار معاني زندقة، ويونس بن أبي فروة يعمل كتابا في مثالب العرب، وعيوب الإسلام بزعمه، ويصير به إلى ملك الروم فيأخذ منه مالا.
29
هؤلاء وأمثالهم كانوا يتزندقون تزندقا علميا؛ فهم يدينون بماني أو مزدك، ويؤمنون بالنور والظلمة، وبعبارة عامة يدينون بدين المجوس عن علم، ثم يتظاهرون بالإسلام تقية، أو توسلا إلى إضلال الناس، ويدل على هذا المعنى الخاص ما رواه الأغاني أن بشارا هجا حماد عجرد فقال:
يا ابن نهبى، رأس علي ثقيل
واحتمال الرأسين أمر جليل
فادع غيري إلى عبادة ربين
فإني بواحد مشغول!
فقال حماد: ما يغيظني من بشار إلا تجاهله بالزندقة، يوهم الناس أنه يظن أن الزنادقة تعبد رأسا ليظن الجهال أنه لا يعرفها؛ لأن هذا قول تقوله العامة لا حقيقة له، وهو والله أعلم بالزندقة من ماني.
30
ويقول أبو نواس: كنت أتوهم حماد عجرد إنما يرمى بالزندقة لمجونه في شعره حتى حبست في حبس الزنادقة، فإذا حماد عجرد إمام من أئمتهم، وإذا له شعر مزاوج بيتين بيتين، يقرءون به في صلاتهم.
31
اشتهر بالزندقة في هذا العصر كثيرون؛ منهم الحمادون الثلاثة: حماد عجرد، وحماد الراوية، وحماد بن الزبرقان، وبشار بن برد، وابن المقفع، ويونس ابن أبي فروة، ومطيع بن إياس، وعبد الكريم ابن أبي العوجاء، وصالح بن عبد القدوس، وعلي بن الخليل، وابن منذر، وتجد في ترجمتهم في الأغاني وغيره ضروبا من القصص توضح زندقتهم، وكان بين بعض هؤلاء وبعض صداقة وود أحيانا، وهجو وتنابز أحيانا.
والذي نلاحظه أن أكثر من ذكرنا موال من الفرس، وذلك طبيعي، فإن الزندقة بهذا المعنى تستر وراءها ديانة مجوسية من ديانات الفرس، فطبيعي أن ينزع إليها من كان أصلهم مجوسا، ومع هذا فإنا نجد من العرب بل من الهاشميين من اتهم بالزندقة؛ مثل الحسين بن عبد الله بن عبيدا لله بن العباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
32
وكالذي روى الطبري من أن المهدي أتى بداود بن علي، وبيعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقد اتهما بالزندقة فأقرا له بها.
33
ولكن كانت الزندقة في العرب على العموم نادرة، وأكثر من اتهم بها كانت زندقته بالمعنى الأول، وهو التهتك والفجور، أو كان اتهامهم شركا من الشراك التي تنصب من أجل خصومة سياسية.
وقد اشتهر بهذا النوع من الزندقة طائفة من الكتاب، كان أكثرهم كذلك من أصل فارسي، وقد أخذوا من كل علم بطرف، ولم يتعمقوا في علم، وأمعنوا في الغرور بأنفسهم فكثرت زندقتهم. ويقول الجاحظ: «والناشئ منهم (من الكتاب) إذا حفظ من الكلام فتيقه،
34
ومن العلم ملحه، وروى لبزرجمهر أمثاله، ولأردشير عهده، ولعبد الحميد رسائله، ولابن المقفع أدبه، وصير كتاب مزدك معدن علمه ، ودفتر كليلة ودمنة كنز حكمته، «توهم» أنه الفاروق الأكبر في التدبير، وابن عباس في العلم بالتأويل، ومعاذ بن جبل في العلم بالحلال والحرام، وعلي بن أبي طالب في الجرأة على القضاء والأحكام، وأبو الهذيل العلاف في الجر والطفرة، وإبراهيم بن سيار النظام في المكامنات والمجانسات، وحسين النجار في العبادات والقول بالإثبات، والأصمعي وأبو عبيدة في معرفة اللغات والعلم بالأنساب، فيكون أول بدوه الطعن على القرآن في تأليفه، والقضاء عليه بتناقضه، ثم يظهر فيه ظرفه بتكذيب الأخبار، وتهجين من نقل الآثار، فإن استرجح أحد أصحاب الرسول فتل عند ذكرهم شدقه، ولوى عن محاسنهم كشحه، وإن ذكر شريح جرحه، وإن نعت له الحسن استثقله، وإذا وصف له الشعبي استحمقه، ثم يقطع ذلك من مجلسه بسياسة أردشير بابكان، وتدبير أنوشروان، واستقامة البلاد لآل ساسان، فإن حذر العيون، تفقده المسلمون، رجع بذكر السنن إلى المعقول، ومحكم القرآن إلى المنسوخ، ونفي ما لا يدرك بالعيان، وشبه بالشاهد الغائب، لا يرتضي من الكتب إلا المنطق ... هذا هو المشهور من أفعالهم والموصوف من أخلاقهم.»
35
وأحيانا تطلق كلمة الزنادقة على أتباع ديانة الفرس، من غير أن ينتحلوا الإسلام، ونرى هذا الاستعمال أحيانا في كتاب الحيوان للجاحظ؛ فهو يقول: وكان لهؤلاء الزنادقة كتب أجود ما تكون ورقا، يكتب عليه بالحبر الأسود البراق، ويستجاد له الخط.
36 «وأن كتبهم لا تفيد علما ولا حكمة، وليس فيها مثل سائر، ولا خبر ظريف، ولا صنعة أدب، ولا حكمة غريبة ولا فلسفة، ولا مسألة كلامية، وجل ما فيها ذكر النور والظلمة، وتناكح الشياطين، وتسافد العفاريت، وذكر الصنديد، والتهويل بعمود الصبح»، ثم يذم كتبهم، ويستخف بمعانيها،
37
ويقول: إن هؤلاء الزنادقة أثروا في بعض الناس، وخاصة في ناس من الصوفية والنصارى؛ فكانوا يرفضون الذبائح، ويبغضون إراقة الدماء، ويزهدون في أكل اللحوم. ويقول: إن قوما ممن ينتحل الإسلام يظهرون التقذر من الصيد، ويرون أن ذلك من القسوة، وأنه يسلم إلى التهاون بدماء الناس والرحمة شكل واحد، ومن لم يرحم الكلب لم يرحم الظبي، ومن لم يرحم الظبي لم يرحم الجدي، ومن لم يرحم العصفور لم يرحم الصبي. وصغار الأمور تؤدي إلى كبارها، يضاهون في ذلك سبيل الزنادقة.
38
وهناك معنى آخر للزندقة يستعمله الجاحظ وغيره أحيانا، يطلقونه على قوم جحدوا الأديان كلها عن نظر؛ فهي بهذا المعنى مرادفة للدهرية والإلحاد. قال أبو العلاء في رسالة الغفران: «والزنادقة هم الذين يسمون الدهرية لا يقولون بنبوة ولا كتاب.»
وعلى هذا المعنى يروي الجاحظ: «أن الزندقة فشت في النصارى.»
39
والظاهر أنه يريد بذلك الشك ونحوه.
من هذا كله يظهر أن كلمة الزندقة لم تكن ذات معنى واحد، وإنما كانت تطلق على معان أربعة: (1)
التهتك والاستهتار والفجور مع تبجح في القول، يصل أحيانا إلى ما يمس الدين، ولكن قائله لم يقله عن نظر، وإنما قاله عن خلاعة ومجون. (2)
اتباع دين المجوس، وخاصة دين ماني، مع التظاهر بالإسلام؛ كالذي اتهم به الأفشين، والذي اتهم به بشار وحماد وابن المقفع. (3)
اتباع دين المجوس، وخاصة «ماني»، من غير تظاهر بالإسلام؛ كالذي يرويه الجاحظ عن كتب الزنادقة. (4)
ملحدون لا دين لهم؛ كالذي يحكيه المعري، ولكن يظهر أن الكلمة - أكثر ما كانت - تطلق على من اعتنق المانوية باطنا والإسلام ظاهرا، ثم توسعوا في معناها فأطلقوها على الإباحي والملحد الذي لا دين له. •••
على كل حال فشت الزندقة بمعانيها المختلفة في هذا العصر، وقد عد أبو العلاء من الزنادقة في رسالته الغفران: «الوليد بن يزيد الخليفة الأموي، ودعبلا الشاعر، وبشارا، وأبا نواس، وصالح بن عبد القدوس، وأبا مسلم الخراساني مؤسس الدولة العباسية، وبابك، والأفشين، والحلاج الصوفي، وغيرهم.» فيقول في دعبل: «وما يلحقني الشك في أن دعبل بن علي لم يكن له دين، وكان يتظاهر بالتشيع، وإنما غرضه التكسب، ولا أرتاب في أن دعبلا كان على رأي الحكمي «أبي نواس» وطبقته، والزندقة فيهم فاشية، ومن ديارهم ناشية.» ويقول: «وقد اختلف في أبي نواس؛ ادعي له التأله، وأنه كان يقضي صلوات نهارية في ليله، والصحيح أنه كان على مذهب غيره من أهل زمانه.»
وكان من الطبيعي أن يكون في هذا العصر زنادقة دعاهم إليها دواع مختلفة؛ فقوم دعاهم إليها دين ألفوه قديما، وهو دين المجوسية، وكان لهم فيه آباء عديدون، وكانت لهم عادات وتقاليد، أخذها الخلف من السلف، ولكنهم رأوا جاها عريضا، ومناصب عزيزة لا يستطيعون الوصول إليها إلا أن يسلموا فأسلموا،
ولما يدخل الإيمان في قلوبهم،
واتخذوا الإسلام ثيابا ظاهرية، يخلعونها إذا خلوا إلى أهليهم، وهم إذا أمكنتهم الفرصة كادوا للإسلام وللعرب، ودعوا للشعوبية والمذاهب الدينية. وقوم دعاهم إلى التزندق شك في الأديان، والقول بسلطان العقل إلى أقصى حدوده، فهم لا يريدون أن يؤمنوا إلا بما يرون بأعينهم، ويحكمون العقل حتى فيما ليس للعقل فيه مجال، فنبذوا الأديان جملة، ودعوا إلى الإلحاد. وآخرون إنما كان همهم في الحياة شهواتهم، فما الحياة إلا خمر وما إليها، لا يرضون أن يجهدوا عقولهم في تفكير في دين، إنما يغضبون على الدين وقت أن يتعارض مع شهواتهم، ويحد من لذاتهم، حينذاك ينطقون بالكلمة تلو الكلمة، وهم سكارى يتضاحكون فيها على الدين. كل هذه الأصناف كانت في العصر العباسي، وكان جمهور المؤمنين يكرهها ويحاربها.
ولكن من الحق أن نقول أيضا: إن الاتهام بالزندقة لم يقف في ذلك العصر عند حد؛ فالشاعر يكون صديق الشاعر وصفي نفسه، ثم تكون بينهما جفوة، فأول ما يرميه به أنه زنديق، كالهجاء بين بشار وحماد، وكالذي يقول خلاد الأرقط: ذكر ابن مناذر في حلقة يونس؛ فقدح فيه أكثر أهل الحلقة حتى نسبوه إلى الزندقة، فلما صرت في السقيفة التي في مقدم المسجد سمعت قراءة قريبة من حائط القبلة، فدنوت فإذا ابن مناذر قائم يصلي، فرجعت إلى الحلقة فقلت لأهلها: قلتم في الرجل ما قلتم، وها هو ذا قائم يصلي حيث لا يراه إلا الله!
40
ثم هم يسرعون في الاتهام، فيحكمون على أبي العتاهية بالزندقة لقوله:
كأن عتابة من حسنها
دمية قس فتنت قسها!
يا رب لو أنسيتنيها بما
في جنة الفردوس لم أنسها!
ولقوله:
إن المليك رآك أحسن
خلقه ورأى جمالك
فحذا بقدرة نفسه
حور الجنان على مثالك
41
بل أكثر من هذا يرون أبا العتاهية يذكر الموت، فيقولون: إنه زنديق لأنه يذكر الموت، ولا يذكر الجنة والنار.
42
كل هذا وأمثاله يدلنا على أن الناس في ذلك العصر أفرطوا في الرمي بالزندقة، مع خطر الاتهام، يقول أبو العلاء في رسالة الغفران: «وذكر صاحب كتاب «الورقة» جماعة من الشعراء في طبقة أبي نواس ومن قبله، ووصفهم بالزندقة: وسرائر الناس مغيبة، وإنما يعلم بها علام الغيوب.»
وكما كانت الخصومة الأدبية سببا في الرمي بالزندقة، كذلك كانت الخصومة الدينية والسياسية، يقول صاحب الأغاني: «كان حميد بن سعيد وجها من وجوه المعتزلة، فخالف أحمد بن أبي دواد في بعض مذهبه، فأغرى المعتصم بأنه شعوبي زنديق.»
43
وظل الأصمعي يتقرب إلى البرامكة، ويمدحهم فلما نكبوا قال فيهم:
إذا ذكر الشرك في مجلس
أضاءت وجوه بني برمك
وإن تليت عندهم آية
أتوا بالأحاديث عن مزدك!
ثم أليس عجيبا أن ترى بشارا يظل طول حياته يقول الشعر الماجن الخليع، ويتعرض للدين من قريب أو بعيد، ويظل في ذلك ثمانين عاما أو نحوها، فلا يتعرض له أحد، إلا ما نهاه الخليفة عن الغزل! بل نرى المهدي (وهو أكبر من اضطهد الزنادقة) يحميه ويتأول له الفقهاء،
44
فلما بلغ الثمانين أو جاوزها هجا يعقوب بن داود وزير المهدي بقوله:
بني أمية هبوا طال نومكم
إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فانتظروا
خليفة الله بين الزق والعود
وهجا المهدي نفسه فأفحش، فعند ذلك فقط عوقب بشار على زندقته فضرب بالسياط حتى مات، وكذلك كان الشأن في ابن المقفع؛ خاصمه المنصور سياسيا، وخاصمه سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب فقتلاه ورمياه بالزندقة!
الحق إن بعض الناس اتخذوا الزندقة ذريعة للانتقام من خصومهم، سواء في ذلك الشعراء والعلماء والأمراء والخلفاء. وأخشى أن يكون قد رمي بها أناس كثيرون صحت عقيدتهم، ولكن كانت لهم حرية رأي في بعض المسائل خالفوا فيها جمهور العلماء فشهروا بهم.
ونجد الحكم الفقهي في الزنادقة عند الحنفية العراقيين أشد منه عند الشافعية؛ فكثير من الحنفية يرى أن المرتد إذا تاب قبلت توبته ولم يقتل، وأما الزنديق فإذا تاب لم تقبل توبته وقتل، وخالفهم في ذلك الشافعية، فقالوا لا يقتل من أظهر التوبة من الزنادقة.
45
على كل حال كانت حركة الزندقة في عصرنا الذي نؤرخه حركة عنيفة، كان من ضحاياها كثيرون، بالحق أحيانا، وبالباطل أحيانا.
الإيمان:
يقابل حركة الزندقة والشك هذه حركة إيمان صادق من جانب آخر. وإذا كنا نريد أن نفهم جوانب الحياة في هذا العصر، وجب علينا أن نصور جانب الإيمان كما صورنا جانب الزندقة. والذي يظهر لي أن جانب الإيمان في ذلك العصر كان الأعم الأشهر، والزندقة (بمعنى الشك أو الإلحاد) كانت حظ قليل من المفكرين إذا قيس بالعدد العديد من المؤمنين، ولذلك استطاع المؤرخون، وكتاب المقالات الدينية أن يسموا الزنادقة على شكهم في زندقة بعضهم، ولكن كان من العسير أن يسموا المؤمنين؛ لأن الإيمان هو الأساس، والزندقة ليست إلا شذوذا في اتجاه التيار العام. والذي زاد في عدد الزنادقة أنهم أطلقوا الكلمة على المجان والمستهترين، ولو لم يصل الشك في الدين إلى نفوسهم، وإن شئت فقل: إنهم لم يفكروا في الدين تفكيرا إيجابيا ولا سلبيا، وإن كثيرين حشروا مع الزنادقة سياسة لا دينا كما قدمنا، وإن كثيرين من الزنادقة كانت زندقتهم في الواقع ليست كراهية للإسلام من حيث هو دين له تعاليم خاصة لا توافق عقولهم، ولكن من ناحية وطنية قومية، وأكثر ما كان ذلك في قوم من الفرس، رأوا أن ضياع ملكهم إنما كان على يد العرب، ولم يكن يتأتى للعرب ذلك لولا دينهم الجديد، وهو الإسلام، فكرهوا العرب، وكرهوا الإسلام لهذا السبب، فأما الزندقة بمعنى البحث في الأديان بحثا علميا عميقا يسلم أحيانا إلى شك أو إنكار؛ فذلك كان قليلا نادرا. •••
اشتهر جماعة كثيرة في ذلك، كانوا المثل الأعلى في الإيمان؛ أمثال عبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وداود الطائي، والفضل بن عياض ... إلخ.
46
نقرأ ترجمتهم، فنتبين فيهم ورعا وتقوى، وإيمانا صادقا، وهروبا من الاتصال بوال أو أمير ، ورفض أي منصب يعرضه عليهم العباسيون. ولعل خير ما يمثل هذا النوع من الحياة ما رواه ابن قتيبة في رثاء ابن السماك لداود الطائي، قال: «إن داود رحمه الله نظر بقلبه إلى ما بين يديه من آخرته، فأعشى بصر القلب بصر العين، فكان كأنه لا ينظر إلى ما إليه تنظرون، وكأنكم لا تنظرون إلى ما إليه ينظر! فأنتم منه تعجبون، وهو منكم يعجب! فلما رآكم راغبين مذهولين مغرورين، قد أذهلت الدنيا عقولكم، وأماتت بحبها قلوبكم، استوحش منكم، فكنت إذا نظرت نظرت إلى حي وسط أموات! يا داود ما أعجب شأنك بين أهل زمانك! أهنت نفسك، وإنما تريد إكرامها، وأتعبتها، وإنما تريد راحتها، أخشنت المطعم، وإنما تريد طيبه، وأخشنت الملبس، وإنما تريد لينه، ثم أمت نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تقبر، وعذبتها ولما تعذب، وأغنيتها عن الدنيا لكيلا تذكر، رغبت نفسك عن الدنيا فلم ترها لك قدرا إلى الآخرة، فما أظنك إلا وقد ظفرت بما طالبت، كان سيماك في سرك، ولم يكن سيماك في علانيتك، تفقهت في دينك، وتركت الناس يغنون، وسمعت الحديث، وتركتهم يحدثون. وخرست عن القول، وتركتهم ينطقون. لا تحسد الأخيار، ولا تعيب الأشرار، ولا تقبل من السلطان عطية، ولا من الإخوان هدية. آنس ما تكون إذا كنت بالله خاليا، وأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس. فمن سمع بمثلك وصبر صبرك وعزم عزمك؟ لا أحسبك إلا وقد أتعبت العابدين بعدك. سجدت نفسك في بيتك فلا محدث لك، ولا جليس معك ولا فراش تحتك، ولا ستر على بابك، ولا قلة يبرد فيها ماؤك، ولا صحفة يكون فيها غذاؤك وعشاؤك. مطهرتك قلبك، وقصعتك تورك،
47
داود، ما كنت تشتهي من الماء بارده، ولا من الطعام طيبه، ولا من اللباس لينه؛ بلى! ولكن زهدت فيه لما بين يديك، فما أصغر ما بذلت! وما أحقر ما تركت في جنب ما أملت! فلما مت شهرك ربك بموتك، وألبسك رداء عملك، وأكثر تبعك، فلو رأيت من حضرك عرفت أن ربك قد أكرمك وشرفك ، فلتتكلم اليوم عشيرتك بكل ألسنتها، فقد أوضح ربك فضلها بك.»
وسفيان الثوري، كان مع صلاحه وورعه وعلمه يعيش من تجارته، ويرفض عطاء الولاة، ورفض أن يكون قاضيا على الكوفة للعباسيين، فيطلب ويظل دهرا من حياته يهرب من العراق إلى اليمن، ومن اليمن إلى مكة، خشية من العباسيين، وتوفي سنة 161 متواريا من السلطان. •••
وكما صورت حياة اللهو والمجون في كتاب الأغاني ودواوين الشعراء، صورت حياة الإيمان في تراجم العلماء أمثال طبقات ابن سعد، وطبقات المحدثين. فإذا أنت قرأت الأغاني ظننت أن الحياة كلها لهو ومجون وإباحة، وإذا قرأت طبقات المحدثين والمتصوفة خلت أن الحياة كلها دين وورع وتقوى، وتنصف إن أنت اعتقدت أن الحياة كانت ذات صنف وألوان، وأن المدينة العباسية كانت ككل المدنيات؛ مسجد وحانة، وقارئ وزامر، ومتهجد يرتقب الفجر، ومصطبح في الحدائق، وساهر في تهجد، وساهر في طرب. وتخمة من غنى، ومسكنة من إملاق، وشك في دين، وإيمان في يقين. كل هذا كان في العصر العباسي، وكل هذا كان كثيرا. •••
هذا النوع من المؤمنين الذي سميناهم كسفيان وداود، لم يدخلوا في معترك الجهاد مع الشاكين والمتزندقين، بل كانوا يعنون بإيمانهم، ولا يأبهون لإلحاد غيرهم. إنما المؤمنون الذي تصدوا للرد على الملحدين هم معتزلة ذلك العصر، أمثال واصل بن عطاء وأبي الهذيل العلاف وبشر بن المعتمر وإبراهيم النظام، فهؤلاء أخذوا يستعرضون ما تقوله الزنادقة، ويناقشونهم ويردون عليهم، ويلزمونهم الحجة، وقد حكت لنا الكتب كثيرا من هذا الجدل،نعرض له عند الكلام على المعتزلة إن شاء الله.
الباب الثاني
الثقافات في ذلك العصر
تمهيد
كان من أثر اختلاف السكان في المملكة الإسلامية، وانتسابهم من حيث أصولهم إلى أمم مختلفة - كما بينا في الباب الأول - وامتزاج بعضهم مع بعض في السكنى والتزاوج وما إلى ذلك، ودخول كثير من أفراد الأمم المختلفة في الإسلام، ونمو الحضارة نموا يستدعي علما واسعا بكثير من شئون الحياة، من هندسة وطب ونجوم، ونظام حكم وفقه، ولغة وأدب. كان من أثر ذلك كله أن انتشرت في المملكة الإسلامية ثقافات مختلفة لأمم مختلفة، وكان هناك رجال بارزون يحملون لكل ثقافة علمها، ويبذلون جهدهم في الدعوة لها، والترويج لمبادئها، وتحبيبها إلى الناس، وإفهامهم أنها خير أنواع الثقافات. وكان من مظاهر هذا: أن كل ثقافة أخذت تشق لنفسها جدولا تسير فيه وحدها، وكلما غزرت وزاد مددها وسعت مجراها وتعهدته بالإصلاح، وحافظت إلى حد ما على استقلاله، ثم نرى - بعد ذلك - أن هذه الجداول المستقلة تقريبا أخذت تلتقي، ويتكون منها نهر عظيم، تصب فيه مياه مختلفة. ورأينا أن ما حصل في الأجناس البشرية حصل نظيره في الثقافات العلمية. وقد كان في الأجناس امتزاج وتزاوج وتوليد؛ فكان في الثقافات العلمية امتزاج وتزاوج وتوليد، وقد كان في الأجناس ميزات مختلفة، كل جنس له مزاياه وله عيوبه، وكانت عملية التوليد تنشأ من تلقيح دم بدم، فينشأ جنس جديد له مزايا الجنسين، وعيوب الدمين، وله خصائص أخرى ليست في الجنسين، فكان كذلك الشأن في الثقافات. كان هناك لقاح بين الثقافات، ونشأ من هذا اللقاح ثقافات جديدة، تحمل صفات من هذه وتلك، وصفات جديدة لم تكن في هذه ولا في تلك، وأصبح لها طابع خاص يميزها عما سواها. وكما كان في المملكة الإسلامية أمم مختلفة، اشتهرت كل أمة بميزة، كذلك امتازت الأمم المختلفة بميزات في العقلية، تبعها ميزات في الثقافة.
فما هي أشهر الثقافات في ذلك العصر؟ وما ميزة كل ثقافة؟ وماذا كانت طبيعة جدولها قبل أن تصب في النهر الأعظم؟
ثم بعد أن صبت في ذلك النهر، ماذا كانت طبيعة مائه، وأي العناصر غلب عليه؟ وما مظاهر تلك العناصر في مياه النهر؟
ذلك ما نريد أن نبحث عنه في هذا الباب.
قد انتشرت في هذا العصر أربع ثقافات، كان لها الأثر الأكبر في عقول الناس وأعني بها: الثقافة الفارسية، والثقافة اليونانية، والثقافة الهندية، والثقافة العربية. كما كان هناك ثقافات دينية أهمها اليهودية والنصرانية والإسلام. فلنتكلم كلمة في كل منها، ولنختر لكل ثقافة من يمثلها ما أمكن، ثم لنختر مثلا ممن كان يمثل الثقافات كلها بعد امتزاجها .
الفصل السابع
الثقافة الفارسية
انتشرت الثقافة الفارسية في العصر العباسي الأول انتشارا عظيما، وساعد على ذلك أمران:
الأول:
إنشاء منصب الوزارة، وإسناده غالبا إلى الفرس.
والثاني:
انتقال عاصمة الخلافة من دمشق إلى بغداد، وبعبارة أخرى من الشام إلى العراق.
الوزارة
كانت كلمة «وزير» معروفة للعرب قبل الفتح الإسلامي، ففي القرآن الكريم على لسان موسى
واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي
وفي حديث السقيفة: نحن الأمراء وأنتم الوزراء وفي طبقات «ابن سعد» أن أبا بكر
صلى الله عليه وسلم
كان وزيرا للنبي، وفي طبقات الشعراء «لابن قتيبة» أن أبا ذؤيب الهذلي (وهو شاعر جاهلي إسلامي) خان في امرأة ابن عم له، ثم خانه خالد بن زهير فيها، فقال خالد يخاطب أبا ذؤيب:
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها
وأول راض سنة من يسيرها
وكنت إماما للعشيرة تنتهي
إليك إذا ضاقت بأمر صدورها
ألم تتنقدها من ابن عويمر
وأنت صفي نفسه ووزيرها!
وفي الدولة الأموية كان اللفظ مستعملا، يقول الطبري: «إن زيادا كان يسمى وزير معاوية.» ولكن الكلمة في كل المواضع التي ذكرنا، لم تستعمل في المعنى الاصطلاحي الذي نعرفه الآن من كلمة الوزير، وإنما هي بمعنى الموازر المناصر. قال ابن خلكان: «وقد اختلف أرباب اللغة في اشتقاق الوزارة على قولين؛ أحدهما: أنها من الوزر وهو الحمل، فكأن الوزير قد حمل عن السلطان الثقل، وهذا قول ابن قتيبة. والثاني: أنها من الوزر، وهو الجبل الذي يعتصم لينجى به من الهلاك، وكذلك الوزير معناه الذي يعتمد عليه الخليفة، أو السلطان، ويلتجئ إلى رأيه، وهو قول أبي إسحاق الزجاج.»
ونحن نرجح هذا (وهو أن أصل الكلمة عربي) على ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن أصل الكلمة فهلوي، مأخوذ من فيشيرا،
Vi-chira ، ومعناه الأمر أو التقرير.
لم تكن كلمة وزير بدعا في العصر العباسي، إنما المبتدع هو إنشاء هذا المنصب، وإعطاء صاحبه السلطة الرسمية، وتلقيبه بهذا الاسم، وهذا المنصب فارسي، ولم يكن معروفا قبل العباسيين . قال ابن خلكان في ترجمة أبي سلمة الخلال: «إن أبا سلمة أول من وقع عليه اسم الوزير، وشهر بالوزارة في دولة بني العباس، ولم يكن قبله من يعرف بهذا الاسم، لا في دولة بني أمية، ولا في غيرها من الدول.»
1
ويقول الفخري: «الوزير وسيط بين الملك ورعيته، فيجب أن يكون من طبعه شطر يناسب طباع الملوك، وشطر يناسب طباع العوام، ليعامل كلا من الفريقين بما يوجب له القبول والمحبة. والوزارة لم تتمهد قواعدها وتقرر قوانينها إلا في دولة بني العباس، فأما قبل ذلك فلم تكن مقننة القواعد، ولا مقررة القوانين، بل كان لكل واحد من الملوك أتباع وحاشية، فإذا حدث أمر استشار ذوي الحجى والآراء الصائبة، فكل منهم يجري مجرى وزير، فلما ملك بنو العباس تقررت قوانين الوزارة، وسمي الوزير وزيرا، وكان قبل ذلك يسمى كاتبا أو مشيرا.»
وقد كان الوزراء الظاهرون في هذا العصر موالي فرسا، فأبو سلمة الخلال (أول وزير عباسي) مولى فارسي، وأبو أيوب المورياني وزير المنصور فارسي من «موريان» (قرية من قرى الأهواز)، ويعقوب بن داود وزير المهدي مولى كذلك، وكذلك كان يحيى بن خالد البرمكي وزير الرشيد، واستوزر المأمون بني سهل، وكانوا من أولاد ملوك الفرس، ومن صنائع البرامكة، واستوزر المأمون الفضل بن سهل، ثم الحسن بن سهل، ولما دالت دولة بني سهل استوزر المأمون أحمد بن يوسف، وهو مولى لبني العجل،
2
ثم استوزر ثابت بن يحيى بن يسار الرازي، وهكذا.
فترى من هذا أن أكثر الوزراء في هذا العصر الذي نؤرخه كانوا فرسا، وكان الوزير قائما مقام الخليفة في كل الشئون؛ فينظر في الشئون الحربية، وفي الشئون المالية، ويكتب الرسائل إلى الجهات المختلفة، ويوقع على ما يرفع إليه من أوراق، ولم يتعدد الوزراء في الدولة العباسية بتعدد الأعمال، فيجعل للحرب وزير، وللمال وزير، وهكذا، وإنما كان تعدد الوزراء بتعدد الأعمال، من نظام الأندلسيين، «فقد قسموا خطة الوزارة أصنافا، وأفردوا لكل صنف وزيرا، فجعلوا لحسبان المال وزيرا، وللترسل وزيرا، وللنظر في حوائج المتظلمين وزيرا، وللنظر في أحوال أهل الثغور وزيرا.»
3
وعلى العكس من ذلك العباسيون؛ فقد جمعوا له بين خطتي السيف والقلم.
وهذا الذي ذكرنا من أن الوزير كان يجمع إلى الإدارة الحربية والمالية خطة القلم (وأعني بها إنفاذ الرسائل إلى الجهات، والتوقيع على ما يعرض عليه من مطالب ورسائل) جعل من شروط الوزير أن يكون عالما مطلعا، كاتبا بليغا، وكذلك كان أكثر الوزراء في العصر، «حكي أن المأمون كتب في اختيار وزير: إني التمست لأموري رجلا جامعا لخصال الخير، ذا عفة في خلائقه، واستقامة في طرائقه، قد هذبته الآداب، وأحكمته التجارب، إن اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهمات الأمور نهض فيها، يسكنه الحلم، وينطقه العلم، وتكفيه اللحظة، وتغنيه اللمحة، له صولة الأمراء، وأناة الحكماء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، إن أحسن إليه شكر، وإن ابتلي بالإساءة صبر. لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يسترق قلوب الرجال بخلابة لسانه وحسن بيانه.
4
وتاريخ الوزراء يدلنا على أن أكثر من اختير للوزارة لوحظ في اختيارهم الكفاية العلمية والبلاغة، فأبو سلمة الخلال كان فصيحا عالما بالأخبار والأشعار والسير والجدل، والبرامكة كانوا ذوي مشاركة في كثير من العلوم والآداب، والفضل بن سهل كان يسمى ذا الرياستين لجمعه بين رياسة السيف ورياسة القلم ... إلخ».
وهذه القدرة الكتابية التي كان يشترطها الخلفاء في الوزير، كانت من أكبر الأسباب في قصر الوزارة على الفرس غالبا؛ فالعرب كانوا أهل فصاحة لسانية أكثر منهم أهل بلاغة كتابية، ولعل هذا هو السبب في أنهم وضعوا للفصاحة كلمة مشتقة من اللسان، فقالوا:رجل لسن إذا كان ذا بيان وفصاحة، ولم يشتقوا مثل ذلك من الكتابة.
والحق أن القدرة الكتابية كانت عند الفرس أبين منها عند العرب، وحتى في الدولة الأموية كان أظهر الكتاب الفنيين من الفرس، أمثال عبد الحميد الكاتب، وسالم مولى هشام. وكان العربي يفخر بالسيف واللسان لا بالقلم، قال يزيد بن معاوية يعدد فضل بيته على زياد بن أبيه: «لقد نقلناك من ولاء ثقيف إلى عز قريش، ومن عبيد إلى أبي سفيان، ومن القلم إلى المنابر.» ولم تزل العرب تفضل السيف على القلم، وفي ذلك يقول سليط بن جرير النمري:
أتحقرني ولست لذاك أهلا
وتدني الأصغرين من الخوان؟
جهابذة وكتابا وليسوا
بفرسان الكريهة والطعان
ستعرفني وتذكرني إذا ما
تلاقى الحلقتان من البطان
5
هؤلاء الوزراء كان لهم (من هذه الناحية التي تعنينا الآن وهي ناحية أنهم أرباب أقلام) أعوان يسمون الكتاب، فقد كان لكل وزير كاتب، بل كتاب يعينونه، ولولاة الأقاليم ورجال الدولة كتاب؛ فكان حماد عجرد مثلا كاتبا ليحيى بن محمد بن صول بالموصل، وكان ابن المقفع يكتب لداود بن عمر بن هبيرة والي كرمان،
6
وكان عمرو بن مسعدة يكتب للمأمون، وكان الحسن بن عيسى يكتب لعمرو بن مسعدة، وكان يكتب ليحيى بن خالد البرمكي عبد الله بن سوار بن ميمون، وهكذا.
وكانت هذه الطائفة (طائفة الكتاب) تؤلف وحدة على رأسها الوزير، بل تتدرج في الرقي إلى الوزارة، معتمدة على كفايتها وبلاغتها، فقد وقع عمرو بن مسعدة على ورقة رفعت إلى جعفر بن يحيى، فأعجب جعفر بتوقيع عمرو، فضرب يحيى بيده على ظهر عمرو، وقال: «أي وزير في جلدك!»
7
وكان بين أفراد هذه الكتلة صلات، ولو لم يتعارفوا، «حضر ديوان الخراج في أيام الرشيد شيخ من قدماء الكتاب، ومعه توقيع من الرشيد بقضاء دين عليه، فعني الكتاب به، وزجوا كتابه، فقال لهم:احفظوا عني ثلاثا؛ الجوار نسب، والمودة نسب، والصناعة نسب.»
8
وقبل ذلك كانت نصيحة عبد الحميد الكاتب لمعشر الكتاب دليلا على أنهم كانوا يؤلفون وحدة في آخر عهد الدولة الأموية.
كان أكثر هؤلاء الكتاب فرسا كالوزراء، يحتذون حذو أجدادهم من الفرس، حتى في مظاهرهم الخارجية، يروي الجهشياري: «أن الفضل بن سهل بن زاذا نفروخ (ذا الرياستين) كان يجلس على كرسي مجنح، ويحمل فيه إذا أراد الدخول على المأمون، فلا يزال يحمل حتى تقع عين المأمون عليه، فإذا وقعت وضع الكرسي، ونزل عنه فمشى، وحمل الكرسي حتى يوضع بين يدي المأمون، ثم يسلم ذو الرياستين، ويعود فيقعد عليه. وإنما ذهب ذو الرياستين في ذلك إلى مذهب الأكاسرة، فإن وزيرا من وزرائها كان يحمل في مثل ذلك الكرسي، ويقعد بين أيديها عليه، ويتولى حمله اثنا عشر رجلا من أولاد الملوك.»
9
بل إن تكون الكتاب كطبقة، ليس إلا تقليدا للنظام الفارسي، فالجهشياري يقول: «كان من رسم ملوك الفرس أن يلبس أهل كل طبقة ممن في خدمتهم لبسة لا يلبسها أحد ممن في غير تلك الطبقة، فإذا وصل الرجل إلى الملك عرف بلبسته صناعته والطبقة التي هو فيها، فكان الكتاب في الحضر يلبسون لبستهم المعهودة، وكانت ملوك الفرس تسمي كتاب الرسائل تراجمة الملوك.»
10
كان لهؤلاء الكتاب أثر كبير في نشر نوع من الثقافة خاص، ذلك أن ثقافتهم كانت أوسع من ثقافة غيرهم، وكانت معارفهم ودائرة اطلاعهم واسعة شاملة؛ لأنهم بحكم مناصبهم مضطرون أن يعرفوا أحوال الناس الاجتماعية وتقاليدهم، وأن يعرفوا من اللغة والأدب وعلوم الدين والفلسفة والجغرافيا والتاريخ طرفا؛ لأن كثيرا من مواقفهم يحتاج إلى ذلك، وقدت عرض للخليفة أو الوالي مسائل من هذا القبيل، يضطر الكاتب إزاءها أن يكون ملما بجميع ذلك؛ إذ هم الذين كانوا يعرضون على الخلفاء ما يرد عليهم، ويحررون ما يصدر منهم. ويتضح ذلك إذا نحن قارنا بين معارف الكاتب، ومعرفة المحدث أو الفقيه في ذلك العصر، فالمحدث أو الفقيه معارفه محدودة، ودائرة حول فنه، فإن توسع في شيء فإنما يتوسع في المسائل التي تعد وسائل لفنه؛ كاللغة والنحو والصرف. أما الكاتب فدائرته أوسع من ذلك، وحسبنا دليلا على هذا ما ألف للكاتب من الكتب:
فأول ما نعرفه من ذلك «أدب الكاتب لابن قتيبة»؛ فقد حمله على تأليفه كما ذكر في مقدمته:أنه رأى طائفة من الكتاب «قد شغفت بالنظر في النجوم والمنطق والفلسفة، وعرفت الكون والفساد. وسمع الكيان والكيفية والكمية، والجوهر والعرض، ورأس الخط النقطة، والنقطة لا تنقسم ... إلخ». وأهملوا النظر في اللغة وما إليها، فوضع لهم كتابه في ذلك؛ فهو خاص بما يلزم الكاتب من لغة ونحو وصرف وإملاء. وألف بعده أبو بكر الصولي كتابه «أدب الكتاب»، فغمز ابن قتيبة بالتقصير في كتابه، وتوسع هو في مسائل لم يتعرض لها ابن قتيبة، فتكلم في حسن الخط وقبحه، والدواة والقلم وما إليهما، وترتيب الكتاب وطيه، والدعاء في المكاتبات، والدواوين وتحويلها إلى العربية، ووجوه الأموال التي تحمل إلى بيت المال، وشيء من قواعد الإملاء. وألف ابن درستويه المتوفي سنة 346 كتاب «الكتاب»، وأكثره في قواعد الإملاء، وفي آخره باب في افتتاح الكتاب، وفي التأريخ، وما يذكر منه وما يؤنث، وما يفرد ويجمع، ثم في بري القلم وسنه وقطه، والدواة وما إليها ... إلخ، وتوسع من جاء بعدهم من المؤلفين للكتاب، حتى ختمت بكتاب «صبح الأعشى في صناعة الإنشاء»، فتعرض فيه تقريبا لكل المعلومات البشرية في عصره، من تاريخ وجغرافيا وفلك، وما يحتاج إليه الكاتب عمليا في صناعته من خط ونحوه، ومصطلح المكاتبات، وكيفية العقود، والبريد، ومطارات حمام الرسائل، والمنارات ... إلخ.
فترى من هذا كيف كان المؤلفون يعنون بهذه الطبقة من الناس، وكيف كانوا يتطلبون منهم المعارف الواسعة في الموضوعات المختلفة، وأن هذه الطبقة كانت تمتاز عن بقية العلماء بالثقافة العامة.
بل يظهر لي أن هذا الموقف هو الذي جعل الناس يقولون إن الأدب هو الأخذ من كل شيء بطرف؛ فقد نرى أن كلمة الأدب في صدر الإسلام كانت تطلق على التهذيب الخلقي، ثم كانت تطلق على العلم باللغة والشعر، وأيام العرب وتاريخها وما إلى ذلك. واستعملت بهذا المعنى في العهد الأموي. فلما جاء هؤلاء الكتاب واتسعت الثقافة، وصاروا يتطلبون من الكاتب أن يعرف الثقافة العربية والفارسية اتسع معنى الأدب، وقالوا: «إن الأدب الأخذ من كل شيء بطرف».
بل جعلوه يشمل معرفة شيء من الألعاب، قال الحسن بن سهل (وهو أحد الوزراء والكتاب في عصرنا العباسي): «الآداب عشرة: فثلاثة شهرجانية وثلاثة أنوشروانية، وثلاثة عربية، وواحدة أربت عليهن؛ فأما الشهرجانية فضرب العود، ولعب الشطرنج، ولعب الصوالج. وأما النوشروانية فالطب، والهندسة، والفروسية، وأما العربية فالشعر، والنسب، وأيام الناس. وأما الواحدة التي أربت عليهن فمقطعات الحديث والسمر وما يتلقاه الناس في المجالس.
11
بل يظهر لي أيضا أن هذا كان أحد الأسباب في فوضى الكتب الأدبية المؤلفة في ذلك العصر؛ كالبيان والتبيين، والكامل، وعيون الأخبار، فقد قصدوا فيها إلى جمع ما يفيد، وتكويمه بعضه فوق بعض، فاهمين الأدب بمعناه الواسع الذي ذكرنا، فحكمة بجانبها بيتان من الغزل، إلى نادرة لطيفة، إلى خطبة بليغة، إلى قصص في البخل، إلى أخبار الخوارج.
والجاحظ (في كتابه الحيوان) تكلم في الخصاء بعد كلامه في فائدة الكتاب، إلى غير ذلك؛ لأن الغرض عندهم أن يلم الأديب من كل شيء بطرف، ثم جاءت الكتب الأخرى بعدها تحذو حذوها، وتفرق مجتمعا، وتجمع متفرقا، وتزيد ما استحدث من الطرف الأدبية.
هؤلاء الوزراء والكتاب نشروا الثقافة العامة، وضموا إلى الآداب العربية الآداب الفارسية، فأصبح ما يتطلبه الأدب أن تعرف حكم بزرجمهر كما تعرف حكم أكثم بن صيفي، وتعر ف تاريخ الفرس كما تعرف تاريخ العرب، وتعرف أقوال كسرى وسابور وأبرويز، وموبذ موبذان، كما تعرف أقوال الخلفاء الراشدين والأمويين، فقد جاء في نصيحة عبد الحميد الكاتب إلى الكتاب: فنافسوا معشر الكتاب في صنوف العلم والأدب، وتفقهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربية؛ فإنها ثقاف ألسنتكم، وأجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم، وأحاديثها وسيرها؛ فإن ذلك معين لكم على ما تسمون إليه بهممكم، ولا يضعفن نظركم في الحساب، فإنه قوام كتاب الخراج منكم.» وقال الرشيد للكسائي معلم أولاده: «يا علي بن حمزة، قد أحللناك المحل الذي لم تكن تبلغه همتك، فرونا من الأشعار أعفها، ومن الأحاديث أجمعها لمحاسن الأخلاق، وذاكرنا بآداب الفرس والهند، ولا تسرع علينا الرد في ملأ، ولا تترك تثقيفا في خلاء.».
12
السبب الثاني في نشر الثقافة الفارسية: انتقال عاصمة الخلافة من دمشق إلى العراق، وكان من أكبر بواعث العباسيين على هذا الانتقال أن دمشق كانت عاصمة الأمويين، وكانت ضلع الشام مع بني أمية من عهد الخلاف بين علي ومعاوية، وكان الشاميون هم الجند المخلص لبني أمية، وهم مثال الطاعة لدولهم، فمن حزم العباسيين ألا تكون عاصمة الدولة الجديدة بين الشاميين وتحت رحمتهم، وفوق ذلك فدمشق بعيدة جدا عن خراسان منبع الثورة، ومصدر الدعوة، وذخيرة العباسيين وعمادهم.
وسبب آخر؛ وهو: أن دمشق منتحية ناحية الغرب، وليست في الوسط، ولا قريبة من وسط المملكة التي تمتد من البحر الأبيض إلى الهند. والعراق يحقق هذه الأغراض؛ فبغداد قريبة من خراسان، قريبة من الشرق، بعيدة عن الروم، كثيرة الخيرات، صالحة لأن تكون نقطة اتصال بين الفرس والأمم السامية. وقد كره العباسيون أن يتخذوا البصرة أو الكوفة مقرا لهم؛ لأن تاريخهما - وخصوصا البصرة - سلسلة ثورات متصلة، ولأن فيهما عددا كبيرا يتشيع لعلي وأولاده، وهذا التشيع جرم يؤاخذ عليه العباسيون، كما كان يؤاخذ عليه الأمويون؛ لذلك اتخذ السفاح مدينة الهاشمية قرب الأنبار. فلما جاء أبو جعفر المنصور اختار موقع بغداد، وقد وفق في اختياره، فبجانبها الأراضي الخصبة بين دجلة والفرات، وهي كما قال بعض النصارى للمنصور: «يا أمير المؤمنين، تكون على الصراة بين دجلة مع الفرات، فإذا حاربك أحد كانت دجلة والفرات خنادق لمدينتك، ثم إن الميرة تأتيك في دجلة من ديار بكر تارة، ومن البحر والهند والصين والبصرة، وفي الفرات من الرقة والشام، وتجيئك الميرة أيضا من خراسان وبلاد العجم في نهر تامرا، وأنت يا أمير المؤمنين بين أنهارك لا يصل عدوك إليك إلا على جسر أو قنطرة، فإذاقطعت الجسر وأخربت القنطرة لم يصل إليك عدوك، وأنت متوسط للبصرة والكوفة، وواسط، والموصل، والسواد، وأنت قريب من البر والبحر والجبل.».
13
والذي يهمنا هنا أن بغداد كانت في العراق؛ حيث عواصم الممالك القديمة مثل بابل والمدائن.
لهذا كله أصبحت بغداد بعد قليل أهم مركز للحضارة والثقافة في المملكة الإسلامية، بل في العالم كله. ونحن إذا استثنينا أوقات الفتن والاضطرابات أمكننا أن نقول إنها ظلت في رقي واتساع وعظمة، إلى نهاية القرن الخامس الهجري.
كان لهذا الانتقال من الشام إلى العراق أثر كبير من الناحية العقلية؛ فقد كان يسكن العراق أمم مختلفة. وتداولت عليه دول خلفت فيه مدنيتها وثقافتها، وكان يسكنه قبيل الفتح الإسلامي بقايا من الأمم القديمة؛ مثل الكلدان والسريان ، وهم الذين يلقبون بالآراميين، وكان يسكنه العرب من إياد وربيعة، وكان يقيم به المناذرة الذين أسسوا ملك الحيرة، وكانت مدنية الفرس غالبة عليه؛ لأن آخر من حكمه قبل الإسلام هم الساسانيون من الفرس، وظل في أيديهم زمنا طويلا، إلى أن استولى عليه المسلمون في أيام عمر، وكانت فيه «المدائن» عاصمة الساسانيين. كل هذا جعل العراق أكثر ما يكون اصطباغا بالفارسية، فلما كان العباسيون وكان الفرس هم الذين أعانوهم، كان من هذا وذاك نفوذ للفرس عظيم في المناصب وفي الثقافة.
والآن نريد أن نبحث النواحي التي كان فيها للثقافة الفارسية أثر في الثقافة الإسلامية:
فأول ذلك الألفاظ اللغوية: ذلك أن العرب لما تحضروا بعد البداوة وجدوا أنفسهم أمام أشياء كثيرة، ليس في ألفاظهم ما يدل عليها، وكان ذلك في جميع مرافق الحياة، من أدوات الزينة، وأنواع المأكل والملبس، وآلات الغناء، والدواوين ونظامها ونحو ذلك، فسلكوا خير طريق يسلك لذلك؛ وهو: أن يتوسعوا في مداولات الكلمات العربية أحيانا، ويأخذوا الكلمات الأجنبية كما هي أحيانا، ومصقولة بما يتفق ولسانهم أحيانا. وكانت اللغة الفارسية منبعا كبيرا من المنابع التي تستمد منها اللغة العربية، وتوسع به مادتها، حكى الصولي قال: «حدثنا علي بن الصباح، قال: سمعت الحسن بن رجاء يقول: ناظر فارسي عربيا بين يدي يحيى بن خالد البرمكي فقال الفارسي: ما احتجنا إليكم قط في عمل ولا تسمية، ولقد ملكتم فما استغنيتم عنا في أعمالكم ولا لغتكم، حتى طبيخكم وأشربتكم ودواوينكم، وما فيها على ما سمينا، ما غيرتموه، كالإسفيداج والسكباج، والدوغباج، وأمثاله كثيرة، وكالسكنجين والخلنجين والجلاب، وأمثاله كثيرة، وكالروزنامج، والأسكدار والفراونك، وإن كان روميا، ومثله كثير، فسكت عنه العربي، فقال له يحيى بن خالد قل له: اصبر لنا نملك كما ملكتم ألف سنة، بعد ألف سنة كانت قبلها لا نحتاج إليكم، ولا إلى شيء كان لكم!».
14
ويقول الجاحظ: «ألا ترى أن أهل المدينة لما نزل فيهم ناس من الفرس في قديم الدهر علقوا بألفاظ من ألفاظهم، ولذلك يسمون البطيخ الخربز.» وكذا أهل الكوفة فإنهم يسمون المسحاة «بال»، و«بال» بالفارسية، وأهل البصرة إذا التقت أربعة طرق يسمونها مربعة، ويسميها أهل الكوفة «بالجهارسو»، والجهارسو فارسية، ويسمون السوق أو السويقة «وازار»، والوازار فارسية، ويسمون القثاء خيارا، والخيار فارسية ... إلخ.
15
من قديم تسربت ألفاظ فارسية إلى اللغة العربية، وكان ذلك بطريق التجارة أو الاختلاط، ولكنها تعد قليلة إذا قيست بالألفاظ التي دخلت في العصر العباسي للسبب الذي ذكرنا؛ وهو أن العرب كانوا أكثر شعورا بأسباب الحضارة في العصر العباسي، فكانوا أشد احتياجا للاقتباس من الفرس، ولأن اللغة العربية لم تعد ملكا للعرب وحدهم؛ بل كانت ملكا للعالم الإسلامي جميعه، والعالم الإسلامي لا يتعصب للغة العربية تعصب العرب؛ فهو يفسح صدره للغات الأخرى ما دعا داع إليها.
ثانيا: قد كان للفرس من قديم علم وأدب يتناسبان مع ضخامة ملكهم وعظم سلطانهم، فلما جاءت الدولة العباسية، وكثير من رعيتها فرس، لهم نزعة وطنية، وميول قومية، أخذ المثقفون ينقلون إلى العربية تراث آبائهم، وما حفظته العصور إلى عهدهم.
كانت لهم كتب في التنجيم والهندسة والجغرافية، وكانت تتوالى عليهم نكبات تذهب بكثير من كتبهم، ولكن كانت مدينتهم في حياة وعظمة، فكانت تسترد مجدها بتأليف كتب جديدة تساير عظمتهم. وأكبر نكبة عرتهم كانت بفتح الإسكندر الأكبر لبلادهم، وقد تلف في هذا الحرب كثير من خزائن كتبهم، فلما جاءت الساسانية (226-652م) استعادوا أدبهم وعلمهم. وأظهر ملوكهم في الميل إلى العلم، وتشجيع الترجمة والتأليف أردشير بابك (2260-241م)؛ فقد بعث في طلب الكتب من الهند والروم والصين، وكذلك كان الشأن في عهد ابنه سابور، وعهد كسرى أنوشروان.
وقد دامت الدولة الساسانية نحو أربعة قرون، خلفت فيها علما كثيرا، وأدبا وفيرا. وأكثر ما نقل إلينا في العصر العباسي (من الأدب والعلم، والأساطير والتاريخ) إنما يرجع إلى هذه الأسرة؛ قال حمزة الأصفهاني: «فأما تواريخ من كان قبل الساسانية من ملوك الأشغانية، فلم أشتغل بها للآفات المعترضة فيها (كانت) في أزمنة أولئك الملوك، وذلك أن الإسكندر لما استولى على أرض بابل وقهر أهلها، حسدهم على ما كان اجتمع لهم من العلوم التي لم تجمع قط لأمة من الأمم مثلها؛ فأحرق من كتبهم ما نالته يده، ثم قصد إلى قتل الموابذة والهرابذة والعلماء والحكماء، ومن كان يحفظ عليهم في أثناء
16
علومهم تواريخهم، حتى أتى على عامتهم، هذا بعد أن نقل ما احتاج إليه من علومهم إلى لسان اليونانيين.»
17
فلما نشطت الحركة العلمية في العصر العباسي أخذ طائفة ممن يجيدون اللسانين الفارسي والعربي ينقلون الكتب من الفارسية إلى العربية، وقد عقد ابن النديم في كتابه الفهرست فصلا لأسماء النقلة من الفارسي إلى العربي، ذكر منهم: (1) عبد الله بن المقفع (2) آل نوبخت (3) موسى ويوسف ابني خالد (4) أبا الحسن علي بن زياد التميمي (5) الحسن بن سهل (6) البلاذري (7) جبلة بن سالم (8) إسحاق بن يزيد (9) محمد بن الجهم البرمكي (10) هشام بن القاسم (11) موسى بن عيسى الكردي (12) زادويه ابن شاهويه الأصفهاني (13) محمد بن بهرام بن مطيار الأصفهاني (14) بهرام بن مردان شاه (15) عمر بن الفرخان.
18
وقد ترجم عبد الله بن المقفع «كتاب خداينامه»، وهو كتاب في تاريخ الفرس من أول نشأتهم إلى آخر أيامهم، وقد سماه ابن المقفع «تاريخ ملوك الفرس»، والظاهر أن الطبري اعتمد عليه في كتابه تاريخ الأمم والملوك عند كلامه على «الساسانيين»، وترجم كذلك كتاب «آبين نامه»، ومعنى الآبين النظم والعادات، والعرف والشرائع، فالكتاب وصف لنظم الفرس، وتقاليدهم وعرفهم، وقد ذكر المسعودي أنه كتاب كبير، يقع في آلاف من الصفحات.
كذلك ترجم ابن المقفع عن الفارسية «كليلة ودمنة»، وكتاب «مزدك»، وهو يتضمن سيرة مزدك الزعيم الديني الفارسي المشهور، وكتاب «التاج في سيرة أنوشروان»، وكتاب «الأدب الكبير» و«الأدب الصغير»، وكتاب «اليتيمة».
19
وقد ذكر المسعودي أن ابن المقفع ترجم كتابا اسمه كتاب «الكيكيين» من الفارسية الأولى إلى العربية، وهذا الكتاب تعظمه الفرس لما قد تضمنه من خبر أسلافهم وسير ملوكهم.
20
وقد عني المترجمون فترجموا كتبا عديدة من تاريخ الفرس، يقول حمزة الأصبهاني: «اتفق لي ثمان نسخ من تاريخ الفرس، وهي كتاب سير ملوك الفرس من نقل ابن المقفع، وكتاب سير ملوك الفرس من نقل محمد بن الجهم البرمكي، وكتاب تاريخ ملوك الفرس المستخرج من خزانة المأمون، وكتاب سير ملوك الفرس من نقل زادويه بن شاهويه الأصفهاني، وكتاب سير ملوك الفرس من نقل أو جمع محمد بن بهرام بن مطيار الأصبهاني، وكتاب تاريخ ملوك بني ساسان من نقل أو جمع هشام بن قاسم الأصبهاني، وكتاب تاريخ ملوك بني ساسان من إصلاح بهرام بن مردانشاه موبذ «كورة شابور» من بلاد فارس، فلما اجتمعت لي هذه النسخ ضربت بعضها ببعض، حتى استوفيت منها حق هذا الباب.»
21
وقال المسعودي: «ورأيت بمدينة إصطخر من أرض فارس في سنة 303، عند بعض أهل البيوتات المشرفة من الفرس كتابا عظيما يشتمل على علوم كثيرة من علومهم، وأخبار ملوكهم وأبنيتهم وسياستهم، لم أجدها في شيء من كتب الفرس؛ كخداينامه، وكهنامه، وغيرها، مصور فيه ملوك فارس من آل ساسان سبعة وعشرون ملكا، منهم خمسة وعشرون رجلا وامرأتان.»
22
وترجم جبلة بن سالم «كتاب رستم واسفنديار»، و«كتاب بهرام شوس»، وهما في السير.
23
وقد ترجم من الكتب الدينية كتاب زرادشت المسمى «أفستا»، وما عليه من شروح، وينقل عنه حمزة الأصفهاني.
24
ويقول المسعودي: «كانوا يقولون إن رجلا بسجستان بعد الثلثمائة مستظهر يحفظ هذا الكتاب على الكمال.»
25
وفي الأدب ترجموا عن الفرس أشياء كثيرة، منها ما ذكرنا قبل من كليلة ودمنة، واليتيمة، والأدب الكبير والصغير، ومنها كتاب «هزار أفسانه»، ومعناه ألف خرافة، وهو أصل من أصول «ألف ليلة وليلة»، وكثير غيره من كتب القصص، ككتاب بوسفاس، وكتاب خرافة ونزهة، وكتاب الدب والثعلب، وكتاب روزبه اليتيم، وكتاب نمرود ... إلخ.
كما ترجموا في الأدب عهد أردشير، وهو محفوظ بالعربية إلى عهدنا، وكتاب موبذ موبذان، وكتاب أردشير في التدبير، وتوقيعات كسرى، وكتاب أدب الحرب ... إلخ.
26
هذا الذي ذكرنا كان ترجمة ونقلا منا للسان الفارسي إلى العربي، وشيء آخر لا يقل عنه شأنا، وهو: أنه كان هناك قوم أتقنوا اللغة الفارسية والعربية معا، فعكفوا على قراءة الكتب الفارسية يتثقفون بها، ويرقون أفكارهم وعقولهم ، ثم هم يخرجون باللغة العربية أدبا وشعرا وعلما، وليس ما يخرجونه نقلا تاما لكلام فارسي، ولكنه منبعث عنه، ومتولد منه؛ كالعربي اليوم يتثقف ثقافة فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية، ثم هو بعد ذلك يخرج أدبا جديدا بلغته العربية لا يسمى أدبا أوروبيا، ولكنه نتاجه ومتأثر به، وسائر على أثره.
كان كثير من الفرس على هذا النحو، حذقوا الفارسية والعربية، وتثقفوا الثقافتين، وأنتجوا في الأدب العربي نتاجا جديدا؛ كالفضل بن سهل، وسهل بن هارون، وابن المقفع، ويقول الجاحظ عن موسى بن سيار الأسواري (أحد القصاص): كان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور به، فيقعد العرب عن يمينه، والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسره لهم بالفارسية. فلا يدرى بأي لسان هو أبين. واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منها الضيم على صاحبتها، إلا ما ذكروا من لسان موسى بن سيار الأسواري.»
27
بل نرى قوما من العرب تعلموا الفارسية، ووجدوا فيها من الغذاء ما لم يجدوه في العربية، فعكفوا على كتبها يتدارسونها، ويمعنون في دراستها، ثم يخرجون بعد أدبا عربيا، فيه معاني الفرس، وبلاغة العرب، نذكر مثلا على ذلك «العتابي» الشاعر العباسي المشهور، وهو عربي من تغلب، اسمه كلثوم بن عمرو بن أيوب، تثقف بالثقافة الفارسية، وأعجب بها، يحدثنا طيفور فيقول: «قال يحيى بن الحسن: إني بالرقة بين يدي محمد بن طاهر بن الحسين على بركة، إذ دعوت بغلام له فكلمته بالفارسية، فدخل العتابي، وكان حاضرا في كلامنا، فتكلم معي بالفارسية، فقلت له: أبا عمرو، مالك وهذه الرطانة؟ قال: فقال لي: قدمت بلدتكم هذه ثلاث قدمات، وكتبت كتب العجم التي في الخزانة بمرو، وكانت الكتب سقطت إلى ما هناك مع يزدجرد، فهي قائمة إلى الساعة. فقال: كتبت منها حاجتي، ثم قدمت نيسابور وجزنها بعشر فراسخ إلى قرية يقال لها ذودر، فذكرت كتابا لم أقض حاجتي منه، فرجعت إلى مرو، فأقمت أشهرا. قال:قلت أبا عمرو لم كتبت كتب العجم؟ فقال لي : وهل المعاني إلا في كتب العجم والبلاغة، اللغة لنا، والمعاني لهم! ثم كان يذاكرني ويحدثني بالفارسية كثيرا.»
28
كان العتابي إذن مثقفا ثقافة فارسية، وأنت إذا قرأت شعره ونثره تبينت منه أنه كان أديبا ممتازا، غزير المعاني، على حين أن كثيرا من الشعراء أشعارهم جوفاء، تقرأ له مثلا في العقد الفريد قطعا نثرية غزرت معانيها، ودق أسلوبها، وتقرأ له شعرا مطبوعا في فنون مختلفة من فنون الشعر، فتشعر بروح غير مألوف، كأن يقول:
فلو كان للشكر شخص يبين
إذا ما تأمله الناظر
لمثلته لك حتى تراه
لتعلم أني امرؤ شاكر
فيفتن به الناس، ويتغنون به زمنا طويلا،
29
وهو الذي يقول:
ما جف للعينين بع
دك يا قرير العين مجرى
إن الصبابة لم تدع
مني سوى عظم مبرى
ومدامع عبرى على
كبد عليك الدهر حرى
وله حكم تشبه حكم ابن المقفع، كأن يقول: الأقلام مطايا الفطن. قريبك من قرب منك خيره، وابن عمك من عمك نفعه، وعشيرك من أحسن عشرتك، وأهدى الناس إلى مودتك من أهدى بره إليك. وكتب يوصي بشخص فقال: «موصل كتابي إليك أنا: فكن له أنا!» وعلى الجملة فالعتابي شخصية نادرة، لم تقدر قدرها اللائق بها، قليل اللفظ، غزير المعنى، يدل نثره وشعره على ثقافة واسعة، قد اجتمع له من الإجادة في النظم والنثر ما ندر أن يجتمع لغيره، وقد أدركنا سبب ذلك مما علمنا من ثقافته.
هؤلاء الفرس الذين تعربوا، وهؤلاء العرب الذين أخذوا بحظ من الثقافة الفارسية، ملئوا الدنيا في هذا العصر العباسي علما وحكمة وشعرا ونثرا، فيها العنصر الفارسي واضح جلي. ومن حظ العربية وقتذاك أنها سادت اللغة الفارسية وغلبتها على أمرها، فكان نتاج العقول الفارسية الراجحة إنما هو باللغة العربية لا الفارسية، شعر الشاعر منهم عربي كبشار، وأدب الأديب منهم كابن المقفع، وتأليف المؤلف منهم عربي كابن قتيبة والطبري ... إلخ.
ثالثا: أثر الثقافة الفارسية في الأدب العربي، وقد كان ذلك من جملة وجوه: (1)
أن الأدب في كل عصر ظل الحياة الاجتماعية، وقد كانت هذه الحياة ذات ألوان متعددة، أظهر لون فيها اللون الفارسي.
وبيان ذلك أن العادات الفارسية تغلغلت في الناس في ذلك العصر، وكان مظهرها واضحا جليا، فالناس يتخذون يوم النيروز عيدا لهم كالفرس قديما، والقضاة وعظماء الدولة يلبسون القلنسوة كالفرس، ومجالس الغناء واللهو والشراب هي مجالس الفرس. والفضل بن سهل وزير المأمون (وهو فارسي) يحتال حتى يقنع المأمون بتغيير السواد بالخضرة، ويكتب إلى جميع العمال أن يجعلوا أعلامهم وقلانسهم خضرا، والخضرة هي لباس كسرى والمجوس.
30
ونظام الحرب وإدارة الدولة اتبعت في أغلب الأحيان نظام الفرس في حروبهم وإدارتهم، إلى كثير من أمثال ذلك.
والفرس من قديم ميالون إلى الإفراط في الشراب، والإفراط في الغناء، حتى وصفهم «هيرودوت» بالإمعان في ذلك، والغلو فيه، وتصريفهم شئون الدولة وهم سكارى.
ويروي حمزة الأصفهاني أن «بهرام جور» أمر الناس أن يعملوا من كل يوم نصفه، ثم يستريحوا ويتوافروا على الأكل والشراب واللهو، وأن يشربوا على سماع الغناء؛ فعز المغنون ... ومر بقوم يشربون على غير ملهين (مغنين) فقال: أليس قد نهيتكم عن الغفلة عن الملاهي؟ فقالوا: طلبناه بزيادة على مائة درهم فلم نقدر عليه. فكتب إلى ملك الهند يستدعي منه ملهين، فبعث إليه اثنى عشر ألف رجل منهم، ففرقهم على بلدان مملكته فتناسلوا بها.»
فما إن قرت الدولة العباسية حتى عاد الفرس إلى سيرتهم الأولى، فملئوا الجو غناء ونبيذا ولهوا وترفا، ورأينا رجالهم في كل فن من هذه الفنون هم قادة الناس في ذ لك، فإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق ينشران اللهو الظريف والغناء الحلو، ويعلمان الجواري، ويقدمان للناس المثل في حياة السرف والإتلاف في تحصيل اللذائذ، وكانا مع حسن صوتهما (وخاصة إسحاق) عالمين أديبين شاعرين، وقد وضع إسحاق علم الموسيقى في الدولة العباسية، وألف فيه، وأولع الناس بغنائهما، وقلدوهما في فنهما ولهوهما، ولما مات إبراهيم رثاه الشعراء بما يدل على أثره فيهم، فمن قائل:
تولى الموصلي فقدت ولت
بشاشات المزاهر والقيان
وأي بشاشة بقيت فتبقى
حياة الموصلي على الزمان
ستبكيه المزاهر والملاهي
وتسعدهن عاتقة الدنان
31
ومن قائل:
ستبكيه أشراف الملوك إذا رأوا
محل التصابي قد خلا منه جانبه
ويبكيه أهل الظرف طرا كما بكى
عليه أمير المؤمنين وحاجبه!
ومن قائل:
أصبح اللهو تحت عفر التراب
ثاويا في محلة الأحباب
إذ ثوى الموصلي فانقرض اللهو
بخير الإخوان والأصحاب
بكت المسمعات حزنا عليه
وبكاه الهوى وصفو الشراب
وبكت آلة المجالس حتى
رحم العود دمعة المضراب
32
وبشار بن برد الفارسي كان إمام المحدثين، والفاتح لهم باب التهتك على مصراعيه، سار شعره في العراق فلا غزل ولا غزلة إلا يروي من شعره، ولا نائحة ولا مغنية إلا تتكسب به، ويأتيه النساء في بيته فيأخذن عنه شعره.
ويقول سوار بن عبد الله، ومالك بن دينار: «ما شيء أدعى لأهل هذه المدينة (البصرة) إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى!» وكان واصل بن عطاء يقول:إن من أخدع حبائل الشيطان وأغواها لكلمات هذا الأعمى الملحد!»
33
ويقول بشار: «عسر النساء إلى مياسرة» فيشجع الفتيان على الإمعان في المغازلة والإلحاح في الطلب.
34
فلما فتح هذا الباب لج فيه من أتى على أثره، سواء في ذلك العربي والعجمي؛ كمطيع بن إياس، وأبي نواس. وكان لنا من هؤلاء جميعا أدب داعر، لا يتعفف عن العبث بالغلمان، ولا يكني عن فحش، إن ملح من ناحيته الفنية فالذوق النبيل لا يستسيغه.
نعم في الأدب الجاهلي خمر تراه في مثل شعر طرفة، وفحش تراه في مثل امرئ القيس: «تقول وقد مال الغبيط بنا معا»، و«ألا عم صباحا أيها الطلل البالي». وكان في الأدب الأموي خمر كالذي في شعر الأخطل، وكان غزل مكشوف كغزل عمر بن أبي ربيعة. ولكن أين هذا كله من شعر بشار وصريع الغواني ومطيع بن إياس، وأبي نواس! قد كان فجور الأولين ساذجا بسيطا في ألفاظه ومعانيه كمعيشتهم، وكان فجور الآخرين مركبا ممعنا في الوصف، شاملا لكل المظاهر، ومشاعر الشهوة، يتخير أقبح اللفظ لأقبح المعنى.
قد تقول: إن هذا نتيجة طبيعية لسير المدنية، فلما تقدمت بالناس حياتهم الاجتماعية، وما يتبعها من ترف، تقدم الشعر والأدب يسايران عيشة الترف والنعيم، فما للفرس ولهذا؟!
وقد يكون في هذا القول كثير من الصحة، ولكني أظن أن الأمر ما كان يصل إلى هذا الحد لولا الفرس؛ فهم الذين دفعوا الناس إلى حياة ترف ألفوها هم وآباؤهم عن عهد الأكاسرة، وعلموهم كيف يكون الإفراط في طلب الملاذ من طرق فنية أكسبتهم إياها حضارتهم القديمة، لا من طريق ساذج كالذي يعرفه العرب. هل كان يعرف العرب مجالس الغناء المتقنة، ومجالس الشراب المترفة، وحياة النعيم الناعمة لولا الفرس؟ فعظماء الفرس كالبرامكة وأمثالهم أرشدوا الناس إليها، وفنانوهم كإبراهيم الموصلي غنوهم عليها، وشعراؤهم كبشار بن برد كانوا لسانهم الناطق بها، المحدث عنها! ولو كانت الحياة الأموية امتدت وظلت السيادة العربية ما رأيت تشبيبا بغلمان، ولا هذا السيل الجارف من القيان، ولما رأيت نعيما وترفا وفيرا. ألم تر الشام ومصر والأندلس في هذا العصر نفسه؟ لم تنغمس في الترف كما انغمست العراق وفارس، ولم يكن أدبها أدبا ناعما داعرا كالذي كان في العراق. قد تكون كثرة المال يصب في حاضرة الخلافة سببا للترف في الحياة، والترف في الأدب، ولكن المال وحده لا يكفي لولا العنصر الفارسي الذي كان ينظم كيف يستخدم المال في هذه السبيل.
من الحق أن نقول إن هذه النزعة إلى اللهو والترف لم تكن نزعة عامة شاملة للفرس، بل كان هناك نزعات أخرى بجانبها، أظهرها ما كان يقابلها من نزعة الزهد، وكان زعيم هذه النزعة في الأدب أبا العتاهية الفارسي أيضا.
قد كان قبل أبى العتاهية حياة زهد في الجاهلية، وفي العصر الإسلامي، وكان قبل أبي العتاهية شعر زاهد، ولكن أبا العتاهية أتى في هذا الباب بما لم يسبق إليه، وزاد في معانيه زيادة بشار وأبي نواس في أدب اللهو والمجون.
وأصح تعبير في ذلك أن نقول إنه فلسف الزهد، وملأ الأدب العربي في عصره بالموت والتخويف منه، ومما بعده، واحتقار اللذة، والجد في الهرب منها:
لدوا للموت وابنوا للخراب
فكلكم يصير إلى تباب
35
لمن نبني ونحن إلى تراب
نصير كما خلقنا من تراب؟
ألا ياموت لم أر منك بدا
أتيت وما تحيف وما تحابي! •••
طلبتك يا دنيا فأعذرت في الطلب
فما نلت إلا الهم والغم والنصب
فلما بدا لي أنني لست واصلا
إلى لذة إلا بأضعافها تعب
وأسرعت في ديني ولم أقض بغيتي
هربت بديني منك إن نفع الهرب
وشعر لجمهور الناس لا للخاصة، وقال: إن الزهد ليس من مذاهب الملوك، ولا من مذاهب رواة الشعر بها، ولا طلاب الغريب. وهو مذهب أشغف الناس به الزهاد، وأصحاب الحديث، والفقهاء، والعامة، وأعجب الأشياء إليهم ما فهموه.
36
وقال المبرد: «كان يخرج القول منه كمخرج النفس قوة وسهولة واقتدارا.»
وقد كان لشعره صبغة علمية دينية فلسفية، قال الصولي: «كان مذهب أبي العتاهية القول بالتوحيد، وأن الله خلق جوهرين متضادين لا من شيء، ثم إنه بنى العالم هذه البنية منهما، وأن العالم حديث العين والصنعة، لا محدث له إلا الله. وكان يزعم أن الله سيرد كل شيء إلى الجوهرين المتضادين قبل أن تفنى الأعيان جميعا، وكان يذهب إلى أن المعارف واقعة بقدر الفكر والاستدلال والبحث طباعا.
37
وكان يقول بالوعيد، وبتحريم المكاسب، يتشيع بمذهب الزيدية البترية المبتدعة لا ينتقص أحدا، ولا يرى مع ذلك الخروج على السلطان، كان مجبرا.»
38
وعلى الجملة فالشعر الديني الذي كان يحمل لواءه في ذلك العصر صالح بن عبد القدوس وأبو العتاهية؛ فيه نزعة ثنوية كان ينزعها الفرس قديما، وسنرى عند الكلام في التصوف أثر الفرس في حياة الزهد، ولكن يمكننا أن نقول الآن: إنه إن كان في نزعة بشار الإباحية عنصر مزدكي ففي نزعة أبي العتاهية الزاهدة عنصر مانوي.
وقد كان للفرس أثر كبير في الأدب غير هذا الذي ذكرناه؛ فقد كانت كتبهم في القصص التي نقلت من الفارسية إلى العربية (ككليلة ودمنة وهزار إفسانه) أساسا من الأسس التي بنت عليها الأجيال المتعاقبة ما بين أيدينا من قصص عربي، فابن النديم يروي أن محمد بن عبدوس الجهشياري صاحب كتاب الوزراء «ابتدأ بتأليف كتاب اختار فيه ألف سمر من أسمار العرب والعجم والروم، وغيرهم، كل جزء قائم بذاته لا يعلق بغيره، وأحضر المسامرين فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار من الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ما يحلو بنفسه، وكان فاضلا فاجتمع له من ذلك أربعمائة ليلة وثمانون ليلة، كل ليلة سمر تام يحتوي على خمسين ورقة، وأقل وأكثر، ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تتميمه ألف سمر.»
39
و ضرب آخر من الآداب كان للفرس فيه أثر كبير، وهو باب «التوقيعات»؛ ذلك أن الفرس قبل الإسلام كانوا يعنون بالبلاغة عناية كبرى، وكان لهم فيها تأليف كما حكى الجاحظ. وكان من أظهر عنايتهم بالبلاغة والحكم التوقيعات. قد كان الفرس ككل الشعوب، يرفعون إلى ولاة أمورهم أوراقا تتضمن طلبا لشيء، أو شكوى من شيء، نسميها نحن الآن «عرائض»، وكانت تسمى عند العرب «قصصا»، سميت كذلك على سبيل المجاز؛ لأن القصة اسم للمحكي في الورقة، فسميت الورقة نفسها «قصة»، وكانت تسمى كذلك رقاعا، لصغر حجمها تشبيها لها برقعة الثوب.
كانت هذه القصة ترفع إلى الملك، أو من يليه تبعا لموضوعها، وتبعا للمتظلم وقدره، وقد جرت عادة الملوك والولاة من الفرس أن يوقعوا على هذه القصص بعبارة بليغة، أو حكمة حكيمة، يتخير لها أحسن اللفظ، وأجود المعنى، وتتناقل أثرا من الآثار القيمة، كما يتناقل المثل الجيد. وقد نقل إلى أدبنا العربي الشيء الكثير من توقيعات ملوك الفرس؛ من ذلك أن رجلا رفع إلى كسرى بنقباذ رقعة يخبره فيها أن جماعة من بطانته قد فسدت نياتهم، وخبثت ضمائرهم؛ منهم فلان وفلان، فوقع في أسفل كتابه: «إنما أملك ظاهر الأجسام لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالهوى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.» ووقع أنوشروان في قصة محبوس: من ركب ما نهي عنه حيل ما بينه وبين ما يشتهي! ومدح رجل من الخاصة كسرى بنقباذ بمدح أطنب فيه وأسهب، وذهب كل مذهب، وكان المدح في رقعة فوقع فيها كسرى: «إني للمدح مستصغر؛ لعلمي بأشياء قد مدحت، وكانت بأن تذم محقوقة.» إلخ. ولما تحضر العرب، وانتشرت بينهم الكتابة، وحرروا مظالمهم على رقاع بعد أن كانوا يشافهون بها أمراءهم، كان لهم توقيع. وقد نقلت توقيعات في أيام الخلفاء الراشدين وبني أمية، أخشى أن يكون كثير منها كان شفهيا فحور إلى توقيع، ولكن قد سال سيل التوقيعات في عهد بني العباس، وكان أكثر الكتاب والوزراء فرسا فساروا فيها على سنن آبائهم، وكثر ذلك حتى أنشئوا فيما بعد ديوانا سموه «ديوان التوقيع».
هذا إلى أنه كان للفرس شعر كثير، وأمثال كثيرة، وأدب كثير، وضع تحت أعين العرب، قال أبو هلال العسكري في رسالته «التفضيل بين بلاغتي العرب والعجم»: «للفرس أشعار لا تضبط كثرة، ولليونانيين أشعار دون الفرس.» ويقول في موضع آخر: «سمعت أبا بكر بن دريد يقول: اجتمع في ديوان صالح بن عبد القدوس (وهو رجل من شعرائهم) ألف مثل للعرب، وألف مثل للعجم.»
40
وترجمت بعض أمثال العجم إلى العربية؛ مثل: عفو الملك أبقى للملك، خاطر من استغنى برأيه، الأسد يفترس الأرنب إذا أعياه العير، الفرار في وقته ظفر، امنع أخاك من أكل الخبيث فإن أبى فأعطه ملعقة، من أوقد نار الفتنة احترق بها، لا تستبعد غدا وما بعده، هو يطلب الثمر بلا شوك.
41
وكانت هذه المعاني الفارسية تسرق وتنظم أو تحتذى، يقول بزرجمهر: «إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك فأنفق فإنها لا تبقى.» فيقول الشاعر:
فأنفق - إذا أنفقت - إن كنت موسرا
وأنفق - على ما خيلت - حين تعسر
فلا الجود يفني المال والجد مقبل
ولا البخل يبقي المال والجد مدبر
42
ويخطب أردشير لما استوثق له الملك، يحرض الناس على الألفة والطاعة، ويقوم بين يديه خطيب فيقول له: «قد أشرق علينا من ضياء نورك ما عمنا عموم ضياء الشمس، ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما اتصل بأنفسنا اتصال النسيم، فجمعت الأيدي بعد افتراقها، والكلمة بعد اختلافها، وألفت بين القلوب بعد تباغضها، وأذهبت الإحن والحسائك بعد استعار نيرانها.» فيقول خالد بن صفوان مثل هذا المعنى يخاطب واليا: «قدمت فأعطيت كلا بقسطه من نظرك ومجلسك وصلاتك وعدلك، حتى كأنك من كل أحد، أو كأنك لست من أحد!».
43
وقيل لابن المقفع: لم لا تطلب الأمور العظام؟ فقال: رأيت المعالي مشوبة بالمكاره، فاقتصرت على الخمول ضنا بالعافية، فأخذه العتابي وقال:
دعيني تجئني ميتتي مطمئنة
ولم أتجشم هول تلك الموارد
فإن جسيمات الأمور مشوبة
بمستودعات في بطون الأساود
44
وينصح طاهر بن الحسين الفارسي ابنه عبد الله لما ولاه المأمون الرقة ومصر بكتابه المشهور، ويوصيه فيه بجميع ما يحتاج إليه في دولته من الآداب الدينية والخلقية والسياسة والشرعية والملوكية، فتلمح فيه شبها كبيرا بينه وبين ما نقل إلينا من عهد أردشير.
45
ويكتب أبو مسلم الخراساني للمنصور حين أمره بالقدوم عليه: «أما بعد، فإنه مما حفظناه من وصايا الفرس: أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء.»
46 •••
وشيء آخر كان له أثر كبير في الثقافة الإسلامية؛ ذلك ما تنبه إليه ابن خلدون من «أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، لا من العلوم الشرعية، ولا من العلوم العقلية.
47
إلا في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته.»
48
ويعلل ذلك بأن العلوم من جملة الصناعات، والصناعات من خصائص الحضر، والعرب كانوا بدوا، فكانت العلوم من نتاج الحضر، والحضر في ذلك العهد هم العجم، ومن في معناهم من الموالي. ويقول: «فكان صاحب صناعة النحو سيبويه، والفارسي من بعده، والزجاج من بعدهما، وكلهم عجم في أنسابهم، وإنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربي ومخالطة العرب، وصيروه قوانين وفنا لمن بعدهم. وكذا حملة الحديث الذين حفظوه عن أهل الإسلام أكثرهم عجم، أو مستعجمون باللغة والمربى، وكان علماء أصول الفقه كلهم عجما كما يعرف، وكذا حملة علم الكلام، وكذا أكثر المفسرين. ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم، وظهر مصداق قوله (
صلى الله عليه وسلم ): لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس.»
49
ونحن نعتقد أن ابن خلدون مع دقة ملاحظته قد غالى فيها غلوا كبيرا، وبخس العرب نصيبهم في المشاركة ؛ فلئن كان أبو حنيفة النعمان فارسيا فمالك والشافعي وأحمد بن حنبل عرب، ولئن كان سيبويه فارسيا فشيخه الخليل بن أحمد عربي. وليس كل علماء أصول الفقه عجما كما يقول؛ فواضعه وأول مؤلف فيه الشافعي وهو عربي، وغلو أن يدعى أن هؤلاء العلماء العرب هم عجم بالمربى، فإن المربى كان مزيجا من عرب وعجم.
ولكن مما لا شك فيه أن العجم - وخاصة الفرس - كانوا في جملتهم أقدر على التدوين والتأليف للسبب الذي ذكره ابن خلدون، وهو تعمقهم في الحضارة، ولأنهم مرنوا من قديم على التأليف بلغتهم هم وآباؤهم، فلما دخلوا في الإسلام وتعلموا العربية كان تأليفهم بالعربية سهلا يسيرا؛ لأنه ليس إلا احتذاء للمنهج، وإن اختلف الموضوع واللغة. إذن لا عجب من أن نرى في عصرنا الذي نؤرخه كثيرا من الفرس كانوا من السابقين الأولين في تدوين العلوم المختلفة.
فالإمام أبو حنيفة النعمان إمام المذهب، وحماد الراوية جامع المعلقات العشر، وراوي كثير من الشعراء، وسيبويه الإمام المقدم في النحو وتدوينه، والكسائي أحد الأئمة الأعلام في النحو واللغة والقراءات، وهو أحد القراء السبعة، والفراء أبرع الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة والغريب وأخبار العرب وأيامها، وذو النزعة الشعوبية أبو العتاهية شاعر الزهد، وابن قتيبة المؤرخ الأديب، صاحب التآليف الكثيرة ككتاب المعارف وعيون الأخبار، كل هؤلاء وغيرهم ممن لم نذكرهم كانوا فرسا، وكان لهم أثر كبير في الثقافة العربية الإسلامية.
قد كان وراء هذه الثقافة الفارسية، وهؤلاء العلماء الفرس قوى تحميها وتدفعها، هذه القوى ظاهرة أحيانا وخفية أحيانا، وتنطوي على نية خير أحيانا ونية سوء أحيانا، منهم من يريد خدمة العلم، والعمل على نشره، لا يريد بذلك إلا وجه الله والعلم، ومنهم من يريد أن يشيد بالقومية الفارسية، والحط من القومية العربية، بل منهم من يريد الكيد للإسلام وأهله. ومنهم من يرى أن الحكمة ضالة المؤمن ينشدها حيث وجدها، ويعمل على إذاعتها. ومنهم من ينشر شعوبية، ومنهم من ينشر زندقة، ومنهم من يغلو في التشيع لأهل البيت، وهو يضمر السوء للمسلمين. كل هذا الخير وكل هذا الشر كان في النزعات الفارسية، وسيأتي توضيح لبعض ذلك في أبوابه.
يقول الجاحظ في وصف الفرس: «واعلم أن هذه الأحاديث من أحاديث الفرس، وهم أصحاب نفخ وتزيد،
50
ولاسيما في كل شيء مما يدخل في باب العصبية، ويزيد في أقدار الأكاسرة.»
51
وقد كان من أعظم من يحمي الثقافة الفارسية، وينشرها «البرامكة» الفرس، وما لهم من مال وفير، وكرم واسع، يحقق رجاءهم، ويبسط نفوذهم، روى الجاحظ عن ثمامة، قال: كان أصحابنا يقولون: لم يكن يرى لجليس خالد «البرمكي» دار إلا وخالد بناها له، ولا ضيعة إلا وخالد ابتاعها له، ولا ولد إلا وخالد ابتاع أمه إن كانت أمة، أو أدى مهرها إن كانت حرة، ولا دابة إلا وخالد حمله عليها؛ إما من نتاجه، أو من غير نتاجه.»
52
وهم مع هذا وذاك مثقفون ثقافة واسعة، وفي الغاية من العلم والأدب والفصاحة؛ يقول سهل بن هارون في وصف يحيى بن خالد البرمكي، وجعفر بن يحيى: «لو كان كلام يتصور درا، أو يحيله المنطق السري جوهرا لكان كلامهما والمنتقى من لفظهما!» ويحيى بن خالد ينشئ الكتاتيب للأيتام،
53
ويتحبب إلى الناس، ويحبب الناس أولاده، ويقول لولده: «لا بد لكم من كتاب وعمال وأعوان، فاستعينوا بالأشراف، وإياكم وسفلة الناس؛ فإن النعمة على الأشراف أبقى، وهي بهم أحسن، والمعروف عندهم أشهر، والشكر منهم أكثر.»
54
ما لقينا من جود «فضل بن يحيى»
ترك الناس كلهم شعراء
كان هؤلاء البرامكة وأمثالهم يعملون على نشر الثقافة الفارسية، فالفضل بن سهل الفارسي، الملقب فيما بعد بذي الرياستين، ينقل كتابا من الفارسية إلى العربية ليحيى البرمكي، فيعجب بفهمه وبجودة عبارته، فيدعوه يحيى إلى الإسلام لينال المناصب.
55
وهو بعد أن أصبح ذا الرياستين يبعث بمولاه، وبأحداث من أهله إلى شيخ بخراسان، ويقول لهم: تعلموا منه الحكمة، ثم يعرضون ما يعلمهم الشيخ على الفضل بن سهل، فيتبين فيها الأثر الفارسي.
56
وقد عرف عن البرامكة إيواؤهم لكثير ممن عرفوا بحرية الرأي، أو اتهموا بالزندقة، فكانت البرامكة تحسن إلى محمد بن الليث الخطيب، وتقدمه، وكان ممن يرمى بالزندقة.
57
وكان هشام بن الحكم الرافضي منقطعا إلى يحيى بن خالد البرمكي، وكان القيم بمجالس كلامه ونظره، وقد ألف كتبا كثيرة في الخلافة، ومسائل علم الكلام.
58
ومن الحق أن نذكر أن البرامكة لم يشجعوا الثقافة الفارسية وحدها، بل شجعوا كل ثقافة، فابن النديم يروي عند الكلام على كتاب المجسطي في الهيئة؛ أن أول من عني بتفسيره وإخراجه إلى العربية يحيى بن خالد بن برمك، ففسره له جماعة فلم يتقنوه، ولم يرض ذلك فندب لتفسيره أبا حسان، وسلما (صاحب بيت الحكمة) فأتقناه واجتهدا في تصحيحه.
59
كما أنه أمر بتفسير كتاب في الطب، لمنكه الهندي،
60
وبعث يحيى أيضا برجل إلى الهند ليأتيه بعقاقير موجودة في بلادهم، وأن يكتب له أديانهم، فكتب له هذا الكتاب.
61
فهؤلاء البرامكة، وإن عنوا بالثقافة الفارسية فقد عنوا بجانبها كذلك بالثقافة اليونانية والهندية والعربية.
والآن نستطيع أن نختار رجلا يمثل الثقافة الفارسية خير تمثيل، وليكن «ابن المقفع».
ابن المقفع
لسنا نريد أن نبحث في ابن المقفع بحثا تحليليا، في مولده وأسرته، ومناصبه التي تولاها، وعلاقته بالولاة والأمراء. ولا أن نبحث طويلا في مقدرته البلاغية وأسلوبه، وأثره في أسلوب عصره ومن أتى بعده، فذلك بالناحية الأدبية أشبه. وإنما نريد أن نبحث فيه من ناحية ثقافته الواسعة، وآثاره الخالدة، ومن ناحية أنه نتاج ثقافة فارسية عميقة واسعة، لقحت بعد بلقاح عربي، فكان من هذا وذاك أدب جم، مدين في أكثر معانيه للفرس، وفي أكثر ألفاظه وأساليبه للعربية. •••
ابن المقفع، فارسي الأصل، اسمه «روزبه بن داذويه». كان أبوه من قرية اسمها «جور»،
62
من إقليم فارس، ونشأ ابن المقفع بالبصرة في ولاء «آل الأهتم»، وهم معروفون بالفصاحة واللسن، وخالط الأعراب وأخذ عنهم، وكان أبوه يدين بمذهب زرادشت، ونشأ ابن المقفع كأبيه زرادشتيا، وتقلد الكتابة لكثيرين، فكتب ليزيد بن عمر بن هبيرة، وكان يزيد واليا على العراق لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ثم كتب لأخيه داود بن عمر بن هبيرة، ثم اتصل بعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس عم السفاح والمنصور، وكان إلى هذا العهد لا يزال مجوسيا، فأسلم على يديه وكتب له، ثم قتل لتشدده (على ما يقول كثير من المؤرخين) في كتابة صيغة الأمان التي وضعها ابن المقفع ليوقع عليها أبو جعفر المنصور أمانا لعبد الله بن علي، فأفرط ابن المقفع في الاحتياط فيها، حتى لا يجد المنصور منفذا فيها للإخلال بعهده،
63
فغاظ المنصور ذلك فأوعز بقتله.
ولم نجد للمؤرخين سببا آخر لقتله، إلا ما حكاه الجاحظ من أن ابن المقفع كان أغرى عبد الله بن علي بالمنصور، ففطن له وقتل،
64
وكان قتله سنة 142ه، أو 143 أو 145 على خلاف في ذلك.
65
نستطيع أن نستنتج من هذا نتيجتين هامتين:
الأولى:
أنه لم يقض من حياته في العصر العباسي إلا نحو عشر سنوات، أما بقية حياته فقد قضاها في العصر الأموي، وشهد اضطهاد العرب للموالي، وشاركهم في محنتهم وبؤسهم أيام الأمويين. ولم يكن مسلما يلطف دينه من كرهه للعرب كما كان شأن المتدينين؛ فلا بد أن يكون قد أفعم بكره العرب، وشاهد الدعوة العباسية، واشتراك الفرس فيها، وتمنى كما تمنوا أن يرفع عنهم نير الأمويين، وسر كما سروا باستيلاء العباسيين.
الثانية:
أنه نشأ مجوسيا زرادشتيا، وقضى زهرة شبابه في أحضان المجوسية، مثقفا بثقافتها، ولم يسلم إلا قبل قتله ببضع سنوات، بعد أن تكون ونضج، وتقلد الكتابة للكثيرين. وكان قبل إسلامه مستمسكا بدينه، فلما أراد أن يسلم قال له عيسى بن علي عم المنصور: ليكن ذلك بمحضر من القواد، ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر. ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس يأكل ويزمزم على عادة المجوس، فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟ فقال أكره أن أبيت على غير دين. فلما أصبح أسلم على يده فسمي بعبد الله، وسنتعرض لهذا الموضوع عند الكلام في زندقته.
وابن المقفع من أقوى الشخصيات في عالم الأدب العربي، قوي في خلقه، قوي في عقله وسعة علمه، قوي في لسانه.
أما خلقه فنبل وكرم، وتعهد لذوي الحاجات يواسيهم، وتقدير دقيق للصداقة ، ومراقبة شديدة لنفسه يحملها على الأجدر والأنبل، ورغبة شديدة في إصلاح الراعي والرعية خلقيا واجتماعيا، إلى ظرف الخاصة، والتمسك بآداب اللياقة، ومراعاة الدقة فيما يتطلبه الذوق.
نستنتج هذا مما قصه علينا المؤرخون، ومما نلمحه في كتبه التي بين أيدينا، قال سعيد بن سلم: قصدت الكوفة، فرأيت ابن المقفع فرحب بي، وقال: ما تصنع ههنا؟ فقلت: ركبني دين. فقال: هل رأيت أحدا؟ قلت: رأيت ابن شبرمة فوعدني أن أكون مربيا لبعض أولاد الخاصة. فقال: أف! أيجعلك مؤدبا في آخر عمرك؟! أين منزلك؟ فعرفته، فأتاني في اليوم الثاني، وأنا مشغول بقوم يقرءون علي، فوضع بين يدي منديلا فإذا فيه أسورة مكسورة، ودراهم متفرقة مقدار أربعة آلاف درهم، فأخذت ذلك ورجعت به إلى البصرة واستعنت به.
66
ويقول الجهشياري فيه: «كان سريا سخيا، يطعم الطعام، ويتسع على كل من احتاج إليه، وكان قد أفاد من الكتابة لداود بن عمر مالا، فكان يجري على جماعة من وجوه أهل البصرة والكوفة ما بين الخمسمائة إلى الألفين في كل شهر.»
67
ثم هو صديق لعبد الحميد الكاتب، فيطلب عبد الحميد ليقتل، وهو معه، فيقول الذين دخلوا عليهما: أيكما عبد الحميد؟ فيقول كل واحد منهما: «أنا»؛ خوفا على صاحبه، وخاف عبد الحميد أن يسرعوا إلى ابن المقفع فقال: «ترفقوا فإن في علامات، ووكلوا بنا بعضكم. ويمضي بعض يذكر تلك العلامات ففعل ذلك.»
68
وصفه الجاحظ فيقول: «كان جوادا فارسا جميلا، ويدعوه عيسى بن علي للغداء، فيقول: أعز الله الأمير! لست اليوم للكرام أكيلا. قال: ولم؟ قال: لأني مزكوم، والزكمة قبيحة الجوار، مانعة من عشرة الأحرار. ويعجب الناس بأدبه، فيسألونه: من أدبك؟ فيقول: نفسي! إذا رأيت من غيري حسنا أتيته، وإن رأيت قبيحا أبيته. ويدل الباقي من كتبه على باقي ما وصفنا من خلقه.
ثم هو واسع الاطلاع، مضطلع باللسانين العربي والفارسي، نقل خير ما رأى باللغة الفهلوية إلى اللسان العربي، وهو غزير المعاني إذا كتب، ليست كتابته جوفاء ككثير من كتابات الناس، يمعن في اختيار المعنى، ثم يمعن في اختيار اللفظ له. قالوا: «كان قلم ابن المقفع يقف، فقيل له في ذلك ، فقال: إن الكلام يزدحم في صدري، فيقف قلمي لتخيره.»
69
ويقول محمد بن سلام: «سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.»
70
وقال جعفر بن يحيى: «عبد الحميد أصل، وسهل بن هارون فرع، وابن المقفع ثمر، وأحمد بن يوسف زهر.»
71
وستتبين غزارة معانيه، وقوة تفكيره مما يأتي.
آثاره الأدبية
ذكرنا فيما سبق ما ترجم من الفارسية إلى العربية، وما نقله منها ابن المقفع. والآن نذكر آثاره الباقية في أيدينا، ونتعرض لها بشيء من التحليل وهي: (1)
الأدب الصغير (2)
الأدب الكبير أو اليتيمة (3)
رسالة الصحابة (4)
كليلة ودمنة •••
الأدب الصغير والأدب الكبير:
كلمة الصغير والكبير وصف للكتاب، وقد شاع استعمال هذا التعبير في ذلك العصر، فقالوا كتاب الطبقات الكبير لابن سعد، وأحيانا يحذفون كلمة «كتاب»، ويبقون الوصف فيقولون «السير الكبير والسير الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني»، ومن هذا الأدب الصغير والأدب الكبير؛ فليس الصغير والكبير وصفين للأدب، ولكن للكتاب المفهوم ضمنا.
والقارئ لعبارة ابن النديم يفهم أن الأدب الصغير والأدب الكبير غير كتاب اليتيمة؛ فهي كتب ثلاثة، ولكن كثيرا من الأدباء أطلقوا على الأدب الكبير اسم اليتيمة أو الدرة اليتيمة. كذلك يفهم من ابن النديم أن هذه الكتب الثلاثة ترجمها ابن المقفع، والمعروف بين الأدباء، والظاهر من تعبيراتهم أنه ألفها. ونحن نرجح أن الأدب الكبير ليس هو اليتيمة، وأنهما كتابان مختلفان لابن المقفع، ودليلنا على ذلك: (1)
أن ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار يورد هذين الاسمين في مواضع مختلفة، فيقول أحيانا: «قرأت في اليتيمة»، وأحيانا «في الأدب الكبير»، وما ينقله عن اليتيمة ليس موجودا في الذي بين أيدينا مما يسمى اليتيمة.
72 (2)
وردت فصول من اليتيمة في كتاب المنثور والمنظوم لابن طيفور، لا نجدها فيما بين أيدينا من الأدب الكبير الذي سمي اليتيمة. (3)
قال الباقلاني في إعجاز القرآن: «وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن ، وإنما فزعوا إلى الدرة اليتيمة، وهما كتابان أحدهما يتضمن حكما منقولة توجد عند حكماء كل أمة، والآخر في شيء من الديانات.» واليتيمة التي بين أيدينا ليس فيها فصول عن الديانات، فالراجح أن الذي بقي لنا هو الأدب الكبير، أطلق عليه خطأ اسم الدرة اليتيمة.
وأما المسألة الثانية، وهي: هل هما مؤلفان أو مترجمان؟ فنفس الكتابين يدلان على أن ابن المقفع لم يترجمهما حرفيا كما نفهم من معنى الترجمة، وإن كان اعتمد في كثير من المعاني على معاني الأقدمين. قال في الأدب الصغير: «قد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفا، فيها عون على عمارة القلوب وصقالها، وتجلية أبصارها، وإحياء للتفكير، وإقامة للتدبير، ودليل على محامد الأمور، ومكارم الأخلاق.» وقال في الأدب الكبير المسمى بالدرة اليتيمة: «إنا لم نجدهم (أي الأولين) غادروا شيئا، يجد واصف بليغ في صفته له مقالا لم يسبقوه إليه، لا في تعظيم الله عز وجل، وترغيب فيما عنده، ولا في تصغير للدنيا، وتزهيد فيها، ولا في تحرير صنوف العلم، وتقسيم أقسامها، وتجزئة أجزائها، وتوضيح سبلها، وتبيين مآخذها، ولا وفي وجوه الأدب وضروب الأخلاق؛ فلم يبق في جليل من الأمر لقائل بعدهم مقال، وقد بقيت أشياء من لطائف الأمور، فيها مواضع لصغار الفطن، مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم. ومن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس.»
وكلمة الأدب في الكتابين ليس معناها ما نستعمله الآن فيما يقابل العلم، وإنما يطلقها ابن المقفع على معنى تهذيب النفس والخلق.
والأدب الصغير عبارة عن كلمات حكيمة في الأخلاق، لا تحلل النفس والخلق تحليلا «دقيقا واسعا مستوفى، ولا تذكر الخلق فتبسط القول فيه، وتذكر وصفه، والسبيل إلى اكتسابه، فذلك بالعقل اليوناني أشبه، ولكنها عبارة عن جمل موجزة أشبه بالأمثال، وهي خطرات؛ نتيجة تجارب قد صيغت في إيجاز، وفي عبارة رشيقة رقيقة، مثل: «أربعة أشياء لا يستقل منها القليل: النار، والمرض، والعدو، والدين.»
ومثل «لا تعد الغنم غنما إذا ساق غرما، ولا الغرم غرما إذا ساق غنما، ولا تعتد من الحياة ما كان في فراق الأحبة ... إلخ.
ونلاحظ في الأدب الصغير أنه ليس - في كثير من مواضعه - ارتباط بين حكمه؛ فهي أشبه برجل أخذ يرصد تجارب مختلفة في حالات مختلفة، فكلما عثر على تجربة وضعها، وإن كانت إحدى التجارب اقتصادية، والأخرى دينية، والثالثة نفسية، أو كرجل يقرأ في كتب مختلفة، فكلما وجد كلمة أعجبته دونها، لذلك ترى كلمة في محاسبة النفس، وبجانبها كلمة في الصديق، ثم كلمة في معاملة الناس بحسب طبقاتهم، ثم في تعادي الرأي والهوى، ثم بعد كثير من الصفحات تجد كلمة أخرى في الصديق، قد كان يحسن أن تكون بجانب الأولى، وهكذا. ثم هو مختلف في طريقة التأليف؛ فأحيانا ينشئ الشيء من غير إسناد، وأحيانا يقول: وقالت الحكماء، وأحيانا تجد قبل الحكمة كلمة «وقال»؛ مما يدل على أنه لم يضعها هو في هذا الموضع.
أما الأدب الكبير، أو ما سماه الكتاب بالدرة اليتيمة، فكلمات كذلك، ولكنها في مجموعها أطول، وهي مرتبة غالبا، ألفت الكلمات المتعلقة بموضوع واحد في موضع واحد تقريبا، يدور أغلبها على موضعين، قد استوفي الكلام فيهما استيفاء حسنا؛ فأولهما: الكلام على السلطان والولاة، ومن يتصل بهما، وقد كان هذا الموضوع يشغل نفسه كثيرا، يتجلى ذلك في أكثر ما كتب، لأن حياته كانت متصلة به، فقد كتب للولاة، واتصل بهم، وصادقهم وعاداهم. وقد اتصل بالخلاف بين المنصور وأعمامه، وكان ركنا من أركان هذا الخلاف، ومحررا لوقائعه، ومستشارا في أمره، ومنغمسا فيه، وقارئا لمثل هذه الأحداث في سير الفرس، ومترجما لها، فلا عجب إذا أكثر الكتابة فيه، ولا عجب إذا أجاد، وقد جمع فيه مأثور الأولين، وتجارب الآخرين، إلى ما منحه الله من دقة نظر، وحسن أداء. وقد استغرق هذا الموضوع القسم الأول من الكتاب. والموضوع الثاني: الصداقة والصديق. وقد كان ابن المقفع يقدر هذا تقديرا دقيقا، ويرى في الأصدقاء عماد الحياة، ومرآة النفس، يفضي إليهم وحدهم ببنات صدره، ودخائل نفسه، ويضع عندهم وحدهم مكنونات سره، ويضع عنه مؤونة الحذر والتحفظ. أما غيرهم فليس لهم لباس آخر، لا يلقاهم إلا متحفظا متشددا متحرزا. ولأجل ذلك أثقل في شروط الصديق، ونصح بالدقة التامة في اختياره؛ «لأن ذا الرأي لا يدخل أحدا من نفسه هذا المدخل إلا بعد الاختبار والسبر، والثقة بصدق النصيحة، ووفاء العقل.» وتدل سيرته على أنه آمن بما كتب، ودان به، وسار في حياته على ما كتب من قوانين الصداقة؛ بذل دمه لصديقه عبد الحميد، وبذل ماله لأصدقائه بل لمعارفه، كما فعل مع سعيد بن سلم، ومثل ابن المقفع في علاقته الدقيقة بين الولاة والأمراء، وما يلاقي في سبيل ذلك من مشكلات وصعاب، وفي عقله البحاث، وانتقاله من دين إلى دين، وما يعرض عادة في ذلك من شكوك وارتياب، وفي نزعته إلى الإصلاح الاجتماعي، وما يرى حوله من عيوب تتصل أحيانا بالولاة وأحيانا بالخلفاء، ويرى أحيانا وجوب الجهر بالنصيحة، والإرشاد إلى مواطن الضعف وطرق العلاج؛ مثل ابن المقفع في هذه المواقف يحتاج إلى الصديق الذي يصفه، وإلى الشروط التي يشترطها له، يفضي إليه بدخائل نفسه، وفيما يرى من دولة تنهار ودولة تقام، وأسس توضع لا بد أن يشترك في وضعها، ويبين عيب القديم والحديث، وما يطمح إليه من إصلاح، وإليه يفزع في عوامل تضطرم في نفسه بين دين نشأ عليه، وتمكن في أعماق نفسه، ثم هو يريد أن يتخلى عنه إلى دين جديد له شعائر تخالف شعائر دينه القديم، وله تعاليم تتعارض مع ما ألف، هناك يتنازع العقل والشعور، وهناك تتحارب العواطف، وهناك يحار بين علم المنطق الذي ترجمه، والتقاليد التي ربي في أحضانها، فما أحوجه في كل ذلك إلى «الصديق»! وقد أشار فيما كتب إلى كل ذلك؛ أشار إلى العيوب الاجتماعية، وإلى ظلم الولاة في عصره، وإلى ما يلحق العامة، وإلى النزاع بين الدين والرأي، وقد جره الكلام في الصديق إلى الكلام في العدو، وكيف يكون داهيا في حربه ويخفي دهاءه. وكيف يعمل في هلاك عدوه أو البعد عنه، وفي جار السوء، وكيف يصبر عليه، وفي آخر الكتاب يعود إلى جمع حكم متفرقة لا يربطها موضوع.
في الكتابين أثر كبير من الثقافة الفارسية؛ ففيهما حكم كثيرة من حكم الفرس، وفيهما بعض نظم الساسانيين في الحكم، وكثيرا ما يقول: «احفظ قول الحكيم»، و«قالت الحكماء»، وهو يقصد حكماء الفرس. وفيها بعض وصايا مأخذوذة من عهد أردشير، كالنظام المتعلق بولي العهد. وفيهما من حكم كليلة ودمنة، إلى غير ذلك. نعم، هناك أثر يوناني في هذه الحكم، مثل قوله: «إن العاقل ينظر فيما يؤذيه وفيما يسره، فيعلم أن أحق ذلك بالطلب إن كان مما يحب، وأحقه بالاتقاء إن كان مما يكره؛ أطوله وأدومه وأبقاه، فإذا هو قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا، وفضل سرور المروءة على لذة الهوى، وفضل الرأي الجامع العام (الذي تصلح به الأنفس والأعقاب) على حاضر الرأي الذي يستمتع به قليلا ثم يضمحل، وفضل الأكلات على الأكلة، والساعات على الساعات.» فإنك تلمح في ثنايا هذا رأي أبيقور، وهو أنه يجب أن يراعي في تفضيل لذة على لذة الشدة والمدة، وتفضيل اللذائذ العقلية والروحية على اللذائذ البدنية ... إلخ. ولكن ابن المقفع إنما نقل عن الفرس، وإن كانوا قد تأثروا فيما تأثروا به بالمذاهب اليونانية. كذلك نلمح في بعض حكمه أشياء إسلامية، كقوله: «والدنيا دول، فما كان منها لك أتاك على ضعفك، وما كان عليك لم تدفعه بقوتك.» فهو قريب في لفظه من حديث مشهور، ونرى وجوه شبه عديدة في بعض الحكم بين ما ورد في كتب ابن المقفع، وما ورد عن الإمام علي في كتاب نهج البلاغة، ولكنا يعترينا الشك في كثير مما نسب في نهج البلاغة إلى الإمام علي، وقد أبنا ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب، ونرجح أنها نسبت إليه بعد ابن المقفع في عهد الشريف الرضي ومن قبله. فيمكننا أن نقول إن أغلب استمداد ابن المقفع في كتبه من الثقافة الفارسية، وقليل منها من الثقافة العربية الإسلامية. وأوضح دليل على ذلك: أن الروح الدينية في حكم ابن المقفع نادرة جدا، قل أن تلمسها ، على عكس ما ينسب مثلا إلى الحسن البصري، وما صح من أقوال علي (رضى الله عنه)، فهي مغمورة بالشعور الديني الإسلامي، أما ابن المقفع فحكمه مستمدة من تجارب دنيوية، حتى ما يتصل منها بالدين.
رسالة الصحابة
ولابن المقفع رسالة سميت بالصحابة، وليس يعني صحابة رسول الله كما هو المشهور في استعمال الكلمة، وإنما عني صحابة الولاة والخلفاء، وهم من يقربهم الأمراء أو الخلفاء وينادمونهم، ويجعلونهم موضع السر منهم، ويستشيرونهم في أمورهم. وقد عرض في هذه الرسالة لهذا الموضوع، فسميت الرسالة به.
73
وللرسالة قيمة كبرى؛ فإنها تقرير في نقد نظام الحكم إذ ذاك، ووجوه إصلاحه، رفعه إلى أمير المؤمنين ولم يسمه، والظاهر أنه أبو جعفر المنصور؛ لأنه يذكر دولة بني العباس وقد استقرت، ويذكر أمير المؤمنين وقد أهلك الله عدوه وشفى غليله، ومكن له في الأرض، وآتاه خزائنها. ويذكر أبا العباس (السفاح) ويترحم عليه. وإذا علمنا أن ابن المقفع قتل في عهد المنصور صح لنا أن نستنتج من ذلك كله أن الرسالة إنما كتبت للمنصور.
بدأها بمدح أمير المؤمنين بأنه جمع إلى ما عنده من علم الرغبة في السؤال، والاستماع لنصيحة الناصح، وفي هذا ما يشجع ذا الرأي على أن يدلي برأيه.
ثم ذكر موضع الشكوى قبل أن يتولى أبو جعفر المنصور؛ فوال لا يهتم بالإصلاح، وإن اهتم به فليس له رأي يهديه، أو له رأي ولكن ليس له عزم يمضي به ما يبتغيه، وأعوان ليسوا على الخير بأعوان، ولهم من المكانة والنفوذ ما يمنع الخليفة من إقصائهم والنيل منهم، وأمة إن أخذت بالشدة حميت، وإن أخذت باللين طغت، وأبان أن أمير المؤمنين وفقه الله لمداواة هذه العيوب، واقتلاع هذه الشرور، ثم بدأ بتقريره الذي وضعه.
فأول:
ما بدأ به شرح حال «الجند». وإذا علمنا أن الدولة في عهد هذا التقرير دولة ناشئة، ولها أعداء كثيرون، وذوو أطماع عديدون، ثم هي واسعة الأطراف، مترامية الأنحاء، لا يخلو فيها يوم من فتنة؛ أدركنا ما للجند من عظيم شأن، وعرفنا السبب في أن جزءا كبيرا من التقرير كان يدور حول هذا الموضوع. وإذا كان عماد الجند هم الجند الخراسانية، وكانوا هم القائمين بحماية الدولة، وكانوا فرسا، وكان ابن المقفع فارسيا؛ كان محور كلامه الجند الخراسانية.
مدح جند خراسان بأنه لم ير مثلهم في الإسلام، يمتازون عن غيرهم من الجند بالطاعة والعفاف والكف عن الفساد، والذل للولاة. ثم شكا من أمور: أولها أنه لا بد أن تنظم أفكارهم، ولا بد لذلك من أن يكون لهم دستور أو قانون، يحيط بكل شيء يجب أن يعرفوه، يبين لهم ما يفعلونه، وما يتجنبونه، يحفظه رؤساؤهم، ويقودون به عامتهم. فأما ترك الأمر من غير قانون، لا يعرفون به ما يجب وما يحرم؛ فداع إلى الفوضى. وشكا من أن هذا جر قوما إلى المغالاة في الأمر بالطاعة لأمير المؤمنين، ووجد في القواد من يقول: إن أمير المؤمنين لو أمر أن تستدبر القبلة بالصلاة لسمعنا وأطعنا! وهذا له أثر سيئ في النفوس، وقد ساقه هذا القول إلى بحث أوامر أمير المؤمنين وما يطاع منها، وما لا يطاع، وذكر المبدأ المشهور: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.» وقال: إن قوما فسروا هذا المبدأ تفسيرا معوجا. والذي رآه ابن المقفع أن الخليفة يطاع فيما لا يطاع فيه غيره، وبيان ذلك: أن هناك فرائض وحدودا بينها الله، وفي هذا لا يطاع أمير المؤمنين لو أمر أمرا يخالفها. وهناك أشياء كثيرة من شئون الناس لم يأت فيها نص، بل تركت لعقل الناس واجتهادهم، وهذه متى اجتهد فيها ولاة الأمر ورأوا فيها رأيا وجبت طاعتهم، وليس للناس في هذا إلا الإشارة عند المشورة، والإجابة عند الدعو ة، والنصيحة لهم. فرأي ابن المقفع إذن أن هناك نصوصا دينية يجب على الناس والولاة أن يطيعوها، وليس لولاة الأمر أن يخالفوا، وهناك مسائل كثيرة لم يرد فيها نص؛ كإعلان حرب، واسترداد جيش، وشروط صلح، وتنظيم أمور الدولة حسب الزمان والمكان، وهذه كذلك لا تترك فوضى ولكن للناس أن يشيروا بآرائهم، وعلى أولي الأمر أن يفكروا ويتدبروا، فإذا رأوا رأيا وجب على الناس إطاعته، وإن رأوا فيه نقصا أو عيبا أو خطأ نصحوا ولاة الأمور بآرائهم.
ثانيا:
مما نصح به أمير المؤمنين في شأن الجند؛ أن يحال بين الجنود وبين إدارة الشئون المالية. وقد دعاه إلى ذلك الرأي أن الخليفة كان يولي بعض قواده خراج بعض الأقطار، فيولي قائدا خراج مصر، وآخر خراج خراسان. وبذلك تصبح مالية هذا القطر في يده يحاسب الناس عليهما، ويحاسبه الوالي كذلك. وقد علل ابن المقفع رأيه هذا «بأن ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة». وهو نظر صائب؛ فإن كثيرين من هؤلاء القواد اعتزوا بسلطانهم وجنودهم، فظلموا الناس، فلما أوخذوا على ظلمهم اعتزوا بما في أيديهم من مال، وما تحت طاعتهم من جند، فخرجوا على الدولة، وكانوا سببا لمصائب لا تحصى.
ثالثا:
مراعاة الكفاية في القيادة؛ فقد لفت نظر الخليفة في لطف إلى أن يعيد النظر في الرؤساء ومرءوسيهم؛ فكثير من المرءوسين أكفأ من رؤسائهم، فلو ولي القيادة خيارهم، ووضع الجند في منازلهم حسب كفايتهم، لكان من ذلك خير عظيم.
رابعا:
تثقيف الجند ثقافة علمية وخلقية؛ فيعنى بتعليمهم الكتابة والتفقه في الدين، كما يعنى بتعويدهم الأمانة والعفة والتواضع، واجتناب الترف في الزي والعطر واللباس، وما إلى ذلك.
خامسا:
تعيين وقت محدد للجند يقبضون فيه أرزاقهم، فإن ذلك أعطى لطمأنينتهم، وأمنع للشكوى والاستبطاء.
سادسا وأخيرا:
أن يتقصى أحوال الجند، ويعرف أخبارهم وحالاتهم، وباطن أمرهم حيث كانوا، وأن يعين لذلك الثقات الذين يخلصون له، ولا يكتمون عنه شيئا، وألا يستكثر ما ينفق في هذا السبيل، وإن عظم فإن في ذلك الحزم واستئصال الشر قبل استفحاله.
هذه خلاصة موجزة لوجوه الإصلاح التي اقترحها للجند.
ثم ذكر أمير المؤمنين بأهل العراق عامة، وأهل البصرة والكوفة خاصة، وأنهم أقرب الناس إلى أن يكونوا شيعته ومعينيه، ولأهل العراق من الفقه والعفاف والألباب والألسنة ما ليس في سواهم، ورجاه في العناية بهم والاعتماد عليهم، وقال: إنه أزري بأهل العراق؛ أن ولاة العراق فيما مضى كانوا أشرار الولاة، وأعوانهم كانوا أشرار الأعوان، فساءت سمعة العراق من أجل هذه الفئة الضالة، واستغل أهل الشام ذلك، فشنعوا على أهل العراق عامة بما صنعت هذه الفئة. ولما جاءت دولتكم لم تجد أمامها من أهل العراق إلا هؤلاء الظاهرين ممن لا يصح الاعتماد عليهم، فلو نحي هؤلاء وأمثالهم، واستقصي الناس وعرف أهل الفضل فأسندت الأمور إلى الأكفاء غير المتصنعين لظهر فضل العراق وأهله.
ثم عرض ابن المقفع في تقريره إلى موضوع من أهم الموضوعات وأعمقها أثرا في حياة المسلمين، وهو «فوضى القضاء»، فوضى لا يرجع فيها إلى قانون معروف، وإنما هو متروك لرأي القضاة واجتهادهم، ونشأ من ذلك صدور الأحكام المتناقضة، حتى في البلدة الواحدة، فتستحل دماء وفروج وأموال في ناحية من نواحي الكوفة، وتحرم في ناحية أخرى تبعا لحكم القاضي، وكل ذلك نافذ على المسلمين. والقضاة نوعان؛ نوع يزعم أنه يلتزم السنة (يعني بذلك النص على العموم)، وقد تغالى فيما سماه سنة، فكثيرا ما يسفك دما من غير بينة ولا حجة، ويزعم أنه هو السنة، فإذا قيل له: إن مثل هذا الأمر لم يرق فيه دم في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أو أئمة الهدى من بعده. قال: فعل ذلك عبد الملك بن مروان، أو أمير من بعض أولئك الأمراء. ونوع يزعم أنه من أهل الرأي فيبلغ به الاعتداد برأيه «أن يقول في الأمر الجسيم من أمر المسلمين قولا لا يوافقه عليه أحد، ثم لا يستوحش لانفراده بذلك، وإمضائه الحكم عليه، وهو مقر أنه رأي منه لا يحتج بكتاب ولا سنة.» هذه هي الفوضى كما شرحها ابن المقفع، ثم اقترح لها علاجا، وهو أن يرفع إلى أمير المؤمنين كل الأقضية والمسائل التي يحدث فيها الخلاف، ويذكر ما يحتج به كل فريق من المخالفين من نص أو رأي، فيعمد أمير المؤمنين إلى هذه الحجج والبراهين، ويختار ما يراه صوابا، ثم يدون ذلك في كتاب، وتعمل منه نسخ ترسل إلى الأمصار، ويلزم القضاة بالحكم به، فإذا جدت حوادث سير فيها هذا السير، ووجب على كل إمام يأتي بعد أن يدخل على هذا القانون ما يجد وما تدعو إليه الحاجة ، وهكذا إلى آخر الدهر.
ويرى «ابن المقفع» أن ولاة الأمور يجب أن يرجعوا في المسائل المختلف فيها إلى العدل ومصلحة الناس. وليس هناك ما يمنع من ذلك؛ لأن الأحكام المختلفة إما أن يكون اختلاف القضاة فيها ناشئا من استنادهم إلى سنن مأثورة مختلفة، وهذا الاختلاف في السنن دليل على أنها ليست مقبولة بإجماع، إما لسندها، وإما لأنها مجال لتأويلات مختلفة، وحينئذ يكون الرجوع إلى العدالة أولى، وإما أن يكون الاختلاف ناشئا من مراعاة القياس، وقد أفرط الفقهاء في مراعاة القياس الشكلي، والتزموا به، فوقعوا في ورطات، وأتى ابن المقفع بمثل يهزئ به قياسهم، فقال: لو أنك سألت أحدهم: أتأمرني أن أصدق، فلا أكذب كذبة أبدا؟ لكان جوابهم نعم، فلو سألت: ما تقول في رجل هارب أراد ظالم أن يقتله فسألني عن مكانه وأنا أعرفه؛ أأصدق أم لا؟ فلو ساروا على قياسهم الذي وضعوه لأجابوا بالتزام الصدق، مع أن المصلحة والعدالة في غير ذلك، ثم قرر مبدأ قيما، وهو أن القياس ليس إلا وسيلة لتحقيق العدالة، وطريقا من طرق الوصول إليه، فمتى رؤيت العدالة في غير القياس يجب أن يضحى بالقياس.
فمجمل رأي ابن المقفع في إصلاح القضاء: وضع قانون رسمي تجري عليه المملكة الإسلامية في جميع أنحائها، وهذا القانون يرجع فيه إلى ما يرشد إليه العقل في معنى العدالة. وهذا فيما عدا ما ورد فيه نص مجمع عليه من كتاب أو سنة، فأما ما ورد فيه نص مختلف فيه، أو ما كان مبنيا على قياس، فيجب أن يترك إلى ولاة الأمور، ينظرون فيه باعتبار واحد وهو المصلحة العامة. والفقهاء ليس لهم وضع قوانين، وإنما عليهم أن يجتهدوا في المسائل من الناحية العلمية النظرية، ثم يدلون بآرائهم إلى ولي الأمر، وهو المقنن وحده.
وهو رأي له قيمته ووجاهته، وهو يتفق في كثير من نواحيه والآراء الحديثة في التشريع، ولو عمل به المسلمون لكان له أثر كبير في الحالة الاجتماعية ، وخاصة من الناحية القضائية. «ولم تذهب دعوة ابن المقفع سدى، فابن سعد في الطبقات يروي عن مالك بن أنس أنه قال: لما حج المنصور، قال لي: قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره، فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، ودانوا به فدع الناس، وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم.»
فلما أتى هارون الرشيد عاودته الفكرة، فروي في كتاب الحلية عن مالك بن أنس قال: «شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان وكل مصيب.»
ولم يكن في هذه المحاولة تحقيق لكل فكرة ابن المقفع، فقد كان أكثر حرية مما قصد إليه المنصور والرشيد، ولكن كانت خطوة من الخطوات المرسومة لم تحقق! ولسنا نجزم أن هذه المحاولات نشأت عن تقرير ابن المقفع، فقد تكون تبلورا لفكرة عمر بن عبد العزيز في جمع الحديث؛ فقد كان يرى هذا الرأي، فبتقدم الزمان رؤي جمع الحديث وجعله قانونا. وقد تكون فكرة المنصور والرشيد نتيجة العاملين معا؛ فكرة جمع الحديث التي ارتآها عمر بن عبد العزيز، وفكرة تقنين القوانين التي ارتآها ابن المقفع، وهو الذي نميل إليه. •••
ثم انتقل بعد ذلك إلى تعطيف المنصور على أهل الشام، وقد كان العباسيون ينظرون إليهم نظرة عداء ومقت؛ لأنهم كانوا أعوان الأمويين وجندهم المطيع، فاعترف بأن أهل الشام يكرهون العباسيين، ولكن ينبغي ألا يؤاخذهم الخليفة بذلك، وألا يطمع منهم في المودة، فعداوتهم طبيعية؛ فقد كانت الدولة دولتهم والملك لهم، ولكن هذا لا يمنع الخليفة أن يصطنع خيارهم، فهؤلاء لا يلبثون أن ينفصلوا عن أصحابهم في الرأي والهوى، ويتبعهم غيرهم، فتتسع دائرة المحبة للعباسيين والتودد لهم. كما نصحه ألا يبخل بالمال عليهم، وأن ينفق عليهم ما جمع من بلادهم بعد استقطاع الحقوق العامة: «إنه إن فعل ذلك رجوت ألا يكون منهم نزوات ولا وثبات على الدولة، فإن فعلوا رجوت أن تكون الدائرة لأمير المؤمنين عليهم إلى آخر الدهر، وقد علمنا التاريخ أن الملك إذا خرج من قوم بقيت فيهم بقية يحنون إلى مجدهم القديم، فيثورون وتكون ثورتهم سبب استئصالهم وتدويخهم.»
بعد هذا تكلم في صحابة الخليفة، أو ما نسميه نحن الآن «بمعيته»، ورجال دولته والمقربين إليه، وقد كرر شكواه من أن هؤلاء كانوا قبل خلافة أمير المؤمنين عملوا أعمالا مفرطة القبح، مفسدة للحسب والنسب والسياسة، داعية للأشرار، طاردة للأخيار؛ ذلك أن الخليفة كان يقرب أوغاد الناس وسفلتهم، فهرب الخيار من التقرب للولاة، حتى إن قوما من صلحاء البصرة (وفيهم ابن المقفع) أتوا دار الخلافة أيام السفاح، فأبو أن يزوروا الخليفة، لما يعلمون من بطانته وسوء سيرتهم، وقد سمعنا الناس يقولون: «ما رأينا أعجوبة قط أعجب من هذه الصحابة، ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة، ولا حسب معروف، ثم هو مسخوط الرأي مشهور بالفجور.»
ونزعة ابن المقفع في اختيار الصحابة نزعة أرستقراطية فارسية؛ فهو يراعى في اختيار الصحابة من وزراء وكتاب وغيرهم أمرين: أمرا وجيها معقولا، وهو أن يكونوا ذوي رأي أمناء عدولا، ولكنه لا يشدد في هذا تشدده في الأمر الثاني، وهو أن يكونوا ذوي حسب ونسب، ويفزع كل الفزع أن يرى هؤلاء الصحابة (غير المعروفين بنسب) يؤذن لهم على الخليفة قبل كثير من أبناء المهاجرين والأنصار، وقبل قرابة أمير المؤمنين، وأهل بيوتات العرب. وهو يرى أن الخليفة لا يصح أن يقرب إليه ويجعل من خاصته إلا رجلا أتى بمكرمة عظيمة، أو رجلا له ميزة من قرابة أو حسن بلاء، أو رجلا له من الشرف وجودة الرأي والعمل ما يؤهله لذلك، أو رجلا ذا نجدة، ولكن يجب أن يجمع إلى نجدته حسبا وعفافا، أو رجلا فقيها مصلحا ينتفع الناس بفقهه وإصلاحه. فأما من يتخذون الشفاعات وسيلة للقرب من السلطان فيجب ألا تمكنهم شفاعاتهم من هذه المناصب، ثم إذا اختير الحائزون على الشروط التي ذكرنا، يجب أن يعين لكل منهم اختصاص في عمله لا يتعداه؛ فلا يكون للكاتب أمر في رفع رزق، ولا وضعه، ولا للحاجب في تقديم إذن ولا تأخيره.
انتقل بعد هذا إلى الكلام في الخراج، وهو عماد مالية الدولة، ويعني بالخراج المال المفروض على الأراضي، وقد شكا من الفوضى فيه، كما شكا قبل من فوضى القضاء، شكا أن الأراضي مع اختلافها جودة ليس مقررا على كل «وحدة» منها مبلغ معين، ولا سجل ذلك في دفاتر يحفظ أصلها ويحصل بمقتضاها. واقترح للإصلاح أن تمسح الأرض، ويفرض عليها المال المناسب، ويعرف كل مالك ما عليه ويدون ذلك في سجلات تحفظ أصولها في دواوين الدولة. ففي هذا «صلاح للرعية، وعمارة للأرض، وحسم لأبواب الخيانة، وغشم العمال.» وشعر بصعوبة هذا العمل مع ضرورته فقال: «إن مؤونته شديدة، ورجاله قليل، ونفعه متأخر» وختم مطالبه في إصلاح الخراج بتخير الذين يتولون هذا العمل، وشدة الرقابة عليهم، والاستبدال بهم عند ظهور خيانة عليهم. وقد رأينا بعد عصر ابن المقفع أبا يوسف يقول: في كتابه «الخراج»: «إن أمير المؤمنين (يعني هارون الرشيد) سألني أن أضع له كتابا جامعا، يعمل به في جباية الخراج والعشور والصدقات والجوالي،
74
وغير ذلك مما يجب عليه النظر فيه والعمل به، وإنما أراد بذلك رفع الظلم عن رعيته، والصلاح لأمرهم، وطلب أن أبين له ما سألني عنه؛ مما يريد العمل به، وأفسره وأشرحه، وقد فسرت ذلك وشرحته.»
75
فهل كان هذا العمل تحقيقا لمطالب ابن المقفع؟ قد يكون ذلك، ولكن مما لا شك فيه أن ابن المقفع عبر عن أهم المسائل التي تشغل العقلاء في عصره؛ فلا عجب أن نرى الكلام فيها كثيرا، وأن نرى كبراءهم يضعون العلاج لتلافيها، كذلك نرى فرقا كبيرا بين معالجة ابن المقفع لمسائله (وخاصة الخراج)، ومعالجة أبي يوسف؛ فابن المقفع يعالجها من الناحية العقلية المحضة، وأما أبو يوسف فيعالجها من الناحية الدينية؛ فهو لا يخطو خطوة إلا يدعمها بسند من كتاب أو سنة أو أثر، وأحيانا بقياس أو استحسان ، وهذا يرجع إلى الفرق بين ابن المقفع وأبي يوسف في المنشأ والمربى والمنصب. •••
ثم انتقل ابن المقفع إلى الكلام في جزيرة العرب من الحجاز واليمن واليمامة وغيرها، وقد كانت موضع نقمة المنصور إذ خرجت عليه، فطلب إليه أن يعنى بها عناية خاصة، فيتخير لولايتها الخيار من أهل بيته، وأن تسخو نفسه عن أموالها، وكأن ابن المقفع نظر في هذين الأمرين إلى أن جزيرة العرب منبع النبوة، ومصدر الإسلام، وقبلة المسلمين، وقد تولاها ولاة سوء انتهكوا حرمتها، فكانت حاجتها إلى خير الولاة أمس وأوجب. وهي فقيرة ليس فيها خصب العراق، ولا غنى الأمصار، فإذا كانت الأمصار الأخرى تحمل ما زاد من ثروتها إلى دار الخلافة فخير للخليفة ألا يتبع هذه السنة في جزيرة العرب، فيترك لها ما لها إن لم يمدها بمال من عنده.
وختم «ابن المقفع» تقريره ببيان ما للخليفة من أثر عظيم إذا صلح؛ ذلك أن العامة لا تصلح إلا بصلاح الخاصة، والخاصة لا تصلح إلا بصلاح إمامها، سلسلة يأخذ بعضها بحجز بعض؛ لأن العامة تقلد خاصتها في شئونها، وتتبعها في سيرها، فإذا كان الخواص من ذوي الدين والعقل كان في ذلك صلاح للعامة، وموقف الخاصة من الإمام موقف العامة من الخاصة، «فنسأله أن يعزم لأمير المؤمنين على المراشد، ويحصنه بالحفظ والثبات.» •••
هذه خلاصة وتحليل لرسالة الصحابة، وإن شئت فقل إنها ترجمة لما فيها من أفكار؛ فقد اعتراها من فساد النسخ والتحريف والغموض ما جعل إدراك مراميها بعيد المنال.
ومنها نرى أن ابن المقفع كان ناضج العقل في رسالته، قوي الفكر، شاعرا بوجوه الضعف في الدولة، ميالا إلى إصلاحها، ولو عرفنا أنه قتل ولما يتجاوز الأربعين من عمره عرفنا قدر نبوغه، وعرفنا أي عقل كبير كان يشغل رأسه.
لم يعالج ابن المقفع ما عالجه من الناحية الدينية كما عالجه أبو يوسف مثلا؛ فإن تربيته لم تكن دينية، بل لم يسلم إلا قريبا، كما ساعده على هذا النوع من التفكير أنه كان فارسيا، وكان واسع العلم بالتاريخ الفارسي، وترجم بعض كتب التاريخ إلى اللغة العربية؛ فهو يعلم تمام العلم نظم الفرس في الجند والقضاء والصحابة والخراج، وقد مرت هذه الدولة بأدوار كثيرة، وجربت تجارب عديدة، واستقر نظامها عهدا طويلا، وعالجه مصلحون قبله بأقوالهم وأعمالهم، فكان ابن المقفع ينظر إلى المملكة الإسلامية، وما فيها من نظم ناقصة في بعض نواحيها، وينتقل عقله بسرعة إلى قومه الفرس، فيقارن بين ما يرى أمامه، وما أرشده إليه التاريخ الفارسي، فتوحي إليه هذه المقارنة مقترحات الإصلاح، وتصطدم هذه المقترحات أحيانا بنظرات رجال الدين، كالذي رأينا من مخالفة رأي الإمام مالك لمقترحات ابن المقفع في تنظيم التشريع والقضاء؛ ذلك لأن ابن المقفع ينزع إلى تقنين قانون يعم أنحاء الدولة، كما كان الشأن في فارس، وأن يحكم العدالة والمصلحة العامة فيما لم يرد فيه نص مجمع عليه، وهو أقرب ما يكون إلى النظام الفارسي، والإمام مالك يرى أن أهل كل مصر وصلت إليهم أحاديث يرون صحتها فيلزمهم العمل بها، وليس من الحق ولا من الدين أن يلزمهم برأي عقلي يخالف ما لديهم من حديث صحيح، أو على الأقل صحيح في نظرهم، وابن المقفع يتكلم في الخراج بمثل ما نقل إلينا عن الأكاسرة، وأبو يوسف يتكلم فيه بالآثار التي صحت عنده، والخلفاء يرون ألا يلجئوا إلى ابن المقفع والبرامكة وأمثالهم، وإنما يلجئون إلى رجال الدين؛ أمثال الإمام مالك، وأبي يوسف.
كليلة ودمنة
ليس من قصدنا أن نبحث هنا في كتاب «كليلة ودمنة» ونعرض لأبحاث المستشرقين في أصل الكتاب؛ أمثال «ده ساسي»، و«شوفان»، و«بيكل»، و«فالكونر»، و«هرتل»، و«نولدكه»، و«جويدي»، و«بروكلمان»، و«رايت»، وغيرهم، فلو استقصينا ما قالوا، وعمدنا إلى مناقشة آرائهم لاحتاج ذلك إلى كتاب بأكمله. ولكنا نوجز القول هنا فيما يتعلق بموضوعنا، وهو الثقافة الفارسية وآثارها، وابن المقفع وأعماله.
يقول ابن المقفع: إنه نقل الكتاب من اللغة الفهلوية، وقد نقل في أيام كسرى أنوشروان من الهندية إلى الفهلوية، وكان الباحثون في شك من ذلك حتى عثر الأستاذ هرتل
Hertel
على بعض الأصول الهندية الأولى كتبت باللغة السنسكريتية القديمة، كما عثر غيره على بعض أبواب من الكتاب مفرقة، فعثروا في كتاب على باب «الأسد والثور»، و«الحمامة المطوقة»، و«البوم والغربان»، و«القرد والغيلم»، و«الناسك وابن عرس»، وعثروا في كتاب آخر على باب «الجرذ والسنور»، و«الملك والطائرة فنزة»، و«الأسد وابن آوي»، كما عثروا في كتاب ثالث على باب «ملك الفيران»، وعثروا أيضا على باب «إيلاذ وبلاذ وايراخت»، وباب «السائح والصائغ»، و«ابن الملك ورفقائه»؛ فجميع هذه القصص هندية الأصل، ولكنهم لم يعثروا إلى الآن فيما أعلم على كتاب جمعت فيه هذه القصص كلها يسمى كليلة ودمنة، أو أي اسم آخر؛ فهل كان هناك كتاب هندي حوى كل هذه القصص، ألفه مؤلف واحد، ونقله الفرس إلى لغتهم؟ أو أن الفرس نقلوا هذه القصص المتفرقة في الكتب إلى لغتهم، ووحدوها في كتاب وأسندوها إلى مؤلف واحد؟ هذا مجال خلاف ما يزال بين الباحثين.
ويرجحون أن باب «بعثة بروزيه»، وباب ملك الجرذان من زيادات الفرس أنفسهم.
كما يرجحون أن هناك فصولا برمتها من زيادات ابن المقفع نفسه، وهي باب «غرض الكتاب»، وباب «الفحص عن أمر دمنة»، وباب «الناسك والضيف»، وباب «البطة ومالك الحزين».
وكما يذهب بعضهم إلى أن الباب الأول (وهو مقدمة الكتاب) لعلي ابن الشاه الفارسي، وضع بعد ابن المقفع، ويذهب «ده ساسي» ويوافقه «نولدكه» إلى أن بهنود بن سحوان أو علي ابن الشاه؛ هو «أبو القاسم علي بن محمد بن الشاه الظاهري»، الذي يقول عنه صاحب الفهرست: «إنه من نسل الشاه بن ميكال، وكان أديبا طيبا مفاكها في نهاية الظرف والنظافة.»
76
وقد توفي سنة 302 هجرية.
ولهم أدلة على كل ما ذكرنا يطول شرحها، ويخرج بنا على الغرض الذي إليه قصدنا. •••
وقد كان الباعث لابن المقفع على ترجمته على ما يظهر ما عهدناه فيه من ميل إلى الإصلاح الاجتماعي، شاهدناه في الأدب الكبير والصغير، ورسالة الصحابة. وكتاب كليلة ودمنة يشرح بعض هذه النواحي شرحا وافيا؛ فهو يتعرض للنصح بعدم الإصغاء إلى الحاسد والنمام ، ويبين أن هناك جزاء طبيعيا؛ فعاقبة الخير خير، وعاقبة الشر شر، وينصح بأخذ الحذر من العدو، والاعتماد على الصداقة ... إلخ.
ويظهر الآن أن تعمق ابن المقفع في دراسة الحياة الاجتماعية أداه إلى استنكار كثير من الأمور، ورأى أن معظمها يرجع إلى حكام عصره، ورأى أن الحرية السياسية غير متوافرة في زمنه؛ فهو لا يستطيع أن ينقد الخليفة وبطانته نقدا صريحا، وقد عاش ابن المقفع وقت نضوج فكره في زمن أبي جعفر المنصور، وهو شديد البطش قوي المنة،
77
سريع إلى إعمال السيف، وهو كان مؤسس الدولة العباسية، وواضع نظمها ومحصنها، وكان يرى ألا يمكن تثبيت قواعدها إلا بإخماد كل حركة تضعف من شأن الدولة، أو يتوهم فيها ذلك، ويقطع رأس كل مخالف، وكان من ضحايا المنصور كثيرون قتلوا بالظنة، وتذرع في قتلهم بالاتهام بالزندقة، أو نحو ذلك، وكان ابن المقنع نفسه أحد هؤلاء الضحايا!
لعل ابن المقفع رأى أن موقفه مع المنصور موقف بيدبا مع دبشليم؛ فقد جاء في مقدمة الكتاب: «فلما استوثق له (لدبشليم) الأمر، واستقر له الملك طغى وبغى، وتجبر وتكبر، وجعل يغزو من حوله من الملوك، وكان مع ذلك مؤبدا مظفرا منصورا؛ فهابته الرعية. فلما رأى ما هو عليه من الملك والسطوة عبث بالرعية واستصغر أمرهم، وأساء السيرة فيهم، وكان لا يرتقي حاله إلا ازداد عتوا، فمكث على ذلك برهة من دهره، وكان في زمانه رجل فيلسوف من البراهمة، فاضل حكيم يعرف بفضله، ويرجع في الأمور إلى قوله، يقال له «بيدبا»، فلما رأى الملك وما هو عليه من الظلم للرعية فكر في وجه الحيلة فيصرفه عما هو عليه، ورده إلى العدل والإنصاف ... إلخ».
لعل ابن المقفع لم يستطع أن يواجه «المنصور» بأكثر ما واجهه به في رسالة الصحابة، وقد مزج نقده بكثير من المدح للخليفة والثناء عليه، ونسب أكثر الشدة التي يراها إلى غيره. ولكن هذا لم يشف غلته، فرأى أن أسلم طريقة أن يترجم هذا الكتاب ويزيد فيه ليعمل الكتاب في الخلفاء والرعية ما فعله كليلة ودمنة في الهند وفارس، ولعل هذا هو الغرض الرابع الذي أخفاه في مقدمة الكتاب، ولم يصرح به، فقد جاء فيها: «ينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض؛ أحدها ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان ... والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان، ليكون أنسا لقلوب الملوك، ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور، والثالث أن يكون على هذه الصورة فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام، لينتفع بذلك المصور والناسخ أبدا، والغرض الرابع وهو الأقصى، وذلك مخصوص بالفيلسوف خاصة.» وسكت عن هذا الغرض الرابع ولم يبينه، وهو من غير شك غرض ابن المقفع من ترجمته. والظاهر أن هذا الغرض يمكن تلخيصه في أنه النصح للخلفاء؛ حتى لا يحيدوا عن طريق الصواب، وتفتيح أعين الرعية حتى يعرفوا الظلم من العدل، وحتى يطالبوا بتحقيق العدل، ولم يوضحه ابن المقفع لأن في إيضاحه خطرا عليه من المنصور، ولعل هذه النزعة فيه كانت من الأسباب في الإيعاز بقتله.
وتدل المقارنة بين ما عثر عليه من الفصول الهندية، والترجمة السريانية القديمة التي ترجمت من اللغة الفهلوية القديمة نحو سنة 570م، والتي وجدت في دير في «ماردين»، ونشرت سنة 1876م، على أن ابن المقفع لم يترجم الكتاب ترجمة حرفية، بل حور كثيرا في جمله ومعانيه وترتيبه، حتى يتفق والذوق العربي الإسلامي، وذوق المتأدبين في عصره، بل أضاف فصولا من عنده كما أشرنا قبل؛ مثل كتاب الفحص عن أمر دمنة، ففيه نفحة إسلامية ظاهرة، مثل: «ومن يجزي بالخير خيرا، وبالإحسان إحسانا إلا الله.» «ومن طلب الجزاء على الخير من الناس كان حقيقا أن يحظى بالحرمان؛ إذ يخطئ الصواب في خلوص العمل لغير الله تعالى، وطلب الجزاء من الناس.» ومثل: «لأن تعذب في الدنيا بجرمك خير من أن تعذب في الآخرة بجهنم مع الإثم.» ومثل: «والعلماء قد قالوا في شأن الصالحين إنهم يعرفون بسيماهم.» «وقالت العلماء: من كتم حجة ميت أخطأ حجته يوم القيامة.» «وقد علمنا أن شهادة الواحد لا توجب حكما» ... إلخ. وقد أثبت البحث أن ابن المقفع كان يحذف جملة من الأصل الفهلوي، ويضع مكانها جملة أخرى توافق مزاج عصره، وقد يضع فصلا كاملا، ولعل هذا هو السبب فيما حكاه ابن خلكان من أن الكتاب مختلف فيه؛ هل هو ترجمة ابن المقفع أو تأليف له.
وترجمة ابن المقفع نفسها قد دخل عليها كثير من التغيير على توالي العصور بدليل: (1)
اختلاف النسخ التي بين أيدينا اختلافا كبيرا. (2)
وإنا نجد ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار ينقل بعض قطع من كليلة ودمنة، وهي تخالف في عبارتها ما بين أيدينا من الكتاب. (3)
ونرى في النسخ التي وصلت إلينا من كتاب «نتائج الفطنة، في نظم كليلة ودمنة» لابن الهبارية اختلافا في ترتيب الأبواب، وليس فيه «باب الحمامة، ومالك الحزين»، وسمي فيه «باب إيلاذ وبلاذ»، و«هيلار وبيلار»، مع اختلاف في سياق
المثل ... إلخ.
وقد كان لكتاب كليلة ودمنة أثر كبير في الأدب العربي، وفي غيره من الآداب، وعني الناس به عناية كبرى، وحذوا حذوه. من ذلك أن كثيرين نظموه، نعرف منهم أبانا اللاحقي، ولكن لم يصل إلينا من نظمه إلا القليل، ثم نظمه ابن الهبارية في كتابه «نتائج الفطنة»، ويذكر ابن الهبارية في ترجمته أنها خير من ترجمة أبان.
78
وله نظم ثالث اسمه «در الحكم في أمثال الهنود والعجم»، أكمله عبد المؤمن بن الحسن الصاغاني.
79
وحذا حذوه كتاب كثيرون، فابن الهبارية ألف على منواله كتاب «الصادح والباغم»
80
وكذلك ألف على منواله كتاب «سلوان المطاعم في عدوان الطباع» لأبي عبد الله محمد بن أبي قاسم القرشي، المعروف بابن ظفر، المتوفي سنة 598، صنفه لبعض القواد بصقلية.
81
وكذلك ألف على هذا النسق ابن عربشاه كتابه «فاكهة الخلفاء، ومناظرة الظرفاء»،
82
وكتابه «مرزبان نامه»، الذي ترجمه من الفارسية.
83
ويذكر «كشف الظنون» أن أبا العلاء المعري ألف كتابا اسمه «القائف»، على مثال كليلة ودمنة، وهو في ستين كراسة ولم يتم، وأن له كتاب «منار القائف» يتضمن تفسيره في عشرة كراريس.
84
وفي رسائل «إخوان الصفا» رسالة في المناظرة بين الحيوان والإنسان، لا تخلو من لون من كليلة ودمنة، بل يظن «جولدزيهير» أن اسم «إخوان الصفا» مقتبس من كليلة ودمنة؛ إذ ورد الاسم في أول فصل «الحمامة المطوقة».
وعلى كل حال فقد أدخل هذا الكتاب على الأدب العربي القصص على ألسنة الحيوانات. نعم كان للعرب قبله شيء من ذلك (كالذي ورد من أمثالهم أن الأرنب التقطت تمرة، فاختلسها الثعلب فأكلها، فانطلقا إلى الضب، فقالت الأرنب: يا أبا الحصين، قال: سميعا دعوت. قالت: أتيناك لنختصم إليك. قال: عادلا حكيما. قالت: اخرج إلينا. قال: في بيته يؤتى الحكم. قالت: إني وجدت ثمرة، قال: حلوة فكليها. قالت: فاختلسها مني الثعلب، قال لنفسه: بغى الخير. قالت: فلطمته. قال: بحقك أخذت، قالت: فلطمني، قال: حر انتصر. قالت: فاقض بيننا. قال: قد قضيت! وورد في القرآن الكريم:
قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ، وقال في الهدهد
فقال أحطت بما لم تحط به . ولكن كان لكتاب كليلة أثر من ناحية تفصيل القصص على ألسنة الحيوانات تفصيلا طويلا، ووضع الحكم والأمثال والعظة على ألسنتها، وتبينت الحاجة الشديدة إلى هذا النوع في عصور الاستبداد، يوم كان الملوك والحكام يضيقون على الناس أنفاسهم، فلا يستطيع ناقد أن ينقد أعمالهم، ولا واعظ أن يومئ بالموعظة الحسنة إليهم؛ ففشا هذا الضرب من القول والقصص، يقصدون فيه إلى نصح الحكام بالعدل، وكأنهم يقولون: إذا كانت الحيوانات تمقت الظلم وتحقق العدل، فأولى بذلك الإنسان! وإذا كانت الولاة والرؤساء تأخذهم العزة بالإثم، ويستعظمون أن يصرح لهم بنصح أو نقد، فلا أقل من وضع النصيحة على لسان البهائم! وإذا كان في التصريح تعريض الحياة للخطر ففي التلميح نجاة من الضرر.
وإنما ذكرنا كتاب كليلة ودمنة، وما كان له من أثر في الثقافة الفارسية، ولم نذكره فيما يأتي من الثقافة الهندية لسببين: (1)
أن اللغة العربية إنما تلقت الكتاب من الأصل الفهلوي الفارسي، ولم تتلقه من الأصل الهندي، ومترجمه الذي كساه حلة من البلاغة العربية حببته إلى الناس هو ابن المقفع الفارسي. (2)
أن الفرس - وخاصة ابن المقفع - زادوا فيه زيادات كثيرة كما أبنا من قبل وإن كان من الحق أن نقرر هنا ما للهند في هذا الكتاب من فضل؛ هو فضل واضع الأساس وصاحب الفكرة.
زندقة ابن المقفع
اشتهر رمي ابن المقفع بالزندقة، ومن أقدم النصوص في ذلك ما حكي عن الجاحظ: «أن ابن المقفع ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد كانوا يتهمون في دينهم.» ويروون أن المهدي قال: «ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع.»
85
ويروي الجهشياري أن سفيان بن معاوية لما أراد قتله لما بينهما من عداوة شخصية، وبإيعاز المنصور قال له: «والله يا ابن الزنديقة لأحرقنك بنار الدنيا قبل الآخرة.»
86
ثم تناقل الناس هذا القول، وزادوا فيه، وأصبح من المسلم لديهم زندقته، وكلهم يتداولون الحكاية المشهورة أنه مر ببيت من بيوت النار، فتمثل بقول الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل
حذر العدى وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني
قسما إليك مع الصدود لأميل
وزاد من أتى بعد (كالباقلاني، والقاضي عياض) اتهامه بمعارضته القرآن الكريم!
ونحن نعلم من حياة ابن المقفع أنه قضى أكثر حياته وهو مجوسي ظاهرا وباطنا، ولم يسلم إلا وهو كاتب عيسى بن علي، ولم يعمر بعد إلا سنين قليلة، وهو من غير شك لا يؤاخذ على زندقته، وما ألف فيها إن كان قد ألف قبل أن يسلم، وإنما يؤاخذ على ما ألف أو قال بعد إسلامه؛ فالإسلام يجب ما قبله. ولم ينص هؤلاء الرواة على أنه قال، أو ألف كتابا في الزندقة بعد إسلامه إلا عبارة سفيان بن معاوية، وهو متهم لما بينهما من عداء شخصي، سببه أن ابن المقفع كان يحتقره ويزدريه، وإلا ما روى من تمثله ببيتي الأحوص.
وقد بالغوا في الفحص عما يشتم منه زندقته، ورموه بها حتى فيما ليس فيه زندقة؛ فقد روى أبو تمام في ديوان الحماسة لابن المقفع أبياتا له في الرثاء ، وهي:
رزئنا أبا عمر ولا حي مثله
فلله ريب الحادثات بمن وقع
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا
ذوي خلة ما في انسداد لها طمع
لقد جر نفعا فقدنا لك أننا
أمنا على كل الرزايا من الجزع
فقال ثعلب: «البيت الأخير يدل على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر، والشر ممزوج بالخير.» وأنا أقول لثعلب هلا قرأت قوله تعالى
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما
الحق أن ثعلبا وأمثاله تحاملوا عليه كثيرا.
وقد أخرجت «مؤسسة كايتاني» للأبحاث عن تاريخ الإسلام وحضارته كتابا نشره الأستاذ «ميكائيل أنجلو جويدي» سنة 1927، عنوانه «كتاب الرد على الزنديق اللعين ابن المقفع عليه لعنة الله للقاسم بن إبراهيم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم».
وهذا القاسم بن إبراهيم (كما في «عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب») هو القاسم بن إبراهيم بن طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب، كان يكنى أبا محمد، وكان يقيم في جبال الرس، ولذا عرف باسم قاسم الرسي، وقد مات القاسم سنة 246ه، أي بعد ابن المقفع بنحو قرن. وكتاب القاسم كامل، ولكن كتاب ابن المقفع لم يذكر كله بنصه، وإنما ذكر المؤلف فقرا منه تمهيدا للرد عليها، ويقع النص العربي في خمس وخمسين صفحة، ثم ترجمة الأستاذ جويدي إلى اللغة الإيطالية، وعلق عليها، وقدمه بمقدمة تبحث في الكتاب، وهذه الفقر التي تنسب إلى ابن المقفع تدلنا على غرض الكتاب ومنحاه ولغته.
ونحن نشك كل الشك في نسبة الأصل لابن المقفع، والرد للقاسم من وجوه:
فأما الشك في نسبة أصل الكتاب لابن المقفع: (1)
من الناحية الفنية؛ فأسلوب الكتاب غير الأسلوب المعروف لابن المقفع، والذي نتبينه من الأدبين ورسالة الصحابة وكليلة ودمنة، ففي كل هذه الكتب لا يعمد إلى السجع إلا ما جاء عفوا، أما في هذا الكتاب، فيتعمد السجع أحيانا تعمدا كقوله: «لأن كون شيء لا من شيء لا يقوم في الوهم له مثال ، وما لا يقوم في الوهم له مثال فمحال.»
87
هذا إلى أن العبارة نفسها من نوع التعبير الفلسفي، الذي لم يعرف الا بعد زمن ابن المقفع. (2)
يستهزئ هذا المؤلف بالتعبير بأن لله يدين، وبالاستواء على العرش، وبأنه قاب قوسين أو أدنى، ويحمل هذه التعبيرات على ظاهرها. ونحن نعلم أن ابن المقفع كان ضليعا في اللغة العربية، حتى قال الأصمعي: «قرأت آداب ابن المقفع فلم أر فيها لحنا إلا قوله «العلم أكثر من أن يحاط بالكل منه فاحفظوا البعض.»
88
وألف ابن المقفع في الكلام كما حكى الجاحظ، وتعرض للمعتزلة، فمن البعيد جدا أن يفهم ابن المقفع من اليد والوجه والاستواء على العرش المعاني الحقيقية الظاهرية. (3)
إذا نحن استثنينا أول الرسالة، وهو قوله «باسم النور الرحمن الرحيم» وجدنا الرسالة كلها ليست تأييدا لمذهب ماني، ولا لمذهب زرادشت أو مزدك، وإنما هي دعوة إلى الإلحاد المطلق؛ فهو يهزأ بعلاقة الله بالإنسان، وكيف انقلب عليه خلقه وهم عمل يديه! وكيف قتل أعداؤه أنبياءه ورسله! وكيف أمرض خلقه وعذبهم بما عرض من الأسقام لهم! وكيف يأمرك بالإيمان بما لا تعرف، والتصديق بما لا تعقل! وكيف صارت الغلبة للشيطان فتبعه الناس إلا أقلهم! ... إلخ. وهي كما ترى ليست مطاعن في الإسلام وحده، وإنما هي طعن في كل دين، ومنها الديانة الثنوية. ونحن نعلم من تاريخ ابن المقفع أنه كان يستمسك بدينه، ولما اعتزم الإسلام أبى أن يبيت ليلة على غير دين، وسواء أكان إسلامه حقا أم ظاهرا فقط، فليس من طبيعته الحرص على دين ما أن يهاجم الأديان كلها بهذه اللغة. (4)
إنا لم نجد فيما بين أيدينا من الكتب، وخاصة في الكتب التي ألفت في العصور الأولى كالمسعودي، وفهرست ابن النديم من نسب لابن المقفع كتابا كهذا، وهو حري بأن ينص عليه؛ لأنه يهيج شعور المسلمين، ويحملهم على الرد عليه، ودفع مطاعنه.
وأما شكنا في نسبة الرد للقاسم بن إبراهيم؛ فمن وجوه كذلك:
أولها:
من الناحية الفنية؛ فقد علمنا أن القاسم في النصف الأول من القرن الثالث ، والكتاب من أوله إلى آخره كله مسجوع، متكلف السجع. ونحن نعلم أن هذا العصر (عصر الجاحظ) لم يتكلف فيه سجع، ولم تؤلف فيه كتب مسجوعة كلها، وإن تكلف فيه سجع؛ ففقرة أو فقرتان، فأما كتاب كله سجع، فهذا ما لا نعرفه في هذا العصر هذا إلى إسفاف في السجع، ورداءة في التعبير كقوله: «فالإنس والخلق ليس بينهما عندكم خلاف، والأعيان والأعراض فقد تجمعها الأوصاف.»
89
ثانيا:
ترجم ابن النديم في الفهرست للقاسم بن إبراهيم، وعدد كتبه، وهي كتاب الأشربة، وكتاب الإمامة، وكتاب الأيمان والنذور، وكتاب سياسة النفس، وكتاب الرد على الرافضة،
90
وهذه هي كل كتبه التي ذكرها ولم يذكر منها ردا على ابن المقفع.
هذا يجعلنا نخالف ما ذهب إليه الأستاذ «جويدي» من ترجيحه صحة نسب الكتاب والرد عليه. •••
وبعد، فالقارئ لكتب ابن المقفع وتاريخه يخرج منه على أديب ثقف ثقافة واسعة فارسية وعربية، ينزع نزعة قوية لقومه من الفرس، ويحيي أمته بنشر آدابها وسياستها وتاريخها، ويرى عيوب النظم الاجتماعية في عصره فينادي بإصلاحها بتطبيق الصالح من النظم الفارسية، ثم هو نبيل شريف النفس، يسترعي بنبله وأدبه أنظار الناس، فيروي الأصمعي أن ابن المقفع سئل: «من أدبك؟ قال: نفسي، إذا رأيت من غيري حسنا أتيته، وإن رأيت قبيحا أبيته.» ثم إن نبله وعلو خلقه أتيا من طريق الفكر والفلسفة، لا من طريق الدين، ورجال الخلق قد يكون خلقهم تدينا، وقد يكون خلقهم تفلسفا، فأخلاق الحسن البصري العالية مثلا مبعثها الدين، يتجلى ذلك في حكمه وأقواله وسيرته، فهو يصدق ويحسن ويعدل لأن الله أمر بالصدق والعدل والإحسان. أما ابن المقفع فباعثه الخلقي فلسفي، يصدق لأن في الصدق شرفا ورفعة، ولو لم يأمر به دين لكان في نفسه حسنا، يظهر ذلك في حكمه، فقل أن يستند في قوله إلى آية أو حديث، وإنما يعلل ذلك تعليلا عقليا، فهو رجل مدني وعالم مدني، لا رجل دين ولا عالم دين، يتجلى في أقواله إيمان بالله، وإيمان بدين؛ لكن لا يتجلى فيها إيمان بتفاصيل دين.
فلو سئلنا ما كانت منزلة الإسلام من قبله؟ فخير ألا نحاول الإجابة؛ فنحن لا نستطيع الحكم في هذا على من هم تحت سمعنا وبصرنا، فكيف بمن باعدت بيننا وبينه القرون، وانغمس في السياسة وأحزابها، وحارب وحورب بها، فلنكله إلى الله، فالله وحده خير الحاكمين. •••
إذن كانت الثقافة الفارسية عنصرا قوي الأثر في ذلك العصر: في الشعر في الأدب، في الحكم، في القصص، في الخرافات والأوهام، في العادات والتقاليد، في نظم الحكم، في دعاة الإصلاح، في رجال اللهو والغناء، في الديانات ومذاهب المتكلمين، في رجال العلم والتدوين، في قصور الخلافة، في الخاصة والعامة. وكان لهذا العنصر حماة ودعاة، يعملون كثيرا بداعي العصبية القومية، وأحيانا بداعي الخير والإصلاح، وكان لكثير من هؤلاء الدعاة مناصب تمكنهم من بسط نفوذهم، وحماية دعوتهم سرا إذا دعت الحال، وجهرا إن أمكن الجهر. ولم يكن ابن المقفع إلا زعيما من زعمائها العديدين، وأبطالها البارعين. ولم تنتشر دعوتهم في لين وهوادة، بل قوومت من عناصر أخرى في شدة وعنف، قاومها العرب إذ أحسوا الخطر، وقاومتها الأجناس الأخرى دفاعا عن قوميتها، وكان صراع لغوي وديني، وصراع عادات وتقاليد، وصراع علمي، وكان النصر في بعض الميادين لهذا، وبعضها لذاك، كما سنبينه في الكلام عن امتزاج الثقافات إن شاء الله.
الفصل الثامن
الثقافه الهندية
قديما عرف العرب «الهند» في جاهليتهم، واتصلوا بهم تجاريا، وأولعوا بالعود الطيب الذي يجلب من الهند، فقال عدي بن الرقاع:
رب نار بت أرمقها
تقضم الهندي والغارا
قالوا إنما عنى بالهندي عود الطيب الذي من بلاد الهند، كما أولعوا بالسيوف الهندية، وسموا السيف المطبوع من حديد الهند المهند، وقالوا سيف مهند، وهندي، وهندواني إذا عمل ببلاد الهند وأحكم عمله، واشتقوا منه فقالوا: هند السيف إذا شحذه، وقال قائلهم: «كل حسام محكم التهنيد». قال الأزهري: والأصل في التهنيد عمل الهند.
1
وسموا كثيرا من نسائهم «هندا»، كما سموا «هند الهنود»، ولا أدري هل أصل التسمية هذه البلاد.
ولما فتح المسلمون فارس والعراق فكروا في الهند، فيحدثنا البلاذري: «أنه لما ولي عثمان بن عفان، وولي عبد الله بن عامر بن كريز العراق، كتب إليه يأمره أن يوجه إلى ثغر الهند من يعلم علمه، وينصرف اليه بخبره، فوجه حكيم بن جبلة العبدي، فلما رجع أوفده إلى عثمان فسأله عن حال البلاد فقال: يا أمير المؤمنين، قد عرفتها وتنحرتها. قال: فصفها لي. قال: ماؤها وشل، وثمرها دقل،
2
ولصها بطل. إن قل الجيش فيها ضاعوا، وإن كثروا جاعوا. فقال له عثمان: أخابر أم ساجع؟ قال: بل خابر، فلم يغزها أحد.»
3
وتتابع المسلمون يغزونها، ويصيبون منها المغانم، حتى وجه الحجاج محمد بن القاسم الثقفي إلى الهند في أيام الوليد ففتح جزءا عظيما منها، وهو المسمى بالسند سنة 91ه، ففتح «ديبل»
Daibul ، و«نيرانكوت» المسماة الآن «بحيدر آباد»، وسار إلى «راور»، وأخيرا فتح «ملتان». وكان محمد بن القاسم قائد الجيوش وفاتح هذه الفتوح فتى شابا لم يتجاوز العشرين، قال فيه القائل:
إن المروءة والسماحة والندى
لمحمد بن القاسم بن محمد
ساس الجيوش لسبع عشرة حجة
يا قرب ذلك سؤددا من مولد!
وقال فيه آخر:
ساس الرجال لسبع عشرة حجة
ولداته عن ذاك في أشغال!
وقد غنموا مغانم كثيرة، وسبوا سبيا كثيرا، انتشر كشأن السبايا في المملكة الإسلامية، وأصبح الجيل السندي عنصرا من العناصر المكونة للأمة الإسلامية. حدث الأغاني قال: «بعث الجنيد بن عبد الرحمن المري إلى خالد بن عبد الله القسري بسبي من الهند بيض، فجعل يهب كما هو للرجل من قريش، ومن وجوه الناس، حتى بقيت جارية منهن جميلة كان يدخرها، وعليها ثياب أرضها؛ فوطتان. فقال لأبي النجم: هل عندك فيها شيء حاضر وتأخذها الساعة؟ قال: نعم أصلحك الله.»
4
ثم قال فيها رجزه المشهور الذي مطلعه:
علقت خودا من بنات الزط
5
وفي عصرنا الذي نؤرخه تبعت السند للعباسيين، وولي أبو جعفر المنصور هشام بن عمرو التغلبي عليها سنة 142، فتوسع في الفتح شمالا؛ ففتح «كابل»، و«كشمير»، وأصاب سبيا ورقيقا كثيرة، واتصلت العلاقات التجارية بين السند والمملكة الإسلامية؛ فكان يأتي منها العود والسكر، والغاب الهندي.
6 •••
وما إن تم الفتح حتى رأينا الحركة العلمية تتبعه، فكان بعض الفاتحين أنفسهم من العلماء؛ فالربيع بن صبيح البصري أشهر المحدثين، وأولهم تدوينا للحديث، كان في الجيش الذي سيره المهدي سنة 159 لغزو الهند وبها مات.
7
وقد ترجم الذهبي لبعض المحدثين في السند في كتابه تذكرة الحفاظ،
8
وهكذا لم يكن الجيش الإسلامي فاتحا فقط، بل كان أيضا ناشرا للدعوة ومعلما.
ومن ناحية أخرى سرعان ما رأينا الموالي الذين جلبوا من الهند، وغنموا في الحرب، ووزعوا على الجند، ينبغ منهم ومن أولادهم الشعراء وعلماء اللغة والمحدثون؛ فمن الشعراء كان أبو عطاء السندي، وهو شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وكان أبوه سنديا لا يفصح، ونشأ ابنه في المسلمين شاعرا كبيرا، وإن كان في لسانه لكنة شديدة ولثغة، كان يقول في مرحبا «مرهبا»، وفي حياكم الله «هياكم الله»، وفي الزج «الزز»، وفي جرادة «زرادة»، وفي الشيطان «سيطان»، وفي أظن «أزن»، حتى اضطر أن يتخذ له غلاما ينشد شعره تحاميا من أن ينشده بلسانه، وهو القائل:
أعوزتني الرواة يا ابن سليم
وآبى أن يقيم شعري لساني
وغلا بالذي أجمجم صدري
وجفاني لعجمتي سلطاني
9
وازدرتني العيون إذ كان لوني
حالكا مجتوى من الألوان
10
فضربت الأمور ظهرا لبطن
كيف أحتال حيلة للساني!
وتمنيت أنني كنت بالشعر
فصيحا وبان بعض بناني جج
ولما أمر أبو جعفر المنصور الناس بلبس السواد قال:
كسيت ولم أكفر عن الله نعمة
سوادا إلى لوني ودنا ملهوجا
11
وبايعت كرها بيعة بعد بيعة
مبهرجة أن كان أمرا مبهرجا
وقد كرهه العباسيون لأنه قال كثيرا في مدح الأمويين، فلما تحولت الدولة أراد أن يتحول فلم يقبلوا منه، فكان يذمهم، ومن ذلك قوله هذا، وقوله:
فليت جور بني مروان عاد لنا
وليت عدل بني العباس في النار!
12
ولم يصل إلينا من شعره كثير، حتى نتبين إن كان فيه معان جديدة كسبها من أصله الهندي.
واشتهر من اللغويين ممن أصله هندي ابن الأعرابي (كان أبوه زياد عبدا سنديا)، وكان ابن الأعرابي علما من أعلام اللغة والأدب والشعر، أملى على الناس ما يحمل من أجمال، وألف تآليف كثيرة، وتتلمذ له كثيرون من أشهرهم ثعلب وابن السكيت. ولم يبق لنا من كتبه إلا كتاب في أسماء البئر وصفاتها،
13
وكتاب في أسماء الخيل وأنسابها،
14
ومن كتبه التي ألف كتاب الأنواء. ولو وصل إلينا لعلمنا هل تأثر فيها بمعارف الهند، أو اقتصر على معارف العرب، على النحو الذي ألف فيها غيره من علماء العرب.
ومن المحدثين الهنديين أبو معشر نجيح السندي، صاحب المغازي، سمع نافعا ونفرا من التابعين، وكان ألكن يقول حدثنا محمد بن «قعب» يريد كعب ... إلخ الخ.
هذا نوع يمثل لنا اندماج الهنود في المسلمين، واعتناقهم الإسلام، وتعلمهم علما إسلاميا عربيا، ونبوغ بعضهم فيه. وقد رأينا قبل فيما نقلنا عن الجاحظ اشتهار السنديين بحسن القيام على المال وتدبيره، حتى «لا ترى بالبصرة صيرفيا إلا وصاحب كيسه سندي.»
والآن نريد أن نتعرض للجانب الآخر من الموضوع، وهو تأثير الهنود في الثقافة الإسلامية.
أثر الهنود في الثقافة الإسلامية من ناحيتين؛ ناحية مباشرة، وذلك باتصال المسلمين أنفسهم بالهند من طريق التجارة، ومن طريق الفتح العربي، فإن هذا الفتح صير ما فتح من بلاد السند جزءا من المملكة الإسلامية، تخضع لنظامها، وتجري عليها أحكامها، وينتقل المسلمون إليها، وينتقل الهنود إلى أنحاء العالم الإسلامي المختلفة. وكل من هؤلاء وهؤلاء يحملون ثقافتهم، ويتبادلونها بعضهم مع بعض تبادل السلع.
وناحية غير مباشرة؛ وذلك نقل ثقافتهم بواسطة الفرس، فإن الفرس اتصلوا بالهنود اتصالا وثيقا قبل الفتح الإسلامي، وأثروا فيهم وتأثروا بهم، وأخذوا كثيرا من الثقافة الهندية، وأدمجوها في ثقافتهم، فلما نقلت الثقافة الفارسية إلى العربية، كان معنى هذا نقل جزء من الثقافة الهندية في ثناياها.
وقد عد المسلمون الهنود إحدى الأمم الأربع ذات الصفات الممتازة، وهي: الفرس والهند والروم والصين، وقال الجاحظ فيهم: «اشتهر الهند بالحساب وعلم النجوم وأسرار الطب، والخرط والنجر والتصاوير، والصناعات الكثيرة العجيبة.»
15
وقال المسعودي: «ذكر جماعة من أهل العلم والنظر أن الهند كانت قديم الزمان الغرة التي فيها الصلاح والحكمة.» ثم ألم بطرف من إلهياتهم ورياضتهم وألعابهم، إلى أن قال: «والهند في عقولهم وسياستهم وحكمهم، وألوانهم وصفاتهم، وصحة أمزجتهم، وصفاء أذهانهم، ودقة نظرهم، بخلاف سائر السودان.»
16
وقال الأصفهاني في محاضرات الأدباء: «إن الهند لهم معرفة الحساب والخط الهندي، وأسرار الطب، وعلاج فاحش الأدواء، والرقى وعلم الأوهام، وخرط التماثيل ونحت الصور، وطبع السيوف، والشطرنج، والحنكلة، وهي وتر واحد يجعل على قرعة فيقوم مقام العود، ولهم ضروب الرقص، والثقافة والسحر والتدخين.»
17
وقال القفطي: «إن الأمم الثماني التي عنيت بالعلوم؛ هم: الهند، والفرس، والكلدانيون، واليونانيون، والروم، وأهل مصر، والعرب، والعبرانيون. وهذه الأمم المذكورة الذين اعتنوا بالعلوم واستخراجها، وباقي الأمم لم تعن بشيء من ذلك، ولا ظهر لها شيء منه.»
18
وقال في موضع آخر: «والهند هم الأمة الأولى كثيرة العدد فخمة الممالك، قد اعترف لها بالحكمة، وأقر بالتبريز في فنون المعرفة كل الملل السالفة، وكان الصين يسمون ملك الهند ملك الحكمة لفرط عنايتهم بالعلوم، فكان الهند عند جميع الأمم معدن الحكمة وينبوع العدل والسياسة. ولبعد الهند من بلادنا قلت تآليفهم عندنا، فلم يصل إلينا إلا طرف من علومهم، ولا سمعنا إلا بالقليل من علمائهم.»
19
وكان تأثير الهند من نواح؛ أهمها الإلهيات، أو المقالات الدينية، والرياضيات أو الحساب والنجوم، والأدب وما يتبعه من فن.
الإلهيات
كان للهند فلسفة كما لليونان فلسفة، وقد بحث مؤرخو الفلسفة في مبلغ تأثير إحداهما في الأخرى، وما أخذ اليونان عن الهند، وما أخذ الهند عن اليونان مما لا مجال لبحثه هنا، ولكنا نقول إن للفلسفة الهندية أوصافا خاصة تميزها عن الفلسفة اليونانية؛ ذلك أن الفلسفة الهندية امتزجت امتزاجا تاما بالدين، واصطبغت صبغة شعرية لا صبغة علمية، لم تتدرج من المحسوس إلى المعقول، ورضت في كثير من مواقفها بالتعبير الشعري، المملوء بالمجازات والاستعارات والخيالات، ولم تنهج المنهج العلمي الذي يتطلب التعبير بالحقائق لا المجازات؛ مثال ذلك أن تقول: إن العالم كله مشتق من شيء واحد أبدي أزلي لا يقبل التغيير، يسمى «برهمن»، ثم إذا شرحت كيف تخلق هذا العالم من «برهمن» قالت: «كما تتشكل الحديدة المحماة في النار إلى آلاف من الأشكال؛ كذلك تتخلق الأشياء من الأزلي الأبدي ثم تعود إليه .» أو تقول: «كما ينبعث النسيج من العنكبوت، أو الشرر من النار؛ كذلك يخرج الحيوانات والعالم وكل شيء، من ذلك الأصل».
فأنت ترى أن هذه تشبيهات ترضي الخيال، ولا ترضي العقل. وهكذا ملئت الفلسفة الهندية بمثل هذه التعبيرات في كثير من شروحها. وقد يكون لها العذر في أنها تحاول شرح شيء من الصعب إدراكه، والتعبير عنه تعبيرا رياضيا، أو تعبيرا علميا، وأنها تنتقل من محسوس يمكن التعبير عنه إلى لامحسوس يصعب توضيحه. ولكن الفلسفة اليونانية في مثل هذه المواقف لم تسلك هذا السبيل، وحاولت جهد طاقتها أن تعبر التعبير العلمي، وإن كان في المدرسة الأفلاطونية شيء من الشعر.
كذلك مما تخالف فيه الفلسفة الهندية الفلسفة اليونانية؛ أن الأولى حددت الغرض من الفلسفة بخدمة الإنسان، بينما الفلسفة اليونانية تتطلب المعرفة للمعرفة؛ فالباعث الأساسي للفلسفة عند الهنود شوق الإنسان للخلاص من آلام هذا العالم ومصائبه. وعند اليونان الباعث الأول على الفلسفة العجب، عجب من مظاهر العالم فأراد أن يتعرفها فتفلسف. •••
انتشرت في الهند ديانة البراهمة ثم البوذية، ومن الإطالة أن نعرض لشرح هاتين الديانتين في عقائدهما وأصولهما. وقد وصف «البيروني» ديانة الهند التي رآها في القرن الرابع الهجري، وكان دقيقا صادق الوصف، عالما باللغة السنسكريتية، عاش في الهند زمنا طويلا، وخبر أحوال أهله، ووضع في ذلك كتبا أهمها: «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة».
20
وصف فيه عقائدهم، وعلومهم وآدابهم، وأحوالهم الاجتماعية، وقد أبان البحث العلمي الحديث ما للبيروني من تحر للحق، وإخلاص للعلم، وإصابة في كل ما وصف، إلا في القليل النادر الذي أوقعه فيه اعتماده على نفسه في فهم كلمة لغوية لم يكن فيها مصيبا، وأحيانا نقله عمن أخطأ في خبره. وقرب عهد البيروني من عصرنا الذي نؤرخه يجعلنا نعتقد أن حالة الهند في عصرنا العباسي الأول تشبه تمام الشبه ما وضعه «البيروني» معتمدا على ما شاهد وسمع وقرأ في كثير من الكتب الهندية باللغة السنسكريتية.
وصف الهنود بالإعجاب بأنفسهم، والاعتداد بأمتهم، والازدراء بمن عداهم: «يعتقدون في الأرض أنها أرضهم، وفي الناس أنهم جنسهم، وفي الملوك أنهم رؤساؤهم، وفي الدين أنه نحلتهم، وفي العلم أنه ما معهم. وفي طبيعتهم الضن بما يعرفونه، والإفراط في الصيانة له عن غير أهله منهم، فكيف عن غيرهم! على أنهم لا يظنون أن في الأرض غير بلدانهم، وفي الناس غير سكانها، وأن للخلق غيرهم علما، حتى إنهم إذا حدثوا بعلم أو عالم في خراسان وفارس استجهلوا المخبر، ولم يصدقوه للآفة المذكورة. ولو أنهم سافروا وخالطوا غيرهم لرجعوا عن رأيهم، على أن أوائلهم لم يكونوا بهذه المثابة من الغفلة؛ فهذا «برهمن» أحد فضلائهم حين يأمر بتعظيم البراهمة يقول: إن اليونانيين (وهم أجناس) لما تخرجوا في العلوم وأنافوا فيها
21
على غيرهم وجب تعظيمهم.
22
ولما ذكر اعتقادهم في الله، فرق بين خاصتهم وعامتهم؛ لأن طباع الخاصة تقصد التحقيق في الأصول، والعامة تقف عند المحسوس، ثم شرح عقيدة الخاصة، فإذا هي توافق عقيدة المسلمين فيه، فقال: «واعتقاد الهند في الله سبحانه وتعالى أنه الواحد الأزلي من غير ابتداء وانتهاء، المختار في فعله، القادر الحكيم الحي المحيي المدبر المبقي، الفرد في ملكوته عن الأضداد والأنداد، لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء.»
23
ثم استدل على أن هذا عقيدة الخاصة من الهنود بنصوص من كتبهم القديمة، ثم وصف عقيدة العامة، وأن الأقاويل عندهم اختلفت وربما سمجت، كما يوجد مثله في سائر الملل وفي الإسلام من التشبيه والإجبار، ومثل لذلك عند الهنود بأن خاصتهم تقول: إنه يحيط بكل شيء حتى لا تخفى عليه خافية، فيظن عاميهم أن الإحاطة تكون بالبصر، والبصر بالعين، فيصف الله بألف عين عبارة عن كمال العلم.
وقد أطال البيروني في وصف الفلسفة الدينية للهند، من الاعتقاد بالله والموجودات العقلية والحسية، وتعلق النفس بالمادة، والأرواح وتناسخها، ومواضع الجزاء من الجنة والنار، وكيفية الخلاص من الدنيا، ومنبع السنن والنواميس، والرسل، ونسخ الشرائع. وقارن في كثير من المواضع بين عقائد الهند والإسلام، والصوفية والنصرانية ، والفلسفة اليونانية والأفلاطونية الحديثة؛ مما يخرج بنا عن القصد لو شرحناه.
غير أن هنا مسألة هامة لا بد من الإشارة إليها؛ لأنها خاصة من خواص الهند، ولها أثر كبير في المسلمين، تلك هي مسألة «تناسخ الأرواح». وقد قال فيها البيروني بحق: «كما أن الشهادة بكلمة الإخلاص شعار إيمان المسلمين، والتثليث علامة النصرانية، والإسبات علامة اليهودية، كذلك التناسخ علم النحلة الهندية، فمن لم ينحله لم يك منها، ولم يعد من جملتها!»
24
وشرح نظريتهم في التناسخ؛ أن الأرواح لا تموت، ولا تفنى، وأنها أبدية الوجود، لا سيف يقطعها، ولا نار تحرقها، ولا ماء يغصها، ولا ريح تيبسها، ولكنها تنتقل من بدن إلى بدن، كما يستبدل البدن اللباس إذا خلق، وتترقى النفس في الأبدان المختلفة كما يترقى الإنسان من طفولة إلى شباب إلى كهولة إلى شيخوخة. ذلك أن النفس طالبة للكمال، شيقة إلى العلم بكل شيء، وهذا يحتاج إلى زمن فسيح، وعمر الإنسان وغيره قصير، فلا بد من تنقل النفس من بدن إلى بدن، وفي كل بدن تستفيد تجارب جديدة، ومعلومات جديدة، فالأرواح الباقية تتردد في الأبدان البالية، وهي تتردد من الأرذل إلى الأفضل، دون عكسه، لتترقى النفس في الكمال، حتى يتحقق شوقها بعلمها ما لم تعلم، واستيقانها شرف ذاتها، واستغناؤها عن المادة، فتعرض عنها. «ويتحد العاقل والعقل والمعقول، ويصير واحدا».
وقد ربطوا الثواب والعقاب والجنة والنار بنظرية التناسخ، فقالوا: إن الغرض من جهنم تمييز الخير من الشر، والعلم من الجهل، فالأرواح الشريرة تتردد في النبات، وخشاش الطير، ومرذول الهوام، إلى أن تستحق الثواب فتنجو من الشدة، وتتردد فيما هو أرقى. وقال بعضهم: «لو لم أكن صائرا إلى آلهة حكماء سادة أخيار، ثم من بعد إلى أناس ماتوا خير ممن هنا؛ لكان تركي الحزن على الموت ظلما!» «وقال بعض من مال إلى التناسخ من المتكلمين إنه على أربع مراتب هي: «النسخ»؛ وهو التوالد بين الناس، بأن ينسخ من شخص إلى آخر، وضد «المسخ»، ويخص الناس بأن يمسخوا قردة وخنازير وفيلة. و«الرسخ» كالنبات ، وهو أشد من النسخ لأنه يرسخ، ويبقى على الأيام، ويدوم كالجبال، وضده «الفسخ»؛ وهو للنبات المقطوف ، والمذبوحات؛ لأنها تتلاشى ولا تعقب.»
25
وقد لعبت نظرية التناسخ دورا هاما في الفلسفة اليونانية، وفي الديانة المانوية، وفي المذاهب الإسلامية، وفي التصوف، وفي النصرانية.
فقد قال فيثاغورس بنظرية التناسخ، ويرجع كثيرون من مؤرخي الفلسفة اليونانية أنها مأخوذة في الأصل من الفلسفة الهندية، ثم أخذها عن فيثاغورس إمبدكليس، وأفلاطون. وقد كان فيثاغورس يرى تناسخ الأرواح بين الإنسان والحيوان، وأن تحرير النفس بترقيها في دورة الحياة، وذلك بالشعائر الدينية، وبالفكر والتأمل والفلسفة. وأفلاطون ربط رأيه في عالم المثل، ونظريته في تذكر المعلومات قبل حلول الروح بالجسم بنظرية التناسخ، وإن اختلفت نظريته في التفاصيل عما حكاه بوذا، من تذكره أشياء كثيرة، حدثت له في مواليده الأولى، وقد نقض أرسطو رأي فيثاغورس وأفلاطون في التناسخ، وخاصة في حلول روح إنسان في جسم حيوان، وذهب إلى أن ما كان وظيفة لشيء لا يمكن أن يكون وظيفة لآخر ... إلخ.
وقد حكى «البيروني» أن «ماني» نفي من بلاد فارس فدخل أرض الهند، ونقل التناسخ منهم إلى نحلته، وقال: إن الحواريين لما علموا أن النفوس لا تموت، وأنها مترددة في صور مختلفة، سألوا المسيح عن عاقبة النفوس التي لم تقبل الحق؛ فقال: أي نفس لم تقبل الحق هالكة لا راحة لها، وعنى بهلاكها عذابها لا تلاشيها.»
26
أما في الإسلام؛ فكان أثر التناسخ في بعض الفرق الدينية كبيرا، فقد قال أحمد بن حائط (وقد كان من المعتزلة، ثم تبرءوا منه) وأبو مسلم الخراساني، والقرامطة، ومحمد بن زكريا الرازي: إن الأرواح تنتقل بعد مفارقتها الأجساد إلى أجساد أخرى، وإن لم تكن من نوع الأجساد التي فارقت، واحتج أحمد بن حائط بقوله تعالى:
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك
وبقوله تعالى
جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه .
27
وقد أوضح الشهرستاني قول أحمد بن حائط في التناسخ فقال: إنه كان يقول : إن الله أبدع خلقه أصحاء سالمين عقلاء بالغين في دار سوى هذه الدار التي هم فيها اليوم، وخلق فيهم معرفته والعلم به، وأسبغ عليهم نعمه، فابتدأهم بتكلف شكره، فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به، وعصاه بعضهم في جميع ذلك، وأطاعه بعضهم في البعض دون البعض، فمن أطاعه في الكل أقره في دار النعيم التي ابتدأهم فيها، ومن عصاه في الكل أخرجه من تلك الدار إلى دار العذاب وهي النار، ومن أطاعه في البعض وعصاه في البعض أخرجه إلى دار الدنيا، فألبسه هذه الأجسام الكثيفة، وابتلاه بالبأساء والضراء على صور مختلفة من صور الناس، وسائر الحيوانات على قدر ذنوبهم، ثم ما يزال يكون الحيوان في الدنيا كرة بعد كرة وصورة بعد أخرى، ما دامت معه ذنوبه.»
28
وقبل هؤلاء كان السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ، فقد رووا عنه أنه قال لعلي: أنت أنت! أي أنت الإله. وتبعته فرقته فقالت بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي،
29
وبمثل ذلك قال الغالية من الشيعة.
30
وبعد هؤلاء كان النصيرية يعتقدون أن مرتكبي الآثام يعودون إلى الدنيا يهودا أو نصارى، أو مسلمين سنيين، أما من لم يؤمن بعلي فيعودون جمالا أو بغالا أو حميرا، أو كلابا أو نحو ذلك من أصناف الحيوان، وبمثل ذلك يقول عوام الدروز.
وفي بعض قصص ألف ليلة وليلة ما يشير إلى مذهب التناسخ.
وقد رأيت قبل أن نظرية التناسخ تسلم إلى مذهب الحلول، فيتحد العقل والعاقل والمعقول، وتصير كلها شيئا واحدا. وهذا النظر كان له أثر كبير في مذهب الصوفية، كما سنشرحه إن شاء الله عند الكلام في التصوف.
ومن مذاهب الهند القائلة بالتناسخ مذهب يسمى «السمنية» نسبة إلى «سومنات»، وهو اسم صنم كان في الهند أحرقه السلطان محمود بن سبكتكين سنة 1416، كما ذكر الجزري في تاريخه، وقد ذكر البيروني أنها فرقة شديدة البغض للبراهمة، وقد كانت خراسان وفارس والعراق والموصل إلى حدود الشام في القدم على دينهم، إلى أن ظهر زرادشت من أذربيجان، ودعا ببلخ إلى المجوسية، وراجت دعوته فانجلت السمنية عنها إلى مشارق بلخ.
31
وقد عرف هذا المذهب بين المسلمين في العصر الذي نؤرخه، فيحكي لنا الأغاني: «أنه كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام؛ عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وبشار الأعمى، وصالح بن عبد القدوس، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، ورجل من الأزد (قال أبو أحمد عين جرير بن حازم) فكانوا يجتمعون في منزل الأزدي، ويختصمون عنده، فأما عمرو وواصل فصارا إلى الاعتزال، وأما عبد الكريم وصالح فصححا التوبة، وأما بشار فبقي متحيرا مخلطا، وأما الأزدي فمال إلى قول السمنية؛ وهو مذهب من مذاهب الهند، وبقي ظاهره على ما كان عليه.»
32
وقد عرف علماء المسلمين السمنية، وناقشوهم طويلا في كتب التوحيد أو علم الكلام، وأكثر مناقشتهم كانت حول «نظرية المعرفة»، فيؤخذ من حكاية قول السمنية أنهم كانوا يقولون: إن العلم أو المعرفة لا تحصل إلا من باب الحواس، فكل علم ليس أساسه الحس لا يكون علما صحيحا، أما النظر المجرد، غير المؤسس على الحس فلا يفيد علما، سواء كان ذلك في الإلهيات أو غيرها.
33
وقد لخص صاحب كشاف مصطلحات الفنون مذهبهم في هذا بقوله: «إنهم يقولون بأنه لا يفيد العلم إلا الحس»، فكأنهم بذلك سبقوا «لوك» ومن تبعه؛ إذ يقولون إن أداة المعرفة الصحيحة هو الإدراك بالحس، وكل الأفكار الراقية الجليلة التي تفوق السحاب رفعة، وتعلو علو السماء، إنما أصلها الحواس، يسبح العقل مسافات بعيدة ويفكر، ويتأمل تأملات رفيعة، وهو في كل هذا لا يخرج قيد شعرة عما أمدته به الحواس أو التأمل. وهم يعارضون في ذلك نظرية الذهنيين أو العقليين، الذين يرون أن بعض المدركات ليس سببها الحواس، وإنما سببها الإدراك العقلي المحض كما في الرياضيات والإلهيات. •••
أما في الرياضيات؛ فقد اتصل المسلمون بالهند، وأخذوا عنهم قبل أن يتصلوا اتصالا وثيقا باليونان؛ فقد ذكروا «أن وفدا من الهند وفد على أبي جعفر المنصور سنة 154 وفيهم رجل ماهر في معرفة حركات الكواكب وحسابها، وسائر أعمال الفلك على مذهب علماء أمته، وخصوصا على مذهب كتاب باللغة السنسكريتية اسمه «براهمسبهطسدهانت»، ألفه سنة 628م (أو 6 و7 هجرية) الفلكي الرياضي «برهمكبت»، فكلف المنصور ذلك الهندي بإملاء مختصر الكتاب ، ثم أمر بترجمته إلى اللغة العربية، وباستخراج كتاب منه تتخذه العرب أصلا في حساب حركات الكواكب. وما يتعلق به من الأعمال، فتولى ذلك الفزاري، وعمل منه مزيجا اشتهر بين علماء العرب، حتى إنهم لم يعملوا إلا به إلى أيام المأمون؛ حيث ابتدأ مذهب «بطليموس في الحساب والجداول الفلكية».
34
وقد اقتصر العرب على الجزء الأخير من الاسم السابق، وهو «سدهات»، ثم حرفوه قليلا وسموه «السند هند».
35
وقد أخذ عن هذا الرجل الهندي الذي وفد على المنصور إبراهيم بن حبيب الفزاري، ويعقوب بن طارق.
36
وكما أخذ المسلمون عن الهند كتاب السند هند، ترجموا كتابا ثانيا اسمه «الأركند»، وثالثا اسمه «الأرجبهر».
37
وقد قال الأستاذ «نيللنو» بعد بحثه العميق: «كفت هذه الملاحظات دليلا على شدة تأثير كتب الهند في أوائل نمو الفلك عند العرب. وسنرى فيما بعد أن العرب أخذوا طرقا مهمة كثيرة النفع مجهولة لليونان في حل جملة من المسائل الفلكية المتعلقة بعلم حساب المثلثات الكروية.»
38
وقال في موضع آخر: «فاتضح مما بينته أن تأثير علماء الهند والفرس في نشأة ميل العرب إلى ذلك العلم الجليل، سبق تأثير اليونان ولو بزمان قليل، ولكن لم تنل العرب ما نالوا من التقانة والكمال والشهرة في ذلك الفن لو قصروا عنايتهم على نقل الكتب الموصوفة إلى الآن لأنها مصنفات عملية مقتصرة على منطوق القواعد، وشرح استعمال الجداول، خالية عن البراهين وبيان العلل.»
39
ويؤيد هذا النظر ما قاله البيروني من قبل، فإنه رأى أن فلكي الهنود لا يبحثون في العلل، وكان على علم تام بالفلك عند اليونان قبل أن يأخذ عن الهنود، فقال: «إني كنت أقف عن منجميهم (منجمي الهند) مقام التلميذ من الأستاذ لعجمتي فيما بينهم، وقصوري عما هم فيه من مواضعاتهم، فلما اهتديت قليلا لها أخذت أوقفهم على العلل، وأشير إلى شيء من البراهين، وألوح لهم الطرق الحقيقية في الحسابات، فانثالوا علي متعجبين وعلى الاستفادة متهافتين، وكادوا ينسبونني إلى السحر.»
40
وقد أخذ العرب بعض الاصطلاحات الرياضية من الهنود؛ كلفظة «الجيب» في حساب المثلثات.
41
كما اقتبسوا كثيرا من نظريات الهند في الحساب والهندسة، مما ليس من موضوعنا الأدبي.
42
كذلك كان في بغداد أطباء هنود، يمثلون الطب الهندي بجانب الطب اليوناني، اشتهر منهم في عهد الرشيد «صالح بن بهلة الهندي»، قال جعفر بن يحيى البرمكي لهارون الرشيد وقد مرض ابن عمه إبراهيم بن صالح، فرآه جبريل بن بختيشوع، وأخبر الرشيد بأنه لا أمل في شفائه، وسيموت في المساء: «يا أمير المؤمنين جبريل طبه رومي، وصالح بن بهلة الهندي في العلم بطريقة أهل الهند في الطب مثل جبريل في العلم بمقالات الرومي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإحضاره، ويوجهه إلى إبراهيم بن صالح ليفهمنا عنه فعل.
43
ويقول الجاحظ: إن يحيى بن خالد جلب أطباء من الهند، مثل «منكه»، و«بازيكر»، و«قنيرقل»، و«سندباد».
44
الأدب وما إليه
كان عند الهنود نحو وصرف، وقالوا في أولية النحو إن أحد ملوكهم كان يوما في حوض مع نسائه، فقال لإحداهن: «ماود كندهي.» أي لا ترشي علي الماء، فظنت أنه يقول «مود كندي هي» أي احملي حلوى، فذهبت فأقبلت بها، فأنكر الملك فعلها فخاشنته في الخطاب، فاستوحش الملك لذلك، وامتنع عن الطعام كعادتهم، واحتجب إلى أن جاءه أحد علمائهم وسلى عنه بأن وعده تعليم النحو والصرف، وذهب إلى «مهاديو» مصليا مسبحا وصائما، متضرعا إلى أن ظهر له، وأعطاه قوانين يسيرة، كما وضعها في العربية أبو الأسود الدؤلي، ووعده التأييد فيما بعدها من الفروع، فرجع العالم إلى الملك وعلمه إياها، وذلك مبدأ هذا العلم.
45
وأنا أخشى أن تكون حكاية أبي الأسود قد وضعت في العربية على نمط الحكاية الهندية، ولعل مما يرجح هذا الظن أن الحكاية العربية مختلفة الأشكال، متعددة الرواية، فمن قائل إن علي بن أبي طالب هو الذي أوعز إلى أبي الأسود بوضع النحو، ومن قائل إنه عمر بن الخطاب، ومن قائل إنه زياد ابن أبيه. ثم من قائل إن سبب الوضع ، أن قارئا قرأ «لا يأكله إلا الخاطئين»، ومن قائل إن قارئا قرأ: «إن الله بريء من المشركين ورسوله »، ومن قائل إن ابنة أبي الأسود قالت: «ما أحسن السماء» تريد التعجب، فقال لها: نجومها؟ يظنها تستفهم، فقالت: يا أبت إنما أخبرتك ولم أسألك! فقال لها: إذن فقولي «ما أحسن السماء!»، إلى آخر ما قالوا مما يحمل على الشك في القصة، ثم هناك شبه بين ذهاب العالم الهندي إلى «مهاديو» مصليا مسبحا، وبين ذهاب أبي الأسود إلى علي بن أبي طالب يسأله المعونة في وضع النحو، وهكذا.
وكان للهنود شعر وولع بالشعر والنظم، حتى شكا «البيروني» من نظمهم لقواعد الرياضة والفلك؛ لأن ذلك يخرجهم أحيانا عن ضبط القواعد، وما يستلزمه من دقة في تعبير لا يتسنى في النظم. ووضعوا للشعر بحورا وأوزانا عكف البيروني على دراستها، وبينها في كتابه، ثم قال: «ومن الممكن أن يكون الخليل بن أحمد سمع للهند موازين في الأشعار، كما ظن به بعض الناس.»
46
وأهم ما استفاد الأدب العربي من الهند أمور ثلاثة: (1)
ألفاظ هندية عربت، وقد كان ذلك أيام كان العرب يتاجرون مع الهند، وينقلون سلعا هندية، ويحملون مع هذه السلع أسماءها، وقد حكى السيوطي ألفاظا هندية عربت، ووردت في القرآن الكريم؛ مثل: زنجبيل وكافور. ومما ورد في اللغة العربية من الألفاظ الهندية الأبنوس والببغاء والخيزران والفلفل والأهليلج، وغير ذلك من أسماء النباتات والحيوانات الهندية.
ويضاف إلى ذلك آراء في الأدب والبلاغة نقلت إلينا عنهم، وقد كان من أتى بغداد من أطباء الهند وغيرهم يحملون معهم كتبا وصحفا في مواضيع شتى منها الأدب. حكى الجاحظ أن معمرا أبا الأشعث قال: قلت لبهلة الهندي أيام اجتلب يحيى بن خالد أطباء الهند: ما البلاغة عند أهل الهند؟ قال بهلة: عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة لا أحسن ترجمتها لك، ولم أعالج هذه الصناعة فأثق من نفسي بالقيام بخصائصها، وتلخيص لطائف معانيها. قال أبو الأشعث فلقيت بتلك الصحيفة التراجمة، فإذا فيها: «أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجاش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، متخير اللفظ، لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السوقة. ويكون في قواه فضل للتصرف في كل طبقة، ولا يدقق المعاني كل التدقيق، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح، ولا يصفيها كل التصفية، ولا يهذبها غاية التهذيب، ولا يفعل ذلك حتى يصادف حكيماأو فيلسوفا عظيما.»
47
إذن كان مع هؤلاء الأطباء الهنود صحف في موضوعات غير موضوعاتهم الطبية، وكان العلماء يخالطونهم، ويسألونهم في شتى المسائل، وكان هناك تراجمة يترجمون من الهندية إلى العربية، وكان هناك شوق لتعلم الناس ما عند كل أمة ليقارنوا بينها، ويأخذوا أحسنها، وقد نقلت إليهم هذه الجملة الهندية في البلاغة، فرأيناها تصاغ فيما بعد في كتب البلاغة العربية، بما سموه «مقتضى الحال».
وقارن التنو خي
48
بين بلاغة الهند وبلاغة العرب، بأن الأولى مطنبة مسهبة، والثانية مختصرة موجزة؛ إذ ذكر أن خارجيا خرج على بعض ملوك الهند فخرج إليه الملك بنفسه، فقتله الخارجي، وملك داره ومملكته، فأحسن السيرة وسلك سبيل الملوك، فلما طال أمره، وعز ذكره وقوي سلطانه جمع بعض عقلائهم وحكمائهم وسألهم: هل ترون في عيبا وفي سلطاني نقصا؟ قالوا: لا إلا شيئا واحدا إن أمنتنا قلناه. قال: أنتم آمنون. قالوا: نرى كل شيء لك جديدا (يعرضون أنه لا عرق له في الملك). قال: فما حال ملككم الذي كان من قبل؟ قالوا: كان ابن ملك. قال: فأبوه؟ قالوا: ابن ملك. قال: فأبوه؟ إلى أن عدد عشرة أو أكثر، وهم يقولون ابن ملك. فانتهى إلى الأخير، فقالوا: كان متغلبا. قال: فأنا ذلك الملك الأخير، وإن طالت أيامي كان الملك بعدي في ولدي. قال التنوخي: هذا شيء قد سبقت إليه العرب في كلمتين استغني بهما عن المثل الطويل العجمي؛ فقد روت العرب أن رجلين منهما تفاخرا، فقال أحدهما لصاحبه: نسبي مني ابتدأ، ونسبك إليك انتهى.» (2)
القصص الهندي: وقد أولع العرب به؛ فقد علمنا قبل أن أصل «كليلة ودمنة» هندي، نقل إلى الفارسية، ثم نقل من الفارسية إلى العربية، مع زيادات على الأصل الهندي .
وقصة السندباد كما يدل اسمها هندية الأصل، نقلت إلى العربية. قال ابن النديم: «وكتاب سندباد نسختان كبيرة وصغيرة ، والخلف فيه مثل الخلف في كليلة ودمنة، والغالب والأقرب إلى الحق أن يكون الهند صنفته.»
49
وقد عدد في الفهرست كتبا كثيرة للهند في الخرافات والأسمار والأحاديث؛ منها كليلة ودمنة، والسندباد الكبير، والسندباد الصغير، وكتاب هابل في الحكمة، وكتاب حدود منطق الهند، وكتاب ملك الهند القتال والسباح، وكتاب شاناق في التدبير، وكتاب بيدبا في الحكمة.
50
كما أن في كتاب ألف ليلة وليلة قصصا دل البحث العلمي على أن أصلها هندي؛ هذا إلى قصص صغيرة نثرت في الكتب العربية مما نقل عن الهند، كالذي قال الجهشياري: «ومما أستحسنه من شدة التحرز ما حكي في كتاب من كتب الهند أنه أهدي إلى بعض ملوكهم حلي وكسوة، وبحضرته امرأتان من نسائه، ووزير من وزرائه، فخير إحدى امرأتيه بين اللباس والحلية، فنظرت المرأة إلى الوزير كالمشيرة له، فغمزها بإحدى عينيه على أخذ الكسوة. ولحظه الملك؛ فعدلت عما أشار به من الكسوة واختارت الحلي لئلا يفطن الملك للغمزة، ومكث الوزير أربعين سنة كاسرا عينه ليظن الملكأنها عادة وخلقة.»
51
وفي كتاب للهند «أن ناسكا كان له عسل وسمن في جرة، ففكر يوما فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري خمسة أعنز فأولدهن في كل سنة مرتين، ويبلغ النتاج في سنين مائتين، وأبتاع بكل أربع بقرة، إلى آخر القصة المشهورة.
52 (3)
أما النوع الذي أخذوا منه عن الهنود كثيرا، فهو الحكم، وهو نوع يتفق والذوق العربي؛ فهو أشبه شيء بالأمثال العربية، والجمل القصيرة ذوات المعاني الغزيرة التي أولع بها العرب. وهي نتيجة تجارب كثيرة، تركز في جملة بليغة، والعقل يميل إليها قبل أن يميل إلى مثل الفلسفة اليونانية المنظمة بأبواب وفصول وموضوعات، فالبحث العميق المفصل المتسلسل، لا يصل إليه العقل إلا بعد أن يمر بطور يعجب فيه بالنظرات المنثورة، والحكم المأثورة.
وقد اشتهر الهند بهذا، وملئت كتب الأدب المؤلفة في هذا العصر بهذا النوع، يقول ابن قتيبة:
قرأت في كتاب من كتب الهند: «شر المال ما لا ينفق منه، وشر الإخوان الخاذل، وشر السلطان من خافه البريء، وشر البلاد ما ليس فيه خصب ولا أمن.»
53
وفي كتاب للهند: «ثلاثة أشياء لا تنال إلا بارتفاع همة وعظيم خطر؛ عمل السلطان، وتجارة البحر، ومناجزة العدو.» وفيه أيضا: «ذو الهمة إن حط فنفسه تأبى إلا علوا؛ كالشعلة من النار يصوبها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعا.»
54
وقرأت في كتاب للهند: «ليس من خلة يمدح بها الغني إلا ذم بها الفقير. فإن كان شجاعا قيل أهوج، وإن كان وقورا قيل بليد، وإن كان لسنا قيل مهذار، وإن كان زميتا قيل عيي!
55
وفي كتاب للهند: «العالم إذا اغترب فما معه من علمه كاف، كالأسد معه قوته التي يعيش بها حيث توجه.»
56 ... إلخ الخ.
وعقد صاحب كتاب «سراج الملوك» فصلا من حكم «شاناق» الهندي، يتضمن نصحا للملوك والولاة بالعدل في الرعية، مع ضرب الأمثال، وقال: إن هذا الفصل مأخوذ من كتاب لشاناق اسمه «منتخل الجواهر».
57
وبكل هذا تأثر الأدب العربي، والشعر العربي. جاء في كتاب للهند: «لا ينبغي اللجاج في إسقاط ذي الهمة والرأي وإذالته؛
58
فإنه إما شرس الطبع كالحية إن وطئت فلم تلسع لم يغتر بها فيعاد لوطئها. وإما سجح الطبع كالصندل البارد إن أفرط في حكه عاد حارا مؤذيا.» تأثر بذلك أبو نواس فقال:
قل لزهير إذا حدا وشدا
أقلل وأكثر فأنت مهذار
سخنت من شدة البرودة حتى
صرت عندي كأنك النار
لا يعجب السامعون من صفتي
كذلك الثلج بارد حار
قال ابن قتيبة: «وهذا الشعر يدل على نظرة في علم الطبائع؛ لأن الهند تزعم أن الشيء إذا أفرط في البرد عاد حارا مؤذيا.»
حتى لقد تأثر الشعراء بأقوال الهنود في الفلك، قال أبو نواس في الخمر:
تخيرت والنجوم وقف
لم يتمكن بها المدار «يريد أن الخمر تخيرت حين خلق الله الفلك، وأصحاب الحساب يذكرون أن الله تعالى حين خلق النجوم جعلها مجتمعة واقفة في ذلك البرج الذي ابتدأها منه، وإذا عادت إليه قامت القيامة وبطل العالم، والهند تقول: إنه في زمان نوح اجتمعت في الحوت إلا يسيرا منها، فهلك الخلق بالطوفان، وبقي منهم بقدر ما بقي منها خارجا عن الحوت.»
59
ولسنا ننسى أن الهنود كما ذهب كثير من الباحثين هم واضعو الشطرنج، وعنهم انتشر في العالم، ومنهم أخذه المسلمون، وإن اختلفوا هل أخذوه من الهند مباشرة أو بواسطة الفرس. وللهند في الشطرنج أشكال من اللعب مختلفة حكاها البيروني في كتابه «الهند»، وهي تخالف من بعض الوجوه ما هو معروف عندنا اليوم.
انتشرت هذه اللعبة عند المسلمين، وقد أهدى هارون الرشيد شطرنجا إلى «شارلمان»، واشتهر قوم بلعبه حتى نسبوا إليه؛ مثل: الصولي الشطرنجي، وأبي حفص الشطرنجي. وتكون حوله أدب فارسي وأدب عربي، فالفردوسي نظم فيه صفحات في لغة شعرية جميلة، والعرب نظموا فيه الشعر الكثير الجميل، كالذي قال ابن الرومي في أبي القاسم التوزي الشطرنجي:
تهزم الجمع أوحديا وتلوي
بالصناديد أيما إلواء
وتحط الرخاخ بعد الفرازين
فتزداد شدة استعلاء
ربما هالني وحير عقلي
أخذك اللاعبين بالبأساء
ورضاهم هناك بالنصف والربع
وأدنى رضاك في الإرباء!
واحتراس الدهاة منك وإعصا
فك بالأقوياء والضعفاء
عن تدابيرك اللطاف اللواتي
هن أخفى من مستسر الهباء
بل من السر في ضمير محب
أدبته عقوبة الإفشاء
فأخال الذي تدير على القو
م حروبا دوائر الأرحاء
وأظن افتراسك القرن فالقر
ن منايا وشيكة الإرداء
وأرى أن رقعة الأدم الأحمر
أرضا جللتها بدماء
غلط الناس؛ لست تلعب بالشطرنج
لكن بأنفس اللعباء
لك مكر يدب في القوم أخفى
من دبيب الفناء في الأعضاء
أو دبيب الملال في مستها
مين إلى غاية من البغضاء!
أو مسير القضاء في ظلم الغيب
إلى من يريده بالتواء
تقتل الشاه حيث شئت من
الرقعة طبا بالقتلة النكراء
غير ما ناظر بعينيك في الدست
ولا مقبل على الرسلاء
بل تراها وأنت مستدبر الظهر
بقلب مصور من ذكاء
ما رأينا سواك قرنا يولي
وهو يردي فوارس الهيجاء
رب قوم رأوك ريعوا فقالو
هل تكون العيون في الأقفاء؟!
تقرأ الدست ظاهرا فتؤد
به جميعا كأحفظ القراء ! •••
وأخيرا كان للهند عادات وتقاليد، وشعائر ونظم وشرائع، فإماتة الحيوان في الأصل محظورة عليهم (قالوا) ولكن الناس نبذوا كل أمر ونهي وراء ظهورهم. ونفذ هذه الأوامر البراهمة لاختصاصهم بالدين، ومنع الدين إياهم عن اتباع الشهوات.
60
وربما كانت هذه التعاليم هي التي أثرت في أبي العلاء، فحرم على نفسه اللحم وكره ذبح الحيوان، وكان لهم شرائع في الزواج والعدة وأحكام الجنين والنفاس، وشرائع في المرافعات وطرق القضاء، ونظام في العقوبات والكفارات، وأحكام في الميراث، وعادات في أيام الأعياد، ومقام في طبقات الناس وتحديد العلاقات بينهم.
61
كل هذه الفلسفة الدينية، والتعاليم الرياضية، والقصص والحكم الأدبية، والشعائر والتقاليد الاجتماعية ذابت في المملكة الإسلامية، وكانت عنصرا هاما من عناصر الآداب العربية.
الفصل التاسع
الثقافه اليونانية الرومانية
إذا نحن وصلنا إلى اليونان، فقد وضعنا أيدينا على كنز لا يفنى، وثروة لا تقدر، وغنى عظيم في كل ما ينتجه العقل والعاطفة والذوق؛ في الفلسفة، والرياضة، والفلك، في علوم الطبيعة والحياة والطب، في الأدب، في التاريخ، في السياسة، في الفنون الجميلة. لقد نفخوا في كل ذلك من روحهم، وغذوا العقول بآرائهم، وأمدوا العالم بأفكارهم وآدابهم، وعلمهم وأساطيرهم، وربوا الذوق بفنهم، ونحتهم وتصويرهم.
فأقليدس ظل إماما في الهندسة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن التاسع عشر الميلادي. والطب ظل قائما في العصور القديمة والقرون الوسطى على أساس ما دون بقراط وجالينوس. والفلاسفة إلى اليوم عيال على تعاليم سقراط وأفلاطون، وسياسة أرسطو، ومن إليهم من فلاسفة اليونان، وجمهورية أفلاطون وأرسطو منبع لما جد من نظريات في السياسة، وهكذا في كل فرع من فروع العلم والفلسفة والفن، فلسفة المسلمين أسست على فلسفتهم، والمدينة الحديثة بما فيها من علم وأدب نهضت على أكتافهم، وأول شرارة للنهضة الأوروبية الحديثة إنما انبعثت من كتبهم، تمتاز علومهم وفلسفتهم بميزة يكاد مؤرخو الفلسفة يجمعون عليها وهي أن اليونان كانوا يبحثون وراء الحق للحق، على حين أن كثيرا من الأمم كانت تتفلسف لما يتبع الفلسفة من فوائد مادية، أو لتأييد قضايا دينية، ومن ثم لم يشاءوا أن يعدوا الآراء الهندية أو المصرية أو الصينية الآشورية والبابلية فلسفة؛ لأنهم شرطوا في الفلسفة البحث وراء الحقيقة المجردة في حرية تامة، وسمو عن المادة، ولا عدوا الرومانيين أمثال «ماركوس أوريليوس» و«سنيكا» و«شيشيرون» فلاسفة؛ لأنهم لم يقدموا للعالم آراء فلسفية جديدة، تزيد في ثروة الفلسفة اليونانية.
وليس من غرضنا أن نلم بما وصل إليه اليونان في بحثهم في كل فرع من فروع العلم والفلسفة والفن؛ فذلك ما لا يحتمله فصل في كتاب.
1
وإنما غرضنا أن نعرض لبيان ما اقتبس المسلمون من الثقافة اليونانية الرومانية، ونبحث في إيجاز عن أي طريق وصلت هذه الثقافة للمسلمين.
كانت فتوح الإسكندر المقدوني لكثير من بلاد آسيا وأفريقيا سببا كبيرا من أسباب انتشار الثقافة اليونانية في الشرق؛ فقد كانت مملكته بلاد اليونان ومقدونية في أوروبا، ومصر وليبيا في أفريقيا، وسوريا وفلسطين والعراق وما إليه، وبلاد الفرس، وتركستان وأفغانستان وبلوخستان، وقسما من بلاد الهند في آسيا. وكان من سياسته التقريب بين هذه البلاد المفتوحة وبلاد الإغريق، ومزج الجنس الإغريقي بأجناس آسيا وأفريقيا في الحضارة والعمارة، ونظم الحكم والثقافة، ولهذا كان يحث اليونانيين على سكنى هذه البلاد، ومخالطة أهلها، وينظم مدنها تنظيما يونانيا، ويشجع الأدباء والكتاب والعلماء على نشر أدبهم وعلمهم؛ فكان من ذلك ومن الولاة اليونانيين الذين ورثوا الحكم من الإسكندر في الممالك الشرقية أن انتشرت الحضارة اليونانية والثقافة اليونانية من عهد الإسكندر. وكانت البلاد التي بين دجلة والفرات تغلب عليها الثقافة الإغريقية، حتى ليروون أنه لما وصل موت كراسوس
Crassus
إلى أوروديس
Orodes
الملك البرثي
2
كان يطالع مأساة من روايات يوريبيدس
Euripides . وظلت هذه الثقافة تنمو وتأتي ثمرها، حتى بعد أن انسحب الجيش اليوناني من هذه الأقطار، واشتهرت في الشرق قبل الإسلام إلى ما بعده مدن كثيرة كانت منبعا للثقافة اليونانية؛ من أشهرها جنديسابور، وحران، والإسكندرية.
فجنديسابور:
مدينة في خوزستان أسسها سابور الأول وإليه تنسب، واتخذها موطنا لأسرى الروم. ولعل هذا من الأسباب التي جعلتها فيما بعد منبعا للثقافة اليونانية، وأسس فيها كسرى أنوشروان مدرسة الطب المشهورة. وكانت تعلم فيها العلوم اليونانية باللغة الآرامية، وقد فتحها المسلمون فيما فتحوا من بلاد الفرس، وظلت المدرسة قائمة إلى العصر العباسي، ولم يبق من البلد في عهد ياقوت إلا أطلالها، وقد زالت هذه الأطلال، ولم يبق منها الآن أثر. وموقعها اليوم. أطلال «شاه أباد»
3
كان الذي أنشأه كسرى في جنديسابور بيمارستانا يعالج فيه المرضى، ويدرس فيه الطب وما إليه. يحكي القفطي: أن المدينة بنيت على شكل القسطنطينية، وأن أول من علم الطب بها أطباء من الروم: «ولما أقاموا بها بدءوا يعلمون أحداثا من أهلها، ولم يزل أمرهم يقوى في العلم، ويتزايدون فيه، ويرتبون قوانين العلاج على مقتضى أمزجة بلدانهم، حتى «برزوا في الفضائل».
4
وفي سنة عشرين من ملك كسرى، اجتمع أطباء جنديسابور بأمر الملك، وجرى بينهم مسائل وأجوبتها، وأثبتت عنهم، وكان أمرا مشهورا، وهذه المسائل والتعريفات إذا تأملها القارئ استدل على فضلهم، وغزارة علمهم.»
5
وكان أطباء جنديسابور يعتقدون أنهم أهل هذا العلم، ولا يخرجونه عنهم، وعن أولادهم وجنسهم. وقد رووا أن الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب تعلم قبيل الإسلام في مدرسة جنديسابور، وعالج بفارس، وطبب بعض أجلاء الفرس، فأعطاه مالا وجارية، سماها الحارث سمية، وهي أم زياد بن أبيه. ومات الحارث في أول الإسلام ولم يصح إسلامه.
6
وقد كانت تدرس في مدرسة جنديسابور الثقافة الهندية بجانب الثقافة اليونانية، وكان يشترك بعض الهنود في التدريس باللغة الفهلوية.
وظلت مدرسة جنديسابور تؤدي عملها في الإسلام كما كان في عهد الفرس، وازداد اتصالها بالمسلمين في العهد العباسي، فإن أبا جعفر المنصور عندما بنى بغداد أصيب بمرض في معدته، لم يستطع أطباؤه معالجته، فدلوه على جورجيس بن بختيشوع رئيس أطباء جنديسابور.
7
ومن ذلك الحين اتصلت قصور الخلفاء بمدرسة جنديسابور، حتى إن الرشيد أمر جبريل بن بختيشوع أن يعمل ببغداد بيمارستانا على نمط بيمارستان جنديسابور، وتقلد رياسته أطباء جنديسابور وتلاميذهم.
8
وقد اشتهر من مدرسة جنديسابور في العصر العباسي جورجيس بن بختيشوع طبيب المنصور، وابنه بختيشوع طبيب الرشيد، وجبريل بن بختيشوع طبيب المأمون ... إلخ، وكانوا كلهم نصارى نساطرة.
حران:
وأما حران فمدينة في الجزيرة شمالي العراق، تقع بين الرها (أودسا) ورأس العين. وهي مدينة قديمة، عاصرت اليونان والرومان، والنصرانية والإسلام، وفي عهد الإسكندر سكن كثير من المقدونيين هذا الجزء الشمالي للعراق، وكان من أثر ذلك في حران أن الآلهة المعبودة عند الحرانيين اتخذت أسماء يونانية. وفي أول عهد النصرانيين كان شمالي العراق (ومنه حران) يسكنه أهله الأصليون، وهم السريانيون، وكثير من المقدونيين والإغريقيين والأرمن والعرب. ولما قويت النصرانية، وأصبحت دين الرومانيين الرسمي حاولوا أن يضغطوا على الحرانيين ليتنصروا فلم ينجحوا. ومن أجل ذلك كان رجال الكنيسة يطلقون على حران مدينة الوثنيين، «هيلينوبوليس»
Hellenopolis ،
9
وظلت حران (مدينة الوثنيين) يهرب إليها الذين لم يشاءوا أن يدخلوا في النصرانية من اليونانيين وغيرهم، ويظهر أن دينهم كان مزيجا من الديانة البابلية، واليونانية القديمة، والأفلاطونية الحديثة، حتى كان شأنهم كذلك في العصر الإسلامي، إلى عهد المأمون، فتسموا - إذ ذاك - بالصابئة؛ احتماء بما يفهم من القرآن الكريم من عد الصابئين من أهل الكتاب، ولم يكن ذلك الاسم يطلق عليهم من قبل، إنما كان يطلق على قوم لهم ديانة مزيج من اليهودية والنصرانية، كانوا يسكنون «البطيحة» كما ذكر القفطي (وهي أرض واسعة بين واسط والبصرة).
10
روى ابن النديم أن المأمون اجتاز في آخر أيامه ديار مصر، يريد بلاد الروم للغزو، فتلقاه الناس يدعون له، وفيهم جماعة من الحرانيين (الحرنانيين). وكان زيهم إذ ذاك لبس الأقبية، وشعورهم طويلة بوفرات، فأنكر المأمون زيهم! وقال لهم: من أنتم من الذمة؟ قالوا: لا، قال: فمجوس أنتم؟ قالوا: لا، قال لهم: أفلكم كتاب أم نبي؟ فجمجموا في القول. فقال لهم: فأنتم إذن الزنادقة عبدة الأوثان، وأصحاب الرأس في أيام الرشيد والدي، وأنتم حلال دماؤكم، لا ذمة لكم. فقالوا: نحن نؤدي الجزية! فقال لهم: إنما تؤخذ الجزية ممن خالف الإسلام من أهل الأديان الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه ولهم كتاب، فاختاروا أحد أمرين؛ إما أن تنتحلوا دين الإسلام، أو دينا من الأديان التي ذكره االله في كتابه، وإلا قتلتكم عن آخركم، فإني قد أنظرتكم إلى أن أرجع من سفرتي هذه. ورحل المأمون يريد بلد الروم، فغيروا زيهم، وحلقوا شعورهم، وتركوا لبس الأقبية، وتنصر كثير منهم، ولبسوا زنانير، وأسلم منهم طائفة، وبقي منهم شرذمة بحالهم، وجعلوا يحتالون ويضطربون، حتى انتدب لهم شيخ من أهل حران فقيه، فقال لهم: قد وجدت شيئا تنجون به، وتسلمون من القتل. فحملوا إليه مالا عظيما، فقال لهم: إذا رجع المأمون من سفره فقولوا له نحن الصابئون! فهذا اسم دين قد ذكره الله جل اسمه في القرآن، فانتحلوه فأنتم تنجون به، وقضى أن المأمون توفي في سفرته، وانتحلوا ذلك الاسم من ذلك الوقت؛ لأنه لم يكن بحران ونواحيها قوم يسمون بالصابئة، فلما اتصل بهم وفاة المأمون ارتد أكثر من كان تنصر منهم وطولوا شعورهم، إلخ،
11
وأطلق عليهم الصابئة منذ ذلك الحين. •••
على كل حال كان هؤلاء الحرانيون منبعا كبيرا من منابع الثقافة اليونانية في العهد الإسلامي، وقد اتصلت مدرستهم بالخلفاء العباسيين بعد اتصال مدرسة جنديسابور، وبعد العصر الذي نؤرخه. فأول من اتصل منهم ثابت بن قرة 2321-288ه) أوصله بالمعتضد بنو موسى بن شاكر) الذين رباهم المأمون. ومن ذلك الحين قرب الحرانيون من الخلفاء، ثم من بني بويه، واشتهر منهم ثابت بن قرة هذا الرياضي الفلكي، وابن سنان الطبيب العالم بالظواهر الجوية وقد أسلم، وحفيده إبراهيم بن سنان، كما اشتهر منهم أسرة هلال، ومنهم هلال بن إبراهيم، وكان طبيبا، وابنه الأديب المشهور إبراهيم أبو إسحاق الصابئ، صاحب الرسائل، وكان بليغا وله اليد الطولى في الرياضة والهندسة والهيئة. كما كان من الحرانيين «البتاني» أحد المشهورين برصد الكواكب، والمتقدمين في علم الهندسة، وصاحب الزيج المنسوب إليه. ومنهم أبو جعفر الخازن الرياضي، وابن وحشية المنسوب إليه الفلاحة النبطية ... إلخ. ولئن كانت مدرسة جندياسبور لها الأثر الكبير في نشر الثقافة اليونانية في الطب، وما إليه من فلسفة، فمدرسة حران كان أثرها الأكبر في الرياضيات، وخاصة الهيئة. ولعل ما في ديانتهم من تعظيم الكواكب، وإقامة الهياكل لها كان باعثا على نبوغهم في العلوم الرياضية والفلكية. •••
وأما الإسكندرية: فعاصمة مصر اليونانية، وبها ولد مذهب من أكبر المذاهب الفلسفية هو مذهب الإسكندرانيين، أو الأفلاطونية الحديثة. مؤسسه مصري هو «أفلوطين» (205-269م)، وهذا المذهب مدين بأهم أفكاره لفلاسفة اليونان، فعناصره الأولى مستمدة من آراء أفلاطون، وأرسطو، والرواقيين.
12
وقد امتاز بروحانيته ونقده للمذهب المادي، حتى لقد حكى أفلوطين أنه وصل في روحانيته إلى الاستغراق في الوحدانية، أو إلى التعبير الصوفي «الفناء في الألوهية» بضع مرات في حياته، ووصل إلى ذلك تلميذه مرة واحدة. وقد ظل مذهبه هو فورفوريوس
المذهب الفلسفي السائد في المملكة الرومانية نحو قرنين ونصف قرن بعد وفاة مؤسسه، حتى أتى الإمبراطور جوستنيان فأمر سنة 529م بإغلاق مدارس أثينا الفلسفية، وصادر أملاك الفلاسفة، وغل عقولهم وقيد ألسنتهم.
بجانب هذه الحركة الفلسفية كانت حركة واسعة في الأدب والعلم والفن، وأطلق على هذه الحركات كلها مدرسة الإسكندرية، وقد عاشت من سنة 306ق.م إلى 642ب.م. وكان يغذي هذه الحركة متحف الإسكندرية، ومكتبتها المشهورة.
ويقسم مؤرخو هذه المدرسة تاريخها إلى عصرين؛ العصر الأول: من قيام دولة البطالسة إلى غلبة الرومان (أعني من سنة 306ق.م، إلى سنة 30م) وقد عدت الإسكندرية في هذا العصر في مقدمة بلاد العالم في الأدب. والعصر الثاني: من سنة 30م إلى سنة 642م، وهي سنة فتح العرب للإسكندرية، وتمتاز في هذا العصر بالمذهب الفلسفي الذي أشرنا إليه، وكانت المدرسة في عصريها متصلة بالعالم حولها تمده بنورها.
انتشرت الديانة النصرانية في الإسكندرية، في العهد الروماني، كما انتشرت في غيرها، وقامت النصرانية فيها بجانب الفلسفة اليونانية، واختلفت النصارى فيما بينهم طوائف وشيعا، وتجادلوا في طبيعة المسيح، وناسوته، ولاهوته وعلاقة المسيح بالله، فلجئوا إلى الفلسفة يستعينون بما لها من منطق وترتيب في الجدل، وبما لها من أبحاث وراء المادة، ومن ثم اتصلت النصرانية بالفلسفة اليونانية، وكانت أول حركة للاتصال في الإسكندرية، كما اتصلت اليهودية بالفلسفة في الإسكندرية أيضا من قبل على يد فيلون. وكان من أوائل النصارى في ذلك «كليمان الإسكندري »
Clement
13
فمزج النصرانية بالأفلاطونية، ثم من بعده (185-254م) تلميذ أفلوطين «أوريجين»
Origen ، واضطهد أوريجين ففر من الإسكندرية، وأنشأ مدرسة على النمط الإسكندري في قيصرية في فلسطين. ثم أسست بعد مدرسة على هذا النمط في نصيبين، وأغلقت مدرسة نصيبين، فانتقلت إلى الرها. وهكذا انتشر النمط الإسكندري في مزج النصرانية بالفلسفة في أنحاء الشرق، وأصبح كثير من رجال الكنيسة يعلمون النصرانية مفلسفة أو الفلسفة منصرة، وجدوا في التوفيق بين ما يتعارض بينهما، فمثلا قالت النصارى: «إن المسيح ابن الله»، والأبوة مقدمة على البنوة، تقدم السبب على المسبب، وإذن كان الله قبل المسيح. وترى الفلسفة أن العلة الأولى، أو بعبارة أخرى «الله» لا يلحقه تغير، فكيف يكون أبا، وكان قبل غير أب، فيجب أن يفسر الابن تفسيرا يتفق والفلسفة، وهكذا.
وكان أغلب القائمين بهذه الحركة النصارى النساطرة، فبثوا مدارسهم وتعاليمهم في الشرق، وكانوا يعلمون باللغة السريانية، وينقلون الكتب اليونانية إلى السريانية. وكانت الحرب في ذلك العهد قائمة بين الفرس واليونان في آسيا، فكان كثير من البلاد يقع حينا في يد الرومان، وحينا في يد الفرس. وأقنع «برسوما» ملك الفرس «فيروز» بأن النساطرة يكرهون الرومانيين؛ بما لقوا منهم من عنت، وأنهم يوالون الفرس، فقبل منهم فيروز ذلك، وظلوا هم قائمين بما وعدوا
Oleary, Arabie Thought . •••
ولعل هذا الذي ذكرنا يلقي ضوءا على كثير من المسائل الغامضة التي تعترض الباحث: كيف اتصل الفرس بالفلسفة اليونانية، وكيف عرفوا «إيساغوجي» وأمثاله من كتب اليونان؟ وكيف كانت الأديار المبثوثة في الشرق مصدرا للفلسفة اليونانية؟ وكيف اتصل المسلمون بالفلسفة اليونانية؟ فظهرت في المجادلات الدينية وغيرها، وفي مناقشات المعتزلة وغيرهم، قبل أن تنقل الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية نقلا منظما في عهد المأمون ومن بعده. ولم كان المترجمون الأولون (من السريانية أو اليونانية إلى العربية) أكثرهم نصارى أو وثنيون؟ لعل القارئ يجد طرفا من الإجابة عن هذه الأسئلة فيما حكينا.
كانت الكنيسة الإسكندرانية والمصرية في الغالب على مذهب اليعاقبة، وكانت لغتها السريانية والقبطية، وكان إنتاج النساطرة في آسيا في الفلسفة باللغة السريانية أكثر من إنتاج اليعاقبة في مصر؛ لأن الجدل الديني في آسيا (وخاصة في العراق) بين النصارى بعضهم وبعض، وبين النصارى وغيرهم من أهل الديانات الأخرى؛ كان أكثر منه في مصر، وقد اشتهرت مدرسة الإسكندرية بالطب والكيمياء والعلوم الطبيعية، وكانت كذلك عند الفتح العربي، ولكن أبحاثها إذ ذاك كانت ممزوجة بالسحر والطلاسم والتنجيم. غلب على اليعاقبة في مصر مذهب الأفلاطونية الحديثة، والميل إلى التصوف، وحب معيشة الأديار والرهبنة، على حين غلب على النساطرة في آسيا الميل إلى التفكير الفلسفي، وحب المنطق من غير إغراق في الروحانية والرهبنة، وإن كانت لهم أديار.
وقد اتصل المسلمون بمدرسة الإسكندرية في العهد الأموي، فنرى أن خالد بن يزيد بن معاوية يترجم له بعض كتب «اصطفن» ويلقبه القفطي اصطفن الإسكندراني، ونرى بن أبجر (وهو طبيب سكندري) يسلم على يد عمر بن عبد العزيز، ويصحبه ويستطبه عمر، ويعتمد عليه في صناعة الطب.
14
وفي العصر العباسي، نرى ذكرا لبعض تلاميذ المدرسة الإسكندرانية؛ فابن أبي أصيبعة يروي أن «بليطيان» كان طبيبا نصرانيا مشهورا بديار مصر، وكان بطريركا على الإسكندرية في أيام المنصور، فلما ولي الرشيد مرضت له جارية مصرية فطلب لها طبيبا مصريا؛ لأنه أبصر بعلاجها، فأرسل إليه «بليطيان». وبعده كان سعيد بن توفيل طبيب أحمد بن طولون، وهكذا.
15
ولكن مما نلاحظ أن مدرسة الإسكندرية لم تتصل بالخلفاء العباسيين اتصال مدرسة جنديسابور وحران وأمثالهما، ولم يكن لها أثر كأثرهما، ولعل السبب في ذلك بعد مصر عن العراق، وقرب حران وجنديسابور، وأن مدرسة الإسكندرية كما أشرنا انغمست في العزائم والرهبنة والمكاشفة، على العكس من مدارس العراق؛ فقد كانت أعلم بشئون الدنيا، وأكثر اهتماما بعلومها، وهذا أنسب لدولة ناهضة كالدولة العباسية، أما نزعة الإسكندرية هذه فتناسب التصوف، وسنعرض لذلك عند الكلام في التصوف إن شاء الله. وسبب آخر، وهو ضعف مدرسة الإسكندرية قبيل الإسلام، واضطهاد أهلها، وإحراق كتبها، حتى اضطر كثير من معتنقيها إلى التنصر، أو الفرار من البلاد.
على كل حال فسر النساطرة واليعاقبة كثيرا من كتب اليونان، نقلوها من هذه اللغة إلى اللغة السريانية، فلما اتصلوا بالعرب كانوا هم أيضا البادئين بنقل هذه الكتب من السريانية إلى العربية وشرحها، وتاريخ هذه الحركة التي قام بها هؤلاء النساطرة واليعاقبة يدلنا على عيبين كبيرين فيها:
الأول:
قلة الابتكار، فلم يزيدوا على ما نقلوا علما جديدا، ولا نظريات جديدة، ولا كثيرا من الآراء الجديدة.
والثاني:
أنهم حتى في كثير مما نقلوا لم ينقلوا في دقة ما كان عند اليونان، بل غيروا فيه، وحرفوا، وكثير من الأخطاء التي وقع فيها العرب علميا كان منشؤه هذا الخطأ السرياني. والحق إن العرب في هذا كانوا أكثر ابتكارا وأدق نظرا. ويكاد مؤرخو علم المسلمين من طب وجبر وهندسة وكيمياء وفلسفة يقسمون ما وصل إليه المسلمون قسمين؛ قسم أخذوه عن اليونان، وقسم ابتكروه بأنفسهم.
نقل إلى العربية في هذا العصر أهم تآليف أرسطو، وشروح الإسكندرانيين عليها، وبعض مؤلفات أفلاطون، وأهم كتب جالينوس في الطب. وعلى الجملة أهم ما وصل إليه العقل اليوناني في العلم والفلسفة، ولسنا نريد أن نفصل الكتب التي ترجموها، ولكن يمكننا هنا أن نجمل القول بأنه يمكن تقسيم الترجمة إلى أدوار ثلاثة:
الدور الأول:
من خلافة المنصور إلى آخر عهد الرشيد؛ أي من سنة 136 إلى سنة 193ه. وفي هذا الدور ترجم كليلة ودمنة من الفارسية، والسند هند من الهندية، وترجمت بعض كتب أرسططاليس في المنطق وغيره، وترجم كتاب المجسطي في الفلك. ومن أشهر المترجمين في هذا الدور ابن المقفع وقد تقدمت ترجمته، وجورجيس بن جبرائيل، ويوحنا بن ماسويه، وكلاهما كان طبيبا نصرانيا، وفي هذا الدور اتصلت المعتزلة بالكتب التي ترجمت؛ فنجد الأولين منهم (كالنظام) عرفوا أرسطو، وعرفوا بعض كتبه في الفلسفة، وتأثرت أبحاثهم بالمنطق، وتكلموا في الطفرة والجوهر والعرض، وما إلى ذلك كما سيأتي بيانه، وكان كلامهم في هذا قبل المأمون؛ مما يدل على اتصالهم بالفلسفة من أول عهد الترجمة.
الدور الثاني:
من عهد المأمون من سنة 198 إلى سنة 300ه. وأشهر المترجمين في هذا الدور يوحنا أو يحيى البطريق (مولى المأمون)، وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب ، وترجم كثيرا من كتب أرسطو. والحجاج بن يوسف بن مطر الوراق الكوفي عاش سنة 214، وقسط ابن لوقا البعلبكي عاش سنة 220ه، وعبد المسيح بن ناعمة الحمصي عاش سنة 220، وحنين بن إسحاق توفي نحو سنة 260، وابنه إسحاق بن حنين توفي سنة 298، وعني بكتب الفلسفة عناية أبيه بالطب، وثابت بن قرة توفي سنة 288، وحبيش الأعسم بن أخت حنين، وغيرهم. وقد ترجم في هذا الدور أهم الكتب اليونانية في كل فن؛ فأعيدت ترجمة المجسطي، والحكم الذهبية لفيثاغورس، وجملة مصنفات لبقراط وجالينوس، وكتاب طيماوس لأفلاطون وكتاب السياسة المدنية لأفلاطون، وكتاب النواميس له أيضا، وكتاب المقولات لأرسطو. كل ذلك على يد حنين بن إسحاق ومدرسته، وترجمت أغلب كتب أرسطو على يد إسحاق بن حنين.
الدور الثالث:
من أتى بعد هؤلاء، ومن أشهر المترجمين فيه متى بن يونس، كان في بغداد سنة 320، وسنان بن ثابت بن قرة مات سنة 360، ويحيى بن عدي سنة 364، وابن زرعة سنة 398، وأهم ما ترجموا الكتب المنطقية والطبيعية لأرسطو، وتفسيرها.
16 •••
وقد كان الباعث على هذه الترجمة، ونشاطها في الدولة العباسية أمورا:
الأول:
أن العهد الأموي كان عهدا بدويا في الجملة، ظهرت فيه سيادة العرب على غيرهم من الأمم أوضح ظهور، والعرب في ذلك العصر لم يتأصل فيهم ميل إلى فلسفة؛ إنما كان يعجبهم الأدب العربي، والتحدث بأيام العرب، ولذة خلفائهم إنما هي في الإصغاء إلى قصيدة عربية، والاستفسار عن لفظ غامض، وما إلى ذلك. فلما جاء العصر العباسي، وأمعن المسلمون في الحضارة، وسادت العناصر غير العربية؛ رأوا أن حياة الحضارة لا بد أن تستند إلى العلم، فمالية الدولة تحتاج إلى حساب دقيق، وعيشة الحضارة المركبة تحتاج إلى أدوية مركبة، وعلاج مركب. ومتى لجأ الناس إلى نوعين من العلوم، وأخذوا يعالجونه عن الأمم الأخرى؛ دعاهم الشغف إلى تعرف ما عند الأمم المختلفة من العلوم جميعها، ولو لم يكن لهم بها حاجة ماسة مباشرة.
الثاني:
أن الحركة الدينية كانت قد بلغت في آخر الدولة الأموية شأوا بعيدا كما ذكرنا في فجر الإسلام، وجرهم البحث إلى أن يتكلموا في القضاء والقدر ونحوه، ورجحت عند قوم عقيدة الجبر، وعند آخرين عقيدة الاختيار، وتجادل المسلمون فيما بينهم، ثم تجادل المسلمون والنصارى واليهود: أي الأديان خير؟ وأي آراء الأديان في المسائل الجزئية أصح؟ وكان المعتزلة يحملون لواء الدفاع عن الإسلام، ومقارعة خصومه، وكان كل من اليهودية والنصرانية تسلح من قبل بالمنطق اليوناني، والفلسفة اليونانية يستخدمها في الجدل، فأحس المسلمون أنه لا بد من محاربتهم بآلاتهم، فعكفوا على المنطق والفلسفة يستخدمونهما في أغراضهم، وفيما هم كذلك شعروا بلذة عقلية من دراسة الفلسفة؛ فبعد أن كانت تطلب على أنها وسيلة للدفاع عن الدين أصبحت غاية في نفسها تطلب لذاتها.
وسبب ثالث:
حكاه الأستاذ نيللنو، وهو أنه «في أواخر مدة الدولة الأموية ثبتت سلطة الإسلام على جميع الأمصار والأقطار التي دخلتها ألويته عنوة أو صلحا أثناء المغازي المتواصلة والفتوح، من أقصى بلاد ما راء النهر في تركستان، إلى منتهى المغرب والأندلس؛ فعمت اللغة العربية الشريفة أهل تلك الولايات والبلدان، وغلبت على ألسنتهم الأصلية، فأخذ المسلمون كلهم من أي جنس أو أمة لا يستخدمون في الإنشاء والتأليف إلا لغة العرب، فابتدأت وحدة الدين تستوجب أيضا وحدة اللسان والحضارة والعمران، فصار الفرس وأهل العراق والشام ومصر يدخلون علومهم القديمة في التمدن الإسلامي الجديد.»
17
وسبب رابع:
وهو ميل أفراد من الخلفاء في العصر العباسي إلى العلوم الفلسفية، والخلفاء عادة أقدر الناس على التغريب فيما أحبوا، والناس أسرع ما يكون إلى تحقيق أغراضهم، والولوع بما أولعوا به، وأكثر الخلفاء العباسيين ميلا إلى ذلك في عصرنا كان المنصور والرشيد والمأمون. ويظهر أنه قد كان لكل منهم أسباب خاصة حملته على ذلك؛ فالمنصور كان ممعودا، ويظهر أن ذلك حمله على العناية بالطب والأطباء، جاء في الطبري عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه، أنه كان يقول: «كان المنصور لا يستمرئ طعامه، ويشكو ذلك إلى المتطببين، ويسألهم أن يتخذوا له الجوارشنات. فكانوا يكرهون ذلك، ويأمرونه أن يقل من الطعام، ويخبرونه أن الجوارشنات تهضم في الحال، وتحدث من العلة ما هو أشد منها عليه، حتى قدم عليه طبيب من أطباء الهند، فقال له كما قال له غيره، فكان يأخذ له سفوفا جوارشنا يابسا، فيه الأفاويه والأدوية الحارة، فكان يأخذه فيهضم طعامه، فأحمده.. إلخ.
18
وكذلك كان يعتقد في التنجيم - كما سيأتي بيانه - فقرب إليه المنجمين. والرشيد رباه البرامكة على حب العلم، والمأمون رباه الرشيد والبرامكة، وقد حذا حذو الخلفاء كثير من أفراد الشعب كبني موسى بن شاكر.
إذا علمت ذلك؛ علمت فساد رأي من ينسب ترجمة الكتب اليونانية إلى رؤيا رآها المأمون أو نحو ذلك؛ فقد ذكر صاحب الفهرست «أن أحد الأسباب التي من أجلها كثرت كتب الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة أن المأمون رأى في منامه كأن رجلا أبيض اللون مشربا حمرة، واسع الجبهة، مقرون الحاجب، أجلح الرأس أشهل العينين حسن الشمائل، جالس على سريره. قال المأمون: وكأني بين يديه قد ملئت له هيبة، فقلت: من أنت؟ قال: أنا أرسطاليس. فسررت به وقلت: أيها الحكيم، أسألك؟ قال: سل. قلت: ما الحسن؟ قال: ما حسن في العقل. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن في الشرع. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور، قلت: ثم ماذا؟ قال: لا ثم. وفي رواية أخرى؛ قلت: زدني، قال: من نصحك في الذهب فليكن عندك كالذهب، وعليك بالتوحيد. فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب.»
19
وروى ابن أبي أصيبعة هذه القصة بشكل آخر، فقال إن المأمون رأى في منامه كأن شيخا بهي الشكل جالس على منبر وهو يخطب، ويقول: «أنا أرسططاليس.» فانتبه من منامه، وسأل عن أرسططاليس، فقيل له رجل حكيم من اليونانيين، فأحضر حنين بن إسحاق؛ إذ لم يجد من يضاهيه في نقله، وسأله نقل كتب الحكماء اليونانيين إلى اللغة العربية، وبذل له من الأموال والعطايا شيئا كثيرا.
فهذه القصص وأمثالها لا يصح أن تكون سببا، وإنما كانت الترجمة لأسباب طبيعية، هي التي ذكرنا. ورواية ابن أبي أصيبعة أبعد عن الحقيقة؛ فمن المستحيل ألا يسمع المأمون باسم أرسطو حتى يأتيه في المنام ويقول له أنا أرسطو! وحكاية ابن النديم إن صحت دلتنا عل أن الحلم كان انعكاس صورة طبيعية لما كان يفكر فيه المأمون في اليقظة. •••
قال في طبقات الأمم لصاعد الأندلسي: «كانت العرب في صدر الإسلام لا تعنى بشيء من العلم إلا بلغتها، ومعرفة أحكام شريعتها، حاشا صناعة الطب، فإنها كانت موجودة عند أفراد من العرب، غير منكرة عند جماهيرهم، لحاجة الناس طرا إليها، ولما كان عندهم من الأثر عن النبي
صلى الله عليه وسلم
في الحث عليها حيث يقول: «يا عباد الله تداووا فإن الله (عز وجل) لم يضع داء إلا وضع له دواء إلا واحدا وهو الهرم.»
فهذه كانت حالة العرب في الدولة الأموية، فلما أدال الله تعالى للهاشمية، وصرف الملك إليهم ثابت الهمم من غفلتها، وهبت الفطن من سنتها، فكان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور، فكان رحمه الله مع براعته في الفقه مقدما في علم الفلسفة، خاصة في علم صناعة النجوم، كلفا بها وبأهلها.
ثم لما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم عبد الله المأمون بن الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور؛ تمم ما بدأ به جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، واستخرجه من معادنه بفضل همته الشريفة، وقوة نفسه الفاضلة، فداخل ملوك الروم وأتحفهم بالهدايا الخطيرة، وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسططاليس وأبقراط، وجالينوس وإقليدس، وبطليموس، وغيرهم من الفلاسفة؛ فاستجاد لها مهرة التراجمة، وكلفهم إحكام ترجمتها، فترجمت له على غاية ما أمكن، ثم حض الناس على قراءتها، ورغبهم في تعلمها، فنفقت سوق العلم في زمانه، وقامت دولة الحكمة في عصره، وتنافس أولو النباهة في العلوم لما كانوا يرون من إحظائه لمنتحليها، واختصاصه لمتقلديها؛ فكان يخلو بهم، ويأنس بمناظرتهم، ويلتذ بمذاكرتهم، فينالون عنده المنازل الرفيعة والمراتب السنية، وكذلك كانت سيرته مع سائر العلماء والفقهاء المحدثين والمتكلمين، وأهل اللغة والأخبار والمعرفة بالشعر والنسب، فأتقن جماعة من ذوي الفنون والتعلم في أيامه كثيرا من أجزاء الفلسفة، وسنوا لمن بعدهم منهاج الطلب، ومهدوا أصول الأدب، حتى كادت الدولة العباسية تضاهي الدولة الرومية أيام اكتمالها، وزمان اجتماع شملها.»
20
وقال في موضع آخر : «إن أول علم اعتني به من علوم الفلسفة؛ علم المنطق والنجوم، فأما المنطق فأول من اشتهر به في هذه الدولة عبد الله بن المقفع الخطيب الفارسي، كاتب أبي جعفر المنصور، فإنه ترجم كتب أرسططاليس المنطقية الثلاثة التي في صورة المنطق، وهي كتاب «قاطغاورياس»، وكتاب «باري أرمنياس»، وكتاب «أنولوطيقا»، وذكر أنه لم يكن ترجم منه إلى وقته إلا الكتاب الأول فقط، وترجم مع ذلك المدخل المعروف «بايساغوجي لفورفوريوس الصوري»، وعبر عما ترجم من ذلك عبارة سهلة قريبة المأخذ، وترجم مع ذلك الكتاب الهندي المعروف بكليلة ودمنة، وهو أول من ترجم من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية ...
وأما علم النجوم؛ فأول من عني به في هذه الدولة محمد بن إبراهيم الفزاري، وذلك أن الحسن بن محمد بن حميد المعروف بابن الآدمي ذكر في زيجه الكبير المعروف ب«نظم العقد» أنه قدم على الخليفة المنصور في سنة 156 رجل من الهند عالم بالحساب، المعروف بالسند هند في حركات النجوم، فأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى اللغة العربية، وأن يؤلف منه كتابا تتخذه العرب أصلا في حركات الكواكب، فتولى ذلك محمد بن إبراهيم الفزاري، فكان أهل ذلك الزمان يعملون به إلى أيام الخليفة المأمون.
21
ونحن إذا استعرضنا ما حكي عن الترجمة ونشأتها أمكننا أن نستنتج منها النتائج الآتية: (1)
أن أول نقل حدث في الإسلام كان بفضل خالد بن يزيد بن معاوية، والذي نقل له هو «اصطفن»، وهو من الإسكندرية، وكان هذا النقل من اللغة اليونانية والقبطية إلى العربية. وإن خالدا إنما كان أهم ما يعنى به الصنعة أو الكيمياء، والغرض بها تحويل المعادن إلى ذهب، ويظهر أن الذي دعاه إلى ذلك أنه كان شابا يطمع في الخلافة؛ إذ كان أبوه (يزيد بن معاوية) خليفة، وأخوه (معاوية بن يزيد) خليفة، ثم نحي عن الخلافة، وغلبه عليها مروان بن الحكم، فصدم من ذلك صدمة قوية، فتحول إلى ملهى شريف يلهو به ويناسب أرستقراطيته، فكان ذلك هو «الصنعة» رأى أنه إذا استطاع أن يحول المعادن إلى ذهب استطاع أن يحول الناس إليه، أو على أقل تقدير كان له من المنزلة ما يحسده عليها الخلفاء. قال ابن النديم: «كان خالد جوادا، يقال إنه قيل له: لقد فعلت أكثر شغلك في طلب الصنعة! فقال خالد: ما أطلب بذاك إلا أن أغني أصحابي وإخواني، إني طمعت في الخلافة فاختزلت دوني، فلم أجد منها عوضا إلا أن أبغي آخر هذه الصناعة، فلا أحوج أحدا عرفني يوما أو عرفته إلى أن يقف بباب سلطان، رغبة أو رهبة.»
22
وقد اشتغل بالنجوم على أنها قد تكون وسيلة تساعد على الوصول إلى «الصنعة»؛ إذ كان علم النجوم ممزوجا بعلم أحكامها، وتأثيرها في العالم السفلي، فلعله أمل فيه عونا إلى الوصول إلى بغيته. (2)
أنه عني في الدولة الأموية بالطب بعض عناية؛ لأن الناس في حاجة مادية إليه، ولأنه أبعد العلوم الأجنبية عن أن يؤثر في الدين، ولهذا لم يتحرج من إجازة الترجمة فيه أتقى بني أمية عمر بن عبد العزيز. (3)
أن محاولة الترجمة في العهد الأموي كانت محاولات فردية، تموت بموت الأفراد القائمين بها، أما في الدولة العباسية فكانت الترجمة عمل أمة لا عمل أفراد، وإن شئت فقل: كان في الدولة العباسية مدرسة كبيرة للترجمة، لا يضيرها موت فرد أو أفراد منها. (4)
كانت الترجمة في العهد الأموي مقصورة على العلوم العملية كالصنعة والطب والنجوم (بالمعنى الذي فسرناه)، ولم يتعد ذلك إلى العلوم العقلية كالمنطق والفلسفة والهندسة، وما إلى ذلك؛ فهذه لم تكن إلا في الدولة العباسية. (5)
نرى أن المسلمين اتصلوا بالفلسفة اليونانية أول الأمر من طريق الفرس؛ فقد ترجم ابن المقفع كتبا من منطق اليونان، والظاهر أنه نقلها من الفارسية؛ إذ لم يعرف عنه أنه يعرف اليونانية، ثم تولى الترجمة بعد النصارى من النساطرة واليعاقبة من السريانية إلى العربية. (6)
كانت أول عناية الخلفاء العباسيين موجهة إلى الطب والتنجيم، والسبب في ذلك الحاجة الماسة إلى ذلك، فالمنصور احتاج إلى الطب لمرضه كما بينا، واحتاج إلى التنجيم؛ لأنه كان يعتقد أن هناك ارتباطا بين حركات النجوم وأوضاعها، وبين ما يحدث في عالمنا من نحس أو سعد. ومن ذلك الحين صار الطب والتنجيم عملين رسميين يتولاهما رجال رسميون؛ فجورجيس بن جبريل بن بختيشوع الجنديسابوري صار طبيبا للمنصور، ثم لما تقدمت به السن عين المنصور مكانه تلميذه عيسى بن شهلانا. واتخذ نوبخت الفارسي منجما له، فلما ضعف عين المنصور مكانه ابنه أبا سهل بن نوبخت. ولما تولى اتخذ المهدي طبيبه عيسى الصيدلاني الملقب بأبي قريش، واتخذ توفيل بن توما النصراني الرهاوي رئيسا لمنجميه. فلما تولى الرشيد اتخذ طبيبه بختيشوع بن جورجيس، ويوحنا بن ماسويه النصراني. ولما استخلف المأمون كثر في بلاطه الأطباء والمنجمون؛ فمن منجميه حبش الحاسب، وعبد الله بن سهل بن نوبخت، ومحمد بن موسى الخوارزمي، وما شاء الله اليهودي، ومن أطبائه سهل بن سابور، ويوحنا بن ماسويه، وجورجيس بن بختيسشوع، وعيسى بن الحكم، وزكريا الطيفوري، فلما آلت الخلافة للمعتصم كان طبيبه سلمويه، ثم يوحنا بن ماسويه.
23 ... إلخ.
فترى من هذا أن الطب والتنجيم أصبحا صناعتين تحميهما الخلفاء، وكانت حاجتهم إليهما حاجة عملية، فأمر الطب ظاهر، والتاريخ مملوء بالحكايات التي هرع فيها الخلفاء إلى المنجمين، فالمنصور استشار المنجمين في اختيار الوقت الذي يبدأ فيه ببناء بغداد، والمهدي لما هم بالخروج، على «ماسبذان» استشار توفيل بن توما النصراني المنجم،
24
والمعتصم نصحه المنجمون ألا يغزو «عمورية» إلا في أيام نضج التين والعنب فلم يصغ لقولهم وغزاها وفتحها. وقال أبو تمام في ذلك بائيته المشهورة: «السيف أصدق أنباء من الكتب». والواثق لما اشتد مرضه، أحضر المنجمين، منهم الحسن بن سهل بن توبخت، فنظروا في مولده فقدروا له أن يعيش خمسين سنة مستأنفة من ذلك اليوم، فلم يعش بعد قولهم إلا عشرة أيام
25 ... إلخ.
ولسنا ندعي أن الخلفاء لم يشجعوا من علم النجوم إلا هذا الضرب، فقد كان علم النجوم يشمل ما نطلق عليه علم الهيئة الآن، ويشمل كذلك البحث عن التغيرات التي تحدث في الأرض بسبب مواقع النجوم وتأثيرها. وكلا الأمرين كان عند اليونان، وكلا الأمرين عني به العباسيون، فرصدت الكواكب في عهد المأمون، وأصلحت آلات الرصد، وإنما الذي نريد أن نذكره أن الشغف بمعرفة أحكام النجوم هو الذي جذب الخلفاء أولا إلى تشجيع هذا العلم، ثم تدرجوا منه إلى تشجيع الفلك الرياضي البحت.
ويظهر لي أن هذين العلمين (الطب والنجوم) هما العلمان اللذان أوصلا المسلمين إلى ساحة العلوم الفلسفية، والسبب في ذلك أن التخصص الذي نفهمه الآن، ونراه في دراسة الطب والهيئة لم يكن معروفا في هذا العصر العباسي؛ فكان الطبيب والمنجم يلمان بكثير من المسائل الفلسفية. وتكاد تعد الفلسفة كوحدة، فروعها؛ الطب، والإلهيات، والحساب، والمنطق، والموسيقى، والهندسة، والهيئة، فالطبيب والمنجم يلمان غالبا بكل ذلك، ثم يتبحران في الطب أو التنجيم، وكانت رغبة الأطباء والمنجمين في إتقان فنونهم تحملهم على معرفة اللغات الأجنبية، وخاصة اليونانية، فإذا حذفوها أقبلوا على الكتب المؤلفة فيها من جميع فروع الفلسفة. وقد نقل إلينا ابن النديم ثبتا بأسماء الكتب التي كان يدرسها المتطببون، فإذا فيها طب وتشريح، وما إلى ذلك، ثم فيها منطق وأخلاق، وبحث فيما وراء المادة، وكان مما يقرءون كتاب موضوعه «أن الطبيب الفاضل يجب أن يكون فيلسوفا».
26
واستمر هذا الحال حتى في من نبغ بعد من الفلاسفة المسلمين؛ فيعقوب الكندي مثلا «كان عالما بالطب والفلسفة وعلم الحساب والمنطق، وتأليف اللحون والهندسة، وطبائع الأعداد والهيئة»،
27
وكذلك كان ابن سينا منطقيا طبيبا رياضيا طبيعيا فلكيا ... إلخ.
من أجل هذا نرى أن كثيرا من هؤلاء الأطباء والمنجمين الذين كان الخلفاء يمدونهم بالمال عنوا بترجمة كتب غير طبية ولا فلكية، أو أشرفوا على ترجمتها؛ فابن العبري يذكر «أن يوحنا بن ماسويه النصراني السرياني الطبيب ولاه الرشيد ترجمة الكتب الطبية القديمة، وكان له تصانيف جميلة، وكان يعقد مجلسا للنظر، ويجري فيه من كل نوع من العلوم القديمة بأحسن عبارة.»
28
ويقول: «إن يوحنا بن البطريق (الطبيب) الترجمان مولى المأمون كان أمينا على ترجمة الكتب الحكمية، حسن التأدية للمعاني، ألكن اللسان في العربية، وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب.»
29 ... إلخ. •••
كان لهذه الثقافة اليونانية أثر كبير في المسلمين، ومما زاد في أثرها أن اتصال المسلمين بها صاحب عصر تدوين العلوم العربية، فتسربت الثقافة اليونانية إليها، وصبغتها صبغة خاصة، كان لها تأثير كبير في الشكل، وفي الموضوع.
أما الشكل فيرجع إلى تأثير المنطق اليوناني، وقد صبغ العلوم العربية صبغة جديدة صبت في قالبه، ووضعت على منهاجه؛ إذ كان المنطق كما قال ابن سينا «خادم العلوم»، عني به المسلمون من أول عهدهم بالفلسفة، وقد رأينا أن ابن المقفع ترجم كتب المنطق لأرسطو، وتتابع المترجمون بعده يترجمون الكتب المنطقية، وكان المنطق الذي وصل إلى العرب هو منطق أرسطو معدلا ومضافا إليه، ومشروحا بمنطق الرواقيين والإسكندرانيين، ولم يزد العرب فيه شيئا يذكر؛ فكل المنطق الذي بين أيدينا هو منطق اليونان، لم يزد عليه الا بعض الشروح. وقد نقل نقلا صحيحا لم يدخله نقص ولا تهويش، كالذي كان في الإلهيات اليونانية. وقد كان منطق أرسطو وشروحه العربية أوسع وأعمق مما بين أيدينا من كتب المنطق اليوم؛ فكان القياس يشغل فيه حيزا كبيرا، وفيه كتاب واسع في البرهان، وآخر في الجدل وكيف يكون، وكيف تسلك في إفحام الخصم، وكان فيه باب للسفسطة، وباب في الخطابة، وباب في الشعر، وكانت الأبواب الخمسة الأخيرة، وهي: البرهان، والجدل، ولخطابة، والشعر، والسفسطة تبحث فيه بحثا وافيا.
30
ولكن المتأخرين حذفوا هذه الأبواب، أو ألموا بها إلماما يسيرا، واقتصروا على الكلام في الكليات الخمس والقضايا والقياس، مع أن الذي حذفوا أهم من الذي أثبتوا؛
31
وبذلك أفقدوا المنطق روحه.
على كل حال كان للمنطق سلطان كبير على العقول في العصر العباسي، وكان من جراء ذلك أن اصطبغت طريقة الجدل والبحث والتعبير والتدليل صبغة غير التي كانت تعرف من قبل، فإن أنت قارنت بين أسلوب القرآن الكريم، وأسلوب المتكلمين وجدت فرقا كبيرا يمكنك أن تلخصه في أن أساليب المتكلمين جارية على أساليب منطق أرسطو ، وليس كذلك أسلوب القرآن.
وبحق وضع محمد بن إبراهيم الحسني اليمني الصنعاني كتابه المسمى «ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان»
32
فأسلوب القرآن في إثبات وجود الله تعالى:
قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله . وقوله تعالى:
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج * تبصرة وذكرى لكل عبد منيب * ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد
إلى كثير من أمثال ذلك. أما أسلوب المتكلمين فمثل: «العالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث، فالعالم لا بد له من محدث.» إلى أمثال ذلك، وما يستتبعه من الجوهر والعرض، والكيفية والكمية، والعلم الضروري والنظري، وغير ذلك مما هو من تعبيرات الفلسفة اليونانية.
وكذلك الشأن إذا أنت قارنت بين تعبيرات الفقهاء في عصر الخلفاء الراشدين، والعصر الأموي، وبين تعبيرات الفقهاء في العصر العباسي بعد أن عرفوا المنطق؛ فإنك تجد التعبير الأول عربيا بحتا، وتجد الثاني أرسططاليسيا بحتا، فمثلا تقرأ الباب في موطأ الإمام مالك فتجده يذكر الحكم، ثم يحكي ما يدل عليه من حديث أو أثر، ثم لا تجد فيه أثرا لعلم المنطق، وتقرأ في كتاب الهداية مثلا التدليل الفقهي، وخاصة في المسائل الخلافية بين أبي حنيفة والشافعي؛ فترى أن قواعد الجدل التي وضعها أرسطو، وقواعد البرهان مطبقة في دقة تامة، فمقدمة صغرى، ومقدمة كبرى، والنتيجة، وأشكال القياس مستوفاة شروطها.
وتقرأ كتاب سيبويه فتجد ترتيبا وتبويبا منطقيا، يبدأ بتقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، ثم يعرف كل قسم، ويأتي بأمثلته ويذكر أحكامه، وهكذا. ومن ذلك أن أرسطو قال: «إن الزمان والمكان كالوعاء للأشياء؛ إذ لا بد لكل شيء مخلوق أن يكون واقعا في زمان من الأزمنة، وفي مكان من الأمكنة فهما كالوعاء له. وهذا أصل تسمية النحويين للمفعول فيه ظرفا؛ أي وعاء .»
33
وكما ألف إيساغوجي المقدمة أو المدخل في المنطق ألف ابن فارس «مقدمة في النحو».
وهذا القياس الذي شغل جزءا كبيرا من منطق أرسطو طبق تطبيقا دقيقا، وروعي في كثير من العلوم ؛ فالقياس في الفقه وأصوله، والقياس في النحو واللغة، والقياس في الفلسفة، وكان لهذا القياس أثر كبير في تفريع المسائل وتنويعها، ووضع المسائل المتشابهة تحت قاعدة واحدة، وطرد أحكامنا على ما لم يرد فيه حكم مأثور، سواء في ذلك الفقه والنحو واللغة، وكان لهذا كله أثر في تضخيم العلم وترتيبه وتبويبه.
34
هذا في الشكل، وأما في الموضوع؛ فقد كان للفلسفة اليونانية أثر كبير في تعاليم المتكلمين، نعرض له عند الكلام في المعتزلة. وكان للأفلاطونية الحديثة بعض الأثر في التصوف، نوضحه عند الكلام فيه. وكان لهما معا أثر كبير في الفلسفة الإسلامية، وهذا بتاريخ الفلسفة الإسلامية أشبه وأليق، وكان للبلاغة اليونانية أثر في علم البلاغة العربي، ولكنه دون بعد عصرنا الذي نؤرخه فلا نتعرض له الآن.
ولكن مما لا شك فيه أن العرب أو المسلمين استخدموا ما أخذوا من الثقافة اليونانية استخداما صالحا، وأخذوا منها ما أخذوا، ثم بنوا عليه، وزادوا فيه وابتكروا، ولم يكن موقفهم موقف الناقل فحسب. وكان كثير منهم ينظر بإحدى عينيه على الثقافة اليونانية، وبالعين الأخرى على التعاليم الإسلامية والثقافة العربية، فيختار من الأولى ما يتفق والثانية، ويؤلف منها مزيجا لا هو يوناني بحت، ولا إسلامي بحت؛ إنما أظهر ما كان ذلك في العصر الذي يلي عصرنا هذا هو العصر العباسي الثاني؛ فقد كانت الترجمة قد تمت وركزت، فأعقبها الأخذ بها والبناء عليها، وظهر أمثال إخوان الصفاء، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وأمثالهم. •••
وهناك نوع آخر خفيف من الثقافة اليونانية الرومانية، وأعني به الثقافة التي تنشأ من امتزاج الجنسين؛ أعني الجنس العربي، والجنس اليوناني الروماني في الحياة الاجتماعية، فقد كان هؤلاء الرومان يعيشون بين سمع العرب وبصرهم، ولهم عادات وتقاليد، وأفكار وآراء في نظم الحكم، ولهم فنون من غناء وتصوير وما إلى ذلك، فكان العرب يقتبسون من ذلك ما تيسر لهم، لا عن طريق الدراسة المنظمة، ولا عن طريق البحث العلمي، وإنما عن طريق المشاهدة والنظر، وعن طريق الحديث والمشافهة. ولئن كان العراق أهم منبع للثقافة اليونانية العلمية فقد كان الشام على ما يظهر أهم منبع لهذا النوع من الثقافة الاجتماعية، وسبب ذلك: أن الشام كان محكوما بالرومان وقت الفتح الإسلامي، وكانت سلطة الرومان عليه أكبر من سلطتهم على العراق لقرب العراق من الدولة الأخرى القوية (وهي الفرس)، ووقوعه تحت سيطرتها في أغلب الأحيان، وكان في الشام عرب كثيرون، ورومان كثيرون، اختلطوا اختلاطا تاما. وترك الرومان عند خروجهم عادات وتقاليد وفنونا ونظما اقتبس منها العرب.
من الأمثلة على ذلك الغناء؛ فيحدثنا الأغاني أن المسلمين اقتبسوا من الروم بعض غنائهم، وكان موضع الاقتباس هو الشام، فيقول في «ابن محرز»: إنه «سقط إلى فارس فأخذ غناء الفرس، وإلى الشام فأخذ غناء الروم، فتخير من نغمتهم ما تغنى به غناءه.»
35
ويقول ابن مسجح «إنه رحل إلى الشام، وأخذ ألحان الروم.»
36
وقد رأينا عند الكلام في الرقيق أن كثيرا منه كان من الروم، وكان هذا الرقيق من غلمان وجوار في قصور الخلفاء والأغنياء والشعراء والعلماء، فكان للمأمون جوار روميات، يلبسن لبسهن الرومي من زنار وما إليه، وكان لأبي تمام الشاعر غلام رومي،
37
وهكذا.
ويحكي ابن أبي أصيبعة: أن الرشيد كانت له جارية رومية اسمها خرشى، وكان لها من قرابتها أخت أو بنت أخت، فتفقدها الرشيد فلم يجدها، فسأل خرشى عنها فأعلمته أنها زوجتها من قريب لها، فغضب من ذلك، وقال: كيف أقدمت على ذلك بغير إذني، وأنت إنما اشتريتها من مالي! وأمر سلاما الأبرش بتأديب زوجها على عمله، فما زال سلام يتعرف خبره، حتى وجده فخصاه، وكانت الجارية الرومية قد علقت منه بغلام، فلما ولدت الجارية (وكان الرشيد قد توفي) تبنت خرشى الغلام، وأدبته بآداب الروم وقراءة كتبهم، فتعلم اللسان اليوناني علما كانت له فيه رياسة، وكان يعرف بإسحاق ابن الخصي، وكان يتصل به كثير من أهل العلم والأدب.
38
وكانت الحروب بين المسلمين والروم متواصلة في عصرنا هذا، وتقع الأسرى من كل من الجانبين في يد الآخرين؛ فأسرى المسلمين قد يذهبون إلى القسطنطينية، وأسرى الروم إلى العراق. والحكايات كثيرة في التاريخ عن النوعين من الأسارى، وخاصة في عهد الرشيد، فكان هذا سببا من أسباب امتزاج الحياة الاجتماعية، واقتباس كل من كل. وليس من المعقول أن يمر هذا الاتصال (بحكم الروم لكثير من البلاد الإسلامية أولا، ثم بالرق والأسر، ثم بالرق والأسر، ثم بالاحتكاك الدائم السلمي أحيانا، والحربي أحيانا) من غير أن يترك بعضا من المسلمين يتكلمون الرومية، وبعضا من الرومانيين يتكلمون العربية؛ فالرقيق الرومي مثلا في البيوت كان يتكلم الرومية أولا بالضرورة، ثم يتكلم العربية محرفة، ثم العربية القريبة من الصحيحة، وهكذا الشأن في أسرى المسلمين في الروم إن استقروا، وهذا يحمل بعض الأفراد الراقين من الجانبين على أن يتبادلوا الآراء والأفكار والكلام في اللغة والأدب. ويروي الأغاني في ذلك خبرا طريفا؛ فيقول: قدم رسول لملك الروم إلى الرشيد فسأل عن أبي العتاهية، وأنشده شيئا من شعره. وكان (أي الرسول) يحسن العربية، فمضى الرسول إلى ملك الروم وذكره له، فكتب ملك الروم إليه، ورد رسوله يسأل الرشيد أن يوجه بأبي العتاهية، ويأخذ فيه رهائن من أراد، وألح في ذلك، فكلم الرشيد أبا العتاهية في ذلك فاستعفى منه وأباه.
39 •••
وهذا يسلمنا إلى مسألة تستوقف النظر، وهو ضعف تأثير الأدب اليوناني إذا قيس بتأثير العلم والفلسفة اليونانية، فإنك تقرأ أسماء الكتب التي ترجمت من اليونانية إلى العربية فتجد الكثير في كل فرع من فروع العلوم الرياضية والطبية والفلسفة، ولا تكاد تعثر على كتاب أدبي يوناني ترجم إلى العربية مع وفرة ما لليونان والرومان من كتب أدبية، وقد ألمحنا بشيء من أسباب ذلك فيما مضى.
40
ونزيد هنا سببا آخر، وهو: أن الفلسفة والعلوم عالمية، والأدب قومي؛ ذلك أن الفلسفة والعلم نتاج العقل، والعقل قدر مشترك بين الأفراد والأمم، وإن اختلفوا في أنصبائهم منه، والمنطق الذي يضبط هذه العلوم يسيغه عقل الناس جميعا، وقواعد الهندسة والطب تطبق على الناس جميعا؛ أما الأدب فلغة العواطف، وليس للعواطف منطق يضبطها، والأدب ظل الحياة الاجتماعية، ولكل أمة حياة اجتماعية خاصة بها تمتاز عن حياة الأمم الأخرى في أشكالها ومراميها . من أجل ذلك تذوق العرب منطق أرسطو، وطب جالينوس، ولم يتذوقوا إلياذة هوميروس. ألا ترانا اليوم حتى في عصرنا الذي اتصل فيه الناس والأمم اتصالا أوثق مما كان في القديم لا يتذوق العربي منا الإلياذة، إلا أن يكون قد وقف على الحياة الاجتماعية اليونانية وأدرك كنهها، ومرن ذوقه طويلا على أن يستسيغها.
وسبب ثالث يصح أن يكون، وهو: أن الأدب اليوناني أدب وثني، فيه آلهة متعددة، وفيه عبادة أبطال، والذوق العربي حين ترجمت العلوم ذوق مسلم، لم يستسغ هذا النوع من الأدب الوثني.
ومع هذا فقد كان لليونان أثر في اللغة العربية والأدب العربي من وجوه: (1)
ألفاظ يونانية عربت، ونلاحظ أنها أكثر ما تكون في أنواع ثياب يونانية أو رومانية لم يكن يعرفها العرب، ثم عرفوها ولبسوها، وأطلقوا عليها كلماتها الأصلية؛ مثل «البرجد»
(وهو كساء غليظ مخطط)، وأبو قلمون (وهو ثوب رومي يتلون للعيون ألوانا)، أو أسماء أشياء عرفها العرب بعد اتصالهم بالرومان، ولم تكن من نتاج جزيرة العرب؛ كالزبرجد والزمرد والياقوت، ومقاييس أو موازين رومانية؛ كالقيراط والأوقية، أو أسماء طبية أو نباتية؛ كالبلغم، والقولنج، والبرقوق، واللوبيا، والترمس، أو كلمات نصرانية كالجاثليق، والبطريق، أو نحو ذلك.
41
ويظهر أن أكثر هذه الكلمات تسربت إلى العرب عن طريق الشام للسبب الذي أبنا قبل. (2)
قصص يونانية نقلت إلى العربية، وقد نقل ابن النديم أسماء كتب للروم في الأسماء والتاريخ ترجمت إلى العربية.
42
وحكى الجاحظ في كتاب الحيوان، قال: «كان في اليونانيين ممرور له نوادر عجيبة، وكان يسمى ريسيموس، والحكماء يروون له أكثر من ثمانين نادرة، ما من نادر ة إلا وهي غرة، وعين من عيون النوادر؛ فمنها أنه كان كلما خرج من بيته مع الفجر إلى شاطئ الفرات (للغائط أو للطهور) ألقى في أصل باب داره وفي دورانه حجرا؛ كي لا ينصفق الباب فيحتاج إلى معالجة فتحه، وإلى رفعه، وكان كلما رجع من حاجته لم يجد الحجر، ووجد الباب منصفقا. فكمن في بعض الأيام ليرى هذا الباب من يصنع به ما يصنع، فبينا هو في انتظاره إذ أقبل رجل حتى تناول الحجر، فلما نحاه من مكانه انصفق الباب، فقال له: مالك ولهذا الحجر، ومالك تأخذه؟ فقال: لم أعلم أنه لك. قال: فقد علمت أنه ليس لك! وقال بعضهم: ما بال ريسيموس يعلم الناس الشعر ولا يقول الشعر! قال: ريسيموس كالمسن الذي يشحذ ولا يقطع. ورآه رجل يأكل في السوق، فقال: أتأكل في السوق؟ فقال: إذا جاع ريسيموس في السوق أكل في السوق.»
43 ... إلخ. (3)
الحكم؛ فقد ترجمت حكم نسبت لفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون وأرسطو، وملئت بها كتب الأدب في ذلك العصر، مثل البيان والتبيين، وعيون الأخبار. وقال ابن النديم: إن علي بن ربن النصراني نقل كتابا في الآداب والأمثال على مذاهب الفرس والروم والعرب.
44 ... إلخ.
والظاهر أن ولوع العرب كان بهذين النوعين «القصص والأمثال» دون غيرهما.
ونقرأ ثبت الكتب التي ترجمها أو ألفها حنين، والتي ذكرها ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء؛ فنرى أنه تعرض لكثير من فروع العلم المختلفة، ففضلا عن كتبه الكثيرة في الطب كانت له كتب في الفلسفة وغيرها، فله كتاب في الهواء والماء والمساكن، وكتاب في تولد الفروج، بين فيه أن تولد الفروج إنما هو من بياض البيضة، واغتذاؤه من الملح الذي فيها، ومقالة في المد والجزر، وكتاب في أفعال الشمس والقمر، وكتاب السماء والعالم، وكتاب في المنطق، وكتاب في خلق الإنسان، ومقالة في تولد النار بين الحجرين، وكتاب في أحكام الإعراب على مذهب اليونانيين، وكتاب نوادر الفلاسفة والحكماء وآداب المتعلمين، وكتاب في الفلاحة، ومقالة في قوس قزح، وكتاب تاريخ العالم والمبدأ والأنبياء والملوك والأمم والخلفاء والملوك في الإسلام، ومقدمة كتاب فرفوريوس في المنطق، وكتاب في الفراسة، وكتاب في إدراك حقيقة الأديان.
ولو عددنا كل ما ترجمه وألفه، لخرج ذلك بنا عن القصد الذي قصدناه. ومن هذا نرى أنه هو ومدرسته نقلوا إلى العربية زبدة آثار اليونان، وتناولوها بالشرح والاختصار، وجعلوا الثقافة اليونانية في مختلف فروعها بين أعين العلماء من المسلمين والنصارى يقتبسون منها، وينتفعون بها. وكان عملهم هم وأمثالهم عزاء للمتكلمين في مذاهبهم، وفلاسفة المسلمين، الذي نبغوا في العصر الذي بعد عصرنا هذا.
وقد نقل حنين الترجمة نقلة جديدة لإتقانه اللغات المختلفة، فكان العلماء يدركون الفرق الكبير بين ما ترجمه حنين، وما ترجم قبله. قد كانت ترجمة حنين وافية دقيقة، وترجمة من قبله عليلة سقيمة، حتى إن ابن ماسويه لما قرأ قطعة من ترجمته أول أمره قال: «أترى المسيح في دهرنا هذا أوحى إلى أحد!» إعجابا بترجمته، واعترافا بأنها خارجة عن المألوف في الترجمة لعهده. «... إلى السريانية سجيس الرأسعيني، وأيوب الرهاوي، وسواهما من الأطباء المتقدمين.»
45
ومع هذا فنجد له كتبا كثيرة في غير الطب، فله كتب في المنطق، وفي الطبيعة والهيئة، في فلسفة أفلاطون وأرسطو. وقد أثبت البحث العلمي أن بعض الكتب التي نسبت إليه إنما هي من عمل تلاميذه ومدرسته لا من عمله.
وإذا نحن أدركنا أنه أخذ يترجم عن اليونانية - وقد اعترضته مئات الكلمات اليونانية التي لم يعرف لها نظير في اللغة السريانية والعربية من مصطلحات طبية وفلسفية، وأسماء للنبات والحيوان، والهيئة وغيرها، وأنه كان مضطرا أن يوجد لها ألفاظا عربية تقابلها إن أمكن، وأن يصقل الكلمات الأجنبية صقلا عربيا إن لم يمكن؛ علمنا أنه اضطلع بعبء ينوء بالعصبة أولي القوة، وأدركنا قدر عنائه، ومبلغ نجاحه.
وقد عاب الأستاذ «سيمون»
Simon (عند نشرة ترجمة حنين وحبيش لكتاب جالينوس) عليهما: «إن ترجمتها مملوءة بالفقرات الداخلية التي لم تكن في الأصل، وأن طريقتهما في التعبير حرفية، وليست دائما جميلة.» وقد رد عليه الأستاذ برجستراسر، ورأى أن حنينا وتلميذه حبيشا تجشما أكبر عناء في التعبير عن معنى أصول الكتب اليونانية بقدر ما يستطاع من الوضوح، وكانا يترجمان ترجمة حرفية حتى ولو ضحيا في ذلك بجمال اللغة وتنسيقها. لكن ترجمة حنين أفضل، ودقتها أعظم، ويخيل إلى الإنسان أنها ليست نتيجة مجهود صادق فقط، ولكنها نتيجة تمكن وثيق من اللغة، وحسن تصرف في مذاهبها، ويتجلى هذا في سلاسة التوفيق بين اليونانية والعربية، والدقة المتناهية في التعبير مع الإيجاز؛ تلك مميزات فصاحة حنين التي اشتهر بها.»
46
أهم ما امتاز به حنين الترجمة من اليونانية إلى العربية والسريانية، بدأ ذلك وهو في السابعة عشرة من عمره، ولكن كانت ترجمته ضعيفة لم ترضه لما أن نضج، فأعاد بعد بعض ما ترجم وصحح بعضا.
اتصل أول أمره بالمأمون، وعين في بيت الحكمة الذي كان يزخر بالكتب اليونانية التي نقلت من آسيا الصغرى، ومن القسطنطينية، فأخذ حنين يترجم منها إلى السريانية أولا، ثم إلى العربية، ثم ترجم للمعتصم والواثق والمتوكل.
ولم يكتف بما جمع في بيت الحكمة، بل رحل في نواحي العراق، وسافر إلى الشام والإسكندرية وبلاد الروم؛ يجمع الكتب النادرة، ومات سنة 264ه بعد أن عمر نحو سبعين عاما، بذل فيها من الجهد العلمي ما لا يستطيع غيره أن ينهض به في مئات السنين.
كان يترجم بنفسه، وكان يشرف على جماعات تعمل بإرشاده؛ فقد «جعل له المتوكل كتابا نحارير، عالمين بالترجمة. كانوا يترجمون، ويتصفح ما ترجموا، كاصطفن بن بسيل، وموسى بن خالد الترجماني، ويحيى بن هارون.»
47
كان يترجم كثيرا، ويؤلف كثيرا، وكان أحيانا يضع الشرح لما ترجم، ويلخص المطولات، ويصحح تراجم السابقين. وعلى الجملة فقد كان حركة علمية دائمة، قل أن تبارى، بل ظلت حركته التي أنشأها تعمل عمله بعد وفاته على يد ولديه وتلاميذه.
48
أكثر ما ترجمه حنين كتب طبية، وخاصة كتب جالينوس؛ فقد ذكروا «أنه ترجم إلى السريانية من كتب جالينوس خمسة وتسعين كتابا، وترجم إلى العربية منها تسعة وثلاثين، وأصلح ما ترجمه تلاميذه - وهي ستة - إلى السريانية، ونحوا من سبعين إلى العربية، وأصلح معظم الخمسين كتابا التي كان قد ترجمها من أنواع الأدب كالإلياذة، وبقية الروايات، والأشعار، والخطب اليونانية؛ سببه ما قدمنا. فهذان النوعان من النوع العالمي، قد جردا مما يلابسهما من حياة اجتماعية خاصة، وليس فيهما أسماء يونانية ثقيلة على سمع العربي ولسانه ، ليس فيهما أوزان شعرية لا تسيغها العربية، ولا فيهما وصف لحياة اجتماعية بعيدة عما يألفه العربي المسلم.
وبعد؛ فقد كان تأثير اليونان واسعا عميقا في الفلسفة والعلوم الرياضية والطبية، ضيقا خفيفا في الناحية الأدبية.
فإن شئنا أن نختار من يمثل هذه الثقافة اليونانية؛ اخترنا لذلك «حنين بن إسحاق».
حنين بن إسحاق
حنين بن إسحاق، ويلقب بأبي زيد، ولد سنة 194ه من أب عربي من قبيلة عباد التي تسكن الحيرة، وكان أبوه إسحاق نصرانيا نسطوريا، فنشأ ابنه كذلك، وكان إسحاق صيدلانيا، فأعد ابنه لدراسة الطب. بدأ حنين يدرس على يوحنا بن ماسويه. وكان حنين يكثر السؤال على أستاذه، ويلح في الأسئلة فأحرج صدر يوحنا فطرده، وقال: «ما لأهل الحيرة والطب، عليك ببيع الفلوس في الطريق!» وكان في يوحنا عصبية لأهل جنديسابور ومدرستها، يعتقد أن العلم لا يخرج عنهم.
فذهب حنين إلى بلاد الروم، وأجاد تعلم اليونانية، ثم عاد إلى البصرة، ولازم الخليل بن أحمد يأخذ عنه العربية، ويروون أنه حمل كتاب العين المنسوب للخليل إلى بغداد.
وكان يجيد أربع لغات؛ الفارسية، واليونانية، والعربية، والسريانية.
ولنسق الآن مثلا من ترجمته، قال في أول كتاب الأسابيع لأبقراط، وشرحه لجالينوس، الذي ترجمه حنين:
قال جالينوس: إن أبقراط شبه الإنسان بالدنيا، وسماه الدنيا الصغيرة؛ لأن تدبيره على تدبير الدنيا، وهذا الكتاب هو لأصحاب القياس، أعني الصنف من الأطباء الذين يدعون «دغماطيقيين»، وهم ذوو الجدل والمحاورة، وقد ذكر ههنا جزأي الطب؛ الجزء الذي يسمى «فسيولوغيا» (وهو معرفة الطبائع والتوسم لها)، والجزء الذي يدعى «بطلوغيا»، وهو معرفة العمل.
49
وقال في موضع آخر: «قال أبقراط إن الفرقدين يشبهان الحرارة التي في الإنسان.» «قال جالينوس قد وعد هذا الرجل الفائق أن يجزئ العالم على سبعة أجزاء، فأنجز وعده، وأحسن فيما قسم وجزأ، فإنه بدأ بالعالم الأقصى، وانتهى إلى الأرض، ثم قرن بعد ذلك كل جزء من أجزاء العالم بأجزاء الإنسان فألطف النظر، وأتقن القول، وأحسن النظم، فبدأ من الأرض حتى انتهى إلى النار. وفسرنا قوله هذا، والوجه الذي أراده في ذكره الأرض وابتدائه بها؛ فإنه أراد أن يقرن أجزاء الإنسان بأجزاء العالم، والإنسان أرضي، يسلك على ظهر الأرض، فابتدأ بالأرض، وجعلها أول قوله، وكرر القول هنا ليذكركم ما قاله آنفا، فإن المعنى إذا ردد ذكره مرارا كان الفهم له أرسخ في القلب والحفظ.»
50
وقال في موضع ثالث: «واعلموا أن الغضب ينقاد للعقل، وإنا إذا تحركنا للغضب قدر العقل، وقوي على إمساك ذلك الغضب ولزومه، ومنه أن يفعل أفاعليه، فإن الغضب ربما هيج أفاعيل سيئة مكروهة، فيحول العقل بينه وبين أفاعيله، واعلموا أيضا أن الشمس هي المدورة للفرقدين، وليست الفاعلة لذلك، لكنها تصعد وتنحدر فتظهر للفرقدين على نحو صعودها وانحطاطها؛ فقال لذلك هذا المرء الفاضل: إن الشمس تدبر الفرقدين، وليست المحركة لهما بالحقيقة، لكنها تظهرهما على وجه ما ذكرناه آنفا ومعناه.
وقد ذكر ذلك «أراطس» الشاعر، ووصفه فأحسن الصفة وأحكمها، فمن أراد أن يستقصي معرفة ذلك فلينظر في كتابه الذي وضع في الفلك ويتفهمه.»
51
ومن هذا نستطيع أن نحكم أن عبارة «حنين» واضحة المعنى جيدة الأسلوب، وأنه إذا اضطر استعمل المصطلحات العلمية بألفاظها؛ مثل «دغماطيقيين»، و«فسيولوغيا»، و«بطلوغيا»، وأن يتبعها بشرح معناها إلى أن تؤلف الكلمة في العربية، ويتحدد مدلولها، وأنه يضع المتن بين قوسين، ويتبع ذلك مما عنده من شرح. وقد جرى على هذا النمط علماء المسلمين بعد في كتبهم.
وعلى الجملة؛ فقد كان حنين ومدرسته خير من يمثل الثقافة اليونانية، وخير من قدم إلى قراء العربية نتائج القرائح اليونانية.
الفصل العاشر
الثقافة العربية
للثقافة العربية ناحيتان هامتان (1)
ناحية دينية من دراسة للقرآن الكريم وحديث وفقه، ومن انتشار للثقافة الإسلامية بين أهل المملكة، وأثرها في عقولهم وأرواحهم. وهذا كله سنعرض له في مواضع متفرقة من الكتاب. (2)
وناحية لغوية أدبية، وهي ما سنتكلم فيه الآن، ذلك أن جزيرة العرب منبع اللغة العربية، ومولد الإسلام، والعرب هم الذين حملوا لغتهم معهم حيث يسكنون، وحيث يفتحون، ومحمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عربي، والقرآن عربي، ودعاة الأمم الأولون إلى الإسلام عرب، فمن الواضح بعد أن ينسب الدين واللغة وما لهما من فضل إلى العرب أن نسمي ما نتج عنهما ثقافة عربية.
اللغة
في الحق إن اللغة العربية أرقى اللغات السامية، كما يقرر دارسو تلك اللغات، فلا تعادلها اللغة الآرامية ولا العبرية، ولا غيرهما من هذا الفرع السامي، وهي كذلك من أرقى لغات العالم؛ فهي تمتاز حتى عن اللغات الآرية بكثرة مرونتها، وسعة اشتقاقها. فإذا قيس ما يشتق من كلمة عربية من صيغ متعددة، لكل صيغة دلالة على معنى خاص بما يقابلها من كلمة أفرنجية، وما يشتق منها، كانت اللغة العربية في ذلك غالبا أوفر وأغنى، فمثلا اشتقوا من الضرب: ضرب، ويضرب، واضرب، وضارب، ومضروب. وسموا آلة الضرب مضربا، ومضرابا، وقالوا: ضاربه اي جالده، وتضرب الشيء، واضطرب: تحرك وماج، وحديث مضطرب، وأمر مضطرب، والضريبة: ماضربته بالسيف، وضاربه في المال من المضاربة (وهي أن تعطي إنسانا من مالك ما يتجر فيه على أن يكون له سهم معلوم من الربح)، واشتقوا منه مضاربا، ومضاربا ... إلخ.. إلخ.
هذا إلى المعاني المجازية التي يستعملون فيها الكلمة، فيقولون: ضرب الدراهم والدنانير: (أي صكها)، واضطرب خاتما من ذهب: (أي أمر أن يصاغ له) وضرب في الأرض: إذا سار فيها مسافرا، وضربت الطير: ذهبت. وضرب في سبيل الله: نهض، وضرب على يده: كفه عن الشيء ومنعه. وأضرب عن العمل: كف. وأضرب البرد النبات، وضربه: إذا اشتد عليه البرد حتى يبس، والضريبة: الصوف أو القطن يضرب بالمطرقة، والضريب من اللبن: الذي يحلب من عدة لقح في إناء واحد، فيضرب بعضه ببعض، ثم أخذوا منه فلان ضرب فلان أي نظيره (والضرباء: الأمثال والنظراء)، والضرائب: الأشكال، وضرب المثل ذكره وقوله.. إلخ.. هذا قليل من كثير مما يدل على غنى اللغة العربية، غنى تاما في الاشتقاق والمجاز، قل أن تجاريها فيهما لغة أخرى. وكذلك ما لها من طرق متعددة في القلب والإبدال والنحت مما يطول شرحه. وقد أبنا في «فجر الإسلام» ما كان للعرب من ملاحظات دقيقة فيما يقع عليه حسهم؛ فالإبل والخيل والأرض لكل شيء منها اسم، فإذا طرأ أي تغيير وضعوا له اسما خاصا، فإذا قصرت اللغة في شيء ففي ما لم يكن يقع تحت حسهم كمستخرجات البحار، وأنواع النباتات والحيوانات التي تنتج في غير إقليمهم.
1
هذه المرونة التامة، وهذا الاشتقاق والمجاز والقلب والإبدال والنحت هو الذي جعل اللغة العربية تستطيع أن تكون لغة القرآن الكريم والحديث، وما فيهما من معان في منتهى السمو والرفعة، وما فيهما من تعبيرات دينية واجتماعية وتشريعية، لا عهد للعرب بها في جاهليتهم، كما استطاعت بعد أن تكون أداة لكل ما نقل من علوم الفرس، والهند واليونان وغيرهم. وفي نحو ثمانين سنة من بدء العهد العباسي كانت خلاصة كل هذه الثقافات مدونة باللغة العربية، والعرب الذين لم يكونوا يعلمون شيئا من مصطلحات الحساب والهندسة والطب، ولا شيئا من منطق أرسطو وفلسفته؛ أصبحوا في قليل من الزمن يعبرون بالعربية عن أدق نظريات إقليدس، وحساب الجيب الهندي، وما وراء المادة لأرسطو، ونظريات الهيئة لبطليموس، وطب جالينوس، وحكم بزرجمهر، وسياسة كسرى. وما كانت تستطيع ذلك كله لولا ما بها من حياة ومرونة ورقي.
واجه العرب في العصر العباسي صعوبة شديدة في نقل هذه الذخيرة العلمية الأجنبية إلى اللغة العربية، بل في وضع مصطلحات لعلومها كالنحو والفقه، ورأوا أنهم أمام علوم جديدة وأفكار جديدة، وأن رقعة المملكة الإسلامية قد اتسعت، واختلفت أقاليمها. ولكل إقليم نباتات، وحيوانات لم تكن تعرفها، ورأوا أنها قدمت على أنماط من النظم الاجتماعية لم تكن تألفها؛ فقد أنشئت دواوين لم تنشأ في العهد الأموي، واخترعت في الأغاني نغمات لا تعرف لها اسما عربيا، وآلات الموسيقى فارسية ورومية، ولكل اسمه. وملابس مختلفة الأنواع، لأمم مختلفة. ومآكل ومشارب كذلك. وعلى الجملة فقد واجه العرب الحضارة العباسية كما يواجه اليوم العرب الحضارة الغربية، وهكذا. فماذا تصنع أمام هذا السيل الجارف؟ أتنطق بكل هذه الأسماء كما ينطق أهلها؟ وفي ذلك إهدار لشخصيتها، أو تضع لها أسماء عربية من عندها؟ وفي تعميم هذا صعوبة شاقة؛ لقد تغلبت على ذلك كله في دقة ومهارة، وفي الحق إن معجم اللغة العربية تضخم في العصر العباسي من طريقين:
الأول:
وهو الأكثر، التوسع في مدلول الكلمات العربية، فالعربي لم يكن يعرف الفاعل، والمفعول بالمعنى الذي يفهمه النحوي ، ولا يعرف القضية ولا الموضوع والمحمول بالمعنى الذي يعرفه المنطقي. ولا يعرف الطويل والخفيف والمديد بالمعنى الذي يفهمه العروضي، وهكذا. وقد ملئت الكتب بحكايات ظريفة كانت تجري بين النحويين والأعراب الوافدين، فلا يستطيع الأعرابي أن يفهم النحوي؛ لأنه يكلمه بمصطلحات لا علم له بها،
2
وكان علماء اللغة يعملون جهدهم في الأخذ عن الأعراب، ويجتهدون في وضع الصيغة التي يفهمها الأعرابي، فإذا قيل له صغ من وفى على وزن مفعل لم يفهم؛ لأنه مصطلح علمي.
بهذا كثرت معاني الكلمات العربية، فلو عمل معجم لغوي في العهد الأموي ما وجدنا للطويل معنى أنه بحر من بحور الشعر، ولا وجدنا فيه فاعلا وظرفا بمعناهما النحوي، وهكذا. وقد سد هذا الباب أكثر الحاجات العلمية؛ فإنك تقرأ النحو والصرف والفقه، فلا تجد فيها لفظا أعجميا، بل تقرأ المنطق كله (وهو يوناني الأصل) فلا تكاد تجد فيه كلمة أجنبية إلا مثل سفسطة، وكذلك الشأن في الفلسفة والرياضة، فاستعملوا كلمة كيفية وكمية وجوهر وعرض، والمثلث والمربع والزاوية ... إلخ، ولم ينقلوا الكلمات الأعجمية إلى اللغة العربية.
والثاني:
نقل الكلمات الأعجمية نفسها إلى العربية، وأكثر ما كان ذلك في أسماء البلدان والنباتات والحيوانات، والآلات والأمراض والمآكل التي لم يكونوا يعرفونها من قبل، وفي هذا تصرفوا تصرفات مختلفة طوعا للسانهم، ولم يجروا في ذلك على سنن واحد، قال الجواليقي: «إن العرب كثيرا ما يجترئون على الأسماء الأعجمية فيغيرونها بالإبدال، قالوا: إسماعيل وأصله إسمائيل فأبدلوا لقرب المخرج، وقد يبدلون مع البعد من المخرج، وقد ينقلونها إلى أبنيتهم ويزيدون وينقصون.»
3
وفي الواقع لو قارنا بين أصل الكلمات الأعجمية وما عربت به وجدنا أنهم لم يتبعوا قواعد ثابتة، فتارة يبدلون الشين سينا وأحيانا يبقونها، وأحيانا يقلبون الثاء تاء، وأحيانا يبقونها، وتارة يغيرون تغييرا خفيفا، وتارة تغيرا كبيرا
4
والذي نلاحظه في ذلك أن النقل كان من مصدرين؛ مصدر العلماء الذين واجهوا كتب اليونان فعربوا بعض أسماء النبات والحيوان، وهؤلاء تعريبهم أقرب إلى الأصل، وأقرب أن يكون على نمط واحد. ونقل لم يكن من عمل العلماء، ولكن كان العرب الأميون وأمثالهم متروكين فيه لسليقتهم؛ فالعربي يسمع اسم بلدة فارسية أو شيء يوناني فينطقه كما يسهل عليه حسبما اتفق له. وقد يسمع عربي آخر اسما آخر في ناحية أخرى، فينطقه نطقا ليس على نمط الأول، بل إن الكلمة الواحدة قد ينطقها قوم من العرب نطقا خاصا، وينطقها آخرون نطقا مخالفا، فيكون في الكلمة لغتان أو أكثر. ومن أجل هذا صعب على الباحث أن يضع قواعد ثابتة لما تبعه العرب في نقل الكلمات مما ليس من موضوعنا. •••
خرجت اللغة العربية من هذا المأزق سليمة قوية واسعة؛ هي لغة الدين، ولغة العلم والفلسفة، ولغة الأدب، واضمحلت بجانبها كل لغات البلاد المفتوحة؛ فاللغة السريانية التي ترجمت إليها الكتب اليونانية أخذت تتدهور بعد أن نقل ما فيها إلى اللغة العربية. والفرس في ذلك العصر أصبحت لغتهم العلمية والأدبية هي اللغة العربية، إن ألفوا أو شعروا أو كتبوا فبالعربية، وحياة اللغة الفارسية إنما كانت عند التكلم العادي، أو في أوساط الديانة المجوسية، وكذلك اللغات الأخرى من رومانية وقبطية في الشام ومصر. وكسبت اللغة العربية من ذلك أنها أصبحت في تآليفها وأدبها وعلومها نتاج كل هذه الأمم، تلبس كل أفكارهم، وتعبر عن قرائحهم، وكسبوا هم منها ما لها من ثقافة إسلامية وأدبية.
ولئن أغنى الأعاجم اللغة العربية التحريرية فقد أفسدوا اللغة اللسانية بما أدخلوا من لحن. كانت جزيرة العرب سليمة المنطق قبل الفتح، وقبل دخول الأعاجم في الإسلام، ثم بدأ اللحن يفشو فيها، وللحن تاريخ من عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء الراشدين والأمويين؛ لا نعرض له الآن، وإنما نريد أن نذكر كلمة عن اللحن في عصرنا؛ فقد زاد بغلبة الأعاجم سياسيا، وأصبحنا نرى بدء تكون لغتين: لغة الكتابة، والأعراب الفصحاء، ومن جرى مجراهم، ولغة يسميها الجاحظ لغة المولدين والبلديين، يقول: ومتى سمعت بنادرة من كلام الأعراب، فإياك وأن تحكيها إلا مع إعرابها، ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيرتها بأن تلحن في إعرابها، وأخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية ، وعليك فصل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، وملحة من ملح الحشوة والطغام، فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب، أو أن تتخير لها لفظا حسنا، أو أن تجعل لها من فيك مخرجا سريا.» ويقول: «ولأهل المدينة ألسنة ذلقة وألفاظ حسنة، وعبارة جيدة، واللحن في عوامهم فاش، وعلى من لم ينظر في النحو منهم غالب.»
5
ويقول: واللحن من الجواري الظراف، ومن الكواعب النواهد، ومن الشواب الملاح، ومن ذوات الخدور الغرائر أيسر، وربما استملح الرجل ذلك منهن، ما لم تكن الجارية صاحبة تكلف.»
6
وقال في موضع آخر: «وزعم أبو العاصي أنه لم ير قرويا قط لا يلحن في حديثه، وفيما يجري بينه وبين الناس؛ إلا ما تفقده من أبي زيد النحوي، ومن أبي سعيد المعلم.»
وذكر ابن قتيبة أن أعرابيا دخل السوق، فسمعهم يلحنون، فقال: «سبحان الله! يلحنون ويربحون، ونحن لا نلحن ولا نربح!»
7
كان هذا اللحن أنواعا؛ فلحن في الإعراب فلا يصححون آخر الكلمات كما تقتضيه قواعد النحو، كالذي رووا أن رجلا قال لآخر: أحضرنيه. قال: قد دعوته لكل ذلك يأبى (برفع كل).
8
ولحن في بناء الكلمة؛ كالذي قيل: إن نبطيا سئل: لم اشتريت هذه الأتان؟ قال: أركبها، وتلد لي (بفتح اللام).
9
ولحن في تركيب الجمل كالذي حكى الجاحظ: قلت لخدام لي: في أي صناعة أسلم هذا الغلام؟ قال: أصحاب سند، نعال، يريد في أصحاب النعال السندية.
10
وأحيانا يلجأ الرجل منهم إلى إسكان آخر الكلمات، وترك الإعراب خوفا من اللحن، كان مهدي بن مهلهل يقول: حدثنا هشام بن حسان، ويجزم ذلك كله؛ لأنه حين لم يكن نحويا رأى أن السلامة في الوقف.
11
وكان هذا اللحن فاشيا حتى في العلماء؛ فقد لحن أبو حنيفة، ولحن عمرو بن عبيد، وبشر المريسي.
12
وهذا لا يطعن في علمهم، فهناك فرق بين معرفة اللغة علما والنطق بها كلاما؛ فقد يجيد الرجل معرفة قواعد لغة وضبطها وفهمها، ثم هو لا يحسن التكلم بها، كالذي حكي عن بعض أئمة النحو.
13
نستنتج من هذا كله أن فساد اللغة من الناحية اللسانية كثر في ذلك العصر، وأنه قد بدأ يكون للناس لغتان؛ لغة عامية هي التي يسميها الجاحظ لغة المولدين والبلديين، وهذه لها ألفاظ غير منتقاة، وتتسامح في الإعراب، وتميل إلى إسكان أواخر الكلمات.
14
ولغة الطبقة الراقية والمتعلمة، وهذه لغة معربة متخيرة، وإن كان اللحن يصدر منهم، وهذه اللغة الأخيرة هي لغة الكتابة. •••
ومن ثم لم يكن علماء اللغة والنحو يأخذون إلا عن سكان البادية؛ لأنهم رأوا الحضر قد فسد بالاختلاط، بل كانوا لا يأخذون عن البدوي إلا إذا لم يفسده الحضر، فكانوا لا يأخذون عن الأعرابي إذا فهم القول الملحون، «ومتى وجد النحويون أعرابيا يفهم هذا اللحن وأشباهه بهرجوه (زيفوه)، ولم يسمعوا منه؛ لأن تلك اللغة إنما انقادت واستوت واطردت، وتكاملت بالخصال التي اجتمعت لها في تلك الجزيرة، وفي تلك الجيرة.» ويقول الجاحظ: «ولقد كان بين زيد بن كثوة يوم قدم علينا البصرة، وبينه يوم مات بون بعيد، على أنه كان قد وضع منزله في آخر موضع الفصاحة، وأول موضع العجمة، وكان لا ينفك من رواة ومذاكرين».
15
وكان البصريون يفتخرون على الكوفيين فيقولون: نحن نأخذ اللغة عن حرشة
16
الضباب، وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز، وباعة الكواميخ.»
17
وكان العلماء يمتحنون الأعرابي قبل أن يأخذوا عنه، من ذلك: أن أبا عمرو بن العلاء ارتاب في فصاحة أبي خيرة الأعرابي، فسأله: كيف تقول حفرت الإران؟ قال: حفرت إرانا. قال. أبو عمرو: «لان جلدك يا أبا خيرة!»
18
كان كثير من الأعراب يفدون على مدن العراق، فيأخذ العلماء عنهم اللغة، وقد عد ابن النديم في الفهرست عددا، منهم؛ أبو زياد الكلابي، وأبو سوار الغنوي، وقد أخذ عنه أبو عبيدة، وثور بن يزيد، وقد أخذ عنه ابن المقفع، وأبو خيرة العدوي، وأبو مهدية، وأبو مسحل، وأبو ضمضم الكلابي.
19
وقد اتصل بهم علماء اللغة يأخذون عنهم. ومن هؤلاء الأعراب من كان يكتب ويؤلف كتبا؛ كأبي زياد الكلابي، ألف كتاب النوادر، وكتاب الفرق، وكتاب الإبل، وكتاب خلق الإنسان، ومنهم من كان يعلم اللغة ويتعلم النحو على علمائه، كأبي مسحل؛ فقد أخذ النحو عن الكسائي، ومنهم من كان يميل إلى الغريب النادر، ويتقعر في كلامه، ويغلظ طبعه ليبرهن على إمعانه في البداوة، كأبي محلم الشيباني، وكانوا يتكسبون بذلك، فمنهم من كان يعلم الصبيان بأجرة كأبي البيداء الرباحي، ومنهم من كان يفد على الأمراء كأبي ضمضم الذي وفد على الحسن بن سهل، وكثير من الأعراب كانوا يفدون على إسحاق الموصلي.
20
وكما كا نت الأعراب ترحل إلى الحضر للكسب أو طلب العلم كان العلماء والأدباء يرحلون إلى البادية في طلب اللغة والأدب، فيحدثنا الأغاني أن بشارا «قيل له ليس لأحد من شعراء العرب شعر إلا وقد قال فيه شيئا استنكرته العرب من ألفاظهم، وشك فيه، وإنه ليس في شعرك ما يشك فيه. قال: ومن أين يأتيني الخطأ؛ ولدت ها هنا ونشأت في حجور ثمانين شيخا من فصحاء بني عقيل، ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، وإن دخلت إلى نسائهم، فنساؤهم أفصح منهم، وأيفعت فأبديت إلى أن أدركت، فمن أين يأتيني الخطأ!»
21
ويقول: نزل في ظاهر البصرة قوم من أعراب قيس عيلان، وكان فيهم بيان وفصاحة، فكان بشار يأتيهم (وكان يأتيهم أبان اللاحقي).
22
وكان علماء اللغة من بصريين وكوفيين يتسابقون في الرحلة إلى البادية، والأخذ عن العرب، وقد اشتهر في عصرنا بهذه الرحلة أبو زيد الأنصاري، وأبو عمرو بن العلاء، والأصمعي والكسائي، فأبو زيد يقول في أول كتابه النوادر: «ما كان فيه من شعر القصيد فهو سماعي من المفضل بن محمد الضبي، وما كان من اللغات، وأبواب الرجز فذلك سماعي من العرب.» وسأل الكسائي الخليل بن أحمد: من أين علمك هذا؟ فقال: من بوادي الحجاز، ونجد وتهامة، فخرج الكسائي، وأنفذ خمس عشرة قنينة حبرا في الكتابة عن العرب سوى ما حفظه.
23
وأما أبو عمرو بن العلاء؛ فقد رووا أن كتبه عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتا له إلى قريب من السقف.»
24
وتاريخ الأصمعي مملوء بالقصص عن الأعراب في البادية، وما سمع منهم من لغة وشعر وقصص.
ولم يكن عمل علماء اللغة في ذلك العصر إلا نقل ما يسمعون من العرب مشافهة إلى التقييد بالكتابة، فأكثر اللغة كتبت في العصر العباسي الأول لا قبله، وكانت أهم وسائل النقل هي ما ذكرنا من رحلة العرب إلى العراق، ورحلة علماء العراق إلى البادية، وتحرير اللغويين لما سمعوا من العرب مباشرة أو بواسطة.
وبعد، فهل كان كل الذي دونوه صحيحا؟ وهل كان الآخذون (وهم علماء اللغة)، والمأخوذ عنهم (وهم العرب) كلهم ثقة؟ الحق أن لا! وأن بعض العرب كانوا يخطئون أحيانا، ويكذبون أحيانا، وأن بعض علماء اللغة كانوا يخطئون أحيانا ويكذبون أحيانا، كان العلماء شغوفين بأن يقفوا على جديد لم يعرفوه، وكانت المنافسة بينهم شديدة، وحب الفخر والتظاهر شديدا، خصوصا في مجالس الخلفاء والأمراء. وكان يقضى على العالم في جهله بكلمة أو خطئه في كلمة، فدعا ذلك بعضهم لأن يتزيدوا ويختلقوا إذا أحرجوا، وأحس بعض الأعراب بهذه النفسية فكانوا يعربون أحيانا، ويختلقون أحيانا. وسبب آخر، وهو أن العداء بين البصريين والكوفيين بلغ مبلغا عظيما، فكان علماء كلتا المدينتين يتشيعون لمذهبهم، ويبرهنون عليه بالمصنوع أحيانا، وكتب النحو واللغة مملوءة بالأدلة على ما نقول.
أما خطأ العربي؛ فقد يكون من عدم فهمه لمعنى الكلمة، كقول عربي يصف امرأة بالغفلة:
لم تدر ما نسج اليرندج قبلها
ودراس أعوص دارس متخدد
ظن أن اليرندج ينسج،
وإنما هو جلد يصبغ
25
وقال عمرو بن كلثوم:
علينا البيض واليلب اليماني
وأسياف يقمن وينحنينا
قال ابن السكيت. سمعه بعض الأعراب، فظن أن اليلب أجود الحديد، فقال: «ومحور أخلص من ماء اليلب»، وهو خطأ؛ وإنما هو جلود تنسج.
26
وأحيانا يكون خطأ العربي ناشئا من عدم فهم طبائع الأشياء، كقول عربي يصف درة:
فجاء بها ما شئت من لطمية
يدوم الفرات فوقها ويموج
فجعل الدر من الماء العذب ، وإنما يكون في الماء الملح. وقد يكون خطأ في الحوادث التاريخية، فقد قال الكميت:
كأن الغطامط من غليها
أراجيز أسلم تهجو غفارا
27
فقال نصيب: ما هجت أسلم غفارا قط! وقد يكون من سوء تصريف العربي، فقد قال عربي، وكانت قد ماتت زوجاته تباعا:
غدا مالك يرمي نسائي كأنما
نسائي لسهمي مالك غرضان
فيا رب فاترك لي جهيمة أعصرا
فمالك موت بالقضاء دهاني!
ذلك أن هذا الأعرابي لما سمعهم يقولون «ملك الموت»، سبق إليه أن هذه اللفظة على زنة فعل (كفلك) فاشتق منها كلمة على وزن «فاعل»، مع أن ملك على وزن مفل؛ لأن أصله ملأك فالاشتقاق خطأ. وكهمزهم مصائب، قياسا على صحائف، وهو غلط لأن ياء مصيبة أصلية، وياء صحيفة زائدة ... إلخ.
وأما أكاذيبهم فقد عقد المبرد بابا في كتابه الكامل، سماه «أكاذيب العرب»؛ هذا شأن العرب.
وأما خطأ العلماء فنروي منه ما روى ابن الأعرابي، قال: لقيني أبو محلم، ومعه أعرابي، فقال: جئتكم بهذا الأعرابي لتعرفوا منه كذب الأصمعي، أليس كان يقول في بيت عنترة:
شربت بماء الدحرضين فأصبحت
زوراء تضنفر عن حياض الديلم
إن الديلم الأعداء لأنهم أعاجم، والعرب كانوا يعدون جميع الأعاجم أعداءهم، فسلوا هذا الأعرابي، ما معنى الديلم؟ فسألناه فقال: الديلم حياض بالغور أوردتها إبلي غير مرة!
والظاهر أن معاجم اللغة بعد ذلك جمعت كل ما روي وتأولت الخطأ، وصححت الغلط، وأخذت آراء العلماء على اختلافهم من غير تدقيق، فقد تأولوا كلمة «مالك» الواردة في البيت السابق، وقالوا في اليلب إنه الحديد أو الجلد، وصححوا الشطر الذي رويناه «يدوم الفرات فوقها ويموج» بقولهم تدوم البحار فوقها وتموج، وفسروا الديلم بأنها الأعداء أو حياض بالغور، وأسبغوا على العرب نوعا من العصمة ليس بصحيح، حتى زعموا أن العربي لا يطاوعه لسانه في الخطأ ولو تعمد، ورووا لذلك الحكاية المشهورة التي كانت بين سيبويه والكسائي، والحق إن العربي الصميم مثله كمثل الإنجليزي الصميم، والفرنسي الصميم. ولو أراد الفرنسي مثلا أن يحور لسانه لينطق بالخطأ عمدا لاستطاع ذلك في يسر ، وهو كذلك يخطئ في استعمال بعض الكلمات والتراكيب، ونحو ذلك، فالعربي مثال ذلك. ولكن مهما قلنا في الخطأ أحيانا، وفي الكذب أحيانا فهو صفة عارضة ونادرة، وكان الأغلب فيما نقل من اللغة الصدق والصواب.
وقد جد العلماء الأولون في تمحيص ما جمع من ألفاظ اللغة؛ فقد رأوا أن هناك كلمات كثيرة أخذت عن قبائل مختلفة، لكل قبيلة لفظ أو لهجة، وبعضها أفصح من بعض، ورأوا ألفاظا لم يستوثق من صحتها، والذي جاء بها لا يوثق به، ورأوا كلمات اختلف في تحديد معانيها؛ لأنها رويت في جمل، واللفظ فيها يحتمل أكثر من معنى واحد. ورأوا ألفاظا صحفت، وألفاظا كان ينطق بها عربي ألثغ؛ فيظنها الآخذ عنه لغة، وهكذا. فاضطروا أن يحرروا ذلك كله ويمحصوه، فبذلوا من الجهد ما يستدعي الإعجاب، وبينوا من اللغة ما هو صحيح وفصيح، وضعيف منكر، ورديء مذموم فقالوا مثلا: ثبطت شفة الإنسان ورمت، وليس بثبت. أرض حثواء كثيرة التراب، وليس بثبت، وهكذا. وألف ابن خالويه كتابا سماه «ليس في كلام العرب»، بين فيه ألفاظا تستعمل ولم يصح سماعها عن العرب، وقالوا: قال الأصمعي ما سمعنا العام قابة؛ أي صوت رعد، ولم يروه أحد غير الأصمعي، وإنما روى العلماء ما أصابتنا العام قابة؛ أي قطرة، وقالوا الغرز لغة أهل البحرين، والغرز اللغة العليا، وهكذا. وقد تكون الكلمة واحدة، ويختلف العرب في النطق بها، فقبيلة تقول الطبء في الطبع، وأما والله، وهما والله، وحما والله، والأباب والعباب، وأن له وعن له، والإعاء والوعاء، وهضم عليهم وهجم عليهم، إلى مئات من مثل ذلك. وليس لاختلافها من سبب إلا اختلاف القبائل العربية في النطق، وأحيانا يكون الخطأ من العلماء في الكتابة، وهو ما يسمى بالتصحيف، فقالوا: وبها سؤدة من شباب؛ أي بقية من شباب، ثم قالوا وبها سؤرة من شباب أي بقية، وليست الأولى إلا تصحيفا للثانية. وأحيانا يكون العربي ألثغ، فيقول في الشابة الثابة، وفي الديك الديش. وقد تعرض العلماء لشيء من ذلك ولم يستوفوه، ولكن المتأخرين، وبخاصة صاحب القاموس المحيط، كدسوا ذلك كله من غير تمحيص، وفخروا بأنهم زادوا مواد كثيرة عمن قبلهم، وكان الأولى أن تستبعد اللثغات، ويحقق التصحيف، ونترك اللهجات. وإذن لا تتضخم هذه المعاجم، وتملأ فراغا كبيرا نحن أحوج إليه في ألوف الأشياء التي ليس لها اسم واحد. •••
وكان المدونون الأولون للغة في هذا العصر يدونون المفردات حيثما اتفق، وكما يتيسر لهم سماعها، فقد يسمعون كلمة في الفرس، وأخرى في الغيث، وثالثة في الرجل القصير، وهكذا، فكانوا يقيدون ما سمعوا من غير ترتيب. وكانت الخطوة الثانية أن جمعوا الكلمات الخاصة بموضوع واحد، وأظهر ما كان ذلك في كتب الأصمعي، فله كتاب الأنواء، وكتاب الميسر والقداح، وكتاب خلق الفرس، وكتاب الإبل، وكتاب الشاء، وهكذا يجمع ما ورد من الألفاظ اللغوية في موضع واحد، ويسميه كتابا، وقد يكون الكتاب بضع ورقات، ثم كانت الخطوة الثالثة عمل المعاجم.
هذا موجز في القول من الناحية اللغوية للثقافة العربية، وهناك ناحية أخرى هي الناحية الأدبية؛ فقد كان للعرب أدب غزير ممتع، وكان بجانب رواية اللغة رواية الأدب، بل كثيرا ما تكون رواية اللغة في ثنايا رواية الأدب، وكان عرب البادية في ذلك العصر مصدرا للغة والأدب معا.
كان الناس إذ ذاك يتلذذون من سماع حديث الأعراب، لخفة روحهم وعذوبة نطقهم وبساطتهم، قال الجاحظ: «ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا أنفع، ولا آنق ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان؛ من طول استماع حديث الأعراب الفصحاء العقلاء، والعلماء البلغاء.»
28
وقال ابن عبد ربه في كلام الأعراب: «هو أشرف الكلام حسبا، وأكثره رونقا. وأحسنه ديباجا، وأقله كلفة، وأوضحه طريقة؛ إذ كان مدار الكلام كله عليه، ومنتسبه إليه.»
29
وقد عقد فصلا طويلا، نقل فيه شيئا من كلام الأعراب في الزهد والمدح والذم والغزل والخيل والغيث، والنوادر والملح، والطعام ... إلخ.
30
وعقد الحصري فصلا ممتعا عنوانه: «فقر من كلام الأعراب في ضروب مختلفة».
31
وفي الحق إنك تقرأ هذه الفصول فتؤمن بأن أدبهم جيد اللفظ، قريب المعنى ، قليل الكلفة.
يقول أعرابي في امرأة يحبها: «لقد نعمت عين نظرت إليها، وشقي قلب تفجع عليها، ولقد كنت أزورها عند أهلها فيرحب بي طرفها، ويتجه مني لسانها.»
وكره أعرابي البصرة وأهلها؛ فقال: «دخلت البصرة، فرأيت ثياب أحرار على أجساد عبيد، إقبال حظهم إدبار حظ الكرام، شجر أصله عند فروعه، شغلهم عن المعروف رغبتهم في المنكر.» ووصف أعرابي أميرا، فقال: «إذا ولى لم يطابق بين جفونه، وأرسل العيون على عيونه، فهو غائب عنهم، ساهد معهم، فالمحسن راج والمسيء خائف.»
وقدم أعرابي البادية وقد نال خيرا من البرامكة، فقيل: كيف رأيتهم؟ قال: «رأيتهم وقد أنست بهم نعمة كأنها من ثيابهم.» إلى كثير من أمثال ذلك.
ولهم النادرة الحلوة، والفكاهة العذبة يتفكه بها الخلفاء في مجالسهم، والخاصة في أحاديثهم، والأدباء في سمرهم، وروى الأصمعي مثلا في ذلك الشيء الكثير، يفرج به هم الولاة، ويضحك به السمار.
سافر أعرابي إلى رجل فحرمه، فقال لما سئل: «ما ربحنا في سفرنا إلا ما قصرنا من صلاتنا، فأما الذي لقيناه من الهواجر، ولقيت منا الأباعر، فعقوبة لنا فيما أفسدنا من حسن ظننا!» وقيل لأعرابي: ما عندكم في البادية طبيب؟ قال: حمر الوحش لا تحتاج إلى بيطار! وسأل أعرابي رجلا فاعتل عليه فقال: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا. وقال الأصمعي: أصابت الأعراب مجاعة، فمررت برجل منهم قاعد مع زوجته بقارعة الطريق، وهو يقول:
يا رب إني قاعد كما ترى
وزوجتي قاعدة كما ترى
والبطن مني جائع كما ترى
فما ترى يا ربنا فيما ترى؟ .. إلخ.
ثم لهم الحكمة الرائعة يجرون فيه على سنن حكم أكثم بن صيفي، والأحنف بن قيس؛ هي أشبه ما يكون بالأمثال، قال أعرابي: «الدنيا تنطق بغير لسان، فتخبر عما يكون بما قد كان.» «لم أر صاحبا أغر من الدنيا، ولا ظالما أغشم من الموت، ومن عصف عليه الليل والنهار أردياه، ومن وكل به الموت أفناه!» وقال أعرابي: «الدراهم مياسم، تسم حمدا وذما؛ فمن حبسها كان لها، ومن أنفقها كانت له، وما كل من أعطى مالا أعطي حمدا، ولا كل عديم ذميم!» وقال أعرابي: «إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا يتفقه؛ ضاعت الأمور!» وقيل لأعرابي: لم لا تطيل الهجاء؟ قال: «يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق» ... إلخ.
ولهم الشعر الرقيق العذب، كالأعرابي يقول في رثاء ولده:
دفنت بنفسي بعض نفسي فأصبحت
وللنفس منها دافن ودفين
وكالأعرابي يقول في سوداء:
كأنها والكحل في مرودها
تكحل عينيها ببعض جلدها
وأنشد الرياشي لأعرابي:
ما كنت للقلب إلا فتنةعرضت
يا حبذا أنت من معروضة الفتن
تسيء سلمى وأجزيها به حسنا
فمن سواي يجازي السوء بالحسن
وقال أعرابي قتل أخوه ابنا له، فقدم إليه أخوه ليقتاد منه فرمى السيف من يده، وقال:
أقول للنفس تأساء وتعزية
إحدى يدي أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف من فقد صاحبه
هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
ولهم القصص عن حروبهم وأيامهم؛ فكانوا يروون أيام العرب في جاهليتها وإسلامها، وما كان فيها من أحداث، فيتحدثون بيوم الفجار، ويوم ذي قار، وحروب قيس في الجاهلية، وحرب داحس والغبراء، ومقتل كليب بن وائل. كما يتحدثون بسيرة النبي
صلى الله عليه وسلم
وغزواته، والصحابة وما كان بينهم، ويروون شعر الشعراء من جاهليين وإسلاميين، وخطب الخطباء، وأمثال الحكماء، ونوادر الظرفاء.
كل هذا كان في البادية؛ فهم رواة الأدب القديم، ولهم إنشاء في الأدب الحديث، لذلك قصدهم العلماء يأخذون عنهم كل ذلك.
وفي الحق كانت سكناهم في البادية، وقلة امتزاجهم بغيرهم من الأمم أدعى لأن يسلكوا سبيل الأولين، ويتذوقوا ذوقهم، ويعجبوا بمآثرهم، ويسيروا في الأدب على منهاجهم، فإن تأثر شعراء العراق وأدباؤهم بالفرس ومن إليهم فإن هؤلاء تأثروا بآبائهم في الجاهلية وآبائهم في الإسلام، وكان أدبهم صورة حية للأدب القديم، وصدورهم واعية لآثار الأقدمين، ونوع معيشتهم أشبه بمعيشة الأولين. قال عمر بن عبد العزيز: «ما قوم أشبه بالسلف من الأعراب، لولا جفاء فيهم!».
32
فمما لا شك فيه، أنه كان في هذا العصر أدبان؛ أدب عربي صرف ليس فيه كبير أثر من حضارة، ولا من ثقافات الأمم المختلفة. وهذا أدب - كما قلنا - خفيف الروح، رشيق اللفظ، لا ترى فيه خمرا كثيرا، ولا ترى فيه تشبيبا بغلمان، ولا ترى فيه غزلا بقيان، ولا ترى فيه فجرا فاجرا، ولا فحشا داعرا، كما لا ترى فيه عمقا في تفكير، ولا إمعانا وفلسفة في تعبير. يعجبني في ذلك قول النمري؛ فقد قال: مما يدل على أن قصيدة
إن بالشعب الذي دون سلع
لقتيلا دمه ما يطل
ليست لتأبط شرا وإنما هي لخلف الأحمر؛ قوله فيها:
خبر ما نابنا مصمئل
جل حتى دق فيه الأجل
فإن الأعرابي لا يكاد يتغلغل إلى مثل هذا.
وأدب آخر حضري، كالذي تراه في كتابة عمرو بن مسعدة، وابن المقفع، وقد تأثر بالفرس أثرا كبيرا. وفي ذوقي إنه ليس في خفة روح الأول ولا رقته وعذوبته، يحتاج الذهن فيه إلى أن ينحرف بعض الانحراف ليفهمه، وكالذي تراه في شعر بشار، وأبي نواس؛ فيه العمق وفيه الفجر. والقصيدة التي كان يغني بها العربي ليعبر عن عاطفة قوية بسيطة أصبحت في الحضر مملة، يتصنع صاحبها العاطفة ويغلو فيها، والأدب الذي كان يشرح حياة البادية وما فيها من بطولة وشجاعة وقوة؛ أخذ يعبر عن حياة المدن وما فيها من نعومة ولين، وانتقل النثر من جمل صغيرة مفصولة مقطعة، أو خطبة قوية تقال شفاها، إلى كتابة يتنوع موضوعها بتنوع مرافق الحضارة، ويفصل فيها الكلام ويربط. وقد كان العربي الذي يعبر بلسانه خريج الطبيعة والبيئة، فأصبح الذي يكتب بقلمه وليد التربية العلمية، وخريج الكتب والدفاتر والمحابر. وعلى الجملة فكلا النوعين من الأدب ظل لحياته الاجتماعية، هذا في حضره وذاك في باديته. وإذ كانت البادية لم تتغير، وكانت في العهد العباسي مثلها في العهد الأموي كان أدبهم كذلك يجري في واد واحد، وإذا كان الحضر متغيرا (فالعراق العباسي غير العراق الأموي)؛ كان الأدب الحضري مختلفا عما قبله، فكتابة في أنواع جديدة، وغزل جديد، والكتب المؤلفة في الأدب تصف حياة اجتماعية جديدة، وهكذا. •••
وكما كان هناك خطأ ووضع في اللغة كان كذلك في الأدب، بل الباعث في الثاني أقوى منه في الأول، فالولاة الأمراء يعجبهم الشعر اللطيف، والقصص الغريب أكثر مما يعجبهم اللفظ، والتزيد من القصائد لفخر قبيلة أو ذمها، والنوادر في القصص تسترعي الأسماع، والحكايات لإعلاء شأن فرد أو قبيلة، والتوسع في المثالب والمناقب؛ كل هذا يجد مجالا في الأدب أكثر مما يجد في اللغة. وقد كان هؤلاء الوضاع من العرب أحيانا ومن العلماء أحيانا: «تكاذب أعرابيان؛ فقال أحدهما: خرجت مرة على فرس لي، فإذا أنا بظلمة شديدة، فيممتها حتى وصلت إليها، فإذا قطعة من الليل لم تنتبه، فما زلت أحمل عليها بفرسي حتى نبهتها فانجابت! فقال الآخر: لقد رميت ظبيا مرة بسهم، فعدل الظبي يمنة فعدل السهم خلفه، فتياسر الظبي فتياسر السهم، ثم علا الظبي فعلا السهم، ثم انحدر فانحدر حتى أخذه!» قال التوزي: سألت أبا عبيدة عن مثل هذه الأخبار من أخبار العرب، فقال: إن العجم تكذب أيضا، فتقول: كان رجل نصفه من نحاس، ونصفه من رصاص! فتعارضها العرب بهذا وما أشبهه.
33
وقد عقد الثعالبي في كتابه فقه اللغة فصلا في خرافات العرب، فوضعوا اسم الخس لمن يتولد بين الإنس والجنية، والغملوق بين الآدمي والسعلاة، والعلبان بين الآدمي والملك. ومن ذلك ما زعموا أن جرهما كانوا من نتاج حدث بين الملائكة والإنس، وأن بلقيس ملكة سبأ كانت من مثل ذلك النجل، وأن يأجوج ومأجوج هم نتاج ما بين النبات وبعض الحيوان ... إلخ.
34
واشتهر بالوضع من العلماء؛ حماد الراوية، وخلف الأحمر، وهشام بن الكلبي النسابة، وغيرهم، فهؤلاء ملئوا كتب الأدب العربي قصصا، وقصائد وأخبارا وأنسابا لم يتحروا فيها الحق والصدق، فحماد روى كثيرا من أخبار الجاهلية وشعر الإسلاميين، وحروب القبائل، وروى المعلقات السبع، وكان له من المقدرة ما يستطيع بها أن يقلد الشعراء الأولين، ويعمي بها على الناس. روى الأغاني: «أنه اجتمع في دار المهدي بعيساباذ، وقد اجتمع فيها عدة من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها، إذ خرج بعض أصحاب الحاجب، فدعا بالمفضل الضبي الراوية، فدخل فمكث مليا، ثم خرج إلينا ومعه حماد والمفضل جميعا، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ثم خرج حسين الخادم معهما، فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم؛ إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألفا لصدقه وصحة روايته؛ فمن أراد أن يسمع شعرا جيدا محدثا فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل.»
35
وخلف الأحمر يقول: «أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر فبخلوا علي به فكنت أعطيهم المنحول، وآخذ الصحيح، ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم! أنا تائب إلى الله، هذا الشعر لي، فلم يقبلوا مني، فبقي منسوبا إلى العرب لهذا السبب.»
36
وابن الكلبي كان عالما بالنسب، وأخبار العرب وأيامه ووقائعها، مكثرا في التصانيف، تزيد تآليفه على مائة وخمسين مصنفا، عدها ابن النديم في الفهرست. وقد قال فيه أحمد بن حنبل: كان صاحب سير ونسب، ما ظننت أن أحدا يحدث عنه.» وقال الدارقطني: «هشام متروك وقال غيره ليس بثقة.»
37
هؤلاء الوضاعون أفسدوا العلم والرواية، وأجهدوا الثقات من العلماء بنقد ما رووا؛ يتبينون صحيحه من فاسده، فوفقوا أحيانا، ولم يوفقوا أحيانا، لأن قولهم فشا في الناس، وتفرق في البلاد، وتساهل الناس في الأدب والأخبار ما لم يتساهلوا في الحديث. •••
كان نتاج الأمة العربية اللغوي والأدبي في هذه القرون الثلاثة (أعني قرنا ونصفا قبل البعثة وقرنا ونصفا بعدها) نتاجا عظيما، ولكن نتاجها لا في فلسفة ولا في علوم رياضية ونحوها، بل نتاج أدبي، وليس محررا في كتب كالتي دونها الفرس واليونان، وإنما هو شفوي إلا في القليل النادر، يتناقله جيل عن جيل، والذاكرة لا تعي كما يعي الكتاب، فدخل على هذه الثروة نقص وتزيد وتغيير وتبديل. ولكنها على العموم ثروة كبيرة وقيمة إذا قورنت بثروة أمة أخرى في مثل هذا الزمن، وفي موقف كموقف الأمة العربية.
وهذه الثروة متعددة النواحي؛ فشعر تدهشك كثرته حتى ليخيل إليك أن كل عربي شاعر، وأن لسانه ينطق بالشعر كما ينطق بالكلام، ثم هو متنوع الأغراض، متنوع الوزن، متنوع المعاني، فكان لنا من امرئ القيس، إلى بشار بن برد دواوين ضخمة لا تجمع كل ما قالوا، ولكن تجمع أقله، أودعوا فيه فخرهم وهجاءهم، وتغنوا فيه بعواطفهم وشعورهم، ووصفوا فيه لوعتهم وحنينهم إلى وطن، ووفاءهم لميت، ووصفوا طبيعة أرضهم، ونباتهم وحيوانهم.
وثروة من الخطب لا تقل شأنا عن الشعر، يستعينون بها في تهييج القبائل في الجاهلية، وفي تنظيم الأحزاب السياسية في الإسلام، ويصلون بها في الجاهلية والإسلام إلى تحقيق أغراضهم، وبث أفكارهم في السلم والحرب، وجمع الكلمة وتفريقها، ولهم الأمثال والحكم، وقد برعوا فيها وأكثروا منها، وقامت لهم مقام الفلسفة لليونان، أمدهم بها كثرة تجاربهم ودقة ملاحظتهم وحسن صياغتهم.
ولهم الأخبار الكثيرة عن أبطالهم في الكرم، وأبطالهم في الحرب، وأبطالهم في الوفاء، وأبطالهم في القيافة والكهانة ... إلخ.
ولهم القصص عن وفودهم وأسواقهم، وحكامهم وفرسانهم، وعدائيهم ولصوصهم، ولهم أساطيرهم وخرافاتهم، وتفاؤلهم وتشاؤمهم وتخيلاتهم.
ولهم الأخبار الطويلة عن أيامهم، وأصنامهم وعباداتهم، وحنفائهم ويهودهم ونصاراهم. •••
ولما جاء الإسلام اتصلت به الثقافة العربية اتصالا وثيقا، حتى كان من الدين التثقف بها، والعلم بلغتها وأخبارها، بل عمل الإسلام عملا كبيرا في رقيها وتقنينها؛ ذلك أن القرآن الكريم والحديث عربيان، ومن حسن الإسلام تعلم لغته، فكان الإسلام أكبر البواعث على نشر هذه الثقافة والعناية بها. دخل اللحن في العربية، فخاف المسلمون على القرآن أن يتسرب إليه لحن فوضعوا النحو، وحملهم وضع النحو على مشافهة الأعراب، والأخذ عنهم، حتى يصلوا إلى قاعدة في الرفع والنصب والجر والجزم يضعونها، وكانت حركة عنيفة ومجهودا كبيرا توج بكتاب سيبويه، وما كان يكون لولا القرآن،
38
ووردت في القرآن والحديث ألفاظ لغوية، فضربوا أكباد الإبل إلى البادية يستفسرون عن لفظ، أو يقفون على تعبير، ودعاهم ذلك إلى حفظ الأشعار، ففيها أحيانا ما يفسر لفظا قرآنيا، أو يساعد على فهم تعبير قرآني، فأكثروا من رواية اللغة والأشعار لذلك، ودققوا فيها وتحروا الموضوع من الصحيح، وما كان يبذل هذا الجهد، وذلك التحري لولا ما وراءه من باعث ديني.
39
وعنوا بلهجات العرب، وكيف تنطق تميم وقريش، ومن الذي يميل ومن لا يميل، ومن يبدل ومن لا يبدل؛ لتفهم قراءات القرآن، كما عنوا بالمعرب والأصيل لما في القرآن من معرب وأصيل.
بل جد بعض العلماء بعد في البلاغة، يضعون لها القواعد، ويستنتجون القوانين تفهما لمواضع الإعجاز في القرآن، وتذوقا لبلاغته.
40
وهكذا كان القرآن منبعا لثقافة روحية وعقلية، سنبينها بعد. وكان منبعا لثقافة عربية وعلمية، أشرنا إليها الآن. •••
وغنيت الثقافة العربية في الإسلام بما كان فيه من أحداث، فسيرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأخبار الخلفاء، والغزوات والفتوح، وما تخللها من شعر وأدب وقصص، وما كان يفد على الخلفاء والولاة من شعراء، وما كانوا يقولون، وما تكون من مذاهب دينية من خوارج وشيعة ومرجئة ومعتزلة، وما كان لذلك من أدب، وما كان من أحزاب سياسية وانحياز الشعراء والخطباء إلى هذه الأحزاب.
كل هذا كان ثقافة عربية، يتثقف بها من كانوا عربا في أصلهم، ومن كانوا فرسا أو روما أو يونانيين، وعلى الجملة من كانوا في المملكة الإسلامية، وخاصة من أسلموا وتعلموا، وما كان ينبغ النابغ إلا إذا عرفها، وأحاط بطرف منها، فكانت بذلك عنصرا من عناصر الثقافة العامة في ذلك العصر. •••
هجم العلماء - في عصرنا الذي نؤرخه - من عرب وموال على هذه الثقافة يبحثون عنها من نواحيها المتعددة، ويرحلون إلى البادية أحيانا، وإلى الأمصار أحيانا، ويسمعون للرجال والنساء والصبيان، والخاصة والعامة، حتى اختلفوا؛ هل يأخذون اللغة عن المجنون أو لا، يدخلون على المرأة في خبائها، وعلى راعي الإبل في مرعاه، أبو حاتم يسأل أم الهيثم، والأصمعي يقول: سمعت سبية يتراجزون، والجاحظ يروي عن عبد أسود لبني أسد. والواقدي يروي عن فاطمة بنت المنذر زوجة هشام بن عروة. وكان أهم عمل لهؤلاء تحويل الثقافة العربية من ثقافة لسانية شفهية في الغالب إلى ثقافة كتابية تحريرية، وكانت هذه هي الخطوة الأولى ليتناول العلماء بعد ما جمع ينقحونه، ويميزون خطأه من صوابه، ويضعون له القواعد.
وكان هؤلاء العلماء فرقا، كل فرقة يغلب عليها الميل إلى ناحية من نواحي هذه الثقافة؛ فالخليل بن أحمد وأبو زيد الأنصاري والأصمعي وأمثالهم غلب عليهم مفردات اللغة وجمعها والبدء بتبويبها. والمفضل الضبي وخلف الأحمر وحماد الراوية وغيرهم غلب عليهم جمع القصائد والأشعار والأمثال، وما إلى ذلك. ومحمد بن إسحاق والواقدي وأبو محنف والهيثم بن عدي والمدائني مالوا إلى تدوين الروايات عن الأحداث التاريخية؛ كفتوح الشام، وفتوح العراق، ووقعة الجمل، ووقعة صفين، ونحو ذلك، وفي أخبار النبي
صلى الله عليه وسلم
وكتبه إلى الملوك والمغازي، وأسماء المنافقين، والوفود. وابن الكلبي وأمثاله عنوا بالأنساب وما يتبعها من بيوتات ومنافرات وموءودات، وفي أخبار الأوائل من عاد الأولى والآخرة، والمعمرين والأصنام والقداح، وأيام العرب وأسمارهم ... إلخ. •••
وبعد، فإذا حاولنا أن نختار من يمثل هذه الثقافة العربية بفروعها، فلسنا نختار الأصمعي وما بين أيدينا من كتبه؛ فليست تمثل إلا الناحية اللغوية، ولا المفضل الضبي وكتابيه المفضليات والأمثال؛ فهما لا يمثلان إلا الناحية الأدبية، ولا كتب الجاحظ وابن قتيبة؛ فإنها تمثل نوعا آخر من الثقافة سيأتي بيانه، إنما الذي يمثل الثقافة العربية هو «المبرد» وكتابه الكامل أولا، ثم أمالي القالي ثانيا. وليست الأمالي مما ألف في عصرنا، فلندعها الآن ونجتزئ بالمبرد والكامل، وإن كان قد عاش زمنا في عصرنا، وزمنا في العصر الذي بعده، وقد اخترنا الكامل لأنه خير كتاب وصل إلينا من تراث ذلك العصر، يمثل شيئين هامين؛ يمثل الثقافة العربية في عناصرها المختلفة، ويمثل طريقة تعلم المعلمين في ذلك العصر لتلك الثقافة ومنهج التأليف فيها.
المبرد والكامل
كذلك لا نطيل في ترجمة المبرد، فالذي يهمنا كتابه.
هو محمد بن يزيد، عربي الأصل من قبيلة ثمالة، وثمالة من الأزد، والأزد من قحطان؛ فهو من عرب اليمن. وكان للأزديين أثر كبير في الدولة الأموية،أعانوا زياد بن أبيه وابنه من بعده، وتحالفوا مع ربيعة يناهضون حلفا آخر هو حلف تميم وقيس، ووقفوا بجانب المهلب بن أبي صفرة، وهو أزدي كذلك، يحاربون الخوارج.
ولد المبرد بالبصرة سنة 210، وأخذ العلم عن الجرمي والمازني، «وكان إمام العربية ببغداد، وإليه انتهى علمها، وكان حسن المحاضرة فصيحا بليغا مليح الأخبار، ثقة فيما يرويه كثيرا لنوادر، فيه ظرافة ولباقة.»
41
وكان يتنازع رياسة العلم في بغداد هو وثعلب، ومن أسباب نزاعهما اختلاف مدرستهما، فالمبرد بصري تعلم على المذهب البصري وطريقته، وثعلب كوفي تعلم على المذهب الكوفي وطريقته، وبينهما اختلاف كبير في النحو والصرف واللغة، وما يقاس عليه وما لايقاس ... إلخ. وقد ظفر المبرد بثعلب؛ لأن المبرد كان حسن العبارة حلو الإشارة، فصيح اللسان، ظاهر البيان، وثعلب متحفظ منكمش ليس في لباقة المبرد وفصاحته، وكان المبرد يحب الاجتماع بثعلب للمناظرة، وثعلب يراوغ.
كان يحفظ كثيرا من اللغة وغريبها، وأحفظ الناس في عصره للأخبار، واسع الاطلاع في النحو، وكان لا يعنى بالأسانيد فيما يروي من لغة وأدب كما يعنى غيره من علماء عصره. وقد ألف كتبا كثيرة في فروع الثقافة العربية المختلفة. ألف في النحو «المقتضب» وغيره، وألف في إعراب القرآن، وفي قواعد الشعر وضروب الشعر، وشرح كلام العرب وتخليص ألفاظها، وفي قحطان وعدنان ... إلخ.
42
وأهم كتبه الكامل، وقد مات ببغداد سنة 285 في خلافة المعتضد.
كتاب الكامل
المبرد مسلم عربي، أزدي يماني، وهو لغوي نحوي، وهو لبق ظريف، وهو لم يثقف بغير الثقافة العربية على ما يظهر. كان لكل كلمة من هذه الكلمات لون في كتابه الكامل؛ فهو صورة تامة لكل ما ذكرنا.
قال في صدر الكتاب: «هذا كتاب ألفناه يجمع ضروبا من الآداب؛ ما بين كلام منثور، وشعر مرصوف، ومثل سائر، وموعظة بالغة، واختيار من خطبة شريفة، ورسالة بليغة، والنية فيه أن نفسر كل ما وقع في هذا الكتاب من كلام غريب أو معنى مستغلق، وأن نشرح ما يعرض فيه من الإعراب شرحا شافيا، حتى يكون هذا الكتاب بنفسه مكتفيا، وعن أن يرجع إلى أحد في تفسيره مستغنيا.» ويقول في صدر باب من أبوابه: «نذكر في هذا الباب من كل شيء؛ لتكون فيه استراحة للقارئ، وانتقال ينفي الملل، لحسن موقع الاستطراف، ونخلط ما فيه من الجد بشيء يسير من الهزل ليستريح إليه القلب وتسكن إليه النفس.»
43
فالكاتب تغلب في مختاراته الناحية التي تبعث السرور والفرح والضحك، إلا قليلا من ذكر الموت والرثاء.
اختار فيه من أحاديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ومن أقوال الصحابة، والتابعين؛ مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعمر بن عبد العزيز، ومن أمثال الحكماء كأكثم بن صيفي في الجاهلية، والأحنف بن قيس في الإسلام، وشعرا كثيرا من الشعر الجاهلي وصدر الإسلام، وقليلا من شعر المحدثين، وأدبا لحوادث تاريخية ومذاهب دينية كأدب الخوارج، والكتب التي دارت بين أبي جعفر المنصور، ومحمد بن عبد الله بن حسن العلوي.
أكثر ما يعجبه ما جمع بين الأشياء ثلاثة؛ معنى جيد، في التعبير عنه شيء من غريب اللغة، وشيء من مسائل النحو أو مشكلاته. يورد ما اختار، ثم يعنى بشرح ما فيه من لغة ونحو. ويورد قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يمدح الأنصار: «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع.» فلا يتعرض إلا لكلمة الفزع ومعانيها المختلفة، ويستشهد على كل معنى، وإذا ورد في الاستشهاد كلمة لغوية أو نحوية شرحها.
يعنون كل بضع مختارات بكلمة «باب»، ومن العسير في كثير من الأحيان أن نفرق بين باب وآخر، وتدرك أن هذا الباب وحدة مستقلة تجمع مختارات ذات صبغة خاصة، تخالف ما في الباب الآخر، اللهم إلا في القليل النادر كباب الخوارج، حتى ليخيل إلينا أن كلمة «باب» يستعملها في معنى «درس»؛ فكأنه يعنون كل درس أو جملة دروس بباب، والدرس أو الدرس تكون حيثما اتفق له، لا يتقيد فيها إلا بأنها مختار فيه أدب، وفيه لغة وفيه نحو.
والكتاب يمثل الثقافة العربية في جميع نواحيها؛ فهو يختار من الحديث ومن أقوال الصحابة، مثل كلمة أبي بكر في مرض موته، ورسالة عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري، وكتاب عثمان إلى علي بن أبي طالب حين أحيط به، وكلمة علي حين بلغه أن خيلا لمعاوية وردت الأنبار، وقتلوا عامله حسان بن حسان، ثم يذكر بابا يعنى فيه بما كان من كلام العرب مختصرا مفهما، بين اللفظ حسن الوصف، جميل الرصف كقول الحطيئة:
وذاك فتى إن تأته في صنيعة
إلى ماله لا تأته بشفيع
وقول عنترة:
يخبرك من شهد الوقيعة أنني
أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ويقارن بين ما ورد لبعض العرب؛ من ضرورة قبيحة، وألفاظ مستهجنة، وبين ما هو أوضح لفظا وأبين معنى، ثم ينتقل إلى نبذة من كلام الحكماء فينقل عن ابن عمر أنه كان يقول: «إنا كنا معشر قريش نعد الجود والحلم السؤدد، ونعد العفاف وإصلاح المال المروءة. وينقل عن الأحنف بن قيس قوله: كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزح تذهب المروءة، ومن لزم شيئا عرف به.» ثم يسترسل في ذلك فينتقل عن عبد الملك بن مروان، و أبى سفيان ومعاوية، ثم ينتقل إلى شعر لرجل يهجو بلال بن البعير المحاربي، ولأبي الطمحان يمدح بجير بن إياس، وآخر ينفي نسب آخرين ... إلخ. ويعقد بابا ثالثا، يذكر فيه نبذا من حكم العرب لمعاوية والأحنف بن قيس، ثم بابا رابعا يذكر فيه مختارا لرجل من بني سعد يرثي رجلا، ولحضرمي ابن عامر، وقد غبط بميراث ورثه من أحد أهله، وانتقل فجأة إلى قول جميل يشبب فيه ببثينة، ثم لأمية بن أبي الصلت في الغناء، ثم للهيثم بن الربيع في الغزل، ويأتي بعد ذلك باب خامس فيه نبذ من كلام حكماء العرب.
وعلى هذا النحو كل الكتاب؛ يتعرض في بعض فصوله لما قال العرب في الخمر، وما قالوه في السؤدد، وما قال جرير والفرزدق في الفخر، ووعظ الوعاظ أمثال عمر بن عبد العزيز وعلي بن أبي طالب، وينقل مختارا في مجالس العرب؛ فينقل عن الأحنف بن قيس وقد سئل: أي المجالس أطيب؟ وعن المهلب بن أبي صفرة، وقد قيل له: ما خير المجالس؟ وعن ابن عباس في الجليس، ويذكر نبذة من أمثال العرب؛ مثل: لم يذهب من مالك ما وعظك، ورب عجلة تهب ريثا، وأن ترد الماء بماء أكيس. ويذكر ما قاله بعض العرب في الرثاء، وما قالوه في اللغة والعيش الرغد، ويعرض لطرف مما دار من الكلام الحسن في الحروب الإسلامية الأولى كوقعة الجمل، وما كان بين الحكمين، ويذكر طرفا من الخطب المختارة؛ كخطبة زياد والحجاج، ثم الغزل وطرائفه، فأعرابي يشكو حبيبته، وعمر بن أبي ربيعة في النحافة، وأقوال في دهاء العرب وحلمهم وكرمهم وشجاعتهم، وما بينهم من مدح وهجاء، وعدائيهم ولصوصهم وتكاذيبهم، ونوادر الأعراب في زواجهم وطلاقهم، وطول لحية وقصرها، وبعض طرائف العشاق، وتهاجي القبائل. ثم ما ورد من العرب في الوصف؛ في وصف جمل وحمار وحمامة وحاد، ثم باب طويل في أخبار الخوارج، وحروبهم وعقائدهم وخطبهم وأشعارهم ونوادرهم. وبين هذا وذاك أبواب علمية، بعضها نحوي؛ مثل «باب ما يجوز فيه يفعل فيما ماضيه فعل مفتوح العين»، وبعضها بلاغي؛ مثل باب في التشبيه.
هذه نظرة الطائر إلى كتاب الكامل، أردنا بها أن نستدل على أن الكتاب يمثل الثقافة العربية، ونتبين منها الاتجاهات المختلفة التي اتجهتها هذه الثقافة، وعلى أن أنظار المعلمين في ذلك العصر كانت أنظارا فردية لمسائل فردية، فالموضوع الواحد كالسؤدد عند العرب، مفرق في ثنايا الكتاب من أوله إلى آخره، لا يجمع الباب ولا الكتاب، إلا أنه مختار فيه معنى جميل أيا كان، وفيه لغة ونحو، فأما أن تكون أبيات المديح في جانب، والذم والرثاء ونحو ذلك في موضع واحد؛ فليس هذا شأن الكتاب، ولا شأن معلمي ذلك العصر.
قلنا إن المبرد على ما يظهر لم يثقف الا الثقافة العربية، وذلك واضح في كتابه، فلم يتعرض لغيرهم إلا قليلا نادرا، لقد نقل عن بزرجمهر وأردشير ولكن في مواطن معدودة، وورد فيه كلام عن الموالي ولكن نظره إليهم نظر عربي، وقص ما كان بين عبد الله بن عبد الأعلى وأليون ملك الروم، وقد أرسل عمر بن عبد العزيز إليه يدعوه إلى الإسلام. وقص ما كان بين الشعبي وملك الروم، وقص ما كان من استئذان ملك الروم معاوية في أن يغالبه، فبعث إليه ملك الروم برجلين أحدهما طويل، والآخر قوي جسيم ... إلخ، ولكن هذه أمور لا تدل على ثقافة أجنبية لأنها حوادث متصلة بالمسلمين العرب، وقد رواها المبرد ما نقلت إليه عن العرب.
وقلنا إن المبرد عربي أزدي يماني، وكتاب الكامل يمثل هذا النوع من العصبية القبلية تمثيلا صحيحا، فهو يتعصب للأزد ولليمانيين، ويروي الكثير من الصحيح والسقيم لإعلاء شأنهم، فهو يعقد بابا يعنونه «باب ذكر الأذواء من اليمن في الإسلام»، فيذكر فيه الأذواء في الجاهلية، كذي كلاع وذي نواس وذي رعين، وفي الإسلام كخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، ويذكر خبرا عمن كان بينه وبين الملائكة سبب من اليمانية، فسعد بن معاذ الأنصاري هبط لموته سبعون ألف ملك لم يهبطوا إلى الأرض قبلها. وحنظلة بن أبي عامر الأنصاري غسلته الملائكة ... إلخ. هذا في آخر الكتاب وأما في أوله فيختار قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في الأنصار: «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع» ، والأنصار من الأوس والخزرج (وهما قبيلتان يمانيتان أزديتان) في قول النسابين، ويختار قول أبي بكر في المهاجرين: «ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي، إني وليت أموركم خيركم فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه.» ويختار الكلام في الخوارج ويطيل لسببين على ما يظهر: (1)
فهو يعارض الجاحظ، وقد ذكر في كتابه الشعوبية. والشعوبية حركة أعجمية تناهض العرب، والخوارج أكثرهم عرب خلص، لهم أدب عربي. (2)
والذي قاتل الخوارج المهلب بن أبي صفرة وبنوه، وهو أزدي كالمبرد، وكان يعاونه الأزديون؛ قبيلة المبرد، فالإشادة بالتنكيل بالخوارج إشادة بقبيلته. وهو في كتاب الكامل يعلي شأن المهلب ويتأول له: «لقد رمي المهلب بالكذب حتى في حديث رسول الله» فهو يذكر أنه إنما كذب في الحرب، والحرب خدعة، والكذب في الحرب جائز. والكتاب مملوء بالأخبار التي تعظم آل المهلب وترفع من شأنهم، ويروي في أخبار الخوارج قول أعشى همدان:
إن المكارم أكملت أسبابها
لابن الليوث الغر من قحطان
للفارس الحامي الحقيقة معلما
زاد الرفاق إلى قرى نجران
الحارث بن عميرة الليث الذي
يحمي العراق إلى قرى كومان
ود الأزارق لو يصاب بطعنة
ويموت من فرسانهم مائتان
44
ويروي المبرد عن علي أنه قال: «للأزد أربع ليست لحي؛ بذل لما ملكت أيديهم، ومنع لحوزتهم، وحي عمارة لا يحتاجون إلى غيرهم، وشجعان لا يجبنون.»
45 •••
وبعد، فإن كانت الثقافة الفارسية تمثل حياة كسروية فيها مدينة معقدة ونظم مركبة، وفيها مرافق المدنية الممعنة في الحضارة، وفيها محاسن المدنية ومساويها. فالثقافة العربية تمثل حياة بسيطة سهلة لا تركب فيها ولا التواء، فيها بساطة العيش، وفيها بساطة القول. وفيها محاسن البادية ومساوئها، كما تمثل قوما عاشوا في جاهليتهم في نزاع قبلي، يفخرون ويمدحون ويهجون، ويدينون بالأصنام، ثم يجمعهم دين واحد هو الإسلام فيرفع من نفسيتهم وعقليتهم، ويأخذون في حياة فيها أثر للقديم، من عصبية قبلية ونحوها، وفيها كثير من جديد؛ فتوحيد وتقوى، وخوف من الله وعذابه ورغبة في ثوابه، وفيها شعور بعزة الفاتح وسلطان الحاكم، وفيها اعتداد بأنفسهم، وخاصة من ناحيتين: لسانهم وسيفهم، واعتماد على غيرهم في مرافق مدنية دربوها ومرنوا عليها.
ولئن كانت الثقافة الفارسية دونت من قديم وتعاورها التلف والتجديد، وادخرت في كتب سلم منها شيء إلى العهد الإسلامي، فالثقافة العربية كانت كلها في جاهليتها ثقافة شفوية تعتمد على الذاكرة والرواية، وفي الإسلام إنما عني بتدوين القرآن وبعض الحديث. فأما الأدب واللغة فظل أغلبهما كما كان الحال في الشعر الجاهلي والأدب الجاهلي، يتناقل من طريق الحفظ والرواية، حتى كان آخر الدولة الأموية وأول العباسية فأخذ العلماء في تدوينه.
ولئن كانت الثقافة اليونانية قد مرت بالأدوار الطبيعية للعلم؛ من بحث في مسائل متفرقة، فتنظيم وتبويب، وجمع للمسائل المتشابهة وقواعدها في باب واحد، ووصلت إلى المسلمين بعد أن هذبها المنطق، ورتبتها الأجيال المتعاقبة من فلاسفة اليونان، فالثقافة العربية في عصرنا الذي نؤرخه من لغة وأدب وتاريخ ونحوها كانت في أول دورها من حيث الترتيب والتبويب؛ فنرى الفوضى في كتب اللغة المؤلفة في ذلك العصر، كما رأينا في كتاب الكامل، ولم تجتز الثقافة العربية هذا الدور إلا بعد أن انتهى عصرنا أو كاد.
ومهما يكن من شيء فالثقافة العربية كانت ركنا من أركان الثقافات في ذلك العصر، وعنصرا هاما من عناصرها، لا تقل عن غيرها من العناصر، إن لم تزد عليها، لأن لسانها لسان الحاكمين، ولغتها لغة الدين.
الفصل الحادي عشر
الثقافات الدينية
اليهودية والنصرانية والإسلام
بجانب هذه الثقافات المدنية - إن صح هذا التعبير - ثقافات أخرى روحية، تنشرها الأديان المختلفة، وأهمها الإسلام والنصرانية واليهودية.
اليهودية والنصرانية
يقول الأستاذ «متز»: «إن مما يميز المملكة الإسلامية عن أوروبا النصرانية في القرون الوسطى؛ أن الأولى يسكنها عدد كبير من معتنقي الأديان الأخرى غير الإسلام، وليست كذلك الثانية، وأن الكنائس والبيع ظلت في المملكة الإسلامية، كأنها خارجة عن سلطان الحكومة، وكلها لا تكون جزءا من المملكة، معتمدة في ذلك على العهود وما أكسبتهم من حقوق، وقضت الضرورة أن يعيش اليهود والنصارى بجانب المسلمين، فأعان ذلك على خلق جو من التسامح لا تعرفه أوروبا في القرون الوسطى. كان اليهودي أو النصراني حرا أن يدين بدينه، ولكنه إن أسلم ثم ارتد عوقب بالقتل. وفي المملكة البيزنطية كان عقاب من أسلم القتل.»
1
كانت الكنيسة تحرم على النصراني أن يتزوج غير نصرانية إلا إذا تنصرت، وكذلك النصرانية لا تتزوج إلا نصرانيا. أما الإسلام فقد حرم على المرأة المسلمة أن تتزوج غير مسلم، وأحل للرجل المسلم أن يتزوج كتابية؛ يهودية أو نصرانية، وإن بقيت على دينها لقوله تعالى
اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب
فكان كثير من المسلمين يتزوجون يهوديات أو نصرانيات، ومنهن من تسلم، ومنهن من تبقى على دينها، وكان هذا سببا من أسباب اتصال المسلمين باليهود والنصارى.
وقد كان بين الحنفية والشافعية خلاف شديد في قتل المسلم بالكافر، فكان الحنفية يرون أن المسلم إذا قتل ذميا قتل به، وخالفهم في ذلك الشافعي. وكان بين الفريقين جدال وحجاج، تراه مبسوطا في كتب الفقه. وكان مما احتج به الحنفية: أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب لما قتل أبوه اتهم في الاشتراك في تدبير قتل «جفينة» وكان نصرانيا، فذهب إليه عبيد الله وقتله، ولما علاه بالسيف صلب بين عينيه، فلما استخلف عثمان بن عفان دعا المهاجرين والأنصار. فقال: أشيروا علي في قتل هذا الرجل (يعني عبيد الله بن عمر)، فتق في الدين ما فتق. فاجتمع المهاجرون والأنصار فيه على كلمة واحدة، يأمرونه بالشدة عليه، ويحثونه على قتله؛ فإشارة المهاجرين والأنصار دليل على أن المسلم يقتل بالذمي، ولم يفعل عثمان ذلك؛ لأن عمرو بن العاص أشار عليه بألا يفعل؛ لأن الحادثة كانت قبل أن يتولى عثمان ويكون له على الناس سلطان،
2 ... إلخ.
وقد وقع في أيام أبي يوسف القاضي؛ أن مسلما قتل كافرا، فحكم على المسلم بالقود، فقال أحد الشعراء:
يا قاتل المسلم بالكافر
جرت وما العادل كالجائر
يا من ببغداد وأطرافها
من علماء الناس أو شاعر
استرجعوا وابكوا على دينكم
واصطبروا فالأجر للصابر
جار على الدين أبو يوسف
بقتله المؤمن بالكافر
وخاف الرشيد الفتنة؛ فأمر أبا يوسف أن يتدارك الأمر بحيلة لئلا تكون فتنة، فطالب أبا يوسف أصحاب الدم ببينة على الذمة
3
وثبوتها، فلم يأتوا فأسقط القود.
4
وكان الشافعي يرى أن القود لا بد فيه من تساوي القاتل والمقتول في الحرية والإسلام، فإن فضل القاتل المقتول بحرية أو إسلام، فقتل حر عبدا، أو مسلم كافرا فلا قود عليه.
وكان الشافعي يرى أنه يصح أن يشترك أهل الذمة من يهود ونصارى في الحروب مع المسلمين (أي أن يجندوا في الجيش الإسلامي) إذا رأى الإمام ذلك، واستدل بأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
استعان في غزاة خيبر بعدد من يهود بني قينقاع كانوا أشداء، واستعان في غزاة حنين بصفوان بن أمية وهو مشرك، فلا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين، إذا خرجوا طوعا، ويرضخ لهم ولا يسهم لهم.
5
ولسنا نتعرض هنا لعلاقة اليهود والنصارى بالحكومة الإسلامية من حيث الضرائب، وعلاقتهم برؤسائهم، وعلاقة الرؤساء بالخلفاء، ومدى استقلالهم، والمقارنة بين حال النصارى في المملكة الإسلامية ، والمسلمين في الممالك النصرانية، وكيف كان اليهود والنصارى يتقاضون في الأصقاع الإسلامية، وعلاقتهم بالقضاة المسلمين، ونحو ذلك من الشئون، فهذا بالتاريخ السياسي أشبه، وإنما غرضنا هنا شرح ما كان لهم من أثر في الثقافة.
كان اليهود والنصارى منتشرين في المملكة الإسلامية، وكانوا عددا كبيرا؛ فقد ذكر بنيامين (أحد الرحالة اليهود الذين رحلوا سنة 1165م؛ أي نحو سنة 560 هجرية) أن «عدد اليهود في المملكة الإسلامية غير العرب، كانوا نحو ثلاثمائة ألف»، وكانوا منتشرين على نهر دجلة والفرات، وفي جزيرة ابن عمر والموصل وعكبرة وواسط، وفي بغداد والحلة، والكوفة والبصرة، وفي كثير من بلاد فارس، في همذان وأصفهان وشيراز، وكانوا في غزنة وسمرقند، وكان في فارس بلدتان تسمى كل منهما «اليهودية»، إحداهما بجرجان، والأخرى بأصبهان. وكان ببغداد إذ ذاك نحو ألف يهودي، وكان فيها درب يسمى درب اليهود، نسب إليه قوم من المحدثين؛ منهم أبو محمد عبد الله بن عبيد الله بن يحيى اليهودي.
6
وفي أوائل القرن الثالث الهجري كان يجبى من الجزية من أهل بغداد مائة وثلاثون ألف درهم، وفي أوائل القرن الرابع كان يجبى منهم ستة عشر ألف دينار. والعددان يدلان على أن من كان ببغداد إذ ذاك من غير المسلمين ممن يدفع الجزية نحو خمسة عشر ألفا.
7
ويقول ابن حوقل: إن النصارى في مدينة الرها وتكريت أكثر عددا.
وكان أغلب الماليين في الشام يهودا، وأغلب أطباء القصور في بغداد نصارى، واشتهر اليهود باحترافهم حرفا خاصة، كالصيرفة ودباغة الجلود والصباغة.
8
وقال الجاحظ: «إن النصارى اتخذوا البراذين الشهرية، والخيل العتاق، واتخذوا الجوقات، وضربوا بالصوالجة، وتحدقوا المدبنى، ولبسوا الملحم والمطبقة، واتخذوا الشاكرية، وتسموا بالحسن والحسين والعباس والفضل وعلي.»
9
على كل حال كان بين المسلمين كثير من أهل الأديان الأخرى، وخاصة اليهود والنصارى، وقد خالطهم المسلمون، بل اتخذوا منهم أصدقاء. قال الجاحظ: أنشدنا أبو صالح مسعود بن قنديل الفزاري في ناس خالطهم من اليهود:
وجدنا في اليهود رجال صدق
على ما كان من دين مريب
لعمرك إنني وابني غريض
لمثل الماء خالطه الحليب
خليلان اكتسبتهما، وإني
لخلة ماجد أبدا كسوب
وقال أبو الطمحان الأسدي (وكان نديما لناس من بني الحداء، وكانوا نصارى فأحمد ندامتهم) فقال:
كأن لم يكن في القصر مقاتل
وزورة ظل ناعم وصديق
ولم أرد البطحاء أمزج ماءه
بخمر من البروقتين عتيق
معي كل فضفاض الثياب كأنه
إذا ما جرى فيه المدام فتيق
بنو الصلب والحداء كل سميدع
له في العروق الصالحات عروق
وإني وإن كانوا نصارى أحبهم
ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق
10
ويقول أبو نواس:
سألت أخي أبا عيسى
وجبريل له عقل
11
فقلت: الراح تعجبني
فقال كثيرها قتل
رأيت طبائع الإنسا
ن أربعة هي الأصل
فأربعة لأربعة
لكل طبيعة رطل
وبعد، فقد كان لكل من اليهودية والنصرانية ثقافة، وقد تسرب إلى المسلمين شيء منها، فلنحاول بيان ذلك.
اليهودية
أهم منبع للثقافة اليهودية التوراة، وقد ذكرت في القرآن الكريم، ووصفت بأنها كتاب من كتب الله المنزلة
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ، وورد فيه أن عيسى أتى بعد مصدقا لما في التوراة
وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين . وقد نص القرآن على بعض أحكام وردت في التوراة
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ، وأشير في الأحاديث كذلك إلى التوراة، وذكر فيها بعض أحكامها.
من ذلك ما روى أبو داود عن ابن عمر، قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى القف، فأتاهم في بيت المدراس، فقالوا: يا أبا قاسم، إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم، فوضعوا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
وسادة فجلس عليها، ثم قال: ائتوني بالتوراة فأتى بها، فنزع الوسادة من تحته، ووضع التوراة عليها، ثم قال: «آمنت بك وبمن أنزلك.» ثم قال: «ائتوني بأعلمكم.» فأتي بفتى شاب، ثم ذكر قصة الرجم.
12
وقد اختلفت أنظار المسلمين إلى التوراة على أقوال ثلاثة؛ فقال قوم إنها كلها أو أكثرها مبدلة مغيرة، ليست هي التوراة التي أنزلها الله على موسى، وتعرض هؤلاء لتناقضها، وتكذيب بعضها لبعض.
13
وذهبت طائفة أخرى من أئمة الحديث والفقه والكلام إلى أن التبديل وقع في التأويل لا في التنزيل، وهذا مذهب البخاري، قال في صحيحه:
يحرفون الكلم عن مواضعه
يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله تعالى، ولكنهم يتأولونه على غير تأويله، وهذا هو ما اختاره الرازي في تفسيره. ومن حجة هؤلاء أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، ولا يعلم عدد نسخها إلا الله، ومن الممتنع أن يقع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ؛ بحيث لا يبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة مغيرة، والتغيير على منهاج واحد وهذا ما يحيله العقل ويشهد ببطلانه. قالوا: وقد بين الله تعالى لنبيه عليه السلام محتجا على اليهود بها:
قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ... إلخ. وذهبت طائفة ثالثة إلى أنه قد زيد فيها، وغير ألفاظ يسيرة، ولكن أكثرها باق على ما أنزل عليه، والتبديل في يسير منها جدا. وممن اختار هذا القول ابن تيمية في كتابه «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ومثل لذلك بما جاء فيها: «إن الله سبحانه وتعالى قال لإبراهيم عليه السلام: اذبح ولدك بكرك أو واحدك إسحاق.»، فإسحاق زيادة منهم في لفظ التوراة، لأدلة ذكروها.
14
وكلمة التوراة يستعملها المسلمون كثيرا للدلالة على كل الكتب المقدسة عند اليهود، فتشمل الزبور وغيره، كما يستعملها اليهود أنفسهم أحيانا.
وكان لليهود بجانب ذلك سنن ونصائح وشروح، لم تنقل عن موسى عليه السلام كتابة، وإنما تدوول نقلها شفاها، ونمت على تعاقب الأجيال، ثم دونت بعد، وهذا هو المسمى بالتلمود، والتلمود مختلف فيه فيما بينهم، فمنهم من يقبله وهم طائفة الربانيين، ومنهم من لا يقبله وهم طائفة القرائين.
فأما التوراة بالمعنى الدقيق فخمسة أسفار؛ السفر الأول سفر التكوين أو الخلق، وقد ذكر فيه خلق العالم، وقصة آدم وحواء وأولادهما، ونوح والطوفان، وتبلبل الألسن، ثم قصة إبراهيم عليه السلام وابنه إسحاق وابنيه يعقوب وعيصو، ثم قصة يوسف.
والسفر الثاني يسمى الخروج؛ أي خروج اليهود من مصر، وفيه قصة موسى من ولادته وبعثته، وفرعون وخروج بني إسرائيل من مصر، وصعود موسى الجبل، وإيتاء الله له الألواح.
والسفر الثالث سفر اللاويين (أي الأحبار)، وفيه حكم القربان والطهارة وما يجوز أكله، وغير ذلك من الفرائض والحدود.
والسفر الرابع سفر العدد، بعضه في الشرائع، وبعضه في أخبار موسى وبني إسرائيل في التيه وقصة البقرة.
والسفر الخامس سفر التثنية؛ أي إعادة الناموس.
وفي العهد القديم غير التوراة سفر يوشع وهو في استيلاء بني إسرائيل على فلسطين، ثم سفر القضاة (أي الحكام)، ثم أربعة أسفار الملوك الأول في أخبار شمويل أو سمويل وشاول (أي طالوت)، والثاني في ذكر داود، والثالث والرابع في سليمان بن داود ومن ملك بني إسرائيل من بعده.
وأما التلمود فمجموعة من المناقشات الدينية الأولى، مع شروح لرجال الدين من الأجيال المتعاقبة، فيه القوانين اليهودية من قانون عقوبات وقوانين مدنية، وبعبارة أخرى فيه تحديد العلاقات الدينية والدنيوية. يسجل أفكار اليهود في حياتهم وتقاليدهم في نحو ألف عام، ويمزج مزجا تاما نواحي الشعب الخلقية بنواحيهم الدينية.
وقد جمع التلمود في نحو ثلاثة قرون، ابتدءوا بجمعه في أوائل القرن الرابع للميلاد، وتم في نحو نهاية القرن السادس. ويسمى القسم الأول منه المشنا “Micgna”
وهو مجموعة؛ أحكام استندت على العهد القديم، وقد كتب باللغة العبرية الأولى، والقسم الثاني يسمى الجيمارة “Gemara”
ويتضمن مباحثات لربانيهم - أي فقهائهم - وقد كتب باللغة الآرامية.
وحول هذه الكتب الدينية نسج كثير من الأدب اليهودي والقصص، والتاريخ والتشريع والأساطير.
وكان بين اليهودية والوثنية اليونانية، وبين اليهودية والمسيحية نزاع شديد في الشرق، وخاصة في الإسكندرية (أهم مراكز الثقافة اليونانية)، واضطر كثير من اليهود أن يتعلموا اللغة اليونانية ويتكلموا بها. وكان هذا النزاع في نوع الحياة الاجتماعية وفي الثقافة وفي الدين؛ فاضطر كثير من اليهود أن يبدلوا حياتهم وأنظارهم نحو الحياة اليونانية؛ كانوا يحرمون غشيان معاهد التمثيل التي تمثل فيها روايات يونانية، فنشأ جيل جديد لا يرى في ذلك من بأس، وهكذا. واضطروا أن يأخذوا بحظ من الثقافة اليونانية، وواجهوا مشكلة جديدة، وهي إلى أي حد يقبلون تعاليم اليونان مع الاحتفاظ بأصول اليهودية؟ وكان من أشهر هؤلاء «فيلو» الذي حاول أن يوفق بين المعتقدات الدينية اليهودية، وبين العلم اليوناني، فكان من ذلك يهودية مفلسفة، لا هي يهودية صرفة ولا فلسفة صرفة. اقتبس «فيلو» من أفلاطون والرواقيين، واستعمل المصطلحات الفلسفية، ولكنه استخدم ذلك كله لإحياء العاطفة الدينية، وتذليل الصعاب التي تواجهها اليهودية، وقد انتفعت الكنيسة النصرانية بعد بموقف اليهود إزاء الفلسفة اليهودية؛ لأنهم واجهوا ما واجه اليهود قبلهم.
15
وعلى الجملة، فقد كان لليهود ثقافة دينية وأدبية وتاريخية وقانونية، مزجت بعد بالثقافة اليونانية.
وقديما تسربت الثقافة اليهودية إلى من جاورهم من العرب؛ جاء في الحديث عن ابن عباس: «كان هذا الحي من الأنصار (وهم أهل وثن) مع هذا الحي من اليهود (وهم أهل كتاب)، فكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم، وكانوا يقتدون بكثير من فعلهم.»
16
وكان ذلك قبيل الإسلام كما تدل عليه تتمة الحديث.
وكان بعض المسلمين في العصور الأولى يطلعون على الكتب الأخرى المنزلة ويتلونها، روى ابن سعد في الطبقات أن أبا الجلد واسمه جيلان بن فروة كان يقرأ الكتب، وروي عن ميمونة بنت أبي الجلد قالت: كان أبي يقرأ القرآن في كل سبعة أيام، ويختم التوراة في ستة، يقرؤها نظرا، فإذا كان يوم يختمها حشد لذلك ناس، وكان يقول: كان يقال تنزل عند ختمها الرحمة.
17
وفي الحديث عن أبي هريرة قال: «كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها لأهل الإسلام بالعربية، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا، وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد.»
18
ويروون عن وهب بن منبه انه كان يقول: «لقد قرأت اثنين وتسعين كتابا، كلها أنزلت من السماء، اثنان وسبعون منها في الكنائس، وفي أيدي الناس، وعشرون لا يعلمها إلا قليل.»
19
تسربت هذه الثقافة اليهودية إلى المسلمين من طرق أهمها: من دخل في الإسلام من اليهود، وخاصة مسلمة اليمن؛ ككعب الأحبار، ووهب بن منبه وأمثالهما، وقد دخل في الإسلام من اليهود كثيرون، كان منهم بعض الصحابة وبعض التابعين، وظلوا يتتابعون إلى عصرنا الذي نؤرخه، وكان منهم محدثون ومنهم قصاص ، ومنهم قراء، ومنهم أخباريون، وأشهر من عرفنا في عصرنا هذا ممن أصله يهودي: أبا عبيدة معمر بن المثنى.
والآن نعرض أنواع المعارف التي تأثرت باليهود:
فأول ذلك تفسير القرآن؛ ذلك أن القرآن الكريم والتوراة يتفقان - كما رأيت - في إيراد بعض المسائل، وخاصة في قصص الأنبياء، ولكن للقرآن منحى يخالف منحى التوراة؛ إنه يقتصر على مواضع العظة، ولا يتعرض لتفصيل جزئيات المسائل، فهو لا يذكر - غالبا - تاريخ الوقائع، ولا أسماء البلدان التي حصلت فيها، ولا أسماء الأشخاص الذين جرت على يدهم بعض الحوادث، ولا يدخل في تفاصيل الجزئيات، إنما يتخير ما يمس جوهر الموضوع وموضع العبرة.
لنأخذ لذلك مثلا قصة آدم؛ فقد وردت في القرآن الكريم في مواضع أطولها ما ورد في سورة البقرة منها
وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
فترى من هذا أن القرآن لم يتعرض لمكان الجنة، ولا لنوع الشجرة التي نهى آدم عن الأكل منها، ولا بين الحيوان الذي تقمصه الشيطان ليزلهما، ولا ما كان من تفصيل الحوار بين الله تعالى وآدم، ولا للبقعة التي طرد إليها آدم بعد خروجه من الجنة ... إلخ. ولكن التوراة تعرضت لكل ذلك وأكثر منه، فأبانت أن الجنة في عدن شرقا، وأن الشجرة التي نهيا عنها كانت في وسط الجنة، وأنها شجرة الحياة، وأنها شجرة معرفة الخير والشر ، وأن الذي خاطب حواء هو الحية، وذكرت ما انتقم الله به من الحية التي أغوتهما بأن جعلها تسعى على بطنها وتأكل التراب، وانتقم من حواء بتعبها هي ونسلها فيحبلها ... إلخ، فجاء المفسرون للقرآن ينقلون عن مسلمة اليهود ما جاء في كتبهم، ويضعونه شروحا، فيحكي الطبري مثلا عن وهب بن منبه أن هذه الشجرة كان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، فلما أراد إبليس أن يستزلهما دخل في جوف الحية، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بختية من أحسن دابة خلقها الله، فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته ... إلخ، فلما أكلا قال الله لحواء: يا حواء، أنت التي غررت عبدي فإنك لا تحملين حملا إلا حملته كرها فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارا، وقال للحية: أنت الذي دخل الملعون في جوفك حتى غر عبدي، ملعونة أنت لعنة تتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب ... إلخ. وروي عن ابن عباس نحو هذه القصة.
20
ونقرأ تفسير الطبري على هذه الآيات فيتجلى لك بوضوح أنهم أخذوا ما في التوراة وشروحها، والأخبار التي رويت حولها، ووضعوها تفسيرا لآيات القرآن الكريم. وهم يروون ذلك عن وهب بن منبه تارة، وعن إسرائيل عن أسباط عن السدي مرة أخرى. وهكذا فعلوا في كل ما ورد في القرآن من قصص وردت في التوراة. ولم يكن كل هؤلاء اليهود علماء باليهودية مدققين، بل كان منهم عوام يعرفون كما يقول ابن خلدون ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات.
21
وما زالت هذه الإسرائيليات تكثر وتنمو، حتى امتلأت بها الكتب؛ أمثال قصص الأنبياء للثعلبي.
وعني المسلمون بنقل تاريخ بني إسرائيل وأنبيائهم كما فعل الطبري في تاريخه، وكما فعل ابن قتيبة في كتابه المعارف. وقد أثبت العلم أن كثيرا مما نقل من تاريخ بني إسرائيل غير صحيح؛ مما يدل على أن الروايات التي نقلت كان كثير منها ينقل عن العوام وأشابههم. ونجد ابن قتيبة يقارن بين ما يرويه وهب بن منبه، وبين ما في التوراة، ويبين أحيانا ما بينهما من خلاف.
وكان لليهود أثر غير قليل في بعض المذاهب الإسلامية، فابن الأثير يروي عند الكلام على أحمد بن أبي دواد: «أنه كان داعية إلى القول بخلق القرآن، وغيره من مذاهب المعتزلة، وأخذ ذلك عن بشر المريسي، وأخذ بشر عن الجهم بن صفوان، وأخذه الجهم عن الجعد بن درهم، وأخذه الجعد عن أبان بن سمعان، وأخذه أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم وختنه، وأخذه طالوت عن ختنه، لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان لبيد يقول بخلق التوراة، وأول من صنف في ذلك طالوت، وكان زنديقا فأفشى الزندقة.»
22
وروى صاحب العقد الفريد عن الشعبي أنه قال لمالك بن معاوية: «أحذرك الأهواء المضلة، وشره الرافضة، فإنها يهود هذه الأمة، يبغضون الإسلام كما يبغض اليهود النصرانية. ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله، ولكن مقتا بأهل الإسلام وبغيا عليهم، وقد حرقهم علي بن أبي طالب ... وذلك أن محبة الرافضة محبة اليهود. قالت اليهود لا يكون الملك إلا في آل داود، وقالت الرافضة لا يكون الملك إلا في آل علي بن أبي طالب، وقالت اليهود لا يكون جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح المنتظر وينادي مناد من السماء، وقالت الرافضة: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي وينزل بسبب من السماء.
واليهود يؤخرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم، وكذلك الرافضة، واليهود لا ترى الطلاق الثلاث شيئا، وكذا الرافضة. واليهود لا ترى على النساء عدة، وكذا الرافضة، واليهود تستحل دم كل مسلم، وكذلك الرافضة، واليهود حرفوا التوراة، وكذلك الرافضة حرفت القرآن، واليهود تنتقص جبريل وتقول هو عدونا من الملائكة، وكذلك الرافضة تقول غلط جبريل في الوحي إلى محمد يترك علي بن أبي طالب، واليهود لا تأكل لحم الجزور وكذلك. الرافضة ...» إلخ.
23
واجه اليهود كثيرا من المسائل، وبحثوا عنها، واختلفوا فيها؛ فقد بحثوا في النسخ، وقالوا إن الشريعة لا تكون إلا واحدة، وقد بدأت بموسى وتمت به، فلا يجوز النسخ لأن النسخ في الأوامر بداء ولا يجوز البداء على الله.
وتكلموا في التشبيه؛ لأنهم وجدوا التوراة مملوءة بألفاظ تشعر بالتشبيه مثل الصورة والمشافهة، والتكلم جهرا، والنزول على طور سيناء، والاستواء على العرش، وجواز الرؤية.
وتعرضوا للرجعة (أي رجوع بعض الأفراد إلى الحياة بعد الموت)، وجاءهم ذلك من أن عزيرا أماته الله مائة عام ثم بعثه. وقالوا إنه مات وسيرجع، وقال بعضهم غاب وسيرجع.
24
وهذه الأقوال والخلافات كلها تسربت إلى المسلمين عمن أسلم من اليهود، فرأينا المسلمين يبحثون في جواز النسخ في القرآن، كما بحث اليهود في نسخ التوراة. ويذهب جمهور المسلمين إلى جواز نسخ الحكم دون النص، وإلى أن ذلك وقع فعلا، ويخالف في وقوعه أبو مسلم الأصفهاني. ونرى المسلمين في كتب أصول الفقه (عند الكلام على النسخ) يناقشون اليهود في رأيهم، يجادلونهم ويردون عليهم.
25
مما يؤيد وجهة نظرنا في أن اليهود هم السبب في إثارة هذه المسألة، ورأينا بعض الشيعة يرى البداء الذي أنكره اليهود. وأقدم من قال به المختار بن عبيد الذي كان يدعو لمحمد بن الحنفية. ويقول الشهرستاني: «إنما صار المختار إلى البداء؛ لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال إما بوحي يوحى إليه، وإما برسالة من قبل الإمام، فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة فإن وافق كونه قوله جعله دليلا على صدق دعواه، وإن لم يوافق قال قد بدا لربكم، وكان لا يفرق بين النسخ والبداء فإذا جاز النسخ في الأحكام جاز البداء في الأخبار.»
26
وقد اعتنق كثير من الشيعة مذهب البداء وطبقوه في كثير مسائلهم التاريخية، وقال أحد أئمتهم: «لا يعبد الله بأحسن من القول بالبداء.» لأنه يفتح باب التوبة في طلب العفو من الله، وكان اليهود أقوى المعارضين في البداء.
27
كذلك انتقل إلى المسلمين ما دار بين اليهود في التشبيه؛ فقد وضعت للبحث الآيات القرآنية التي تشعر بذلك، مثل
يد الله فوق أيديهم
الرحمن على العرش استوى
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ... إلخ. وما ورد في الحديث كقوله: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن.» وانقسم المسلمون فيها أقساما؛ فقال قوم من السلف نؤمن بذلك ولا تتعرض للتأويل بعد أن نعلم قطعا أن الله لا يشبه شيئا من المخلوقات، وذهب جماعة من غلاة الشيعة وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية إلى التشبيه، وقالوا إنه يجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار ... إلخ. فحذوا في ذلك حذو اليهود في اختلافهم. ويقول الشهرستاني في الكلام على المشبهة: إنهم أجروا الأحاديث الواردة في ذلك على ما يتعارف في صفات الأجسام، وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها، ونسبوها إلى النبي (عليه السلام) وأكثرها مقتبس، من اليهود، فإن التشبيه فيهم طباع حتى قالوا في الله تعالى اشتكت عيناه فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه، وإن العرش ليئط من تحته كأطيط الرحل الجديد. وروى المشبهة عن النبي أنه قال: «لقيني ربي فصافحني وكافحني، ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله ...» إلخ.
28
ويقول في موضع آخر: «ولقد كان الشبيه صرفا خالصا في اليهود لا في كلهم، بل في القرائين منهم؛ إذ وجدوا في التوراة ألفاظا كثيرة تدل على ذلك.»
29
وقال الشيعة في الرجعة على نحو ما قال اليهود؛ قد كان عند اليهود أن النبي «إلياس» صعد إلى السماء، وسيعود فيعيد الدين والقانون، فقال ابن سبأ اليهودي (كما حكى ابن حزم) لما قتل علي: «لو أتيتمونا بدماغه ألف مرة ما صدقنا موته، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا». ونمت هذه الفكرة عند الشيعة؛ فقالوا كذلك في بعض الأئمة الذين اختفوا، ثم قالوا كذلك في المهدي المنتظر.
فترى من هذا أن كثيرا من المسائل الكلامية وغيرها، كان منبعها اليهود، وأنها قيلت على مثال ما قالوا. وحق قول رسول الله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن!»
وكان بعض المتكلمين في العقائد من أصل يهودي، كبشر المريسي، وله آراء كثيرة انفرد بها، وكرهه الناس من أجلها حتى كادوا يقتلونه، وكان من أشهر القائلين بخلق القرآن.
وروى ابن قتيبة: «أن هارون الأعور بن موسى أحد القراء كان يهوديا ثم أسلم، قال الأصمعي: قال هارون: كنت أقرأ إيذام بالعبرانية يعني آدم.»
30
ودخلت كتب الأدب نصائح يهودية تروى عن أنبيائهم وصلحائهم، كالذي روي أن شعياء قال لبني إسرائيل: «إن الدابة تزداد على كثرة الرياضة لينا، وقلوبكم لا تزداد على كثرة الموعظة إلا قسوة، إن الجسد إذا صلح كفاه القليل من الطعام، وإن القلب إذا صلح كفاه قليل من الحكمة! كم من سراج أطفأته الريح، وكم من عابد أفسده العجب! يا بني إسرائيل اسمعوا قولي، فإن قائل الحكمة وسامعها شريكان، وأولاهما بها من حققها بعمله.»
31
وقد ذهب بعض الباحثين (كالأستاذ شوفان) إلى أن بعض قصص ألف ليلة وليلة من أصل يهودي.
وعلى كل حال، فقد كانت هناك ثقافة يهودية، بعضها صحيح علميا وبعضها غير صحيح. بعضها أخذ عن أهل العلم بالكتاب، وبعضها أخذ عن عوام اليهود، وهذا وذاك نفذ منه إلى المسلمين شيء غير قليل، وتجادل اليهود والمسلمون كل يدعو إلى دينه ويقيم الحجة على صحته، وقد حكت لنا الكتب الكثير من هذا الجدل، من أقدمها ما روي عن أوس من بني قريظة؛ فقد أسلمت امرأته ودعته أن يسلم فأبى وقال:
دعتني إلى الإسلام يوم لقيتها
فقلت لها لا بل تعالي تهودي
فنحن على توراة موسى ودينه
ونعم لعمري الدين دين محمد
كلانا يرى أن الرشادة دينه
ومن يهد أبواب المراشد يرشد
وكالذي حكى الصفدي في «الغيث» من مناقشة بين يهودي ومسلم يقول بالجبر.
32
كل هذه المناقشات كانت تضطر كل جانب أن يكون على علم بدين مناظره، يستمد منه حجته، ويدفع به حجة خصمه، فكان ذلك من أسباب انتشار الثقافتين.
النصرانية
كذلك ورد في القرآن الكريم آيات تشير إلى الإنجيل، وتعده كتابا من كتب الله السماوية
ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل
إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل
وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ... إلخ. وكان موقف المسلمين إزاء الإنجيل واختلافهم في صحته وتحريفه كاختلافهم في التوراة، بل ذهب ابن حزم وابن تيمية، وغيرهما في عدم الاعتراف بالإنجيل الذي بين أيدينا إلى أكثر مما ذهبوا إليه في التوراة.
33
على كل حال كان للنصرانية ثقافة دينية أهمها الإنجيل، وما أحاط به من شروح، وما زاد عليه من قصص وأخبار. وقد تسرب ذلك كله إلى المسلمين من طرق؛ أهمها نصارى العرب. وقد كانت النصرانية قد انتشرت بين بعض قبائلهم، ولا سيما في قبيلة تغلب ونجران، وكذلك من طريق من أسلم من النصارى. ونلمس هذا الأثر في كثير من النواحي، فأول ذلك تفسير القرآن.
ذلك أن القرآن الكريم اشتمل على مواضع وردت في الإنجيل، كقصة عيسى عليه السلام، وأسلوب القرآن - كما ذكرنا - أسلوب موجز، يقتصر على موضع العظة، فجاء المفسرون ينقلون عن مسلمة اليهود والنصارى شروحا لهذه الآيات، إن شئت فاقرأ تفسير سورة مريم في الطبري تجده ينقل شروحا كثيرة من الإنجيل وتفسيراته، وما وضع حوله، ينقل ذلك عن وهب بن منبه وعن أسباط وعن ابن جريج، وعن زكريا بن يحيى بن زائدة. وانظر كذلك تفسيره لقوله تعالى في سورة آل عمران في تعداد معجزات عيسى عليه السلام:
ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ... الآية، فيأتي ابن جريج فيفسر الطير بالخفاش، ويروي الطبري عن ابن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق قصة في كيفية ذلك إلى آخره.
34
وتضخم ذلك بعد حتى رأينا القصص الطويلة عن زكريا ويحيى بن زكريا، ومريم وعيسى عليهم السلام والحواريين، وحديث المائدة في كتاب قصص الأنبياء للثعلبي،
35
وأمثاله.
كذلك أدخل مسلمة النصارى أقوالا من الإنجيل دست على أنها أحاديث لرسول الله
صلى الله عليه وسلم .
وقد مثل الأستاذ جولدزيهير لما دخل عن النصرانية في الحديث بحديث: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.»
وحديث قال لنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إنكم سترون بعدي أثرة، وأمورا تنكرونها. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم.»
فقد أخذ مما ورد في إنجيل متى: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، وكذلك الإمعان في تفضيل الفقراء على الأغنياء، فإن هذا نظر نصراني. وقد ورد في الحديث: «يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام.»
ومثل حديث: «كونوا بلها كالحمام.»
فقد ورد مثله في إنجيل متى: «ها أنا أرسلكم في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات، وبسطاء كالحمام.» وكذلك حديث أبي داود عن أبي الدرداء، قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «من اشتكى منكم شيئا أو اشتكاه أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك، على هذا الوجع، فيبرؤ.»
فإنه دعاء نصراني مشهور.
ونحن مع موافقتنا للأستاذ جولدزيهير في أن بعض الأقوال النصرانية دخلت في الحديث، ونسبت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لا نوافقه على كل ما قال، ولا على نسبة كل الأحاديث التي ذكرها إلى النصرانية، فمثلا نظرة تبجيل الفقر وتعظيمه ليست نصرانية بحتة، فكل الديانات الإلهية (من يهودية ونصرانية وإسلام) ترى هذا النظر، وطبيعي لها أن تراه، فمن أركان الأديان اتخاذ المقياس العمل الصالح لا المال، وهي تهاجم ما ألف الناس من تقديرهم الإنسان بغناه، فالدين يرى أن العمل الصالح له قيمته الذاتية، سواء أتى من غني أو فقير، بل طبيعي أن يكون بعض الأعمال من الفقير أفضل كالأعمال الخيرية المالية؛ إذ تضحية الفقير أعظم، فعدل أن يكون ثوابها أعظم، ومحمد رسول الله عف عن الغنى ولم يشأ أن يكون غنيا، وكان في إمكانه أن يكونه، ووردت في القرآن نفسه آيات تمجد الفقراء الصالحين:
للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم
للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض
فاتحاد الإسلام والنصرانية في مدح الفقر لا يدل على أخذ الإسلام ذلك من النصرانية، قالوا: إن العربي كان يفضل الغنى على الفقر، فقد قال عروة بن الورد:
دعيني للغنى أسعى فإني
رأيت الناس شرهم الفقير
ولكن قد قال عربي غيره، وهو قيس بن الحطيم:
غني النفس ماعمرت غني
وفقر النفس ما عمرت شقاء
وليس في هذا ولا ذاك دليل على قولهم، فكلامنا في الإسلام، والإسلام حكمه ما بينا
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
ما أغنى عنه ماله وما كسب
ولكن من غير شك رويت في النصرانية واليهودية أخبار كثيرة، وقصص عن الفقراء وفضلهم، أدخلها المسلمون في كتبهم، كالذي روي في الإحياء «أن المسيح (صلى الله عليه وسلم) مر في سياحته برجل نائم ملتف في عباءة، فأيقظه، وقال: يا نائم قم فاذكر الله تعالى، فقال: ما تريد مني؟ إني قد تركت الدنيا لأهلها. فقال له: فنم إذن». ومر موسى (عليه السلام) برجل نائم على التراب وتحت رأسه لبنة، ووجهه ولحيته في التراب، وهو متزر بعباءة، فقال: يارب عبدك هذا في الدنيا ضائع! فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى أما علمت أني إذا نظرت إلى عبد بوجهي كله زويت عنه الدنيا كلها، وقال المسيح (صلى الله عليه وسلم): بشدة يدخل الغني الجنة، وقال موسى (عليه السلام) «يارب من أحباؤك من خلقك حتى أحبهم لأجلك؟ فقال كل فقير فقير.»
36
ويظهر لنا أن هذه الأخبار وأمثالها لونت حياة المسلمين بلون خاص؛ فقد كان الإسلام في أصله يدعو إلى العمل في الحياة، ولا يحب الرهبانية. ويقدر العمل ممن عمل، غنيا كان أو فقيرا. ثم رأينا الأخبار التي وردت بعد من مثل ما حكي في الإحياء تحث على نزعة جديدة، هي الهرب من الغنى، وحب العبادة، وإن ترك صاحبها العمل في الدنيا، وهي نزعة أشبه ما تكون بالرهبانية لم نعرفها كثيرا في الأيام الأولى من تاريخ الإسلام.
روي أن رفقة من الأشعريين كانوا في سفر، فلما قدموا قالوا: ما رأينا يا رسول الله بعدك أفضل من فلان كان يصوم النهار، فإذا نزلنا قام من الليل حتى نرتحل. قال: فمن كان يمهن له ويكفله؟ قالا: كلنا، قال: كلكم أفضل منه.
وفي التاريخ عني مؤرخو المسلمين بتاريخ النصارى، وكان من أولهم في ذلك اليعقوبي؛ فقد ذكر في تاريخه مقتبسات من الإنجيل. وفي تاريخ الطبري طرف من تاريخ النصارى، ففيه خبر طائفة من الحواريين وخبر جرجيس وهو كما يقول الطبري: عبد صالح من أهل فلسطين، أدرك بقايا من حواريي عيسى، وأطال في قصته. وفيه خبر أصحاب الكهف ... إلخ، وكذلك فعل المسعودي. وقد خلطوا فيما كتبوه بين الأخبار الصحيحة، والأقاصيص المتداولة على الألسنة، كما فعلوا فيما نقلوا من تاريخ اليهود.
وغير هذا الذي ذكرنا كانت المناقشات الدينية بين المسلمين والنصارى؛ فقد فتح المسلمون البلاد كالشام والعراق، وكانت مملوءة بالنصارى، فلما هدأت الحرب بالسيف بدأت الخصومة باللسان. كان المسلمون يدعون إلى الإسلام، فيضطرهم ذلك إلى ذكر الحجج والبراهين على صحة هذا الدين، فكان رؤساء النصرانية يقابلون الحجج بحجج، فنشأ من هذا جدل كثير، وكثر ذلك في الدولة الأموية. وكان أكثر ما يكون في الشام؛ إذ دمشق عاصمة الخلافة، وفي الشام كثير من النصارى؛ لأنها كانت في يد الرومان النصارى. ولأن قصور الخلفاء الأمويين في دمشق كان فيها نصارى يتولون مناصب كبيرة، من ذلك ما حكي لنا عن يحيى الدمشقي؛ فقد كان نصرانيا شديد التمسك بنصرانيته، وعمل هو وأبوه في قصر عبد الملك بن مروان، وألف يحيى كتابا للنصارى يدفع به دعوة المسلمين؛ من أمثال ما جاء فيه: «إذا قال لك العربي: ما تقول في المسيح؟ فقل له: إنه كلمة الله، ثم ليسأل النصراني المسلم: بم سمي المسيح في القرآن؟ وليرفض أن يتكلم بشيء حتى يجيبه المسلم؛ فإنه سيضطر إلى أن يقول: «كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه.» فإن أجاب بذلك فاسأله: هل كلمة الله وروحه مخلوقة أو غير مخلوقة؟ فإن قال مخلوقة فليرد عليه بأن الله إذن كان ولم تكن له كلمة ولا روح، قال يحيى: فإن قلت ذلك فستفحم العربي؛ لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين. والمسلمون ردوا على هذا الاعتراض بأن المراد بالكلمة أنه وجد بكلمة الله وأمره، من غير واسطة قال:
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
وأما الروح فتستعمل بمعنى الرحمة، كقوله تعالى
وأيدهم بروح منه ، وأن عيسى لما لم يتكون من نطفة الأب، وإنما تكون من نفخة الملك وصف بأنه روح، وقد سمى الله جبريل روحا، ولم يقل أحد فيه ما قالوا في عيسى، وقال الله في آدم:
ونفخت فيه من روحي
كما قال في عيسى، وسمى القرآن روحا؛ فقال
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ... إلخ. قالوا: وحينئذ لا يرد اعتراض يحيى الدمشقي؛ لأنه اعتراض وارد على فهم ظاهر لفظ «كلمة» و«روح». على كل حال كان هناك جدال بين المسلمين والنصارى، وكان ذلك يضطر كلا لقراءة كتب الآخر، يستعين بها على تأليف حججه.
وفي الفرق الإسلامية نجد ظلا للتعاليم النصرانية؛ فقد تجادلت الكنائس النصرانية مثلا في خلود العذاب، وذهب آباء الكنيسة اليونانية إلى إنكار أبدية عذاب النار،
37
فرأينا جهم بن صفوان يقول: إن الجنة والنار يفنيان ويفنى أهلهما.
38
ويذهب الأستاذ فون كريمر «إلى أن فرقة المعتزلة نشأت من النصرانية؛ لأن آباء الكنائس كانوا يتجادلون في حرية الإرادة، وأن الإنسان مجبور ومختار. وبعبارة أخرى في مسألة القدر، كما كانوا يتجادلون في صفات الله. وقد تسربت هذه العقائد إلى المعتزلة من طريق النصارى بعد فتح المسلمين للشام. ومن أشهر من احتك بالمسلمين في ذلك العصر الأموي يحيى الدمشقي، وثيودور أبو كارا
Abucara
وقد تكلم يحيى في أن الله مصدر الخير، وقال: إن الخير يصدر من الله كما يصدر الضوء من الشمس، فتكلم المعتزلة الأولون في القدر وفي صفات الله أخذا عن النصارى.
ولكني لا أرى هذا الرأي، بل أرى أن مسألة القدر صدرت عن المسلمين أنفسهم، وكان سبب ذلك أن القرآن الكريم وردت فيه آيات ظاهرها الجبر مثل قوله تعالى:
ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون
أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
وبجانب هذا آيات ظاهرة الاختيار، وأن الإنسان مسئول عن عمله؛ مثل:
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما * ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ، ووردت أحاديث كثيرة تتعرض للقدر، وكان ذلك قبل فتح المسلمين للشام والعراق، مثل ما روي عن جابر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.» عن علي قال: «كنا في جنازة ببقيع الغرقد، فأتانا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وبيده مخصرة فجعل ينكت بها الأرض، ثم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة.» فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل الشقاء.» ثم قرأ:
فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى
39
وروي أن عليا لما انصرف من صفين قام إليه شيخ، فقال أخبرنا عن سيرنا إلى الشام أكان بقضاء وقدر؟» ... إلخ، إلى كثير من أمثال ذلك.
فنرى من هذا أن فكرة القضاء والقدر كانت عند المسلمين قديما، ويظهر أنها فكرة تحدث حول كل دين تقريبا، فقد كانت في اليهودية والنصرانية والمجوسية، فلم لما ظهرت في الإسلام، وكان شأنها شأن الديانات الأخرى؛ عدت نصرانية الأصل؟ بل تاريخ المعتزلة يدلنا على أن جدالهم مع مجوس الفرس كان أكثر من جدالهم مع اليهود والنصارى، وأن كثيرا من أصول مذهبهم وضع للرد على الفرس لا على النصارى، وأكبر ردهم كان على الجهمية أصحاب جهم بن صفوان الخراساني الأصل، لهذا نرى أن المعتزلة كانت نشأتهم الأولى إسلامية بحتة، وإن تأثروا بغيرهم من أهل الديانات الأخرى؛ فمن ناحية إن هذه الديانات كانت تقترح على المعتزلة موضع النزال، فإذا قال المجوسي الذي دخل الإسلام بالتجسيم، أو قال بالجبر نازلهما المعتزلة، ولكنهم يستندون في حججهم على الإسلام والعقل، أما بعد عصرهم الأول فهذا موضوع آخر سنتناوله عند الكلام في المعتزلة في العصر العباسي إن شاء الله. •••
واستمر الجدل بين المسلمين والنصارى في عصرنا العباسي، وقد حكت لنا الكتب منها الشيء الكثير كرسالة الجاحظ «في الرد على النصارى»،
40
فهي تصور لنا ما كان يثيره النصارى واليهود من شبهات، وما كان يدفع به المسلمون تلك الشبهات. كما تذكر لنا طرفا من أخبار اليهود والنصارى، والسبب الذي من أجله كانت العداوة بين المسلمين والنصارى أقل من العداوة بين المسلمين واليهود ... إلخ. ونقل إلينا أن عبد الله بن إسماعيل الهاشمي كتب رسالة إلى عبد المسيح إسحاق الكندي يدعوه بها إلى الإسلام، فرد عليه عبد المسيح يدعوه إلى النصرانية، وكان ذلك في عهد المأمون.
41
وحكى الجاحظ في الحيوان جدالا كان بينه وبين النصراني في القرابين والذبائح،
42
إلى كثير من أمثال ذلك. وكل هذا الجدل يدل على معرفة اليهود والنصارى لكتب المسلمين يأخذون منها حججهم، ومعرفة المسلمين لكتب اليهود والنصارى كذلك.
وفي الأدب تسرب بعض ما للنصرانية إلى الأدب العربي من وجوه عدة: (1)
أن بعض الشعراء كانوا نصارى، فأدخلوا في شعرهم العربي شيئا من النصرانية، وكان أوضح مثل لذلك في العصر الأموي «الأخطل»؛ فقد ورد في شعره أثر من النصرانية مثل قوله:
ولقد حلفت برب موسى جاهدا
والبيت ذي الحرمات والأستار
وبكل مهتبل عليه مسوحه
دون السماء مسبح جأر
لأحبرن لابن الخليفة مدحه
ولأقذفن بها إلى الأمصار
ويقول: «والصليب والقربان لأتخلصن إلى كليب خاصة دون مضر، بما يلبسهم خزيه ويلزمهم عاره.»
43
وروى ابن الأثير أن الأخطل لما قال:
لما رأونا والصليب طالعا
ومار سرجيس وسما ناقعا
والخيل لا تحمل إلا دارعا
وأبصروا راياتنا لوامعا .. إلخ.
قال جرير:
أفبالصليب ومار سرجس تتقي
شهباء ذات مناكب جمهورا!؟
وقال أيضا:
يستنصرون بمار سرجس وابنه
بعد الصليب، وما لهم من ناصر
ولكن أثر النصرانية في شعره قليل، كما لاحظ الأستاذ «لامانس»، بل هو متأثر في إيمانه بالإسلام أكثر من تأثيره بالنصرانية، كقوله:
إني حلفت برب الراقصات وما
أضحى بمكة من حجب وأستار
وبالهدي إذا احمرت مذارعها
في يوم نسك وتشريق وتنحار
وما بزمزم من شمط محلقة
وما بيثرب من عون وأبكار
44
وقوله:
وقد حلفت يمينا غير كاذبة
بالله رب ستور البيت ذي الحجب
وكل موف بنذر كان يحمله
مضرج بدماء البدن مختضب
كذلك هو في حياته مضطرب بين عادات من حوله من النصارى والمسلمين؛ فهو يشرب الخمر ويعلق الصليب، وهو يطلق امرأته ويتزوج أخرى بل ويتسرى!
وفي العصر العباسي لم يشتهر كثير من النصارى بالشعر العربي، وعرف منهم أبو قابوس. وقال في العمدة: «كان أبو قابوس الشاعر رجلا نصرانيا من أهل الحيرة.» وكان منقطعا إلى البرامكة يمدحهم ويمنحونه، روي من شعره قليل، من ذلك أنه استمنح عفر بن يحيى البرمكي ثوبا يلبسه يوم العيد في الكنيسة، فقال من قصيدة:
أبا الفضل لو أبصرتنا يوم عيدنا
رأيت مباهاة لنا في الكنائس
فلا بد لي من جبة من جبابكم
طيلسان من خيار الطيالس
ولكن على العموم شعراؤهم في عصرنا قليلون، وليس لهم كبير أثر في الشعر العربي، ولم يكن لهم مثل الأخطل، أو ما يقرب منه.
45 (2)
كان أكبر من ذلك أثرا ما نقل من المواعظ عن الرهبان في الأديار، وما نقل عن الكتب النصرانية، كالذي حكى ابن قتيبة: «قال بعضهم أتيت الشام فمررت بدير حرملة وبه راهب كأن عينيه عدلا مزاد، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: يا مسلم، أبكي على ما فرطت فيه من عمري، وعلى يوم مضى من أجلي لم يحسن فيه عملي! قال: ثم مررت بعد ذلك فسألت عنه فقالوا: أسلم وغزا فقتل في بلاد الروم.»
46
ويقول ابن قتيبة أيضا قرأت في الإنجيل: «لا تجعلوا كنوزكم في الأرض حيث يفسدها السوس والدود، وحيث ينقب السراق، ولكن اجعلوا كنوزكم في السماء، فإنه حيث تكون كنوزكم تكون قلوبكم ...»إلخ.
47
وفي العقد الفريد: «قال عيسى (عليه السلام) للحواريين: «لا تنظروا في أعمال الناس كأنكم أرباب، وانظروا في أعمالكم كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان، مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.»
48 «ولقي رجل راهبا فقال: يا راهب، صف لنا الدنيا، فقال: الدنيا تخلق الأبدان وتجدد الآمال وتباعد الأمنية وتقرب المنية.»
49
إلى كثير من أمثال ذلك.
ومن غريب الأمر أن هذه الأديار كانت منبعا لشيئين متناقضين أشد التناقض؛ كانت منبعا لزهد وورع وبعد عن الدنيا وشئونها، ومحطا لبعض زهاد المسلمين، يروون عن الرهبان أقوالهم في الهرب من اللذات كالذي روينا، وكانت كذلك مناح الخليعين من الشعراء والأدباء يخرجون إليها، ويتشببون بفتيانها وفتياتها، ويقولون في ذلك القول الخليع والشعر الجميل؛ ذلك أن الأديار كانت غالبا في أجمل المواضع، وأحسنها هواء وأجملها منظرا، تحيط بها أنواع البساتين، وتجمل فيها الأزهار والرياحين، قال البحتري:
ما تقضى لبانه عند لبنى
والمعنى بالغانيات معنى
نزلوا ربوة العراق ارتيادا
أي أرض أشف دارا وأسنى؟
بين دير العاقول مرتبع أشرف
محتله إلى دير قنى
حيث بات الزيتون من فوقه
النخل عليه ورق الحمام تغنى
وشاع عند الشعراء ما فيها من خمر معتق، وشراب جيد مصفى.
إن عجزا كما نكون وغبنا
أن نرى صاحيين في دير قنى
حبذا روضه المدبج ليلا
وهواه ذاك الممسك ردنا
قد جرى السلسبيل بالمسك فيها
فحوته الدنان، دنا فدنا
ويظهر أن الخمارين استغلوا شهرة الأديار بالشراب، فأنشئوا حولها الحانات. قال ابن فضل الله العمري: «وكانت حول دير العذارى حانات للخمارين وبساتين ومتنزهات.»
50
وكانت تقام لبعض الأديار أعياد سنوية. قال الخالدي في دير الكلب: «وله عيد في وقت من السنة يخرج إليه خلق من النصارى نساء ورجال للإقامة عنده، وخلق من المسلمين للنظر إليه والنزهة فيه، ويجتمع إليه أهل الرفث والمجان، وتسمع به الأغاني وأنواع الملاهي، وتذبح به الذبائح وتشرب الخمور.»
51
اغتنم المجان من الشعراء هذا كله، فأنشئوا حول الأديار أدبا غزيرا، وشعرا كثيرا، هو من الناحية الفنية بديع ممتع، مثل قول ابن المعتز:
يا ليالي بالمطيرة والكر
خ ودير السوسي بالله عودي
كنت عندي أنموذجات من الجنة
لكنها بغير خلود
أشرب الراح وهي تشرب عقلي
وعلى ذاك كان قتل الوليد
وقول آخر:
ما ترى الدير، ما ترى أسفل الدير
وقد صار وردة كالدهان؟
لو رآه النعمان شق عليه
ما يرى من شقائق النعمان
وآخر:
فتنتنا صورة في بيعة
فتن الله الذي صورها
زادها الناقش في تحسينها
فضل حسن إنه نضرها
وجهها لا شك عندي فتنة
وكذا هي عند من أبصرها
أنا للقس عليها حاسد
ليت غيري عبثا كسرها
وسرت هذه العادة في كل الأقطار، فتجد شعراء العراق والشام ومصر يتشببون بالأديار ومن فيها وما فيها، وتقرأ كتاب الديارات للشابشتي، ومسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، فتعجب من كثرة ما قيل من الشعر فيها وسكانها. وتراهم قد سلكوا في ذلك كل مسلك، وتفننوا كل فن، وهم بين مستهتر ومحتشم وطريف مؤدب وخليع ماجن. وهكذا كانت الأديار مصدرا لنغمتين كان الناس يسمعونهما كثيرا في ذلك العصر؛ نغمة حزينة زاهدة، تعدو إلى الفرار من الحياة وارتقاب الموت، ونغمة مرحة لاهية، تدعو إلى احتساء الكأس إلى آخر قطرة من قطراته، كل يوقع على الوتر الذي يهواه، وكل يغني على ليلاه. •••
كذلك نفذ إلى المسلمين بعض عادات اليهود والنصارى الدينية، فقد اتخذ بعض المسلمين أعياد النصارى عيدا، فيوم السعانين
52
عرف في العصر العباسي وما بعده، وقالت فيه الشعراء شعرا كثيرا، من ذلك ما يقوله عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع:
يا شادنا رام إذ مر
في السعانين قتلي
يقول لي كيف أصبحت
كيف يصبح مثلي؟!
ويقول:
يا ليلة ليس لها صبح
وموعدا ليس له نجح
من شادن مر على وعده ال
ميلاد والسلاق والذبح
53
وفي السعانين لو أني به
وكان أقصى الموعد الفصح
فالله أستعدي على ظالم
لم يغن عنه الجود والشح
ويقول:
إن في القلب الظبي كلوم
فدع اللوم فإن اللوم لوم
حبذا يوم السعانين وما
نلت فيه من نعيم لو يدوم!
إن تكن أعظمت أن همت به
فالذي تركب من عذلي عظيم
لم أكن أول من سن الهوى
فدع اللوم فذا داء قديم
54
ويقول:
إن كنت ذا طب فداويني
ولا تلم فاللوم يغريني
يا نظرة أبقت جوى قاتلا
من شادن يوم السعانين .. إلخ.
ويرى ابن تيمية أن اتخاذ المسلمين القبور مساجد كان تقليدا لليهود والنصارى، وروي في ذلك الأحاديث الكثيرة؛ مثل: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد.» ويقول الشافعي: «وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس.»
55
وعدد كثيرا من البدع التي أدخلت على زيارة القبور من أبنية الأضرحة، وإيقاد المصابيح، والتوجه بالدعاء نحو القبور، وختم ذلك بقوله: «وكل هذه الأشياء من البدع التي تضارع دين النصارى.»
56
وعلى الجملة، فنظرة إلى هذا كله ترينا أنه قد تسرب إلى المسلمين في العصر العباسي شيء غير قليل من اليهودية والنصرانية في التفسير والحديث، والمذاهب الدينية والعادات والتقاليد، وأنهما كانتا عنصرين من عناصر الثقافة العامة في ذلك العصر.
الإسلام
ليس من غرضنا - هنا - أن نبين تعاليم الإسلام وما دعا إليه، وما أتى به من أصول وفروع، فموضع ذلك قد مر في فجر الإسلام، وإنما غرضنا أن نبين تاريخ الإسلام في العصر العباسي، فهو بموضوعنا أليق.
ليس من شك أن العباسيين لم يضيفوا كثيرا من البلدان والأقطار إلى رقعة المملكة الإسلامية، فنحن إذا قارناها في ذلك بالدولة الأموية رأينا العهد الأموي أكثر فتحا، وأعظم نشرا للإسلام؛ ففيه فتح السند وبخارى وسمرقند إلى كاشغر، في حدود الصين، وفتحت الأندلس، وكان الفاتحون كما رأينا فيهم الدعاة إلى الدين، وفيهم العلماء، فلم يكن الفتح فتحا سياسيا حربيا فقط، بل كان أيضا نشرا للدعوة الإسلامية، وتعليما لأصول الإسلام وفروعه، ووضعا للنظم الإسلامية وتعليما للغة العربية وما إليها، وتبع ذلك دخول عدد كبير من أهل البلاد المفتوحة في الإسلام.
57
وكان أكبرهم العباسيين أن يبقوا على التراث الذي ورثوه عن الأمويين، ويحافظوا على وحدته، فنجحوا بعض النجاح أولا وفشلوا أخيرا، وعلى العموم لم يزيدوا شيئا يذكر من الأقطار الأجنبية على المملكة الإسلامية.
ولكن - مع هذا - كان للعباسيين أثر كبير في دخول عدد عديد في الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، مما فتح في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين.
وفي نظري أن العباسيين من حيث هم أصحاب السلطان وأولياء الأمر والقابضون على زمام الدولة بذلوا في هذا الباب جهدا أكثر من الخلفاء الأمويين إذا استثنينا عمر بن عبد العزيز؛ فقد كان نشر الدعوة في العهد الأموي عمل قواد وعلماء وأفراد متدينين أكثر منه عمل حكومة، ولم يكن للخلفاء الأمويين - غالبا - مظهر ديني من هذا القبيل. أما الخلفاء العباسيون فقد صبغوا صبغة دينية ظاهرة، ونظر إليهم كأنهم حماة الإسلام. وكان أبو جعفر المنصور أكبر من أحاط الخلافة بالإجلال الديني، وقوى من حرمة البيت العباسي، لا من ناحية القوة المادية - فحسب - بل من ناحية القوة الروحية كذلك. وكان من أثر هذا أن الخلفاء العباسيين لما ضعف نفوذهم المادي، وفقدوا السلطان على الرعية، ولم يك شيء من القوة في أيديهم؛ ظلت هذه السلطة الروحية فيهم، يستغلها القواد والأمراء والوزراء وأصحاب السلطان المادي، فيستجلبون رضى العامة بإعلان رضى الخليفة عنهم وإمدادهم الروحي لهم، ومن مظاهر ذلك في هذا العهد أن رأينا البيعة للخلفاء تحاط بأنواع من المراسم والشعائر لم تكن معروفة، وتؤكد البيعة في الحرم، ويعلى شأن إجماع أولي الحل والعقد، ونحو ذلك.
صبغة الخلفاء العباسيين بهذه الصبغة جعلتهم يشرفون على الدين من نواح مختلفة، ويتدخلون في المسائل الدينية بأكثر مما كان الأمويون. من ذلك أنا نرى المهدي كما سبق يتعقب الزنادقة، ويعين من يلي أمرهم، ويعاقب من ظهر منهم، ويحث العلماء على وضع الكتب في الرد عليهم، ويسير من بعده من الخلفاء سيرته، وذلك ما لم نعهده من قبل المهدي. ونرى الرشيد يتصل بالقضاة والعلماء اتصالا لم نعرفه في العهد الأموي، فلا نجد - مثلا - قاضيا كان من الخليفة الأموي من القرب والاتصال؛ ما كان أبو يوسف من الرشيد.
ويصور أبو يوسف نظر الناس إلى الخليفة في عصره، فيقول للرشيد في أول كتابه الخراج: «وإن الله بمنه ورحمته وعفوه جعل ولاة الأمر خلفاء في أرضه، وجعل لهم نورا يضيء للرعية ما أظلم عليهم من الأمور فيما ينهم، ويبين ما اشتبه من الحقوق عليهم.» وقعد إبراهيم بن السندي أمام المأمون على ركبتيه، فقال له المأمون تمكن في قعودك، فقال إبراهيم: والله لا أضع قدر الخلافة، ولا أجلس إلا جلوس العبد بين يدي مولاه!
58
ويقول البحتري للمتوكل ويذكر خروجه يوم عيد الفطر:
أظهرت عز الملك فيه بجحفل
لجب يحاط الدين فيه وينصر
خلنا الجبال تسير فيه وقد غدت
عدد يسير بها العديد الأكثر
والخيل تصهل والفوارس تدعي
والبيض تلمع والأسنة تزهر
والأرض خاشعة تميل بثقلها
والجو معتكر الجوانب أغبر
حتى طلعت بضوء وجهك فانجلت
تلك الدجى وانجاب ذاك العثير
وافتن فيك الناظرون فإصبع
يومى إليك بها وعين تنظر
يحدون رؤيتك التي فازوا بها
من أنعم الله التي لا تكفر
ذكروا بطلعتك النبي فهللوا
لما طلعت من الصفوف وكبروا
حتى انتهيت إلى المصلى لابسا
نور الهدى ببدر عليك ويظهر
ومشيت مشية خاشع متواضع
لله لا يزهو ولا يتكبر
فلو أن مشتاقا تكلف فوق ما
في وسعه لمشى إليك المنبر
أبديت من فصل الخطاب بحكمة
تنبي عن الحق المبين وتخبر
ووقفت في برد النبي مذكرا
بالله تنذر تارة وتبشر
حتى لقد علم الجهول وأخلصت
نفس المروي واهتدى المتحير
صلوا وراءك آخذين بعصمة
من ربهم وبذمة لا تخفر
وكان من أثر ذلك نشاط الخلفاء في نشر الدعوة على الإسلام، مع ما كان من حمية الناس وحماستهم للدعوة. ولذلك رأينا كثيرا من أهل الملل الأخرى يدخلون في الإسلام أفواجا، ولم يكن السبب لدخولهم واحدا، فهناك - من غير شك - أسباب لذلك متعددة.
منهم من كان يسلم اقتناعا بالإسلام، وإيمانا ببساطة عقيدته ويسرها وسهولة فهمها، فيكفي أن يقول الرجل: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»؛ ليعد مسلما من غير مراسم ولا طقوس، وفي أي مكان وعلى يد أي إنسان.
وساعد على ذلك ما لاحظه الأستاذ أرنولد «من أن المذاهب النصرانية من يعاقبة ونساطرة وملكانية وغيرها، كان بينها من العداء واضطهاد بعضها بعضا أشد مما كان بين أهل دين ودين آخر، فليس عجيبا أن يهرب آلاف من هذا الاضطهاد والعذاب، ويلجئوا إلى عقيدة سهلة هي عقيدة الوحدانية.»
59
وقد عمل - بجد - في نشر الدعوة في ذلك العصر المتكلمون من المسلمين وعلى رأسهم المعتزلة؛ ذلك أن هؤلاء المتكلمين هم الذين كانوا يبحثون في الإسلام، ويعللون آراءه وتعاليمه من طريق العقل، على حين أن المحدثين والمفسرين وأمثالهم كانوا يخدمون الإسلام من طريق النقل، فاضطر المتكلمون تمشيا مع العقل أن يتسلحوا بكل ما يعينهم في سبيلهم، فاستعانوا بالمنطق اليوناني يصوغون في قوالبه قضاياهم، وعرفوا آداب الجدل والمناظرة وتقيدوا بقوانينها، وقرءوا بعض كتب الفلسفة اليونانية، فيذكر المرتضى «أن النظام كان قد نظر في شيء من كتب الفلاسفة، فلما ورد البصرة كان يرى أنه قد أورد من لطيف الكلام ما لم يسبق علمه إلى أبي الهذيل العلاف. قال فناظرت أبا الهذيل في ذلك، فخيل إلي أنه لم يكن متشاغلا قط إلا به لتصرفه فيه وحذقه في المناظرة فيه.»
60
ويقول في موضع آخر: «إن جعفر بن يحيى البرمكي ذكر أرسططاليس، فقال النظام: قد نقضت عليه كتابه، فقال: جعفر كيف وأنت لا تحسن أن تقرأه؟ فقال: أيما أحب إليك أن أقرأه من أوله إلى آخره، أم من آخره إلى أوله؟ ثم اندفع يذكر شيئا فشيئا وينقضه عليه فتعجب منه جعفر.»
61
ثم نظروا في كتب الديانات الأخرى وتبحروا فيها، فيقول المرتضى أيضا: «إن النظام كان يحفظ القرآن والإنجيل وتفسيرهما.»
62
ووصف رجل واصل بن عطاء فقال: «ليس أحد أعلم بكلام غالية الشيعة ومارقة الخوارج ، وكلام الزنادقة والدهرية والمرجئة وسائر المخالفين والرد عليهم منه.»
63
وبعد أن أعد المتكلمون (وخاصة المعتزلة) أنفسهم هذا الإعداد نزلوا في الميدان وقاموا بعملين؛ أحدهما: أنهم نازلوا الطوائف الأخرى الإسلامية المخالفة لهم يجادلونهم ويردون عليهم، ويدعونهم إلى عقائدهم الخاصة؛ فالمعتزلة تحارب المجبرة، والمعتزلة تنازل الرافضة، تجادلوا جميعا في الجبر والاختيار، وفي صفات الله وفي التجسيم، وفي الثواب والعقاب، وروت لنا الكتب الشيء الكثير من هذا الجدال، وليس هذا الوضع محله. وثانيهما: منازلتهم لأهل الديانات الأخرى من مجوس ويهود ونصارى، ودعوتهم إلى الإسلام، وكانت هذه الحركة عنيفة في عصرنا، على أشد ما يكون من العنف؛ مانوية يدعون إلى دينهم ويظهرون محاسنه، ويهاجمون الإسلام ويأتون بالحجج، ويهود ونصارى كذلك. ولم يكن المحدثون وأمثالهم يستطيعون أن يقوموا بمناهضتهم، إنما الذين استطاعوا ذلك وانتدبوا أنفسهم للقيام به هم المتكلمون، حكى المرتضى «أن ملك السند طلب إلى الرشيد أن يبعث إليه من يناظره في الدين فبعث الرشيد إليه قاضيا لا متكلما؛ لأن الرشيد كان قد منع الجدال في الدين وحبس علماء الكلام، فانتدب ملك السند سمنيا ليجادل القاضي فسأل السمني القاضي: أخبرني عن معبودك هل هو القادر؟ قال: نعم. قال: أفهو قادر على أن يخلق مثله؟ فقال القاضي: هذه المسألة من علم الكلام، وهو بدعة وأصحابنا ينكرونه. فقال السمني للملك: قد كنت أعلمتك دينهم. وكتب ملك السند بذلك إلى الرشيد فقامت قيامته وضاق صدره، وقال: أليس لهذا الدين من يناضل عنه؟! قالوا: بلى يا أمير المؤمنين، هم الذين نهيتهم عن الجدال في الدين، وجماعة منهم في الحبس. فقال: أحضروهم فلما حضروا قال ما تقولون في هذه المسألة؟ فقال صبي من بينهم: هذا السؤال محال؛ لأن المخلوق لا يكون إلا محدثا، والمحدث لا يكون مثل القديم؛ فقد استحال أن يقال يقدر على أن يخلق مثله أو لا يقدر، كما استحال أن يقال يقدر أن يكون عاجزا أو جاهلا. فقال الرشيد: وجهوا إليه بهذا الصبي. فقالوا: إنه لا يؤمن أن يسألوه على غير هذا، فقال: اختاروا غيره. فاختاروا معمر بن عباد السلمي (من شيوخ المعتزلة) فسم في الطريق.»
64
عرف المعتزلة المانوية واليهودية والنصرانية معرفة واسعة، كما عرف علماء هؤلاء الطوائف الإسلام، وبذل كل فريق الجهد في الدعوة إلى دينه والرد على مخالفيه، فأسلم على يديهم كثيرون. يقول المرتضى إنه أسلم على يد أبي الهذيل العلاف (شيخ المعتزلة) أكثر من ثلاثة آلاف رجل.
65
ويقول ابن خلكان: «إن لأبي الهذيل كتابا يعرف بميلاس، وكان ميلاس رجلا مجوسيا فأسلم، وكان سبب إسلامه أنه جمع بين أبي الهذيل المذكور، وجماعة من الثنوية فقطعهم
66
أبو الهذيل، فأسلم ميلاس عند ذلك.»
67
وحكى الجاحظ «أن قسا نصرانيا راهن على أن الصليب الذي في عنقه من خشب لا يحترق؛ لأنه من العود الذي كان المسيح عليه السلام صلب عليه، وكاد يفتن بذلك ناسا من غير أهل النظر حتى فطن له بعض المتكلمين، فأتاهم بقطعة عود تكون بكرمان، فكانت أبقى على النار من صليبه.»
68
وحكى المرتضى في أماليه «أن أبا الهذيل في حداثته بلغه أن رجلا يهوديا قدم البصرة، وقطع جماعة من متكلميها، فقال لعمه: يا عم امض بي إلى هذا اليهودي حتى أكلمه. وألح عليه في ذلك، فذهب إليه وما زال به حتى أفحمه.»
69
ويذكر ابن خلكان أن واصلا ألف فيما ألف كتابا في الدعوة، والظاهر أنه في الدعوة إلى الإسلام، أو الدعوة إلى مذهب الاعتزال. وقد رأينا قبل أن الجاحظ يؤلف رسالة في النصارى، يذكر حججهم ويرد عليها، ويرى ابن النديم: أن المأمون أرسل إلى يزدانبخت (أحد رؤساء المانوية)، فأحضره من الري بعد أن أمنه، فقطعه المتكلمون، فقال له المأمون: أسلم يا يزدانبخت فلولا ما أعطيناه إياك من الأمان لكان لنا ولك شأن! فقال له يزدانبخت: نصيحتك يا أمير المؤمنين مسموعة وقولك مقبول، ولكنك ممن لا يجبر الناس على ترك مذاهبهم . فقال المأمون: أجل، ووكل به حفظة خوفا «عليه من الغوغاء، وكان فصيحا لسنا.»
70
وبجانب هؤلاء العقليين الذين يدعون إلى الإسلام من طريق العقل والحجج المنطقية؛ كان من يدعو إلى الإسلام من طريق السيرة الطاهرة ، والخلق النبيل، والحياة الصالحة، فكان داعيا من طريق المثل، ومن ذلك ما حكى ابن خلكان «قيل إنه أسلم يوم مات أحمد بن حنبل عشرون ألفا من النصارى واليهود والمجوس.»
71
أو من طريق الوعظ والتصوف، فأبو القاسم الجنيد يقف على حلقته في المسجد غلام نصراني ويسلم،
72
وبعد هذا العصر كان أبو الفرج بن الجوزي واعظا مؤثرا، وقد أسلم على يده كثيرون.
وكان الخلفاء العباسيون من أنشط الخلفاء في الدعوة إلى الإسلام للصبغة الدينية التي شرحناها قبل.
وكان المأمون من أحرصهم على ذلك، فحوله المتكلمون، يدعون إلى الإسلام، وهو بجنده ينشر دعوته. روى البلاذري قال: «لما استخلف المأمون أغزى السعد وأشرثوسنه، ومن انتقض عليه من أهل فرغانة، الجند، وألح عليهم بالحروب بالغارات أيام مقامه بخراسان وبعد ذلك، وكان مع تسريته الخيول إليهم يكاتبهم بالدعاء إلى الإسلام والطاعة، والترغيب فيهما.» وقال: «وكان المأمون - رحمه الله - يكتب إلى عماله على خراسان في غزو من لم يكن على الطاعة والإسلام من أهل ما وراء النهر، ويوجه رسله فيفرضون لمن رغب في الديوان، ويستميلهم برغبة فإذا وردوا بابه شرفه وأسنى صلاتهم وأرزاقهم، ثم استخلف المعتصم بالله فكان على مثل ذلك حتى صار جل شهود عسكره من جند أهل ما وراء النهر من السعد والأشروسنه وأهل الشاش، وغيرهم، وحضر ملوكهم بابه وغلب الإسلام على من هناك.»
73
وكان رجل من خراسان نصرانيا فأسلم فارتد، فأمر المأمون بحمله إلى بغداد، فسأله: ما الذي أوحشك من الإسلام؟ فقال المرتد: أوحشني ما رأيت من كثرة الاختلاف في دينكم! قال المأمون: فإن لنا اختلافين؛ أحدهما كالاختلاف في الآذان، وتكبير الجنائز، والاختلافات في التشهد وصلاة الأعياد، وتكبير التشريق، ووجوه القراءات، واختلاف وجوه الفتيا، وما إلى ذلك، وليس هذا باختلاف، إنما هو تخيير وتوسعة وتخفيف من المحنة، فمن أذن مثنى وأقام فرادى لم يؤثم من أذن مثنى وأقام مثنى، لا يتعايرون ولا يتعايبون، أنت ترى ذلك عيانا، وتشهد عليه بيانا. والاختلاف الآخر كنحو الاختلاف في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث عن نبينا
صلى الله عليه وسلم ، مع إجماعنا على أصل التنزيل، واتفاقنا على عين الخبر، فإن كان الذي أوحشك هذا، حتى أنكرت كتابنا؛ فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع ما في التوراة والإنجيل متفقا على تأويله كالاتفاق على تنزيله، ولا يكون بين الملتين من اليهود والنصارى اختلاف في شيء من التأويلات ... ولو شاء الله أن ينزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا تحتاج إلى تفسير لفعل، ولكنا لم نر شيئا من الدين والدنيا دفع إلينا على الكفاية. ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة. فرجع الرجل إلى الإسلام فخر المأمون ساجدا لله، ثم قال لأصحابه: لا تبروه في يومه ريثما يعتق إسلامه كيلا يقول عدوه إنه يسلم رغبة، ولا تنسوا نصيبكم من بره ونصرته وتأنيسه.
74
على كل حال نشط الخلفاء العباسيون الأولون في الدعوة إلى الإسلام، ولكن قل أن كان منهم إكراه على الدخول في الإسلام، كما رأينا في موقف المأمون نحو يزدانبخت، فقد اعترف بأن المأمون لا يجبر الناس على ترك مذاهبهم، وأقره المأمون على قوله، يقول الأستاذ «فنسنك»: «ومع أن نصارى الشرق كان يقل عددهم باعتناقهم الإسلام، فقل منهم من أسلم كرها.»
75
نعم، صدر من بعض الخلفاء في ذلك العصر من اشتد في معاملة المسيحيين، كالذي رواه الطبري في حوادث سنة 191؛ فقد قال: «إن الرشيد أمر بهدم الكنائس بالثغور، وكتب إلى السندي بن شاهك يأمره بأخذ أهل الذمة بمدينة السلام بمخالفة هيئتهم هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم.»
76
ولكن هذا وأمثاله كان أثرا من آثار سوء العلاقات السياسية بين الدولة الإسلامية والمملكة البيزنطية، لا أثرا للتعاليم الدينية، وإلا فلم كان أمر الرشيد مختصا بأهل الذمة في بغداد، دون سائر الأقطار الإسلامية؟ وظلت الأوامر بمخالفة الذميين في لباسهم والتشديد عليهم تنمو مع نمو سوء العلاقات السياسية، حتى بلغت أشدها في أيام الحروب الصليبية؛ صدى لما كان من معاملة الروم للمسلمين.
كذلك لا ننكر أن بعض من أسلم إنما أسلم لنيل الجاه والمنصب، كالذي كان من كاووس ملك أشروسنه، فإنه لما غلب في الحرب أظهر الإسلام، وكذلك ابنه حيدر المعروف بالأفشين، والذي مات في سجن المعتصم لزندقته كما أبنا من قبل.
77
وحكى الجهشياري أن الفضل بين سهل (وكان مجوسيا) نقل ليحيى بن خالد البرمكي كتابا من الفارسية إلى العربية، فأعجب بفهمه وبجودة عبارته، فقال له يحيى: إني أراك ذكيا وستبلغ مبلغا رفيعا، فأسلم حتى أجد السبيل إلى إدخالك في أمورنا، والإحسان إليك. فقال: نعم، أصلح الله الوزير، أسلم على يديك. فقال له يحيى: لا، ودعا بسلام مولاه فقال: خذ بيد ذا الفتى وامض به إلى جعفر وقل له يدخله على المأمون (وكان المأمون في حجر جعفر) حتى يسلم على يديه. ففعل وأسلم على يد المأمون.
78
وهو الذي صار فيما بعد وزير المأمون، والذي لقب بذي الرياستين. كما أسلم بعض الناس فرارا من الجزية، حتى إن بعض الولاة كتب إلى الحجاج: «إن الخراج قد انكسر، وإن أهل الذمة قد أسلموا، ولحقوا بالأمصار، فأخذ الحجاج منهم الجزية مع إسلامهم، وجعل قراء البصرة يبكون لما يرون!»
79
ولكن هذه الجزية لم تكن بالمرهقة؛ «فهي لا تؤخذ من المسكين الذي يتصدق عليه، ولا من أعمى لا حرفة له ولا عمل، ولا من ذمي يتصدق عليه، ولا من المترهبين الذين في الديارات إذا لم يكونوا من أهل اليسار، ولا تؤخذ الجزية من الشيخ الكبير الذي لا يستطيع العمل ولا شيء له.»
80
ويدفع الغني 48 درهما كل سنة، ويدفع الوسط 24 درهما، والعمال والصناع ونحوهم 12 درهما
81
وهذا مقدار محتمل، لا يدعو كثيرين أن يهربوا من دينهم.
وكما أثر النصارى في المذاهب الإسلامية، والعادات كما أسلفنا أثر المسلمون في النصارى، فقد ظهر بين النصارى نزعات يظهر فيها أثر الإسلام. من ذلك أنه في القرن الثامن الميلادي (أي في القرنين الثاني والثالث الهجريين) ظهرت في سبتمانيا
Septimania
82
حركة تدعو إلى إنكار الاعتراف أمام القسس، وأن ليس للقسس حق في ذلك، وأن يضرع الإنسان إلى الله وحده في غفران ما ارتكب من إثم، والإسلام ليس له قسيسون ورهبان وأ حبار، فطبيعي ألا يكون فيه اعتراف.
83
وكذلك كانت حركة تدعو إلى تحطيم الصور والتماثيل الدينية (Iconoclasts) ؛ ذلك أنه في القرن الثامن والتاسع الميلادي أو القرن الثالث والرابع الهجري ظهر مذهب نصراني يرفض تقديس الصور والتماثيل؛ فقد أصدر الإمبراطور الروماني ليو الثالث أمرا سنة 726م يحرم فيه تقديس الصور والتماثيل، وأمرا آخر سنة 730م يعد الإتيان بهذا وثنية. وكذلك كان قسطنطين الخامس وليو الرابع، على حين كان البابا جريجوري الثاني والثالث وجرمانيوس بطريرك القسطنطينية والإمبراطورة إيريني من مؤيدي عبادة الصور، وجرى بين الطائفتين نزاع شديد لا محل لتفصيله وكل ما نريد أن نذكره أن بعض المؤرخين يذكرون أن الدعوة إلى نبذ الصور والتماثيل كانت متأثرة بالإسلام، ويقولون إن كلوديوس (Claudius)
أسقف تورين (الذي عين سنة 828م حول 213 هجرية) والذي كان يحرق الصور والصلبان، وينهى عن عبادتها في أسقفيته؛ ولد وربي في الأندلس الإسلامية.
84
وكراهية الإسلام للتماثيل والصور معروفة، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي لله عنها قالت: «قدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكة وتلون وجهه، وقال: يا عائشة أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله. قالت فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين.»
85
والأحاديث في هذا الباب مستفيضة.
كذلك وجدت طائفة من النصارى شرحت عقيدة التثليث بما يقرب من الوحدانية، وأنكرت ألوهية المسيح (عليه السلام).
86 •••
ومسألة أخرى كبيرة الأهمية في عصرنا الذي نؤرخه؛ تلك هي أن تصور كثير من المسلمين الإسلام في ذلك العصر يختلف عن تصور المسلمين له في العصور الأولى، فحياة العربي الساذجة البسيطة السهلة تعقدت، والديانات المختلفة تسربت والأعاجم الذين كانوا وثنيين أو مانويين أو نحوهم دخلوا في الإسلام ولم تنق رءوسهم من كل ما علق بها من الديانات القديمة. وقد عاشوا في المدنيات المركبة المعقدة ، فنظروا إلى الإسلام بعيونهم، لا بالعين العربية الأولى. وحق ما يقال: إن الأمم وإن اتحدت دينا فكل أمة يختلف نظرها في تفاصيل دينها عن الأمم الأخرى، وهي تنظر إلى الدين من خلال تاريخها ونظمها الاجتماعية، من خلال أديانها المتعاقبة، ومن خلال لغاتها وتقاليدها، ومن خلال ثقافتها وتربيتها، إلى غير ذلك. كل المسلمين يقولون: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ولكن نظر العالم الواسع الثقافة إلى الإسلام غير نظر العامي الجاهل، وكلاهما غير نظر الصوفي، وهكذا. بل نظر المسلمين المصريين (على وجه العموم) إلى الإسلام يختلف في تفاصيله عن نظر الهنود المسلمين والأتراك المسلمين، لأن كل أمة تداول عليها من العوامل ما يخالف غيرها، وذلك من غير شك خالف بين أنظارهم وعقلياتهم، والناس كانوا ينظرون إلى الإسلام نظرا يختلف باختلاف العصور. يعجبني في ذلك ما رواه البخاري والترمذي عن أنس بن مالك المتوفي سنة 90ه، قال: «ما أعرف شيئا مما كان على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، قيل: الصلاة؟ قال: أليس صنعتم ما صنعتم فيها!»
87
فأنس (رضى الله عنه) قد شاهد عصر النبي
صلى الله عليه وسلم
وعصر الأمويين، ومع قرب العصرين لاحظ اختلاف الأنظار والأعمال، فكيف إذا شاهد العباسيين ومن بعدهم. قد كان الإسلام سهلا يسيرا، يقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه.» ويقول: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم؛ فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم.»
88
وكان القاسم بن محمد يلبس الخز، وسالم بن عبد الله يلبس الصوف، ويقعدان في مسجد المدينة، فلا ينكر هذا على هذا، ولا ذا على هذا.»
89
وكان هناك نزعة لبعض الصحابة في الغلو في الدين، فقاومها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ كالذي كان بينه وبين عبد الله بن عمرو؛ فقد بلغه أنه لا ينام ولا يفطر، ولا يؤدي حقوق أهله انهماكا في العبادة. فقال له رسول الله: «يا عبد الله إن لك في رسول الله أسوة حسنة، فرسول الله يصوم ويفطر ويأكل اللحم، ويؤدي إلى أهله حقوقهم. يا عبد الله إن لله عليك حقا، وإن لبدنك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا.»
وبعد هذا رأينا تشددا في دين ، وابتداعا لتقاليد، وغلوا في نواح مختلفة؛ منهم من يلبس الصوف ويلتزمه، ومنهم من يغلو في الإنكار عليهم: «قدم حماد بن سلمة البصرة، فجاءه فرقد السبخي، وعليه ثياب صوف؛ فقال له حماد: دع عنك نصرانيتك!»
90
وقال ابن السماك لأصحاب الصوف: والله لئن كان لباسكم وفقا لسرائركم، فقد أحببتم أن يطلع الناس عليها، وإن كان مخالفا لقد هلكتم.» وكان بعض الموالي يتشدد في الوضوء والطهارة، ويغلو في ذلك غلوا لا يعرفه العرب، فكان العرب يكرهون منهم ذلك.
91
إلى كثير من أمثال هذا.
وهناك ما هو أهم من هذا، ذلك أن الناس في عصر النبي
صلى الله عليه وسلم
وبعده كانوا يقرءون القرآن أو يسمعونه فيعنون بتفهم روحه، فإن عني علماؤهم بشيء وراء ذلك فما يوضح الآية من سبب للنزول، أو استشهاد بأبيات من أشعار العرب تفسر لفظا غريبا، أو أسلوبا غامضا. وأكثر ما روي لنا في الطبري وغيره عن الصحابة في تفسير القرآن هو من هذا القبيل، وما عرفنا في العصر الأول انحياز الصحابة إلى مذاهب دينية، وآراء في الملل والنحل، فلما كنا في آخر العصر الأموي رأينا الكلام في القدر، ورأينا المتكلمين فيه ينظرون إلى القرآن من خلال عقيدتهم، فمن قال بالجبر أول كل آيات الاختيار، ومن قال بالاختيار أول كل آيات الجبر. وسال بعد ذلك السيل في العصر العباسي، فصارت كل طائفة وأصحاب كل مذهب ينظرون إليه من خلال مذاهبهم. ولئن كان هذا النظر أفاد من ناحية الجدال بين المسلمين وغيرهم، والدعوة إلى الإسلام كما بينا في موقف المعتزلة؛ فقد أساء بإضعاف الروح الدينية وما كانت توحيه من إحياء القلب. أصبح علماء الكلام والمذاهب الدينية ينظرون إلى القرآن من خلال الفلسفة اليونانية، وذلك إن كان فيه مران عقلي وتوسيع لبعض مناحي الفكر ، ففيه إضعاف لقوة الروح وحماسة القلب؛ سواء في ذلك المعتزلة والأشعرية والماتريدية، فكلهم استخدموا الأدلة اليونانية في العقائد الدينية، وهي غير الطريقة التي نحاها القرآن الكريم في الدعوة إلى الدين، لقد كادوا بعملهم هذا يقطعون الصلة بين العقل والقلب، وينمون الناحية العقلية على حساب قوة العاطفة، إن شئت فاقرأ لإثبات قدرة الله قوله تعالى:
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون * ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون
ثم اقرأ في كتب علم الكلام الجدل بين الأشعرية والماتريدية في أن القدرة صفة أزلية تتعلق وفق الإرادة، بمعنى صحة صدور الأثر والتمكن من الترك كما يقول الماتريدية، أو هي صفة تؤثر في المقدورات عند تعلقها بها كما يقول الأشاعرة، فكم من الفرق بين المنهجين والروحين! أهم غرض للقرآن الكريم أن يحيي الشعور ببيان علاقة الإنسان القوية بالله والعالم، وأن يعمل على ذلك بتغذية الحياة الروحية، أما المتكلمون فأرادوا أن يصلوا إلى ذلك من طريق المنطق، وشتان بين الطريقين! فحياة المنطق لا تملأ القلب حماسة، ولا تبعث في النفس حرارة إيمان، إنما تفعل ذلك الحياة الروحية.
لقد كثرت المذاهب والنحل في ذلك العصر كثرة مدهشة، حتى يصفهم المأمون فيقول: «وطائفة قد اتخذ كل رجل منهم مجلسا، اعتقد به رئاسة، لعله يدعو فئة إلى ضرب من البدعة. ثم لعل كل رجل منهم يعادي من خالفه في الأمر الذي عقد به رئاسة بدعة ويشيط بذمه، وهو قد خالفه من أمر الدين بما هو أعظم من ذلك، إلا أن ذلك أمر لا رئاسة له فيه فسالمه عليه.»
92 ... إلخ. ونستعرض أسماء الفرق والمذاهب في كتاب الملل والنحل للشهرستاني، فندهش لكثرتها واختلافاتها. وهذه كلها كانت تنظر إلى القرآن الكريم بعين مذهبها، وتفسره بما يلائمه؛ فالمعتزلي يطبق القرآن على مذهبه في الاختيار والصفات والتحسين والتقبيح العقليين، ويؤول ما لايتفق ومذهبه، وكذلك يفعل الشيعي، وذلك يختلف كل الاختلاف عن نظر المسلمين الأولين إلى القرآن.
كان القرآن يدعو إلى الإيمان من طريقين: طريق النظر إلى العالم نفسه، وطريق التاريخ؛ فهو يرى أن نظر الإنسان إلى العالم يدعم إيمانه ويقوي يقينه؛ ففي الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، والإبل كيف خلقت والأرض كيف سطحت، آيات على الله، كما أن في الأحداث التاريخية من الأنبياء وأممهم ما يدعو إلى الإيمان، وهذا النظر يناسب الناس على اختلافهم؛ ففي استطاعة العالم والجاهل أن ينال الإيمان من هذا الطريق، والدعوة إلى الحياة الروحية وحدها هي الدعوة التي يمكن أن توجه إلى الناس كافة، فلما أولع العلماء بالفلسفة اليونانية في العصر العباسي حولوا اتجاه القرآن نفسه إلى نوع من الثقافة العقلية والبراهين المنطقية، ودرسوا القرآن على النحو الذي يدرسون به الحساب والهندسة والهيئة، فكان في ذلك إضرار بالدين من ناحيته القلبية، ونتج عن ذلك تعقيد العقيدة الإسلامية السهلة السمحة، حتى صار يمثلها تعاليم المتكلمين من معتزلة وأشعرية، وأصبح أخيرا يمثلها «العقائد النسفية» و«متن السنوسية»، وشعر بهذا النقص قوم من الصوفية المخلصين، فدعوا إلى الإسلام من منهجه الأول، ولكن سرعان ما تحول بعضهم أيضا إلى الفلسفة يستمد منها، كما سنبينه إن شاء الله.
وكان كلما تعمق المسلمون في العلوم والفلسفة نظروا إلى القرآن من خلالها، فإذا أتت آية في الرعد والبرق شرحوها بكل ما وصل إليه علمهم في الظواهر الجوية، وإذا أتت آية في النجوم والسماء طبقوا ما علموا من علم الهيئة، وإذا أتت إشارة في آية إلى جبر أو اختيار عدوا مذاهب المتكلمين فيها، وإذا أتت مسألة نحوية أفاضوا في الخلافات النحوية بين البصريين والكوفيين. وعلى الجملة، فقد كدسوا كل ما عرفوا من علوم الآيات القرآنية، وتضخم ذلك على توالي الأزمان، كما ترى بعد في تفسير الفخر الرازي؛ فيه كل شيء وصل إليه المسلمون إلا شيئا واحدا، هو شرح روح القرآن. •••
ولكن إن كانت هذه نقطة ضعف في الفلسفة والعلوم من ناحية الدين؛ فقد كان لها فضل كبير من الناحية الدينية أيضا ، ذلك أن الناس واجهوا مشكلة كبرى في العصر العباسي، رأوا مدنيات عظيمة لأمم مختلفة ورثتها المملكة الإسلامية، ورأوا عادات مختلفة لأمم متعددة في جميع مناحي الحياة، ورأوا معاملات تجارية، ونظما للأحوال الشخصية تأثرت بديانات الأمم المختلفة. وهكذا في كل ناحية من النواحي الاجتماعية؛ سواء كانت نواحي اقتصادية أم سياسية أم قانونية. ورأوا من ناحية أخرى أن الإسلام أتى بأصول يجب المحافظة عليها، وأتت فيه نصوص كذلك على جزئيات يجب مراعاتها، ولكن في كل عصر تحدث من الأقضية والأحداث ما لم يكن حدث من قبل، ولم يرد فيه نص، فكان أمام العلماء أن ينظروا بإحدى العينين إلى قواعد الإسلام وتعاليمه، وبالعين الأخرى إلى المدنية العباسية، وما جد فيها من مظاهر وأحداث شتى، وكان لا بد من أن يطبقوا قواعد الإسلام على تلك الأحداث، ولم يكن هذا بالأمر الهين. نعم عرضت هذه المشكلة في تاريخ الإسلام من قبل العباسيين، قد واجهها عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بعد أن فتحت الفتوح ومصرت الأمصار، ودخلت أمم مختلفة العقائد والنظم واللغات تحت حكم الإسلام، وبذل من الجهد هو ومن حوله من العلماء ما لا يقدر، وضرب مثلا صالحا لمن يأتي بعده، ولذلك نص المشرعون على العمل برأيه في كثير من نظم الفتح والجهاد والضرائب، ونحو ذلك، وعدوه مثلهم الذي يحتذى، وواجه هذه المشكلة الأمويون فحوروا في نظم الدواوين والنقود ونحوها، فخطوا بذلك خطوة ثانية، ولكن المشكلة أمام العباسيين كانت أعقد؛ لأن دهشة الفتح قد زالت، والأمم التي دخلت في الإسلام استقرت ونسلت جيلا جديدا، ورث من آبائه وورث من المسلمين. والعباسيون كما رأينا قبل لم يشاءوا أن يعيشوا عيشة ساذجة كمن قبلهم من الأمويين، وتغلبت العناصر الأخرى كالفرس ذات الحضارة المركبة، فكان من ذلك كله أن أرادوا أن يضعوا نظما كاملة شاملة، وأن يواجهوا هذه المشاكل ويحلوها حلا بقوانين ومبادئ لا بأمر جزئي، ولا برأي فرعي، فأعانتهم العلوم في ذلك العصر على هذا كله، ولولا العلوم ما استطاعوا، فرأينا أبا يوسف في كتابه «الخراج » يضع النظام المالي لدولة الرشيد، فيقرر نظام الأرض ومسحها، وما يؤخذ منها وكيف يكون ذلك، ويضع نظام ضرائب غير الأرض مما يخرج من البحر ونحوه، ويضع نظام الري من الآبار والأنهار، ونجد الأئمة الأربعة وغير الأربعة يجتهدون في وضع القوانين من مالية وجنائية، وما يسمى بالأحوال الشخصية، وغير الفقهاء يضعون نظما إدارية كنظام الشرطة والجند والجيش، وقد تتعارض نظم الفقهاء مع نظم الإداريين فينظر في التوفيق بينهما، ويوضع نظام البريد والمصانع والتجارة ونحوها؛ كل هذه حركات كانت في الدولة العباسية نشيطة قوية، وكانت خاضعة في مبادئها للقواعد الأساسية للإسلام. وبذلك نستطيع أن نقول: إنه في هذا العصر قنن الإسلام وأصبح هو النظام لحكومة ممدنة بالمعنى العصري. نعم كان هناك خروج عن الإسلام في بعض التصرفات، وكان هناك نقص في تنفيذ الأحكام القضائية، وكان هناك نقص في إعطاء الأحكام الفقهية سلطة القانون، ولكن هذا لا ينقض ما ذكرنا من أن الروح العامة في التشريع ووضع النظم كانت تتقيد بأصول الإسلام، وأنه لولا اشتغال المسلمين بالعلم في فروعه المختلفة ما كان يمكن ذلك.
وهذا الإسلام بتعاليمه ونظم حكمه أظل كل الأمم الإسلامية على اختلاف أنواعها؛ من آريين وساميين وحاميين، يخضعون لسلطانه، ويجرون في نظامهم وقضائهم ومعاملاتهم على ما قنن من أحكامه. ومن أجل هذا أخذت الفروق بين الأمم تتقلص ويحل محلها وحدة إسلامية. ومن أجل ذلك أيضا كانت هذه الوحدة متجلية في العصر العباسي أكثر مما كان في العهد الأموي، ودخل الإسلام في الحياة العامة وفي السياسة وفي الإدارة، وتأثر التشريع بعادات الناس، وتأثرت عادت الناس بالتشريع.
كان الإسلام دينا في مكة، وكان دينا وحكما في المدينة، وكان دينا وحكما ومدنية في بغداد وسائر المملكة الإسلامية في العصر العباسي. ولعل هذا من الأسباب التي دعت إلى دخول كثيرين في الإسلام في ذلك العصر؛ فقد كان الناس يتنفسون إسلاما أينما حلوا؛ في البيت، في الشارع، في المحكمة، في المعاملات التجارية، في الضرائب، في التعليم، في كل مرافق الحياة. •••
وبعد فقد كان للإسلام ثقافة واسعة؛ من تفسير للقرآن، واشتغال بالحديث، وتشريع للأحكام، ولكن محل ذلك كله الكلام في الحركة العلمية إن شاء الله.
الفصل الثاني عشر
امتزاج الثقافات
هذه الثقافات التي ذكرنا؛ من فارسية، وهندية، ويونانية وعربية، ومن يهودية ونصرانية وإسلام التقت كلها في العراق في عصرنا الذي نؤرخه. ولكن كل ثقافة في أول أمرها كانت تشق لنفسها جدولا خاصا بها، يمتاز بلونه وطعمه، ثم لم تلبث إلا قليلا حتى تلاقت، وكونت نهرا عظيما تصب فيه جداول مختلفة الألوان والطعوم، مختلفة العناصر.
والعلماء على اختلاف أنواعهم لم يكونوا كلهم يستسيغون ماء النهر الأعظم، ولا يتذوقون طعمه؛ فكان منهم من يخرج إلى بادية العراق يرد الجدول العربي صافيا، قبل أن تكدره الحضارة، يستقي منه ما شاء أن يستقي، ويعود إلى الحضر وقد تزود مما استساغه من ماء يعيش عليه، ولا يشرب إلا منه، وإذا استسقي فلا يسقي إلا منه. أولئك أمثال الأصمعي الذي حفظ كما يقولون اثني عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب، وحفظ الكثير من قصائدهم ونوادرهم ولغتهم، وتخصص لذلك، يؤلف فيه ويعلم في المسجد ويحاضر، وكحماد الراوية، وخلف الأحمر، والمفضل الضبي، وأبي عمرو الشيباني، ومحمد بن سلام الجمحي، فهؤلاء كانوا لا يعجبهم إلا الجدول العربي، يرحلون إليه، ويأخذون منه، ويتنقلون في قبائله، ويروون شعره ولغته وأدبه، ويقصون نوادره مهما تفهت، ويحبون كل شيء له، ثم يذهبون إلى العراق يعلنون عن مائه، ويبشرون بعذوبته وصفائه، فإن عرض لهم ماء من جدول آخر عافوه واستكرهوه ومجته نفوسهم.
ومنهم من كان لا يحب إلا الجدول اليوناني، يتعلم كتبه ولغته، ويستلهم مؤلفاته، ولا يرى العقل إلا فيه، ولا الحكمة إلا صادرة عنه ومقتبسة منه؛ كأطباء السريان في ذلك العصر، وهكذا.
ومن الناس من يستقي من جدولين، يرد هذا مرة وذاك مرة، حتى إذا عل ونهل ملأ منهما كل آنيته، وعاد فمزج العنصرين، وكون منهما شرابا جديدا يستسيغه الناس فيعجبون به ويستطعمونه؛ كالذي فعل أبو عبيدة معمر بن المثنى، فهو مولى فارسي، اطلع على آداب الفرس وأخبارها وملوكها وحكمائها ومحاسنها ومساوئها، وعرف أخبار العرب وقبائلها ولغتها وأقاصيصها، وحقائقها وخرافاتها، وروى أيام العرب التي يتناقلها المؤرخون إلى اليوم. فكان واسع الاطلاع في الأدبين العربي والفارسي، وكان يجلس إلى الناس فيحدث بأخبار هؤلاء وهؤلاء، ويقارن بين مفاخر العرب ومفاخر الفرس، ويؤلف الكتب في هذا وفي ذاك، يؤلف في «فضائل الفرس»، و«مآثر العرب» ومثالبهم، فطلع على الناس بثقافتين في وعاء واحد، فكرهه من تعصب للعرب، ورأوا ماءه ليس صافيا، ولا طعمه بالذي ألفوه واعتادوا الري به. وأحبه من ينزع إلى الفرس كالموصلي وأبي نواس، ومن يفسح صدره لكل علم وخبر، ويرى الحكمة ضالة المؤمن ينشدها حيث وجدها كالجاحظ.
ومنهم من تثقف بأكثر من ثقافتين، وتأدب بأكثر من أدبين كما سيأتي بيانه.
وفي الحق، إن الجدول العربي كاد يكون مستقى الناس جميعا، إذا نحن استثنينا طائفة من السريانيين الذين يثقفون بالثقافة اليونانية، أو المجوس الذين يتأدبون بالآداب الفارسية، ويدينون بالديانة الزرادشتية وأمثالهم. أما غير هؤلاء فكانوا يأخذون بحظ من الجدول العربي قل أو كثر؛ ذلك لأن الدولة السياسية عربية بخلفائها ولغتها ودينها، ودولة الأدب عربية، فلا يحيا فيها إلا ما كان عربيا، فاضطر كل ذي أدب وكل ذي علم، وكل ذي لغة أن يتعلم اللغة العربية، يصوغ فيها أفكاره وأدبه وعلمه، فمن تبحر في العلوم اليونانية وجب أن يخرج ما علم إلى اللغة العربية، ومن تأدب بالأدب الفارسي فلا قيمة له إلا أن يخرج أدبه باللغة العربية. وإذا كان رياضيا هنديا، أو طبيبا هنديا فليس له حظوة إلا أن يعرب ما علم، وهكذا. لذلك كان هذا الجدول موردا للأدباء والعلماء، وكان من ذلك أن قوما وفروا جهدهم له، يتبحرون فيه ولا يستقون إلا منه. وقوما تبحروا في غيره، ولكن اضطروا إلى وروده فوردوه، يستعينون بمائه على إساغة ما عندهم للناس. •••
وهنا يعترضنا سؤال لا بد منه، وهو: أي أنواع الثقافات كان أكبر أثرا وأشد نفوذا وأقوى سلطانا؛ الثقافة العربية بما لها من لغة وأدب ودين؟ أم الثقافة الفارسية بما لها من نظام وأدب؟ أم الثقافة اليونانية بما لها من علم وفلسفة؟ وإن شئت وضعت السؤال بهذه الصيغة: أي الثقافات كان أكثر تأثيرا في الثقافة العربية؛ الثقافة الفارسية، أم الثقافة اليونانية؟ نعم، كلتا الثقافتين لونت الثقافة العربية بلون ما كان يكون لولاها، ولكن أي اللونين كان زاهيا ناضرا، وأيهما كان ضعيفا شاحبا.
ذلك سؤال عويص، ولكن يظهر لي أن أسد طريق ألا نجيب إجابة مطلقة، أن نقول: إن كل ثقافة من هذه الثقافات كانت لها «منطقة نفوذ» لا تكاد تزاحمها فيهما الثقافة الأخرى، فالعلوم الرياضية من حساب وجبر وهندسة وفلك وطب وما إليه، وفلسفة وما إليها؛ كانت منطقة النفوذ اليوناني، تزاحمها فيها الثقافة الهندية، ولكن مزاحمة غير عنيفة. فأساس هذه الأشياء كلها عند المسلمين هو الأساس اليوناني، وإن كان بعض أركانه هنديا، والمنهج الذي اتبع في هذه العلوم منهج يوناني في منطقه وطريقة تأليفه، وما علق عليه من شروح. وكتب هذه العلوم عليها مسحة خاصة؛ هي غير المسحة الأدبية، وهي غير المسحة الجغرافية والتاريخية؛ هي مسحة يونانية بحتة؛ لأنها تأثرت كل التأثر بما ترجم من اليونان، وظلت حافظة لشكلها، حتى ألف المسلمون فيها. وقد بدأت الرياضة الهندية والفلك الهندي تدخل في ثنايا ما ألف المسلمون في هذه العلوم، ولكنها ما لبثت أن ذابت.
أما الأدب، فلم يتأثر كثيرا بالأدب اليوناني، وهذا ظاهر فيما ألف من الكتب في هذا العصر، فمنهجها غريب لا يتصل بسبب إلى المنهج اليوناني، فلا أثر للترتيب المنطقي فيه، ولا ترى وحدة للكتاب ولا للباب، كما رأينا في كتاب الكامل للمبرد، وكما نرى في البيان والتبيين للجاحظ؛ إنما هي جزئيات جمعت حيثما اتفق، هي أشبه بسمر العلماء في المجالس. فأما موضوع واحد يرتب فيه كل ما يراد أن يقال وتسلسل أفكاره، وتسلمك ألفه إلى يائه بالتدريج كما يفعل العقل اليوناني؛ فذلك ما لا نجده في كتب الأدب العربي.
هذا من ناحية الشكل، وأما من ناحية الموضوع؛ فإن ما فيها من أدب شرقي فارسي أو هندي أكثر مما فيها من أثر يوناني، ففيها الحكم عن أردشير وبزرجمهر أكثر مما عن أفلاطون وأرسطو، وفيها نظام الحكم الفارسي لا نظام الحكم اليوناني، وفيها تصور للعدل وطبقات الناس، كما يتصوره الفرس، وفيها توقيعات الملوك وقصصهم مع رعيتهم على النحو الفارسي لا النحو اليوناني، وعلى الجملة فنفوذ الفرس في الأدب نفوذ اليونان. وقد حاولنا فيما سبق بيان السبب في ذلك.
ومما يجب التنبه له أن كثيرا من حاملي لواء الأدب في ذلك العصر، من شعراء وكتاب، كانوا من أصل فارسي من ناحية الأبوين معا، أو أحدهما، ثم تعلموا اللغة العربية وحذقوها، فكان تجديدهم للأدب مدينا للفرس والعرب معا، فأدخلوا على الأدب العربي عناصر جديدة لم تكن، فبشار الفارسي يخترع تشبيهات جديدة لم يستعملها العرب، وأبو العتاهية زعيم الشعر الديني، والسابق إليه من الموالي، وأبو نواس المتخصص في الخمر وما إليه، والفاتح للناس بابا من الهجاء لم يلجوه من قبل هو نصف فارسي، وكذلك الشأن في الكتاب، وما أدخلوا من أسلوب، كابن المقفع، وسهل بن هارون. كل هؤلاء كانوا من أصل فارسي أو ما يقرب منه، فما أنتجوه من غير شك نتاج للأصل الفارسي والثقافة العربية، وملون بالحياة الاجتماعية التي كان يعيشها العراق. وقل أن نجد من هؤلاء الأدباء من كان من أصل رومي، يتلون بلون الروم، ويتثقف بثقافتهم، وإذا كان الأدب العباسي أساسا كبيرا من أسس الأدب جرى الناس بعد على منواله، وحذوا حذوه. وإذا كان من ساهم في هذا الأساس هم الفرس لا اليونان أمكننا أن نستنتج أن نفوذ اليونان في الأدب العربي ضعيف.
ثم من الحق أن نقول: إن نفوذ العرب في أدبهم، وخاصة في شعرهم؛ كان أقوى من أي نفوذ آخر، فقد ظل الشعر حافظا لأوزانه الجاهلية وتقاليده إلى عصرنا هذا، ولم تستطع أمة بنفوذها مهما عظم أن تحوله. وكل ما قلنا من أثر فارسي فإنما كان في بعض العناصر التي تصب في القالب، لا في القالب نفسه، وأبو نواس يحاول أن يخرج على الجاهليين، ويقول:
صفة الطلول بلاغة القدم
فاجعل صفاتك لابنة الكرم
ولكنه مع هذا لا يستطيع أن يتحرر من قيوده، ولو فعل لما قرئ ولا سمع. ويصف الجاحظ شعور الناس في عصره نحو الشعر الجاهلي والتراث الجاهلي، فيقول: «إنهم يفضلونه على الشعر الإسلامي، وهم به أكثر ولوعا، وأشد تقديرا.» ويقول: «إنهم يعدون حاتما أجود العرب، ولو كان الأمر مفوضا إلى تقدير الرأي لكان ينبغي لغالب بن صعصعة أن يكون من المشهورين بالجود، دون هرم وحاتم. فإن زعمت أن غالبا كان إسلاميا، وكان حاتم في الجاهلية، والناس بمآثر العرب في الجاهلية أشد كلفا فقد صدقت!» ويقول: «إن أيام الإسلام ورجالها لم تكن أكبر في النفوس، وأجل في الصدور من رجال الجاهلية مع قرب العهد ... ومع الإسلام الذي شملهم، وجعله الله تعالى أولى بهم من أرحامهم.»
1
كل هذا جعل تأثير الأدب الجاهلي في الأدب الإسلامي شديدا قويا، وجعل الإسلاميين يحتذون حذوه ولا يخرجون كثيرا عن قيوده، فلئن كانت الثقافات الأجنبية في العلوم واضحة الأثر فأثرها في الأدب خفيف، ولو كان شديدا قويا لأدخلوا على بحور الشعر الجاهلية بحورا فارسية أو يونانية، ولتحرروا أحيانا من القافية، ولأدخلوا ضرب الشعر القصصي والتمثيلي، ولرسموا طريقة جديدة لنهج القصيدة؛ فلم يتقيدوا ببكاء أطلال، ولا وقوف على ديار، ولهجروا الغزل الطويل يدخلون به على مدح الممدوح، ولفعلوا كثيرا من أمثال ذلك، ولحدثت ثورة في الشعر والأدب، فنقلته نقلة جديدة كما حدث في العلوم. نعم حدث تغير من دخول بعض الفنون الشعرية، واصطباغها بصبغة الحياة الاجتماعية ونحو ذلك، ولكنه تغيير خفيف، لا يكاد يرى إلا بالمجهر. كم بين طب العرب في الجاهلية، وطب حنين بن إسحاق وبختيشوع من فرق! وكم بين نظر العربي إلى الأنواء والنجوم، ونظر نوبخت! بل كم بين ما روي من فقه عن ابن مسعود، وما روي عن محمد بن الحسن، ونحو أبي الأسود الدؤلي كما يروون، ونحو سيبويه! ولكنك لا تجد هذه المسافات الواسعة بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي والعباسي.
وعلى الجملة، فقد كانت نواحي التأثير ومصادره ومقداره مختلفة اختلافا كبيرا، وعلى أشد ما يكون من دقة، إن أنت حاولت أن تعبر عن ذلك بأرقام خانتك قوتك، ولم تجد سبيلا لذلك. كل ما نستطيع أن نقوله: إن طبيعة الثقافة اليونانية عقلية منطقية؛ تحاول أن تجعل لكل شيء مقدمات ونتائج. وهذا الضرب تجلى عند المسلمين في الرياضيات والفلسفة وما إليهما، وأتت هذه الأشياء في العهد العباسي ومواضعها خالية تقريبا، فكان من السهل أن تصبغ بالصبغة اليونانية من غير كبير مزاحمة، وطبيعة الثقافة الفارسية على ما وصلت إلينا فلسفة عملية؛ من حكم تصاغ حول العدل والظلم ونظام الحكم، ونحو ذلك مما تراه في الأدب الكبير والصغير لابن المقفع، ليس فيها مجال كبير للنظريات، كما هو الشأن عند اليونان، ولكن تجارب عملية تجرب فتصاغ في قالب حكمة أو مثل، وهذا النوع استساغه العرب في أدبهم؛ لأنه أشبه بأمثالهم، وطبيعة الثقافة الهندية مزيج من حكمة (كالتي قلنا في الفرس تتجلى في مثل كليلة ودمنة)، ومن نظريات فلسفية ورياضية كالتي عند اليونان، ولكن يلاحظ البيروني أنهم لا يجيدون تعليلها، ولا البرهان عليها كما يفعل اليونان. وطبيعة الثقافة العربية الأدبية لسانية، أبين شيء فيها جمالها الفني، وأنها بنت البادية، ونتيجة السليقة، ووليدة الفطرة. وهذا هو السبب فيما حكى الجاحظ؛ إذ يقول: «وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونان، وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنا، وبعضها ما انتقص شيئا. ولو حولت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم التي وضعت لمعاشهم وفطنهم وحكمهم.»
2
وسبب ذلك: أن أسهل شيء في الترجمة المعاني المحددة، وأصعب شيء جمال الأسلوب، وإذا كانت طبيعة الأدب العربي ما بينا كان نقله أصعب نقل، وكان أداؤه بلغة غير اللغة العربية ذاهبا ببهجته، مضيعا لجماله.
عمل على نشر نتاج هذه الطبائع المختلفة قوم مختلفون، فوزراء العباسيين ومن نحا نحوهم يؤيدون الثقافة الفارسية، ومدرسة جنديسابور وما تفرع منها تؤيد الثقافة اليونانية، والعرب والأدباء وعلماء اللغة والنحو يؤيدون الثقافة الهندية. وقد نشر هؤلاء جميعا في الجو هذه الثقافات المختلفة، يتنفس كل منها حسب ميوله واستعداده ونوع تعلمه، وكان الوزراء والكتاب أكثر الناس ثقافة فارسية عربية، وكان أطباء القصور النساطرة أكثرهم ثقافة يونانية عربية، وكان المتكلمون على ما يظهر أكثر ثقافة من كل نوع. يقول الجاحظ: «المتكلمون يريدون أن يعلموا كل شيء، ويأبى الله ذلك.»
3
وفي الحق، إن المتكلمين كانوا أكبر عامل من عوامل المزج بين الثقافات المختلفة، من نواح متعددة، فقد كانوا بطبيعة موقفهم الذي شرحناه قبل من دعوة إلى الإسلام مضطرين أن يطلعوا على الأديان الأخرى؛ من مجوسية ويهودية ونصرانية، وكانت اليهودية والنصرانية قد تسلحت بالفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني، فاضطر المتكلمون أن يتسلحوا بنفس سلاحهم، فكانوا أول من أدخل الفلسفة اليونانية في الإسلام، وكان المتكلمون حلقة الاتصال بين من أتى بعدهم من فلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا وابن رشد، وكان موقفهم جديدا لأنهم سلكوا غير طريق السلف، وتعرضوا لمسائل كثيرة لم يتعرض لها من قبلهم، فقام في وجوههم طبقة المحافظين، وعلى رأسهم رجال الحديث، وكانت حربا عوانا نشرحها عند الكلام في المتكلمين إن شاء الله.
كذلك كانوا صلة بين الفلسفة اليونانية والأدب؛ فقد تثقفوا ثقافة يونانية كما رأينا، وتثقفوا ثقافة عربية من لغة وأدب، ومزجوا الاثنتين مزجا تاما. رأوا معاني يونانية وأسماء يونانية، فوضعوا لها كلمات عربية، كما أنهم لدعوتهم إلى الإسلام مضطرون أن يتخيروا خير الألفاظ، وخير التعبيرات، فمرنوا على الخطابة والبلاغة، ووضعوا أسسها، كما وضعوا أساس آداب البحث والمناظرة. قال الجاحظ: «كان كبار المتكلمين ورؤساء النظارين فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء، وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفا لكل خلف، وقدوة لكل تابع، ولذلك قالوا العرض والجوهر وأيس وليس، وفرقوا بين البطلان. والتلاشي، وذكروا الهدية والهوية والماهية، وأشباه ذلك.»
4
وقدموا معاني للأدباء والشعراء لم تكن معروفة من قبل، كما قدموا لهم تعبيرات لم تكن، يقول أبو نواس:
تكل عن إدراك تحصيله
عيون أوهام الضمائر
تنتسب الألسن من وصفه
إلى مدى عجز وتقصير
ويقول:
تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها
خلقا وخلقا كما قد الشراكان
اثنان لا فصل للمعقول بينهما
معناهما واحد والعدة اثنان
ويقول:
كمن الشنآن فيه لنا
ككمون النار في حجر
ويقول أبو تمام:
جهمية الأوصاف إلا أنهم
قد لقبوها جوهر الأشياء
وقال سعيد بن حميد:
قد قلت بالعدل ولكنني
عدلت في الحب عن العدل
فقلت بالإجبار مستغفرا
لله من قولي ومن فعلي
ويقول ابن الرومي:
ما عذر معتزلي موسر منعت
كفاه معتزليا مثله صفدا
أيزعم القدر المحتوم يبسطه
إن قال ذاك فقد حل الذي عقدا
ويقول الناشئ يفتخر بالكلام والمتكلمين:
ونحن أناس يعرف الناس فضلنا
بألسننا زينت صدور المحافل
ننير وجوه الحق عند جوابنا
إذا أظلمت يوما وجوه المسائل
صمتنا فلم نترك مقالا لصامت
وقلنا فلم نترك مقالا لقائل
ويقول أبو نواس:
وذات خد مورد
قوهية المتجرد
تأمل العين منها
محاسنا ليس تنفذ
فبعضها قد تناهى
وبعضها يتولد
والحسن في كل عضو
منها معاد مردد
5
ويقول:
تركت قلبي قليلا
من القليل أقلا
يكاد لا يتجزا
أقل في اللفظ من لا
6
إلى كثير من أمثال ذلك.
وعلى الجملة، كان المتكلمون صلة لأشياء مختلفة، كانوا صلة بين الأديان بعضها وبعض، وصلة بين الفلسفة والدين، وصلة بين الفلسفة والأدب، فلو قلنا إن المتكلمين كانوا من أظهر القائمين بعملية المزج لم نبعد عن الصواب. •••
لئن كان المتكلمون هم الصلة بين اليونان والمسلمين، فقد كان الفرس المتعربون صلة بين الفرس والعرب؛ مزجوا ما نشئوا عليه من أدب فارسي بما تعلموا من أدب عربي، مزجوا القصة الفارسية بالقصة العربية كما في ألف ليلة وليلة، وغيره، ومزجوا الحكم الفارسية والتشبيهات الفارسية بالحكم والتشبيهات العربية. «كان كسرى أنوشروان مشتهرا بالنرجس، وكان يقول: هو ياقوت أصفر بين در أبيض، على زمرد أخضر»، فيقول الشعر العربي:
وياقوتة صفراء في رأس درة
مركبة في قائم من زبرجد
كأن بقايا الظل في جنباتها
بقية دمع فوق خد مورد
وكان أردشير بن بابك يصف الورد، ويقول: «هو در أبيض، وياقوت أحمر، على كرسي زبرجد أخضر، توسطه شذور من ذهب أصفر، له رقة الخمر، ونفحات العطر»، فيقول محمد بن عبد الله بن طاهر:
كأنهن يواقيت يطيف بها
زمرد وسطه شذر من الذهب
فاشرب على منظر مستظرف حسن
من خمرة مزة كالجمر في اللهب
ويضع الفرس الأساطير فينحو العرب نحوهم؛ فقول العرب في العنقاء يشبه قول الفرس في «سيمرغ»، ومن أساطير الفرس أن مسكن السيمرغ على الشجرة التي تقي كل البذور، وهي في المحيط الواسع على مقربة من شجرة الخلد، تجتمع عليها البذور التي أنتجتها النباتات كلها طول السنة.
7
وما تزال تنتقل الأسطورة بين العرب، حتى يدخلها الفيروزابادي في القاموس المحيط، فيقول: «والجزائر الخالدات»، ويقال لها جزائر السعادة ست جزائر في البحر المحيط من جهة المغرب، منها يبتدئ المنجمون بأخذ أطوال البلاد، تنبت فيها كل فاكهة شرقية وغربية وريحان وورد، وكل حب من غير أن يغرس أو يزرع.
8
ويقرأ القارئ الشاهنامة، وما فيها من أساطير فتوحي إليه بمقارنات ومشابهات بينها وبين الأساطير العربية لا تكاد تحصى، كأسطورة «ازدهاك»، وهو روح شريرة في الأساطير الآرية، وفي الأبستاق؛ هو شيطان يمنع ماء السحاب أن ينزل إلى الأرض، وعند الفرس ملك ظالم جبار يتمثل فيه الشر كله.
وتتحول الكلمة في العربية إلى الضحاك، ويزعمون أنه عربي من اليمن، ويفتخر به أبو نواس في قصيدته التي يفخر فيها بقحطان على نزار فيقول:
وكان منا الضحاك يعبده الخابل
والطير في مساربها
9
ويقول صاحب القاموس: «والضحاك رجل ملك الأرض، وكانت أمه جنية فلحق بالجن ...» إلخ.
ويتنقل مذهب تناسخ الأرواح من الهند، فينتشر في العراق، ويدعو إليه غلاة الشيعة وبابك الخرمي وأصحابه.
وهكذا تمتزج في العراق كل الثقافات، وتتبادل كل الآراء، وتعرض كل الآداب، فيروي الأغاني أنه: «كان في مسجد البصرة حلقة قوم من أهل الجدل، يتصايحون في المقالات والحجج فيها.»
10
وبجانبهم حلقة للشعر والأدب، وهكذا، وكان الذين يحضرون هذه الحلقات من أجناس مختلفة وديانات مختلفة وآراء مختلفة، وكانوا يتلاقون في المسجد وفي المنازل، وفي قصور الولاة والخلفاء، ويتحاجون ويتجادلون، يخرج الجاحظ صباحا إلى المسجد لطلب الحديث، ويلتقي بعد بحنين بن إسحاق وسلمويه، ويلقى النصراني واليهودي فيجادلهما، ويلقى البدوي العربي فيأخذ عنه. يتقابل أصحاب الديانات فيحكي كل ما ورد في كتبه عن خلق العالم، ويتجادلون في رؤية الله هل تكون أو لا تكون؟ وفي صفات الله هل هي زائدة على الذات أو لا؟ على حين يتجادل الآخرون في أي الأمم خير، ويتعصب هذا للعرب، وهذا للعجم، وغير هؤلاء في لغة وفي أدب، ويقارن العلماء بين اللغات المختلفة والآداب المختلفة، فكان من هذا كله حركة عنيفة، لم تدع نوعا من المذاهب والأديان واللغات والآداب يعيش وحده، بل لم تدع جزءا من الأجزاء إلا مزجته بأجزاء أخرى، حتى صعب على الباحث أن يرد الأشياء إلى أصولها، ولم تكن هذه العملية كعملية مزج الزيت بالماء، يعود كل عنصر ملتئما مع نوعه مفارقا لغيره، ولكنه كامتزاج السكر بالماء، أو نفحات الأزهار بالهواء. تمتزج فتبقى أبدا، وتتلاقى فلا تفترق أبدا، وكذلك كانت الثقافات، التقت في هذا العصر فكان أول تلاق، وصارت على توالي العصور أشد تلاقيا، وأكثر امتزاجا.
وكان للإسلام أثر كبير في هذا الامتزاج؛ فإن من أسلم من الأمم الأخرى - وأعني الخاصة - يرى أن لا يكمل دينه، ولا يقوى إيمانه إلا إذا قرأ القرآن ودرسه، فكان ذلك يدعوه إلى تعلم العربية والتثقف بآدابها، وبذلك يجمع بين ثقافته القومية وثقافته العربية. وفي هذا مزج على الأقل لثقافتين، وجمع بين عقليتين، فكثير من الفرس تعربوا، وكثير من الروم والهنود تعربوا، وكثير من الأنباط تعربوا. ومعنى تعربهم أنهم أفسحوا رءوسهم وألسنتهم لثقافة عربية، تتزاوج مع ما نشئوا فيه وشبوا عليه، وأفسحوا صدورهم للإسلام ليحل محل دين ولدوا عليه، وعاشوا حينا في شعائره وتقاليده. كل هذا وذاك كان سببا في التزاوج والإنتاج، ومن أجل هذا لا تكاد ترى في هذا العصر ثقافة مدنية أو دينية عاشت وحدها في عزلة عما حولها، بل كان الكل مؤثرا متأثرا، وفاعلا قابلا، وإن اختلفت فيما بينها في مقدار فاعليتها وانفعالها، ونواحي تأثيرها وتأثرها.
وبعد، فإن نحن أردنا أن نختار من يمثل هذه الثقافات ممتزجة لا نجد خيرا من الجاحظ وابن قتيبة وأبي حنيفة الدينوري. كل واسع الاطلاع ، غزير العلم، كثير التأليف، نال حظا وافرا من نواحي العلوم المختلفة، أولهم زعيم المتكلمين من المعتزلة، وثانيهم زعيم أهل السنة، وثالثهم زعيم علماء النبات، كل أديب وعالم ولغوي ومؤرخ، وعلى الجملة فقد كانوا هم ثلاثتهم «دائرة معارف» زمنهم، نستطيع إذا ألممنا بكتبهم أن نعرف أي شيء من العلم كان في عصرهم، وأي شيء لم يكن. وهم من هذا كله مختلفون تمام الاختلاف، طعما وذوقا وروحا وعقلية، ونظرا إلى الحياة، كما سيتضح عند الكلام فيهم. ولسنا نريد أن نتوسع في تاريخ حياتهم، ولا تحليل كل كتبهم، ولا الإحاطة بكل نواحيهم؛ فذلك ما لا يسعه كتاب كهذا، وإنما نتكلم من الناحية التي قصدنا إليها فحسب، وهي أنهم يمثلون الثقافات ممتزجة، وجداول العلم مجتمعة، ونختار من كتبهم أدلها على ذلك الغرض، وأوفاها لهذا المقصد.
الجاحظ
هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني، والأرجح أنه كناني بالولاء، لا كناني صليبة، فقريب الجاحظ (وهو يموت بن المزرع) يقول: «الجاحظ خال أمي، وكان جد الجاحظ أسود يقال له فزارة، وكان جمالا لعمرو بن قلع الكناني.»
11
وقد اختلف في تاريخ مولده، ولكنهم يكادون يتفقون على تاريخ وفاته، وهو 255ه، وأنه عمر نحو 96 عاما، فيكون ميلاده حول سنة 159ه، ولد بالبصرة، وأخذ اللغة والأدب عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن الأخفش، وأخذ الكلام عن النظام، وكان يذهب إلى مربد البصرة يأخذ عن العرب شفاها. وأولع بالقراءة فقالوا: «إنه لم يقع بيده كتاب إلا استوفى قراءته كائنا ما كان، وكان يكتري دكاكين الوراقين، ويبيت فيها للنظر.» تثقف الثقافة العربية من المربد، ومن علمائها أمثال الأصمعي وأبي زيد، وأتت له الثقافة اليونانية من طريق علماء الكلام، ومشافهته لحنين بن إسحاق وسلمويه وأمثالهما، وحذق الثقافة الفارسية من كتب ابن المقفع، وأخذه عن أبي عبيدة، وتوسع في الثقافات كلها بما كان يقرأ من الكتب كلها. ولد في خلافة المهدي، وكان صبيا في خلافة الهادي، وأتته خلافة الرشيد وهو شاب، وشاهد الصراع بين الأمين والمأمون، وكان ناضجا وقت سلطة المعتزلة في عصر المأمون، واتصل بما كان في أيامه من حركة علمية وفلسفية. في كل ذلك شاهد سلطان الفرس وغلبتهم، وشاهد في أيام المعتصم سطوة الترك، وحلولهم محل الفرس، كما شاهد دولة الواثق وسيره سيرة المعتصم والمأمون في مناصرة الاعتزال، وحضر دولة المتوكل وقد هزم المعتزلة وأبطل دولتهم، ومرت عليه دولة المنتصر والمستعين والمعتز، وهو يعاني الفالج والنقرس، إلى أن مات في خلافة المهتدي بالله، فتاريخ الجاحظ تاريخ قرن كامل، هو زهرة الدولة العباسية، قل أن تعلم أحد من أحداثها ما تعلم الجاحظ. أحس ببؤس الفقراء، فقد نشأ فقيرا، حتى يحكي من رآه يبيع الخبز والسمك بسيحان، ويخالط العلماء على اختلاف مذاهبهم ومناحيهم، ثم يكون كاتبا وقتا قصيرا، ويتعرف ثقافة الكتاب ودخائلهم، ويتغنى بما ألف، فتكون له ضيعة تنسب إليه، ويقتني مالا وبيتا يجرب فيه زرع شجر الأراك، ويعنى بأبوابه حتى يختار لتركيبها أمهر النجارين، ويقتني من العبيد من سبق أن خدم الملوك،
12
ويتصل بالوزراء أمثال محمد بن عبد الملك الزيات، ويتنقل في البلاد فيعيش في بغداد زمنا، ويرحل إلى دمشق وأنطاكية. كل هذا أورثه نوعا من الثقافة قيما، ليس من نوع ما يؤخذ من الكتب والدفاتر، أورثه معرفة بطبائع الناس وأخلاقهم، وطرق معايشهم وفضائلهم ورذائلهم. وكان الجاحظ على استعداد تام لهذا النوع من الثقافة، فنال منه حظا وافرا، وكما كان حسن الاستعداد في الأخذ منه، كان كذلك في العطاء؛ فمن أكبر ما تمتاز به كتبه أنه يأخذ بيدك ليطلعك على الحياة الاجتماعية، ويجعلك تلمسها وتذوقها، على قلة الكتاب الذين يعنون بهذه الناحية، فإذا أنت قرأت «الكامل»، أو «أمالي القالي»، أو «عيون الأخبار» لم تحس فيه شيئا من ذلك. ومن أجل هذا كانت كتب الجاحظ أغزر مصدر لدارس الحياة الاجتماعية في عصره.
كتب الجاحظ في كل موضوع تقريبا، من المعلمين إلى بني هاشم، ومن اللصوص إلى الذئاب، ومن الكلام في صفات الله تعالى إلى القيان، ومن القضاة والولاة إلى أمهات الأولاد، ومن الإمامة إلى الحول والعور، فإن نحن قلنا إن كتبه «دائرة معارف» لزمانه، غير مرتبة على أحرف الهجاء، ولا على أي أساس، كان ذلك صوابا. وللجاحظ أسلوب يمتاز به، ولا ينسب إلا إليه؛ هو أسلوب الجاحظ، تظهر فيه شخصيته ظهورا تاما، حتى لتستطيع من غير كثير عناء أن تعرف أي الكتب له، وأيها ليست له. هو في تأليفه أنيس محاضر، تحرر من قيود كثيرة تقيد بها علماء عصره، تحرر من التزام الجد وثقل الغموض الذي كرهه من أستاذه الأخفش؛ فهو دائما يخلط جدا بهزل، ويسيغك اللقمة الجافة بكثير من الحلوى، ويجد حتى إذا أعدك للبكاء رماك بنادرة تمعن منها في الضحك، ويأخذ بيدك حتى إذا كنت في أصعب موضوع وأعمق قرار قفز بك فجأة إلى السماء، وحدثك حديثا خفيفا أنساك جهدك وعناءك، قال المسعودي: «ولا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر كتبا منه ... وكتب الجاحظ مع انحرافه المشهور تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان؛ لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ، وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة.»
13
كما تحرر من طريقة العلماء في قصر نفسه على الموضوع الذي يتكلم فيه، فالجاحظ لا يؤمن بذلك، وأنت عرضة لأن تجد في كتبه أدق الموضوعات وأجلها في أتفه العناوين وأسخفها، غلبت عليه النزعة الأدبية في كل ما كتب، حتى في الحيوان، فهو يتخير خير الألفاظ وأحسن التعبيرات، ويفر سريعا من التحقيق العلمي إلى مناحي الأدب من شعر أو حكمة أو نادرة.
ألف في مواضيع المتكلمين؛ مثل: كتاب خلق القرآن، وكتاب في الرد على المشبهة، وكتاب في الرد على النصارى، وكتاب الاعتزال، وكتاب الإمامة ... إلخ. كتب في موضوعات سياسية تاريخية؛ ككتاب العرب والموالي، وكتاب العرب والعجم، ورسالة في فضائل الأتراك (بمناسبة دخول الأتراك في جند المعتصم) وكتاب السودان والبيضان، وكتاب الصرحاء والهجناء ... إلخ. وألف في الأخلاق التي كان يشعر بها في عصره، وطبقات الناس؛ فألف كتاب البخلاء، والسلطان وأخلاق أهله، وكتاب الجواري، والحاسد والمحسود، والنساء ، والإخوان، والحزم والعزم، والأمل والمأمول، والاستبداد والمشاورة في الحروب، والقضاء والولاة، وغش الصناعات ... إلخ.
وألف في النبات كتاب الزرع والنخل، وألف في الحيوان كتاب الأسد والذئب، وكتاب البغل، وكتاب الحيوان.
وفي كل هذه الكتب كما يدل على ذلك ما بين أيدينا منها مزج العلم بالأدب، ولم يقتصر على ذكر البراهين النظرية، بل استعان بالتاريخ وبالشعر، وبما يعرف من أحداث، وما جرب هو نفسه من تجارب، ومزج ما تعلم بما قرأ، بما سمع، بما شاهد، بما جرب، كما مزج الشعر الجاهلي بالشعر الإسلامي، بعلم أرسطو، بطب جالينوس، كما مزج آي القرآن الكريم بأحاديث النبي
صلى الله عليه وسلم ، برأي الطبيعيين والدهريين، باليهودية والنصرانية، برأي الزرادشتيين والمانويين. وفي الحق إن هذا كله مزيج عسر الهضم، لولا ما حظي به من أسلوب سمح فضفاض، ونفس مرحة تقدر كل التقدير النادرة الحلوة، والفكاهة العذبة.
وبعد، فخير كتبه التي يظهر فيها هذا الامتزاج واضحا قويا كتاب البيان والتبيين، وكتاب الحيوان.
كتاب البيان والتبيين
هو كتاب في الأدب، من آخر ما ألف الجاحظ
14
مختارات من الأدب؛ من آية قرآنية، أو حديث، أو شعر، أو حكمة، أو خطبة، ممزوج بما له من آراء في مسائل عدة. ويذكر ياقوت أن الكتاب نسختان؛ «أولة وثانية، والثانية أصح وأجود.»
15
ولست أدري أي النسختين هي التي في أيدينا.
بدأه بالتعوذ من العي، وساق الأشعار في ذمه، وحكاية موسى عليه السلام في طلبه من الله تعالى أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله، وانتقل إلى فصاحة اللسان ونعمتها، والعي ورداءته، وعاب التشدق والتقعير والتقعيب، وفضله على العي المتزيد والحصر المتكلف، واستطرد من ذلك إلى فصاحة واصل بن عطاء شيخ المعتزلة، ولثغته في الراء، وأنه كان يقول القمح بدل البر، وجره ذلك إلى الكلام في أن البر أفصح أو القمح، وانتقل منه إلى اختلاف لغات العرب في استعمال الألفاظ؛ فقبيلة تستعمل غرفة وأخرى علية وهكذا، ثم رجع إلى واصل وما كان بينه وبين بشار، وذكر قصائد في مدح المعتزلة، وإذ كان واصل ألثغ فقد عقب ذلك بالكلام على اللثغة، والحروف التي تدخلها اللثغة والتي لا تدخلها، واستطرد من اللثغة إلى عيوب اللسان على العموم من فأفأة وتمتمة، ثم ما يعرض للخطيب من نحنحة وسعلة، وربط ذلك بالخطابة والخطباء من القبائل المختلفة، وعدد كثيرا منهم، ومن الخطباء الشعراء، وكان أحد الخطباء الذين ذكرهم في كلامه صفير يخرج من موضع ثناياه، فجره ذلك إلى الكلام في الأسنان وعلاقتها بالخطابة، والجدال في أن سقوط الأسنان كلها أقل عيبا للخطيب، أو سقوط بعضها، ثم انتقل من ذلك إلى الكلام في الألفاظ المتنافرة، والحروف المتنافرة، وأسلمه ذلك إلى الكلام في اللكنة، وعد قوم من اللكناء، وبذلك تم الباب الأول. ويطول بنا القول لو سرنا معه في الكتاب كله نتتبع خطاه ونرصد انتقالاته، وحسبنا أن نذكر هذا مثلا يبين الفوضى في تأليفه، ولا تظن أن موضوعا من هذه الموضوعات التي ذكرنا قد فرغ من الكلام فيه، فسترى في ثنايا الكتاب الرجوع إليه مرة بعد مرة.
بعد ذلك عقد بابا للبيان، وبابا في ذكر ناس من البلغاء والخطباء والأنبياء والفقهاء والأمراء، ممن لا يكاد يسكت مع قلة الخطأ والزلل، ثم فصلا عرض فيه للبلاغة ما هي، وبابا في اللسان، وبابا في الصمت، وأبوابا أخرى في الشعر والخطب، ثم بابا في الأسجاع من الكلام، ثم عاد إلى الخطباء والبلغاء، وبيان قبائلهم وأنسابهم، وبابا في أسماء الكهان والحكام والخطباء والعلماء من قحطان. وقال في أول الجزء الثاني: إنه أراد أن يرد على الشعوبية في طعنهم على خطباء العرب، ولكنه أحب أن يصدر هذا الجزء بكلام من كلام رسول رب العالمين والسلف المتقدمين، والجلة من التابعين، واسترسل في مختار من الحديث والخطب والحكم والألغاز، وتكلم فيه عن اللحن والحمقى والمجانين، وكتب وصايا ونوادر لبعض الأعراب، حتى أتم الجزء الثاني. فإذا جاء الجزء الثالث فأوله كتاب العصا في الرد على الشعوبية، ثم كتاب في الزهد تكلم فيه على النساك وكلامهم وأخلاقهم ومواعظهم، ثم باب في دعاء الصالحين والسلف المتقدمين، ودعاء الأعراب، ثم مقطعات من نوادر الأعراب وأشعارهم.
وفي كل فصل من فصول الكتاب فوضى لا تضبط، واستطراد لا يحد. والحق إن الجاحظ مسئول عن الفوضى التي تسود كتب الأدب العربي؛ فقد جرت على منواله، وحذت حذوه، فالمبرد تلميذه تأثر به في تأليفه، والكتب التي ألفت بعد (كعيون الأخبار، والعقد الفريد) فيها شيء من روح الجاحظ، وإن دخلها شيء من الترتيب والتبويب؛ ذلك أننا نرى أن الكتب التي ألفت في العصر العباسي الأول كانت أساس التأليف، وهي التي حددت نوع القالب الذي يصب فيه العلم؛ فكتاب سيبويه في النحو حدد الطريقة التي يتبعها النحاة في التأليف، وكل ما عملوا بعده أن أوضحوا أو بسطوا أو اختصروا. وكتب محمد بن الحسن الشيباني حددت طريقة التأليف في الفقه، وكتب المنطق الأولى هي التي سارت عليها كتب المنطق الأخيرة. ولما كان كتاب البيان والتبيين أول كتاب ألف في الأدب على هذا النحو؛ كان أثره في الأدب كأثر هؤلاء الذين ذكرنا في علومهم، وكان الجاحظ مسئولا عما فيها من نقص وعيب. وأوضح شيء من آثار الجاحظ في كتب الأدب إذا قورنت بالعلوم الأخرى؛ الفوضى وكثرة المزاح، ومجون يصل إلى الفحش أحيانا. ولسنا نريد أن نحمل الجاحظ كل مسئولية في هذا، فقد تكون طبيعة الأدب نفسها داعية على ذلك، ولكن مما لا شك فيه أن الجاحظ كبير الأثر، ولو كان قد وضع الأساس غيره لكان قد تشكل الأدب شكلا آخر.
والذي يهمنا هنا مظهر امتزاج الثقافات في هذا الكتاب، والحق إن للثقافة العربية فيه المظهر الأكبر، والسبب في ذلك أن الكتاب كتاب أدب، وقد أبنا قبل أن أثر تلك الثقافات في الأدب أقل منها في العلوم، ومع هذا فحظ الثقافات الأخرى في هذا الكتاب غير قليل، انظر إليه وهو يقارن بين آراء الأمم في تعريف البلاغة؛ فيقول: «قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل والوصل. وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام. وقيل للرومي (الروماني): ما البلاغة؟ قال: حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة يوم الإطالة. وقيل للهندي: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة.»
16
وينقل صحيفة عن الهنود في البلاغة وشرطها
17
وينقل عن فتى من النصارى الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يختار جاثليقا،
18
وينقل أن كسرى أنوشروان قال لبزرجمهر: أي الأشياء خير للمرء العيي؟ قال: عقل يعيش به، قال: فإن لم يكن له عقل؟ قال: فإخوان يسترون عليه، قال: فإن لم يكن له إخوان، قال: فمال يتحبب به إلى الناس، قال: فإن لم يكن له مال، قال: فعي صامت، قال: فإن لم يكن ذلك؟ قال: فموت مريح.
19
وينقل عن المسيح ابن مريم أنه سئل: من نجالس؟ قال: من يزيد في علمكم منطقه، وتذكركم الله رؤيته، ويرغبكم في الآخرة عمله. ويحكي أن المسيح مر بقوم يبكون فقال: ما لهؤلاء يبكون؟ قالوا: يخافون ذنوبهم، قال: اتركوها يغفر لكم.
20
ويحكي أسطورة الخطباء الذين تكلموا عند الإسكندر لما مات،
21
ويقارن بين مقدرة العرب على الخطابة، ومقدرة الفرس والزنج، ويحكي أن للفرس كتابا في صناعة البلاغة، وأن لليونان «منطقا» يعرف به السقم من الصحة، والخطأ من الصواب، وأن للهنود كتبا في الحكم والأسرار، من قرأها عرف غور تلك العقول، وغرائب تلك الحكم.
22
ويرى أن كلام الفرس يصدر عن فكرة، وطول روية، واجتهاد، وخلوة، ومشاورة، ومعاونة، وكلام العرب صادر عن بديهة وارتجال، حتى كأنه إلهام،
23
ويذكر عادة الرهبان في اتخاذ العصا، وعادة الجاثليق في اتخاذه القناع والمظلة والعكازة والعصا،
24
ويحكي مذهب التناسخ الذي أبنا قبل أنه للهند،
25
وينقل في باب الزهد كلاما طويلا، لعيسى عليه السلام،
26
ويحكي مواعظ لداود عليه السلام،
27
ويحكي عن أردشير أنه قال: «احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع.»
28 ... إلخ.
هذا مثل من أمثلة المزج بين الثقافات؛ فقد رأيت أنه عرض أدب العرب وأدب الفرس، وحكم الهند ونصائح اليهودية والمسيحية، هذا لأنه ينقل عن فرس تعربوا، ويذكر حكمهم، كسهل بن هارون وابن المقفع والأسواري، وهي ولا شك وليدة فرس وعرب. ولكن بالمقارنة نرى كما أشرنا أن للأدب العربي في هذا الكتاب الحظ الأكبر والنصيب الأوفر، لأنه موضوعه. وهناك نواح أخرى لدراسة كتاب البيان والتبيين كبحث أي مثال احتذي في تأليفه، والفكرة التي عرضت له في ترتيبه، ومقدار الثقة به والاعتماد عليه، وشيوخه الذين أخذ عنهم، ومصادر الكتاب، إلى غير ذلك، ولكن موضع هذا كله البحث الأدبي.
كتاب الحيوان
كذلك هو كتاب ألفه الجاحظ أخيرا، بدليل ثبت كتبه التي عددها في صدره، وإن كان ألفه قبل البيان والتبيين. وقد ذكر في مواضع عدة من الكتاب أنه ألفه لبيان ما في الحيوان من الحجج على حكمة الله العجيبة وقدرته الباهرة، وهذه الناحية من النظر أبانها القرآن الكريم في غير موضع:
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون
والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون
إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت
إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها
إلى أمثال ذلك، وسميت سورة من القرآن بأسماء بعض الحيوانات؛ كسورة البقرة، والأنعام، والنحل، والنمل، والفيل. ونسب إلى الإمام علي وصفه البديع للطاووس، ودلالته على قدرة الله، وإن كنا في شك من صحة نسبتها إليه. واتجه المعتزلة في العصر العباسي هذا الاتجاه، وأجاد فيه قبل الجاحظ بشر بن المعتمر، أحد زعماء المعتزلة، ومما قال في ذلك قصيدتان طويلتان، تقع إحداهما في ستين بيتا، والأخرى في سبعين، وقد أوردهما الجاحظ في كتابه الحيوان
29
وشرحهما شرحا مطولا من إحدى القصيدتين قوله:
تبارك الله وسبحانه
من بيديه النفع والضر
من خلقه في رزقه كلهم
الذيخ والتيتل والغفر
30
وساكن الجو إذا ما علا
فيه ومن مسكنه القفر
والصدع الأعصم في شاهق
وجأبة مسكنها الوعر
31
والحية الصماء في جحرها
والتتفل الرائغ والذر
32
وهقلة ترتاع من ظلها
لها عرار ولها زمر
33
تلتهم المرو على شهوة
وحب شيء عندها الجمر
34
وظبية تخضم في حنظل
وعقرب يعجبها التمر
والقصيدتان على هذا النمط يذكر خصائص الحيوان، ويستخرج منه الحكمة، يعجب من جرادة تخرق متن الصفا، ومن خنفس تحيا بالروث ويقتلها الورد:
وحكمة يبصرها عاقل
ليس له من دونها ستر
ثم يعرج في آخر القصيدة إلى مهاجمة خصومه من أباضية ورافضية وغيرهم، ويعيبهم بأن لا تنجع الحكمة فيهم، والقصيدة الأخرى رائية مكسورة على نمطها. وقد أخذ الجاحظ هاتين القصيدتين عن بشر بن المعتمر، وقد عاصره زمنا، ويظهر أنهما أوحتا إليه أن يؤلف كتابا في الحيوان من هذه الناحية. ولكن الجاحظ لا يصبر على موضوع واحد، فإذا تكلم في شيء خرج منه إلى أشياء، كما لا يصبر على الجد، فسرعان ما يخرج منه إلى الهزل، ولذلك صبغ الموضوع بصبغته الخاصة، فاستطرد لا إلى حد، وأخرج الموضوع من عظة واعتبار، إلى معلومات واسعة في الحيوان وغير الحيوان، علمية أحيانا وأدبية أحيانا، وكان هزله فيه من أغرب الهزل، فالموضوع جد كل الجد، تخشع له النفس، ويذعن له القلب، وتثور له العاطفة الدينية، كما تشعر إذا قرأت الآيات السابقة أو وصف الطاووس أو قصيدتي بشر، ولكن هذا الجلال يضيع تماما في كتاب الحيوان، ويتلون بلون الجاحظ العجيب، فيخرج شيئا آخر غير العظة وغير العبرة؛ فيه ألوان الحرباء، وفيه روايات مختلفة مأساة ومهزلة، وفيه الكلام على الخصيان، بجانب فوائد الكتاب، وفي الكلام على الخصيان معلومات قيمة نادرة، ربما لا تعثر عليها في كتاب آخر من الناحية التاريخية والاجتماعية، وبجانبها لذع وإحماض وفكاهة ومجون مكشوف، وكل هذا مزج مزجا غريبا، وهكذا شأنه في كل موضوع.
وقد ذكر الجاحظ نفسه في كتاب الحيوان طريقة تأليفه في عدة مواضع؛ فهو يقول: «متى خرج (القارئ) من آي القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر ، ثم يخرج من الخبر إلى الشعر، ومن الشعر إلى نوادر، ومن النوادر إلى حكم عقلية ومقاييس شداد، ثم لا يترك هذا الباب، ولعله أن يكون أثقل، والملال إليه أسرع، حتى يفضي به إلى مزح وفكاهة، وإلى سخف وخرافة، ولست أراه سخفا.»
35
ويقول: «إني أوشح هذا الكتاب بنوادر من ضروب الشعر، وضروب الأحاديث ليخرج قارئه من باب إلى باب، ومن شكل إلى شكل، فإني رأيت الأسماع تمل الأصوات المطربة والأغاني الحسنة، والأوتار الفصيحة إذا طال ذلك عليها، وإذا كانت الأوائل قد صارت في صغار الكتب هذه السيرة كان هذا التدبير لما طال وكثر أصلح، وما غايتنا من ذلك كله إلا أن تستفيدوا خيرا.»
36
ويأسف لسلوكه هذا السبيل، ويعترف بعيبها، ولكنه يقول إنه اضطر إلى ذلك اضطرارا فيقول: «وسنذكر قبل ذكرنا لهذا الباب أبوابا من الشعر طريفة، تصلح للمذاكرة وتبعث على النشاط ... ولولا سوء ظني بمن يظهر التماس العلم في هذا الزمان، ويظهر اصطناع الكتب في هذا الدهر، لما احتجت إلى مداراتهم واستمالتهم، وترقيق نفوسهم وتشجيع قلوبهم، مع فوائد هذا الكتاب إلى هذه الرياضة الطويلة، وإلى كثرة هذا الاعتذار، حتى كأن الذي أفيده إياهم أستفيده منهم، وحتى كأن رغبتي في صلاحهم رغبة من رغب في دنياهم.»
37
ويعترف بأنه عانى في هذه الطريقة أكثر مما يعاني لو كتب كتابا في موضوع واحد، من غير استطراد: «ولو كنت تكلفت كتابا في طوله وعدد ألفاظه ومعانيه، ثم كان من كتب العرض والجوهر والطفرة والتوليد والمداخلة والغرائز والنحاز، لكان أسهل وأقصر أياما وأسرع فراغا؛ لأني كنت لا أفرغ فيه إلى تلقط الأشعار، وتتبع الأمثال، واستخراج الآي من القرآن والحجج من الرواية، مع تفرق هذه الأمور في الكتب، وتباعد ما بين الأشكال، فإن وجدت فيه خللا من اضطراب لفظ ومن سوء تأليف، ومن تقطيع نظام فلا تنكر بعد أن صورت لك حالي التي ابتدأت عليها كتابي. ولولا ما أرجو من عون الله على إتمامه؛ إذ كنت لم ألتمس به إلا إفهامك مواقع الحجج لله وتصاريف تدبيره، والذي أودع أصناف خلقه من أصناف حكمته؛ لما تعرضت لهذا المكروه.»
38
ومصادر الكتاب كثيرة فآي من القرآن أو التوراة أو الإنجيل، وحديث وخبر تلقاه من الرواة، وشعر عربي كثير، وأمثال مضروبة، وكتب عديدة قرأها في فنون شتى، ومحادثة لمن يثق بهم من أطباء وتجار وذوي حرف، وتجارب يجربها بنفسه في الحيوان والنبات، وسفر وسماع لمن قد مارس الأسفار وركب البحار، وسكن الصحاري وسلك الوديان، وهذا - من غير شك - يدل على سعة اطلاع قل أن يكون له نظير.
والحق أن عقله كان قويا قل أن يقبل خرافة، بل هو يهزأ بمن يقبلها، ثم هو في كثير من الأحيان يقف على الاعتقاد حتى يجرب ويشك، ويدعو إلى الشك حتى تثبت صحة النظرية، ويستغرب القارئ من صحة منطقه، وسبقه إلى نظرات في منهج البحث لم تعرف إلا في العصر الحديث، كقوله: «اعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة لها؛ لتعرف بها مواضع اليقين، والحالات الموجبة لها. وتعلم الشك في المشكوك فيها تعلما، فلو لم يكن ذلك إلا تعرف التوقف ثم التثبت لقد كان ذلك مما يحتاج إليه.»
39
كما أنه سبق إلى اتجاهات قيمة فيما يسمى الآن سيكولوجية الحيوان؛ فهو يراقب نداء الديك بالليل، ويبحث: هل إذا كان في قرية وحده يصيح أو لا؟ ليعلم هل تصيح الديكة بالتجاوب أو بطبعها، ويراقب الدجاج هل تكثر أفراخها إذا كثر عديدها أو تقل؟ ويلاحظ الكلب ملاحظة دقيقة ليعلم مقدار ذكائه ووجوه تنبهه، والفروق الدقيقة بين أصنافه، إلى كثير من أمثال ذلك.
وبعد، فمظهر امتزاج الثقافات المختلفة في الحيوان أبين منها في البيان والتبيين، وذلك يرجع إلى موضوعه، وإلى مسلكه في تأليفه، وإلى علاقاته المتشعبة بأولي العلم والصناعات والطبقات من كل نوع.
من أهم العناصر التي اعتمد عليها في كتابه هذا كتب أرسطو، وقد عرف عن أرسطو أنه ألف في موضوعات عديدة في حياة الحيوان، وكان مشغوفا بهذا العلم ودراسته، حتى أحصى المتأخرون ما كان يعرفه أرسطو من أنواع الحيوان، فوجدوه نحوا من خمسمائة نوع. ومع أنه لم يرتبها الترتيب العصري فقد كان له فضل السبق في وضع هذا العلم الذي لم يكن مؤسسا من قبله. وقد وصلت هذه الكتب إلى العرب، ونقلت إلى العربية فيما نقل، فيقول ابن النديم: «إن كتاب الحيوان لأرسطو تسع عشر مقالة، نقله ابن البطريق ، ولنيقولاوس اختصار لهذا الكتاب، وقد ابتدأ أبو علي بن زرعة بنقله إلى العربية وتصحيحه.»
40
ولكن يظهر أن العرب في هذا الكتاب - كما هو الشأن في غيره - لم يميزوا بدقة بين ما هو لأرسطو حقا، وما ليس له، على كل حال وقع الكتاب في يد الجاحظ وقرأه، وكان مصدرا كبيرا من مصادره. وإذا نقل منه فكثيرا ما يسمي أرسطو «صاحب المنطق»، وقد يصرح باسمه، وقد نقل عنه في هذا الكتاب عشرات المرات، وكان موقف الجاحظ تجاه أرسطو موقفا بديعا، فلم يصب أمامه بشلل الفكر كما أصيب في أكثر الأحيان ابن سينا، وغيره من فلاسفة الشرق والغرب، وإنما وضعه في المخبر يمتحنه ويجربه؛ فقد نقل عن أرسطو أن إناث العصافير أطول أعمارا، وأن ذكورها لا تعيش إلا سنة،
41
وانتقده بأنه لم يأت بدليل على ذلك، وكيف يستطيع أن يأتي بدليل جازم، والعصافير قد تكون في المزارع والميازب مملوءة بها، وببيضها وفراخها، والناس القريبون منها لم يروا عصفورا قط ميتا، ولو قال أرسطو وأمثاله بذلك على جهة التقريب والظن لم يلمهم أحد من العلماء: «والأمور المقربة غير الأمور الموجبة، فينبغي أن يعرفوا فصل ما بين الواجب والمقرب، وفرق ما بين الدليل وشبه الدليل.»
42
ويقول: «وقال صاحب المنطق: ويكون بالبلدة التي تسمى باليونانية «طبقون» حية صغيرة شديدة اللدغ، إلا أن تعالج بحجر يخرج من بعض قبور قدماء الملوك.» قال الجاحظ: «ولم أفهم هذا ولم كان ذلك؟!»
43
وأحيانا يقارن بين قول أرسطو في الموضوع، وما ورد فيه من شعر جاهلي أو إسلامي، ويفاضل بينهما، ويحكم عقله، وتارة ينصر أرسطو، وتارة ينصر العرب، وتارة يكذبهما معا، فيقول: «زعم صاحب المنطق أن قد ظهرت حية لها رأسان، فسألت أعرابيا عن ذلك فزعم أن ذلك حق، فقلت له فمن أي جهة الرأسين تسعى؟ ومن أيهما تأكل وتعض؟ فقال فأما السعي فلا تسعى، ولكنها تسعى إلى حاجتها بالتقلب كما يتقلب الصبيان على الرمل، وأما الأكل فإنها تتعشى بفم وتتغذى بفم، وأما العض فإنها تعض برأسيها معا، فإذا به أكذب البرية!»
44
ومثل ذلك في الكتاب كثير؛ فهو يعرض لما عرف عن اليونان، وما ورد في الموضوع من شعر العرب وقصصهم وأساطيرهم، وما عرف عن الأمم الأخرى، ويمزج كل ذلك مزجا تاما، ويعرضه بأسلوبه الجذاب ومبالغته المألوفة.
ولا يظنن ظان أن الكتاب - وقد سمي الحيوان - قد اقتصر على الكلام في الحيوان، بل لا نبعد إذا نحن قلنا إن ما فيه عن الحيوان أقل مما فيه عن غيره؛ فقد استغرق الجزء الأول والثاني من الكتاب الكلام في الكلب والديك، والمفاضلة بينهما، واحتجاج صاحب الكلب للكلب والديك للديك، ويستوفي كل ما قيل في ذلك من آية أو حديث أو شعر، أو قول لصاحب المنطق، أو قصة، أو أسطورة؛ كاتخاذ الجن الكلاب مأوى لها والكلب، واعتقاد العرب أن دم الأشراف يشفى منه ... إلخ، ولكنه في كل ذلك يخرج عن الكلب والديك إلى موضوعات لا تخطر على البال، فتراه في أثناء ذلك يتكلم في الإمامة والشيعة، والشعر وأثره في القبيلة؛ يرفعها ويضعها ... إلخ.
اتصل الجاحظ باليونان من كتبهم، ومن طريق المتكلمين؛ فعرف أرسطو كما بينا، ونقل عن أقليمون صاحب الفراسة في الكلام في الحمام،
45
ونقل عن جالينوس فيما يصلح له لحم الضب،
46
وفي معارف البهائم والطير
47
ويذكر أن كتب المنطق وكتب إقليدس لا يفهمها العربي البليغ،
48
ويظهر أن ثقافته اليونانية اتسعت بمجالسته لكثير من المثقفين بها؛ فقد كان يتحدث إلى سلمويه وابن ماسويه،
49
وإلى حنين بن إسحاق،
50
وإلى شمئون الطبيب،
51
واتصل بالفرس، وعرف الكثير عنهم، فينقل عن ابن المقفع، ويتكلم في أساطيرهم، ويعقد كلاما طويلا يذكر فيه نيرانهم، ويحكي عن المانوية والزنادقة وكتبهم وعباداتهم، ويحكي عن اليهود النصارى، ويذكر شبها أثارها بعضهم حول آيات من القرآن الكريم؛ مثل آيات الشهب، ويرد عليهم.
وعلى الجملة، فكتاب الحيوان معرض لكل الثقافات؛ عربية، ويونانية، وفارسية، وهندية، ومعرض للثقافات الدينية؛ من مانوية، وزرادشتية، ودهرية، ويهودية، ونصرانية، وإسلام. ولو ذكرنا ما قاله في كل ثقافة ورددناه إلى أصله لاستغرق منا كتابا كاملا، فلنكتف بهذا القدر للدلالة على ما نقول. ونختم قولنا بالشروط التي يشترطها الجاحظ لمن تكون له الرياسة في العلم، وقد حققها هو في نفسه؛ فقد رأى أن العالم من يحسن من كلام الدين بقدر ما يحسن من كلام الفلسفة، والمصيب هو الذي يجمع بين تحقيق التوحيد وإعطاء الطبائع حقائقها من الأعمال.
52 •••
وبجانب الجاحظ عالمان آخران يمثلان معه كل معارف العصر، كما يمثلان أنواعا مختلفة الطعوم والألوان من الامتزاجات بين الثقافات؛ أحدهما ابن قتيبة الدينوري، والآخر أبو حنيفة الدينوري.
ابن قتيبة
فأما ابن قتيبة؛ فهو أبو محمد عبد الله بن مسلم، أصله فارسي من مرو، وتربى في بغداد، وتولى القضاء بدينور، فنسب إليها، ثم كان معلما ببغداد. عاش من سنة 213ه إلى سنة 276ه؛ فهو قد عاصر الجاحظ جزءا طويلا من عمره، وكان يكرهه، كما يدل على ذلك نقده للجاحظ الذي أورده في كتابه «تأويل مختلف الحديث»، فقد اتهمه بأنه يذكر حجج النصارى على المسلمين بأقوى مما يذكر الرد عليهم، وبأن كتبه ملئت بالمضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث، وشراب النبيذ، وأنه يستهزئ بالحديث؛ كذكره كبد الحوت، وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود، وأنه كان أبيض فسوده المشركون، وقد كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا! وأنه كذاب يضع الحديث وينصر الباطل.
53
والظاهر أن سبب النزاع اختلاف الطبيعتين، واختلاف المذهبين؛ فالجاحظ مزاح خفيف الروح، مهذار واسع العقل متصرف، وابن قتيبة جد، قاض، عليه وقار القضاء بمرح أحيانا، ولكن ليس له خفة روح الجاحظ، ثم الجاحظ معتزلي من المتكلمين، وابن قتيبة من أهل السنة (كما يحكي ابن تيمية)، والنزاع بين الطائفتين شديد طويل. وشخصية الجاحظ في كتبه أقوى؛ فهو لا يخرج ما علم إلا مهضوما، قد أسبغ عليه من نفسه ومن لسانه، وابن قتيبة واسع الاطلاع في غير شخصية قوية كما يظهر لي، يعرف كثيرا ويجمع كثيرا، وقد يكون في ذلك قريبا من الجاحظ، وكل ما وصلنا من تأليفه يدلنا على أنه عالم أديب، اتصل بنواح كثيرة من العلم؛ من لغة، ونحو، وأدب، وشعر، وحديث، وفقه، وتاريخ، ومذاهب دينية، ولكنه يفهم من التأليف أن يجمع، ويجمع عن سعة اطلاع، ويختار ما يجمع، من غير أن يظهر نفسه فيما يجمع؛ فإذا حاول أن يبدي شخصيته اضطرب كالذي كان في كلامه في الشعوبية، ينقض في موضع ما أبرمه في آخر، كما لاحظ ذلك صاحب العقد الفريد. وميزة أخرى يمتاز بها الجاحظ، وهي أنه في جميع ما يكتب يمس الحياة الاجتماعية في عصره، ويتغلغل في ثناياها، ولا يستحي أن يضرب مثلا ما عبدا فما فوقه، يحدث عن النجار والحواء وراعي الغنم، ويستخرج منهم علما أو تجربة ويحكيها ويعلق عليها، أما ابن قتيبة فليس له شيء من هذه الناحية؛ لأن هذا الضرب لا ينجح إلا في يد قوية كيد الجاحظ، ولو تعرض لها ابن قتيبة لفشل.
على كل حال علم ابن قتيبة كثير، وتآليفه غزيرة ومتعددة النواحي،
54
ولكن ما يهمنا هنا هو مظهر الثقافات المختلفة في كتبه، ولعل أدلها على ذلك كتاب عيون الأخبار.
عيون الأخبار
كتاب في المختار من الأدب، قسمه إلى عشرة كتب، كل كتاب كباب: كتاب السلطان، والحرب والسؤدد والطبائع، والأخلاق المذمومة، والعلم والبيان والزهد، والإخوان، والحوائج، والطعام، والنساء.
وقد تبع الجاحظ في الإتيان بما يضحك خوف الملل؛ فقال: «ولم أخله مع ذلك من نادرة طريفة، وفطنة لطيفة، وكلمة معجبة، وأخرى مضحكة، لأروح بذلك عن القارئ من كد الجد، وإتعاب الحق؛ فإن الأذن مجاجة، وللنفس حمضة.»
55
ولكنه يحس أنه سينتقد على ذلك من وسطه المتزمت، فيعتذر بأنه مما يترخص فيه، كذلك يعتذر عن أن الكتاب لم يكن في القرآن ولا في السنة، ولا شرائع الدين وعلم الحلال والحرام؛ بأنه دال على معالي الأمور، ومرشد لكريم الأخلاق، زاجر عن الدناءة، ناء عن القبيح، فالشعور الديني والخلقي متملك له، مسير له في تأليفه؛ فهو إن تكلم في الدنيا وشئونها فقد أودع فيه طرفا من محاسن كلام الزهاد في الدنيا، وذكر فجائعها، وزوالها، وانتقالها، حتى يستوجب بذلك الأجر، بل رضي من الغنيمة بالسلامة، وسأل الله أن يمحو ببعض بعضا، ويغفر بخير شرا، وبجد هزلا. والحق إنه نقل التأليف في الأدب نقلة جديدة؛ من حيث الترتيب، وقلة الاستطراد، وتعمد ذلك في كتابه وفخر به فقال: «وقرنت الباب بشكله، والخبر بمثله، والكلمة بأختها؛ ليسهل على المتعلم علمها، وعلى الدارس حفظها.»
56
ويذكر أنه وضع كتاب الطبائع والأخلاق بعد كتاب السؤدد؛ لأنه مقارب له، وقد التزم ذلك، فقل أن يخرج عن موضوعه في غير مشاكلة وتقارب، فهو بذلك من حيث منهج التأليف أرقى من البيان والتبيين والكامل.
وقد تعرض في أول الكتاب لمصادره، فقال: إنه تلقط ما فيه عمن فوقه في السن والمعرفة، وعن جلسائه وإخوانه، ومن كتب الأعاجم وسيرهم، وبلاغات الكتاب في فصول من كتبهم، ولم يستنكف أن يأخذ عن الحديث سنا لحداثته، ولا عن الصغير قدرا لخساسته، ولا عن الأمة الوكعاء لجهلها فضلا عن غيرها، ولم يتحرج أن يأخذ العلم عن غير مسلم، فلن يزري بالحق أن تسمعه من المشركين، ولا بالنصيحة أن تستنبط من الكاشحين.
وإذا كان الكتاب أكثر ترتيبا كان مزج الثقافات فيه أكثر وضوحا، فكما كان يضم الشيء إلى مثيله، كان يضم ثقافة أمة في شيء خاص إلى ثقافة الأمة الأخرى فيه؛ فهو إذا ذكر السؤدد عن العرب ذكر السؤدد عن العجم، فهو يذكر السؤدد في نظر الأحنف بن قيس، وغيره من سادات العرب، وينقل عن كتاب للهند في السؤدد، ويذكر رأي بعض العرب في أسباب السرور، فيقول: قال قتيبة بن مسلم لحصين بن المنذر: ما السرور؟ قال: امرأة حسناء، ودار قوراء، وفرس مرتبط بالفناء.
وقيل لعبد الملك بن الأهتم: ما السرور؟ فقال: رفع الأولياء، وحط الأعداء، وطول البقاء مع القدرة والنماء. ثم ينقل رأي الفضل بن سهل الفارسي في السرور إذ يقول: توقيع جائز، وأمر نافذ. ورأي أبي نواس نصف الفارسي إذ يقول :
إنما العيش سماع
ومدام وندام
فإذا فاتك هذا
فعلى العيش السلام
وينقل عن المسيح عليه السلام قوله لأصحابه: «إذ اتخذكم الناس رءوسا فكونوا أذنابا.» ثم ينقل عن كتب العجم: «علامة الأحرار أن يلقوا بما يحبون ويحرموا، أحب إليهم أن يلقوا بما يكرهون ويعطوا.» ثم ينقل عن أردشير وعن ابن المقفع في كليلة ودمنة، وعن أنوشروان، وعن استشهاد جعفر البرمكي بفعل أبرويز، ويقول: «أعلمت أن ناووس أبرويز أمدح لأبرويز من شعرزهير لآل سنان؟»،
57
وهكذا فهو يتعرض للعرب والعجم والهند، ويعرض آراءهم وأقوالهم بأنظم مما يفعل الجاحظ.
كذلك يمثل كتابه ما ذهبنا إليه قبل «من مناطق النفوذ»، فنحن إذا استعرضنا في عيون الأخبار كتاب السلطان، وسيرته والمشاورة رأيناه يكثر النقل عن الفرس والهند، مما يدل على أن الأدب العربي في هذا الباب أكثر تأثره بهاتين الأمتين، ونراه في باب القضاء والأحكام والشهادات والظلم قل أن ينقل عنهما، إنما ينقل عن العرب وأحكام الإسلام، وإذا تكلم في الزهد، فيكاد يكون الفصل الأول كله نقلا عن اليهودية والنصرانية، وفي باب الطعام عقد فصلا للمياه والأشربة نقل فيه عن الأطباء، وعن «الفلاحة النبطية»، وعن ابن ماسويه، وعقد فصلا للحمان وما شاكلها، ومضار الأطعمة، ومنافعها، والنباتات وخصائصها. وساير الجاحظ؛ فكتب فصولا عن الحيوان، ونقل عن أرسطو وغيره، والثقافة اليونانية في كل هذه الفصول غالبة شائعة.
ثم هو رجل ديني من رؤساء أهل السنة؛ فكان لذلك مثقفا ثقافة دينية واسعة، ولم تقتصر ثقافته على الإسلام، بل قرأ التوراة والإنجيل، وأكثر النقل منهما؛ فهو ينقل كثيرا عن وهب بن منبه، وعن التوراة والإنجيل، ويقول قرأت في التوراة وقرأت في الإنجيل، وينقل دعاء للمسيح، ودعاء لداود، ودعاء ليوسف عليهم السلام، وينقل أخبارا عن الرهبان، كما ينقل أحاديث عن رسول الله والصحابة والتابعين والزاهدين من المسلمين.
وعلى الجملة، فثقافة ابن قتيبة واسعة كل السعة، ومظهر امتزاج الثقافات فيه - مدنية كانت أو دينية - مظهر جلي واضح.
أبو حنيفة الدينوري
ثالث ثلاثة ثقفوا ثقافة علمية وأدبية واسعة، وليس بأقلهم، وإن كان حظه من الشهرة في عصورنا الأخيرة دونهم، هو أحمد بن داود بن ونند، ولد بدينور، ولم يعلم تاريخ ولادته، وإن كان يرجح أنها في العشرين الأولى من القرن الثالث الهجري،
58
وأخذ النحو عن ابن السكيت وأبيه في الكوفة، وفي سنة 235 كان في أصفهان يرصد الكواكب، ويضع نتائج رصده، ومات على الراجح نحو سنة 282ه. كانت معارفه واسعة في نواح مختلفة في التاريخ، وقد وصل إلينا منه كتاب «الأخبار الطوال»، وفيه معلومات عن علاقة العرب بالفرس قد لا نجدها في غيره، وكان كما يقول ياقوت نحويا، لغويا، مهندسا، منجما، حاسبا، راوية، ثقة فيما يرويه ويحكيه.
كان يقرن بالجاحظ في بلاغته، ويختلف الناس أيهما أبلغ، ويتحاكمون إلى أبي سعيد السيرافي فيقول: «أبو حنيفة أكثر ندارة وأبو عثمان (الجاحظ) أكثر حلاوة، ومعاني أبي عثمان لائطة بالنفس، سهلة في السمع، ولفظ أبي حنيفة أعذب وأعرب وأدخل في أساليب العرب.»
59
ويعده أبو حيان التوحيدي أحد ثلاثة، لو اجتمع الثقلان على تقريظهم ومدحهم ونشر فضائلهم في أخلاقهم وعلمهم ومصنفاتهم، ما بلغوا آخر ما يستحقه كل منهم؛ الجاحظ وأبو حنيفة، وأبو زيد البلخي، ويصفه بأنه من نوادر الرجال، جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب، له في كل فن ساق وقدم، ورواء وحكم.
ويظهر أن ثقافته اليونانية والهندية كانت أوسع منها في صاحبيه الجاحظ وابن قتيبة، وعلمه الرياضي يكمل نقصهما. يدل على ذلك تأليفه في الفلك والحساب والجبر والمقابلة، ونوادر الجبر والقبلة، والزوال والكسوف، والبحث في حساب الهند.
اشتهر بالكتابة في النبات، وربما كان كتابه فيه أظهر شيء في المزج، ومع الأسف لم يصلنا كتابه هذا، ولكن نقل منه الكثير في المخصص لابن سيده، وفي مفردات ابن البيطار، ولم يقتصر فيه على نباتات العرب، بل ذكر نباتات تنبت في الأقطار الأخرى، وجمع بين ما روى لغويو العرب في النبات، وما كتب عنه في الأمم الأخرى، واستعان ببلاغته على حسن وصفه؛ فهو يقول مثلا: «الخزامي عشبة طويلة العيدان، صغيرة الورق، حمراء الزهرة طيبة الريح، لها نور كنور البنفسج.» وهو كما ترى وصف دقيق، ويقول: «ويقال للموضع الذي يجعل فيه الزرع إذا حصد الأندر والبيدر والمربد والجوخان والمسطح، وهو سوادي عرب والجرين وجمعه الجرن والأجرنة.» فتراه يدخل كلمات عربت. ويقول: «وإذا تناوب أهل الجوخان، فاجتمعوا مرة عند هذا، ومرة عند هذا، وتعاونوا على الدياس ؛ فإن أهل اليمن يسمون ذلك القاه، ونوبة كل واحد قاهه، وذلك كالطاعة له عليهم؛ لأنه تناوب قد ألزموه أنفسهم، فهو واجب لبعضهم على بعض.» فتراه يعرف العادات المختلفة في البقاع، ويصف الشعير في أماكنه المختلفة، فالشعير العربي، والشعير العراقي، والشعير الحبشي. ويصف نباتات لها أسماء غير عربية؛ كالكسبرة، والكرويا، ويقول الكمون ليس من نبات بلاد العرب، وهكذا كان ذا نظر واسع وخبرة دقيقة في النباتات؛ عربية وغير عربية، وكان أساسا من أسس اللغة أمدها في النبات وما إليه، بألفاظ جديدة، وحدد ألفاظها القديمة.
كذلك له كتاب في الأنواء، إلا أنه قصره على ما كان للعرب من العلم بها، كما يدل على ذلك الجزء الذي نقله عنه ابن سيده في المخصص.
60
ولعلك ترى معي بعد أن هذا العصر كان بوتقة صهرت فيها عناصر الثقافات المختلفة، أو مصبا لجداول متعددة المجرى، مختلفة المنابع، وأن العلماء كانوا مظاهر تختلف باختلاف مصادرها «فما أشبه حجل الجبال بألوان صخورها»، «وعلى أعراقها تجري الجياد»، وأنهم كلهم كانوا يجرون في عنان
61
فأورثونا ثروة علمية وأدبية متعددة النواحي، نصفها في الباب التالي إن شاء الله.
أهم الأحداث في ذلك العصر
أهم الأحداث
التاريخ الهجري
التاريخ الميلادي
بدء السنة الهجرية
قيام الدولة العباسية وخلافة السفاح
132
749
20 أغسطس
خلافة أبي جعفر المنصور
13
753
7 يوليه
قتل ابن المقفع
145؟
762
1 أبريل
موت عمرو بن عبيد المعتزلي
144؟
761
11 أبريل
تأسيس بغداد
145
762
1 أبريل
موت جعفر الصادق
148
765
27 فبراير
موت أبي حنيفة
150
767
6 فبراير
موت الأوزاعي
157
773
21 نوفمبر
خلافة المهدي
158
774
11 نوفمبر
موت سفيان الثوري وإبراهيم وبن أدهم
161
777
9 أكتوبر
موت دواد الظاهري
165
781
26 أغسطس
قتل بشار بن برد على الزندقة
167
683
5 أغسطس
خلافة الهادي
169
785
14 يولية
خلافة هارون الرشيد
170
786
3 يولية
تأسيس الدولة الإدريسية في مراكش
172
788
11 يونية
موت مالك بن أنس
179
795
27 مارس
موت أبي يوسف القاضي
182
798
22 فبراير
نكبة البرامكة
187
802
30 ديسمبر
موت محمد بن الحسن
189
804
8 ديسمبر
خلافة الأمين
193
808
25 أكتوبر
خلافة المأمون
198
813
1 سبتمبر
موت معروف الكرخي
200
815
11 أغسطس
موت الشافعي
204
819
28 يونية
موت أبي عبيدة
208
823
16 مايو
قول المأمون بخلق القرآن
212
827
2 أبريل
خلافة المعتصم
218
833
27 يناير
انتقال عاصمة الخلافة من بغداد إلى سامراء
219
834
16 يناير
موت أبي الهذيل العلاف المعتزلي
226
840
31 أكتوبر
استمرار محنة خلق القرآن
234-218، 848-833
خلافة الواثق
227
841
21 أكتوبر
موت بشر الحافي الصوفي
227
841
21 أكتوبر
موت النظام المعتزلي
231
845
7 سبتمبر
خلافة المتوكل
232
846
28 أغسطس
الأمر بعدم القول بخلق القرآن
234
848
5 أغسطس
موت أحمد بن أبي دواد
240
854
2 يونية
موت أحمد بن حنبل
241
855
2 مايو
موت الحارث المحاسبي
243
857
30 أبريل
خلافة المنتصر
247
861
7 مارس
خلافة المستعين
248
862
7 مارس
خلافة المعتز
252
866
22 يناير
خلافة المهتدي
255
868
1 يناير
موت الجاحظ
255
868
1 يناير
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
ليس لي من قول أزيده على ما ذكرت في مقدمة الجزء الأول، إلا أن أعود فأكرر معذرتي إلى القراء؛ فقد وعدتهم أن يشمل الجزء الثاني سائر النواحي العقلية لعصر «ضحى الإسلام» فيستوفي الكلام في الحركة العلمية، والمذاهب الدينية.
فلما أخذت في درس العلوم، ونشأتها وتكونها وتطورها، رأيت أن لا بد من الكلام في الحركة العلمية إجمالا، أعرض فيه للبحث في قوانين تطور العقل البشري والعلم الإنساني وتطبيقهما على العقل والعلم الإسلاميين، والبحث في معاهد العلم في ذلك العصر ومناهجه، وحرية الرأي فيه، وما إلى ذلك؛ ليكون مقدمة لدراسة العلوم تفصيلا؛ ولما وصلت إلى تاريخ كل علم رأيت أن أتتبع خطواته من أولها، وأرصد مراحله التي اجتازها، وأقف عند كل إمام من أئمته كان له أثر بين فيه، وأوازن بين المراحل التي اجتازتها العلوم بعضها ببعض؛ لأتبين إلى أي حد اتفقت وإلى أي حد اختلفت؛ فاتسع مجال القول وتعددت مذاهبه، وإذا بي أمام جزء خاص في نشأة العلوم، مع ما بذلت من جهد في الإيجاز والضبط.
وسيتناول إن شاء الله الجزء الثالث في العقائد والمذاهب الدينية.
وقد خطر لي أثناء البحث أن يكون هناك جزء رابع في «ضحى الإسلام في الأندلس» أصف فيه ما كان لها من حياة عقلية في عصرها الأول.
أعاننا الله على إكماله، ووفقنا للحق والصواب.
7 شوال سنة 1343
22 يناير سنة 1935
أحمد أمين
الحركة العلمية في العصر العباسي الأول
الفصل الأول
وصف الحركة العلمية إجمالا
أول ما نلاحظه أن الأمة الإسلامية في هذا العصر خطت خطوة جديدة في حياتها العقلية، وحركاتها العلمية؛ وكان هذا نتيجة لازمة لكل ما أحاط بها من بيئة طبيعية واجتماعية.
ذلك بأن تاريخ الفكر في الأمم المختلفة يكاد يسلك سبيلا واحدة، ويتدرج في درجات معينة، كل درجة منها تسلم إلى التي تليها متى تهيأت الظروف وتوافرت العوامل، وليس سيرها من قبيل طيف الخيال أو حلم النائم، يتنقل حيثما اتفق، ولا يخضع في حركاته لقانون ولا نظام.
وقد جد كثير - من الباحثين - في دراسة العقل البشري وتعرف قوانينه، وعرضوا للأمم المختلفة يرقبون ما طرأ على أفكارها من تغير، ويرصدون الأسباب التي دعت إليه، ثم يقارنون بين الأمم؛ ليتبينوا كيف اتحدت الأسباب وتوحدت الخطوات فاتخذت النتائج واستخلصوا من كل ذلك قوانين عامة، وإن كان بعضها لا يزال مجال البحث واختلاف النظر.
أرادوا ببحثهم أن يخضعوا الحياة الفكرية في الأمم لمثل ما خضعت له مواد الطبيعة، فقد استكشفوا قوانين الجاذبية والمغناطيسية وحركات الأجسام والضوء وما إلى ذلك، ورأوا أن الأعضاء ووظائفها خاضعة كذلك لقوانين طبيعية، فالعين كالمنظار في عدساتها وانكسار الأضواء عليها، والأذن تقوم في تأدية وظيفتها على خصائص الصوت وقوانينه وهكذا، وكذلك الشأن في الجماعات وما يحيط بها، فللصحراء وخصائصها أثر قوي في قبائلها، وللسهل الخصيب أثر كبير في حياة أهله - ومثل ذلك يقال في النظم الاجتماعية؛ فليس نوع الحكومات التي تحكم الشعوب إلا نتيجة طبيعية لحالة الشعب وما يحيط به، ولتاريخه وما كان فيه من أحداث - كذلك تطوره الفكري يمكن إخضاعه لقوانين طبيعية، وإن كان ذلك شاقا عسيرا؛ فهو يتطلب معرفة دقيقة بتاريخ الأمم، وما طرأ عليه من تغيرات، والتغلغل في أعماق التاريخ لمعرفة العوامل التي تعمل في تدرج الأمم واختلاف عقلياتها - أضف إلى ذلك أن هناك عاملا قويا في الإنسان ليس في غيره من مواد الطبيعة وهي «الإرادة الحرة»؛ فيخيل إليه أنه فوق القوانين بإرادته، وأنه يستطيع أن يعمل في اللحظة الواحدة الشيء وألا يعمله، وأن يتحدى علماء الاجتماع الذين يتنبؤون بحدوث حادث بناء على قوانينهم فيعمل غيره؛ ولكن علماء الاجتماع مع تقويمهم هذا العامل يقللون من أهمية حرية الإرادة، ويرون أنها في اختيارها الظاهر خاضعة لقوانين لا تستطيع الخروج عنها، وأن اختلاف الجو وعوامل المدنية تعمل في الإرادة والعقلية عملها في اختلاف الوجوه والألوان.
قد تختلف الأقوام بعض الاختلاف في تاريخ حياتهم العقلية تبعا لعوامل كثيرة أهمها العوامل الاقتصادية: من قوم يعيشون على الصيد، وآخرين على زرع الأرض وهكذا، فيختلف - بناء على ذلك - كيفية تدرجهم في الرقي، ولكن - على الرغم من ذلك - فالقوانين العامة لمراحل الرقي العقلي واحدة وإن اختلفت الجزئيات، فمن الحق أن الأمم تعيش في بيئات طبيعية مختلفة، وأن هذه البيئات قد تعجل بتقدم القوم في سبيل الرقي العقلي وقد تؤخر سيرهم، ولكن اتجاه الطريق واحد على كل حال - هذه البيئات المختلفة قد تلون الحياة العقلية ببعض ألوان فرعية خاصة، ولكن الألوان الأصلية واحدة، ومثل الأطوار العقلية في الأمم مثل حياة الأفراد، فالإنسان ينشأ طفلا يافعا فشابا فكهلا فشيخا، ويمر الأفراد بهذه المراحل وإن اختلفوا - فيما بينهم - في بعض التفاصيل من ألوان وعادات وطبائع وأخلاق.
وقد اتجه بعض الباحثين المحدثين في نشوء العقل البشري إلى ربط المظاهر العقلية وتطورها بالحياة الاقتصادية، ورأوا أن تطور العقل تابع للتطور الاقتصادي، وأن ما يطرأ على الأمة من تغير في العادات والأخلاق والحياة العلمية والفنية والفلسفية ليس إلا نتيجة طبيعية لما طرأ عليها من تغير اقتصادي؛ مثال ذلك أن نظام رأس المال الاقتصادي نشأ عنه تقدم المخترعات من سكك حديدية وأمثالها، فكان لذلك كله أثر في الثقافة لا يقدر - وبناء على ذلك قسموا العصور التي مر بها الإنسان إلى أقسام اقتصادية وأبانوا خصائص كل عمر من الناحية العقلية، وليس يعنينا هنا بسط هذا الرأي ومناقشته وبيان أن الحالة الاقتصادية ليست إلا عاملا من العوامل في الثقافة وليست كل شيء.
1
على كل حال - جد الباحثون في العصور الحديثة في استخراج قوانين طبيعية لسير العقل البشري في الأمم، وذهب بعضهم
2
إلى تطبيق رقي العقل وخطواته التي يخطوها الفرد على رقي العقل في الأمم ؛ فكما أن الفرد يبدأ بحالة عقلية تناسب طفولته ثم يتدرج في الرقي تبعا لسنه ونضجه كذلك الأمة، والأمم جميعا تمر بهذه الأطوار وإن اختلفت ريثما وعجلة، وذكروا أن الأطوار التي تمر بها الأمم خمسة (1) عصر سرعة التصديق واعتناق الخرافات والأوهام (2) عصر الشك والتحري (3) عصر العقيدة والإيمان (4) عصر العقل (5) عصر الهرم والشيخوخة، وأن هذه العصور يسلم بعضها إلى بعض، وأن الأمم في العالم تقف على درجات مختلفة من هذا السلم، وليس معنى هذا أن الأمة الواحدة إذا قطعت شوطا وانتقلت إلى طور آخر كان كل أفرادها كذلك، بل إن أفراد كل أمة مختلفون فيما بينهم، كالأسرة الواحدة يختلف أفرادها في الصغر والكبر وضعف العقل ونضوجه، فإذا حكمنا على أسرة بالرقي نظرنا إلى مجموعها والأفراد البارزين فيها، وكذلك الأمة نحكم عليها بالنزعة الغالبة على مثقفيها والطبقة المفكرة فيها - ويعمل في حياة الأمم وتغيرها عقليا جملة تغيرات؛ كامتزاج الأمة بأمة أخرى واختلاط دمائهما ونحو ذلك.
وإذا نحن أردنا أن نطبق القوانين التي وضعها هؤلاء العلماء على الفكر العربي شعرنا بصعوبة ذلك؛ لما أحاط بالعرب من ظروف وأحداث قل أن تحدث لغيرها من الأمم - ذلك أن هذا التطبيق يكون سهلا نسبيا متى كانت الأمة قد سارت سيرها الطبيعي من داخلها لا من خارجها، كالأمة اليونانية، قطعت هذه المراحل وهي هي أمة اليونان، ولكن الفكر العربي كان فكر أمة عربية مستقلة عن غيرها، ثم لم يمهلها التاريخ حتى تتدرج، أوقل إنها لم تمهل التاريخ، فقد أخضعت لأمرها أمة الفرس وأمة الروم وأمما بين ذلك كثيرة، وهذه الأمم المختلفة من فرس وروم ومصريين وأمثالهم كانت على درجات مختلفة من سلم الرقي العقلي، وكانت قد قطعت مراحل لم يقطعها العرب في جاهليتهم، وكانت حياتها الاجتماعية مختلفة كل الاختلاف، فحياة الفرس الاجتماعية غير حياة الروم، وهما غير حياة المصريين وهكذا، وحياتهم العقلية مختلفة تبعا لاختلاف حياتهم الاجتماعية، وانتقل كثير من العرب من جزيرتهم إلى هذه الأصقاع؛ فسكن قوم في فارس، وقوم في مصر، وقوم في الشام، وقوم في العراق، وكانوا أولي الأمر فيها أيام الخلفاء الراشدين والدولية الأموية، وكان المنتقلون من جزيرة العرب إلى هذه الأقاليم أكثر ممن انتقل من الأقاليم المختلفة إلى جزيرة العرب، ونشر العرب اللغة والدين في كل هذه البلاد المفتوحة، وأصبحت الثقافة مصبوغة بالصبغة العربية، وأصبحت لغة العلم هي اللغة العربية - هذه الأسباب وغيرها جعلت الفكر العربي إذا جعلنا بدأه العصر الجاهلي لا يسير السير الطبيعي الذي ساره في الأمم المنعزلة التي لم تمتزج هذا الامتزاج - لقد كان الفكر العربي فكرا عربيا خالصا (إلا قليلا) في الجاهلية من حيث طبيعته ومن حيث لغته، أما في الإسلام فنحن نسميه فكرا عربيا على نوع من التجوز، وهو في الواقع فكر أمم مختلفة اتخذت اللغة العربية أداة لتفكيرها، وهو فكر العرب وفكر الفرس وفكر الروم وفكر المصريين مزج كله مزجا قويا، واتخذ اللغة العربية أداته، واتخذ الإسلام أساسه - كان الفكر الفارسي والرومي قد قطع مراحل في التفكير لم يقطعها الفكر العربي في الجاهلية، فلما كان الامتزاج أبت الطبيعة إلا أن تسير على قوانينها فتجعل من هذا المزيج المختلف العناصر وحدة، وإن كانت هذه الوحدة مختلفة الأجزاء معقدة التركيب، وهذا المزج كذلك يسرع في قطع المراحل التي تقطعها الأمة المنعزلة في أزمان طويلة، كما يجعل دراسة هذه الظواهر المختلفة أصعب مراسا وأبعد منالا.
ومع هذا كله فيمكن رصد مظاهر الانتقال فيما يأتي: (1)
يظهر أن العرب في جاهليتهم كانوا في طور سرعة التصديق وحياة الخرافات والأوهام
3 - ولابد أن يكونوا قد عاشوا هذه المعيشة قرونا طويلة قبل الإسلام ولكن لم يصلنا إلا القليل عن جاهليتهم الأولى، وأكثر ما وصلنا كان قبل البعثة بما لا يعدو قرنين، فقد أدركهم التاريخ وهم يكادون يكونون في آخر هذا الطور؛ ومما يلاحظ أن تطور العرب في الجزيرة كان بطيئا في الجاهلية بطئا شديدا، وخاصة سكان الصحراء؛ لضعف اتصالهم بمن حولهم، فهم يعيشون عيشة تكاد تكون متشابهة - وعلى الجملة فقد فشت فيهم عبادة الأصنام، واستسقوا بها المطر، واستنصروا بها على العدو، وذبحوا لها الذبائح، وامتلأت بها منازلهم، وإذا اختصموا في أمر استقسموا بالقداح عندها، وإذا أرادوا سفرا كان آخر ما يصنعون أن يتمسحوا بها، وإذاقدموا من سفر كان أول ما يصنعون إذا دخلوا منازلهم أن يتمسحوا بها، وعظموا الأنصاب وهي الأحجار ينصبونها ويطوفون بها وهكذا - وملئت حياتهم بالخرافات والأوهام، فهم إذا أمسكت السماء وأصيبوا بالقحط عمدوا إلى السلع والعشر
4
فحزموها وعقدوهما في أذناب البقر ثم أشعلوا النار فيهما تفاؤلا بسنا البرق، وهم إذا مات منهم كريم عمدوا إلى ناقته فعكسوا عنقها وأداروا رأسها على مؤخرها، وتركوها في حفيرة ولا تطعم ولاتسقى حتى تموت، ليحشر عليها راكبها، فإذا لم يفعل له ذلك حشر ماشيا؛ وهم يعتقدون بالهامة تخرج من رأس القتيل، وتنادي على قبره اسقوني فإني صدية حتى يؤخذ بثأره، إلى كثير من أمثال ذلك
5 - وكانت الكهانة والعرافة نظاما من نظم حياتهم، يفزعون إلى الكهان والعرافين في منازعاتهم وخصوماتهم، ويرون أن لهم صلة بالجن يأخذون عنهم، وقد اشتهر بينهم كهان كثيرون كان لهم مقام سام بينهم - كل هذا وأمثاله كان فاشيا بين القبائل، ونظاما عاما عند الطبقات المختلفة، قد خضعت حياتهم للتفاؤل والتشاؤم، وأسرعوا في تصديق ما يروى لهم وضعف تعليلهم للأحداث إلا في القليل النادر؛ مما يدل على أنهم لم يعدوا هذا الطور الذي ذكرنا.
ولكن يظهر أنهم قبل الإسلام كانوا في آخر هذه المرحلة؛ فإنا نرى كثيرين قبيل البعثة قد دخلوا في طور البحث والشك، شك فيما عليه قومهم من دين وخرافات وأوهام، وبحث وراء الحق، مثل زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى؛ «فقد اعتزل عبادة الأوثان وامتنع من أكل ذبائحهم، وكان يقول: يا معشر قريش أيرسل الله قطر السماء، وينبت بقل الأرض ويخلق السائمة فترعى فيه، وتذبحوا لغير الله».
6
ورووا أنه خرج إلى الشام يسأل اليهود والنصارى عن دينهم لعله يصل إلى ما يثلج صدره، ويذهب شكه - وكذلك «ورقة بن نوفل» ذكروا أنه كره عبادة الأوثان، وطلب الدين في الآفاق، وقرأ الكتب - وهكذا روت لنا الكتب طائفة كثيرة في هذا العصر شكت وبحثت، وقالت الشعر في شكها، وتنديدها بالأصنام وكرهها لما عليه قومهم من عادات غير معقولة كالذي يقول:
لا در رجال خاب سعيهم
يستمطرون لدى الأزمات بالعشر
أجاعل أنت بيقورا
7
مسلعة
ذريعة لك بين الله والمطر
ونحوه مما يصح أن يسمى طور الشك والبحث. (2)
وأعقب دور الحيرة هذه دور العقيدة والإيمان؛ فجاء الإسلام يدعو إلى عبادة إله واحد ليس كمثله شيء، ودخل الناس فيه أفواجا، وقضى على ما كان في الجاهلية من خرافات وأوهام - حارب الأصنام وحطمها، ولما دخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
المسجد يوم فتح مكة ورأى الأصنام منصوبة حول الكعبة جعل يطعن بسية قوسه
8
في عيونها ووجوهها ويقول:
جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا
ثم أمر بها فكففت على وجهها، ثم أخرجت من المسجد فحرقت، وبعث خالد بن الوليد والطفيل بن عمرو الدوسي وغيرهما لكسر بعض وتحريق بعض، وأكذب الكهان ولم يعترف بهم، ونهى عن تصديقهم وعاب سجعهم ونهى عن الطيرة والتشاؤم وأمثالها - وعلى الجملة فقد حارب الإسلام ما كان يسود العرب من أوهام وأحل محلها دينا شرحنا مبادئه فيما تقدم.
اعتنق الناس الإسلام في حماسة وقوة فملك عليهم نفوسهم وأثر في كل المناحي الاجتماعية ومنها العلم - فقد ظل الدين أساس كل الحركات العلمية إلى أواخر العصر الأموي، فأساس التاريخ سيرة النبي
صلى الله عليه وسلم
وغزواته وفتوح المسلمين، والفقه مبني على ما ورد من قرآن وحديث، ووعظ الوعاظ وبحث العلماء دائر حول الدين من تفسير وحديث وفقه وما إلى ذلك، وما أثر عن ذلك العصر من دراسات دنيوية من طب وصناعة (كيمياء) فقليل نادر، وأكثر من اشتغل بها من غير المسلمين - اقتنع العلماء بالإسلام وآمنوا به إيمانا صادقا لا مجال للشك فيه فكان بحثهم في تفسير ما غمض من نصوصه، أو جمع ما تفرق من الحديث، أو استنباط أحكام القرآن والحديث، أو تطبيق ما ورد منهما على الحوادث الجزئية. (3)
جاء العصر العباسي فرأينا مظهرا آخر - رأينا العلوم الدنيوية تفيض فيضا في المملكة الإسلامية ؛ فتترجم الفلسفة اليونانية بجميع فروعها من طب ومنطق وطبيعية وكيمياء ونجوم ورياضة، وتترجم الرياضة الهندية والتنجيم الهندي، ويترجم تاريخ الأمم من فرس ويونان ورومان وغيرهم، ورأينا الإلهيات اليونانية تعرض ويعرض بجانبها الديانات الأخرى من يهودية ونصرانية ومجوسية وغيرها، ورأينا أرباب الديانات يتجادلون في أديانهم ويقفون مواقف الهجوم والدفاع - كل هذا سبب حالة عقلية جديدة - فأهل الديانات الأخرى إنما يدعون إلى دينهم بالعقل والمنطق، ويرد عليهم بالعقل والمنطق، فكان طبيعيا أن يفعل المسلمون ذلك حينما يدعونهم إلى الإسلام - قد كانت الدعوة إلى الإسلام في العصر الأول أكثر ما تعتمد على الأسلوب الفطري من لفت إلى الكون وآثاره ودلالة ذلك على موجدها
ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا * وخلقناكم أزواجا
الآية. فجاء أرباب الديانات الأخرى في العصر العباسي يريدون أدلة عقلية مؤسسة على منطق أرسطو، فيها مقدمة صغرى وكبرى، مستوفيتان للشروط، وفيها نتيجة كذلك؛ فتحولت الدعوة الدينية إلى علم الكلام، وتأثر تفسير القرآن وتفسير الحديث والتشريع بهذا الأثر الفلسفي، ورأينا العلماء يجتهدون في شرح كل ما يعرض لهم من ذلك بعلل عقلية وعبارات منطقية - وإذا كان هذا في العلوم الدينية فالأمر في العلوم الدينوية أشد وضوحا؛ فالطب والرياضة والهيئة وغيرها اعتمدت كل الاعتماد على التجارب وأقوال العلماء وبراهين المنطق. وهذه - على العموم - ظاهرة جديدة في العصر العباسي وإن كانت نتيجة طبيعية لحياة الناس وسيرهم العقلي. •••
ومن ناحية أخرى يرى بعض مؤرخي العلم
9
أن العلم في طوره الأول لا يكون منظما. يبحث في مسائل متفرقة لا تستقصى ولا تؤلف بينها وحدة، أكثر ما يعتمد فيها على الروايات وآراء المفكرين قبلهم، مسائل العلم مبعثرة، والعلماء أنفسهم مبعثرون، والعلم شيء واحد ليس ذا فروع، فكل ما يفكر فيه عقل الإنسان هو العلم ، كالذي سمي عند اليونان «فلسفة»؛ فقد شملت أبحاثها كل ما خطر بالعقل البشري. ثم يتقدم العلم، وتتسع - بعض الشيء - دائرة المعلوم، وتضيق - بعض الشيء - دائرة المجهول، وكلما حلت مسألة أضيفت إلى مجموع المعارف وعلمت للناس.
وكلما تقدم العلم مال إلى الامتحان والجزم، ولم يكتف بالاعتماد على أقوال الرواة وآراء السابقين، حتى إذا قطع في هذا شوطا بعيدا دخل في طور التنظيم، وجمعت المسائل المتعلقة بموضوع واحد في مجموعة واحدة، وكونت فرعا مستقلا بعض الاستقلال، ويلاحظون كذلك أن فكر الإنسان اتجه أولا إلى الطبيعة ومظاهرها ثم انتقل إلى النظر في الإنسان ودراسته، وبعد ذلك تميزت العلوم ونظمت.
فإذا نحن نظرنا في ضوء هذا إلى العرب وجدنا معلوماتهم في الجاهلية مبعثرة، نظرات في الطبيعة ونظرات في الإنسان لا تربطها رابطة، وتجارب يرويها الخلف عن السلف من غير امتحان، طب موروث وكهانة مألوفة، وقول في النجوم والأنواء والرياح سمعه جيل عن جيل، ورواية للشعر لا تعتمد على درس أو امتحان وهكذا، وكل شخص راق يعرف هذه الأشياء جملة على أنها معلومات ثابتة، وأحاديثهم من هذا القبيل فيها كل شيء وليس فيها شيء دقيق منظم؛ حتى إذا جاء العصر الذي يليه من عصر الخلفاء الراشدين وإلى قبيل الدولة العباسية رأينا العلم السائد هو العلم الديني كما ذكرنا، ورأينا المسائل تبحث بنظر أدق، ولكن لم نجد العلوم كذلك متميزة، فليس علم مستقل اسمه التفسير، ولا علم مستقل اسمه الفقه وهكذا، ولا العلماء كذلك؛ فابن عباس يتكلم في مجلس واحد في مسائل متنوعة في فروع متعددة وكذلك غيره، والثقافة كتلة واحدة ممتزجة من تفسير وحديث وفقه وما يلزمها من لغة وشعر، كلها تلقى في درس واحد ليس ذا فروع ولا لكل فرع اسم، والذين يجمعون الحديث لا يبوبونه، ولا يضعون الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد تحت باب واحد، ولم يكن تأليف بالمعنى المنظم الذي رأيناه بعد في العصر الذي وليه.
حتى استهل القرن الثاني فرأينا الاتجاه يتجه إلى تمييز العلوم بعضها عن بعض، وتم ذلك في أوائل العصر العباسي، قال الذهبي: (في سنة 143 شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير فصنف ابن جريج بمكة، ومالك الموطأ بالمدينة، والأوزاعي بالشام، وابن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، ومعمر باليمن، وسفيان الثوري بالكوفة، وصنف ابن إسحاق المغازي ، وصنف أبو حنيفة رحمه الله الفقه والرأي، ثم بعد يسير صنف هشيم، والليث وابن لهيعة ثم ابن المبارك وأبو يوسف وابن وهب، وكثر تدوين العلم وتبويبه، ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس، وقبل هذا العصر
كان الأئمة يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة).
10
من هذا النص ترى مصداق ما ذكرنا من أن العلم في العهد الأموي كان رواية العلماء من حفظهم أو من صحف جمعت حيثما اتفق، فالصحيفة قد يكون فيها حديث ومسألة فقهية، ومسألة نحوية، ومسألة لغوية. ومجالس العلماء كذلك. يروى عن عطاء أنه قال: «ما رأيت قط أكرم من مجلس ابن عباس أكرم فقها وأعظم خشية، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع»
11 - فلما جاء العصر العباسي ميزت العلوم وجمعت مسائل كل علم على حدتها، بل ووضعت المسائل المتشابهة تحت باب واحد.
كذلك نرى العلم في العصر الأموي كانت نواته القرآن والحديث، فكل مسائل العلم تقريبا تدور حول هذه النواة؛ منهما يستنبط الفقه، ولأجلهما يروى الشعر، وبسببهما تبحث مسائل النحو. وعلى الجملة فالحركة العلمية كلها دينية إلا القليل؛ أما في العصر العباسي فقد ظلت هذه النواة - وإن اتخذت البحوث حولها شكلا آخر - ولكن وجدت بجانب هذه النواة نواة أخرى تجمعت حولها العلوم الدنيوية، وهي نواة الطب؛ فقد أسس النساطرة بمعاونة اليهود مدرسة للطب بجند يسابور، وأيدهم الخلفاء العباسيون، وقد كانت هذه المدرسة الطبية وارثة الطب اليوناني والفلسفة اليونانية في الشرق، وحول هذه الدراسة الطبية تكونت دراسة الطبيعة والكيمياء والهيئة، بل والمنطق والإلهيات، وكانت الثقافة الطبية تتطلب كل هذه الفروع، وبرنامجها يسع كل هذه الأشياء، كما نلاحظ هذا حتى في فلاسفة المسلمين أمثال الفارابي وابن سينا؛ فكلاهما طبيب فيلسوف.
من أجل هذا نرى نوعين من الدراسة في هذا العصر: دراسة دينية حول القرآن والحديث، ودراسة دنيوية حول الطب، ولكل نوع مميزات خاصة ومنهج في البحث خاص، وإن أثر كل منهما في الآخر وتأثر به.
وقد عبر ابن خلدون عن هذين النوعيين تعبيرا صادقا؛ إذ قال: «إن العلوم صنفان: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره،
وصنف نقلي
يأخذه عمن وضعه، والأول هي العلوم الحكمية الفلسفية، وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها، وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها، حتى يقفه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر؛ والثاني هي العلوم النقلية الوضعية؛ وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول».
12
وقد لاحظ كذلك ملاحظة دقيقة وهي أن العلوم العقلية أو الطبيعية مشتركة بين الأمم؛ لأن الإنسان يهتدي إليها بطبيعة فكره «وأما العلوم النقلية كلها فمختصة بالملة الإسلامية وأهلها».
13 •••
في هذا العصر كما لاحظ الذهبي وضعت في اللغة العربية أسس كل العلوم - تقريبا - فقل أن نرى علما إسلاميا نشأ بعد ولم يكن قد وضع في العصر العباسي، وضع تفسير القرآن، وجمع الحديث ووضعت علومه، ووضع علم النحو، وألف فيه سيبويه كتابه الخالد، ووضعت كتب اللغة ورسم خطتها الخليل بن أحمد كما وضع العروض، ودونت أشعار العرب في المعلقات التي دونها حماد الرواية والمفضليات التي دونها المفضل الضبي، والأصمعيات التي دونها الأصمعي، ووضع الجاحظ أساس الكتب الأدبية، وحذا حذوه ابن قتيبة والمبرد وغيرهما، ودون الفقه على يد الأئمة وتلاميذهم، ودون التاريخ الواقدي وابن إسحاق وأمثالهما - هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى ترجمت كتب الفلسفة من منطق ورياضة وهيئة وطب غيرها، وبدأ العلماء يؤلفون فيها، فماذا جد بعد ذلك من علوم لم تكن في هذا العصر؟ إنما جد بعد ذلك توسيع هذه العلوم وزيادة جزئياتها، وإجادة تأليفها أو ضعفه، ومعالجة أنفع أو أضر . •••
يصح لنا بعد ذلك أن نتساءل عن العوامل التي سببت هذا التطور ونشأ عنها تنظيم العلوم وتدوينها - أولا - وزيادة فروعها ووجود النواة الأخرى وهي نواة العلوم الدنيوية - ثانيا - يرى ابن خلدون أن العلم يكثر حيث يكثر العمران؛ لأن العلم شأنه شأن الصنائع بل هو صناعة «والصنائع إنما تكثر في الأمصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة؛ لأنه أمر زائد على المعاش، فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان وفي العلوم والصنائع».
14
وعلى هذا فقد كانت الحضارة في العراق أيام العباسيين أتم منها في دمشق أيام الأمويين، والمال أكثر، فكانت الصنائع أتم والعلم أوفر.
على أن هناك أسبابا أخرى في عصرنا هذا غير الأسباب العامة من كثرة العمران ونحوها.
منها: انتقال الخلفاء إلى العراق وتأسيس بغداد فيه، وقد كانت العراق أوفر حضارة، ومن قديم كانت العراق تفخر على الشام بعلومها حتى في العهد الأموي كما سيأتي.
15
ومنها: أن الدولة العباسية أصبحت الغلبة فيها للفرس وغيرهم، ولم تعد الأمور كلها بيد العرب كما كان في العهد الأموي؛ فأمسك هؤلاء بزمام شئون الدولة ومنها العلم، وقد كان الفرس قد قطعوا المراحل الأولى للعلم وكادوا يصلون إلى آخرها، وكذلك شأن النساطرة وأمثالهم، فلما أعطوا الحرية اللازمة للعلم نهضوا به وقادوا حركته على مثل المنهج الذي كانوا يسيرون عليه في أممهم قبل الإسلام.
ومنها: أن مرور أكثر من قرن على ظهور الإسلام وانتشاره، وفتوح البلدان وحكمها بيد العرب مكن من ظهور جيل من أبناء الفرس والروم وغيرهما، نشأ في بلاد إسلامية وأصبح مسلما إما باعتناق الدين أو بالمربى، وصار يجيد العربية كأهلها، وجمع إلى ذلك ثقافته بلغة آبائه، فأنشأ باللغة العربية ما كان يكتبه آباؤه باللغة الفارسية أو اليونانية، ودون في العلوم العربية على النحو الذي كانت تدون به العلوم من في اللغات الأخرى.
ومنها: أن الحياة الاجتماعية بالعراق واختلافها عن الحياة الاجتماعية في الشام جعلت الحاجة ماسة لنوع من العلوم كان لابد منه، فدجلة والفرات تلجئ حتما إلى نظام في الري غير الذي في الشام وجزيرة العرب، وهذا يلجئ حتما إلى النظر في الخراج نظرا جديدا كان له من غير شك أثر في كتاب الخراج لأبي يوسف، واختلاف الحياة في البصرة والكوفة جعل هناك خلافا طبيعيا بين مدرستي البصرة والكوفة في النحو واللغة والأدب وغيرها.
ومنها: أن هناك عوامل شخصية أثرت في العلم لو لم تحدث لأخرت سير العلم بعض الزمن، كالذي كان من أبي جعفر المنصور؛ فضعف معدته جعله يهتم كثيرا بالطب ويستدعي الأطباء على اختلاف مللهم ونحلهم ويصغي إليهم ويشجعهم على البحث في الطب والتأليف فيه، فكان هذا نواة للعلوم العقلية، ومثل ذلك اعتقاده في التنجيم، أي أن هناك ارتباطا بين حركات النجوم وأحداث الأرض؛ فاهتم بذلك وبنى عليه بعض أعماله كتخطيط مدينة بغداد، واختياره الوقت الملائم وهكذا.
ومنها - وهو فوق ذلك كله - أن الأمة الإسلامية كانت قد مرت بطور المسائل الجزئية المبعثرة، فكان لزاما أن يسلمها ذلك إلى الطور الآخر؛ طور التنظيم وتدوين العلوم وتميزها - ولكن يجب أن نلاحظ هنا أن العلوم التي انتقلت هذا الانتقال إنما هي العلوم النقلية من علوم دينية ولغوية وأدبية؛ أما العلوم العقلية من طب ومنطق ورياضة ونحوها فقد بدأت في الأمة الإسلامية منظمة؛ لأن الأدوار الأولى - أدوار الأبحاث الجزئية - كانت قد قطعت من أزمان بعيدة في أممها كاليونان والهند والفرس، وكانت قد وصلت إلى مرحلة التنظيم والتدوين والتبويب، فلما نقلت في العصر العباسي إلى اللغة العربية نقلت بهيئتها الكاملة، ولم تحتج إلى أن تمر بالمراحل الطبيعية من جديد، ولعل المؤلفين بعد في العلوم النقلية لما رأوا العلوم العقلية منظمة هذا النظام اقتبسوا منه في علومهم، وأدخلوا عليها ما استحسنوا من النظم. •••
وقد كان لكل من العلوم النقلية والعقلية منهج في البحث والتأليف خاص، فأما منهج البحث والتأليف في العلوم النقلية فاعتماد على الرواية وصحة السند، فالمؤلفون في التفسير في ذلك العصر يعتمدون على نقل ما روي من تفسير الآيات عن الصحابة والتابعين، فإن زادوا شيئا فترجيح أحد هذه الأقوال - وكذلك الشأن في الحديث، أهم ما يشغل المحدث جمع الأحاديث وامتحان أسانيدها لمعرفة جيدها من رديئها وهكذا، ومثل ذلك يقال في علم اللغة والأدب؛ إذ هما تأثرا بالعلوم الدينية، ونمط الرواية فيهما نمط الرواية في الحديث، فاللغوي يروي ما سمع من أعرابي أو عالم، وكثيرا ما يذكر السند كما يذكره المحدث مثل الذي نرى في كتاب الأغاني.
وأما العلوم العقلية كالطبيعة والرياضة والطب فأكثر ما تعتمد على معقولية الحقائق وامتحانها إما من طريق المنطق وإما من طريق تجربة الحقائق وامتحانها عمليا، فإذا ذكرت حقيقة فقلما يعنون بقائلها، ولكنهم يعنون بوضعها تحت قواعد المنطق، وهل من قوانينه ما يؤيدها أو ما ينقضها، وكذلك قد يمتحنونها عمليا ليرقبوا نتيجتها؛ فيحكموا عليها بالخطأ أو الصواب.
وهناك علوم أخذت بشبه من المنهجين كالفقه بعد العصر الأول؛ فكثير من الفقهاء لم يعتمد على المنهج الأول من الاستدلال بآية أو حديث فقط، بل استعمل الدليل المنطقي في تأييد مذهبه والرد على خصومه، ومن ذلك النحو بعد عصره الأول كذلك؛ فأصبحت المسألة لا يحتج فيها بالسماع من الأعراب فحسب بل بالبرهان العقلي أيضا.
وهذا الاختلاف بين المنهجين طبيعي؛ ففي المسائل الدينية وشبهها متى ثبت النص عن الشارع فلا مجال للعقل، وفي العلوم العقلية مجال العقل واسع المدى لا يحده إلا البرهان على الخطأ أو الصواب - ولنسق مثلا لكل من المنهجين، مثال المنهج الأول: قال تعالى:
وله من في السماوات والأرض ومن عنده لايستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ... لا يستنكفون عن عباداتهم إياه ولا يعيون من طول خدمتهم له.. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، حدثني علي، قال حدثنا عبد الله، قال حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس (رضى الله عنه) قوله:
ولا يستحسرون . لا يرجعون - حدثنا بشر، قال حدثنا يزيد، قال حدثنا سعيد عن قتادة قوله لا يستحسرون، قال لا يعيون. حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله
لايستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ، قال: لا يستحسرون لا يملون ذلك الاستحسار، قال ولا يفترون ولا يسأمون هذا كله معناه واحد والكلام مختلف، وهو من قولهم بعير حسير إذا أعيا وقام، ومنه قول علقمة بن عبدة:
بها جيف الحسرى فأما عظامها
فبيض وأما جلدها فصليب
16
ومثال المنهج الثاني: «واعلم أن هذه المعلومات التي تسمى أوائل في العقول إنما تحصل في نفوس العقلاء باستقراء الأمور المحسوسة شيئا بعد شيء، وتصفحها جزءا بعد جزء، وتأملها شخصا بعد شخص، فإذا وجدوا منها أشخاصا كثيرة يشملها صفة واحدة حصلت في نفوسهم - بهذا الاعتبار - أن كل ما كان من جنس ذلك الشخص ومن جنس ذلك الجزء هذا حكمه، وإن لم يكونوا يشاهدون جميع أجزاء ذلك الجنس وأشخاص ذلك النوع، مثال ذلك أن الصبي إذا ترعرع واستوى وأخذ يتأمل أشخاص الحيوانات واحدا بعد واحد فيجدها كلها تحس وتتحرك فيعلم أن كل ما كان من جنسها هذا حكمه، وكذلك إذا تأمل كل جزء من المال - أي إن كان - وجده رطبا سيالا، وكل جزء من النار فوجده حارا محرقا، وكل جزء من الأحجار فوجده صلبا يابسا، علم عند ذلك أن كل ما كان من ذلك الجنس فهذا حكمه، فبمثل هذا الاعتبار تحصل المعلومات في أوائل العقول بطريق الحواس متفاوتة».
17
وكان لكل منهج أثر كبير في أصحابه من حيث الأخلاق العلمية والصفات العقلية، فالأولون قصروا اتجاههم على التحقق من صحة النقل، ولم يحكموا كثيرا مقياس العقل، وكرهوا أن يصغوا إلى نقد الناقد يحكم المنطق في علمهم، والآخرون أطلقوا لعقلهم العنان، ولم يشاءوا أن يقتصروا في ذلك على دائرة أبحاثهم - وظلوا في أمن وطمأنينة ما استعملوا منهجهم في الطب والرياضة والمنطق، ولكنهم يقتنعوا بذلك، بل حاولوا أن يطبقوه على علم الكلام والفقه والنحو بل واللغة، فكان صدام عنيف بين الطائفتين، ورمى الأخلاق الآخرين بالزندقة والإلحاد، كما رمى الآخيرون الأولين بالجمود والتزمت؛ وكان أظهر من يمثل الأولين علماء الحديث، ومن يمثل الأخيرين علماء الكلام، وكان من وراء ذلك كله صراع بلغ حد سفك الدماء أحيانا كما سنعرض له بعد.
ولم يكن هذا الصراع عنيفا قويا في العصر الأموي، وأهم سبب في ذلك أن العلم كله في عهد الأمويين كان في يد رجال الدين تقريبا، وهم يكادون يكونون من عقلية واحدة أو متشابهة، فلما كان العصر العباسي اتسع مدى العلوم الأخرى التي تكونت حول الطب، وهي العلوم العقلية، وذلك جعل العلم ينفذ إلى بيئات أخرى، بعضها غير ديني كالأطباء والرياضيين، وبعضها لها لون خفيف من الدين كطبقة الكتاب، وبعضها شاءوا أن يضعوا أيديهم على الثقافات المختلفة دينية وغير دينية، ويمزجوا بينها ويوفقوا بين ما تناقض منها كعلماء الكلام، فكان من ذلك عقليات غير متشاكلة سببت النزاع والجدل، ولكن في الوقت عينه وسعت مجال العلم وأوصلته إلى مناطق لم يصل إليها قبل. •••
على كل حال، في أقل من خمسين عاما من آخر الدولة الأموية إلى صدر الدولة العباسية كانت أغلب العلوم قد دونت ونظمت، سواء في ذلك العلوم النقلية من علوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، وعلوم اللغة والأدب على اختلافها، والعلوم العقلية من علوم الرياضة والمنطق والفلسفة والكلام.
وكان نشاط المسلمين في ذلك يسترعي الأنظار ويستخرج العجب، وليس هناك من نشاط يشبه إلا نشاط العرب في فتوح البلدان - وقد نظم العلماء أنفسهم فرقا كفرق الجيش، كل فرقة تغزو الجهل أو الفوضى في ناحيتها حتى تخضعها لنظامها، ففرقة للغة، وفرقة للحديث، وفرقة للنحو، وفرقة للكلام، وفرقة للرياضيات وهكذا، وهم يتسابقون في الغزو والانتصار وتدوين العلم وتنظيمه، تسابق قبائل العرب في الفتوح والغزوات، كل قبيلة تود أن تكون السابقة في الميدان؛ ووجد في ساحة الميدان العلمي قواد بارزون يتنافسون في الابتكار، فإذا فاز أبو حنيفة بوضع الفقه ثارت حماسة الخليل بن أحمد فيضع العروض ويرسم المنهج لمعجم اللغة، بل ويريد بعقله الجبار أن يضع «نوعا من الحساب تمضي به الجارية إلى البياع فلا يمكنه ظلمها»؛
18
وهكذا في سائر الفروع - وقد ظل المسلمون طول حياتهم العلمية يعيشون على هذه الثروة التي وضعت في هذا العصر ، ليس لهم في الغالب من أثر إلا الإيجاز حينا والإطناب حينا، وجمع متفرق وتفريق مجتمع، أما الابتكار فقليل نادر. •••
ساعد على هذه الحركة العلمية الواسعة، أو قل نتج عن هذه الحركة والميل إلى تدوين العلم ونقله من المشافهة إلى الكتابة اتساع صناعة الورق .
ذلك أن العرب في جاهليتهم كانوا أميين - كما علمنا - قل بينهم الكاتب القارئ، وكانوا قبل الإسلام وفي صدره يكتبون على الرق، وهو جلد يرقق ويكتب عليه، ومنه قوله تعالى:
والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور
وكانوا يكتبون في اللخاف، وهي حجارة بيض رقاق، وفي عسب النخل، وهي الجريد الذي لا خوص عليه، وفي عظم أكتاف الإبل والغنم، وكانوا يكتبون القرآن في هذه اللخاف والعسب، فعن زيد بن ثابت أنه قال في جمعه القرآن: «فجلعت أتتبع القرآن من العسب واللخاف»، وفي حديث الزهري: «قبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والقرآن في العسب»، وربما كتب النبي
صلى الله عليه وسلم
بعض مكاتباته في الأدم.
19
واستعملت عند العرب كلمة القرطاس، وهو ورق يتخذ من بردي مصر، قال في اللسان: «القرطاس معروف يتخذ من بردي يكون بمصر» - وفي صبح الأعشى القرطاس كاغد يتخذ من بردي مصر - وقد ورد في القرآن استعماله مفردا وجمعا
ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس
و
وتجعلونه قراطيس
وقد فسرها قتادة كما في تفسير الطبري بالصحيفة، ولم يبينها؛ والعرب قديما عرفوا القرطاس، وأكثروا من تشبيه آثار الديار بالكتاب بعد ما مضى الزمان عليه، قال المرار بن سعيد الفقعسي:
عفت المنازل غير مثل الأنقس
بعد الزمان عرفته بالقرطس
20
وعرفوا كذلك «المهرق»، وفسره في «اللسان» بأنه ثوب حرير أبيض يسقى الصمغ ويصقل، ثم يكتب فيه، معرب عن الفارسية،
21
قال الأعشى:
سلا دار ليلى هل تبين فتنطق
وأنى ترد القول بيضاء سملق
22
وأنى ترد القول دار كأنها
لطول بلاها والتقادم مهرق
وعلى كل حال فهذه العسب واللخاف والرق والمهرق لا تساعد على انتشار العلم؛ لقلتها وعدم صلاحيتها وغلاء ثمن بعضها، فهي لا تصلح لشعب يريد أن يتعلم ويدون العلم ، خصوصا وطبقة العلماء طبقة فقيرة غالبا.
فلما فتح العرب مصر كثر استخدامهم لورق البردي ونشروه في أنحاء المملكة الإسلامية،
23
وقد اشتهرت مصر بهذه الصناعة من عهد قدماء المصريين، واستمرت مصانع الورق على عملها بعد فتح العرب لها، وكان الوليد بن يستعمله في شئونه الخاصة، وكان عبد الملك (86-96) الخلفاء يفضلونه على غيره من أنواع الورق؛ لأنه لا يمكن محو ما فيه من غير أن يعرف؛ وأكثر المصانع كانت في الوجه البحري لكثرة ما فيه من نبات البردي، وكانوا يصنعونه أنواعا: منه ما نعم وغلا، ومنه ما خشن ورخص، ويصنعونه أدراجا يلف كل درج منها، وقد حدث الكندي (صاحب كتاب ولاة مصر وقضاتها) عن درج طويل يقرب من خمسة عشر مترا، وكان يباع الدرج حول سنة 184ه من النوع الجيد بدينار ونصف دينار، وهو ثمن غال خصوصا إذا لاحظنا أن هذا القدر يدفع إيجارا لفدان صالح للزراعة مدة عام، وقد أصدر عمر بن عبد العزيز أمره بالاقتصاد في استعمال الورق؛
24
وشكا أبو نواس حاجته إلى الورق فقال:
أريد قطعة قرطاس فتعجزني
وجل صحبي القراطيس
لحاهم الله عن ود ومعرفة
إن المياسير منهم كالمفاليس
وكان من أهم مراكز الورق المصنوع من البردي مدينة بورة
25 - وهي مدينة على ساحل البحر قرب دمياط.
وكان في مصر بجانب البردي نوع من القماش يكتب عليه، وكانت مصانعه في أبو صير وسمنود؛ وبدار الكتب المصرية حجج كتبت على هذا القماش.
واستعمل البردي في العراق، ووجد درب في بغداد سمي «درب القراطيس»، ووجدنا بعض الأشخاص ينتسبون إليه مثل إسماعيل القراطيسي؛ وقد كانت الصين معروفة كذلك من قديم بصناعة الورق، وعرف عند المسلمين الورق الصيني، وكانوا يصنعونه من الحشيش والكلأ، وفي سنة 134ه غزا خالد بن إبراهيم أهل «كش» من أرض الصين «وأخذ منهم من الأواني الصينية المنقوشة المذهبة ما لم ير مثلها ومن السروج ومتاع الصين كله من الديباج والطرف شيئا كثيرا، فحمل إلى أبي مسلم (الخراساني) وهو بسمرقند»،
26
وقد أخذ أسارى من الصين ووضعوا في سمرقند فبدءوا يصنعون الورق الصيني فيها - وانتشرت في الدولة العباسية أنواع من الورق، الورق الفرعوني (نسبة إلى فرعون مصر)، والورق السليماني (نسبة إلى سليمان بن راشد عامل الخراج على خراسان لهارون الرشيد)، والورق الجعفري (نسبة لجعفر البرمكي)، والورق الطلحي (نسبة لطلحة بن طاهر)، والورق الطاهري (نسبة إلى طاهر بن الحسن) - وانتشرت مصانع الورق في سمرقند، وفي دار الخز ببغداد وفي تهامة واليمن ومصر، وفي دمشق وطرابلس وحماة ومنبج وفي المغرب والأندلس - وصنعوا في القرن الثاني من الهجرة الورق من الخرق، وذاع استعماله، وفاق غيره من أنواع الورق.
27
ويقول صبح الأعشى: «أجمع رأي الصحابة (رضى الله عنهم) على كتابة القرآن في الرق لطول بقائه أو لأنه الموجود عندهم حينئذ، وبقي الناس على ذلك إلى أن ولي الرشيد الخلافة، وقد كثر الورق وفشا عمله بين الناس، فأمر ألا يكتب الناس إلا في الكاغد؛ لأن الجلود ونحوها تقبل المحو والإعادة فتقبل التزوير، بخلاف الورق فإنه متى محي منه فسد، وإن كشط ظهر كشطه؛ وانتشرت الكتابة في الورق إلى سائر الأقطار، وتعاطاها من قرب ومن بعد، واستمر الناس على ذلك إلى الآن».
28
وقد وصلت إلينا مجموعة من الورق والرق والحجارة على اختلاف أنواعها، حفظت في دار الكتب المصرية وغيرها من دور العلم، وجد الباحثون من المستشرقين في دراستها، من دارس للخط العربي وتطوره، ومؤرخ يقارن بين ما فيها وما في كتب التاريخ، ومستنتج ما تدل عليه من ظواهر اجتماعية واقتصادية، وكيماوي يحلل ليعلم مم تكونت وكيف صنعت إلخ.
والذي يهمنا الآن أن نقول: إن اقتران نشاط مصانع الورق وكثرتها ورخص أثمانها - بحركة العلم وتدوينه في العصر العباسي - كان أمرا لابد منه في وصول العلم إلى النحو الذي وصل إليه، وما كان يصل إلى ذلك القدر من الرقي لو ظلت أدوات الكتابة على حالتها الأولى من السذاجة أو الغلاء، بل إن الأدب أيضا مدين لهذه الصناعة، فقد كثر الكتاب وخلفوا لنا آثارا قيمة واستعملوا الورق في كتابة الرسائل الرسمية، ورسائل الاعتذار والحب وما إلى ذلك، مما لم يكن يكون لولا الورق - ولو كان في العصر الجاهلي أو صدر الإسلام ورق دونت فيه الأحداث الجاهلية والإسلامية لكان شأن المؤرخين في ذلك غير شأنهم اليوم.
وقد نتج عن هذا الورق وتدوين العلوم فيه وجود الكتب وخزائنها، وأصبحت المكاتب منذ العصر العباسي الأول مصدرا عظيما للثقافة .
ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن كان من جراء كثرة الورق والكتابة فيه، والكتب المؤلفة نشوء صناعة «الوراقة»، وهي صناعة كان يقوم أصحابها بنسخ الكتب وتصحيحها وتجليدها، ونحو ذلك مما يتعلق بالكتب؛ وقد انتشر في هذا العصر دكاكين الوراقين، وكانت مصدرا من مصادر انتشار الثقافة؛ فإنهم ينسخون الكتب ويصححونها ويجلدونها ويبيعونها للناس فتنتشر في الأقطار المختلفة، وكان المتعلمون يذهبون إلى دكاكين الوراقين يطالعون فيها الكتب، «حدث أبو هفان قال: لم أر قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان، حتى إنه كان يكتري
دكاكين الوراقين
ويبيت فيها للنظر».
29
وقد ذكر اليعقوبي أنه كان في عصره (توفي سنة 278ه) أكثر من مائة وراق في بغداد - وكان من هؤلاء الوراقين علماء مجيدون، منهم بعد عصرنا ابن النديم صاحب الفهرست، ثم ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان، ومعجم الأدباء.
ويسلمنا هذا البحث - بحث تكون العلوم في العصر العباسي - إلى بحث آخر، وهو هل للدولة العباسية أثر في تلوين العلوم كلها أو بعضها لونا خاصا ولم يكن يتلون به لو نشأ في دولة غيرها؟ هل لو كان العلم دون في العهد الأموي أو في الأندلس أو في دولة شيعية كان يتخذ شكلا آخر؟ وهل كان العلماء الذين دونوا العلوم متأثرين بأنهم تحت ولاية العباسيين وسلطانهم، أو كانوا مستقلين تمام الاستقلال؟ إلى نحو ذلك من الأسئلة التي تدور حول نقطة واحدة.
والذي يظهر لي أن العلم تأثر بالدولة العباسية تأثرا كبيرا، بعض هذا الأثر واضح ينكشف بأقل بحث، وبعضه غامض عميق لا ينجلي إلا بطول النظر وإعمال الفكر؛ ذلك أن الدولة العباسية كان موقفها - وقت تدوين العلوم - موقف الذي يهدم دولة كانت قوية عظيمة هي دولة الأمويين، استمرت في الحكم نحو مائة عام، وكان من رجالها عظماء، كمعاوية عبد الملك بن مروان وهشام، شيدوا الملك وأسسوه على دعائم ثابتة، وتغلغلت سلطتهم في مناحي الحياة، فجاء العباسيون يهدمون هذا البناء من أساسه، ويقيمون دولة جديدة على نظام خاص غير الذي عرفه الأمويون.
وكان أمام العباسيين شيعة يرون أن آل العباس اغتصبوا الخلافة منهم، وأن أحق الناس بالخلافة آل أبي طالب لا آل العباس.
وكان هناك مذاهب كالخوارج والمرجئة وما إليهما، هي مذاهب دينية في الظاهر ولكنها كثيرا ما تتعرض للسياسة، ولها رأي قد يخالف رأي الدولة وقد يوافقها؛ كل هذا - من غير شك - كان يصطدم بالعمل أحيانا اصطداما عنيفا، ويخلق مشاكل في نهاية التعقيد، تقف أمام العلماء يحاولون حلها، وليس كل العلماء في أي وقت وفي أية أمة بالذين يتنزهون جميعا عن الغرض دائما، ولا يغرهم المال والجاه أبدا، فكان من بين العلماء من استمسك بالحق وخالف تعاليم الدولة وميولها، وتعرض للعذاب، ومنهم من شايعها وأخذ يؤيد بعلمه وجهة نظرها، فأغدقت عليه مالها، وكذلك الشأن في الأدب، لقد كان أحب الشعراء للرشيد مروان بن أبي حفصة؛ لأنه كان يصل مدح الرشيد بالتعريض بالشيعة من مثل قوله:
خلوا الطريق لمعشر عاداتهم
حطم المناكب كل يوم زحام
ارضوا بما قسم الإله لكم به
ودعوا وراثة كل أصيد حام
أنى يكون وليس ذاك بكائن
لبنى البنات وراثة الأعمام؟
ويقول الأغاني في ترجمة منصور النمري إنه أراد أن يتصل بالرشيد «وعرف مذهبه في الشعر وإرادته أن يصل مدحه إياه بنفي الإمامة عن ولد علي بن أبي طالب والطعن عليهم، وعلم مغزاه في ذلك مما كان يبلغه من تقديم مروان بن أبي حفصة وتفضيله إياه على الشعراء في الجوائز؛ فسلك مذهب مروان في ذلك ونحا نحوه، ولم يصرح بالهجاء والسب كما كان يفعل مروان، ولكنه حام ولم يقع، وأومأ ولم يحقق؛ لأنه كان يتشيع، وكان مروان شديد العداوة لآل أبي طالب، وكان ينطق عن نية قوية يقصد بها طلب الدنيا فلا يبقي ولا يذر».
30
وهكذا كان أقرب الشعراء إلى نفوس الخلفاء من عرف ما في نفوسهم. وأكثر من مدحهم ونال من عدوهم؛ فالشعراء العلويون موضع نقمة العباسيين واضطهادهم وتشريدهم.
وليست كل العلوم بمثابة واحدة في الاتصال بالسياسة وشئون الدولة والتأثر بها، فهناك - مثلا - علوم الرياضة والطب والمنطق والطبيعة؛ فهي علوم مستقلة لا نعلم لها اتصالا بالسياسة وتصرفاتها، ولكن بجانب ذلك نرى التاريخ - مثلا - من أشد العلوم اتصالا بالسياسة، وكذلك كان في العصر العباسي كثيرا مايتخذ وسيلة من وسائل الدعوة، وكان بعض المؤرخين يتقربون إلى الخلفاء بروايتهم ما يرضيهم.
روى الطبري عن محمد بن عمر عن حفص قال: «كان هشام الكلبي صديقا لي، فكنا نتلاقى فنتحدث ونتناشد، فكنت أراه في حالة رثة، وفي أخلاق،
31
وعلى بغلة هزيلة، والضر فيه بين على بغلته، فما راعني إلا وقد لقيني يوما على بغلة شقراء من بغال الخلافة، وسرج ولجام من سروج الخلافة ولجمها، في ثياب جياد ورائحة طيبة، فأظهرت السرور، ثم قلت له: أرى نعمة ظاهرة! قال لي نعم أخبرك عنها فاكتم، بينا أنا في منزلي منذ أيام بين الظهر والعصر إذ أتاني رسول المهدي فسرت إليه، ودخلت عليه وهو جالس خال، ليس عنده أحد، وبين يديه كتاب، فقال: ادن يا هشام، فدنوت فجلست بين يديه فقال خذ هذا الكتاب فاقرأه ولا يمنعك ما فيه - مما تستفظعه - أن تقرأه؛ قال فنظرت في الكتاب، فلما قرأت بعضه استفظعته فألقيته من يدي ولعنت كاتبه؛ فقال لي قد قلت لك إن استفظعته فلا تلقه، اقرأه بحقي عليك حتى تأتي على آخره، قال فقرأته فإذا كتاب قد ثلبه فيه كاتبه ثلبا عجيبا لم يبق له فيه شيئا، فقلت يا أمير المؤمنين من هذا الملعون الكذاب؟ قال هذا صاحب الأندلس، قال قلت فالثلب والله يا أمير المؤمنين فيه وفي آبائه وفي أمهاته، قال ثم اندرأت أذكر مثالبهم؛ قال فسر بذلك، وقال أقسمت عليك لما أمللت مثالبهم كلها على كاتب؛ قال ودعا بكاتب من كتاب السر، فأمره فجلس ناحية وأمرني فصرت إليه، فصدر الكاتب من المهدي جوابا، وأمللت عليه مثالبهم فأكثرت، فلم أبق شيئا حتى فرغت من الكتاب ثم عرضته عليه فأظهر السرور، ثم لم أبرح حتى أمر بالكتاب فختم، وجعل في خريطة، ودفع إلى صاحب البريد، وأمر بتعجيله إلى الأندلس؛ قال ثم دعا بمنديل فيه عشرة أثواب من جياد الثياب، وعشرة آلاف درهم، وهذه البغلة بسرجها ولجامها، فأعطاني ذلك وقال لي اكتم ما سمعت».
32
وقد كان من أهم ما حارب به العباسيون الأمويين التأثير في المؤرخين حتى يصبغوا لون الأمويين بلون قاتم مظلم، ولون العباسيين بلون زاهر ناضر.
لقد وضع الخلفاء الأولون من بني العباس وآلهم البرنامج للمؤرخين في الطعن في بني أمية؛ فسار المؤرخون على منهاجهم، وتوسعوا في تكميل خططهم، فقد صعد أبو العباس المنبر وخطب الناس فكان مما قاله: «ثم وثب بنو حرب ومروان فابتزوها وتداولها بينهم، فجاروا فيها، واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا».
وصعد داود بن علي فقام دونه فكان مما قال: «تبا تبا لبني حرب بن أمية وبني مروان، آثروا في مدتهم وعصرهم العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الأنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا الجرائم، وجاروا في سيرتهم في العباد، وسنتهم في البلاد، التي بها استلذوا تسربل الأوزار، وتجلبت الآضار، ومرحوا في أعنة المعاصي، وركضوا في ميادين الغي، جهلا باستدراج الله، وأمنا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتا وهم نائمون، وأصبحوا أحاديث، ومزقوا كل ممزق، فبعدا للقوم الظالمين».
33
هذا إجمال فصله المؤرخون، بالحق أحيانا وبالباطل أحيانا، ومن الباطل أن يغضوا عن ذكر محاسن بني أمية، ويقتصروا على مساويهم، ومن الباطل أن يختلقوا اختلاقا، وإلا أفتصدق ما قيل عن الوليد بن يزيد بن عبد الملك من أنه «أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة؟»
34
أو تصدق ما روي عنه من أنه استفتح فألا في المصحف فخرج:
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد
فألقاه ورماه بسهام وقال:
تهددني بجبار عنيد
نعم أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم بعث
فقل يا رب خرقني الوليد
ذلك قول لا يسيغه العقل من خليفة المسلمين مهما بلغ من فسقه وفجوره؛ ولذلك قال الذهبي: «لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة بل اشتهر بالخمر والتلوط».
ومن ذلك ما يروون أن هشام بن عبد الملك دعا حمادا فسأله عن بيت ومن قاله وفي أية قصيدة فأجابه، فأمر هشام جواريه أن يسقين حمادا، فما زلن يسقينه حتى ذهب عقله إلخ. ويعلق صاحب الأغاني على هذا الخبر بأن هشاما لم يكن يشرب ولا يسقي أحدا بحضرته مسكرا، وكان ينكر ذلك ويعيبه ويعاقب عليه».
35
وقال أبو عبيدة: دخل أبو عمر بن العلاء على سليمان بن علي - وهو عم السفاح - فسأله عن شيء فصدقه، فلم يعجبه ما قاله، فوجد أبو عمرو في نفسه وخرج وهو يقول:
أنفت من الذل عند الملوك
وإن أكرموني وإن قربوا
إذا ماصدقتهمو خفتهم
ويرضون مني بأن يكذبوا
36
وفي سنة إحدى عشرة [ومائتين] أمر المأمون بأن ينادى «برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير»
37
إلى كثير من مثل ذلك.
ومن ناحية أخرى تقرب المؤرخون بذكر محامد بني العباس، وإعلاء شأنهم، وعاقبوا من تعرض لذكرهم بسوء؛ من ذلك ما روي عن الهيثم بن عدي الراوية الإخباري «وكان يتعرض لمعرفة أصول الناس ونقل أخبارهم، فأورد معايبهم وأظهرها ... ونقل عنه أنه ذكر العباس بن عبد المطلب بشيء؛ فحبس لذلك عدة سنين»
38
فوضعت الأساطير حول العباس، وعبد الله بن العباس، وغيرهما من آل العباس؛ من مثل ما يروى أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس عام الرمادة لما اشتد القحط، فسقاهم الله تعالى به، وأخصبت الأرض، فقال عمر هذا والله الوسيلة إلى الله والمكان منه - ولما سقى الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون هنيئا لك ساقي الحرمين؛
39
ومن مثل أن عبد الله بن عباس لما مات والناس في جنازته جاء طائر أبيض يقال له الغرنوق فدخل في النعش فلم ير بعد.. إلخ.
40
وتصوير بعض المؤرخين له بأنه سياسي محنك قدير كان يرسم الخطط لعلي بن أبي طالب، مع أن أكبر مزية له في الواقع هي سعة علمه، إلى غير ذلك.
وقد جد علماء السوء في وضع الأحاديث لتأييد هذا النظر، وهو الحط من شأن الأمويين، وإعلاء شأن العباسيين، وملئت الكتب بها ، مثل أن رجلا قام إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال سودت وجوه المؤمنين، فقال لا تؤنبني فإن النبي
صلى الله عليه وسلم
رأى بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت:
إنا أعطيناك الكوثر
ونزلت «إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، يملكها بعدك بنو أمية يا محمد»
41 - واستغلوا قوله تعالى:
وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن
فرووا الآثار الكثيرة، عن سهل بن سعد وسعيد بن المسيب، وعن يعلى بن مرة، أن المراد بالشجرة الملعونة بنو أمية ورويت في ذلك الأحاديث الكثيرة مثل قوله
صلى الله عليه وسلم : «رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء». وعن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول لأبيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن إلخ إلخ.
42
وفي مقابل ذلك الأحاديث في التبشير ببني العباس مثل ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
للعباس: «فيكم النبوة والمملكة». وعن ثوبان قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «رأيت بني مروان يتعاورون على منبري فساءني ذلك، ورأيت بني العباس يتعاورون على منبري فسرني ذلك». وعن ابن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال للعباس: «إذا سكن بنوك السواد ولبسوا السواد، وكانت شيعتهم أهل خراسان، لم يزل الأمر فيهم حتى يدفعوه إلى عيسى بن مريم».
43
وعن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «منا القائم ومنا المنصور، ومنا السفاح، ومنا المهدي، فأما القائم فتأتيه الخلافة ولم يهرق فيها محجمة دم، وأما المنصور فلا ترد له راية، وأما السفاح فهو يسفح المال والدم، وأما المهدي فيملؤها عدلا كما ملئت ظلما».
44
وسيأتي تتمة ذلك عند الكلام في الحديث.
ووقف الشيعة موقفا مناقضا لهذا؛ فهم يكرهون الأمويين والعباسيين معا، بل ربما كانت كراهيتهم للعباسيين أشد؛ لما أصاب الأئمة العلويين والعلماء والأدباء الذين شايعوهم من الأذى على يد أبي جعفر المنصور ومن بعده، فرأى طائفة منهم أن يقفوا في التاريخ موقف المتحزب المتعصب، فهاجموا العباسيين كما هاجموا الأمويين من قبل، وأخذوا يكبرون مساويهم بل ويختلقون عليهم، كما ترى أحيانا في تاريخ اليعقوبي أولا، وابن طباطبا آخرا وغيرهما - وإلى ذلك رووا الروايات الكثيرة في فضل علي وآل علي،
45
ورفعوا من شأن الأئمة إلى ما يقرب من التقديس - وكان الأولى لهم أن يقتصروا على فضائلهم الثابتة - وأضافوا أساطير حول آيات من القرآن الكريم، كما فعلوا عند قوله تعالى:
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . فقد رووا عن ابن عباس (والرواية هنا ابن عباس لها مغزاها)، أن الحسن والحسين مرضا فعادهما جدهما محمد
صلى الله عليه وسلم
ومعه أبو بكر وعمر، وعادهما من عادهما من الصحابة، فقالوا لعلي: لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة وفضة (جارية لهما) إن برآ مما بهما أن يصوما ثلاثة أيام شكرا، فألبس الله الغلامين العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي (رضى الله عنه) إلى شمعون اليهودي الخيبري، فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير، فجاء بها، فقامت فاطمة رضي الله عنها إلى صاع فطحنته وخبزت منه خمسة أقراص على عددهم، وصلى علي مع النبي المغرب، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه، فوقف بالباب سائل فقير، السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا شيئا إلا الماء، وأصبحوا صياما، وفي الثاني وقف يتيم، ففعلوا به ما فعلوا أولا، وفي اليوم الثالث وقف أسير، ففعلوا كذلك، فلما أصبحوا بعد ثلاثة أيام أخذ علي الحسن والحسين فرآهم رسول الله يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، فقال يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني مما أرى بكم، فهبط جبريل ونزلت فيهم سورة «هل أتى»، وذكر الترمذي وابن الجوزي «أن الخبر موضوع ومفتعل وآثار الوضع ظاهرة عليها لفظا ومعنى»
46
إلى كثير من أمثال ذلك.
وهكذا ضاعت معالم الحق بين العصبية العباسية والعصبية العلوية، وصعب على المؤرخ الصادق النزيه أن يصل إلى الحقيقة. •••
والفقه تأثر أيضا بالدولة العباسية في بعض مسائله؛ لأنه مصدر التشريع، والتشريع قد يمس شئون الدولة من قرب أو بعد، قد يمسها في الصميم من أمرها، وقد يمسها في عرض من أعراضها، وكبار الفقهاء قد يقفون في هذه المسائل موقفا لا يرعون فيه إلا الحق فيكونون عرضة لغضب الخلفاء وانتقامهم؛ كالذي يحدثنا به الطبري «أن مالك بن أنس استفتى في الخروج مع محمد بن عبد الله بن الحسن، وقيل له إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: «إنما بايعتم مكرهين، وليس على كل مكره يمين»، فأسرع الناس إلى محمد ولزم مالك بيته».
47
وكان هذا سببا في اضطهاده، ورووا أنه سعي به إلى جعفر بن سليمان عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له إنه لا يرى إيمان بيعتكم هذه بشيء، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمرا عظيما».
48
وقال ابن الجوزي في حوادث سنة 147ه: «وفيها ضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان». فهذه مسالة في الصميم من أمر الدولة، وهي صحة البيعة للعباسيين إذا كان المبايع مكرها - ومثلها ما روي عن أبي حنيفة ومحمد بن إسحق صاحب المغازي، ذلك أن محمد بن إسحق كان يكره أبا حنيفة ويحسده، فوشى به إلى أبي جعفر المنصور، وقال إنه يخالف جدك ابن العباس استثناء المنفصل [لأن أبا حنيفة كان يقول: إذا صدر القول باتا في المجلس فلا يلحقه الاستثناء إذا حصل بعد، وكان ابن عباس يقول إنه يلحقه بعد سنة] فغضب أبو جعفر وقال لأبي حنيفة: أتخالفه؟ فقال لكلام ابن عباس تأويل صحيح، وقد قال
صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين واستثنى فلا حنث عليه، والاستثناء لا يكون إلا موصولا؛ وهؤلاء لا يرون خلافتك ويقولون إنهم بايعوك كرها وتقية؛ فلهم الاستثناء متى شاءوا، ويخرجون به من بيعتك. فغضب المنصور على ابن إسحق.
49
فنرى من هذه القصة - إن صحت - أن من الخلفاء العباسيين من كان يعز عليهم أن يروا فقيها يؤديه اجتهاده إلى مخالفة ابن عباس في آرائه - ولكن لا نستطيع أن نقول إن الفقهاء جميعهم كانوا بمكان من التمسك بالحق يتحملون في سبيله أشد أنواع الأذى - وقد تعرض للخليفة نفسه مسائل شخصية يحتاج فيها إلى مخرج فقهي، ويصور بعض المؤرخين أبا يوسف صورة الذي يحتال الحيل الشرعية ليجد الرشيد فتوى توافق هواه.
50
ولكنا سنبحث ذلك عند الكلام في التشريع - كما تعرض للدولة مآزق يحتاج فيها إلى رأي يسكن الراي العام ويلطف من حدته، كالذي روى الماوردي في الأحكام السلطانية «أنه رفع إلى أبي يوسف القاضي مسلم قتل كافرا فحكم عليه بالقود، فأتاه رجل برقعة فألقاها إليه، فإذا فيها مكتوب:
يا قاتل المسلم بالكافر
جرت وما العادل كالجائر
يا من ببغداد وأطرافها
من علماء الناس أو شاعر
استرجعوا وابكوا على دينكم
واصطبروا فالأجر للصابر
جار على الدين أبو يوسف
بقتله المؤمن بالكافر
فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر، وأقرأه الرقعة، فقال له الرشيد : تدارك هذا الأمر بحيلة
لئلا تكون فتنة؛ فخرج أبو يوسف وطلب أصحاب الدم ببينة على صحة الذمة وثبوتها، فلم يأتوا بها؛ فأسقط القود».
51
وربما كان ذلك وأمثاله سببا في التوسع في الحيل الشرعية، ووضع الكتب فيها وخاصة في مذهب الحنفية، فهم أول من أفردها بالتأليف - فيما أعلم - وسيأتي بحث هذا فيما بعد. •••
وفي النحو واللغة تدخل العباسيون أيضا، فقد كان النزاع فيهما شديدا بين البصريين والكوفيين، فأخذ العباسيون جانب الكوفيين ينصرونهم على البصريين. جاء في كتاب النوادر: «انتقل العلم إلى بغداد قريبا، وغلب أهل الكوفة على بغداد، وخدموا الملوك فقربوهم، فأرغب الناس في الروايات الشاذة ، وتفاخروا بالنوادر»،
52
وإنما قال الروايات الشاذة لأن هذا كان أغلب على الكوفيين. جاء في المزهر: «والشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب على من لم يقله»
53
ومن أجل هذا نرى الكوفيين أقرب إلى قصور الخلفاء من البصريين، فالمفضل الضبي معلم المهدي كوفي، والكسائي معلم الأمين كوفي، والسبب في هذا قرب الكوفة من بغداد وبعد البصرة - من جهة، وميل الكوفيين في الجملة سياسيا إلى دولة بني العباس، وانصراف البصريين عنها من جهة أخرى - ولعل هذا هو السبب في تعصب العباسيين وشيعتهم للكسائي الكوفي على سيبويه البصرى في المناظرة التي جرت بينهما في المسألة المشهورة: «كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو إياها»؛ فقد كان الكسائي يجيز فإذا هو هي وإذا هو إياها، وسيبويه لا يجيز إلا فإذا هو هي، وكانت المناظرة في مجلس يحيى بن خالد البرمكي، وعنده ولداه جعفر والفضل، وكان المتناظران زعيمي بلديهما الكوفة والبصرة، وقد حكم للكسائي على سيبويه فكان حكما للكوفة على البصرة، وكان إذلالا للبصريين؛ ولذلك لم يستطع سيبويه أن يعود إلى البصرة بعد الحكم، وإصبع السياسة في المسألة لقد لعبت دورها فيما أظن. •••
والأدب اتجه أكثر إلى مشايعة رغبات القصر، يذم الشعراء من ذمهم الخلفاء، ويمدحون من رضوا عنه، فإذا خرج محمد بن عبد الله على المنصور، قال ابن هرمة:
غلبت على الخلافة من تمنى
ومناه المضل بها الضلول
فأهلك نفسه سفها وجبنا
ولم يقسم له منها فتيل
دعوا إبليس إذ كذبوا وجاروا
فلم يصرخهم المغوي الخذول
وما الناس احتبوك بها ولكن
حباك بذلك الملك الجليل
تراث محمد لكم وكنتم
أصول الحق إذ نفي الأصول
وإذا رضى المعتصم عن الأفشين، فقصائد أبي تمام تترى في مدحه، وإذا غضب عليه وصلبه، فقصائد أبي تمام أيضا تقال في ذمه وكفره؛ ويرضى الرشيد عن البرامكة فهم معدن الفضل، ويقتلهم فهم أهل الزندقة والشرك، وهكذا وقف الأدب أو أكثره يخدم الشهوات والأغراض، وقديما هجا الفرزدق الحجاج بعد أن مدحه فقيل له: كيف تهجوه وقد مدحته؟ فقال: «نكون مع الواحد منهم ما كان الله معه، فإذا تخلى عنه انقلبنا عليه»، ولو قال: «نكون معه ما كانت الدنيا معه» لكان أصدق. •••
هذا قليل من كثير في هذا الباب، ومن الطبيعي أن هذه الأمور وأمثالها تجري في الخفاء، ولا يعلم الناس من أمرها إلا فلتات قليلة، وألاعيب السياسة دائما تجري من وراء ستر كثيفة، ولا يعلم الأكثرون إلا المظاهر، وهي قليلة الدلالة على البواطن.
على أن من الحق أن نقرر أن هناك من العلماء من كان لا يشايع إلا الحق، كما كان من العلماء من يشايع السياسة، شأن الناس في كل عصر، ولعل خير ما يمثلهما معا ما حدث في أمر يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب فقد خرج على الرشيد بالديلم، واشتدت شوكته وقوي أمره، ونزع إليه الناس من الأمصار والكور، ثم دعاه الرشيد إلى الصلح فأجاب، وكتب الرشيد أمانا ليحيى وأشهد عليه الفقهاء والقضاة وجلة بني هاشم ومشايخهم، وجاء يحيى إلى بغداد فأكرمه الرشيد أولا ثم تدخل بينهما رجال السوء، فأراد الرشيد أن ينقض الأمان، فدعا بيحيى ودعا ببعض الفقهاء «منهم أبو البختري القاضي، ومنهم محمد ابن الحسن صاحب أبي حنيفة، وأحضر الأمان الذي كان أعطاه يحيى، فقال لمحمد ابن الحسن ما تقول في هذا الأمان أصحيح هو؟ قال هو صحيح، فحاجه في ذلك الرشيد، فقال له محمد بن الحسن ما تصنع بالأمان؟ لو كان محاربا ثم ولي كان آمنا، فاحتملها الرشيد على محمد بن الحسن، ثم سأل أبا البختري أن ينظر في الأمان، فقال أبو البختري هذا منتقض من وجه كذا وكذا، فقال الرشيد أنت قاضي القضاة، وأنت أعلم بذلك، فمزق الأمان وتفل فيه أبو البختري».
54
ونرى من المؤرخين من تحروا الصدق جهد طاقتهم، ودونوه كما اعتقدوا، ونقدوا فيه بعض أعمال العباسيين على الرغم من أنه ألف تحت سلطانهم.
كما أن من الحق أن نذكر أن العباسيين، وإن تدخلوا في تلوين بعض العلوم ببعض الألوان وكان هذا سيئة من سيئاتهم فلهم محمدة أخرى في تشجيع العلم وتدوينه والمكافأة عليه واستحثاث الهمم لخدمته. •••
ولنبحث بعد مسالة لها صلة وثيقة بهذا الموضوع وهي «حرية الرأي» في هذا العصر، وإلى أي حد كانت.
وإن الباحث في هذا الأمر يرى مظاهر تبدو متناقضة؛ فيرى مظاهر كثيرة تدل على تمتع الناس بقدر من حرية الرأي كبير، ومظاهر أخرى تدل على عكس ذلك. فمثلا نرى من ناحية أن بعض الشعراء استطاع أن يجهر في صراحة بذم الخلفاء، ولا يكتفي بالتلميح؛ فقد روي أن سليم بن يزيد العدوي، وهو من أصحاب واصل بن عطاء قال في زمن أبي جعفر المنصور:
حتى متى لا نرى عدلا نسر به
ولا نرى لولاة الحق أعوانا
مستمسكين بحق قائمين به
إذا تلون أهل الجور ألوانا
يا للرجال لداء لا دواء له
وقائد ذي عمى يقتاد عميانا
ودعبل الخزاعي قد أكثر من القول في هذا الباب؛ فيقول فيه صاحب الأغاني: «إنه هجاء خبيث اللسان لم يسلم منه أحد من الخلفاء، ولا من وزرائهم، ولا أولادهم، ولا ذو نباهة أحسن إليه أو لم يحسن، ولا أفلت منه كبير أحد».
55
وكان شيعيا مشهورا بالميل لعلي بن أبي طالب وذريته، وقد قال فيهم قصيدته المشهورة «مدارس آيات خلت من تلاوة»؛ وقد هجا المعتصم، فكان مما قال فيه:
بكى لشتات الدين مكتئب صب
وفاض بفرط الدمع من عينه غرب
وقام إمام لم يكن ذا هدية
فليس له دين وليس له لب
وما كانت الأنباء تأتي بمثله
يملك يوما أو تدين له العرب
لقد ضاع ملك الناس إذ ساس ملكهم
وصيف وأشناس وقد عظم الكرب
وهجا قبله المأمون، فقيل له إن دعبلا قد هجاك، فقال: «وأي عجب في ذلك، هو يهجو أبا عباد ولا يهجوني أنا؟ ومن أقدم على جنون أبي عباد أقدم على حلمي». وترجمته مملوءة بالهجاء للخلفاء والوزراء والأمراء وغيرهم، ثم هو يقول: «أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لست أجد أحدا يصلبني عليها».
56
ونرى رجلا أعمى من أهل بغداد اسمه علي بن أبي طالب يقول لما أراد الأمين أن يأخذ البيعة لابنه وهو طفل:
أضاع الخلافة غش الوزير
وفعل الإمام ورأي المشير
وما ذاك إلا طريق غرور
وشر المسالك طرق الغرور
فعال الخليفة أعجوبة
وأعجب منه فعال الوزير
وأعجب من ذا وذا أننا
نبايع للطفل فينا الصغير
57
ويقول أحمد بن أبي نعيم في أبيات فاحشة:
لا أحسب الجور ينقضي وعلى الأم
ة وال من آل عباس
58
إلى كثير من أمثال هذا الشعر، ولو كان الخلفاء يعاقبون أشد العقوبة ولو بالظنة على مثل هذا لما كثر هذه الكثرة.
ويحدثنا «طيفور» في كتابه «تاريخ بغداد» أن بشر بن الوليد قال للمأمون: إن بشرا المريسي يعرض بك ويزري عليك، قال فما أصنع به؟ ثم دس إليه رجلا فحضر مجلسه وتسمع ما يقول، فأتاه الرجل، فقال: سمعته يقول حين أراد القيام، وفرغ من الكلام بعد حمد الله والثناء عليه: اللهم العن الظلمة وأبناء الظلمة من آل مروان، ومن سخطت عليه ممن آثر هواه على كتابك وسنة نبيك
صلى الله عليه وسلم
اللهم وصاحب البرذون، الأشهب فالعنه، فقال المأمون أنا صاحب البرذون الأشهب وسكت عليها؛ فلما دخل عليه بشر قال له بعد أن سأله: يا أبا عبد الرحمن، متى عهدك بلعن صاحب الأشهب، فطأطأ بشر رأسه ثم لم يعد بعد ذلك لذكره والتعرض له.
59
وقال عبد الرحمن بن زياد: كنت أطلب العلم مع أبي جعفر المنصور قبل الخلافة، فلما ولي الخلافة وفدت إليه، فقال: كيف سلطاني من سلطان بني أمية؟ قلت: ما رأيت في سلطانهم من الجور شيئا إلا رأيته في سلطانك، فقال (المنصور): إنا لا نجد الأعوان، قلت: قال عمر بن عبد العزيز: إن السلطان بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها، فإن كان برا أتوه ببرهم، وإن كان فاجرا أتوه بفجورهم. فأطرق.
60
وكذلك قال له عمرو بن عبيد، فقد قال المنصور: «إنه ما عمل وراء بابك بشيء من كتاب الله، ولا سنة نبيه، قال أبو جعفر: فما أصنع؟ قد قلت تلك خاتمي في يدك فتعال وأصحابك فاكفني، قال عمرو ادعني بعدلك، تسخ أنفسنا بعونك، ببابك ألف مظلمة، اردد منها شيئا نعلم أنك صادق».
61
وقال رجل للمنصور: «إن الله استرعاك المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الحصى والآجر وأبوابا من الحديد، وحجبة معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها عنهم، وبعثت عمالك في جباية الأموال وجمعها، وقويتهم بالرجال والسلاح والكراع، وأمرت بألا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان، نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم، ولا الملهوف، ولا الجائع العاري، ولا الضعيف الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق؟ فلما رآك هؤلاء النفر - الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، وأمرتهم ألا يحجبوا عنك - تجبي الأموال وتجمعها ولا تقسمها، قالوا هذا قد خان الله فما بالنا لا نخونه، وقد سجن لنا نفسه، فأتمروا ألا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا قصبوه
62
عندك ونفوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره - فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، وأعظمهم الناس وهابوهم، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم؛ فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء متظلم حيل بينه وبين دخول مدينتك، فإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك خبره سألوا صاحب المظالم ألا يرفع مظلمته إليك، فإن المتظلم منه له بهم حرمة، فأجابهم خوفا منهم - فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ويعتل عليه؛ فإذا أجهد وأخرج وظهرت صرخ بين يديك، فضرب ضربا مبرحا، ليكون نكالا لغيره، وأنت تنظر فلا تنكر؛ فما بقاء الإسلام على هذا!».
63
فهذه الأخبار وأمثالها تدل على قدر كبير من حرية الرأي، وخاصة إذا لاحظنا أن أكثر هؤلاء الذين جهروا بهذه الآراء لم يمسهم سوء، أو مسهم طائف من سوء.
هذا من الناحية السياسة، وكذلك نرى هذا المظهر في الناحية العلمية؛ فالدولة العباسية مع تأثيرها بعض الأثر في التاريخ وغيره - كما أشرنا - لم ترغم المؤرخين على أن يقولوا - دائما - ما تحب، بل استطاع كثير منهم أن يتحرروا من تأثيرها، وأن يبدوا آراءهم في صراحة. فهذا «ابن جرير الطبري» يروي كتابه عن مؤرخين عاشوا في هذا العصر، ويروي آراء وأخبارا لا ترضي الخلفاء العباسيين، ولا ذريتهم الذين كانوا في الحكم وقت أن دونت هذه الحوادث؛ فقد ذكروا السفاح وسفكه للدماء، وعابوا على المنصور شحه وقتله كثيرا من الناس ظلما، وذكروا الأبيات المقذعة التي قيل إن بشارا هجا بها المهدي، ووصفوا مجالس لهوهم، ومن كان منهم يشرب الخمر ومن لا يشرب، ومن كان يفرط في سماع الغناء ومن لا يفرط، وتركوا لنا صورة لكل خليفة، إن لم تكن صحيحة الصحة كلها، فهي قريبة من الصحة، فلم يقلبوا الحقائق وإن لطفوها أحيانا، وهذا - بلا شك - ما كان يكون لولا تمتع بقدر كبير من حرية الرأي.
ثم نستعرض كتابا، كمقالات الإسلاميين لأبي حسن الأشعري، أو الملل والنحل للشهرستاني، أو الفرق بين الفرق للبغدادي؛ فنرى مذاهب وأقوالا في الإلهيات ونحوها يستغرب القارئ من عرضها، ويعجب كيف كان قائلوها يجرءون على قولها ثم لا يتعرض لهم أحد، وكيف كانوا في منتهى الحرية في أخذ الأقوال عن فلاسفة اليونان ومزجها بالإسلام، وكيف كانوا - وخاصة المعتزلة - يعرضون لأحداث التاريخ في صدر الإسلام، ويحللون أفعال الصحابة، وينقدونهم نقدا صريحا، ويبينون خطأهم من صوابهم، ويعارضون المعارضون بمثل قولهم، إلى غير ذلك مما سنبينه في الكلام على الفرق الدينية. ثم كان الفقهاء ينقد بعضهم بعضا في حرية تامة، فابن أبي ليلى ينقد أبا حنيفة بكل ما يستطيع من قوة، وتلاميذ أبي حنيفة يردون عليه كذلك، والنزاع بين تلاميذ أبي حنيفة والشافعي ومالك وغيرهم على أشده، هو في حدود العقل أحيانا، وخارج حدوده أحيانا، ثم لا يتعرض لهم أحد بسوء، وإنما يدفعون الحجة بالحجة والتهويش بالتهويش - أليس هذا منظرا بديعيا من مناظر حرية الرأي قد نستطيع أن نقول فيه إننا الآن لا نستطيع أن نجرؤ على ما كانوا يجرءون عليه، ولا نتمتع بمثل ما تمتعوا به.
ولكن الحق أن القائل إذا اقتصر على هذا الجانب من التاريخ في هذا العصر لم يكن مصيبا، وكان قد نظر إلى المسالة من جانب واحد، فهناك جانب آخر لو قصر الناظر نظره عليه لصرح بأن حرية الرأي في ذلك العصر لم يكن لها وجود. فمن الناحية السياسية نطالع تاريخ الوزراء فقل أن نرى وزيرا في العصر العباسي مات حتف أنفه، فأول وزير لأول خليفة عباسي أبو سلمة الخلال، وقد أوعز السفاح إلى أبي مسلم الخراساني بقتله ففعل، واستوزر أبو جعفر المنصور أبا أيوب سليمان المورياني ثم قتله، وقتل أقاربه واستصفى أموالهم، وفي ذلك يقول ابن حبيبات الشاعر الكوفي:
قد وجدناك تحسد من أعطته
طوعا أزمة التدبير
فإذا ما رأوا له النهي والأم
ر أتوه من بأسهم بنكير
شرب الكأس بعد حفص سليما
ن ودارت عليه كف المدير
ونجا خالد بن برمك منها
إذ دعوه من بعدها بالأمير
أسوأ العالمين حالا لديهم
من تسمى بكاتب أو وزير
64
والمهدي استوزر يعقوب بن داود ثم ما زال السعاة يسعون به حتى نكبه المهدي وجعله في المطبق، ونكبة الرشيد للبرامكة معروفة مشهورة، واستوزر المأمون الفضل بن سهل ثم أوعز بقتله وهكذا.
وبلغ الحال من تعرض الوزراء في ذلك العصر وبعده للقتل ما ذكره التنوخي المتوفى في سنة 374 في كتابه «نشوار المحاضرة» عن ابن عياش أنه «رأى في شارع الخلد قردا معلما يجتمع الناس عليه فيقول له القراد: تشتهي أن تكون بزازا؟ فيقول نعم ويومئ برأسه، فيقول تشتهي أن تكون عطارا؟ فيقول نعم برأسه، فيعدد الصنائع عليه فيومئ برأسه - فيقول له في آخرها تشتهي تكون وزيرا؟ فيومئ برأسه - لا - ويصيح ويعدو من بين يدي القراد فيضحك الناس».
65
ولقد عين المنصور لابنه جعفر كاتبا يسمى الفضيل بن عمران، وكان رجلا عفيفا دينا فدس له عند المنصور لأسباب سياسية بأنه يعبث بجعفر، فأمر المنصور بقتله من غير سؤال، ثم تبين للمنصور كذب المبلغ، فبعث رسولا يقف القتل، فقدم الرسول وقد قتل فقال جعفر بن المنصور لسويد: ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل عفيف دين مسلم بلا جرم ولا جناية؟ فقال سويد: هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء وهو أعلم بما يصنع، فنهره جعفر وقال: أكلمك بكلام الخاصة وتكلمني بكلام العامة، خذوا برجله بألقوه في دجلة، فقال سويد أكلمك، فقال دعوه، فقال سويد: هل يسأل أبوك عن فضيل؟ لقد قتل المنصور عمه عبد الله، وقتل عبد الله ابن الحسين وغيره من أولاد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ظلما، وقتل أهل الدنيا ممن لا يحصى ولا يعد، إنه قبل أن تسأل عن فضيل يكون جرذانة إلخ».
66
ومن الناحية العلمية والدينية نرى خلفاء بني العباس قد أهانوا كثيرا من العلماء وعذبوهم؛ فأبو حنيفة ومالك يضربان ويحبسان؛ لأنهما لا يريدان أن يتوليا القضاء، أو لرأيهما في البيعة؛ وسفيان الثوري يتنقل في البلاد مختفيا، لأنهم أرادوه على قضاء الكوفة فأبى؛ ثم هذه الإدارة التي تنشأ للبحث عن الزنادقة وعقوبتهم، والإفراط في قتل المتهمين، ومنهم - بلا شك - من قتل ظلما وعدوانا، وكان الداعي إلى قتله أسبابا سياسية، فنفذوا أغراضهم تحت ستار الزندقة استمالة للجمهور، كما فعلوا في ابن المقفع - وقد تقدم ذكره - وكما فعلوا في صالح بن عبد القدوس، فقد كان مولى من موالي الأزد، وكان واعظا في البصرة ثم في دمشق - وكان يقول الشعر لا في مدح خليفة أو أمير، وإنما يقوله في الحكمة والموعظة، مثل قوله:
ما بين ما تحمد فيه وما
يدعو إليك الذم إلا القليل
وقوله:
كل آت لا شك آت، وذو الجه
ل معنى. والهم والحزن فضل
ومن شعره وكأنه طبق عليه:
أيها اللائمي على نكد الده
ر لكل من البلاء نصيب
قد يلام البريء من غير ذنب
وتغطى من المسيء الذنوب
وتحول الأحوال بالمرء والده
ر له في صروفه تقليب
67
وقد روى الخطيب البغدادي أن المهدي اتهمه بالزندقة فأمر بحمله إليه فأحضر بين يديه ، فلما خاطبه أعجب بغزارة علمه وأدبه وبراعته وحسن نباهته وكثرة حكمته، فأمر بتخلية سبيله؛ فلما ولى رده وقال ألست القائل:
ما يبلغ الأعداء من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه
والشيخ لا يترك أخلاقه
حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوي عاد إلى جهله
كذي الضنى عاد إلى نكسه
فإن من أدبته في الصبا
كالعود يسقى الماء في غرسه
حتى تراه مورقا ناضرا
بعد الذي أبصرت من يبسه
قال بلى يا أمير المؤمنين، قال فأنت لا تترك أخلاقك، ونحن نحكم فيك بحكمك في نفسك؛ ثم أمر به فقتل وصلب على الجسر - وهذا الخبر إن صح لم يدل على شيء يصح أن يؤاخذ عليه، فضلا عن أن يقتل به، ويعجبني ما قال أحدهم أنه رآه في المنام، فوجده ضاحكا مستبشرا. فسأله كيف نجوت؟ قال وردت على رب لا تخفى عليه خافية، فاستقبلني برحمته وقال قد علمت براءتك مما كنت ترمى به - فإن هذه الرؤيا انعكاس لعقيدة الحالم في صحوه، وأخشى أن يكون جرى على لسانه في وعظه قول به مساس للنظام في وقته، أو نقد لتصرف من تصرفات الخلفاء، فرموه بالزندقة - وإن فشو الاتهام بالزندقة في ذلك العصر دليل على عبودية الرأي لا على حريته - ثم هذا المأمون على أنه أكثر الخلفاء العباسيين تسامحا، وأوسعهم صدرا، وقف موقفا غريبا، إذ حمل الناس حملا على القول بخلق القرآن، وعذب بعضا وقتل بعضا، واشتد في ذلك شدة تستخرج العجب، وبخاصة صدورها من مثله وهو الفيلسوف الواسع الفكر البعيد النظر - وعلى العموم كان المعتزلة يضطهدون يوم كانت السلطة في يد أعدائهم، وكانوا يضطهدون يوم كانت السلطة لهم، وكلا الحالين يخجل من يقول بحرية الرأي في ذلك العصر.
وبعد، فهل يمكن التوفيق بين هذين العرضين؟ وهل يمكن استخلاص قواعد ثابتة يؤرخ بها الرأي في العصر العباسي، وتعين على وضع حدود فاصلة بين الحرية والعبودية؟
أظن أنه يمكننا من هذه الظواهر المتناقضة أن نستنتج المبادئ الآتية: (الأول):
أن الخلفاء العباسيين الأولين وبخاصة المنصور، وضعوا أسسا للدولة أهمها (1)
تعظيم الخلافة في نفوس الناس، فأبو جعفر المنصور رأى كثرة الخارجين على الدولة فلم يسمح أن تحدث أحدا نفسه بالخروج عليها، وقتل في هذا الأمر بالظنة، وخير ما يمثل هذا الجانب ما روي أن عبد الصمد بن علي قال للمنصور: «لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو، قال المنصور: لأن بني مروان لم تبل رممهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن بين قوم قد رأونا أمس سوقة واليوم خلفاء فليست تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة».
68 (2)
مما يتصل بهذا أنه صبغ الخلافة صبغة دينية، وأقام الخليفة مقام الحامي للدين، الذائد عن حياضه؛ فالسلطان ظل الله في أرضه، ومنه تتلقى كل سلطة ونرى هذا واضحا في الدولة العباسية أكثر منه في الدولة الأموية؛ فلا نرى مثلا في الدولة الأموية قاضيا اتصل دينيا وسياسيا بالخليفة كما اتصل أبو يوسف بالرشيد فاصطبغ الخليفة العباسي صبغة روحية، وكان من مظاهر ذلك ما أحاطوه بالبيعة من مظاهر قدسية؛ ومن ثم لما ضعفت سلطتهم وغلبهم الأمراء والولاة على أمرهم ظل في نفوس الناس لهم الحرمة الدينية.
من أجل هذا المبدأ، نرى أن الخلفاء لم يكونوا يسمحون بسبب من الأسباب ضعف شأن الملك أو يؤدي إلى ذلك، ومن كلام المنصور: «الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاث خلال: إفشاء السر، والتعرض للحرم، والقدح في الملك». فهم إن سمحوا بحرية الرأي في كل شيء فليسوا يسمحون بها في هذا الباب، وإذا مس العلم هذه الناحية فالعقوبة شديدة؛ ومن رأيي أن أبا حنيفة ومالكا والثوري لم يعاقبوا للسبب الذي يذكر عادة، وهو عدم رغبتهم في تولي القضاء، ولكن لأن امتناعهم مظهر من مظاهر عدم تعاونهم مع الدولة القائمة، والجمهور يرى أن هؤلاء إذا امتنعوا فلأن الدولة ظالمة لا تحكم بالعدل، ولأن امتناعهم قد يدل على رغبتهم الخفية في نصرة أعداء العباسيين كالعلويين - ومن هذا الباب توسيع أمر الزندقة وإنشاء الإدارة الخاصة بها، فهم - وقد أخذوا على عاتقهم حماية الدين وصبغوا الخلافة صبغة دينية، وربطوا الأمرين بعضهما ببعض - قد رأوا التشدد في هذا الأمر كالتشدد في سابقه، وكان أكبر ما يضطهدون قوما من أتباع ماني، يعتنقون الإسلام ظاهرا، ويعملون على هدمه باطنا - وطبيعي أن هذا الباب إذا فتح لا يقف عند حد، ويؤخذ فيه البريء بذنب المجرم - فإذا لم يتصل العلم بشيء من هذين فالعلماء أحرار فيما يقولون. (الثاني):
أن حرية الرأي وقدرها كانت متصلة اتصالا كبيرا بمزاج الخليفة؛ فمثلا - كان المنصور ضيق الصدر سياسيا واسع الصدر علميا، يأخذ بالظنة في كل ما يتعلق بالملك، ويحاسب أشد المحاسبة حتى ما توهمه في النية والضمير، ويجزي على ذلك بالقتل السريع، لا يرحم خارجا عليه، بل ولا من توسم فيه خروجا، ولا من حاول أن ينتزع منه سلطة، ولو كان هو مانحها - أما في العلوم فرحب الصدر، يتسع صدره للمعتزلة وتعاليمهم، فيقرب إليه أحد زعمائهم عمرو بن عبيد، وعمرو هو الذي يفر منه، ويشجع المنجمين والأطباء، وكل ما أتوا به من ضروب الفلسفة، والمهدي كان شديد الحس فيما يتعلق بالزندقة، مغرما بالعقوبة عليها، والبحث عنها حتى في أعماق الصدور؛ كان يشعر أن فيها خطرا على الدولة من حيث تعاليمها، فاشتراكية «مزدك» وفلسفة «ماني» تجمعت في زنادقة عصره، وأحس أنها تحل قوى الشعب إذا انتشرت، ونظر إليهم بنظره إلى من يحل الأخلاق ويفسد المجتمع، ويهدم السلطة، فعاقب وأسرف في العقوبة، واتهم وبالغ في الاتهام، أما فيما عدا ذلك من ضروب الآراء، ومختلف العلوم فكان سمحا سهلا، والرشيد في تشجيعه للحركات الأدبية والعلمية لا يبارى، وإن أخذ عليه أنه كان يكره الاعتزال وقد يعاقب عليه - وليس يساويه في ذلك إلا المأمون بل قد يفوقه، فقد كان له من الذوق العلمي والأدبي والعقل الفلسفي، ورحابة الصدر في الجدل والمناظرة والإصغاء إلى مختلف الآراء ما شجع الحركات العلمية والأدبية والفنية أكبر تشجيع، ولا يؤخذ عليه في ذلك إلا موقف الغريب - الذي يتنافى وما عرف عنه من حرية الرأي - في محنة خلق القرآن، وسنعرض لها بعد.
على كل حال من الحق أن نقول إن عصرنا الذي نؤرخه - على الرغم من كل مظاهر الاستبداد التي ألممنا بها - كان عصرا مجيدا في تاريخ الإسلام من حيث حرية الرأي العلمية إلى حد كبير؛ فلما تولى المتوكل اضطهد المعتزلة وشردهم كل مشرد، وأزال سلطانهم، وانتقم منهم بأكثر مما فعلوا أيام المأمون، وعزلهم من الوظائف الحكومية، وقبض على القاضي أحمد بن أبي دواد وكان نصير المعتزلة، وسجنه؛ وانتصر للسنية في قوة وعنف، وكما اضطهد المعتزلة - وهم قادة حرية الرأي - اضطهد غير المسلمين من نصارى ويهود، وعزلهم كذلك من الوظائف، ووضع لهم تعاليم في منتهى الشدة يجب أن يتبعوها - وبذلك قبع المتكلمون الذين كان على رأسهم المعتزلة، وقبع الفلاسفة وكان على رأسهم النساطرة وأمثالهم، وانتصر رجال الحديث، وغلب المنهج الذي يمثله المحدثون، وهو المنهج النقلي الذي سبقت الإشارة إليه - وعلى الجملة فقد كانت خلافة المتوكل خاتمة لعصر حافل بالآراء والمبادئ، وفاتحة لعصر آخر قيدت فيه الآراء والأفكار إلى حد بعيد، ومنحت فيه السلطة للمحافظين من الفقهاء والمحدثين، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
الفصل الثاني
معاهد العلم في العصر العباسي
إلى آخر عصرنا هذات أعني إلى عهد المتوكل - لم تكن أنشئت المدارس المخصصة لدراسة العلم، فإنها لم تنشأ إلا بعد ذلك؛ وقد ذهب الذهبي إلى أن «نظام الملك» الذي استوزر للسلاجقة من سنة 456 إلى سنة 485ه هو أول من أنشأ المدارس، فبنى مدرسة ببغداد، ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراة، ومدرسة بأصبهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان، ومدرسة بالموصل؛ ويقال إن له في كل مدينة بالعراق وخراسان مدرسة. وقد رد عليه بعض المؤرخين هذا القول كالسبكي والسيوطي وغيرهما، وقالوا كانت المدرسة البيهقية بنيسابور قبل أن يولد نظام الملك، والمدرسة السعدية بنيسابور بناها الأمير نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود
1
إلخ.
وذكر المقريزي: «أن الخليفة المعتضد بالله (279-289ه) لما أراد بناء قصره في الشماسية ببغداد استزاد في الذرع، بعد أن فرغ من تقدير ما أراد، فسئل عن ذلك، فذكر أنه يريده ليبني فيه دورا ومساكن ومقاصير، يرتب في كل موضع رؤساء كل صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية، ويجري عليهم الأرزاق السنية، ليقصد كل من اختار علما أو صناعة رئيس ما يختاره فيأخذ عنه».
2
ثم قال: «إن المدارس مما حدث في الإسلام، ولم تكن تعرف في زمن الصحابة ولا التابعين، وإنما حدث عملها بعد الأربعمائة من سني الهجرة، وأول من حفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور، فبنيت بها المدرسة البيهقية» إلخ.
على كل حال لم تكن في العصر العباسي الأول مدارس، وإنما كانت هناك معاهد أخرى.
أولها: الكتاب، والجمع الكتاتيب - وقد اختلف اللغويون في وضعها الأصلي، ففي اللسان: «الكتاب موضع تعليم الكتاب، والجمع الكتاتيب والمكاتب». وقال المبرد: «المكتب موضع التعليم، والمكتب المعلم، والكتاب الصبيان؛ ومن جعل الكتاب فقد أخطأ». ولكن يظهر أن كلا من الكتاب والمكتب أستعمل في هذا العصر لمكان تعليم الصبيان، فقد روى الأغاني عن إسحق الموصلي أن أباه «إبراهيم الموصلي» أسلم إلى الكتاب فكان لا يتعلم شيئا، ولا يزال يضرب ويحبس ولا ينجح ذلك فيه، فهرب إلى الموصل وهناك تعلم الغناء»
3
وجاء في موضع آخر: «أن علي بن جبلة لما نشأ أسلم في الكتاب».
4
وروى الجاحظ في كتاب البيان والتبيين أن من أمثال العامة «أحمق من معلم كتاب».
5
وقال ابن خلكان في ترجمة أبي مسلم الخراساني: «أنه نشأ عند عيسى بن معقل، فلما ترعرع اختلف هو ووالده إلى المكتب»
6
وكان ذلك في العصر الأموي بالضرورة. وبعض المكاتب كان لتعليم مبادئ القراءة والكتابة والقرآن، وبعضها كان يعلم فيه أيضا اللغة وما إليها. قال ابن قتيبة: «ومن المعلمين علقمة بن أبي علقمة مولى عائشة، كان يروي عنه مالك بن أنس، وكان له مكتب يعلم فيه العربية والنحو والعروض، ومات في خلافة أبي جعفر المنصور»
7
وبعض المعلمين كانوا يعلمون حسبة، لا يأخذون على تعليمهم أجرا. وروى ابن قتيبة: أن الضحاك بن مزاحم وعبد الله بن الحارث كانا يعلمان ولا يأخذان أجرا»
8
وبعضهم كان يأخذ أجرا، ومن هؤلاء من كان يأخذ خبزا من الصبيان ؛ وقد هجا بعضهم الحجاج (وكان هو وأبوه يوسف معلمين بالطائف):
أينسى كليب زمان الهزال
وتعليمه سورة الكوثر؟
رغيف له فلكة ما ترى
وآخر كالقمر الأزهر
9
ورووا عن الشافعي أنه قال: «كنت يتيما في حجر أمي فدفعتني في الكتاب ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، فكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع الحديث أوالمسألة فأحفظها، ولم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به قراطيس، فكنت إذا رأيت عظما يلوح آخذه فأكتب فيه إلخ».
10
وكان في الكتاب ضرب وحبس كما رأيت فيما روى الأغاني عن إبراهيم الموصلي، وقد صور أبو نواس الضرب فيه تصويرا لطيفا كعادته، فقال:
إنني أبصرت شخصا
قد بدا منه صدود
جالسا فوق مصلى
وحواليه عبيد
فرمى بالطرف نحوي
وهو بالطرف يصيد
ذاك في مكتب حفص
إن حفصا لسعيد
قال حفص اجلدوه
إنه عندي بليد
لم يزل مذ كان في الدر
س عن الدرس يحيد
كشفت عنه خزور
وعن الخز برود
ثم هالوه بسير
لين ما فيه عود
عندها صاح حبيبي
يا معلم لا أعود
قلت يا حفص اعف عنه
إنه سوف يجيد
ثانيها: المسجد - وقد كان أكبر معهد للدراسة، فلم تكن المساجد للعبادة وحدها، ولكن كانت تؤدى فيها أعمال مختلفة؛ فهي مكان للعبادة تقام فيه الصلاة وتخطب الخطب وكان محكمة التقاضي، والذي يهمنا الآن أنه كان معهدا للدراسة، بل أكبر معهد؛ فكان مسجد عمرو في مصر، ومسجد البصرة، ومسجد الكوفة، والحرم المكي والمدني، وغيرها من المساجد تقوم مقام المدارس والجامعات في هذا العصر.
فمن مبدأ الإسلام اتخذ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
المسجد للدراسة، ففي البخاري عن أبي واقد الليثي قال: «بينما رسول الله
صلى الله عليه وسلم
جالس في المسجد إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فوقفا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فرأى أحدهما فرجة في الحلقة فجلس، وجلس الآخر خلفهم»
11
إلخ.
واستمر المسجد كذلك مكانا لتعليم القرآن والحديث، وللقصاص يعظون، والفقهاء يعلمون الفقه، مدة العهد الأموي؛ فيذكر ابن خلكان أن ربيعة الرأي كان يجلس في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في المدينة ويجلس في حلقته مالك ابن أنس والحسن وأشراف أهل المدينة ويحدقون به.
12
وكان مسجد البصرة مركزا لحركة علمية كبيرة في العهد الأموي، فحول الحسن البصري وفي حلقته نشأت المباحث الكلامية، واعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن وكون له حلقة، بل كان هناك بجانب حلقات علوم الدين حلقات لعلوم العربية. قال ياقوت: «كان حماد بن سلمة بن دينار يمر بالحسن البصري في الجامع فيدعه ويذهب إلى أصحاب العربية ويتعلم منهم».
13
ولما تنوعت العلوم في العصر العباسي تنوعت كذلك حلقات الدروس، فهناك حلقات يدرس فيها النحو كالذي حكى ياقوت أيضا عن الأخفش قال: «وردت بغداد فرأيت مسجد الكسائي،
14
فصليت خلفه الغداة، فلما انتقل من صلاته وقعد وبين يديه الفراء والأحمر وابن سعدان سلمت وسألته عن مائة مسألة، فأجاب بجوابات خطأته في جميعها» إلخ.
15
وكان المعتزلة يعلمون الكلام في مسجد المنصور ببغداد
16 - وهناك حلقات للشعر والأدب، ففي سنة 253 رحل الطبري إلى مصر وأملى في مسجد عمرو شعر الطرماح عند بيت المال في الجامع.
17
ولم ينكر الناس إنشاد الشعر في المسجد حتى ما كان فيه غزل، فإن كعب بن زهير دخل على النبي
صلى الله عليه وسلم
قبل صلاة الصبح فمثل بين يديه وأنشد: «بانت سعاد فقلبي اليوم متبول».
18
كذلك كان المسجد محلا لإنشاد الشعر ونقده والتلاحي فيه، فيروي الأغاني أن الكميت بن زيد وحمادا الراوية اجتمعا في مسجد الكوفة فتذاكرا أشعار العرب وأيامهم، فخالفه حماد في شيء ونازعه، فقال له الكميت: أتظن أنك أعلم مني بأيام العرب وأشعارها؟ قال وما هو إلا الظن؟ هو والله اليقين. ثم تناظرا وتساءلا أرجئا إلى أجل آخر في خبر طويل».
19
وحكى المرزباني في الموشح أن مسلم بن الوليد كان يملي شعره في المسجد، وأن الناس كانوا يتناظرون في الشعر في المسجد.
20
وكان أبو العتاهية يجلس في المسجد وحوله الناس.
21
وقال أبو محمد اليزيدي: كان أبو عبيدة يجلس في مسجد البصرة إلى سارية، وكنت أنا وخلف الأحمر نجلس جميعا إلى أخرى.
22
وعلى الجملة كان المسجد أهم معهد للثقافة في الإسلام. •••
وكان الخلفاء والأمراء والأغنياء يتخذون لأولادهم معلمين خاصين، فشرقي بن القطامي «كان وافر الأدب عالما بالنسب، أقدمه أبو جعفر المنصور ليعلم ولده المهدي الأدب»،
23
والمفضل الضبي كان يؤدب المهدي وقد جمع له المفضليات، والكسائي «كان يؤدب الأمين بن هارون الرشيد ويعلمه الأدب»؛
24
وأبو محمد يحيى بن المغيرة اليزيدي، لقب اليزيدي لأنه صحب يزيد ابن منصور خال المهدي يؤدب ولده فنسب إليه، ثم اتصل بالرشيد فجعله مؤدب المأمون؛ وكان الفراء يؤدب ولدي المأمون؛ وكان ابن السكيت يؤدب ولد ابن طاهر، وجعل له خمسمائة درهم ثم جعلها ألفا. إلى كثير من أمثال ذلك.
مجالس المناظرة:
كذلك من أهم معاهد العلم مجالس المناظرة في الدور والقصور والمساجد، وبين العلماء، وفي حضرة الخلفاء؛ في الفقه، في النحو والصرف، في اللغة، في المسائل الدينية. ويدلنا ما روي لنا على أن هذه المناظرات أزهرت في هذا العصر تبعا لازدهار الشغف العلمي، وطمعا في منائح الخلفاء والأمراء، ونيل الحظوة عندهم، ورغبة في الوصول إلى الحق، وإذا كانت أكثر المسائل العلمية لمتقرر بعد، ولم تتخذ شكلا ثابتا، كان مجال المناظرات فسيحا من الناحية العلمية البحتية؛ وإذ كان الخلفاء والأمراء يساهمون في الحركة العلمية، ويشتركون في الرأي، ويؤيدون بعضا ويفندون بعضا، استعد العلماء للمناظرة وتسلحوا لها رغبة في الشهرة والحظوة؛ وإذ كان الخلاف شديدا في المذاهب الفقهية بين أنصار الرأي وأنصار الحديث، وكان الخلاف شديدا بين الأمصار من بصريين وكوفيين وحجازيين وعراقيين وشاميين ومصريين، وكانت العصبية للبلاد وللنمط العلمي فيها شديدا، كان هذا وقودا صالحا لإشعال نار المناظرة وحدتها حياة عنيفة قوية.
وقد حكت لنا كتب الفقه وطبقات الفقهاء مناظرات كثيرة بين أصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة، وبين الفقهاء والمحدثين، وبين الشافعي ومحمد بن الحسن، إلى كثير من أمثال ذلك؛ وسنرى بعضها عند الكلام في التشريع.
كما حكت لنا بعض كتب النحو مناظرات بين العلماء في النحو والصرف واللغة، كالفصل القيم الذي عقده السيوطي في كتابه الأشباه والنظائر «في المناظرات والمجالسات والفتاوى والمكاتبات والمراسلات»،
25
وكالكتاب الخاص في مجالس العلماء لكاتب ابن خنزابه.
26
من أمثلة ذلك ما جرى بين سيبويه والكسائي في مجلس يحيى البرمكي من المناظرة المشهورة في قولهم: «كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها»؛ وقد تقدمت الإشارة إليها - وقد رويت الحكاية بأشكال مختلفة لا تعنينا الآن، إنما يعنينا هنا أنها مظهر من مظاهر المناظرات.
ومن ذلك ما رووا أن الكسائي واليزيدي تناظرا بين يدي المهدي قبل أن يتولى الخلافة بأربعة أشهر في جملة مسائل، منها: «لم نسبوا إلى البحرين فقالوا بحراني، ونسبوا إلى الحصنين فقالوا حصني»، ومنها تناظرهما في قولهم: «إن من خير القوم أو خيرهم بتة زيدا أو زيد»، ثم اختلافهما في الإجابة وتحاكمهما إلى العرب.
27
ومثله مناظرة الكسائي والأصمعي بين يدي الرشيد في معنى «محرما» في بيت الراعي:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما
ودعا فلم أر مثله مخذولا
فذهب الكسائي إلى أن محرما من الإحرام بالحج، فضحك من تفسيره الأصمعي؛ وذهب إلى أن المعنى أن عثمان في حرمة الإسلام وذمته، لم يأت شيئا يحل دمه، كما قال عدي بن زيد:
قتلوا كسرى بليل محرما
غادروه لم يمتع بكفن
وقد نصر الرشيد الأصمعي. مثل هذا كثير.
28
كذلك يروي صاحب كتاب المجالس أنه: «اجتمع الكسائي والأصمعي عند الرشيد، وكانا معه يقيمان بمقامه ويظعنان بظعنه، فأنشد الكسائي يوما لأفنون التغلبي:
لو أنني كنت من عاد ومن إرم
غذي سخل ولقمانا وذا جدن
لما وقوا بأخيهم من يهوله
أخا السكون ولا جاروا عن السنن
أنى جزوا عامرا سوءى بفعلهم
أم كيف يجزونني السوء من الحسن
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به
ريمان أنف إذ ما ضن باللبن
قرأه الكسائي ريمان أنف بالنصب، وقال الأصمعي بالرفع وتجادلا في ذلك.
29
ويتجادل أبو العباس أحمد بن يحيى مع ابن الأعرابي في حضرة الأمير أحمد ابن سعيد سلم وعنده جماعة من أهل الأدب، في معاني أبيات من الأبيات الغريبة.
30
كما يتناظر أبو العباس ثعلب مع المبرد في حضرة محمد بن عبد الله بن طاهر في كلمة «لواذا» من قوله تعالى:
قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا .
31
ويروي صاحب هذا الكتاب أن محمد بن عبد الله بن طاهر كان رجلا لا يقبل من العلوم إلا حقائقها، وأنه كان يجمع بين البصريين والكوفيين للمناظرة.
32
ويروى أن الكميت شهد الجمعة بمسجد الجامع، فأحاط به علماء الكوفة ورواتهم، فيهم حماد والطرماح فجعلوا يسألونه، حتى إذا فرغوا من سؤالهم أخذ هو يسألهم.
33
وكان للخلفاء مجالس مناظرات كثيرة ولا سيما المأمون، فقد كان مثقفا واسع الثقافة، يجيد فروعا كثيرة من العلوم وفي كلها يناظر؛ وقد روى طيفور في كتابه «تاريخ بغداد» كثيرا من المجالس.
فقد روى: «أن المأمون لما دخل بغداد وقر بها قراره، أمر أن يدخل عليه من الفقهاء والمتكلمين وأهل العلم جماعة يختارهم لمجالسته ومحادثته ... واختير له من الفقهاء لمجالسته مائة رجل، فما زال يختارهم طبقة من طبقة حتى حصل منهم عشرة، كان أحمد بن أبي داود أحدهم وبشر المريسي».
34 «وأمر أن يسمى قوم من أهل الأدب يجالسونه ويؤامرونه؛ فذكر له جماعة منهم الحسين بن الضحاك إلخ».
35
بل يظهر أن المأمون رمى من مجالسه إلى غرض بعيد، وهو أن تثار بين يديه المسائل الدينية المختلفة؛ فيسمع من كل رأيه وحججه، ثم يفصل في أوجه الخلاف في ضوء هذه الحجج، ورجا من هذا ألا يكون بعد خلاف. فقد قال يحيى بن أكثم: «أمرني المأمون عند دخوله بغداد أن أجمع له وجوه الفقهاء وأهل العلم من أهل بغداد، فاخترت له من أعلامهم أربعين رجلا وأحضرتهم، وجلس لهم المأمون فسأل عن مسائل وأفاض في فنون الحديث والعلم، فلما انقضى ذلك المجلس الذي جعلناه للنظر في أمر الدين، قال المأمون: يا أبا محمد، كره هذا المجلس الذي جعلناه للنظر طوائف ... وإني لأرجو أن يكون مجلسنا هذا - بتوفيق الله وتأييده على إتمامه - سببا لاجتماع هذه الطوائف على ما هو أرضى وأصلح للدين، إما شاك فيتبين ويثبت فينقاد طوعا، وإما معاند فيرد بالعدل كرها».
36
فهو بهذا يريد أن يجعل مجلس مجمعا علميا له النظر في مسائل الخلاف، وله القول الفصل فيها؛ وبعبارة أخرى أراد أن يجعل مجلسه «محكمة» يتنازع فيها الخصوم، وكل يدلي بحجته، والمتنازع هم العلماء، والنزاع حول الرأي الديني، ثم تحكم المحكمة فيجب أن ينفذ حكمها، كما ينفذ الحكم في المسائل المادية، ويجب أن يذعن المتنازع لحكم المحكمة، فلا يقول قائل برأي إلا ما قضت به المحكمة؛ وفات المأمون أن الأمر في الجدل الديني والمناظرة العلمية ليس من السهولة بهذا القدر، وأن الحجة يقتنع بها قوم ولا يقتنع بها آخرون، وأن عالما قد يقيم على قوله بينة ويظن أنها انحصرت فيما قال، فإذا عالم آخر يوفق إلى بينة لم تتجه إليها أنظار الباحثين من قبل، وأن صدور الحكم بناء على حجة قيلت في مجلسه ليس من الصواب تنفيذه على الغائبين، وأن للناس من الحرية في الرأي والاقتناع به والتدليل عليه أكثر مما لهم في الأمور القضائية المادية - ولعل هذا الاتجاه غير الموفق الذي اتجهه المأمون هو الذي ورطه في حمل الناس على القول بخلق القرآن، وإلزامهم به، والتنكيل بمن خالفه، كما سيأتي بيانه.
وقد لمح هذا الرأي الصواب يحيى بن أكثم؛ فقد روى أن المأمون هم بلعن معاوية، وأن يكتب بذلك كتابا يقرأ على الناس، فخالفه يحيى بن أكثم، وقال: «يا أمير المؤمنين، إن العامة لا تحتمل هذا ولا سيما أهل خراسان، ولا تأمن أن تكون لهم نفرة، وإن كانت لم تدر ما عاقبتها، والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه، ولا تظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق،
فإن ذلك أصلح للسياسة، وأحرى في التدبير ». ولكن ثمامة بن أشرس خالف رأي يحيى وحقر عند المأمون من شأن العامة.
37
على كل حال كانت هذه المجالس والمناظرات سببا كبيرا من أسباب الرقي العلمي؛ فقد حفزت العلماء للبحث والنظر ، وحملتهم على الجد في تصفية المسائل حتى يظهروا في هذه المجالس مظهر الخبير الثقة الدقيق النظر، وحتى لا يفشلوا فيكون في هذا الفشل القضاء عليهم؛ كان العلماء يطيلون النظر ويعدون العدة الطويلة لمثل هذا الموقف. روى عبد العزيز المكي الكناني المتكلم، قال: «اجتمعت أنا وبشر المريسي عند المأمون، فقال لي ولبشر: قد اجتمعتما على نفي التشبيه ورد الأحاديث الكاذبة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فتكلما في الكفر والإيمان ... قال المكي - بعد حديث طويل - (لبشر): هل تذكر شيئا تعرف به صحيح القياس من متناقضه؟ قال (بشر): ليس عندي أكثر من هذا - قلت - ولكن عندي يا أمير المؤمنين، وهي إحدى المخبآت التي
أعددت لهذا المجلس منذ نحو ثلاثين سنة ».
38 •••
كذلك من أهم معاهد العلم:
المكتبات:
كان في العالم الإسلامي قبيل الفتح مكتبات كثيرة، فكان في الإسكندرية مكتبتها المشهورة التي اتهم العرب بإحراقها عند الفتح، وليس هنا مجال تحقيق هذه التهمة، فكل الذي نريده أنه كان بالإسكندرية مكتبة قبيل الفتح، وهذا مما لا شك فيه.
وكان للسريان فيما بين النهرين نحو خمسين مدرسة تعلم فيها العلوم السريانية واليونانية، أشهر مدرسة الرها وقنسرين ونصيبين، وكانت هذه المدارس يتبعها مكتبات.
وقد روينا قبل أن كسرى أنوشروان أنشأ مدرسة بجنديسابور، وكان يدرس فيها الطب وما يتصل به من فلسفة - ويقول «بروكلمن»: «إن الجزيرة والعراق كانا منذ أيام الإسكندرية متأثرين بالحضارة اليونانية، وكان في الأديار السريانية كثير من الكتب المترجمة، لا في الآداب النصرانية وحدها؛ إذ كان هؤلاء محور الدائرة العلمية في ذلك أيضا تراجم لمؤلفات أرسطو وجالينوس وبقراط؛ إذ كان هؤلاء محور الدائرة العلمية في ذلك العصر، وكان السريان نقلة الثقافة اليونانية إلى الإمبراطورية الفارسية أيام الساسانيين ... وأخذت هذه البذرة اليونانية في الازدهار حتى أيام العباسيين» وقد ذكروا أن الفرس في حملتهم على مصر واليونان كانوا يحملون معهم بعض الكتب وهم عائدون من الغزو.
39
ونقلنا قبل أنه كان بمرو خزانة من الكتب الفارسية أتى بها يزدجرد.
40
وروى بن النديم: «قال أبو معشر في كتاب اختلاف الزيجات إن ملوك الفرس بلغ من عنايتهم بصيانة العلوم، وحرصهم على بقائها على وجه الدهر، وإشفاقهم عليها من أحداث الجو وآفات الأرض، أن اختاروا لها من المكاتب أصبرها على الأحداث، وأبقاها على الدهر، وأبعدها من التعفن والدروس، لحاء شجر الخدنك، ولحاؤه يسمى التوز، وبهم اقتدوا أهل الهند والصين ومن فيهم من الأمم في ذلك ... ولما كان قبل زماننا هذا بسنين كثيرة تهدمت من هذه المصنعة ناحية، فظهروا فيها على أزج معقود من طين الشقيق، فوجدوا فيه كتبا كثيرة من كتب الأوائل، مكتوبة كلها في لحاء التوز، مودعة أصناف علوم الأوائل بالكتابة الفارسية القديمة.
41
وقال: «والذي رأيت أنا بالمشاهدة، أن أبا الفضيل بن العميد أنفذ إلى هاهنا في سنة نيف وأربعين كتبا متقطعة أصيبت بأصفهان في سور المدينة في صناديق وكانت باليونانية، فاستخرجها أهل هذا الشأن مثل يوحنا وغيره».
42
هذه الكتب كانت أساسا لكتب تنقل إلى العربية منذ العهد الأموي، فقد رأينا خالد بن يزيد بن معاوية يأمر بنقل بعض الكتب، وعمر بن عبد العزيز يأمر ببعض.
43
كما كانت هناك كتب وصحف دينية يجمعها العلماء عن العرب وعن رجال الدين؛ فقد روي أن أبا عمرو بن العلاء وقد ولد سنة 70 كانت كتبه التي كتبها عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تقرأ أي تنسك فأحرقها كلها. ولكن هذه الكتب لم تبلغ في العهد الأموي مبلغا كبيرا يكون مكاتب واسعة، حتى إذا جاء العصر العباسي ونشطت حركة التأليف والترجمة، وعظمت صناعة الورق، وتبع ذلك ظهور حرفة الوراقين، ووجود أمكنة لهم تتخذ مباءة للعلماء والأدباء، يتزودون منها العلم، فكثرت المكتبات وذخرت بالكتب.
وكان أكبر مكتبة نقل إلينا خبرها في ذلك العصر «خزانة الحكمة»، أو «بيت الحكمة»، ومن الغريب أن هذه الخزانة أو البيت محوط بغموض شديد، لم يعثر الباحثون عنه إلا على نتف قليلة، فهل كان مكتبة فقط أو مكتبة ومعهدا ومرصدا؟ وأين كان مكانه؟ وهل أنشأه الرشيد أو المأمون؟ وما نظامه؟ وماذا يقوم به من الأعمال؟ كل هذه الأسئلة ونحوها من العسير الإجابة عنها، ولما يصل إلى أيدينا ما نستطيع أن نتخذ منه جوابا شافيا.
أما مؤسسها فيظهر أنه الرشيد - أولا - وضع نواتها ثم نماها المأمون وقواها؛ فقد رووا أن الرشيد «ولى يوحنا بن ماسوية ترجمة الكتب الطبية القديمة لما وجدها بأنقرة وعمورية، وسائر بلاد الروم حين افتتحها المسلمون وسبوا سبيها ووضعه أمينا على الترجمة، ورتب له كتابا حذاقا يكتبون بين يديه».
44
وأوضح من هذا ما ذكره ابن النديم أن أبا سهل الفضل بن نوبخت «كان في خزانة الحكمة لهارون الرشيد».
45
وفي موضع آخر «كان علان الشعوبي ينسخ في بيت الحكمة للرشيد والمأمون والبرامكة».
46
نستطيع أن نستنتج من هذا أن خزانة الحكمة كانت في عهد الرشيد، وأنه كان يعمل فيها علماء مختلفو الثقافة، فيوحنا بن ماسويه نصراني سرياني، له قدرة على ترجمة الكتب اليونانية؛ وابن نوبخت فارسي كان - كما قال القفطي: «ينقل من الفارسي إلى العربي ما يجده من كتب الحكمة الفارسية، ومعوله في علمه وكتبه على كتب الفرس»؛ وعلان الشعوبي راوية نسابة فارسي الأصل، وأنه في عهد الرشيد كانت خزانة الحكمة مكانا فيه كتب وله رئيس وأعوان، وفيه كانت تنسخ الكتب اليونانية والفارسية وتترجم.
فإذا انتقلنا بعد إلى عصر المأمون، رأينا أن رغبته في الفلسفة والعلوم العقلية أشد، وميله أقوى؛ وتبع ذلك اتساع العمل في بيت الحكمة. روى ابن النديم: «أن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون، فكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة المدخرة ببلد الروم، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر، وابن البطريق، وسلما صاحب بيت الحكمة، وغيرهم، فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا، فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل؛ وقد قيل إن يوحنا بن مساويه ممن نفذ إلى بلد الروم».
47
وقال ابن نباتة عند الكلام على سهل بن هارون: وجعله كاتبا على خزائن الحكمة، وهي كتب الفلاسفة التي نقلت للمأمون من جزيرة قبرص ، وذلك أن المأمون لما هادن صاحب هذه الجزيرة أرسل إليه يطلب خزانة كتب اليونان، وكانت مجموعة عندهم في بيت لا يظهر عليه أحد ... فأرسلها إليه واغتبط بها المأمون، وجعل سهل بن هارون خازنا لها»
48
ويستنتج من هذا أن المأمون أرسل بعثة إلى القسطنطينية لإحضار الكتب اليونانية من طبية وفلسفية ، وأنه كان بين أفراد البعثة صاحب بيت الحكمة، وهو سلم - ومعروف أنه كان في القسطنطينية مكتبة كبيرة أنشئت سنة 336م، وعني بعض الملوك بتوسيعها حتى بلغ ما فيها نحو مائة ألف مجلد، وأحرق بعضهم بعض ما فيها من الكتب الدينية؛ انتصارا لمذهبه الديني، ولكنها جددت بعده، واتسع نطاقها، وكانت في عصر المأمون زاخرة بالكتب - كما يستنتج أن سلما وسهل بن هارون كانا مشرفين على الخزانة، إما متعاصرين، ولكل دائرة اختصاص، أو متعاقبين. ويظهر من نص ابن نباتة أن بيت الحكمة كان مجموعة خزائن، كل مجموعة من الكتب خزانة، وأن سهل بن هارون كان مشرفا على القسم الذي أحضرته بعثة القسطنطينية - كذلك يغلب على الظن أن كتب الرشيد قد أفردت في خزانة، وكتب المأمون قد أفردت في أخرى، فإنا نرى ابن النديم يستعمل أحيانا خزانة المأمون وأحيانا خزانة الرشيد.
49
وأما الاسم، فأحيانا يستعمل العلماء اسم بيت الحكمة، كابن النديم والقفطي، وأحيانا خزانة الحكمة كياقوت؛ فالخزانة كلمة معروفة وهي اسم الموضع الذي يخزن فيه الشيء، وفي القرآن الكريم:
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه
و
ولا أقول لكم عندي خزائن الله
فاستعملوه للدلالة؛ على المكان الذي حفظت فيه الكتب - وقد استعملت كلمة خزانة للدلالة على ذلك في هذا العصر كثيرا؛ فقد روي أن الجاحظ أراد أن يهدي إلى محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم كتاب سيبويه، فقال له ابن الزيات: أو ظننت أن خزانتنا خالية من هذا الكتاب؟ فقال الجاحظ: ما ظننت ذلك، ولكنها بخط الفراء، ومقابلة الكسائي وتهذيب عمرو بن بحر الجاحظ - يعني نفسه - فأخذها.
50
وأما البيت فاستعملوه في الدار وأطلقوه على حوانيت التجار «والمواضع المباحة التي تباع فيها الأشياء ويبيح أهلها دخولها».
وقد أطلقوا في هذا العصر بيت المال على المكان الذي يحفظ فيه مال الدولة، فلا يبعد أن يكونوا قد أطلقوا كذلك «بيت الحكمة» على المكان الذي حفظت فيه الكتب - أما كلمة «الحكمة» فقد استعملوها فيما يرادف فلسفة، فالظاهر أنهم أطلقوا خزانة الحكمة وبيت الحكمة على مكان المجموعة من هذه الكتب؛ لأن كلها أو أكثرها ليست من الكتب الدينية، بل من الكتب التي عني بنقلها عن الأمم الأخرى، وأكثر هذه كتب فلسفة أو حكمة، وإن كان فيها شيء من التحف والآثار؛ فابن النديم ينقل أنه نقل من خزانة المأمون الخط الحبشي.
وقد بالغ بعضهم فزعم أن بيت الحكمة كان جامعة كبيرة يتصل بها مكتبة ومرصد، وليس بين أيدينا من النصوص ما يؤيد ذلك، وكل ما يدل عليه أنها كانت مكتبة، والغالب أنها ملحقة بقصر الخليفة لا في مكان خارجي؛ إذ لم ينقل إلينا في تخطيط بغداد خبر عن بناء خاص للمكتبة، وقد اعتاد الخلفاء أن يفعلوا هذا في قصورهم، فكان في قصر قرطبة مكتبة، وفي قصر الخليفة الفاطمي العزيز بالله مكتبة:
51
ونقلنا قبل عن المقريزي ما أراد أن يصنعه الخليفة المعتضد بالله في قصره، وربما يستأنس - على ذلك - بما رواه ابن الأنباري في طبقات الأدباء «أن المأمون أمر الفراء أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العرب؛ فأمر أن تفرد له حجرة من حجر الدار، ووكل بها جواري وخدما للقيام بما يحتاج إليه؛ حتى لا يتعلق قلبه، ولا تتشوق نفسه إلى شيء ... وصير له الوراقين وألزمه الأمناء والمنفقين، فكان الوراقون يكتبون حتى صنف الحدود، وأمر المأمون بكتبه في الخزائن؛ فبعد أن فرغ في ذلك خرج إلى الناس».
52
وأن هذه المكتبة كانت تقوم بنسخ الكتب كما كان يفعل علان الشعوبي، وبترجمتها إلى العربية كما كان يفعل يوحنا بن ماسوية وابن نوبخت، وكان فيها رئيس للمترجمين ومساعدون، كما كان لها مدير وأعوان، وكما كان فيها مجلدون فيقول ابن النديم: «إن ابن أبي الحريش كان يجلد في خزانة الحكمة للمأمون»
53
وهذا كل ما نستطيع أن نفهمه من النصوص التي بين أيدينا.
وأما تاريخها فقد ظلت إلى عهد ابن النديم ونقل عنها، كما يدل على ذلك نصه في النقل عنها صورة الخط الحبشي، وقد كتب كتابه سنة 377ه. وقد جاء في رسالة الغفران على لسان جارية: «أتدري من أنا يا علي بن منصور؟ أنا توفيق السوداء التي كانت تخدم في دار العلم ببغداد على زمان أبي منصور محمد بن علي الخازن، وكنت أخرج الكتب إلى النساخ»،
54
فهل دار العلم هذه هي بيت الحكمة أوغيرها؟
وجاء في دائرة المعارف الإسلامية: «كانت أول مكتبة عامة هي مكتبة دار الحكمة (كذا) التي أنشأها المأمون (كذا) في بغداد، وجمع لها الكتب اليونانية من الإمبراطورية البيزنطية، وترجمت إلى العربية، وكانت المكتبة تحوي كل العلوم التي اشتغل بها العرب - وقد ظلت إلى مجيء التتار سنة 656ه».
55 •••
وقد قلد الخلفاء والأمراء الأغنياء من العلماء والأدباء فكانت لهم مكتبات خاصة، فيقول ثعلب: «رأيت لإسحاق الموصلي ألف جزء من لغات العرب وكلها سماعه»
56
ويقول ابن أبي أصيبعة: «كان محمد وأحمد ابنا موسى بن شاكر يكيدان كل من ذكر بالتقدم في معرفة ... فدبرا على الكندي (الفيلسوف) حتى ضربه المتوكل، ووجها إلى داره فأخذا كتبه بأسرها وأفراداها في خزانة سميت (الكندية)».
57 •••
والذي يظهر لي أنه لم تكن هناك مراحل للتعليم معينة، فليس هناك مرحلة للتعليم الأولي أو الابتدائي، ومرحلة للثانوي وهكذا؛ إنما هناك مرحلة واحدة تبتدئ بالكتاب أو بالمعلمين الخاصين، وتنتهي بأن تكون له حلقة في المسجد؛ غاية الأمر أن من المتعلمين من يتم هذه المرحلة وقليل ما هم، وآخرون يقفون في نصف الطريق أو ربعه فمن الناس من يتعلم في المكتب حتى يقرأ ويكتب، ويحفظ ما يتيسر من القرآن ويحسن أمور دينه، ثم ينصرف إلى عمل من صناعة أو تجارة؛ ومنهم من يلزم الشيوخ يأخذ عنهم، وينتقل من شيخ إلى شيخ، بل من بلد إلى بلد، حتى يكتمل فيحلق له حلقة.
كما لم يكن هناك منهج خاص تسير عليه الأمة ، فنرى الكتاب أحيانا يقتصر فيه على القراءة والكتابة وتعليم القرآن، ونرى المعلمين في الكتاتيب أحيانا يعلمون اللغة والنحو والعروض، وكل شيخ بعد ذلك له طريقته: فالفقهاء من أصحاب الرأي يكثرون من تفريغ المسائل وفرض الفروض، ويبيحون الأسئلة حتى فيما لم يقع من الحوادث؛ وأصحاب الحديث يمتنعون عن ذلك ولا يجيزونه وهكذا. وفي المسجد الكبير حلقات من الدروس مختلفة الألوان: هذه حلقة فقه، وبجانبها حلقة نحو، وثالثة حلقة للمتعلمين، ورابعة لإنشاد الشعر، وخامسة لرواية الأخبار، وسادسة للحديث وهكذا. والمتعلم حر أن يذهب إلى أية حلقة، وإلى أي شيخ، فإذا أتم علم شيخ انتقل إلى علم آخر أو شيخ آخر، وقد يتخصص في الكلام فينصحه ناصح أن يكون فقيها فيفعل، وهكذا.
وسبب ذلك أن التعليم حر، لا تنفق الدولة عليه من مالها، وليس في ميزانيتها شيء خاص بالتعليم، إلا ما يمنحه الخلفاء والأمراء والأغنياء لمن اتصل بهم من العلماء، وفي مقابل ذلك ليس للدولة تدخل في وضع منهج أو مراقبة معلم، إلا أن يتهم أحد بزندقة فتتدخل أحيانا. فالطلبة والعلماء يتعلمون ويعلمون على حسابهم الخاص، فقد يدفع الطالب أجرا للشيخ على ما يتعلم منه، كالذي حكي عن المبرد فقد حدث الزجاج قال: «اشتهيت النحو فلزمت المبرد لتعلمه، وكان لايعلم مجانا ولا يعلم بأجرة إلا على قدرها؛ فقال لي: أي شيء صناعتك؟ قلت: أخرط الزجاج، وكسبي في كل يوم درهم ودانقان أو درهم ونصف، وأريد أن تبالغ في تعليمي، وأنا أعطيك كل يوم درهما، وأشرط لك أن أعطيك إياه أبدا، إلى أن يفرق الدهر بيننا، استغنيت عن التعليم أو احتجت إليه. قال فلزمته وكنت أخدمه في أموره مع ذلك، وأعطيه الدرهم فينصحني في العلم حتى استقللت، فجاءه كتاب بعض بني مازمة من الصراة يلتمسون معلما نحويا لأولادهم، فقلت له أسمني لهم فأسماني، فخرجت فكنت أعلمهم وأنفذ إليه في كل شهر ثلاثين درهما، وأزيده بعد ذلك بما أقدر عليه».
58
وقد يعلم المعلم ابتغاء الثواب، وأكثر ما كان ذلك في العلوم الدينية، كالذي حدث إبراهيم الحربي المحدث الفقيه، قال: «ما أخذت على علم قط أجرا إلا مرة واحدة، فإني وقفت على بقال فوزنت له قيراطا إلا فلسا، فسألني عن مسألة فأجبته، فقال للغلام أعطه بقيراط ولا تنقصه شيئا، فزادني فلسا».
59
وقد يكون المعلم يتكسب من باب آخر ويعلم حسبة كأبي حنيفة، كان بزازا ويعلم في المسجد وهكذا .
كذلك كان باب التعلم مفتوحا لكل من شاء، متى استطاع هو أن يجد ما يقتات به؛ ولهذا نبغ كثير من الأدباء والعلماء من طبقات فقيرة، كأبي العتاهية فقد كان خزافا، وكان أبو تمام يسقي الناس بالجرة في جامع عمرو بن العاص بمصر، وكان أبو يوسف القاضي في صباه قصارا، وكان يهرب من القصار ويذهب إلى حلقة أبي حنيفة، وأمثال هذا كثيرة.
ولم تكن هناك - أيضا - درجات علمية يمنحها من أتم الدراسة بعد امتحان، إنما كان الامتحان امتحان الرأي المحيط به من علماء ومتعلمين، فمن آنس من نفسه القدرة على أن يجلس مجلس المعلم جلس وتعرض لجدال العلماء ومناقشتهم وتجيبههم وكان في هذا ما يكفي لحماية العلماء من المتطفلين والجاهلين؛ فترى واصل بن عطاء يعتزل مجلس الحسن البصري لما خالفه في الرأي وشعر من نفسه القدرة على أن يقرر مذهبه فأنشأ له حلقة؛ وأبو سيف حلق حلقة، فسأله سائل عن مسألة فقهية فلم يعرف جوابها فعاد إلى حلقة أبي حنيفة.
60
وهذا النظام له عيوبه ومزاياه فنترك ذلك لعلماء التربية. •••
أما مناهج التعليم فيظهر أنها كانت مختلفة باختلاف الغرض الذي يرمي إليه المتعلم، فمنهج من أعد نفسه ليكون «كاتبا» غير منهج من أراد أن يكون محدثا وكلاهما غير من أراد أن يكون طبيبا أو فيلسوفا؛ فعبد الحميد الكاتب يضع منهج الكتاب أن يبدءوا بعلم كتاب الله والفرائض، ويجيدوا الخط ويرووا الأشعار ويعرفوا أيام العرب والعجم وتاريخهم ويتعلموا الحساب؛ ويؤخذ من قول الجاحظ في نقد الكتاب، ما يدل على أن منهجهم كان حفظ الكلام الجيد، وملح العلم ومعرفة أمثال بزرجمهر، وعهد أردشير ورسائل عبد الحميد، وأدب ابن المقفع، وقراءة كتاب مزدك ، وحكم كليلة ودمنة وأمثالها.
ويضع الرشيد منهج التعليم لابنه الأمين فيطلب من الكسائي أن يرويه من الأشعار أعفها، ومن الأحاديث أجمعها لمحاسن الأخلاق، ويذاكره بآداب الفرس والهند.
ويؤخذ من قول للحسن بن سهل أن برنامج الأديب، أن يعرف الضرب على العود، ولعب الشطرنج والصولجان، ويعرف شيئا من الطب والهندسة والفروسية ويعرف الشعر والنسب، وأيام الناس، ويتعلم أحاديث السمر ومحاضرات المجالس.
ونرى في تراجم كثير من العلماء أنهم ذهبوا أولا إلى المكاتب، ثم ذهبوا إلى حلقات الدروس حسب ميولهم؛ فمنهم من يتعلم الشعر، ومنهم من يأخذ الحديث وتفسير القرآن، ومنهم الكلام؛ وكثير منهم كان يجمع بين هذه الأشياء، فيلازم شيخا حتى يأخذ علمه، ثم يتحول إلى حلقة أخرى، وهكذا كانت المناهج مختلفة متشعبة متروكة لاختيار الطالب ورأي المعلم.
رحلة العلماء:
ويتصل بهذا الباب رحلة العلماء من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر في طلب العلم، غير مبالين ما يعترضهم من مشقة وغناء وفقر، مع ما في السفر إذ ذاك من صعاب، جعلته - كما عبروا عنه - قطعة من العذاب، ولعل خير ما يمثل هذا ما روي عن أبي الدرداء، إذ قال: «لو أعيتني آية من كتاب الله فلم أجد أحدا يفتحها علي إلا رجل ببرك الغماد لرحلت إليه».
61
وجابر بن عبد الله بلغه حديث عن رجل من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فابتاع بعيرا فشد عليه رحله، ثم سار شهرا، حتى قدم الشام.
62
ويقول بسر بن عبيد الله الحضرمي: «إن كنت لأركب إلى المصر من الأمصار في الحديث الواحد لأسمع».
63 «وكان مسروق يرحل في حرف، وأبو سعيد يرحل في حرف»
64
وقال الشعبي: «لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة حكمة ما رأيت أن سفره ضاع».
65
وهكذا رحل علماء اللغة إلى البادية يقيدون اللغة والأدب، ورحل علماء الحديث إلى الأمصار المختلفة يقيدون الحديث، ورحل الأدباء إلى نواحي المملكة الإسلامية يأخذون عن أدبائها، ورحل طلاب الفلسفة إلى القسطنطينية وغيرها في طلب الكتب اليونانية للترجمة - وكذلك الشأن في كل فرع من فروع العلم.
فالخليل بن أحمد، وأبو عمرو بن العلاء، وأبو زيد الأنصاري، والأصمعي، والكسائي يرحلون إلى البادية ويسمعون منهم اللغة والأدب، ويقيدون ما يسمعون.
وكان المحدثون أنشط الناس لرحيل، وأصبرهم على عناء؛ ذلك أن الصحابة عند الفتح تفرقوا في الأمصار، فمنهم من سكن فارس، ومن سكن العراق، ومن سكن مصر، ومن سكن الشام، ومن سكن المغرب؛ وكان كل هؤلاء يحملون حديثا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أخذه عنهم التابعون ومن بعدهم، فكان في كل مصر طائفة من الحديث لا تعرف في الأمصار الأخرى، فجد العلماء في الرحلة يأخذون الأحاديث عن أهلها، ويجمعون ما تفرق منها، وكان باعثهم الديني يذلل كل عقبة، ويسهل كل مشقة - فمثلا - يحيى بن يحيى الليثي البربري الأصل، الأندلسي النشأة، رحل إلى المشرق وهو ابن ثمان وعشرين سنة، فسمع من مالك بن أنس الموطأ في المدينة، ورحل إلى مكة فسمع من سفيان بن عيينة، ورحل إلى مصر فسمع من الليث بن سعد، وعبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم
66 - ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح كان بنيسابور ورحل إلى الحجاز والعراق والشام ومصر ومات بنيسابور.
67
والبخاري صاحب الصحيح رحل في طلب الحديث إلى أكثر محدثي الأمصار، وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق والحجاز والشام ومصر، وقدم بغداد واجتمع إليه أهلها.
68
وفي الفلسفة رأينا المأمون يرسل بعثة إلى القسطنطينية لإحضار الكتب اليونانية وترجمتها، وفي رواية أخرى أنه أرسل إلى صقلية، وإلى قبرص.
ورأينا قبل أن حنين بن إسحق
69
ذهب إلى بلاد الروم، وأجاد تعلم اليونان ثم عاد إلى البصرة، وأنه رحل في نواحي العراق، وسافر إلى الشام والإسكندرية يجمع الكتب النادرة. ويروي ياقوت «أن أبا زيد أحمد بن سهل البلخي لما كان في عنفوان شبابه، دعته نفسه إلى أن يسافر من (بلخ) ويدخل إلى أرض العراق، ويجثو بين يدي العلماء، ويقتبس منهم العلوم؛ فتوجه إليها راجلا مع الحاج، وأقام بها ثماني سنين فطوف البلاد المتاخمة لها، ولقي الكبار والأعيان، وتتلمذ لأبي يوسف يعقوب بن إسحق الكندي، وحصل من عنده علوما جمة، وتعمق في علم الفلسفة، وهجم على أسرار علم التنجيم والهيئة، وبرز في علوم الطب والطبائع، وبحث عن أصول الدين».
70
والأمثلة على ذلك كثيرة، وهكذا كانت المملكة الإسلامية في سهولة انتقال العلماء من مكان فيها إلى مكان، كأنها رقعة شطرنج وهم بيادقها، فترى العالم في المشرق فإذا هو في الأندلس، وفيما هو في العراق إذا هو بمصر والشام؛ لا يعوقهم فقر، ولا يفت في عزمهم صعوبة الطريق وأخطاره، سواء عليهم الصحراء وحرها، والبحار وأمواجها؛ إذ تغلغل في نفوسهم اعتقاد أن طلب العلم جهاد، فمن مات في سبيله مات شهيدا - هذا إلى أن العلم عند كثير أصبح مقصدا لا وسيلة، يقصد لذاته، ويرغب فيه لذاته، سواء أنتج غنى أو فقرا، وحياة أو موتا، قال أبو عمرو بن العلاء: قيل لمنذر بن واصل كيف شهوتك للأدب؟ قال: أسمع للحرف منه لم أسمعه فتود أعضائي أن لها أسماعا تتنعم مثل ما تنعمت الآذان. قيل: وكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره. قيل: وكيف حرصك عليه؟ قال: حرص المجوع الممنوع على بلوغ لذاته في المال.
71
الفصل الثالث
مراكز الحياة العقلية
ذكرنا في الجزء الأول من «فجر الإسلام»
1
نشأة الحركة العلمية في الأمصار المختلفة في بدء الإسلام إلى آخر العصر الأموي، وذكرنا أن أهم مراكز الحياة العقلية في ذلك العصر كانت الحجاز (مكة والمدينة) والعراق (البصرة والكوفة) والشام ومصر؛ وتتبعنا في إيجاز ما دار فيها من علم وما نبغ فيها من علماء، والنواحي العلمية والفنية التي كانت تغلب على كل مصر، وقد ظلت هذه المراكز هي المراكز العقلية بعينها في العصر العباسي، لم يزد عليها إلا بغداد في العراق، وقد أنشأها المنصور، والأندلس وقد أصبحت باستيلاء الأمويين عليها مركزا هاما من مراكز الثقافة؛ فلنستمر في وصف الحركة العلمية في هذه الأمصار، ونرجئ الكلام في الأندلس، ففي نيتنا - إن أقدرنا الله - أن نفرد لها جزءا خاصا من «ضحى الإسلام».
الحجاز:
2
ظلت الحركة العلمية في مكة والمدينة في العصر العباسي سائرة سيرها في العصر الأموي - قد كان أكثر ما عرف عن مدرستي مكة والمدينة الحديث، والفقه مبنيا على الكتاب والحديث، فاستمرت هذه الحركة.
ففي مكة ظل العلماء يتلقون العلم طبقة عن طبقة، فقد اشتهر من التابعين من علماء مكة مجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح وغيرهما، وجاء بعدهم طبقة أخرى اشتهر منها عمرو بن دينار، وكان ثقة ثبتا كثير الحديث، وكان يفتي الناس بمكة فكان فقيها ومحدثا، وقد مات سنة 126 وخلفه في إفتاء الناس في مكة عبد الله ابن أبينجيح، وقد مات نحو سنة 132؛ وجاء بعد هذه الطبقة طبقة أخرى، وهذه هي التي عاشت في العصر العباسي، وأشهرهم عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح، وهو رومي الأصل، كان كثير الحديث جدا، لمزه «الواقدي» فروى «أنه طلب من أبي بكرة بن أبي سبرة أن يكتب له أحاديث سنن، فكتب له ألف حديث ثم بعث بها إليه، وما قرأها عليه، ثم كان يحدث بعد ذلك ويقول: حدثنا أبو بكر بن أبي سبرة»؛
3
وهو من أول المؤلفين في الحديث، وعده بعضهم أولهم - وعلى كل حال فقد كان علما من أعلام مدرسة مكة، تلقى عنه الأوزاعي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وكثيرون، ومات سنة 150ه.
4
واشتهر من الطبقة التي تليه سفيان بن عيينة، وكان من أشهر المحدثين، كان كوفي الأصل، ثم انتقل إلى مكة وبها مات سنة 198، وقد أخذ عنه الشافعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن إسحاق ويحيى بن أكثم القاضي وغيرهم، وفيه قال الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز؛ وكان حديثه نحو سبعة آلاف حديث.
ومن طبقة سفيان الفضيل بن عياض، أحد مشاهير الزهاد، وكان أصله من أبيورد، ورحل إلى الكوفة ثم رحل إلى مكة وأقام بها، وكان يلقب شيخ الحرم، وظل بها إلى أن مات سنة 187ه، وكان كثير الحديث وأخذ عنه كثيرون.
وأما المدينة فاستمرت مدرستها كذلك، فبعد من ذكرنا في فجر الإسلام نبغ في المدينة ربيعة الرأي، كان فقيه أهل المدينة، وكان يجلس في المسجد وحوله أشراف المدينة يأخذون عنه، وقد أخذ عنه الليث بن سعد ويحيى بن القطان، وأشهر تلاميذه مالك بن أنس، وقد قال فيه مالك: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة؛ توفي سنة 136.
وخلفه في إمامة العلم بالمدينة مالك بن أنس، وسيأتي الكلام في مدرسته عند الكلام في التشريع.
وقد نبغ بالمدينة في هذا العصر من العلماء في نحو آخر من العلم محمد بن عمر الواقدي شيخ المؤرخين «فكان عالما بالمغازي والسيرة والفتوح وباختلاف الناس في الحديث والأحكام» وألف في ذلك الكتب الكثيرة - مما عد أساسا من أسس التاريخ - وقد استعان الرشيد به عند زيارته المدينة في تعرف الآثار الإسلامية بها، ومعرفة مشاهدها، وكان اتصاله به وبالبرامكة وقتذاك سببا في رحلته بعد إلى العراق.
على كل حال كانت مدرستا الحجاز في مكة والمدينة من أكثر المصادر، وخاصة فيما يتعلق بالحديث، وما ينبني عليه من فقه، وما يتصل بذلك من أخبار وسير، وذلك طبيعي؛ لأن مكة منشأ النبي
صلى الله عليه وسلم
والمدينة مهاجره، وكلاهما، منبت الصحابة من مهاجرين وأنصار، عاشروا النبي وحدثوا عنه، وحكوا ما رأوا وما سمعوا من أقوال وأفعال، وتناقل التابعون عنهم ما سمعوا، ونقل عنهم من أتى بعدهم.
وقد كانت حركة الحج الدائمة سببا في اتصال العالم الإسلامي بعلماء مكة والمدينة، ينتهزون فرصته فيجتمعون بعلمائهما، يروون عنهم ويروونهم، ويرجعون إلى بلادهم يحملون ما أخذوا وينشرون ما تلقوا، وتراجم المحدثين والإخباريين دليل على ذلك. •••
أما الناحية الأخرى التي اشتهر بها الحجاز في العصر الأموي، أعني الغناء والفكاهة - وهي التي شرحنا أسبابها في فجر الإسلام - فقد استمر كذلك في بدء العصر العباسي، فقد ظلنا نرى الحجاز يصدر مغنين إلى العراق؛ فيحدثنا صاحب الأغاني أن أحمد بن صدقة كان أبوه حجازيا مغنيا قدم على الرشيد،
5
وأن دنانير المغنية الشهيرة بالعراق كان أصلها من المدينة،
6
وأن يحيى المكي أحد المغنين كان قدم مع الحجازيين الذي قدموا على المهدي في أول خلافته،
7
وأن ابن جامع المغني أصله قرشي من مكة،
8
وأن يزيد حوراء كان مغنيا من أهل المدينة، وقدم على المهدي في خلافته فغناه.
9
ولكن يظهر لي أن ازدهار الفن في الحجاز أخذ يضعف ضعفا بينا في الدولة العباسية، وأن هؤلاء الواردين على العراق في الأيام الأولى من العباسيين لم يكونوا إلا بقايا الازدهار في العصر الأموي، وسبب ذلك أمور؛ أهمها فيما أرى: (1) أن الحجازيين قد خرجوا على أبي جعفر المنصور مع محمد بن عبد الله ابن الحسن، فلما انهزموا وقتل محمد بن عبد الله نكل المنصور بالحجازيين وشدد عليهم ومنعهم المال؛ فوقع الحجازيون في الفقر، والفقر - من غير شك - يودي بالفن والفنانين؛ ولئن كان علم الحديث الديني كان كافيا في حمل الناس على طلب العلم الديني مهما أصابهم من فقر وجوع: أما الغناء فمظهر ترف وطرب، فالفقر يحجزه والجوع يميته؛ جاء في الأغاني: «أن المهدي لما ولي الخلافة وحج، فرق في قريش والأنصار وسائر الناس أموالا عظيمة، ووصلهم صلات سنية، فحسنت أحوالهم بعد جهد أصاب الناس في أيام أبيه لتسرحهم مع محمد بن عبد الله بن حسن».
10
وسبب آخر: وهو أن الدولة الأموية كانت عربية النزعة - كما أبنا - ولما انحصرت الخلافة في البيت الأموي انصرف فتيان من عداهم من القرشيين إلى اللهو والترف، وكان الأمويين يعينونهم على ذلك بالمال ونحوه اتقاء لشرهم، ورغبة في ألا يفكروا في السياسة وشئونها؛ فلما جاء العباسيون كان الغنى والمال والجاه للفرس، ودولتهم في العراق، وتبع ذلك ضعف قيمة العرب وجزيرتهم، فجند العرب أقل عددا من غيرهم، وحظوة العرب عند الخلفاء ليست كحظوة الفرس، والمناصب الكبيرة كالوزارة وما إليها في يد الفرس لا العرب - وهذا كله يستتبع أن المال الذي يصب في جزيرة العرب كان يقل شيئا فشيئا، وأهمية العرب ونظر الخلفاء إليهم يضعف شيئا فشيئا، ولهذا أثر غير قليل في الفن وضعفه وتحوله من الجزيرة إلى العراق، حيث المال الكثير، والترف الوفير.
وفي الواقع نرى أن جزيرة العرب أخذت في العصر العباسي تعود إلى بداوتها الأولى، وتنكمش وتقل علاقتها السياسية والاجتماعية بغيرها من البلدان ؛ وفي هذا ضعف لماليتها، وقضاء على فنونها لا على علمها الديني، فرغبة الثواب من الله كفيلة بتأييده والجد فيه، وكلما زاد الفقر كان طلاب العلم الديني أميل إلى الإخلاص وأرغب في الثواب.
العراق:
في الحق أن العراق في ذلك العصر كان أهم مراكز الحياة العقلية في فروع العلم والفن، من تفسير وحديث وفقه، ومن لغة ونحو وصرف، ومن ترجمة كتب فلسفية وجد في تفهمها والتعليق عليها، ومن مذاهب كلامية، ومن علوم طبية ورياضية، ومن غناء وموسيقى ونقش وتصوير، ومن تأليف في كل هذه العلوم والفنون؛ ولذلك أسباب أشرنا إليها قبل.
11
قال المقدسي في «إقليم العراق» هذا إقليم الظرفاء، ومنبع العلماء، لطيف الماء، عجيب الهواء، مختار الخلفاء، أخرج أبا حنيفة فقيه الفقهاء، وسفيان سيد القراء، ومنه كان أبو عبيدة والفراء، وأبو عمرو صاحب القراء، وحمزة والكسائي وكل فقيه ومقرئ وأديب، وسري وحكيم وداه وزاهد ونجيب، وظريف ولبيب ... أليس به البصرة التي قوبلت بالدنيا، وبغداد الممدوحة في الورى، والكوفة الجليلة وسامرا».
12
وقد كان أهم مراكز العراق في العهد الأموي البصرة والكوفة، وكان التنافس بينهما شديدا، وفي العصر العباسي ظل هذا التنافس، ودخل في المنافسة بلد جديد في بغداد التي أنشأها أبو جعفر المنصور - وكان التنافس العلمي بين هذه المدن الثلاث في العصر العباسي أشد منه في العصر الأموي تبعا لنمو الحركة العلمية، فالبصريون والكوفيون والبغداديون في النحو، وفي الصرف، وفي اللغة، وفي الأدب، وفي الكلام، وفي غيرها؛ وكل جماعة من العلماء تتعصب لبلدها ولمذهبها العلمي - قال أبو عمرو بن العلاء البصري لأهل الكوفة: «لكم حذلقة النبط وصلفهم ولنا دهاء فارس وأحلامهم».
13
وقد دارت مفاخرات كثيرة بين البصريين والكوفيين في العصر العباسي، ربما كان أوفاها ما حكاه «ابن الفقيه» في كتابه «البلدان»؛ فخر جغرافي، وفخر تاريخي، وفخر علمي، كانوا يتناظرون في حضرة الخلفاء كالمناظرة بين يدي السفاح،
14
وكانوا يتناظرون عند الأمراء كالمناظرة عند يزيد بن عمر بن هبيرة،
15
وكانوا يتناظرون في مجالسهم الخاصة
16
وفي كتبهم وتآليفهم؛ لنوجز هنا أهم مفاخر كل من البلدين .
فخر الكوفيون بأن جنودهم في الحروب الأولى مع الفرس كان لهم الحظ الأوفر، حتى كانت لهم اليد الطولى في إخراج كسرى من بلاده وإباحة ملكه، وأنهم ناصروا علي بن أبي طالب يوم الجمل، وكان معه من الكوفيين تسعة آلاف رجل، وأن الكوفة أنجبت ممن نزل بها من تميم محمد عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة، والنعمان بن مقرن الصحابي الجليل، وقائد جيوش المسلمين في عهد عمر بن الخطاب، وشبث بن ربعي التميمي، قائد أهل البصرة مع مصعب بن الزبير لقتال المختار إلى كثير غيرهم؛ وفخروا بأن علي بن أبي طالب أقام بين أظهرهم، وعبد الله ابن مسعود كان مؤذنهم ومعلمهم، وشريحا كان قاضيهم، وأن نحوا من سبعين صحابيا نزلوا بينهم، وأن من علمائها وصلحائها أويسا القرني، والربيع ابن خيثم، والأسود بن يزيد وعلقمة، ومسروقا، وسعيد بن جبير، وكلهم من سادة التابعين، والحافظ الفقيه المحدث وأعرف الناس بالمغازي وأيام العرب والفرائض والغريب والشعر، وهو عامر بن شراحيل الشعبي؛ وكان بالكوفة فرسان العرب الأربعة: عمرو بن معديكرب، والعباس بن مرداس، وطليحة بن خويلد، وأبو محجن الثقفي؛ وأن الكوفيين كانوا جند سعد بن أبي وقاص يوم القادسية، وأصحاب الجمل وصفين، ونهاوند؛ ومنهم الأشتر النخعي، وعروة بن زيد الطائي، وعبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث - وعيروا البصريين بأنهم قاتلوا عليا يوم الجمل، وأن البصرة من العراق بمنزلة المثانة من الجسد ينتهي إليها الماء بعد تغيره وفساده.
وفخر الكوفيين على البصريين أيضا بخصب الكوفة وحسن موقعها، فهم يقولون: «الكوفة سفلت عن الشام ووبائها، وارتفعت عن البصرة وعمقها، فهي مريئة مريعة، برية بحرية، إذا أتتنا الشمال هبت مسيرة شهر على مثل رضراض الكافور، وإذا هبت الجنوب جاءتنا بريح السواد وورده وياسمينه، وخيريه وأترجه، ماؤنا عذب، ومحتشنا خضب».
17
وقال الأحنف بن قيس (وهو بصري): «نزل أهل الكوفة في منازل كسرى بن هرمز بين الجنان الملتفة، والمياه الغزيرة، والأنهار المطردة؛ تأتيهم ثمارهم غضة لم تخضد ولم تفسد، ونزلنا أرضا هشاشة، في طرف فلاة وطرف ملح أجاج في سبخة نشاشة، لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها، يأتينا ما يأتينا في مثل مريء النعامة».
18
وفخر الكوفيون كذلك بمسجدها العظيم ومجاورتها النهر العظيم وهو الفرات.
وفخر البصريون بعظمائهم كالأحنف بن قيس (سيد تميم البصرة) والحكم بن الجارود (سيد عبد القيس البصرة) ومالك بن مسمع (سيد بكر البصرة) وقتيبة ابن مسلم (سيد قيس البصرة) وأن ليس نظراؤهم في الكوفة مثلهم في السؤدد، وفخروا بأنس بن مالك خادم رسول الله، وبالحسن البصري سيد التابعين، وابن سيرين؛ وعيروا الكوفيين بأنه ظهر بينهم المختار المتنبي فتبعوه حتى أتى البصريون فقتلوه في أصحابه، وبأنهم خذلوا الحسين بن علي حتى قتل.
وفخر البصريون بأنهم «أكثر أموالا وأولادا، وأطوع للسلطان، وأعرف برسول الإسلام».
كذلك من أهم مفاخر البصريين «المربد»، وله أثر كبير في حياتهم العقلية، وخاصة اللغوية - والمربد ضاحية من ضواحي البصرة، في الجهة الغربية منها مما يلي البادية، بينه وبين البصرة نحو ثلاثة أميال، أنشأه العرب على طرف البادية سوقا يقضون فيه شئونهم قبل أن يدخلوا الحضر أو يخرجوا منه - وقد كان المربد في الإسلام صورة معدلة لعكاظ في الجاهلية - كان مجتمع العرب من الأقطار يتناشدون فيه الأشعار ويبيعون ويشترون.
وكان في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين مركزا سياسيا وأدبيا، نزلت فيه عائشة أم المؤمنين بعد مقتل عثمان تطالب بدمه وتؤلب الناس على علي؛ وكان المربد مركزا للمهاجاة بين جرير والفرزدق والأخطل، وأنتج ذلك نوعا من أقوى الشعر الهجائي، كالذي نقرؤه في النقائض، وكان لكل من هؤلاء الشعراء حلقة ينشد فيها شعره، وحوله الناس يسمعون. جاء في الأغاني: «وكان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة».
19
واستمر المربد في العصر العباسي، ولكنه كان يؤدي غرضا آخر غير الذي كان يؤديه في العهد الأموي؛ ذلك أن العصبية القبلية ضعفت في العصر العباسي بمهاجمة الفرس للعرب، وأحس العرب بما هم فيه جميعا من خطر من حيث هم أمة لا فرق بين عدنانيهم وقحطانيهم، ولكنهم لم يستطيعوا المقاومة؛ فقوي نفوذ الفرس وغلبوا العرب على أمرهم، وبدأ الناس في المدن كالبصرة يحيون حياة اجتماعية هي أقرب إلى حياة الفرس منها إلى حياة العرب، وانصرف الخلفاء والأمراء عن مثل النزاع الذي كان يتنازعه جرير والفرزدق والأخطل، وظهرت العلوم تزاحم الأدب والشعر، وفشا اللحن بين الموالي الذين دخلوا في الإسلام، وفسدوا حتى على العرب الخالصة لغتهم، فتحول المربد يؤدي غرضا يتفق وهذه الحياة الجديدة.
أصبح المربد غرضا يقصده الشعراء لا يتهاجوا، ولكن ليأخذوا عن أعراب المربد الملكة الشعرية، يحتذونهم ويسيرون على منوالهم، فيخرج إلى المربد بشار وأبو نواس وأمثالهما، ويخرج إلى المربد اللغويون يأخذون عن أهله ويدونون ما يسمعون؛ روى القالي في الأمالي عن الأصمعي قال: «جئت إلى أبي عمرو بن العلاء فقال لي: من أين أقبلت يا أصمعي؟ قلت: جئت من المربد؛ قال: هات ما معك، فقرأت عليه ما كتبت في ألواحي، فمرت به ستة أحرف لم يعرفها، فخرج يعدو في الدرجة وقال: «شمرت في الغريب» أي غلبتني».
20
والنحويون يخرجون إلى المربد يسمعون من أهله ما يصحح قواعدهم ويؤيد مذاهبهم، فقد اشتد الخلف بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة في النحو وتعصب كل لمذهبه، وكان أهم مدد لمدرسة البصرة هو المربد؛ وفي تراجم النحاة نجد كثيرا منهم كان يذهب إلى المربد يأخذ عن أهله، ويخرج الأدباء إلى المربد يأخذون الأدب، من جمل بليغة وشعر رصين وأمثال حكم، مما خلفه عرب البادية وتوارثوه عن آبائهم، كما فعل الجاحظ؛ يقول ياقوت: إن الجاحظ أخذ النحو عن الأخفش، وأخذ الكلام عن النظام، وتلقف الفصاحة من العرب شفاها بالمربد.
21
ثم جاءت بغداد ففخرت على البصرة والكوفة معا، قالوا: «إنها وسط الدنيا وسرة الأرض، والمدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها، سعة وكبرا وعمارة، سكنها أصناف الناس، وانتقلوا إليها من جميع البلدان.. وهي مدينة بني هاشم، ودار ملكهم ومحل سلطانهم، وباعتدال هوائها وعذوبة مائها حسنت أخلاق أهلها، ونضرت وجوههم، وأنفتقت أذهانهم، حتى فضلوا الناس في العلم والفهم والأدب والنظير والتمييز ... فليس عالم أعلم من عالمهم ولا أروى من راويتهم، ولا أجدل من متكلمهم، ولا أعرب من نحوييهم، ولا أصح من قارئهم، ولا أمهر من متطببهم، ولا أحذق من مغنيهم، ولا ألطف من صانعهم»،
22
وقد كثر علماؤها والراحلون إليها حتى ألف الخطيب البغدادي كتابه «تاريخ بغداد» ضمنه من تراجم علمائها وزهادها وأدبائها نحو من 7831 ترجمة، ويقول الجاحظ في بغداد على لسان بعض الجند: «إن الدنيا كلها معلقة بها وصائرة إلى معناها ... وجميع الدنيا تبع لها، وكذلك أهلها لأهلها، وفتاكها لفتاكها، وخلاعها لخلاعها، ورؤساؤها لرؤسائها، وصلحاؤها لصلحائها».
23 •••
ومن هذا كله نلمح ظاهرة جديدة، وهي العصبية للقطر ثم للبلد، فالعراقيون يتعصبون للعراق على الحجاز، والحجازيون يتعصبون للحجاز على العراق؛ ثم في القطر الواحد يتعصب الكوفيون للكوفة على البصرة، والبصريون للبصرة على الكوفة، والبغداديون لبغداد على البصرة والكوفة وغيرهما ونحو ذلك، ونرى أن هذا النوع من العصبية أخذ يقوى ويزداد في العصر العباسي، ويحل محل العصبية القبلية التي كانت عماد العيشة العربية، والظاهر أنهم تأثروا في ذلك بالفرس؛ لأنا نعلم من تاريخهم أنهم قليلو العناية بالعصبية القبلية، شديدو العناية بالعصبية البلدية، كما نقلنا ذلك قبل؛ فقد كان الخراساني يتعصب لخراسان، والسجستاني لسجستان، والدينوري لدينور وهكذا. وغلبت هذا النزعة في العصر العباسي حتى على العرب؛ لضعف شأنهم وغلبة الفرس عليهم من الناحية الاجتماعية - وقد رأينا أن أثر ذلك انتقل إلى العلم؛ فالفقه العراقي يقف أمام الفقه الحجازي، ولكل متعصبون، ولكل لون، ومدرسة البصرة في النحو تناهض مدرسة الكوفة فيه، ولكل متعصبون؛ ثم تظهر في النحو مدرسة بغدادية، لها طابعها الخاص، ولها لونها، ولها متعصبوها؛ ويظهر نزاع بين رجال الاعتزال البصريين ورجال الاعتزال البغداديين، ولكل مذهب في الجوهر الفرد ونحوه، ولكل أنصار؛ وهكذا في فروع العلم المختلفة، مما سنعرض له في إيضاح عند الكلام في العلوم تفصيلا إن شاء الله.
وهذه العصبية حملت على وضع الأخبار في مزايا البلاد وعيوبها، وأثرت الأقوال المتناقضة بعضها يذم المصر وبعضها يمدحه، وبعض هذه الأخبار صحيح وبعضها مكذوب، وبعضها يتناول الأخلاق، وبعضها يتناول العلم، وبعضها وضع على سبيل الحقيقة، وبعضها على سبيل الرواية والتمثيل - وهذه الأقوال بعضها وضع على أثر ما كان بين الشاميين والعراقيين من قتال، فقد انحاز الشاميون إلى معاوية، والعراقيون إلى علي؛ فتراموا بالأقوال كما تراموا بالسهام، وبعضها قيل على أثر النزاع العلمي بين الشاميين والعراقيين وغيرهم، ولنسق لك بعض أمثلة على ذلك:
فمن ذلك ما روي عن علي أنه قال لأهل العراق: «والله لوددت أن أصرفكم صرف الدينار بالدراهم، عشرة منكم برجل من أهل الشام»، وذلك لما رأى من اجتماع الشاميين على معاوية واختلاف العراقيين على علي. ومثل ما قيل: «إذا كان علم الرجل حجازيا، وخلقه عراقيا، وطاعته شامية فناهيك به فإنه قد كمل» وقالوا: «إن الله خلق أربعة أشياء وأردفها أربعة، خلق الجدب وأردفه الزهد وأسكنه الحجاز؛ وخلق العفة وأردفها الغفلة وأسكنها اليمن؛ وخلق الريف وأردفه الطاعون وأسكنه الشام؛ وخلق الفجور وأردفه الدرهم وأسكنه العراق» وروى الجاحظ: «قال الدين أسكن الحرمين، قالت الأمانة وأنا معك؛ وقال الغنى واليسار أسكن مصر، قال الذل وأنا معك؛ وقال السخاء أسكن الشام، قالت الشجاعة وأنا معك؛ وقال العقل أسكن العراق، قالت المروءة وأنا معك؛ وقالت التجارة أسكن الخوزستان وأصبهان، قالت النذالة وأنا معك؛ وقال الجفاء أسكن المغرب، قال الجهل وأنا معك؛ وقال الفقر أسكن اليمن، قالت القناعة وأنا معك».
ومن الناحية العلمية قالوا: «من أراد المناسك فعليه بأهل مكة، ومن أراد مواقيت الصلاة فعليه بأهل المدينة، ومن أراد السير فعليه بأهل الشام، ومن أراد شيئا لا يعرف حقه من باطله فعليه بأهل العراق». وقيل لمحدث: أي الحديث أصح؟ قال حديث أهل الحجاز. قيل ثم من؟ قال: حديث أهل البصرة. قيل ثم من؟ قال: أهل الكوفة. قيل ثم من؟ فنفض يده - وتنابزوا فعير أهل المدينة بالسماع والقيان، وأهل مكة بالمتعة، وأهل العراق بالنبيذ، وأهل الشام بالطلا،
24
إلى كثير من أمثال هذا؛ وكلها تدل على أمرين: (1)
فحص الناس لخصائص كل بلدة من مزايا وعيوب علمية وخلقية. (2)
عصبية كل قوم لبلادهم ودفع السوء عنها ورميهم به لغيرهم.
مصر:
25
كانت في مصر حركة دينية واسعة النطاق، مركزها جامع عمرو بالفسطاط، وكانت نواة هذه الحركة الصحابة الذين جاءوا لفتح مصر وبعده استوطنوا، وقد أفردهم بعضهم بالتأليف كما فعل محمد بن الربيع الجيزي، فقد ألف كتابا فيمن دخل مصر من الصحابة، عد فيه مائة ونيفا وأربعين صحابيا، وأورد فيه أحاديثهم، وقد عقب عليه بعضهم فاستدركوا ما فاته منهم؛
26
ومن أشهر هؤلاء الصحابة أبو ذر والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص؛ وكان هؤلاء الصحابة يحملون الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
منهم من يحمل الحديث الواحد، ومنهم من، يحمل الحديثين، ومنهم من يحمل أكثر - وبعض الأحاديث لم تكن تعرف إلا عنهم، كالذي روي «أن جابر بن عبد الله الأنصاري سمع وهو بالمدينة أن عقبة بن عامر الجهني
27
عنده حديث في القصاص، فخرج إلى السوق فاشترى بعيرا ثم شد عليه رحله، وسار شهرا حتى وصل إلى مصر، ولقي حامل الحديث، فقال له: ما الذي جاء بك؟ قال: حديث تحدث به عن رسول الله في القصاص لم يبق أحد يحدث به عن رسول الله غيرك، أردت أن أسمعه منك قبل أن تموت أو أموت». وقد تلقى عن هؤلاء الصحابة حديثهم كثير من التابعين؛ وهكذا تكونت مدرسة أول أساتذتها الصحابة، فأخذ عنهم التابعون، وأخذ عن التابعين تابعوهم؛ وقد عد هؤلاء الصحابة مصريين لنزولهم في مصر واستيطانها، ولذلك يلقبهم المحدثون بالمصريين؛ وقد أخذت أحاديث هؤلاء المصريين من الصحابة والتابعين، ووردت في كتب الحديث الستة المشهورة. وهذه المدرسة بدأت ساذجة بسيطة، يسمع أحدهم الحديث فيحفظه أو يكتبه، ثم نمت بالتدريج فتخصص قوم للعلم يتدارسونه، ويدرسون القرآن ويدرسون الحديث ويستنبطون منهما الأحكام - ونبغ من هذه المدرسة المصرية جماعة كبيرة من العلماء المجتهدين، من أولهم وأشهرهم سليم بن عتر التجيبي، كان من التابعين «وهو أول،من قص بمصر سنة 39ه، وولاه معاوية القضاء سنة 40 فأقام قاضيا عشرين سنة، وهو أول من أسجل بمصر سجلا في المواريث؛ مات بدمياط سنة 75»،
28
وكان يقال له: «عالم مصر وقاضيها».
29
تولى القصص فكان يعظ الناس ويذكرهم، وتولى القضاء فكان له أحكام مأثورة،
30
كما كان له أثر في تنظيم القضاء من حيث التسجيل كما رأيت؛ وعلى الجملة فقد كان من شخصيات مصر البارزة في أيامها الإسلامية الأولى، شهد فتح مصر، واستخلف على خراج مصر في عهد عثمان، وولي القضاء لمعاوية؛ فكان فيه كفايتان؛ كفاية علمية في قصصه وأحكامه، وكفاية إدارية في تنظيم الخراج والقضاء.
كذلك كان من مشهوري مدرسة مصر عبد الرحمن بن حجيرة أبو عبد الله الخولاني، ولي القضاء لعبد العزيز بن مروان، وجمع إليه القضاء والقصص وبيت المال، وأثرت عنه أحكام كثيرة في مسائل مشكلة،
31
وقد ولي القضاء اثنتي عشرة سنة، وتوفي سنة 83ه؛ وقد روى له مسلم في صحيحه ووثقه النسائي.
وجاء مصر نافع مولى ابن عمر وحامل علمه وفقيه الحجاز وشيخ مالك، أرسله عمر بن عبد العزيز إلى مصر يعلمهم السنن فأقام فيهم مدة.
32
ومن الشخصيات القوية في تاريخ مصر العلمي يزيد بن أبي حبيب الأزدي بالولاء، كان عالم مصر في عصره قال فيه الليث بن سعد: يزيد عالمنا وسيدنا؛ وهو أحد ثلاثة عهد إليهم عمر بن عبد العزيز بالفتيا في مصر، جمع ناحيتين كبيرتين من نواحي العلم: إحداهما الناحية التاريخية، فيروى عنه الكثير في فتوح مصر وفتنها وحروبها؛ والثانية الناحية الفقهية، فكان واسع العلم في الحلال والحرام، حتى قيل فيه: «إنه أول من أظهر العلم بمصر والمسائل في الحلال والحرام؛ وقبل ذلك كانوا يتحدثون في الترغيب والملاحم والفتن».
33
ففي هذا النص دليل على أنه لون مدرسة مصر بلون جديد هو لون التشريع، وكان قبل ذلك لها لون القصص والوعظ، وهو الذي عبروا عنه بالترغيب، ولون التاريخ، وهو الذي عبروا عنه بالملاحم والفتن - وواضح أنه لم يخلق هذا اللون خلقا، وإنما قواه وأزهاه، توفي سنة 128، وله الفضل في تكوين رجلين عظيمين في تاريخ مصر العلمي: أحدهما عبد الله بن لهيعة، والآخر الليث بن سعد، وهما من أعلام المدرسة المصرية في العصر العباسي.
فأما ابن لهيعة فعربي حضرمي (من حضرموت)، كان كثير الحديث، كثير الأخبار، كثير الرواية ، متشيعا، لم يثق به بعض المحدثين؛ وقد ولي قضاء مصر نحو عشر سنين لأبي جعفر المنصور من سنة 155 لسنة 164. وقد روي عنه الكثير من أخبار مصر وفتحها وأحداثها ورجالها؛ قال الذهبي: «كان ابن لهيعة من الكتابين للحديث والجماعين للعلم والرحالين فيه؛ ولقد حدثني «شكر» أخبرنا يوسف بن مسلم عن بشر بن المنذر قال: كان ابن لهيعة يكنى أبا خريطة، وذاك أنه كانت له خريطة معلقة في عنقه، فكان يدور بمصر، فكلما قدم قوم كان يدور عليهم، فكان إذا رأى شيخا سأله: من لقيت؟ وعمن كتبت؟»؛
34
توفي سنة174.
وأما الليث بن سعد فأصله من أصبهان بفارس، نزح أهله إلى مصر، وهو مولى لفهم؛
35
وقد ولد في قرية مصرية سنة 94 اسمها قلقشندة (من قرى القليوبية)، وتعلم على شيوخ مصر، أشهرهم يزيد بن أبي حبيب، ثم رحل إلى الحجاز وسمع شيوخها، أمثال عطاء بن أبي رباح، ونافع مولى ابن عمر، وهشام بن عروة، ثم رحل إلى العراق وسمع من علمائه - وكان غنيا سريا سخيا، كانت له أملاك واسعة في الجيزة، قيل إن دخله في العام كان خمسة آلاف دينار، وكان كثير الصلات للعلماء وذوي الحاجات، يرحل من الإسكندرية في ثلاث سفائن: سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه؛ يصل المحدثين والفقهاء، فيهدي إلى مالك بالحجاز المرة بعد المرة، ويقول لمالك مرة في آخر كتابه: «ولا تترك الكتاب إلي بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك، وحاجة إن كانت لك أو لأحد يوصل لك، فإني أسر بذلك - كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليك ورحمة الله».
36
وكتب إليه مالك مرة أن عليه دينا، فبعث له بخمسمائة دينار. واحترقت دار ابن لهيعة مرة فوصله بألف دينار - وهكذا كان كثير العطاء حتى ليروون أنه قال: (ما وجبت علي زكاة قط منذ بلغت) مع كثرة دخله كما رأيت.
وناحيته العلمية كناحيته المالية غزيرة فياضة، قال يحيى بن بكير: ما رأيت فيمن رأيت مثل الليث، وما رأيت أكمل منه، كان فقيه البلد، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، والحديث والشعر والمذاكرة؛ إلى أن عد خمس عشرة خصلة.
37
والمحدثون يثقون بحديثه كل الثقة، روت عنه كل الكتب الستة الصحيحة؛ وقال فيه أحمد بن حنبل: «ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث ... ما أصح حديثه».
وقدرته الفقهية قدرة فائقة، فهو يقرن بمالك، بل يقول الشافعي: «الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به. وفي رواية ضيعه قومه، وفي أخرى ضيعه أصحابه». وفي الواقع لو تعصب المصريون لمن نبغ منهم لاحتفظوا بمذهبه، ولكانوا أتباعه، ولكن «زامر الحي لا يطرب» و» أزهد في عالم أهله»؛ وكان مما أعان على ذلك أنه لم يدون مذهبه في كتب، ولم يرزق بأصحاب كما كان أبو يوسف ومحمد لأبي حنيفة، والبويطي والمزني والربيع للشافعي؛ فضاع مذهبه. وقد بقي لنا من آثاره رسالة صغيرة، بعث بها إلى مالك يناقشه فيها في رأيه في العمل بإجماع أهل المدينة، ويناقشه في بعض آرائه مناقشة بديعة قوية هادئة، فيقول له: «ومن ذلك أنك تذكر أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يعط الزبير بن العوام إلا لفرس واحد، والناس كلهم يحدثون أنه أعطاه أربعة أسهم لفرسين، ومنعه الفرس الثالث، والأمة كلهم على هذا الحديث: أهل الشام وأهل مصر وأهل العراق وأهل أفريقية، لا يختلف فيه اثنان، فلم يكن ينبغي لك - وإن كنت سمعته من رجل مرضي - أن تخالف الأمة أجمعين».
طلبه المنصور للقضاء فأبى وقال: «إني أضعف من ذلك، إني رجل من الموالي؛ قال المنصور: ما بك ضعف معي، إلا ضعف بدنك، أتريد قوة أقوى مني؟ فأما إذا أبيت فدلني على رجل». ولم يعذبه المنصور على إبائه كما فعل بمالك وأبي حنيفة - وهذا يؤيد ما نرى من أن تعذيبهما لم يكن لامتناعهما عن القضاء فحسب، بل لاتهامهما بالعلوية، واستنتاج المنصور من إبائهما أنهما لا يريان معاونة دولته - كما سيأتي - ولم ير ذلك في الليث.
وكان له المنزلة الكبرى عند الأمراء يستشيرونه في مهام الأمور . قال في النجوم الزاهرة: «كان الليث كبير الديار المصرية ورئيسها، وأمير من بها في عصره، بحيث إن القاضي والنائب من تحت إمرته ومشورته، وكان الشافعي يتأسف على فوات لقيه».
38
وقد كتب بعض من غاظه ذلك إلى المنصور:
أمير المؤمنين تلاف مصرا
فإن أميرها ليث بن سعد
ولما حضرت الوفاة أمير مصر الوليد بن رفاعة قال في وصيته : «أسندت وصيتي لعبد الرحمن بن خالد بن مسافر وإلى الليث بن سعد، وليس لعبد الرحمن أن يفتات على الليث فإن له نصحا ورأيا».
ويؤثر عنه أنه لقي هارون الرشيد في العراق فسأله الرشيد: «ما صلاح بلادكم؟ قال: يا أمير المؤمنين، صلاح بلادنا إجراء النيل، وصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتي الكدر، فإذا صفا رأس العين صفت العين».
39
وقال أشهب بن عبد العزيز: «كان لليث أربع مجالس كل يوم: مجلس لحوائج السلطان (يريد ما يستشيره فيه الأمير من أمور الدولة)، ومجلس لأصحاب الحديث، ومجلس لأصحاب المسائل (يريد الفتوى في الحلال والحرام)، ومجلس لحوائج الناس». وله فضل كبير على تاريخ مصر، فتروى عنه الأخبار الكثيرة في فتح مصر ورجالها وشئونها. وعلى الجملة فكان رجل مصر في علمه ونبله وفضله؛ مات سنة 175، فقال من شهد جنازته: «رأيت الناس كلهم عليهم الحزن، يعزي بعضهم بعضا، فقلت لأبي: يا أبت كأن كل واحد من هؤلاء صاحب الجنازة! فقال لي: يا بني كان عالما كريما، حسن العقل، كثير الأفضل؛ يا بني لا ترى مثله أبدا». •••
ولما تكون مذهب أبي حنيفة ومالك، وانحاز كل فريق إلى مذهب، انقسم العلماء في مصر؛ وتولى القضاء بها إسماعيل بن اليسع الكندي سنة 164. وكان أول قاض بمصر قضى بمذهب أبي حنيفة، فلم يرض عنه أهل مصر ومنهم الليث، سيما أنه كان يرى رأي أبي حنيفة في بطلان الوقف، وكان الليث يرى صحة الأوقاف، فكتب الليث إلى المهدي فعزله.
40
واعتنق بعض العلماء في مصر مذهب أبي حنيفة، ثم ظهر عبد الله بن وهب، وكان قد رحل إلى مالك في المدينة وصحبة حتى مات مالك، وعاد إلى مصر فنشر فقه مالك، وتبعه كثيرون على هذا المذهب، مثل عبد الرحمن بن القاسم وأشهب بن عبد العزيز، وقد انتهت إليهما رياسة الفقه على مذهب مالك في مصر؛ وكان بين هؤلاء المالكية والحنفية خصام ونزاع في التشريع ومسائل الفقه، حتى جاء الشافعي وأقام في مصر نحو خمس سنوات يحرر مذهبه ويمليه على تلاميذه المصريين كالبويطي والمزني والربيع المرادي؛ وكون له حلقة علمية نشيطة كان من نتاجها كتاب الأم، ومختصر المزني، ومختصر البويطي، ومال إليه كثير من المصريين لعربيته وقرشيته، وفصاحته وقوة حجته؛ ونشر هو وتلاميذه مذهبه على الرغم من عداء بعض المالكيين له ولهم. ولكن ظل في مصر فقهاء حنفية ومالكية بجانب الشافعية، فاشتدت الخصومة بين بعضهم وبعض، وقد أدت الخصومة أحيانا إلى الشر وإلى الإيقاع، كما فعل محمد ابن أبي الليث قاضي مصر من سنة 226 إلى سنة 230؛ فقد كان حنفيا وانتهز محنة خلق القرآن، فأوقع بأصحاب مالك والشافعي، ومنع فقهاءهم من الجلوس في المسجد.
41
وقال شاعر مصر إذ ذاك الحسين بن عبد السلام الجمل يخاطبه:
وليت حكم المسلمين فلم تكن
برم اللقاء ولا بفظ أزور
ولقد بجست العلم في طلابه
وفجرت منه ينابعا لم تفجر
فحميت قول أبي حنيفة بالهدى
ومحمد واليوسفي الأذكر
وحطمت قول الشافعي وصحبه
ومقاله ابن علية لم تصحر
والمالكية بعد ذكر شائع
أخملتها فكأنها لم تذكر
إلخ
وأحيانا كانت هذه الخصومة سببا من أسباب رقي الفقه، كما سيأتي تفصيل ذلك عند الكلام في التشريع إن شاء الله.
وعلى الجملة كانت في مصر حركة كبيرة دينية، تدرس القرآن والحديث والفقه والقراءات، وتعني بالقصص وما يتضمن من ترغيب وترهيب، وكان مركزها مسجد عمرو بالفسطاط. ونرى أن بعض المصريين الصميمين ممن دخلوا في الإسلام تأثر بهذه الحركة تأثرا كبيرا؛ فنرى عثمان بن سعيد المصري المعروف بورش من أصل قبطي، وهو مولى آل الزبير بن العوام، اشتهر بإحدى القراءات المنسوبة إليه؛ «وانتهت إليه رياسة الإقراء بالديار المصرية في زمانه، وكان ماهرا في العربية؛ مات بمصر سنة 197»
42
ونرى بعده ذا النون المصري الأخميمي النوبي الأصل، وهو أحد رءوس الصوفية ومؤسسها في الديار المصرية - كما سيأتي - توفي سنة 245 وقد قارب التسعين.
ولا يفوتنا أن نذكر أن هذه الحركة الدينية كانت تشتمل - فيما تشتمل عليه - على كثير من تاريخ مصر وأخبارها؛ لأن تاريخ مصر كغيره من التاريخ الإسلامي، بدأ في شكل حديث، كما أن الذي بدأ به هم المحدثون؛ فإذا قرأنا في خطط المقريزي أو النجوم الزاهرة أو الكندي في ولاة مصر وقضاتها رأينا كثيرا من أخبار مصر رواها يزيد بن أبي حبيب وابن لهيعة والليث بن سعد وغيرهم من المحدثين المصريين، وكانت الأخبار عن مصر جزءا من حديثهم؛ ثم كانت الخطوة الثانية وهي تجريد الأخبار المتعلقة بمصر وإفرادها بالتأليف، كما فعل عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم في كتاب فتوح مصر، وكما فعل محمد بن الربيع الجيزي في ذكر من دخل مصر من الصحابة؛ واقتفى غيرهما أثرهما.
وكان من أعلام مصر في التاريخ والنحو والأنساب أبو محمد بن عبد الملك بن هشام، صاحب السيرة المنسوبة إليه، والتي لخصها من سيرة ابن إسحق، وهو من أصل يمني، نشأ في البصرة، وقدم مصر، وأقام بها إلى أن توفي سنة 213ه. وقد تأثر كتابه «السيرة» بمصر، فنراه يروي أحيانا عن علمائها فيقول: «حدثنا عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، عن عمر مولى غفرة، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: الله الله في أهل الذمة أهل المدرة السواد السحم الجعاد فإن لهم نسبا وصهرا. قال عمر مولى غفرة: نسبهم أن أم إسماعيل منهم، وصهرهم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تسرر فيهم؛ قال ابن لهيعة: أم إسماعيل هاجر من «أم العرب» قرية كانت التي أمام الفرما من مصر، وأم إبراهيم مارية سرية النبي
صلى الله عليه وسلم
أهداها له المقوقس من حفن من كورة أنصبا» إلخ.
43
فهو في هذا وأمثاله يروي عن علماء مصر أمثال عبد الله بن وهب، وابن لهيعة. وفي الواقع كانت هذه الحركة العلمية الدينية تكاد تكون منحصرة في الفسطاط والإسكندرية. يقول المقريزي: «إن الديار المصرية لما افتتحها المسلمون كانت خاصة بالقبط والروم، ومشحونة بهم، ونزل الصحابة (رضى الله عنهم) من أرض مصر في وضع الفسطاط - الذي يعرف الآن بمدينة مصر - وبالإسكندرية، وتركوا سائر قرى مصر بأيدي القبط، ولم يسكن أحد من المسلمين بالقرى، وإنما كانت رابطة تخرج إلى الصعيد، حتى إذا جاء أوان الربيع انتشر الأتباع في القرى لرعي الدواب ومعهم طوائف من السادات ... ولم ينتشر (المسلمون) بالنواحي إلا بعد عصر الصحابة والتابعين ... ولم يؤسسوا في القرى والنواحي مساجد ... فلما أوقع المأمون بالقبط بعد ثورتهم (سنة 216) غلب المسلمون على أماكنهم من القرى»
44
إلخ ... فيصح أن نستنتج من هذا أن الحركة العلمية الدينية كانت بطبيعة الحال في الفسطاط ثم الإسكندرية وحدهما تقريبا إلى عهد المأمون. •••
وكان بجانب هذه الحركة الدينية حركة أخرى أدبية عربية، لا بأس أن نلم بها إلماما، وإن خرجت عن دائرتنا التي رسمناها، عمادها هؤلاء العرب الذين جاءوا مصر عند الفتح وبعدها، وأثرت عنهم أقوال بليغة، من مثل كلمات عمرو بن العاص وكتبه وخطبه، وخطب عتبة بن أبي سفيان وغيرهما؛ وكان إذا جاء الربيع تفرق العرب في البلدان، فيذهب آل عمرو بن العاص وآل عبد الله بن سعد إلى منوف ووسيم، وكانت هذيل تذهب إلى ببا وبوصير، وتذهب عدوان إلى بوصير، وكانت «فهم» تذهب إلى إتريب وعين شمس ومنوف إلخ؛
45
وكان هؤلاء ينشرون لغتهم حيث أقاموا مدة ربيعهم - أضف إلى ذلك أن الثقافة الدينية كانت تحمل في ثناياها ثقافة لغوية وأدبية، فالقرآن والحديث يحملان إلى ناحيتهما الدينية ناحية أخرى لغوية بلاغية؛ كما أن وجود مصر تحت حكم العرب جعل كثيرا من مشهوري الشعراء يفدون على مصر، خصوصا في عهد عبد العزيز بن مروان، فقد وفد عليه جميل بثينة الشاعر العذري المشهور ومات بمصر، وكذلك كثير عزة ونصيب، وعبد الله بن قيس الرقيات، وأيمن بن خريم؛ وجاء مصر في العهد العباسي أبو نواس وفد على ابن الخصيب، ثم أبو تمام وقد نشأ بمصر يسقي الماء في جامع عمرو، ويجالس الأدباء ويأخذ عنهم حتى قال الشعر فأجاد.
وقد كان لهؤلاء وأمثالهم أثر في وجود الشعر في مصر، ولكنا لا نجد شاعرا مصريا ممتازا، وما روي لنا من الشعر المصري في العهد الأموي والعصر العباسي الأول أبيات قصيرة في هجو الولاة أو القضاة أو نحوهم، وأغلب قائليها من قبائل عربية استوطنت مصر - وقد اشتهر منهم في العصر العباسي سعيد بن عفير، وهو عربي الأصل، له شعر قوي عليه مسحة عربية خالصة، روى الكندي في كتابه الولاة والقضاة بعض شعره؛ ومنهم المعلي الطائي كان في مصر مدة هارون الرشيد
46
وله الشعر المشهور:
لولا بنيات كزغب القطا
جمعن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع
في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
إن هبت الريح على بعضهم
أشفقت العين من الغمض
47
واشتهر في هذا العصر وبعده الحسين بن عبد السلام الجمل، وقد كان تلميذا للشافعي، وأدرك الدولة الطولونية؛ ومات سنة 258.
ولم يزهر الشعر المصري إلا بعد استقلالها في العهد الطولوني.
إلى جانب هذا كله كانت هناك ناحية علمية هي امتداد مدرسة الإسكندرية قبل الفتح، هي حركة لاهوتية طبية فلسفية معا، كانت تعني اللغة السريانية ويجيدها العلماء قراءة وكتابة كإخوانهم في الشام والعراق.
وقد بقيت هذه الحركة مدة العهد الأموي - كما سبق - واستمرت إلى العهد العباسي، فيحدثنا ابن أبي أصيبعة عن «بليطيان» أنه كان طبيبا مشهورا بالديار المصرية عالما بشريعة النصارى الملكية، وكان بطريرك الإسكندرية، عاش في مصر أيام المنصور والرشيد، وقد دعاه الرشيد إلى بغداد لمعالجة جارية له مصرية فشفيت، وقد وهب الرشيد له مالا كثيرا، وكتب له منشورا برد الكنائس التي أخذها اليعقوبية إليه، ومات سنة 186
48
وقد أزهرت هذه الحركة في العهد الطولوني أيضا، كما سيأتي إن شاء الله.
وإذ كانت الحركة الإسلامية مقتصرة في الأغلب على مصر والإسكندرية كما أسلفنا، كانت ثقافة الشعب في القرى والبلدان على النمط القبطي قبل الفتح، حتى إذا أخمدت ثورة القبط وانتشر المسلمون في البلاد وتغلغلوا فيها عقب سنة 216ه حملوا معهم ثقافتهم الدينية واللسانية ونشروها في أنحاء القطر.
ثقافة دينية مختلفة الأنواع، وثقافة لسانية من نثر وشعر، وثقافة فلسفية لاهوتية طبية مما خلفته الإسكندرية؛ كل ذلك كان في مصر في ذلك العصر.
الشام:
كذلك كان في الشام حركة علمية دينية تتدارس القرآن وتروي الحديث، وتستنبط منهما الأحكام، وكانت نواتها العلماء من الصحابة الذين دخلوا الشام عند الفتح وبعدها ومركزها مسجد دمشق. ومن أشهرهم معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي، وكان من أعلم الصحابة بالحلال والحرام، كان قاضيا على الجند في اليمن يعلم الناس القرآن وشرائع الإسلام، ثم ذهب إلى الشام في خلافة عمر ومات في طاعون عمواس. عن أبي مسلم الخولاني قال: دخلت مسجد حمص فإذا فيه نحو من ثلاثين كهلا من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم ، وإذا فيهم شاب أكحل العينين براق الثنايا ساكت لا يتكلم، فإذا امترى القوم في شيء أقبلوا عليه فسألوه؛ فقلت لجليس لي من هذا؟ قال معاذ بن جبل.
49
ومثل أبي الدرداء الأنصاري الخزرجي أيضا، وكان يقرن بمعاذ بن جبل في العلم «كان عبد الله بن عمر يقول حدثونا عن العاقلين. قيل من هما؟ قال معاذ وأبو الدرداء»؛ وقد ولاه معاوية قضاء دمشق في خلافة عمر بن الخطاب، وقد مات في خلافة عثمان - كان يقسم القراء عشرة عشرة، ويجعل على كل عشرة رئيسا، فإذا انفتل من صلاة الغداة قرأ جزءا من القرآن وأصحابه (هم هؤلاء الرؤساء) محدقون به يسمعون ألفاظه، فإذا فرغ من قراءته جلس كل رجل منهم موضعه وأقرأ العشرة الذين عهد بهم إليه - وهو الذي سن الحلقات يقرأ فيها
50 - ومثل تميم الداري كان نصرانيا وقدم المدينة فأسلم. قال أبو نعيم: «كان راهب أهل عصره وعابد أهل فلسطين؛ وهو أول من أسرج السراج في المسجد»؛
51
وهو كذلك أول من قص. ويظهر أن ثقافته النصرانية قبل الإسلام كانت ثقافة واسعة، حتى عد ممن ينطبق عليهم قوله تعالى:
ومن عنده علم الكتاب
وهذه جعلته بعد الإسلام يحدث بروايات وقصص عن الجساسة والدجال وإبليس وملك الموت والجنة والنار
52
إلخ؛ وكان له أثر كبير من هذه الناحية في علم الشام بل في علم المسلمين عامة. وقد صحب النبي
صلى الله عليه وسلم
وغزا معه «ولم يزل بالمدينة حتى تحول إلى الشام بعد قتل عثمان بن عفان».
هذا إلى كثير غيرهم من علماء الصحابة نزلوا الشام وحدثوا به عن رسول الله، وعلموا الناس الأخبار وأحكام الحلال والحرام.
وجاءت بعدهم طبقة من التابعين أخذت عنهم علمهم، وزادت فيه باجتهادهم وفتاواهم، مثل عبد الرحمن بن غنم الأشعري، «وقد بعثه عمر بن الخطاب إلى الشام يفقه الناس، وكان قد لقي معاذ بن جبل وروى عنه».
53
وقد تفقه عليه كثير من التابعين بالشام.
ومثل أبي إدريس الخولاني، وقد أخذ كذلك عن معاوية وغيره من الصحابة، وكان قاضي أهل دمشق وقاصهم.
ومثل كعب الأحبار، وكان يهوديا فأسلم، ثم خرج إلى الشام وسكن حمص، وملأ الشام وغيرها من البلدان الإسلامية برواياته وقصصه المستمدة من الأخبار اليهودية، كما فعل تميم الداري في الأخبار النصرانية.
وجاءت بعد هؤلاء طبقة أخرى من أشهرهم مكحول الدمشقي، ورجاء ابن حيوة؛ فأما مكحول فأصله من السند ذهب إلى مصر وأخذ علمها، وإلى المدينة كذلك، وإلى الكوفة، وكان بلسانه لكنة سندية يبدل بعض الحروف بغيرها فيبدل الحاء هاء مثلا؛ وقد اشتهر بالعلم والفتيا، وعد إمام أهل الشام في عصره كما عد سعيد بن المسيب إمام أهل المدينة، والشعبي الكوفة، والحسن البصري البصرة؛ وقد روي عنه أنه كان يتكلم في القدر، ومن ثم ضعفه المحدثون في حديثه وروايته.
وأما رجاء بن حيوة فكان رجل الشام علما ونبلا وعقلا - كان مكحول إذا سئل عن مسألة بحضرته قال سلوا شيخنا وسيدنا، يعني رجاء، وكان صديق عمر بن عبد العزيز وعونه في مسلكه.
ومن هذه الطبقة عمر بن العزيز، وكانت له ناحية علمية قوية، فكان فقيها مجتهدا عالما بالسنة، يرجع إليه قضاة الأمصار في مشاكلها، ويحض علماء السنن على جمع الحديث ونشره وتعليمه.
ثم تركز علم الشام في الأوزاعي، كما تركز علم الحجاز في مالك، والعراق في أبي حنيفة، ومصر في الليث.
الأوزاعي:
هو عبد الرحمن بن عمرو، والأوزاع بطن من همدان فهو عربي
54
يمني، ولد سنة 88 ببعلبك - كما يقول ابن خلكان - وذهب إلى اليمامة وسمع من شيوخها، ورحل إلى مكة وأخذ العلم عن عطاء بن أبي رباح، وابن شهاب الزهري، ورحل إلى البصرة وسمع من شيوخها ، ثم نزل دمشق، ثم بيروت؛ ومات بها سنة 157.
وللأوزاعي نواح قوية في شخصيته، منها صلاحه وتقواه، وتمسكه بالحق أمام الخلفاء والأمراء، وجهره بالنصيحة لهم، وقد رويت له أخبار كثيرة في وعظ أبي جعفر المنصور وغيره - فيروون أنه لما دخل عبد الله بن علي السفاح الذي أجلى بني أمية عن الشام، وأزال الله دولتهم على يديه، طلب الأوزاعي فتغيب عنه ثلاثة أيام، ثم حضر بين يديه ... فقال له: يا أوزاعي ما ترى فيما صنعنا من إزالة أولئك الظلمة عن البلاد والعباد، أجهاد هو؟ قال الأوزاعي: سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري يقول، سمعت عمر بن الخطاب يقول، سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»؛ الحديث. فنكت بالخيزرانة ثم قال: يا أوزاعي ما تقول في دماء بني أمية؟ فقال الأوزاعي: قال رسول الله: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة»؛ فنكت بالخيزرانة أشد من ذلك ثم قال: ما تقول في أموالهم؟ فقال الأوزاعي: إن كانت في أيديهم حراما فهي حرام عليك أيضا، وإن كانت لهم حلالا فلا تحل لك إلا بطريق شرعي
55 - وقد اجتمع بالمنصور بالشام ووعظه، فلما أراد الأوزاعي الانصراف استأذن المنصور ألا يلبس السواد (وهو لباس الدولة)، فأذن له، ثم دس له من يسأله لم كره السواد؟ فقال الأوزاعي: «لأني لم أر محرما أحرم فيه، ولا ميتا كفن فيه، ولا عروسا جليت فيه؛ فلهذا أكرهه».
56
وقد رويت له مواقف في الوعظ في عيون الأخبار، والعقد الفريد.
وخرج قوم من أهل الذمة بجبل لبنان فشكوا عاملهم على الخراج، فقاتلهم صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، وأجلى قوما منهم عن لبنان، فاحتج على ذلك الأوزاعي، وكتب إلى صالح كتابا شديدا جاء فيه: «فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم، وحكم الله تعالى أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وهو أحق ما وقف عنده واقتدي به؛ وأحق الوصايا أن تحفظ وصية رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فإنه قال: «من ظلم معاهدا وكلفه فوق طاقته فأنا حجيجه».
57
كذلك عرف بالفصاحة في القول، والقوة في الكتابة، رووا أن كتبه «كانت ترد على المنصور فينظر فيها ويتأملها، ويتعجب من فصاحتها وعلو عباراتها»، وقالوا: «ما سمعت منه كلمة قط إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها».
وأخيرا ناحيته العلمية في الحديث والفقه وما إليها، فله مذهب في الفقه كمذهب مالك وأبي حنيفة، ويعد أميل إلى مدرسة الحديث منه إلى مدرسة الرأي، فقدنقلت عنه أقوال في ذم أهل العراق ورأيهم؛
58
ومن أقواله المأثورة التي تمثله: «العلم ما جاء عن أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم ، وما لم يجيء عنهم فليس بعلم»؛ «اصبر على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل ما قالوا، وكف عما كفوا، وليسعك ما وسعهم». وقال أبو حاتم: «الأوزاعي ثقة
متبع لما سمع » وكان يكره الكلام في القدر وصفات الله وما إلى ذلك، ويعده ابتداعا؛ وكان يعد من أول المؤلفين في الحديث كمالك في المدينة؛ ورويت عنه آراء فقهية، كقوله: إن الماء إذا لاقته نجاسة فلم يتغير لم يتنجس قل أو كثر، وإن أسفل الخف والحذاء إذا أصابته نجاسة فدلكها في الأرض حتى زالت عنه النجاسة أجزأه ذلك ويتاح الصلاة فيه إلخ.
وقد عمل أهل الشام بمذهبه حينا، وانتشر بالأندلس لرحلة الشاميين المعتنقين مذهبه إلى الأندلس، ثم حل محل الأوزاعي مذهب الشافعي في الشام، ومذهب مالك في الأندلس.
وعلى الجملة فقد كان الأوزاعي علم الشام علما وصلاحا؛ سئل أمية بن زيد أين الأوزعي من مكحول الدمشقي؟ قال: هو عندنا أرفع من مكحول «إنه قد جمع العبادة والعلم والقول الحق».
وكانت هذه الحركة الدينية في الشام مثلها في مصر، تحمل بين ثناياها كثيرا من فتوح الشام وتاريخه وأحداثه، حتى لقد شهر الشاميون بمعرفتهم للسير؛ وقد روى الشافعي في الأم كتاب سير الأوزاعي،
59
وهو يتضمن شرح النظام الحربي للمسلمين؛ وكانت هذه الأحاديث في الفتوح وما إليها نواة كتب تاريخ الشام كما هو الشأن في تاريخ مصر.
وظهر الكلام في القدر وصفات الله ونحو ذلك الشام، كما ظهر في البصرة، وكان زعيم هذا القول في الشام غيلان الدمشقي، فكان يقول بحرية الإرادة، وأن القدر لا يلجئ الإنسان إلى العمل؛ وقد أوجد بقوله حركة في الشام في هذا الموضوع، جعلت عمر بن عبد العزيز يدعوه ويناقشه، وأسلمت هذه الحركة إلى الاعتزال، واعتنقه بعض الخلفاء الأمويين الأخيرين، ثم كان منه ما سنبينه في الكلام على المعتزلة في العصر العباسي إن شاء الله.
وعلى الجملة فقد كانت الحركة الدينية وما إليها في الشام قوية واسعة. قال أبو عمرو الكلبي: «كان عند كل عمود من أعمدة جامع دمشق شيخ وعليه الناس يكتبون العلم». وقال الأوزاعي: «كانت الخلفاء بالشام، فإذا كانت الحادثة سألوا علماء أهل الشام وأهل المدينة، وكانت أحاديث العراق لا تجاوز جدر بيوتهم».
60 •••
وإلى هذه الحركة الدينية حركة أخرى أدبية نوتها أيضا العرب الذي نزلوا الشام، وهذه الحركة من نثر وشعر كانت في الشام أقوى منها في مصر، فبينا نحن نتلمس الشعراء في مصر في العهد الأموي التماسا، فقل أن نجد إلا من وفد على الأمراء من شعراء جزيرة العرب والشام؛ إذ نجد الشعراء في الشام كثيرا عددهم، غزيرا قولهم - وهذا يرجع إلى أسباب: أهمها أن الشام أقرب إلى جزيرة العرب من مصر فقصده كثيرا حتى في جاهليتهم، ونزلوا أطراف الشام وسكنوها، ووفد نوابغ الشعراء كالأعشى وحسان على الغساسنة في الشام، وقالوا فيهم الشعر الكثير، فالعرب عرفوا الشام في الجاهلية أكثر مما عرفوا مصر، والشاميون عرفوا العرب أكثر مما عرفهم المصريون - فلما جاء العهد الأموي كانت دمشق حاضرة الدولة الإسلامية، وكان الخلفاء الأمويون والأمراء الأمويون عربا خلصا في دمهم وفي ذوقهم، أحب شيء إليهم أن يتسامروا بأحاديث العرب وأيامهم وأخبارهم، وأن يسمعوا الشعر من شعرائهم وممن وفد عليهم، ثم كانت بالشام الأحزاب السياسية وشعراؤها، كل ينصر حزبه بالشعر - كل هذا جعل الزعامة الشعرية في العصر الأموي للشاميين أصلا أو موطنا أو وفادة، فالشام ساحة جرير والفرزدق والأخطل ومسكين الدارمي والأحوص والراعي والراجز العجلي إلخ.
حتى إذا جاء العصر العباسي تحولت زعامة الشعر من الشام إلى العراق تبعا لتحول الحاضرة من دمشق إلى بغداد، فكان بشار زعيم المحدثين، ومسلم بن الوليد، وأبو العتاهية، ومروان بن أبي حفصة، وأبو نواس، وغيرهم عراقيين لا يدانيهم في شعرهم في عصرهم شامي ولا مصري؛ لأن الشعر العربي في القالب الذي صب فيه من مديح ونحوه إنما يزهر حول القصور، ويتزعم حيث المال الوفير، والعطاء الكثير، ولم يكن للعراق في هذا الباب نظير.
ولكن يقول الثعالبي في يتيمة الدهر: «لم يزل شعراء عرب الشام وما يقاربها أشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها، في الجاهلية والإسلام، والكلام يطول في ذكر المتقدمين منهم، فأما المحدثون فخذ إليك منهم العتابي ومنصور النمري، والأشجع السلمي، ومحمد بن زرعة الدمشقي، وربيعة الرقي، على أن الطائيين (أبي تمام والبحتري) اللذين انتهت إليهما الرياسة في هذه الصناعة كفاية، وهما هما.. والسبب في تبريز القوم قديما وحديثا على من سواهم في الشعر قربهم من خطط العرب، ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط، ومداخلتهم إياهم».
61
وكل ما ذكر صحيح إلا في زعامة الشام للشعر في العصر العباسي، فقد دفعته إليه العصبية الشامية؛ فأين من ذكرهم من شعراء الشام، ممن ذكرناهم من شعراء العراق؟ أين منصور النمري من بشار وأين محمد بن زرعة الدمشقي من أبي نواس؟ إنما الحق ما قال بشار:
يسقط الطير حيث يلتقط الحب وتغشى منازل الكرماء
وما أكثر الحب - كان - في العراق على عهد العباسيين، وما أقله - كان - في الشام .
وليس السبب في رقي الشعر مقصورا على القرب من الحجاز والبعد عن العجم، فلم يكن لبشار الفارسي ولأبي نواس نصف الفارسي نظير في الحجازيين من حيث الشاعرية وتوليد المعاني وغزارتها، إنما سبب النبوغ في الشاعرية أمور؛ منها الاستعداد الطبيعي والخيال الشعري، نعم منها اللسان وطريقة الأداء، وهذا يأتي بالتعلم والمران، وهو إن تيسر وسهل بالقرب من الحجاز فليس يصعب أن يكون بالعراق وقريب منهم البادية، كما أن الشعر وخاصة هذا النمط الغربي يكثر ويغزر حيث الباعث، وهو إنما كان متوافرا في العراق.
كذلك الشأن في النثر الفني نشأ بالشام حول القصور وحول الدواوين، وكان زعيم ذلك عبد الحميد الكاتب، كاتب مروان بن محمد؛ فقد سلك في الكتابة نمطا جديدا، أسهب فيه واسترسل؛ ولكن الزعامة في النثر انتقلت إلى العراق، كما انتقل الشعر وكما انتقلت الحاضرة والدواوين، فتصدر للرياسة فيه عبد الله ابن المقفع، وعمرو بن مسعدة، والجاحظ وأمثالهم، وكلهم عراقي. •••
ثم كانت حركة لاهوتية طبية فلسفية، وهي بقايا ما خلفه اليونان والرومان من علم في هذه البلاد، وتولى رياسة هذا النوع من العلم النصارى السريانيون، وأحلوا اللغة السريانية محل اللغة اليونانية واللاتينية، وأنشأوا لذلك المدارس في حلب وقنسرين وغيرهما
62
واتصلوا بالخلفاء في دمشق من عهد معاوية بن أبي سفيان، وقد عد بن أبي أصيبعة كثيرا من أطبائهم وفلاسفتهم، ونبغ منهم مترجمون في العصر العباسي، ومن أشهرهم قسطاس لوقا البعلبكي، وعبد المسيح بن عبد الله الحمصي.
هذا إلى ما كان بالشام من مدارس فقهية لتعليم القانون الروماني، أشهرها مدرسة بيروت، تخرج فيها كثير من أهل الشام، وعلمت الناس طريقة التقاضي ونوع الأحكام، وكلها ذابت في المملكة الإسلامية بعد الفتح، وعرضت عاداتها وتقاليدها على الإسلام،قبل منها ماقبل، ورفض ما رفض. •••
وعلى الجملة كان النزاع بين الشام والعراق قديما، اشتد أيام علي ومعاوية، لما انحاز الشاميون إلى معاوية، والعراقيون إلى علي؛ فلما غلب معاوية غلبت الشام، وأخضعت العراق لحكمها، وظل كذلك الحال في عهد الأمويين، يرسلون إلى العراق أمثال الحجاج ينكل بهم ويسومهم الخسف، وكانت غلبة العلم والفن في الشام تابعة لغلبة السياسة، على الأمويين، أي غلبت العراق الشام، فأخذ العراقيون بثأرهم من الشاميين، ونكلوا بهم تنكيلا شديدا، واتهموهم بالميل السياسي عنهم أحيانا، وبالزندقة أحيانا كما فعلوا بصالح بن عبد القدوس وأمثاله، وكما فعل المهدي «بلغه وهو في حلب ذاهبا إلى غزو الروم أن في تلك الناحية زنادقة، فجمعهم وقتلهم وقطع كتبهم»؛
63
وارتكنوا على ذلك لقتلهم وتشريدهم، وطبيعي أن يتبع ذلك ضعف العلم والفن، وكذلك كان، فلم تعد للشام في العصر العباسي منزلتها العلمية والفنية الأولى، فمن نبغ من الشاميين بعد ففي العلم الديني الذي قد يحمل عليه الزهد - وإن نبغ في غير العلم الديني كشعر وكتابة وطب وفلسفة، خرج من الشام إلى العراق يعرض علمه وفنه ونبوغه على العراق، فإنه الوسيلة الوحيدة للظهور. •••
ولنشرع الآن في شرح الحالة العلمية تفصيلا.
الفصل الرابع
الحديث والتفسير1
أهم مظهر للحديث - في العصر العباسي وقبله بقليل - مظهر التدوين، فقد اختلفت الآراء حينا بين الصحابة بعضهم وبعض، وبين التابعين، هل من المصلحة جمع الحديث وتدوينه أولا؟ ثم ذهب هذا الخلاف واستقر الرأي على تدوينه - ولعل أول من خطا في ذلك خطوة فعلية عمر بن عبد العزيز، «ففي الموطأ أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أو سنته فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء؛ وأوصاه أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية والقاسم بن محمد بن أبي بكر».
2
وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أهل الآفاق: «انظروا إلى حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فاجمعوه».
3
وأبو بكر بن محمد هذا كان أنصاريا مدنيا، ولي القضاء على المدينة لسليمان ابن عبد الملك ولعمر بن عبد العزيز، الذي بين أيدينا من رواية يحيى بن يحيى الليثي. وتوفي سنة 120، وكانت ولاية عمر بن عبد العزيز من سنة 99 إلى سنة 101؛ فعلى هذه الرواية يكون قد أمر أبو بكر ابن محمد بالجمع حول سنة 100. ولكن هل نفذ هذا الأمر؟ كما نعلمه أنه لم تصل إلينا هذه المجموعة؛ ولم يشر إليها - فيما نعلم - جامعو الحديث بعد، ومن أجل هذا شك بعض الباحثين من المستشرقين في هذا الخبر، إذ لو جمع شيء من هذا القبيل لكان من أهم المراجع لجامعي الحديث ؛ ولكن لا داعي إلى هذا الشك، فالخبر يروي لنا أن عمر أمر، ولم يرو لنا أن الجمع تم؛ فلعل موت عمر سريعا عدل بأبي بكر عن أن ينفذ ما أمر به.
فلما جاء العصر العباسي، وانتصف القرن الثاني، بدأ التأليف في الحديث، كما بدأ في العلوم الأخرى، ووجدت هذه النزعة إلى تدوين الحديث في أمصار مختلفة وفي عصور متقاربة، ففي مكة جمع الحديث ابن جريج المتوفى نحو سنة 150 (الرومي الأصل)، ولم يوثقه البخاري وقال: «إنه لا يتابع في حديثه»، وفي المدينة محمد بن إسحق (151)، ومالك بن أنس (179)، وبالبصرة الربيع ابن صبيح (160)، وسعيد بن أبي عروبة (156)، وحماد بن سلمة (176)، وبالكوفة سفيان الثوري (161)، وبالشام الأوزاعي (156)، وباليمن معمر (143)، وبخراسان ابن المبارك (181)، وبمصر الليث بن سعد (175).
فنرى من هذا أن الجمع بدأ في أوائل النصف الثاني من القرن الثاني - غالبا - وأن الفكرة فشت في الأمصار المختلفة، ومن الصعب تحديد أي مصر كان له السبق، إلا إذا اعتبرنا أن ابن جريج في مكة كان أسبق هؤلاء العلماء موتا؛ فقد مات سنة 150، فيكون أسبقهم تأليفا، وربما قلد في ذلك، وعمت الفكرة الأمصار من طريق الحج، فالعلماء الذين رحلوا إلى مكة أخذوا من الحديث، كما جمع ابن جريج أحاديث مصره.
ولم يصل إلينا من هذه المجموعات إلا موطأ مالك، ووصف لبعض المجموعات الأخرى، ويدل الموطأ وهذا الوصف على أن جمع الأحاديث كان الغرض الأول منه خدمة التشريع بتسهيل استنباط الأحكام منها، فالموطأ مرتب ترتيبا فقهيا، وقد ذكروا أن الكتب الأخرى كالموطأ قد جمعت أيضا أقوال الصحابة وفتاوى التابعين.
فيظهر لي أن كثيرا من هؤلاء الجامعين للحديث كان عملهم ردا على حركة فقهاء العراق القياسيين، وأن أمثال مالك بن أنس والأوزاعي وسفيان الثوري، والليث بن سعد كانوا فقهاء من مدرسة الحديث، يؤثرون الحديث، ولو كان خبر آحاد على القياس، فجمعوا الحديث ليكون مصدرا منظما لاستنباط الأحكام منه كما سيأتي - ومن أجل هذا نرجئ وصف موطأ مالك إلى حين الأحكام الفقهية، فهو به أليق، وكل ما نريد أن نقوله هنا إن أحاديث الموطأ ليست كلها مسندة، أعني أنها ليست كلها متصلة السند، يرويها مالك عن فلان عن فلان إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، بل بعضها مرسل (أي سقط من سنده الصحابي، فرواه التابعي عن رسول الله، من غير ذكر للصحابي الذي روى عنه التابعي)، وبعضها منقطع (وهو الذي سقط من سنده راو أو أكثر)، لذلك لم ترو الكتب الصحيحة التي ألفت بعد كالبخاري ومسلم كل أحاديث الموطأ؛ إذ لم يصح عندهم بعضها. وقال ابن حزم: «إن فيه أحاديث ضعيفة وهاها الجمهور» - وقد ألف ابن عبد البر كتابا في وصل الأحاديث المرسلة والمنقطعة والبلاغات، (وهي التي قال فيها بلغني أو عن الثقة)، إلا أحاديث أربعة لم تعرف مسندة. •••
وحدثت خطوة أخرى في تدوين الحديث على رأس المائتين. قال ابن حجر في شرحه على البخاري بعد أن شرح حالة التأليف الأولى، وهي مراعاة الأبواب ومزج حديث رسول الله بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين: «إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي
صلى الله عليه وسلم
خاصة - وذلك على رأس المائتين - فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا، وصنف. مسدد بن مسرهد البصري سندا، وصنف أسد بن موسى الأموي مسندا، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسندا؛ ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم، فقل إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد». وطريقة تأليف المسانيد تخالف طريقة التأليف على الأبواب، فالثانية هي التي شرحناها قبل، كأن يقول كتاب الطهارة ثم يذكر الأحاديث الواردة فيها؛ وأما المسانيد فطريقتها أن يرتب الأحاديث على النبي
صلى الله عليه وسلم
مهما اختلفت موضوعاتها من صلاة أو زكاة أو ميراث؛ فأساس التقسيم في الطريقة السابقة وحدة الموضوع، وأساس التقسيم في هذه الطريقة وحدة الصحابي الراوي - وقد جرى أحمد بن حنبل بعد على هذه الطريقة، ولذلك سمى كتابه الجامع للحديث «مسند أحمد».
وهذه خطوة جديدة من مزاياها نوع من استقلال الحديث عن الفقه؛ فقد أفردت أحاديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالذكر، وجردت الكتب من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وروعي فيها الحديث بقطع النظر عن موضوعه وما يستنبط منه من أحكام، إلا أنها جمعت من الصحيح وغيره؛ فهم يجمعون في مسند كل صحابي ما روي من حديثه صحيحا كان أو سقيما؛ ولذلك كانت كتب المسانيد ليست كتب الدرجة الأولى في الحديث.
حتى إذا كان القرن الثالث نشطت حركة الجمع والنقد، وتمييز الصحيح من الضعيف، وتشريح الرجال والحكم لهم أو عليهم؛ فكان بذلك خير العصور، وفيه ألفت أهم كتب الحديث؛ وكانت الكتب المؤلفة بعده مستمدة منه ومبنية عليه. وشأن الحديث في ذلك شأن كثير غيره من العلوم كالفقه والنحو واللغة وغيرها.
ففيه ألف البخاري المتوفى سنة 256 الجامع الصحيح، وألف مسلم المتوفى سنة 261 صحيحه، وفيه ألفت سنن ابن ماجه المتوفى سنة 273، وسنن أبي داود المتوفى سنة 275، وجامع الترمذي المتوفى سنة 279، وسنن النسائي المتوفى سنة 303؛ وهي التي تسمى - عادة - الكتب الستة، والتي عدت أصح كتب الحديث.
ويلحق بها مسند أحمد المتوفى سنة 241، والمحدثون يضعون صحيح البخاري ومسلم في الدرجة الأولى من الصحة، ثم ما بعدها؛ ونحن نذكر كلمة عن صحيحي البخاري ومسلم ومسند أحمد لأنها أكثر اتصالا بعصرنا الذي نؤرخه.
البخاري:
هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه، كانت أجداده فرسا على دين المجوس، وأول من أسلم من أجداده المغيرة، أسلم على يد اليمان الجعفي والي بخارى، فكان ولاؤه له، وتنقل الولاء في أولاده، فلذلك يقال في البخاري إنه محمد بن إسماعيل أبو عبد الله الجعفي؛ فهو من بخارى، ولد بها سنة 194، وكان أبوه محدثا أيضا، مات وهو صغير، وترك له مالا جليلا ، فنشأ في حجر أمه، وأسلم إلى الكتاب، فلما بلغ عشر سنين بدأ في حفظ الحديث، فلما بلغ ست عشرة سنة حفظ كتب ابن المبارك ووكيع، وهما محدثان مشهوران.
وقد خطا في جمع الحديث خطوة جديدة؛ فقد كان كثير من المحدثين الأولين يقتصرون في حديثهم على ما يجمعون من أحاديث مصرهم، فمالك بن أنس يجمع أحاديث الحجاز وخاصة أهل المدينة، وابن جريج أحاديث الحجازيين وخاصة أهل مكة؛ نعم وجد من المحدثين الأولين من رحل إلى غير مصره، ولكن البخاري وسع هذه الدائرة وسن سنة لمن بعده من المحدثين في الإمعان في الرحلة لطلب العلم، وبعبارة أخرى لطلب الحديث؛ فبعد أن سمع حديث بلده ذهب إلى بلخ وسمع محدثيها، ورحل إلى مرو ونيسابور والري وبغداد والبصرة والكوفة ومكة والمدينة ومصر ودمشق وقيسارية وعسقلان وحمص - فهو بهذا وضع له خطة أن يجمع ما تفرق من الحديث في الأمصار، وأقام في هذه الرحلات نحو ستة عشر عاما، لقي فيها عناء شديدا لا يحتمله إلا الصابرون، وأخيرا عاد إلى موطنه، ومات سنة 256.
كما أنه خطا بالحديث خطوة أخرى في جده في التمييز بين الحديث الصحيح وغيره، وقد كانت الكتب قبله لايعنى فيها بهذا الموضوع عنايته، فكان المحدث يجمع ما وصل إليه تاركا البحث عن رواته ومقدار الثقة به إلى القارئين أو السامعين، حتى الموطأ نقده كثير من المحدثين من هذه الناحية.
وهذا العمل - أعني تعرف صحيح الحديث من ضعيفه - كان يحتاج البدء فيه إلى عناء لايقدر، فهو يحتاج إلى معرفة واسعة بتاريخ رجال الحديث، وتاريخ حياتهم ووفاتهم ليعرف هل التقى الراوي بمن روى عنه أولا، ويحتاج إلى معرفة دقيقة برجال الحديث من زمن البخاري إلى زمن الصحابي ما مقدار صدقهم، والثقة بهم، وحفظهم، ومن منهم صادق أمين، ومن منهم مستور الحال، ومن منهم كاذب، ومن منهم صادق لكنه مغفل كما يقولون «تقبل دعوته ولا تقبل روايته»، كما يحتاج إلى مقارنة الأحاديث التي ترويها الأمصار المختلفة، وما بينها من فرق وموافقات، وما فيها من علل، كما يحتاج إلى معرفة مذاهب الرجال من خارجي ومعتزلي ومرجيء وشيعي وغير ذلك؛ ليتبين منها مقدار ما قد يحمله مذهبه على القول بحديث غير صحيح أو تأويل له غير راجح - إلى غير ذلك، وهي مهمة - كما ترى - في غاية العسر والمشقة؛ لأن كثيرا منها يتصل بالنيات والضمائر، وخفايا السرائر، فكم من باطن لا يتفق والظاهر، وكم من أعمال وأقوال ظاهرها طيب جميل، وباطنها سيء قبيح، وكم من متصنع تقوى وصلاحا، وقد اتخذ ذلك سلاحا، وكم من مضمر عقيدة يتظاهر بغيرها خوفا من العامة أو ذوي الجاه والسلطان، أو ليخدع بظاهره الناس فيتمكن مما رسم من خطة سوء، وهكذا.
وقد رزق البخاري خصلتين بارزتين مكنتاه من أن يقرب من غرضه: (1)
حافظة قوية لاقطة، وخاصة فيما يتعلق بالحديث وقد بالغ الرواة في كثرة ما كان يحفظه عن ظهر قلبه من أحاديث بسندها، فروي عنه أنه كان في صباه يحفظ سبعين ألف حديث وأكثر، ولا يجيء بحديث عن الصحابة والتابعين إلا ويعرف مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم
4
وأوصلها بعضهم إلى مائتي ألف حديث، ورورا عنه كثيرا مثل ذلك، ولكنها مبالغات تدلنا - مهما كانت - على قدرته في الحفظ. وكان يستعين على حفظه بالتقييد وكثرة الفكر، فقد رووا عنه أنه كان يقول: «ما تركت حديثا في البصرة إلا كتبته» رووى عنه وراقه أنه قال: عددت ما أدخلت في تصانيفي من الحديث فإذا نحو مائتي ألف حديث. وذكر عنه أنه كان يقوم في الليل مرارا يأخذ القداحة فيوري نارا ويسرج، ثم يخرج أحاديث فيعلم عليها ثم يضع رأسه. (2)
مهارته في تعريف الرجال ونقدهم. وفي ذلك وضع كتابه التاريخ لتمييز الرجال، ورووا عنه أن قال «قل اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة»؛ وروي أمامه حديث فيه اسم راو وهو عطاء الكيخاراني، فسئل عن كيخاران، فقال البخاري: قرية باليمن كان معاوية بن أبي سفيان بعث هذا الرجل من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى اليمن فسمع منه عطاء (هذا)
حديثين.
5
وهو مع معرفته الدقيقة بالرجال مؤدب التعبير جدا ، فهو يقول في الرجل الذي لا يرتضيه والذي يعرف كذبه «فيه نظر»، أو يقول «سكتوا عنه»، وقل أن يقول كذاب أو وضاع وإنما يقول كذبه فلان ورماه فلان، يعني بالكذب، وأصرح ما قال في رجل: «هو منكر الحديث» إلا في النادر.
كتابه «الجامع الصحيح»:
أراد البخاري في كتابه أن يقتصر على جمع الأحاديث الصحيحة، والحديث الصحيح في اصطلاح المحدثين هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده - من الراوي إلى النبي
صلى الله عليه وسلم - ويكون كل راو من رواته عدلا ضابطا - وقد أنفق البخاري في جمع كتابه هذا ستة عشر عاما وسماه «الجامع الصحيح المسند من حديث رسول
صلى الله عليه وسلم » وقد جمع فيه - على ما ذكره ابن حجر - 7397 حديثا؛ وهذا العدد تدخل فيه الأحاديث المكررة ولا تدخل فيه المعلقات والمتابعات والموقوفات والمقطوعات.
6
فإذا أضيفت إليه المعلقات والمتابعات بلغت 9082 حديثا غير الموقوف والمقطوع، وإذا حذف المكرر واقتصر على عد الأحاديث الموصولة السند غير المكررة كانت 2762 حديثا.
وقد ذكر المحدثون أن البخاري اشترط في جمعه للأحاديث التي يصححها شروطا تسمى عادة «شروط البخاري»، كما اشترط «مسلم» شروطا تخالف بعض الشيء شروط البخاري، ويسمونها «شروط مسلم»؛ فكلاهما اشترط في الحديث أن يكون إسناده متصلا، وأن يكون كل راو من رواته مسلما صادقا غير مدلس ولا مختلط، متصفا بصفات العدالة، ضابطا متحفظا، سليم الذهن، قليل الوهم، سليم الاعتقاد؛ وكان البخاري يرى أن المحدث إذا كان من أساطين المحدثين وهم المكثرون من جمع الحديث وروايته كالزهري ونافع، فإن أصحابه الذين يروون عنه درجات تختلف في مقدار الصلة به وفي الحفظ والإتقان؛ فالدرجة الأولى من كان يزامله في السفر ويلازمه في الحضر؛ والدرجة الثانية من لم يلازمه إلا مدة قصيرة، وكلا النوعين عرف بالتثبت. ويلي ذلك درجات، فالبخاري يشترط في الرواة أن يكونوا من الدرجة الأولى عادة، وقد يروي عن رجال الدرجة الثانية، ولكنه في الغالب يرويه تعليقا على حديث، ويسمى ذلك أيضا شرطا من شروط البخاري؛ و«مسلم» يقبل رجال الدرجة الثانية كما يقبل الأولى، ولا يقتصر في الدرجة الثانية على التعليق. وأما غير المكثرين فاكتفي فيهم عند البخاري ومسلم بشرط الثقة والعدالة وقلة الخطأ إلخ.
7
ولكنا رأينا عند عد أحاديث البخاري أنه لم يقتصر على الأحاديث الصحيحة بهذا المعنى، بل ذكر أحاديث موقوفة ومقطوعة، وقد قالوا إنه إنما ذكرها للاستئناس لا لتكون أساسا للباب. ثم إن البخاري كان - مع قدرته الفائقة في الحديث - فقيها، ويعده السبكي شافعيا في كتابه طبقات الشافعية، ولكن هذا محل شك، بل الظاهر أنه كان مجتهدا مستقلا وله استنباطات تفرد بها، وآراء توافق أحيانا مذهب أبي حنيفة، وأحيانا مذهب الشافعي، وأحيانا تخالفهما، وأحيانا يختار مذهب ابن عباس، وأحيانا مذهب مجاهد وعطاء إلخ؛ فقد اختار أن الجنب لا بأس بقراءته القرآن، وأنه إذا خاف المرض من الماء البارد يتيمم، ورأى جواز الصلاة بالنعال، ورأى أن يحتكم في البيوع إلى عرف الناس، ورأى جواز تعليم أهل الكتاب القرآن إلخ. فظاهر هذا كله أنه لم يتقيد بمذهب.
هذه الناحية الفقهية كان لها أثر كبير في كتابه «الجامع الصحيح»؛ فقد رتبه ترتيبا فقهيا كما فعل مالك في الموطأ، فبعد أن بدأ «ببدء الوحي» وثناه بكتاب الإيمان والعلوم ذكر كتاب الطهارة، ثم كتاب الصلاة، ثم كتاب الزكاة، واختلفت النسخ في الصوم والحج؛ أيهما قبل الآخر؟ ثم كتاب البيوع إلخ، حتى إذا انتهى من المعاملات ذكر المرافعات، فقال كتاب الشهادات وكتاب الصلح، ثم كتاب الوصية والوقف، ثم أعقب ذلك بكتاب الجهاد، وطفر بعد ذلك على أبواب غير فقهية، فذكر الكلام في بدء الخلق، والجنة والنار، وتراجم الأنبياء ثم مناقب قريش، وفضائل الصحابة والمهاجرين والأنصار، ثم ذكر السيرة النبوية والمغازي وما إليها، ثم كتاب التفسير، ثم عاد إلى الفقه من نكاح وطلاق، ثم كتاب الأطعمة والأشربة، ثم خرج من ذلك إلى كتاب الطب، ثم كتاب الأدب والبر والصلة والاستئذان، ثم كتاب النذور والكفارة، ثم الحدود والإكراه، ثم كتاب تعبير الرؤيا، ثم كتاب الفتن، وكتاب الأحكام وذكر فيه الأمراء والقضاة، ثم ذكر أشياء يتكلم فيها عادة في أصول الفقه، كأخبار الآحاد وأحكام الاجتهاد، والاستنباط من الكتاب والسنة، وختم ذلك كله بكتاب التوحيد.
وقسم كل كتاب من هذه الكتب إلى أبواب، وعدة الكتب 97 كتابا، فيها 3450 بابا؛ وهذا الترتيب كما ترى فيه شيء من الغرابة، وقد أتعب الشارحون أنفسهم في تعرف الأساس المنطقي الذي بنى عليه هذا الترتيب - بل فيه ما هو أصعب من ذلك، فبعض الأبواب فيه أحاديث كثيرة، وبعضها فيه حديث واحد وبعضها فيه آية من كتاب الله، وبعضها عنوان لا شيء تحته من كتاب أو حديث، وبعض الأبواب يصعب على الناظر فهم الرابطة بين العنوان وما ذكر فيه - وقد اختلفوا في تعليل هذا، أوضحها أنه أحيانا قد يذكر الباب ولا يذكر فيه حديثا؛ لأنه لم يصح عنده حديث في هذا الباب، وقد ترك الباب مفتوحا حتى يتحرى ويصح عنده حديث؛ وأن المؤلف - وهو البخاري - لم يكن قد وضع كتابه في صيغته النهائية؛ فبعض الناسخين ضم بابا لم يذكر فيه حديثا، إلى حديث لم يذكر له بابا. قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي: «انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه (أي صاحب البخاري) محمد بن يوسف الفربري، فرأيت فيه أشياء لم تتم وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئا، ومنها أحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض».
8
وقال الباجي: «ومما يدل على صحة هذا القول أن الروايات مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم انتسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع ما فأضافه إليه، ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس فيها أحاديث».
9
وأيا ما كان فقد عد كتاب البخاري بحق أصح كتب الحديث، ولم ينازع أحد في أفضليته وعده أصح كتب الحديث، إلا ما كان من قوم من تفضيل صحيح مسلم عليه كما سيأتي بيانه.
ولكن ليس معنى هذا خلوه من مواضع نقد، فالحفاظ والنقدة من كبار المحدثين تناولوه بالنقد في صراحة وحرية من وجوه متعددة أهمها: (1)
ترتيب الكتاب والعلاقة بين الترجمة وما تحتها، وقد سبق ذلك. (2)
أنه يقطع الحديث فيذكر بعض الحديث في باب وبعضه الآخر في باب آخر وهكذا، وقد تختلف الرواة في الأجزاء المختلفة، وقد يذكر بعضها متصل السند وبعضها منقطعه؛ ويظهر أن الذي دعاه إلى تقطيع الحديث نظرته الفقهية، فإذا كان جزء من الحديث - مثلا - يتعلق بالصلاة ذكره في كتاب الصلاة وإذا كان جزؤه الآخر يتعلق بالبيع ذكره في البيع، وقد يختلف رواة الحديث فيذكر في كل باب رواية من رواياته، وأحيانا يكتفي بما ذكر من الإسناد قبل فيرويه غير مسند وهكذا، وقد أخذ عليه في هذا الباب بعض مآخذ لم يستطع المنتصرون له أن يجيبوا عنها. (3)
انتقده حفاظ الحديث في بعض أحاديث بلغت 110، منها 32 حديثا اتفق فيها هو ومسلم، و78 انفرد بها البخاري، ووجه الانتقاد أن فيها عللا كما يعبر عن ذلك المحدثون، مثال ذلك أن البخاري ومسلما رويا حديثا عن مالك عن الزهري عن أنس قال: كنا نصلي العصر، ثم يذهب الذاهب منا إلى قباء فيأتيهم والشمس ومرتفعة، وقد انتقد المحدثون مالكا في ذلك؛ لأن الروايات الصحيحة كلها: «ثم يذهب الذاهب منا إلى العوالي» لا إلى قباء، وفرق بين قباء والعوالي،
10
وهكذا وقد أجيب عن بعض هذه الأحاديث إجابات مقبولة، وبعضها إجابات غير معقولة. (4)
إن بعض الرجال الذين روى لهم غير ثقات، وقد ضعف الحفاظ من رجال البخاري نحو الثمانين، وفي الواقع هذه مشكلة المشاكل؛ فالوقوف على أسرار الرجال محال، نعم إن من زل زلة واضحة سهل الحكم عليه، ولكن ماذا يصنع بمستور الحال؟ ثم إن أحكام الناس على الرجال تختلف كل الاختلاف، فبعض يوثق رجلا وآخر يكذبه، والبواعث النفسية على ذلك لا حصر لها؛ ثم كان المحدثون أنفسهم يختلفون في قواعد التجريح والتعديل، فبعضهم يرفض حديث المبتدع مطلقا كالخارجي والمعتزلي، وبعضهم يقبل روايته في الأحاديث التي لا تتصل ببدعته، وبعضهم يقول إن كان داعيا لها لا تقبل روايته وإن كان غير داع قبلت، وبعض المحدثين يتشدد فلا يروي حديث من اتصلوا بالولاة، ودخلوا في أمر الدنيا مهما كان صدقهم وضبطهم، وبعضهم لا يرى في ذلك بأسا متى كان عدلا صادقا، وبعضهم يتزمت فيأخذ على المحدث مزحة مزحها، كالذي روي أن بعض مجان البصرة كانوا يضعون صرر نقود في الطريق ويختفون، فإذا انحنى المار لأخذها صاحوا به فتركها خجلا وضحكوا منه، فأفتى بعض المحدثين أن يملأ صرة من زجاج مكسر، فإذا صاحوا به وضع صرة الزجاج وأخذ صرة الدراهم عقابا وتأديبا، فجرحه بعض المحدثين من أجل ذلك، وعدله بعضهم إذ لم ير به بأسا، إلى غير ذلك من أسباب يطول شرحها؛ ومن أجل هذا اختلفوا اختلافا كبيرا في الحكم على الأشخاص، وتبع ذلك اختلافهم في صحة روايته والأخذ عنه، ولعل من أوضح المثل في ذكر عكرمة مولى ابن عباس، وقد ملأ الدنيا حديثا وتفسيرا، فقد رماه بعضهم بالكذب، وبأنه يرى رأي الخوارج، وبأنه كان يقبل جوائز الأمراء، ورووا عن كذبه شيئا كثيرا، فرووا أن سعيد بن المسيب قال لمولاه «برد»: «لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس»، وأكذبه سعيد بن المسيب في أحاديث كثيرة، وقال القاسم: «إن عكرمة كذاب يحدث غدوة بحديث يخالفه عشية»، وقال ابن سعد: «كان عكرمة بحرا من البحور وتكلم الناس فيه، وليس يحتج بحديثه»، هذا على حين أن آخرين يوثقونه ويعدلونه، فابن جرير الطبري يثق به كل الثقة ويملأ تفسيره وتاريخه بأقواله والرواية عنه، وقد وثقه أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه ويحيى بن معين وغيرهم من كبار المحدثين. من أجل هذا كله وقف جامعو الصحيح منه مواقف مختلفة، فالبخاري ترجح عنده صدقه، فهو يروي له في صحيحه كثيرا، ومسلم ترجح عنده كذبه، فلم يرو له إلا حديثا واحدا في الحج، ولم يعتمد فيه عليه وحده، وإنما ذكره تقوية لحديث سعيد بن جبير في الموضوع نفسه.
من هذا نرى صعوبة الحكم على مستوري الحال، ولم يسلم جامع كتاب حديث من ذلك لاختلاف الناس في الحكم على الرجال.
وعلى كل حال فمهما نقد البخاري، ومهما كان عرضة للخطأ أحيانا، فقد تحرى في جمعه ما أمكنه التحري، وبذل في ذلك أقصى الجهد، والقارئ يشعر بدقته المتناهية، فهو ينص على الخلاف في رواية الحديث، ولو كان خلافا قليلا، وكثيرا ما يتبع الحديث بتعليقاته الدقيقة متبدئا بقوله: «قال أبو عبد الله»، وقد يكون تعليقه استنباطا من الحديث أو شرحا لغريب أو نحو ذلك، فإذا أضيف إلى ذلك أنه أول من فتح للناس هذا الباب من شدة التدقيق في الرواية والاقتصار على الصحيح في نظره، وهذا المنحى في التأليف، عرفنا فضله على الحديث والمحدثين. •••
مسلم:
مسلم بن الحجاج عربي الأصل من قشير ومسكن أهله نيسابور، بدأ كذلك في طلب الحديث، ورحل في طلبه من نيسابور إلى العراق والحجاز والشام ومصر، وذهب إلى بغداد مرارا وحدث بها، وقد استفاد كثيرا من البخاري حينما استوطن البخاري نيسابور، وأخذ عنه وتعلم منه وتأثر به، وقد مات بنيسابور سنة 261، وقد ألف كتبا كثيرة أهمها صحيحه.
صحيح مسلم:
ويقرن دائما بصحيح البخاري لرفعة درجتهما والوثوق بهما، وقد ذكر في أول كتابه هذا «أنه يقسم الحديث ثلاثة أقسام، الأول: ما رواه الحفاظ المتقنون، والثاني: ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والإتقان، والثالث: ما رواه الضعفاء والمتروكون؛ وأنه إذا فرغ من القسم الأول أتبعه الثاني، وأما الثالث فلا يعرج عليه».
والناس يختلفون في تقديم صحيح البخاري أو مسلم، والجمهور على تقديم البخاري لأسباب أهمها: (1)
أن الذين عدوا ضعفاء من الرجال الذي روى لهم مسلم أكثر ممن عدوا ضعفاء من رجال البخاري؛ فقد تكلم في ثمانين رجلا ممن انفرد بالتخريج لهم البخاري، وتكلم في مائة وستين رجلا ممن انفرد بالتخريج لهم مسلم. (2)
وأن البخاري لايكثر من الرواية عن هؤلاء الضعفاء، وإنما لم يذكر لهم الحديث والحديثين إلا نادرا، وأما مسلم فيكثر من الرواية لهم. (3)
اشتراط البخاري الدرجة الأولى في المحدثين المكثرين، وقد تقدم ذلك. (4)
أن مسلما يجعل للعنعنة حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن عنه،
11
والبخاري لا يجعل ذلك في حكم الحديث المتصل السند إلا إذا ثبت تاريخيا اجتماعهما ولو مرة؛ وهي كلها شروط ترجح البخاري وإن كان لم يلتزمها دائما.
على أن لصحيح مسلم مزايا فضله من أجلها بعض العلماء كأبي علي النيسابوري، وبعض علماء المغرب، أهمها: (1)
ما ذكره ابن حجر من أن مسلما «ألف كتابه في بلده، بحضور أصوله، في حياة كثيرة من مشايخه؛ فكان يتحرز في الألفاظ، ويتحرى في السياق، ولا يتصدى لما تصدى له البخاري من استنباط الأحكام ليبوب عليها، ولزم من ذلك تقطيعه (أي البخاري) للحديث في أبوابه، بل جمع مسلم الطرق كلها في مكان واحد، واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات فلم يعرج عليها إلا في بعض المواضع على سبيل الندرة تبعا لا مقصودا».
ومثل ذلك ما روي عن ابن حزم من أنه كان يفضل مسلما «لأنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث السرد» ففي الواقع من ناحية الحديث البحتة صحيح مسلم أفضل؛ لأنه لا يقطع الحديث كما يفعل البخاري، بل يسوق الحديث تاما بأسانيده المختلفة في موضع واحد؛ أما البخاري فيروي جزءا من الحديث بسند، وقد يروي جزءا آخر بسند آخر في مكان آخر؛ فيصعب على المحدث معرفة الحديث كاملا بأسانيده المختلفة؛ والذي حمل البخاري على هذا غلبة النظرة الفقهية على البخاري، وغلبة النظرة إلى الحديث على مسلم؛ فكان غرض البخاري تجريد الأحاديث الصحيحة من غيرها واستنباط الفقه منها، واستنباط سيرة النبي
صلى الله عليه وسلم
والصحابة منها، واستنباط التفسير؛ وكان غرض مسلم تجريد الأحاديث الصحيحة أيضا، وتقريبها إلى الأذهان، وجمع طرق كل حديث في موضع واحد؛ ليسهل معرفة ما بين متون الحديث، وما بين أسانيده من فرق. (2)
ويقول بعضهم إن مسلما يفضل البخاري؛ لأن «البخاري قد يقع له الغلط في أهل الشام، وذلك أنه أخذ كتبهم فنظر فيها، فربما ذكر الواحد منهم بكنيته، ويذكره في موضع آخر باسمه، ويتوهم أنهما اثنان، فأما مسلم فقلما يقع له الغلط».
12
وأيا ما كان فصحيح مسلم - كذلك - دقيق غاية في الدقة؛ فهو يشير إلى الفروق الدقيقة في الحديث ولو كان حرفا، ويبين في كثير من الأحيان صفة الراوي ونسبه، كما يدل كتابه على أنه كان أيضا فقهيا ماهرا في الفقه، هذا مع إيجاز العبارة وحسنها.
وقد رووا أن عدد أحاديثه 7275 حديثا بالمكرر، ومن غير المكرر نحو أربعة آلاف، وقد مال إلى ترتيبه أيضا ترتيبا فقيها، وإن لم يبالغ في ذلك مبالغة البخاري.
أحمد بن حنبل ومسنده:
أما ترجمته فسنذكرها في التشريع، وأما مسنده فقد أبتا قبل أن كتب المسانيد ترتب عادة حسب الصحابي الذي روى الحديث فيجمع في موضع واحد كل الأحاديث الذي رواها ذلك الصحابي، ثم تتبع بالأحاديث التي رواها صحابي آخر وهكذا، ومن هذا القبيل مسند أحمد، فيقول - مثلا - مسند عمر بن الخطاب، ويروي كل الأحاديث التي نقلت عنه، فيقول: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن عمر، ويجمع كذلك كل الأحاديث التي رويت عن سعد بن أبي وقاص حتى يفرغ منها، وقد يجوز أن يكون حديث من مسند عمر في الصلاة وحديث في الحج وحديث في الإيمان، فأساس التقسيم ليس الموضوع، ولكن الصحابي الذي روى عن النبي، فهو يفيد من ناحية أنه يعرف عدد ما يروى عن كل صحابي ونوع ما يرويه، وقد ذكروا أن مسند أحمد يشتمل على أربعين ألف حديث منها نحو عشرة آلاف مكررة.
ولم تبلغ أحاديثه في الصحة مبلغ البخاري ومسلم، بل ذكر المحدثون أن فيه كثيرا من الأحاديث الضعيفة.
وقد لاحظ بعض المستشرقين أن مسند أحمد تتجلى فيه الشجاعة وعدم الخوف من العباسيين، بذكره أحاديث في مناقب بني أمية مما كانت منتشرا بين الشاميين وكان على العكس من ذلك البخاري ومسلم، فإنهما لم يذاكرها مداراة للعباسيين. كما أن مسند أحمد لم يتحرج من ذكر أحاديث كثيرة في مناقب علي وشيعته.
وهذا حكم قاس على البخاري ومسلم. نعم إن كثيرا من الأحاديث في مناقب بني أمية والشيعة رويت في مسند أحمد ولم ترد في البخاري، ولكنا نجد في البخاري ومسلم بعض الأحاديث فيها بعض رد على هذا الرأي مثل «ما روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال لعلي: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» رواه البخاري ومسلم؛ وروى مسلم حديث «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله فتطاول الناس لها فقال ادعوا لي عليا»، وروى مسلم أيضا حديث أن عليا قال: «والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق»؛ وروى البخاري ومسلم عن البراء قال: رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والحسن على عاتقه يقول: اللهم إني أحبه فأحبه. أما الأحاديث في البخاري ومسلم في بني أمية فنادرة جدا، مثل ما أخرجه مسلم عن ابن عباس قال: ما سال أبو سفيان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
شيئا إلا قال نعم. كما أنها قليلة جدا - والحق يقال - في مناقب العباس وابنه عبد الله ابن عباس وهما جدا العباسيين، فلعل الأحاديث في مناقب الأمويين لم تصح عند البخاري ومسلم فلم يخرجاها؛ وإذ كان أحمد لا يشترط في أحاديثه شروطهما تسامح مع هذه الأحاديث فذكرها في مسنده، فلم يكن الأمر على ما يظهر أمر شجاعة وجبن، وصراحة وملق، بل أمر شروط للحديث تشترط أو لا تشترط؛ نعم كان هناك ملق من بعض المحدثين فوضعوا أحاديث في مناقب العباس وأبنائه وفي مذمة الأمويين، ولكن ذلك يلتمس عند غير البخاري ومسلم. •••
ويسوقنا هذا إلى أن نذكر هنا أن الأمويين - فعلا - قد وضعوا أو وضعت لهم أحاديث تخدم سياستهم من نواح متعددة، منها أحاديث في زيادة مناقب عثمان، إذ كان هو الخليفة الأموي من الخلفاء الراشدين، وهم به أكثر اتصالا، مثل حديث أن عثمان تصدق بثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في جيش العسرة، فنزل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من على المنبر، وهو يقول: «ما على عثمان ما عمل بعد هذه - ما على عثمان ما عمل بعد هذه»؛ وروى الطبري أن معاوية بن أبي سفيان لما ولى المغيرة بن شعبة الكوفة في جمادى سنة 41، دعاه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ... أردت إيصاءك بأشياء كثيرة، فأنا تاركها اعتمادا على بصرك بما يرضيني، ويسعد سلطاني ويصلح به رعيتي، ولست تاركا إيصاءك بخصلة، لا تتحم
13
عن شتم علي وذمه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب على أصحاب علي والإقصاء لهم، وترك الاستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان والإدناء لهم، والاستماع منهم ... فأقام المغيرة على الكوفة عاملا لمعاوية سبع سنين وأشهر وهو من أحسن شيء سيرة، وأشد حبا للعافية، غير أنه لا يدع ذم علي والوقوع فيه والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم، والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له والتزكية لأصحابه.
14
ومنها: استغلال الفتن من مقتل عثمان، ووقعة الجمل، وفتن الخوارج، وفتنة ابن الزبير، ووضع الأحاديث الكثيرة في ذلك تخدم الأمويين. ومنها: تعظيم الشام ومدحها؛ لأنها مركز الأمويين، كحديث قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : طوبى للشام، فقلت لم ذاك يا رسول الله؟ فقال: لأن الملائكة عليهم السلام باسطة أجنحتها عليهم. وكالأحاديث الكثيرة في مدح بيت المقدس، والصخرة وما إليها؛ ولا يخفى الباعث على ذلك من تعظيم مركز الخلافة وتعظيم من يسكنها، وكالأحاديث في تفضيل أهل الشام على غيرهم، كالحديث الذي أخرجه أبو داود أن ابن حوالة قال لرسول الله خر لي، قال رسول الله: «عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبى إليها خيرته من عباده». ومثل هذا كثير يطول شرحه، وقد انتشرت هذه الأحاديث في الشام في العهد الأموي؛ لأنها صنعت فيها ثم انتشرت منها، فلما أتى العباسيون انعكس الأمر، فاضطهد الأمويون، واضطهدت الأحاديث التي ترفع من شأنهم، بل وضعت الأحاديث في ذمهم، والتعلية لشأن العباسيين أنفسهم، فنرى في كتاب الخلفاء للسيوطي فصلا عنوانه: «الأحاديث المنذرة بخلافة بني أمية» وبعده فصل عنوانه: «الأحاديث المبشرة بخلافة بني العباس»، والعنوان نفسه يدل على الوضع وتاريخه، وأنه عمل في عهد العباسيين، وقد مليء كلا الفصلين بالأحاديث الموضوعة: الأول للحط من شأن الأمويين، والثاني لإعلاء شأن العباسيين، وقد تقدم ذكر شيء من ذلك عند الكلام في أثر العباسيين في العلم.
كذلك اشتد الخلاف بين العباسيين والعلويين، وأثيرت مسألة الخلافة، ومن أحق بها، وكثر الشعر في ذلك العصر يتقرب به بعض الشعراء إلى العباسيين وبعضهم إلى العلويين.
وكان أكبر وسيلة يتقرب بها الشعراء إلى الخلفاء التوقيع على نغمة أنهم أحق بالملك من العلويين. فقد روى الصولي: «أن أبانا عاتب البرامكة في إعطاء الرشيد الأموال للشعراء وفقره، مع خدمته لهم، وموضعه منهم، فقال له الفضل : إن سلكت مذهب مروان أوصلت شعرك (يعني مروان بن أبي حفصة ومسلكه هو هجاء آل أبي طالب)، قال: والله ما أستحل ذلك، فقال له الفضل: كلنا يفعل ما لا يحل، ولك بنا وبسائر الناس أسوة، فقال أبان قصيدته المشهورة:
نشدت بحق الله من كان مسلما
أعم بما قد قلته العجم والعرب
أعم نبي الله أقرب زلفة
إليه أم ابن العم في رتبة النسب
وأيهما أولى به وبعهده
ومن ذا له حق التراث بما وجب
فإن كان عباس أحق بتلكمو
وكان علي بعد ذاك على سبب
فأبناء عباس همو يرثونه
كما العم لابن العم في الإرث قد حجب
إلى آخر الأبيات، فأنشدها للرشيد، فأعطاه عشرين ألف درهم، واتصل به بعد ذلك».
15
وكان شأن الحديث في ذلك شأن الأدب، فالخلافة أصبحت مجالا لضعفاء المحدثين من كل جانب، يضعون فيها ما يوافق مذهبهم، فالسنيون يرون أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يعهد بالخلافة لأحد، وأن النبوة والخلافة لا تورثان، كما لا يورث مال الأنبياء لحديث: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة». والشيعة لا يرون ذلك، ويرون النص على علي وولده؛ والسنيون يرون أن الأئمة من قريش، والخوارج يرون أنها في كل المسلمين، يختار منهم أصلحهم ولو كان عبدا حبشيا كان رأسه زبيبة، وكل ناحية من هذه النواحي انتسب لها شعراء، وانتسب لها محدثون، وكما وضعت القصائد في تأييد المذهب المختلفة، وضعت الأحاديث في تأييد المذاهب المختلفة أيضا، ومن هؤلاء العباسيون، وكانوا أكثر مالا وأعظم جاها والسلطة في أيديهم، فالملق لهم أكثر، والطمع فيهم أنجح، فكان الوضع لهم أوفر، مثل الحديث الذي رواه الترمذي
عن ابن عباس
قال: «قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
للعباس: إذا كان غداة الاثنين فأتني أنت وولدك حتى أدعو لك دعوة ينفعك الله بها وولدك، فغدا وغدونا معا، وألبسنا كساء، ثم قال: اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنبا، اللهم احفظه في ولده».
وما رواه الطبراني قال رسول الله: «الخلافة في ولد عمي وصنو أبي حتى يسلموها إلى المسيح» وهكذا. ومثل هذا الوضع عند العلويين، والكتب مملوءة به.
بل وضعت الأحاديث لإظهار رغبات الناس فيمن يعهد إليه الحكم، فيروي نعيم بن حماد المروزي (شيخ البخاري ومسلم) في كتابه «الفتن»،
16
عن ابن لهيعة أن عليا قال: «سلطان أمة محمد
صلى الله عليه وسلم
بعد وفاته مائة سنة وسبع وستون سنة وأحد وثلاثون يوما، حتى يسلط الله عليهم الوهن». وإذا كان رسول الله مات سنة 11 فتكون السنة التي توافق هذا التاريخ سنة 178.
وقد لاحظ بعض المستشرقين أن هذه السنة هي التي أعطيت فيها السلطة التامة للبرامكة، فقد ذكر الطبري في حوادث سنة 178 أنه «في هذه السنة فوض الرشيد أموره كلها إلى يحيى بن خالد البرمكي»، فوضع الحديث لخدمة سياسة معينة؛ هي كراهية البرامكة.
هذه ناحية واحدة من أسباب الوضع، وهناك نواح أخرى كثيرة، فانقسام المذاهب الكلامية إلى معتزلة ومرجئة، وشيعة، خوارج، وأهل سنة حملت كثيرين على تأييد مدعاهم بأحاديث لم تصح.
كما أن خلاف الفقهاء بين أهل حديث وأهل رأي حملت بعض الفقهاء من أهل الحديث على وضع أحاديث لملء الفراغ الذي لم يرد فيه حديث، وذلك قد يكون في حكمه موافقا لأهل الرأي، ولكنهم يتسترون به، جريا على مذهبهم من اتباع الحديث، وقد يكون مخالفا في حكمه لمذاهب أهل الرأي، فيكون الحديث سلاحا لهم يستعملونه لمهاجمة أهل الرأي، والدليل على ذلك أن كثيرا من أحاديث الفقه لم تصح عند ثقاة المحدثين، ووضعوا الكتب في بيان عللها، وسيأتي تتمة لذلك عند الكلام في التشريع.
ومنها تساهل الناس في أحاديث الترغيب والترهيب، واستساغة بعضهم الوضع فيها؛ لأنه يقصد بها الحث على الخير، والبعد عن الشر، كأحاديث كثيرة مما ورد في كتاب الإحياء.
17
ومن هذا القبيل أحاديث القصاص، والمحدثون يقولون: «إنه لا تحل رواية الحديث الموضوع في أي معنى كان إلا مقرونا ببيان وضعه، بخلاف الحديث الضعيف فإنه تجوز روايته في غير الأحكام والعقائد».
وقديما أكثر القصاص من الأحاديث التي ليس لها أصل، وكان ثقات المحدثين يتعرضون لتكذيبها فيتعرضون لسخط العامة والإيقاع بهم، فابن الجوزي في كتابه «القصاص والمذكرين» يذكر أن الشعبي في أيام عبد الملك نزل «تدمر» فسمع شيخا عظيم اللحية يقول إن الله خلق صورين في كل صور نفختان نفخة الصعق ونفخة القيامة. قال الشعبي: فرددت عليه وقلت: إن الله لم يخلق إلا صورا واحدا، وإنما هي نفختان. فقال لي: يا فاجر إنما يحدثني فلان عن فلان وترد علي! ثم رفع نعله وضربني بها، وتتابع القوم علي ضربا، فما أقلعوا حتى قلت لهم إن الله خلق ثلاثين صورا.
وقال ابن الجوزي في كتابه الموضوعات: «معظم البلاء في الحديث من القصاص؛ لأنهم يريدون أحاديث ترقق وتنفق، والصحاح تقل في هذا».
وروى الخطيب البغدادي عن محمد بن يونس قال: كنت بالأهواز فسمعت شيخا يقص لما زوج النبي
صلى الله عليه وسلم
عليا فاطمة أمر شجرة طوبى أن تنثر اللؤلؤ الرطب يتهاداه أهل الجنة بينهم في الأطباق. فقلت له: يا شيخ هذا كذب على رسول الله. فقال لي ويحك اسكت حدثنيه الناس. قلت: من حدثك؟ فروى لنا إسنادا عن ابن عباس.
وروي عن الليث بن سعد أنه قال: قدم علينا شيخ بالإسكندرية يروي لنافع، ونافع يومئذ حي، فكتبنا عنه قنداقين
18
عن نافع، فلما خرج الشيخ أرسلنا بالقنداقين إلى فما عرف منهما حديثا واحدا.
وقد كره قوم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، كعمر بن الخطاب وعبد الله ابن عمر ومالك بن أنس هذا الضرب من القصص، وعلله ابن الجوزي بعلل منها: «أن القصص لأخبار المتقدمين يندر صحته خصوصا ما ينقل عن بني إسرائيل، ومنها: أن أقواما ما قصوا فأدخلوا في قصصهم ما يفسد قلوب العوام، ومنها: أن القصاص لا يتحرون الصواب، ولا يحترزون من الخطأ لقلة علمهم وتقواهم».
19
كل هذا وأمثاله يدلنا على ما لاقى مثل البخاري، ومسلم من عناء في تنقية الأحاديث ونقدها وتمييز الجيد والزائف منها، ومن الغريب أننا لو اتخذنا رسميا بيانيا للحديث لكان شكل هرم طرفه المدبب في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم
ثم يأخذ في السعة على مر الزمان حتى نصل إلى القاعدة أبعد ما نكون من عهد الرسول، مع أن المعقول كان العكس، فصحابة رسول الله أعرف الناس بحديثه، ثم يقل الحديث بموت بعضهم مع عدم الراوي عنه وهكذا. ولكنا نرى أن أحاديث العهد الأموي أكثر من أحاديث عهد الخلفاء الراشدين، وأحاديث العصر العباسي أكثر من أحاديث العهد الأموي. قد يكون من ضمن الأسباب الصحيحة أن الهجرة لطلب الحديث في العصر العباسي وجمعه من مختلف الأمصار كانت أتم وأنشط، ولكن ليس هذا كل السبب بل من أكبر الأسباب في تضخيم الحديث الوضع، فاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من أهل الديانات الأخرى، أدخلوا في الأحاديث أشياء كثيرة من دياناتهم وأخبارهم، فملئت الأحاديث بما في التوراة وحواشيها، وببعض أخبار النصرانية، كما رأيت عند الكلام في الثقافة اليهودية والنصرانية، وببعض تعاليم الشعوبية كالأحاديث التي تدل على فضل الفرس والروم.
20
وفي الحق أن ثقات المحدثين بذلوا من الجهد في التمحيص ما لا يوصف، ونحوا في ذلك مناحي مختلفة، فاجتهدوا في وضع رواة الحديث من التابعين ومن بعدهم في موازين دقيقة بقدر الإمكان، وشرحوا كل راو وعرفوا تاريخه وسيرته، ووضعوا في ذلك قواعد «للجرح والتعديل». وقد اشتهر في هذا الباب يحيى بن سعيد القطان المتوفى سنة 189، وقد وثق الناس بهما وقبلوا حكمهما غالبا، فمن عدلاه عدل ومن جرحاه جرح، وجاء بعدهما يحيى بن معين المتوفى سنة 233، وأحمد بن حنبل، (سنة 241)، ومحمد بن سعد في طبقاته سنة (230) فأكثروا كذلك من نقد الرجال وبيان صحيحهم وعليلهم - وسار من بعدهم على آثارهم - وألف البخاري في هذا الباب ثلاثة كتب سمي كل منها «تاريخ البخاري»: كبير، وهو مرتب على حروف المعجم، غير أنه صدره بمن اسمه محمد، ثم عاد إلى ترتيب حروف الهجاء؛ وأوسط، وقد رتبه على السنين؛ وصغير. ومن المؤلفين من أفردوا للثقات كتبا خاصة وللضعفاء كتبا، وللمدلسين كتبا، كما وضعوا في هذا العصر أيضا قواعد للحديث: أي الأحاديث أعلى رتبة؟ وأيها أحط؟ وأيها في الوسط؟ وميزوا أنواعها، ووضعوا لكل نوع اسما، وسمي ذلك «مصطلح الحديث»، كما عنوا بالحديث من حيث تفسير غريبه، وألفوا في ذلك «غريب الحديث»، واتجه قوم إلى بحث الأحاديث المتعارضة والتوفيق بينها، وسموا ذلك «مختلف الحديث» وهكذا.
فكما أنهم بذلوا الجهد في الجمع، بذلوا الجهد في النقد؛ والنقد عادة نوعان: نوع يستند فيه على الرواية وصحتها، والرجال ومقدار الثقة بهم، ونوع يعتمد فيه على الحديث نفسه: هل معناه مما يصح أو لا يصح؟ وهل الظروف الاجتماعية التي قيل فيها الحديث تؤيد أنه صحيح أو موضوع؟ وهل هناك احتمال الوضع لأسباب سياسية أو مذهبية أو شخصية؟ وهل الحديث يتفق وقواعد الإسلام أو لا يتفق؟ والفرنج يسمون النوع الأول نقدا خارجيا؛ لأنه خارج عن النص نفسه وحوله، ويسمون النوع الثاني نقدا داخليا؛ أي أن منشأه النص نفسه.
وفي الحق إن المحدثين عنوا عناية بالنقد الخارجي، ولم يعنوا هذه العناية بالنقد الداخلي، فقد بلغوا الغاية في نقد الحديث من ناحية رواته جرحا وتعديلا، فنقدوا رواة الحديث في أنهم ثقات أو غير ثقات، وبينوا مقدار درجتهم في الثقة، وبحثوا: هل تلاقى الراوي والمروي عنه أو لم يتلاقيا؟ وقسموا الحديث باعتبار ذلك ونحوه إلى حديث صحيح وحسن وضعيف، وإلى مرسل ومنقطع، وإلى شاذ وغريب وغير ذلك.
ولكنهم لم يتوسعوا كثيرا في النقد الداخلي، فلم يعرضوا لمتن الحديث هل ينطبق على الواقع أولا؟ مثال ذلك ما رواه الترمذي عن أبي هريرة، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم». فهل اتجهوا في نقد الحديث إلى امتحان الكمأة؟ وهل فيها مادة تشفي العين؟ أو العجوة، وهل فيها ترياق؟ نعم إنهم رووا أن أبا هريرة قال: «أخذت ثلاث أكمؤ أو خمسا أو سبعا فعصرتهن في قارورة وكحلت به جارية لي عمشاء فبرأت». ولكن هذا لا يكفي لصحة الحكم، فتجربة جزئية نفع فيها شيء مرة لا تكفي منطقيا لإثبات الشيء في ثبت الأدوية، إنما الطريقة أن تجرب مرارا، وخير من ذلك أن تحلل لتعرف عناصرها، فإذا لم يكن التحليل في ذلك العصر ممكنا فلتكن التجربة مع الاستقراء؛ فكان مثل هذا طريقا لمعرفة صحة الحديث أو وضعه. كذلك لم يتعرضوا كثيرا لبحث الأسباب السياسية التي قد تحمل على الوضع، فلم أرهم شكوا كثيرا في أحاديث لأنها تدعم الدولة الأموية أو العباسية أو العلوية، ولا درسوا دراسة وافية البيئة الاجتماعية في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين، وما طرأ عليها من خلاف، ليعرفوا هل الحديث يتمشى مع البيئة التي حكي أنه قيل فيها أولا؟ ولم يدرسوا كثيرا بيئة الراوي الشخصية، وما قد يحمله منها على الوضع، وهكذا.
نعم رويت أشياء من هذا القبيل: فابن خلدون - مثلا - يقول أسباب قلة رواية أبي حنيفة للحديث: «إنه ضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي»،
21
وهي عبارة وإن كانت موجزة وغامضة بعض الغموض، إلا أنها تدلنا على هذا الاتجاه، وهو عدم الاكتفاء بالرواة، بل عرضها على الطبائع النفسية والبيئة الاجتماعية.
ومن هذا القبيل ما يروى عن ابن عمر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية انتقص من أجره في كل يوم قيرطان». قالوا كان أبو هريرة يروي الحديث هكذا: «إلا كلب صيد أو ماشية أو كلب زرع»، فيزيد كلب الزرع، «فقيل لابن عمر إن أبا هريرة يقول: «أو كلب زرع»، فقال ابن عمر: إن لأبي هريرة زرعا».
22
وهو نقد من ابن عمر لطيف في الباعث النفسي. وهناك أشياء منثورة من هذا القبيل، ولكنها لم تبلغ من الكثرة والعناية مبلغ النقد الخارجي. ولو اتجهوا هذا الاتجاه كثيرا وأوغلوا فيه إيغالهم في النوع الأول لانكشفت أحاديث كثيرة وتبين وضعها، مثل كثير من أحاديث الفضائل، وهي أحاديث رويت في مدح الأشخاص والقبائل والأمم والأماكن، تسابق المنتسبون لها إلى الوضع فيها، وشغلت حيزا كبيرا من كتب الحديث؛ ومن خير ما قيل في ذلك قول ابن خلدون: «وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا؛ لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار؛ فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط».
23
وربما كان الذين اتجهوا هذا الاتجاه، وهو إخضاع الحديث لحكم العقل وطبائع الكائنات هم المتكلمون، فإنا نرى أمثلة كثيرة من ذلك في كتاب الحيوان للجاحظ، فبعد أن يذكر أحاديث كثيرة في الوزغ يقول: «وهذه الأحاديث كلها يحتج بها أصحاب الجهالات، ومن زعم أن الأشياء كانت كلها ناطقة، وأنها أمم مجراها مجرى الناس».
24
ويروي حديث: «من اقتنى كلبا ليس بكلب زرع ولا ضرع ولا صيد
25
فهو آثم»، ثم يناقشه مناقشة طويلة، ويستعمل عقله فيروي أن كلب الضرع إنما أبيح لحراسة الماشية، وهناك أشياء أخرى من الأموال وغير الأموال محتاجة إلى حراسة الكلب، فإذا أجيز في الضرع يجب أن يجاز في غيرها مما يحتاج إلى حراسة، ويختم هذه المناقشة بقوله: «وبعد، فلعل النبي
صلى الله عليه وسلم
قال هذا القول على الحكاية لأقاويل قوم، أو لعل ذلك كان على معنى كان يومئذ معلولا،
26
فترك الناس العلة ورووا
27
الخبر سالما من العلل مجردا غير مميز، أو لعل من سمع هذا الحديث شهد آخر الكلام ولم يشهد أوله، أو لعله
صلى الله عليه وسلم
قصد بهذا الكلام إلى ناس من أصحابه قد كان دار بينهم وبينه فيه شيء، وكل ذلك ممكن سائغ غير مستنكر ولا مدفوع».
28
فترى من هذا كيف عرض الحديث على العقل واستعمل فيه العلل الكلامية وغلا في نقد الحديث. •••
وقد كان بعض الصحابة والتابعين ومن بعدهم يرون جواز رواية الحديث بالمعنى، لا يتقيدون فيه بألفاظ الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وفي طبقات ابن سعد أخبار كثيرة من هذا القبيل؛ كما فيه أخبار عن أشخاص تقيدوا برواية اللفظ، فجاءت أحاديث كثيرة مختلفة الألفاظ، فروي الحديث: «زوجتكها بما معك من القرآن» و«ملكتكها بما معك من القرآن» و«خذها بما معك من القرآن» وما ذاك إلا لأن رواة الحديث الأولين حافظوا على المعنى، وعبروا بما يدل عليه من عندهم.
ومن أجل هذا لم ير النحاة الأولون الاستشهاد على قواعد النحو بالحديث. قال ابن الصبائغ: «تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة كسيبويه وغيره الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب، ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي
صلى الله عليه وسلم
لأنه أفصح العرب».
وقال عبد القادر البغدادي: «إن الرواة جوزوا النقل بالمعنى فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه
صلى الله عليه وسلم
لم تقل بتلك الألفاظ جميعها ... بل لا يجزم بأنه قال بعضها؛ إذ يحتمل أنه قال لفظا مرادفا لهذه الألفاظ فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأت بلفظه إذ المعنى هو المطلوب، ولا سيما تقادم السماع وعدم ضبطها بالكتابة والاتكال على الحفظ، والضابط منهم من ضبط المعنى، وأما من ضبط اللفظ فبعيد جدا لا سيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: «إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني؛ إنما هو المعني»، ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين أنهم يروون بالمعنى ... وقد وقع اللحن كثيرا فيما روي من الحديث؛ لأن كثيرا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ويتعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون، ودخل في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، ونعلم قطعا من غير شك أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان أفصح، فلم يكن يتكلم إلا بأفصح اللغات وأحسن التراكيب».
29 •••
وكانت هناك خصومة بين المحدثين والفقهاء من أصحاب الرأي، والذي أثار هذه الخصومة هم المحدثون، وشنعوا على أصحاب الرأي؛ لأنهم يستنبطون الأحكام بناء على رأي أو قياس، ولأنهم يقلون من رواية الحديث، وكان مظهر هذه الخصومة على أتمها بين الحجازيين والعراقيين في عهد مالك وأبي حنيفة، فأهل الحجاز - غالبا - أهل حديث، وأهل العراق - غالبا - أهل رأي، واستمر ذلك في العصور التي بعدهما، حتى نرى المحدثين لا يروون كثيرا للحنفية.
ولكن كانت هناك خصومة أشد وأعنف بين المحدثين والمتكلمين، وسبب ذلك أن منحى المتكلمين منحى عقلي، ومنحى المحدثين منحى نقلي، وشتان بين المنهجين؛ وكان أشدهم في ذلك المعتزلة. ويقول ابن قتيبة في صدر كتابه «تأويل مختلف الحديث»: «أما بعد: فإنك كتبت إلي تعلمني ما وقفت عليه من ثلب أهل الكلام أهل الحديث وامتهانهم، وإسهابهم في الكتب بذمهم، ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض، حتى وقع الاختلاف وكثرت النحل، وتقطعت العصم وتعادى المسلمون، وأكفر بعضهم بعضا، وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث؛ ثم عد الفرق من خوارج ومرجئة وقدرية وجبرية ورافضة وغيرهم، وقال: إن كل طائفة من هذه الطوائف المختلفة في المبادئ تروي الأحاديث المختلفة كذلك، يؤيدها بها كل فريق مدعاه، وغير ذلك يجد مفضل الغني حديثا في تفضيل الغنى، ومفضل الفقر حديثا في تفضيل الفقر، ويجد كل من الحجازيين والعراقيين أحاديث لتأييد مذاهبهم الفقهية مع اختلافها، وروايتهم أحاديث سخيفة تزيد في شكوك المرتابين، كمن قرأ سورة كذا أسكن من الجنة سبعين ألف قصر، وكحديث الفأرة أنها يهودية؛ أنها لا تشرب ألبان الإبل كما أن اليهود لا تشربها، وحديث السنور أنها عطسة الأسد ... إلخ. واعترضوا باحتجاج المحدثين «بأحاديث أبي هريرة فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة، وقد أكذبه عمر وعثمان وعائشة». ورموهم بأنهم «أجهل الناس بما يحملون، وأبخس الناس حظا فيما يطلبون»، «رضوا أن يقولوا فلان عارف بالطريق، وراوية للحديث، وزهدوا في أن يقال عالم بما كتب، أو عامل بما علم»، وشنعوا على بعض المحدثين في وقائع حدثت منهم. إلخ.
هذه خلاصة ما حكاه ابن قتيبة في مطاعن المتكلمين على المحدثين، وقد ألف كتابه هذا في الرد على مطاعنهم، فكان من رده على رمي المحدثين بالاختلاف أن المتكلمين أنفسهم أشد اختلافا فيما بينهم، وقد كان يجب ألا يختلفوا، فمعولهم القياس والعقل لا النقل، وقوانين المنطق واحدة، فما بالهم أكثر الناس اختلافا لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين؟ فأبو الهذيل العلاف يخالف النظام، والنجار يخالفهما، وهشام بن الحكم يخالفهم؛ ولو اختلفوا في الفروع لكان لهم العذر، ولكنهم يختلفون في الأصول، فهم يختلفون في التوحيد، وفي صفات الله وقدرته. ثم أخذ يتناول كل رئيس من رؤساء المتكلمين بالطعن، ويذكر معايبه، فيذكر النظام ويذكر تعرضه للصحابة ونقدهم، ووضعهم موضع غيرهم من الرجال، ويذكر أبا الهذيل العلاف ويرد على قوله في الاستطاعة إلخ؛ ثم تعرض لأصحاب الرأي من الفقهاء، فرد عليهم كذلك وتعرض لرئيسهم أبي حنيفة وناقشه في بعض آرائه، وسب الجاحظ ورماه بأنه «كان يستهزئ من الحديث استهزاء لا يخفى على أهل العلم، كذكره كبد الحوت وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود، وأنه كان أبيض فسوده المشركون، وقد كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا إلخ». ثم قال: «فأما أصحاب الحديث فإنهم التمسوا الحق من وجهته، وتتبعوه من مظانه، وتقربوا من الله تعالى باتباعهم سنن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وطلبهم لآثاره وأخباره ... ثم لم يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث لها حتى فهموا صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، وعرفوا من خالفها من الفقهاء إلى الرأي، فنبهوا على ذلك حتى نجم الحق بعد أن عافيا، وبسق بعد أن كان دارسا، وإنقاد للسنن من كان عنها معرضا، وتنبه لها من كان عنها غافلا، وحكم بقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعد أن كان يحكم بقول فلان وفلان»، ودافع عن جمع المحدثين للحديث كائنا ما كان، بأنهم إما يجمعون الأحاديث ما اتفقت لهم ليبينوا صحيحها من ضعيفها، ثم ذكر الأحاديث التي ظاهرها التناقض وتأول لها.
هذه صور صغيرة للنزاع الحاد الذي كان بين المتكلمين والمحدثين، وقد كانت الغلبة للمتكلمين في عصر المأمون والمعتصم والواثق، وكانت محنة خلق القرآن أكبر مظهر من مظاهر العداء بين المحدثين والمتكلمين، فالمحدثون أصروا على الامتناع بأن القرآن غير مخلوق، وكادوا يجمعون على ذلك، ومن قال منهم بالخلق كالبخاري ومسلم فقد قيده بألفاظنا التي ننطق بها، وبعكس ذلك يكاد المعتزلة يجمعون على القول بخلق القرآن، فالنزاع في ذلك كان بين المتكلمين والمحدثين في أغلب الأحيان، وظل المعتزلة منتصرين لأن السلطة بجانبهم، حتى أتى المتوكل فأزال سلطتهم، ومن ذلك الحين عادت إلى المحدثين سطوتهم وعلى رأسهم الحنابلة. قال في زهر الآداب: «كان المتوكل أول من أظهر من خلفاء بني العباس الانهماك على شهوته، وكان أصحابه يسخفون ويستخفون بحضرته، وكان يهاتر الجلساء ويفاخر الرؤساء؛ وهو مع ذلك من قلوب الناس محبب، وإليهم مقرب؛ إذ أمات ما أحياه الواثق من إظهار الاعتزال، وإقامة سوق الجدال».
30
التفسير
ذكرنا التفسير عقب الحديث؛ لأن التفسير في أول أمره إلى عصرنا الذي نؤرخه قد اتخذ شكل الحديث بل كان جزءا منه، وبابا من أبوابه، وقد كان الحديث هو المادة الواسعة التي تشمل جميع المعارف الدينية تقريبا؛ فهو يشمل التفسير، ويشمل التشريع، ويشمل التاريخ، وكانت كلها ممتزجة بعضها ببعض تمام الامتزاج؛ فراوي الحديث يروي حديثا فيه تفسير لآية من القرآن، وحديثا فيه حكم فقهي، و حديثا فيه غزوة من غزوات النبي
صلى الله عليه وسلم
وحديثا فيه شرح حالة اجتماعية زمن النبي أو الصحابة أو التابعين - ثم أخذ المؤلفون في آخر العصر الأموي، وأول العصر العباسي يجمعون الأحاديث المتشابهة المتعلقة بموضوع واحد ويفضلونها عن غيرها، ويرتبون أبوابها كما فعل مالك في الموطأ؛ فقد جمع أحاديث الأحكام ورتبها، وكما فعل محمد بن إسحاق فقد جرد الأحاديث المتعلقة بالسيرة، وزاد عليها غيرها من أشعار قيلت وأخبار رويت، وكون من ذلك كله السيرة النبوة وهكذا - فمنزلة الحديث بالنسبة للعلوم الدينية كمنزلة الفلسفة للعلوم العقلية، كانت الفلسفة شاملة لكل فروع البحث العقلي، ثم أخذ ينفصل عنها علم النفس وعلم الطبيعة وعلم الاجتماع ، ونحو ذلك.
فاستقلت العلوم عن الحديث، ولكن ظل الحديث عن المحدثين - كما هو - شاملا لجميع الفروع، ومنها التفسير؛ فنجد في البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث أبوابا في التفسير.
إذن نشأ التفسير فرعا من فروع الحديث يروى فيه عن النبي
صلى الله عليه وسلم
ما يتعلق بالقرآن من ذكر فضائله وتفسير بعض آياته. مثال ذلك ما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم:
فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا
ومثل ما روى الزبير في قوله تعالى:
ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ، قال الزبير: قلت يا رسول الله، وأي نعيم نسأل عنه؟ وإنما هو الأسودان التمر والماء. قال أما إنه سيكون.
وما روي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في ذلك قليل، حتى روي عن عائشة أنها قالت: «لم يكن النبي
صلى الله عليه وسلم
يفسر شيئا من القرآن إلا آيات تعد، علمهن إياه جبريل»
31
فلما جاء الصحابة فسروا آيات من القرآن، وخاصة علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، إما اجتهادا منهم أو سماعا من رسول الله، وشرحوا في كثير من الأحيان أسباب نزول الآية وفي من نزلت. مثال ذلك ما روي عن ابن عباس في قوله تعالى:
لرادك إلى معاد
قال إلى مكة، وعن أبي هريرة في قوله تعالى:
إنك لا تهدي من أحببت
قال نزلت في رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حيث يراود عمه أبا طالب على الإسلام.
فجاء التابعون فرووا كل ما ذكره الصحابة من هذا القبيل - وكان من التابعين أنفسهم من فسر بعض آيات القرآن، أو ذكر سببا لنزولها، إما اجتهادا منه أو سماعا، فجاءت الطبقة التي تليهم وروت عنهم ما قالوا. مثال ذلك: ما روي عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا ، فتلوت عليه الآية التي في الفرقان، فقال هذه آية مكية نسختها آية مدينة:
ومن يقتل مؤمنا متعمدا .
وهكذا ظل التفسير يتضخم طبقة بعد طبقة، وتروي الطبقة التالية ما كان من الطبقات قبلها، وتزيد عليه ما عرض لها، وفي كل طبقة يتصل أفرادها بكثير من مسلمة اليهود والنصارى والمجوس، فاتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه، وكعب الأحبار، وعبد الله بن سلام، واتصل التابعون بابن جريج، وهؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة والإنجيل وشروحها وحواشيها، فلم ير المسلمون بأسا من أن يقصوها بجانب آيات القرآن، فكانت منبعا من منابع التضخم، كما أسلفنا الكلام على ذلك في «فجر الإسلام».
لكن هذه التفسيرات جميعها، لم تتخذ في أول أمرها شكلا منظما بأن تذكر آيات القرآن مرتبة كترتيب المصحف ثم تتبع بتفسيرها، بل كانت هذه الأحاديث تروى منثورة تفسيرا لآيات متفرقة، كما هو الشأن في الحديث، فحديث صلاة بجانبه حديث ميراث، بجانبه حديث زواج، بجانبه حديث تفسير آية وهكذا، ولا يعترض علينا بكتاب تفسير ابن عباس، فإنه لم يصح عند الثقات نسبته إليه.
وجاءت الخطوة الثانية، وهي تجريد ما ورد في الحديث المرفوع والموقوف من التفسير، وقد عني بذلك قوم من التابعين، اختص كل جماعة بجمع تفسير عالم مصرهم فعني المكيون برواية ما ورد من التفسير عن ابن عباس المكي، كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير؛ وعني التابعون من الكوفيين برواية ما ورد عن ابن مسعود الكوفي، كعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وإبراهيم النخعي، والشعبي وهكذا.
ثم جاءت طبقة جمعت كل أقوال الصحابة والتابعين في الأمصار المختلفة، وشأنهم في ذلك شأن المحدثين، فقد بدأ أولا أهل كل مصر يجمعون حديث مصرهم، ثم وجدت طبقة رحلت إلى الأمصار المختلفة تجمع أحاديثها، فكذلك في التفسير وهو فرع من الحديث، وجدت طبقة تجمع بجانب الحديث ما روي في الأمصار من تفسير، ومن هؤلاء سفيان بن عيينة (مات سنة 198)، ووكيع بن الجراح (سنة 196)، وشعبة بن الحجاج (سنة 160)، وإسحاق بن راهويه (سنة 238) وهؤلاء جميعا من أئمة الحديث، فكان جمعهم للتفسير جمعا لباب من أبوابه.
وكانت الخطوة الثالثة انفصال التفسير من الحديث، وعده علما قائما بنفسه، ووضع التفسير لكل آية من القرآن أو جزء من أية مرتبة حسب ترتيب المصحف، كما فعل ابن جرير الطبري في تفسيره.
ويذكر ابن النديم «أن عمر بن بكير كتب إلى الفراء أن الحسن بن سهل ربما سألني عن
الشيء بعد الشيء
من القرآن، فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولا أو تجعل في ذلك كتابا أرجع إليه فعلت. فقال الفراء لأصحابه اجتمعوا حتى أمل عليكم كتابا في القرآن، وجعل لهم يوما، فلما حضروا خرج إليهم، وكان في المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس في الصلاة، فالتفت إليه الفراء فقال له: اقرأ بفاتحة الكتاب نفسرها ثم نوفي الكتاب كله، فقرأ الرجل وفسر الفراء. فقال أبو العباس:
لم يعمل أحد قبله مثله ، ولا أحسب أن أحدا يزيد عليه».
فهل نستطيع أن نفهم من هذا النص أن الفراء (المتوفى سنة 207) أول من تعرض لآية آية حسب ترتيب المصحف وفسرها على التتابع، وكان من قبله يقتصرون على تفسير المشكل، وأن التفاسير السابقة عليه، كالذي روي عن ابن عباس وكتفسير السدي وغيره كانت من هذا القبيل؟ هذا هو الذي أميل إليه، وإن كانت عبارة ابن النديم ليست قاطعة في هذا.
ولست أعني بهذا الترتيب أن كل خطوة كانت تمحو ما قبلها وتلغي العمل بها، بل أعني بذلك تدرج خطوات التفسير وإسلام بعضها إلى بعض، وأنه حتى بعد ظهور الدرجة الثالثة ظل المحدثون يسيرون على الخطة الثانية من رواية المنقول في التفسير في باب خاص من أبواب الحديث، مقتصرين فيه على ما ورد عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والصحابة والتابعين في تفسير بعض الآيات. •••
وكما كان في الحديث صحيح وحسن وضعيف، وكان في الرواة موثوق به ومشكوك فيه ووضاع، كان كذلك فيما روي من تفسير وفي من روى من المفسرين، فقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل: «ثلاثة ليس لها أصل: التفسير، والملاحم والمغازي».
32
وظاهر هذه الجملة أن الأحاديث التي وردت في التفسير لا أصل لها وليست بصحيحة، والظاهر - كما قال بعضهم - أنه يريد الأحاديث المرفوعة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
في التفسير، أما الأحاديث المنقولة عن الصحابة والتابعين فلا وجه لإنكارها، وقد اعترف هو نفسه ببعضها؛ وأكثر ما كان الوضع في التفسير كان فيما أسند إلى ابن عباس وعلي بن أبي طالب، وكان ذلك لأسباب شرحناها في «فجر الإسلام».
فابن عباس قد رويت عنه روايات كثيرة في التفسير، وجد في بحث طرقها وتعديل الرواة عنه وتجريحهم، وقالوا إن أعدل الرواة عنه علي بن أبي طلحة الهاشمي المتوفى سنة 143. قال ابن حجر: وهذه النسخة (يعني ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس) كانت عند أبي صالح كاتب الليث (ابن سعد في مصر)، رواها عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ... وقد اعتمد عليها البخاري في صحيحه كثيرا فيما يعلقه عن ابن عباس. وقال أحمد حنبل: «بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا»؛ وعلي بن أبي طلحة هذا لم يسمع هذه الصحيفة من ابن عباس، ولكنه كان ثقة فيما يرويه. وبجانب هذه الرواية عن ابن عباس روايات أخرى كثيرة موضوعة مكذوبة، فقد ذكروا أن لمحمد بن إسحاق المؤرخ المشهور المتصل بالعباسيين رواية عن ابن عباس هي أوهى الطرق، وكذلك رواية الكلبي ومقاتل بن سليمان.
وكذلك روي عن علي بن أبي طالب الشيء الكثير مما نقده رجال الحديث. •••
وقد اشتهر جملة من التفاسير قبل تفسير ابن جرير، منها هذه التفاسير التي ذكرنا أنها رويت عن ابن عباس، بعضها صحيح وبعضها غير صحيح، ومنها تفسير ابن جريج، وقد كان شأنه شأن المحدثين الأولين يجمعون ما وصل إليهم من صحيح وغير صحيح. وقد ذكروا: «أن ابن جريج لم يقصد الصحة وإنما روى ما ذكر في كل آية من الصحيح والسقيم»،
33
ومنها تفسير السدي (المتوفى سنة 127)، وقد أورد فيه ما نسب إلى ابن مسعود وابن عباس وأناس من الصحابة، والسدي نفسه كان مختلفا في الثقة به، والذي يروي تفسيره أسباط بن نصر، وقد اختلفوا فيه أيضا؛ ولذلك أبى أن يروي عنهما كثير من ثقات المحدثين.
34
ومنها تفسير مقاتل ابن سليمان (مات سنة 150). «وقد كان يأخذ عن اليهود علم الكتاب»، واتهمه أبو حنيفة بأنه مشبه كذاب؛ وقال ابن المبارك فيه: «ما أحسن تفسيره لو كان ثقة». ومنها تفسير محمد بن إسحق ذكر فيه أقوالا لوهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهما من الرواة عن اليهودية والنصرانية، وهذا التفاسير لم تصل إلينا، ولكن ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 جاء فجمع أكثرها وأدخلها في كتابه.
ولابد أن ننبه هنا إلى أمر هام، وهو أنه مهما كثر الوضع في التفسير والحديث فإن الوضع ينصب على الرواية نفسها، فقد يروون عن ابن عباس أو علي أو ابن مسعود شيئا لم يقله، ولكن الشيء المروي نفسه لم يفقد قيمته العلمية، فإن الذي نسب إلى ابن عباس ليس أمرا خياليا بعيدا عن تفسير الآية مثلا، وإنما هو رأي محترم نتيجة اجتهاد، والشيء الذي لا قيمة فيه هو نسبته إلى ابن عباس أو ابن مسعود، أما القول في ذاته فمحل للتقدير من حيث هو رأي أو اجتهاد في تفسير الآية، بني على تفكير كثيرا ما يكون صحيحا، بل وكذلك ما وضع حول الآية مما روي عن أهل الكتاب، قد تكون نسبته إلى أحد الصحابة غير صحيحة، ولكن له دلالته العلمية من حيث ما كان يتداوله أهل الكتاب في ذلك العصر من أخبار، ومن حيث مقدار اتصال المسلمين بأهل الكتاب، ومن حيث دلالته على ما كان يفعله من أسلم من يهود ونصارى من إدخال ما كان يشغل رءوسهم قبل إسلامهم - في الحديث والتفسير - فلم يكن الموضوع مجرد خيال أو وهم خلق خلقا، بل له أساس ما، يهم العالم والباحث درسه، وله قيمته الذاتية، وإن لم تكن له قيمته الإسنادية. •••
ونوع آخر من الترقي في التفسير، وهو أن ما نقل عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والصحابة من تفسير لم يكن يشتمل على تفسير آيات القرآن جميعها، إنما ورد عنهم تفسير لبعض ما غمض؛ وهذا الغموض كان يزيد كلما بعد الناس عن عصر النبي والصحابة؛ لأن العربية لم تعد سليقة لكثير من الناس وخاصة أهل الحضر، فاحتاج المشتغلون بالتفسير أن يكملوا هذا النقص بشرح ما لم يرد فيه شرح، فاجتهد التابعون في تكميل بعض هذا النقص، وجد من بعدهم في ذلك حتى أكملوا تفسير الآيات جميعها، معتمدين على ما عرف من لغة العرب وأساليبهم، وما ورد في التاريخ من الأحداث التي حدثت في عصر النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهكذا.
وقد وقف الناس في ذلك موقفين، كالموقف الذي وقفوه في التشريع من انقسام إلى أهل الحديث، وأهل الرأي، فقوم تشددوا في التفسير فلم يروا أن يجرءوا على تفسير شيء من القرآن ما لم يرد فيه قول للنبي
صلى الله عليه وسلم
أو للصحابة (رضى الله عنهم) كالذي، روي عن عبيد الله بن عمر أنه قال: «لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع، وقال الشعبي: ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت، القرآن والروح والرأي»،
35
بل تحرج بعضهم أن يذكر شيئا يتعلق بآية من القرآن. ومن أمثلة ذلك في عصرنا: «الأصمعي» فهو مع علمه الواسع باللغة «كان شديد الاحتراز في تفسير الكتاب والسنة، فإذا سئل عن شيء ما يقول: العرب تقول معنى هذا كذا، ولا أعلم المراد منه في الكتاب والسنة أي شيء هو»
36
وقال أبو الطيب: «كان الأصمعي شديد التأله، فكان لا يفسر شيئا من القرآن، ولا شيئا من اللغة له نظير واشتقاق في القرآن، وكذلك الحديث».
37
وأمثال هؤلاء حملوا على المفسرين بالرأي، كما حمل فقهاء الحديث على فقهاء الرأي ورووا حديث: «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».
وعلى العكس من ذلك قوم لم يروا بأسا أن يفسروا القرآن حسب اجتهادهم. قال الماوردي: «قد حمل بعض المتورعين هذا الحديث على ظاهره، وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده، ولو صحبها الشواهد، ولم يعارض شواهدها نص صريح، وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر في القرآن، واستنباط الأحكام، كما قال تعالى:
لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، ولو صح ما ذهب إليه لم يعلم شيء من استنباط، ولما فهم الأكثر من كتاب الله؛ وإن صح الحديث فتأويله: «إن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه فقد أخطأ». وعلى هذا الرأي جرى كثير من المفسرين، فاجتهدوا وعرضوا آراءهم، وكل ما أوجبوه ألا يبدوا الرأي قبل أن يستكملوا أدواته من علم باللغة وأساليب العرب، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ وما إلى ذلك، فأقبلوا على القرآن يفسرونه، وكان أكثر من قام بهذا علماء العراق، موطن أصحاب مدرسة الرأي في التشريع؛ ومن هذا وجد القول بالتفرقة بين التفسير والتأويل، فقد عنوا بالتفسير ما أعتمد فيه على النقل مما ورد عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
والصدر الأول، وخاصة في الأمور التوقيفية التي ليس للعقل فيها كبير مجال، كتفسير الحروف المقطعة: الم وحم ويس، وكأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وعنوا بالتأويل ما يعتمد فيه على الاجتهاد، ويتوصل إليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها في لغة العرب، واستعمالها بحسب السياق، ومعرفة الأساليب العربية، واستنباط المعاني من كل ذلك.
وقد انقسمت كتب التفاسير إلى هذين النوعين، تبعا لهذا وتبعا للمنهجين اللذين ذكرناهما في أول هذا الكتاب، فمن العلماء من غلب عليه منهج المحدثين فاقتصر على ذكر المنقول، ومنهم من غلب عليه منهج العقليين فشرح باجتهاده. •••
ولما دونت علوم اللغة والنحو والفقه، وأثيرت مسائل الكلام وبحثت في العصر العباسي، أثرت في علم التفسير أثرا كبيرا، فالنحويون أخذوا القرآن الكريم مادة من موادهم لاشتقاق قواعدهم وتطبيقها، فأعربوا القرآن إعرابا أعان على التفسير، واللغويون وضعوا الكتب في غريب القرآن، كما فعل أبو عبيدة، وكان لذلك دخل في إيضاح بعض الآيات، وقد عني النحويون واللغويون بوضع كتب كثيرة تسمى «معاني القرآن»، فمعاني القرآن للكسائي وليونس ابن حبيب، ولقطرب، وللفراء، وللمفضل الضبي، ولخلف النحوي، ولأبي عبيدة ، وقد نحوا في تآليفهم مناحي مختلفة، فمنهم من عني بمشكلات القرآن، وما يوهم الاختلاف فيه، والتعرض للآيات التي ظاهرها التعارض كما فعل قطرب، مثل قوله تعالى:
فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ؛ ومنهم من عني ببيان مجازات القرآن، مثل قوله تعالى:
حتى تضع الحرب أوزارها ، وقوله تعالى
فليدع ناديه ، وقوله:
فبشرهم بعذاب أليم
إلخ؛ ومنهم من تعرض للمشكلات النحوية، مثل قوله تعالى:
إن هذان لساحران ، وقوله:
والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ، وقوله تعالى:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ، إلى آخر ما سلكوا من مناح مختلفة.
وعني الفقهاء بآيات الأحكام يستنبطون منها، وألفوا في ذلك الكتب، فكتاب أحكام القرآن (على مذهب مالك)، وكتاب أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (على مذهب أهل العراق)، وكتاب أحكام القرآن للإمام الشافعي، وأحكام القرآن لداود بن علي الظاهري
38
إلخ.
كل هذا غذى التفسير بأنواع من الغذاء مختلفة؛ يضاف إلى ذلك ما فعله المؤرخون من جمع تواريخ الأمم، من يهود ونصارى وفرس وغيرهم، وإمداد تفسير الآيات التاريخية بما وصل إليه علمهم من التاريخ.
وجاء المتكلمون - وهم أظهر عنصر عقلي في هذه الحركة العلمية - وكانوا لا يميلون كثيرا إلى المنقول، ولا يثقون بكل ما فيه ثقة المحدثين وغيرهم، وكانت لهم مذاهب مقررة في العدل والتوحيد وصفات الله وأفعال العباد ونحو ذلك، ثبتت لهم ببحثهم، فتعرضوا لتأويل القرآن بهذه العقلية وهذه العقيدة.
وكان من الطبيعي أن طريقتهم لا ترضي الذين يعتمدون في التفسير على النقل، ولا ترضي أهل السنة، فكان نزاع بين الطريقتين، فهاجمهم ابن قتيبة في التفسير كما هاجمهم في الحديث، فقال: «وفسروا القرآن بأعجب تفسير يريدون أن يردوه إلى مذاهبهم، ويحملوا التأويل على نحلهم، فقال فريق منهم في قوله تعالى:
وسع كرسيه السماوات والأرض
أي علمه، وجاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف، وهو قول الشاعر: ولا يكرسئ علم الله مخلوق - كأنه عندهم: ولا يعلم علم الله مخلوق - ويكرسئ مهموز، يستوحشون أن يجعلوا لله تعالى كرسيا، ويجعلون العرش شيئا آخر، والعرب لا تعرف العرش إلا السرير وما عرش من السقوف: والآبار ... وقال فريق منهم في قوله تعالى:
ولقد همت به وهم بها
إنها همت بالفاحشة، وهم هو بالفرار منها أو الضرب لها، والله تعالى يقول
لولا أن رأى برهان ربه ، أفتراه أراد الفرار منها أو الضرب لها، فلما رأى البرهان أقام عندها! ... وقالوا في قوله تعالى:
واتخذ الله إبراهيم خليلا
أي فقيرا إلى رحمته، وجعلوه من الخلة استيحاشا من أن يكون الله تعالى خليلا لأحد من خلقه، واحتجوا بقول زهير: «وإن أتاه خليل يوم مسغبة»؛ فأي فضيلة في هذا لإبراهيم؟ أما تعلمون أن الناس كلهم فقراء إليه؟ وهل إبراهيم في خليل الله إلا كما قيل: «موسى كليم الله، وعيسى روح الله»؟. وهكذا استمر في الرد عليهم وعلى الشيعة في تفسير بعض آيات القرآن على مذهبهم.
39
وقابلهم المتكلمون بمثل هجومهم، فالجاحظ يميل في أغلب الأحيان إلى استعمال العقل في التفسير، كما صنع في قوله تعالى:
إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رءوس الشياطين
فيقول: «ليس أن الناس رأوا شيطانا قط على صورة، ولكن لما كان الله قد جعل في طباع جميع الأمم استقباح جميع صور الشياطين واستسماجه وكراهته، وأجرى على ألسنة الناس جميعهم ضرب المثل في ذلك، رجع بالإيحاش والتنفير، وبالإخافة والتقريع، إلى ما قد جعله الله في طباع الأولين والآخرين وعند جميع الأمم ... وهذا التأويل أشبه من قول من زعم من المفسرين أن رءوس الشياطين نبات ينبت باليمن»؛
40
ويذكر آية المسخ ويناقش هل يمكن أن تقلب الناس قردة وخنازير؟ وعلى أي شكل كان؟ وهل المراد أن تكون خلقتهم أشبه شيء بالقردة والخنازير كما يرى في بعض الناس؟ ويعرض في ذلك لقول الدهريين وشيوخ المعتزلة وغيرهم؛
41
ويذكر هدهد سليمان، ويذكر اعتراضات الخصوم على تهديد سليمان له بالذبح ويردها،
42
ويتكلم في الجن واستراق السمع ويطيل في ذلك
43
وعلى الجملة فنرى في كتاب الحيوان في مواضع متفرقة نوعا آخر من التفسير، هو تفسير بالمعقول، نتبين منه حركة عنيفة كانت، وهي مهاجمة اليهود والنصارى والملحدين آيات في القرآن، والاعتراض عليها من ناحية العقل، ورد المعتزلة عليهم من نحو طريقهم، كما نرى فيه ردودا واعتراضات وتشنيعات على بعض أقوال للمفسرين الذين اكتفوا في قولهم بالاعتماد على المنقول ولو خالف المعقول. وهذا النوع من التأويل هو الذي نما بعد فكان منه تفسير الكشاف للزمخشري، وتفسير الفخر الرازي ونحوهما.
وعلى كل فهذه النقول التي رويت عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهذه العلوم التي دونت في العصر العباسي وابتكرت، من نحو وصرف وبيان وفقه وحديث وتاريخ وكلام، كلها تعاونت على خدمة تفسير القرآن. ولعل أحسن مظهر لهذا كله - مما وصل إلينا - تفسير أبي جعفر الطبري؛ فقد جمع فيه كثيرا من مجموعات التفاسير التي سبقته، وفاضل بين رواياتها واختار أمثلها؛ جمع فيه ما روته مدرسة ابن عباس ومدرسة علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي بن كعب، واستفاد مما جمعه ابن جريج والسدي وابن إسحاق من التفاسير، ثم زاد على ذلك ما وصل إليه العلم في عصره من إعراب واستنباط؛ فنراه يجمع نقول الصحابة والتابعين في التفسير كما تقدم، ونراه ينقل عن محمد بن إسحق حتى ما رواه عن مسلمة النصارى، فيقول: حدثني سلمة، عن محمد بن إسحق، عن أبي عتاب - رجل من تغلب كان نصرانيا عمرا من دهره ثم أسلم بعد، فقرأ القرآن وفقه الدين - وكان فيما ذكر أنه كان نصرانيا أربعين سنة، ثم عمر في الإسلام أربعين سنة؛ ثم يروي له خبرا عن آخر بني إسرائيل،
44
وذلك في تفسير قوله تعالى:
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا . وقد ملأ تفسير الآية بما ورد في الإسرائيليات من روايات عن أسباط عن السدي وعن ابن جريج وغيرهما.
ويقول في موضع آخر: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثنا محمد بن إسحق قال: حدثني من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم، ثم يسوق الحديث في ذلك عن ذي القرنين.
ويروي في الوضع نفسه عن محمد بن إسحق قال: حدثني من لا أتهم، عن وهب بن منبه اليماني، وكان له علم بأحاديث الأول، ثم يروي عنه خبرا عن ذي القرنين.
45
كذلك نجد في تفسير الطبري آثارا كثيرة لمذاهب البصريين والكوفيين في النحو والصرف وتطبيقها على القرآن، فيقول: قال بعض نحويي الكوفة كذا، وقال بعض نحويي البصرة كذا، كما نجد آثارا للأحكام الفقهية،
46
وآثارا للمتكلمين من مناقشتهم في القدر وغيره - هذا إلى ما مليء به الكتاب من معان للألفاظ اللغوية والاستشهاد عليها بأشعار العرب - فهو على الجملة أكبر أثر يبين لنا آثار السلف الأول الذين كانوا يقتصرون على النقل، وآثار علماء العصر العباسي بعد أن دونوا العلوم وخدموا بها القرآن؛ وإن كان ينقصه شيء فهو أنه لم يتعرض كثيرا لأقوال المتكلمين في عصره، وخاصة المعتزلة؛ لأن ثقافته كانت ثقافة دينية ولغوية وتاريخية، ولم ينغمر في تيار المتكلمين، وما جاء فيه من تعرض لمسائل القدر ونحوها، فقد أتاه على ما يظهر من طريق المحدثين، فقد تعرضوا للقدر وأبانوا مذهبهم، وردوا على الجهمية وأشباههم.
الفصل الخامس
التشريع
تركنا التشريع في العصر الأموي، وأظهر مميزاته انقسامه إلى قسمين: أهل الرأي، وأهل الحديث؛ وقد تجلى ذلك أكبر جلاء في آخر العهد الأموي، وأول العهد العباسي، وزاد الخلف بين الطائفتين، وتميزتا على مرور الزمان، وأصبحت أعلام كل مدرسة من المدرستين جلية واضحة مغايرة لأعلام الأخرى في الشارة واللون، وما إلى ذلك، ويحمل أعلام مدرسة الحديث الحجازيون، وخاصة المدنيين، وعلى رأسهم مالك بن أنس وتلاميذه، ويحمل أعلام مدرسة الرأي العراقيون خاصة الكوفيين، وعلى رأسهم أبو حنيفة النعمان.
وفخر العراقيون بأنه قد نزل بين أظهرهم أعلام من الصحابة، كعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وأبي موسى الأشعري وغيرهم، وقال الحجازيون إن من تفرق من الصحابة في الأمصار أقل عددا ممن بقي في الحجاز، فإن النبي
صلى الله عليه وسلم
بعد رجوعه من حنين ترك بالمدينة نحو اثني عشر ألف صحابي، مات بها نحو عشر آلاف ، وتفرق في سائر الأقطار نحو ألفين.
وفي الواقع إذا حصرنا نظرنا في الحديث، وجدنا الأولوية للحجازيين؛ فأكثر الصحابة كانوا بالمدينة، وهم أعرف الناس بحديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأخبر بقوله وعمله، وحتى من رحل منهم إلى العراق وسائر الأمصار فإنما كانوا عارية من الحجاز، وقد خلف هؤلاء - كعلي بن أبي طالب - وعبد الله بن مسعود - الحديث في المدينة كما خلفوه في العراق، ففضل الحجازيين في هذا لا ينكر؛ ولهذا إذا تجادل الحجازيون والعراقيون في هذا الباب كان الحجازيون أقوى وأقهر، بل عابوا على العراقيين أنهم يتزيدون في الحديث الصحيح، ويكثرون من الحديث الموضوع، قال مالك: «إذا جاوز الحديث الحرتين ضعفت شجاعته»، وكان مالك يسمي الكوفة «دار الضرب»، يعني أنها تصنع الأحاديث وتضعها، كما تخرج دار الضرب الدراهم والدنانير، وقال ابن شهاب: «يخرج الحديث من عندنا شبرا فيعود في العراق ذراعا».
وسبب ذلك أن حديث رسول الله بدأ وختم في الحجاز، والمستمعون لرسول الله كثيرون، ومن العسير الكذب في حادثة شاهدها الكثير، أو في قول سمعه الجم الغفير، وليس الشأن كذلك في العراق؛ فبعده عن الحجاز يجعل اصطناع القول ممكنا - هذا إلى أن أخلاط المسلمين من الأمم المختلفة كانوا في العراق أكثر منهم في الحجاز، وفيهم من لم يصل الإيمان إلى أعماق نفسه، فلا يتحرج من اختلاق حديث أو رواية خبر غير صحيح، ما دام ذلك يعلي شأنه ويؤيد دعواه؛ وعامل آخر هو ظهور المذاهب المختلفة في العراق، من معتزلة ومرجئة وأصناف من المتكلمين، وليس يجاريهم في ذلك أهل الحجاز؛ لبساطة أهله في الحياة والعقيدة، وفي كل صنف من هؤلاء من رأى أن يؤيد حجته ورأيه بتأويل آيات القرآن واختلاق الحديث كما أسلفنا.
على أن الحجازيين وإن بزوا العراقيين في الحديث، فقد بزهم العراقيون في الرأي، وهو ما يسمى «القياس»، وكان ذلك طبيعيا أيضا؛ لأن الأحداث تتبع في كثرتها وقلتها المدنية، فإذا كانت معيشة قوم ساذجة بسيطة، كما هو الشأن في الحجاز، كانت مسائلها الاقتصادية والجنائية وأحوال الأسرة ساذجة بسيطة، وإن تعقدت الحياة وعظمت المدنية كما هو الشأن في العراق، تعقدت الأحداث الاقتصادية والجنائية والاجتماعية وتنوعت، وكل هذه الأحداث تحتاج إلى تشريع، وأحاديث رسول
صلى الله عليه وسلم
الله التي كانت معروفة بالحجاز تكفي بنصها على وجه التقريب للإفتاء بما يقع في الحجاز من أحداث؛ للشبه الكبير بين عهد مالك وعهد النبي
صلى الله عليه وسلم ، وليس كذلك الشأن في أحداث العراق، فهي كثيرة معقدة متنوعة. بالعراق دجلة والفرات وما يتطلب ذلك من ري وخراج ليس مثلهما في الحجاز، وفي العراق مال وفير يصب صبا، والمال يتبعه الترف والنعيم، واللهو والإجرام، وخلق مشاكل تحتاج إلى فتاوى ليس مثلها في الحجاز، وبالعراق أخلاط من فرس وروم ونبط وغير ذلك لهم عادات اقتصادية واجتماعية ليس مثلها في الحجاز، فلئن كفى الحديث في الحجاز وحاجاتهم قليلة وحديثهم كثير، فليس يكفي في العراق وحاجتهم كثيرة وحديثهم قليل - لذلك اضطروا إلى إعمال الرأي فيما لم يرد فيه نص، والتوسع في النص بالوضع - ورأينا النزاع يشتد حول القياس وجوازه وعدم جوازه، وكانت معركة كبيرة نجمل أمرها فيما يلي: لعب القياس دورا كبيرا في العصر العباسي، وشغل حيزا كبيرا من العلوم؛ فالقياس في أصول الفقه، وفي الفقه، وفي اللغة، وفي النحو، وفي المنطق؛ والذي يهمنا الآن منه أثره في التشريع.
أصل القياس أن يعلم حكم في الشريعة لشيء فيقاس عليه أمر آخر لاتحاد العلة فيهما، ولكنهم توسعوا في معناه أحيانا فأطلقوه على النظر والبحث عن الدليل في حكم مسألة عرضت لم يرد فيها نص، وأحيانا يطلقونه على الاجتهاد فيما لا نص فيه، وبعبارة أخرى جعلوه مرادفا للرأي، ويعنون بالرأي وبالقياس بهذا المعنى أن الفقيه من طول ممارسته للأحكام الشرعية تنطبع في نفسه وجهة الشريعة في النظر إلى الأشياء؛ وتمرن ملكاته على تعرف العلل والأسباب، فيستطيع إذا عرض عليه أمر لم يرد فيه نص أن يرى فيه رأيا قانونيا متأثرا بجو الشريعة التي ينتمي إليها، وبأصولها وقواعدها التي انطبعت فيه من طول مزاولتها، ومن أجل هذا ذموا الرأي الذي يصدر ممن ليس أهلا للاجتهاد، والرأي الذي لا تسنده أصول الدين، وهذا الرأي أو القياس كان مثارا للنزاع بين العلماء منذ العصر الأموي كما أبنا ذلك في فجر الإسلام حتى بين الصحابة، فمنهم من كان يتشدد فلا يفتي إلا بما ورد فيه نص من كتاب أو حديث كعبد الله بن عمر، ومنهم من كان يبدي الرأي فيما يعرض من الحوادث التي لم يرد فيها نص، كعمر وعبد الله ابن مسعود وغيرهما، وروي في ذلك الشيء الكثير؛ واستمر النزاع بين النزعتين يقوى ويشتد إلى العصر العباسي، وأصبحت رياسة أهل الرأي لفقهاء الكوفة، وأهل الحديث لأهل المدينة؛ وفي الواقع لم يخل إمام من الأئمة - سواء كان من أهل الرأي أم الحديث - من القول بالرأي، وهو مضطر إلى ذلك؛ لأن التقدم في المدنية يخلق كل يوم حوادث جديدة تحتاج لفتوى الفقهاء، ولا يعد فقيها حتى يفتي فيها، ولكن الفقهاء اختلفوا درجات متفاوتة في مقدار الأخذ بالرأي والاعتماد عليه، فمنهم من ضيق أمره، ومنهم من توسع، ومنهم من توسط كما سيأتي بيانه، وكان هذا من أهم الأصول التي خالفت بين الأئمة في التشريع.
وبينا نرى الخلاف بين الأئمة في الرأي على هذا النحو، نرى مسألة أخرى تثار، لها اتصال كبير على ما يظهر لي بمسألة الرأي والقياس، وهي «مسألة التحسين والتقبيح العقليين»، وهي مسألة أثارها المعتزلة، ومدارها هو: هل في الأفعال صفات من حسن أو قبح جعلت الشارع يأمر بها، أو ينهى عنها؟ فلولا ما في الصدق من صفة لما أمر به، ولولا ما في الكذب من صفة لما نهى عنه؟ أو أن الشارع بأمره الصدق جعله حسنا، وبنهيه عن الكذب جعله قبيحا؟ ولو شاء لعكس؛ هذه مسألة عاصرت القياس والرأي، وفي نظري أنهما مسألتان متساندتان، فمن كان يرى أن الأفعال صفات من أجلها أمر بها الشارع أو نهى، قال: إن هذه الصفات يمكن إدراكها بالعقل؛ ولذلك يكون الرأي في إمكانه كشف هذه الصفات وتعرفها وإصدار حكم فيها، وذلك يجعل له حرية كبيرة في التشريع، ومن قال بعدم الصفات الذاتية، وأن أمر الشارع هو الذي يحسن ويقبح، كان من الطبيعي أن يقف في اجتهاده على النص، وكل ما يستطيع في الاجتهاد أن يلحق الشبيه بشبيهه، وطبيعي أن يذهب الحنفية إلى الرأي الأول، وأن العقل يستطيع إدراك ما في الشيء من صفات حسن أو قبح، وأن الإنسان لو لم تبلغه دعوة فلا عذر له في الجهل بخالقه لدلالة العقل عليه، وهو ملزم بفعل الحسنات وترك السيئات؛ لأن العقل يرشد إلى ذلك، وأصبحت هذه المسألة من مسائل أصول الفقه.
1
وأخذت المسألة دورا كبيرا في الجدل بين أصحاب الرأيين، فيقول - مثلا - أحد الفريقين، وهو المنكر للتحسين والتقبيح العقليين: إنا نرى الشريعة قد فرقت بين المتماثلين وجمعت بين المختلفين، ولو كان الأمر بالعقل لجمع بين المتماثلين وفرق بين المختلفين، فالشارع أوجب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، مع أن الصلاة أولى بالمحافظة عليها، وحرم النظر إلى العجوز الشوهاء القبيحة النظر إذا كانت حرة، وجوزه إلى الشابة البارعة الجمال إذا كانت أمة، واكتفى في القتل بشاهدين دون الزنا، وحرم المطلقة ثلاثا على الزوج المطلق، ثم أباحها له إذا تزوجت بغيره، وحالها في الموضعين واحدة، وأباح للرجل أن يتزوج أربعا، ولم يبح للمرأة إلا رجلا واحدا، مع قوة الدواعي من الجانبين، وقطع يد السارق لكونها آلة المعصية، فأذهب العضو الذي تعدى به على الناس، ولم يقطع اللسان الذي يقذف المحصنات، ولا العضو الذي يزني به، وأوجب الزكاة في خمس من الإبل، وأسقطها عن عدة آلاف من الخيل إلخ. إلخ ... فلو كان الأمر بالعقل لكان الحكم غير هذا؛ فكيف نترك الحكم للرأي؟ وكيف نقول بالحسن والقبح العقليين؟
وقد رد عليهم الآخرون ردودا طويلة مجملة ومفصلة، وأبديت فيها آراء مختلفة في عصور مختلفة، ومن هؤلاء من توسط فجعل للعقل سلطانا ومقدرة على المعرفة في غير العبادات، أما العبادات فما لا دخل للعقل فيها.
2
على كل حال لو رسمنا دوائر تمثل مقدار المذاهب في استعمال الرأي لكان أصغرها دائرة الظاهرية، ثم الحنابلة، ثم المالكية، ثم الشافعية، ثم الحنفية.
وقد اتخذ بعض أنواع الرأي أسماء خاصة، كالاستحسان، والمصالح المرسلة، فالاستحسان قد عرفوه تعريفات مختلفة، أقربها إلى الفهم أن يكون في المسألة شبه بمسألة أخرى ورد فيها نص، وكان من مقتضى ذلك أن يقيس الفقيه هذه المسألة على المسألة التي ورد فيها النص، ولكنه لا يفعل ذلك ويترك هذا القياس إلى تقدير المسألة بمقتضى العدالة، فهو يبحث عن العدالة المطلقة في المسألة ويصدر بمراعاتها حكمها؛ وهذا - كما ترى - أوغل في باب الرأي، وقد قال بالاستحسان الحنفية، وأنكره الشافعية؛ وروي عن الشافعي في ذمه أنه قال: «من استحسن فقد شرع».
3
وقريب من هذا ما يسمى «الاستصلاح» أو «المصالح المرسلة»، وذلك أن الشارع - كما قالوا - يدور في تشريعه على حفظ أمور خمسة وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال؛ ولو استقرينا أوامر الشرع ونواهيه لوجدناها لا تتعدى هذه الأمور، ولو دققنا في معرفة ما حلله الشرع أو حرمه لوجدنا علته كذلك، فإذا عرضت مسألة من المسائل لم يرد فيها نص نظرنا فيما يترتب على الأمر من المصالح والمضار، وقدرنا ذلك كله، وأصدرنا حكمنا بحله أو حرمته، وقد مثلوا لذلك بكفار تترسوا بجماعة من أسرى المسلمين، فلو كففنا عنهم لقاتلونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا المسلمين؛ ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا، فقالوا إن المصلحة تقتضي القتال ولو قتل الترس؛ لأن مقصود الشرع تقليل القتل، أو منعه عند الإمكان، وفي مقاتلته الكفار تحقيق لهذا؛ لأنه إذا لم يفعل قتلوا المسلمين ثم قتلوا الأسرى، فالأسير مقتول على كل حال، وأقرب الطرق إلى تقليل القتلى هو مقاتلة الأعداء ولو تترسوا بالمسلمين؛ فترى من هذا أنهم يعنون بالاستصلاح أو بالمصالح وزن ما يعرض من مسائل بميزان المصلحة العامة، أو بأغراض الشارع العامة، أو بالقواعد الأساسية التي جاءت من أجلها الشرائع، وهو ضرب من الرأي أو مراعاة العدالة يدعو إلى نوع من الحرية في التشريع.
4 •••
والآن نستعرض في إيجاز المسلك الذي سلكه أهل الحديث، والمسلك الذي سلكه أهل الرأي.
توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وخلف كتاب الله، وأحاديث حدث بها، وأفعالا فعلها، وقد شاهد ذلك كله أصحابه وسمعوا منه، ومن الصحابة من سمع بعض قوله دون البعض، ومن رأى بعض أفعاله دون البعض، ثم تفرقوا في الأمصار عند الفتح، فمنهم من نزل العراق، ومنهم من نزل الشام، ومنهم من نزل مصر، وكان كل جمع من الصحابة ينزل مصرا يروي ما سمع وما رأى من رسول الله، ولم يكن ذلك كله مدونا إنما كانوا يقولونه شفاها، وقليل منهم من يكتب، وظهر بعد ذلك مصدر آخر، وهو أن كبار الصحابة وعلماءهم كانت تعرض عليهم بعض الأحداث ممن لم يعرفوا فيها نصا من كتاب ولا حديث، فيجتهد برأيه ويقول فيها قولا، وكان هذا القول فيما بعد يعد مستندا من مستندات التشريع؛ لأنه صدر عن صحابي كبير، عاشر النبي زمنا طويلا، وعرف مناحي الشريعة ومجراها، وأحيانا يتبين أن هذا الرأي قد صدر فيه حكم من النبي، ولكن هذا الصحابي لم يعلمه؛ كالذي روي أن عبد الله بن مسعود سئل عن امرأة مات عنها زوجها، وكان لم يعين لها مهرا، فقال: لم أر رسول الله يقضي في ذلك، فألحوا عليه فاجتهد رأيه، وقضى بأن لها مهرا كالذي يعرض لمثلها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فشهد بأن رسول الله قضى في مثل هذه المرأة بمثل هذا الرأي، ففرح ابن مسعود فرحة لم يفرح مثلها بعد الإسلام.
5
وأحيانا يظهر حديث يخالف رأي الصحابي فيعدل عنه، كالذي روي أن أبا هريرة كان يرى أن من أصبح جنبا فلا صوم له، حتى أخبرته بعض نساء النبي بغير ذلك فعدل عن قوله.
على كل حال زادت مراجع التشريع مرجعا وهو فتاوى الصحابة، وليس ما خلفه الصحابة قاصرا على ما ذكرت، بل هناك أمر آخر وهو أن الحديث قد يكون قد ثبت عن الرسول، ولكن اختلفت أنظار الصحابة في توجيهه وتفسيره وتأويله، أو أن الحديث قد نسخ بحديث آخر بلغ بعضهم ولم يبلغ البعض؛ مثال الأول ما روي أن رسول الله أسرع في الطواف مرة، فذهب كثير إلى أن الرمل في الطواف سنة، وقال ابن عباس ليس بسنة، إنما فعله النبي لسبب عارض، وهو أنه قد بلغه قول المشركين: حطمتهم حمى يثرب، فأراد أن يظهر لهم بالإسراع القوة والنشاط، وليس بسنة؟ ومثال الثاني أن النبي رخص في نكاح المتعة عام خيبر وعام أوطاس، ثم نهى عنه، فاختلفت الصحابة في ذلك وفي نسخه، وقد يثبت الحديث أيضا ولكن يختلفون في علته، كالذي روي أن رسول الله قام للجنازة، فاختلفوا في تعليل ذلك، فقال قوم: ذلك لتعظيم الملائكة تحف بالميت، أو لهول الموت، فيعم الوقوف للميت والكافر، وقال قوم: إنها كانت ليهودي، فكره أن تعلو فوق رأسه، فالقيام يخص الكافر إلخ.
فلما جاء عصر التابعين زادت المصادر مصدرا على النحو الماضي، فكان من كبار التابعين من له فتاوى في حوادث لم تكن في عهد النبي ولا الصحابة، وكان لكل كبير من كبارهم آراء في تفسير بعض الآيات القرآنية، وآراء في تأويل الحديث، وآراء في فتاوى الصحابة، كما كان لهم آراء في تقدير الصحابة وتقويمهم من الناحية الفقهية، فمن التابعين من يفضل أقوال عبد الله بن مسعود على غيره، ومنهم من يفضل آراء علي وابن عباس، إلى غير ذلك؛ ويغلب أن هذا الترجيح يرجع إلى البلد الذي فيه الصحابي والتابعي وتابعي التابعي، فهو يتتلمذ للصحابة الذين كانوا في بلده، ويأخذ بقولهم، ويفضل روايتهم.
وجاء بعد التابعين طبقة أخرى تعمل عمل التابعين وهكذا، فعمر وعثمان وعبد الله بن عمر وعائشة وابن عباس وزيد بن ثابت كانوا أئمة المدينة، وجاء بعدهم تلاميذهم، ومن أشهرهم سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله بن عمر، ومن بعدهما الزهري، ويحيى بن سعيد، وربيعة الرأي، ومن بعدهم مالك؛ لذلك كان مالك أعلم الناس بقضايا عمر، وأقوال عبد الله بن عمر، وعائشة، ومن ذكرنا. وكان عبد الله بن مسعود وعلي في الكوفة، ثم شريح والشعبي، ثم علقمة وإبراهيم النخعي، وتمت السلسلة إلى أبي حنيفة، وتعصب كل قوم لسلسلتهم، فكان مالك ينهج منهج من ذكرنا من أعلام مدرسته، وأبو حنيفة كذلك؛ قال أبو حنيفة مرة لمناظره: «إبراهيم أفقه من سالم، ولولا فضل الصحبة لقلت علقمة أفضل من ابن عمر». وكما كان مالك أعلم الناس بأحاديث المدينة، وقضايا علماء الصحابة المدنيين وتابعيهم وفتاواهم وآرائهم، كان أبو حنيفة أعلم الناس بقضايا عبد الله ابن مسعود وعلي بن أبي طالب، وغيرهما من صحابة العراق وفتاواهم، وآراء التابعين من الكوفيين. ولما جاء دور التدوين في العصر العباسي رأينا مالكا يجمع هذا الذي ذكرنا في كتابه الموطأ، والعلماء العراقيين يجمعون فتاوى أئمتهم ومشايخهم في الكتب.
ووجد كثير من علماء المدينة، كسعيد بن المسيب والزهري يكرهون الرأي والقول به، ويهابون الفتيا، ويعدونها محنة، وساعدهم على تحقيق نزعتهم ما أشرنا إليه قبل من كثرة الحديث عندهم، وقلة الأحداث التي تعرض لهم، وحملتهم هذه النزعة أيضا على أن يرحلوا إلى البلاد يجمعون الأحاديث التي لم يروها رجال المدينة، فمنهم من رحل إلى العراق، ومنهم من رحل إلى الشام ومصر، فإذا استفتوا رجعوا إلى الكتاب، فإن وجدوا فيه نصا عملوا به، وإلا رجعوا إلى الحديث، فكذلك، وإن وجدوا أحاديث مختلفة فاضلوا بينها بالراوي من حيث العلم والصدق، فإن لم يجدوا حديثا رجعوا إلى أقوال الصحابة والتابعين، فأخذوا بقولهم، فإن اختلف الصحابة والتابعين فاضلوا بين أقوالهم وخاصة أقوال أئمة بلادهم، فإن لم يكن شيء من ذلك رجعوا إلى أصول الكتاب والسنة، فنظروا إلى إشاراتها ومقتضياتها لعلهم يجدون مشبها لما عرض، أو يقع في نفسهم حكمة للأمر أو النهي أو الحل والحرمة تنطبق على هذه المسألة.
بجانب هؤلاء كان قوم من أهل الرأي وخاصة في العراق، يتهيبون الحديث كما يتهيب الأولون الرأي، ويستعظمون «قال رسول الله» كما يستعظم الأولون «أجتهد رأيي» ولعل ذلك سببه إدراك ما في الأمر من صعوبة في إثبات نسبة الحديث إلى الرسول والاستيثاق من صحته. قال إبراهيم النخعي، وهو من علماء الكوفة: «أقول قال عبد الله (يعني ابن مسعود) وقال علقمة أحب إلينا» من أجل ذلك قل الحديث عندهم، وكانوا أجرأ على الرأي، بل لم يقتصروا في الإفتاء على ما يقع من أحداث، وما أكثرها في العراق، بل تعدوا إلى فرض الفروض، فلو قال رجل لامرأته أنت طالق نصف تطليقة أو ربع تطليقة فماذا يكون الحكم؟ ولو قال أنت طالق واحدة بعدها واحدة ونحو ذلك، كأن الأمر أصبح مرانا عقليا كمسائل الحساب والجبر والهندسة، ومرنوا على ذلك مرانا عجيبا، وخاصة أبا حنيفة كما سيأتي، فكان لهم قدرة فائقة على قياس الأمر بأشباهه، واستخراج العلل والأسباب، ووجوه الفروق الموافقات، وقد اشتركوا مع المدرسة الأولى في العمل بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين، ولكنهم اختلفوا عنهم في أمور:
منها ما ذكرنا من قلة الحديث والمبالغة في اشتراط صحته، وعدم التحرج من الرأي كالذي أسلفنا، ومنها: أن أهل العراق لهم مشايخهم وصحابتهم، ولأهل المدينة مشايخهم وصحابتهم، ومنها أن أهل العراق فلسفوا الفقه بمسايرة المنطق، والتوسع في التعليل العقلي والتوسع في الاستنباط، والدقة في استخراج وجوه الشبه ووجوه الفروق؛ وكانت طريقتهم حمع ما روي عن جلة الصحابة والتابعين الذين نزلوا في العراق من الحديث والفتوى والاستنباط، ثم يحفظون ذلك فإذا عرضت لهم مسألة فإن ورد فيها شيء من الكتاب والسنة أفتوا به، وإن لم يكن وكان فيها رأي من آراء مشيختهم نظروا فيه، وإلا استنبطوا الحكم من علة لهذه الفتاوى أو إشارة أو إيماء، أو بحثوا عن حكمة الحكم ثم عمموا الحكمة في المسألة التي عرضت، أو ألفوا علتين أو حكمتين واستنبطوا الحكم منها، أو جدوا في طلب شبه لهذه الحادثة وقاسوها عليه، فإن لم يكن شيء من ذلك رجعوا إلى ما يكتسبه المجتهد من طول المزاولة وإدمان النظر، مما يصح أن نسميه «الذوق القانوني» يرى به وجه الحكم، وأي الأحكام أقرب إلى العدل، وأكثر تحقيقا للمصلحة؛ وقد سموا هذه الطرق في استخراج الأحكام «تخريجا».
6
وقد كان في كل مدرسة غلاة متطرفون، كما كان فيها معتدلون؛ فمن مدرسة الحديث من غلا فمنع القياس والقول بالرأي، وقصر نفسه على الفتوى فيما ورد فيه من كتاب أو سنة، وهرب من المسائل التي لم يجد فيها نصا؛ ومنهم من اعتدل فأجاز العمل بالرأي في حدود معينة. ومن مدرسة الرأي من غلا حتى لم ير العمل بالحديث؛ لأن الأحاديث يعتورها الشك، فليس يسلم راو من غلظ أو نسيان أو خطأ في حديثه؛
7
ومنهم من اعتدل فعمل به في حدود معينة، فإذا لم يستوف الشروط لجأ إلى الرأي. وقد رأينا قبل أن ابن المقفع نقد حال المشرعين في زمانه، وقال إن منهم من زعم أنه التزم السنة، وقد غلا فيما سماه سنة، ومنهم من غلا في استعمال الرأي حتى بلغ الاعتداد به أن يقول في الأمر الجسيم قولا لا يوافقه عليه أحد، وتخلص من ذلك إلى وجوب وضع قانون يضعه أولو الأمر يلزم به القضاة ويعمل به في الأمصار.
8 •••
ونحن إذا أردنا أن نسجل التغيرات التي طرأت على التشريع في العهد العباسي استطعنا أن نسجل الظواهر الآتية: (1)
أول ما نلاحظه أن الأمويين - إذا استثنينا عمر بن عبد العزيز - لم يكونوا يتصلون برجال التشريع ورجال الدين على العموم اتصالا وثيقا، إلا في أحوال نادرة، كاتصال الزهري بهم، بل قصر الخلفاء أنفسهم على النواحي السياسية من قمع الثورات الداخلية والفتوحات الخارجية، وتنظيم شئون الدولة المالية، وما إلى ذلك، وتركوا العلماء يدرسون ويفتون، وعينوا القضاة وتركوهم يقضون بما يرون، كأن السياسة منفصلة عن الدين، وكأن وظيفتهم سياسية بحتة؛ فلما ثارت الثورة على الأمويين واستقر الأمر في يد العباسيين، كان من أثرها صبغ الدولة صبغة دينية، ورأينا النزعة الدينية عند الخلفاء العباسيين الأولين واضحة جلية، ورأينا اتصال الخلفاء بالعلماء ورجال الدين أقوى وأبين؛ فأبو جعفر المنصور يقرب العلماء ويصلهم، والمهدي يشتد على الزنادقة وينشئ «إدارة» للبحث عنهم وتعذيبهم، والرشيد وأبو يوسف القاضي متلازمان، والمأمون يصدر «مرسوما» بخلق القرآن، ويقضي شطرا من خلافته في مناقشة العلماء في ذلك وتعذيب من أنكره، ويناقش في نكاح المتعة ويريد أن يصدر أمرا في شأنه، وهكذا مما لا نجد له مثيلا في العهد الأموي. وعلى العموم فقد أراد العباسيون ألا يكونوا سياسيين فحسب، بل سياسيين ودينيين معا.
9
وكان من أثر ذلك أن جماعة من العلماء عذبهم العباسيون؛ لأنهم أبوا أن يخضعوا لوجهة نظرهم، والخضوع لسلطانهم، كمالك وأبي وحنيفة وسفيان الثوري، على حين أنا نرى الحسن البصري في العهد الأموي يجلس في المسجد الجامع ويتكلم في السياسة، ويستفتى في الخلفاء والأمراء فينقدهم في شدة، ثم لا يصيبه أذى. والذي يهمنا هنا هو الناحية التشريعية، فقد كان لاتجاه العباسيين هذا الاتجاه أثر بين في التشريع، وهو صبغ أعمال الدولة كلها صبغة دينية، فنظام الري، ونظام الضرائب، وحفر الترع وجباية الأموال، ونظام الدواوين، كلها مسائل دينية يؤلف فيها أبو يوسف القاضي كتابه الخراج، ويستفتى فيها الفقهاء، ويجتهدون فيها اجتهادا دينيا، وهكذا كل ما دق من الأمور وعظم مرجعه فتوى المفتين وقضاء رجال الدين؛ وهذا - من غير شك - يجعل مهمة الفقهاء شاقة واسعة النطاق. (2)
ويتصل بهذا الأمر أن الفقه في العصر العباسي تضخم ونما نموا كبيرا، وسبب هذا أمور؛ منها: ما أشرنا إليه قبل من عمل العباسيين في صبغ الأمور كلها صبغة دينية، ومنها: أن طبيعة النظام الذي جرى عليه الفقهاء تجعل المأثور يتزايد مع الزمن، فبعد أن كان في عهد الصحابة المأثور هو حديث رسول الله، أصبح في عهد التابعين المأثور أقوال الرسول وكبار الصحابة، وفي عهد تابعي التابعين المأثور هذا وقول كبار التابعين وهكذا، فكلما جاء جيل ورث عمن قبله آراء المجتهدين، وفتوى المفتين، وقضاء القضاة؛ وسبب ثالث: وهو أن مدرسة الرأي لم تكتف بما يحدث من أحداث بل كأنها فرحت بما لديها من وسائل الاجتهاد وأدوات القياس، والقدرة على «التخريج»، فأباحت إثارة المسائل الفرضية، تبدي فيها رأيها، وتستعمل قياسها حتى فرضوا المستحيل والبعيد الوقوع، وأكثروا الفروض في أبواب الرقيق والطلاق والأيمان والنذور كثرة لا حد لها، وبدأ بذلك العراقيون، ثم تبعهم فيما بعد الشافعية والمالكية. ومن أسباب التضخم أن المملكة الإسلامية أصبحت في صدر الدولة العباسية بعيدة الأطراف ، تضم بين جوانبها أمما مختلفة، لكل أمة عادات اجتماعية، وعادات قانونية، وطرق في المعاملات، ولكل أمة دين له تقاليده، فلما دخلت هذه الأمم في الإسلام استقرت الأمور في العهد العباسي، وصبغت الأمور كلها صبغة دينية، وتفرق الأئمة في الأمصار وعرضت هذه العادات والتقاليد على الأئمة، فعرضت أمور العراق على أبي حنيفة وأمثاله، وفيها العادات الفارسية والعادات النبطية وغيرها، وعرضت أمور الشام على الأوزاعي وأضرابه، وفيها العادات الرومانية وغيرها، وفيها نظم القضاء الروماني، وما كان يجري في المعاملات وطريقة التقاضي، وعرضت أمور مصر على الليث بن سعد والشافعي وأقرانهما، وفيها العادات المصرية والرومانية كذلك، ونحو هذا؛ فكان من عمل هؤلاء الأئمة «تسليم» هذه العوائد والتقاليد، أعني النظر إليها بالقواعد العامة للإسلام وإقرار بعضها وإنكار بعضها وتعديل بعضها، وهذا - بلا شك - باب واسع من الأبواب التيتضخم التشريع وتغذيه، وهذا أيضا قد جعل كل مصر يغذي التشريع غذاء خاصا، قد لا يكون في غيره، وقديما كانت مكة تغذي الفقهاء بمناسك الحج وبشئون التجارة كما كانت المدينة تغذي الفقهاء أكثر من مكة في شئون الزراعة، وبأعمال رسول الله في المدينة، فلما فتحت الأمصار ظل الأمر على هذا الحال، فدجلة والفرات ونظامهما قد غذيا أبا يوسف في آرائه في كتاب الخراج، ومعاملة العراقيين في المزارعة والمساقاة والاستصناع غذت فقه العراق، ونظام النيل وعوائد المصريين غذت الشافعي في مذهبه الجديد - كما سيأتي - وعلى الجملة فكانت هناك عوائد عربية في جزيرة العرب، وعوائد فارسية في العراق، وعوائد رومانية في الشام، وعوائد رومانية وإغريقية ومصرية في مصر، كلها عرضت على الأئمة و«سلمت».
فلما كثرت الرحلات بين العلماء - كما أشرنا قبل - وأصبح من واجبات طالب العلم الأولية أن يرحل إلى الأمصار المختلفة ويأخذ من علمائها، زالت الحدود والفواصل التي تميز كل طائفة من المشرعين في مصر، فاستفاد العالم العراقي من الحجازي، والمصري منهما، وكمل كل منهم نقصه، واستفاد فيما هو مقصر فيه، وأفاد فيما هو غني به؛ وهكذا عملت الرحلات في تطعيم كل شجرة من أشجار العلم، كما عملت في تقريب ألوانها وطعومها، ومن ذلك التشريع؛ فنرى ربيعة الرأي المدني يرحل إلى العراق ثم يعود إلى المدينة، ومحمد بن الحسن العراقي صاحب أبي حنيفة يرحل إلى المدينة ويقرأ موطأ مالك ويعود إلى العراق، والشافعي يرحل إلى المدينة وإلى العراق وإلى مصر وهكذا؛ ومن أجل هذا أصبحنا نرى الفروق على توالي الأزمان تقل بين مدرسة الحديث ومدرسة الرأي بما يأخذ الأولون من رأي الآخرين، وما يأخذ الآخرون من حديث الأولين، وأصبحنا نرى كتب المذاهب تتشابه والفروض في كل المذاهب تكثر، وعلى الجملة يتأثر كل بما امتاز به كل. (3)
من مميزات هذا العصر كذلك، كثرة اختلاف الفقهاء ونشاطهم في الجدال والمناظرة؛ فقد اختلفوا وتعددت أسباب اختلافهم، من ذلك اختلافهم في تفسير الألفاظ الواردة في الكتاب أو السنة كاختلافهم في معنى القروء الواردة في قوله تعالى:
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، هل القرء الطهر أو الحيض؟ فذهب الحجازيون من الفقهاء إلى أنه الطهر، وذهب العراقيون إلى أنه الحيض، وكان اختلاف الحجازيين والعراقيين تبعا لاختلاف الصحابة في هذا أيضا، فقد روي عن عمر وعثمان وعائشة وزيد بن ثابت أنهم قالوا الأقراء الأطهار، كما روي عن عبد الله بن مسعود أنها الحيض، وفي هذا ما يدل على ما سبق من انحياز العراقيين لابن مسعود، والحجازيين إلى علماء الصحابة في المدينة؛ وقد يكون الاختلاف سببه تركيب الكلام وتأليف الجمل، وقد يكون سببه حمل الكلام على الحقيقة أو المجاز، وقد يكون سببه ما ورد من جملة آيات أو أحاديث إذا ألف بعضها من بعض اختلفت المدارك فيما يستنتج منها وما لا يستنتج، وقد يكون سببه اختلاف الأحاديث الواردة في الموضوع، وأن كل مجتهد وصل إليه بعض دون بعض، أو صح عنده بعض دون بعض. كالذي روي عن عبد الوارث بن سعيد أنه قال: قدمت مكة فألفيت بها أبا حنيفة، فقلت: ما تقول في رجل باع بيعا، وشرط شرطا؟ فقال البيع باطل والشرط باطل، فأتيت ابن أبي ليلى فسألته عن ذلك فقال: البيع جائز والشرط باطل ، فأتيت ابن شبرمة فسألته عن ذلك فقال: البيع جائز والشرط جائز. فقلت في نفسي سبحان الله، ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على مسألة، فعدت إلى أبي حنيفة، فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن بيع وشرط. فعدت إلى ابن أبي ليلى فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أمرني رسول الله أن أشتري بريرة فأعتقها، فاشترط أهلها بالولاء لأنفسهم، فقال رسول الله: ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، البيع جائز والشرط باطل. قال فعدت إلى ابن شبرمة فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر قال: بعت النبي بعيرا، وشرط لي حملانه إلى المدينة، البيع جائز والشرط جائز. وقد يكون سبب الخلاف ما ورد من الحديث يصح عند قوم ولا يصح عند آخرين، ويشترط قوم لصحة الحديث شروطا كثيرة إن لم تتحقق فضل عليه القياس، ولا يشترط قوم هذه الشروط ويفضلون الحديث - ولو لم يستوفها - على القياس. وقد يكون الخلاف سببه اختلاف مقدرة الفقهاء على القياس والاستنباط، أو اختلافهم في المقدرة اللغوية والعلم بأساليب العرب ودلالة الكلام. وقد يكون سببه الاختلاف في وجهات النظر، وتأثر كل إمام بما يحيط به من بيئة طبيعية واجتماعية
10
إلخ.
على كل حال كان الاختلاف بين الفقهاء كثيرا وقديما، كان هذا الاختلاف بين الصحابة فقد اختلف أبو بكر وعمر في قتال مانعي الزكاة، واختلف عثمان وزيد بن ثابت وعلي في عبد تزوج حرة هل يعتبر حال الزوج فيكون أقصى طلاقها طلقتين؟ بهذا قال الأولان، أو يعتبر حال الزوجة فيكون أقصى طلاقها ثلاثا؟ بذلك قال علي؛ وكاختلافهم في توريث الإخوة مع الجد، إلى كثير من أمثال ذلك. وكانت كلما أتت طبقة زاد الخلاف لكثرة المسائل المعروضة ولكثرة المفتين، حتى إذا تبلورت مدرسة الحديث وتركزت في مالك وأصحابه في الحجاز، وتبلورت مدرسة الرأي وتركزت في أبي حنيفة وأصحابه في العراق، زاد الخلاف وكثر الجدل، واستمر النزاع، وكان أكبر الفضل في شدة المناظر راجعا إلى مدرسة أبي حنيفة، فإن كثرة مسائلهم التي فرعوها، وعدم تحرجهم في إبداء الرأي فيما لم يصح فيه نص عندهم، جعل فقهاء الحديث يردون عليهم في شدة بأنهم أهملوا الحديث إلى الرأي فأخطأوا، كما أن استعمال العراقيين للقياس وهو ضرب من المنطق سمح للمنطق أن يتسرب للفقه، وجعل الجدل يتشكل بالشكل المنطقي، وفي هذا تكثير للجدل والمناظرة، وفي رأيي أن هذا الجدل هو الذي ألجأ كبار الأئمة كالشافعي إلى وضع أصول الفقه؛ فإن المناظرة كانت تدور حول الكلمات وتحديد معانيها، والجمل وتأليفها، وموقف السنة من الكتاب، والكتاب من السنة، وعمل الصحابي هل هو حجة أو لا، والقياس ومدى استعماله ومتى يصح ومتى لا يصح؛ فجرد الشافعي وأمثاله هذه المسائل التي يكثر فيها الخلاف، واجتهدوا أن يرجعوا المسائل الجزئية التي يتجادلون فيها إلى أصول فكان من ذلك أصول الفقه.
على كل حال كان الخلاف كثيرا، وكان أكثر ما يكون في العصر العباسي حيث تركزت مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، فرأيناهم يتناظرون في المساجد، وفي حلقات الدرس، وفي المنازل، وحين اجتماعهم للحج، ويرحلون فيتناظرون، ويلتقون اتفاقا فيتجادلون، وملئت الكتب بهذه المناظرات والمجادلات. ولنمثل لك بشيء منها؛ فقد روى الفخر الرازي: «أن محمد بن الحسن (صاحب أبي حنيفة) قال للشافعي يوما: بلغني أنك تخالفنا في مسائل الغصب،
11
قال الشافعي: أصلحك الله، إنما هو شيء أتكلم به في المناظرة، قال: فناظرني ... قال محمد: ما تقول في رجل غصب ساحة وبنى عليها جدارا، وأنفق عليها ألف دينار، فجاء صاحب الساحة وأقام شاهدين على أنها ملكه؟ فقال الشافعي: أقول لصاحب الساحة ترضى أن تأخذ قيمتها؟ فإن رضي وإلا قلعت البناء ودفعت ساحته إليه؛ قال محمد ابن الحسن: فما تقول في رجل غصب لوحا من خشب فأدخله في سفينة ووصلت السفينة إلى لجة البحر، فأتى صاحب اللوح بشاهدين عدلين، أكنت تنزع اللوح من السفينة؟ قلت لا، قال: الله أكبر، تركت قولك؛ ثم قال: ما تقول في رجل غصب خيطا من ابريسم، فمزق بطنه، فخاط بذلك الابريسم تلك الجراحة، فجاء صاحب الخيط بشاهدين عدلين أن هذا الخيط مغصوب، أكنت تنزع الخيط من بطنه؟ قال لا، قال: الله أكبر، تركت قولك؛ وقال أصحابه أيضا: تركت قولك . قال الشافعي فقلت: لا تعجلوا، أرأيت لو كان اللوح لوح نفسه، ثم أراد أن ينزع ذلك اللوح من السفينة حال كونها في لجة البحر، أمباح له ذلك أم يحرم عليه؟ قال: يحرم عليه، قلت: أرأيت لو كان الخيط خيط نفسه وأراد أن ينزعه من بطنه ويقتل نفسه، أمباح له ذلك أم محرم؟ قال: بل محرم، قلت: أرأيت لو جاء مالك الساحة، وأراد أن يهدم البناء، أيحرم عليه ذلك أم يباح؟ قال: بل يباح، قال الشافعي: فكيف تقيس مباحا على محرم؟ فقال محمد: فكيف تصنع بصاحب السفينة؟ قلت: آمره أن يسيرها إلى أقرب السواحل، ثم أقول له انزع اللوح وادفعه إليه، فقال محمد بن الحسن: قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»، فقال الشافعي: من ضره؟ هو ضر نفسه، ثم قال الشافعي: ما تقول في رجل من الأشراف غصب جارية لرجل من الزنج في غاية الرذالة، ثم أولدها عشرة كلهم قضاة سادة أشراف خطباء، فأتى صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذه الجارية التي هي أم هؤلاء الأولاد مملوكة لي، ماذا تعمل؟ قال محمد: أحكم بأن أولئك الأولاد مماليك لذلك الرجل، قال الشافعي: أنشدك الله أي هذين أعظم ضررا: أن تقلع الساحة وتردها إلى مالكها، أو تحكم برق هؤلاء الأولاد؟ فانقطع محمد بن الحسن».
12
وأمثال هذه المناظرة كثيرة بين الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم.
هذه المناظرات - وإن حكاها كل جماعة بما يتفق وعصبيته المذهبية - وسعت دائرة الحركة الفقهية، وكونت آراء قانونية لها قيمتها، وحملت الكثيرين من الفقهاء على أن يتسلحوا بأسلحة مناظريهم، فالقياسيون يتسلحون بالحديث، والمحدثون يتسلحون بالرأي، وقربت كثيرا من أوجه النظر المتباعدة، وربما كان أقرب مثال لذلك الشافعي ومحمد بن الحسن الحنفي، فكلاهما اطلع على الناحيتين، وتسلح بالسلاحين.
ولم يقتصر الأمر على المناظرة الشفوية، بل تعدى ذلك إلى المناظرة بالمكاتبة، فنرى الليث بن سعد يكتب من مصر إلى مالك في المدينة يجادله في حجية إجماع المدينة، ويرد عليه مالك.
13
وقد أثرت هذه المناظرات أيضا في الكتب المؤلفة في ذلك العصر وما بعده أثرا كبيرا، فلو قارنت بين كتاب الأم للشافعي، وكتاب النحو لسيبويه، رأيت فرقا كبيرا بين التأليفين، فالأم يغلب عليه الحوار، قال كذا فقلت: أرأيت إن زعم كذا؟ فإن قال قائل كذا رددت عليه بكذا، قال لي بعضهم كذا فقلت له، إلى نحو ذلك مما يغلب عليه الجدل والمناظرة والحوار، وكثيرا ما يعرض لآراء المخالفين ويذكر حجتهم ثم يفندها بحججه، ويذكر فصلا يعنونه «كتاب الرد على محمد بن الحسن»، وفصلا يعنونه «كتاب اختلاف العراقيين» إلخ؛ وهكذا الحنفية في التأليف، ولا ترى هذا واضحا جليا في كتاب سيبويه، فهو أميل إلى تقرير القواعد وتفريعها والاستشهاد عليها؛ وسبب ذلك الثورة الكبيرة التي كانت في هذا العصر في الآراء الفقهية، والحرية التي أبداها الحنفية في استعمال الرأي، وجد مناظريهم في إفحامهم، ونحو ذلك مما لا يقاس به الخلاف النحوي والمناظرات النحوية؛ لأن الأمر فيه أغلب ما يكون على النقل والسماع واستخراج القاعدة العامة من الجزئيات. (4)
ومن مميزات العصر العباسي في التشريع «التدوين»؛ فقد ظهرت حركة التدوين في هذا العصر في كل فروع العلم ومنها الفقه، نعم كان في العصر الأموي نواة التدوين، ولكنها نمت واتسعت في العصر العباسي، وكانت كل مدرسة تتبع منحاها، فقد كان فقهاء المدينة يجمعون فتاوى عبد الله بن عمر وعائشة وابن عباس ومن جاء بعدهم من كبار التابعين في المدينة، وينظرون فيها ويستنبطونه منها ويفرعون عليها، كما كان العراقيون يجمعون فتاوى عبد الله بن مسعود وقضايا علي وفتاواه، وقضايا شريح وغيره من قضايا الكوفة، ثم يستخرجون منها ويستبنطون؛ وقد بدأ الفقه في العصر الأموي الحديث، لأنه يعد مادة الفقه، وخاصة عند مدرسة الحديث، ثم بدءوا يبوبون الحديث أبوابا حسب الفقه؛ فأحاديث الوضوء ثم أحاديث الصلاة، ثم أحاديث الزكاة وهكذا، ثم بدءوا يفرعون المسائل من الحديث، فيروي الذهبي أن عبد الله بن المبارك «دون العلم في الأبواب والفقه»، ويقول في أبي ثور: «إنه صنف الكتب وفرع السنن»، ويريد أنه جمع الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد في باب واحد؛ وأوسع ما ورد إلينا في هذا الباب كتاب الموطأ للإمام مالك، وقد خطا فيه خطوة جديدة في تقنين الحديث.
هذا في المدينة، وأما في العراق فقد كانوا أميل إلى الرأي كما رأينا، وقد كان من أظهر علمائهم إبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، وقد رووا أن إبراهيم جمع فتاوى الشيوخ وآراءهم ومبادئهم القانونية في كتاب، وأن حمادا كان له مجموعة منها، وقد وصل إلينا كتاب الآثار لمحمد بن الحسن جمع فيه آثار هؤلاء العلماء وآراءهم؛ ومن أقدم ما وصل إلينا في الفقه العراقي كتاب الخراج لأبي يوسف، ثم كتب محمد بن الحسن، كما وصل إلينا كتاب الأم للشافعي، وفيه ينحو منحى جديدا متأثرا بمدرسة الحديث في الحجاز ومدرسة الرأي في العراق، وسنتكلم عن هذه الكتب فيما بعد.
وعلى الجملة فقد دونت في هذا العصر كتب الفقه واصطبغت صبغة قانونية، بعد أن كانت صبغتها قبل صبغة حديث، وظهر فيها أثر الخلاف في المذاهب وأثر الجدال، واصطبغت الكتب وخاصة كتب العراق بالمنطق. (5)
كان هذا العصر عصر حرية في الاجتهاد كالذي قبله، فميدان العلم والبحث مفتوح لكل راغب والوسط العلمي يرفع من شأن قوم لكفايتهم وجدهم ويضع من شأن آخرين لعكس ذلك، وكل من استكمل أدوات الاجتهاد فله أن يجتهد، ومن لم يستكمل ذلك فله أن يتبع أي فقيه وأي مفت فيما يفتيه، فإذا حدثت حادثة فالقاضي يقضي باجتهاده لا بمذهب معين، وإذا عرض سؤال لرجل استفتى فيه من شاء من العلماء، والمفتي يفتي بما أدى إليه اجتهاده، فالقضاء والفتوى غير مقيدين بأي قيد إلا القيد العرفي ، وهو أن يكون القاضي أو المفتي في مستوى لائق في وسط العلماء، ومن أجل هذا كانت الحادثة يقضي فيها قاض في بلد برأي، وقاض آخر برأي آخر؛ إذ لا قانون قد اعترفت به الدولة، وكذلك الشأن في الفتاوى، وكذلك في التعبد، فالمجتهد يتعبد في الصلاة والزكاة حسب ما أداه إليه اجتهاده، وغير المجتهد يتعبد حسب ما يتلقاه من العلماء. ولم تكن إلى العصر العباسي مذاهب معينة يقلدها الناس إنما كان علماء مجتهدون كثيرو العدد في كل مصر، فلما جاء العصر العباسي بدأت المذاهب تتحدد؛ كان العلماء فيما قبل يجتهدون في مسائل متفرقة، فأخذنا نرى العلماء يوسعون دائرة بحثهم حتى يشمل أبواب الفقه كلها، وساير هذا وضع الكتب في الأبواب المختلفة، فعرفت كل آراء المجتهد في هذه الأبواب كلها، وساير هذا أيضا كثرة الجدل والمناظرات بين الفقهاء على النحو الذي بينا، فأدى ذلك إلى أن كل إمام أصبحت له أصول ومناح وأساليب يجري عليها في الاستنباط. كل هذا جعل المذاهب تتبلور ويستقل كل مذهب عن غيره، ويتجمع حول كل إمام تلاميذ وأتباع يأخذون عنه وينحون منحاه، فظهور المذاهب وتكونها والتعصب لها وشمولها لأبواب الفقه والتأليف فيها واستقلالها ونحو ذلك، كله ظاهرة من ظواهر العصر العباسي.
ومع هذا فلا تظن أن الأمر في عصرنا الذي نؤرخه قد استقر على النحو الدقيق الذي عندنا من انقسام المسلمين إلى مذاهب أربعة، بل كان عصرنا بدء هذه الحركة، ولم يتم هذا التكوين إلا في القرن الرابع. قال أبو طالب المكي في قوت القلوب: «إن الكتب والمجموعات محدثة والقول بمقالات الناس، والفتيا بمذهب الواحد من الناس واتخاذ قوله، والحكاية له من كل شيء، والتفقه على مذهبه، لم يكن الناس قديما على ذلك في القرنين الأول والثاني». فهذه العملية - عملية تكون المذاهب - بدأت في العصر العباسي، ولم يكن الأمر قاصرا على المذاهب الأربعة الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، بل كانت في ذلك العصر مذاهب كثيرة غير هذه، لم يقل بعضها في القيمة والقوة عنها، فكان مذهب الحسن البصري ، ومذهب أبي حنيفة، ومذهب الأوزاعي، ومذهب سفيان الثوري، ومذهب الليث بن سعد، ومذهب مالك، ومذهب سفيان بن عيينة، ومذهب الشافعي؛ ثم من بعدهم مذهب إسحاق بن راهويه، ومذهب أبي ثور، ومذهب أحمد بن حنبل، ومذهب داود الظاهري، ومذهب ابن جرير الطبري وغير ذلك. وكان لكل مذهب من هذه المذاهب آراء وطرق في الاجتهاد، ولكل أتباع متفرقون في الأمصار، ولكن حدث أن بعض هذه المذاهب مات لظروف خارجية؛ كعدم التلاميذ الأقوياء الذين ينصرون المذهب وينشرونه ويدافعون عنه، وكعدم من يعتنقه من ذوي الجاه والسلطان ومن إليهم، إلى غير ذلك من أسباب، وأحيانا لأسباب داخلية كمذهب الظاهري؛ فقد قضى عليه تشدده في عدم الأخذ بالرأي ووقوفه الشديد عند النص إلخ. وكان الذي كتب له البقاء من هذه المذاهب هي المذاهب الأربعة، ولكن هذا الانحصار لم يتم إلا في القرن الرابع وما بعده كما ذكرنا؛ أما في القرن الثاني والثالث فكل هذه المذاهب الثلاثة عشر التي عددنا وغيرها كانت موجودة ولها أنصار، وكان الاجتهاد حرا طليقا. ومن العلماء من كان لا يتقيد بشيء من هذه المذاهب، بل يجتهد لنفسه فإن صح عنده حديث عمل به، وإن وجد قولين للعلماء تخير لنفسه،تارة يتبع مذهب المدينة، وتارة مذهب العراق، حتى فيمن ينتسبون إلى إمام معين، كمحمد بن الحسن، لم يمنعه انتسابه إلى أبي حنيفة من اختياره من مذهب مالك وهكذا؛ وكان لهذه الحرية في الاجتهاد أثر صالح في نمو الفقه نموا يدعو إلى الإعجاب، وظهور الآراء القانونية بمظهر جليل، وتحليل المسائل تحليلا دقيقا، ومراعاة كل فقيه حال قومه وبلده، ومقتضيات الأحوال، حتى لا تكاد تخلو مسألة من المسالة من آراء متعددة، لكل دليله ووجهة نظره، إن ضعف نظر بعضهم فبجانبه النظر القوي والاتجاه السديد.
وكان الذي يؤخذ عليهم في هذا العصر أنهم لم يضعوا قانونا عاما للدولة تسير عليه، وقد كانت الفكرة لديهم ولم يحققوها، فالمنصور يعرض على مالك أن يجعل الموطأ قانونا، وفي رواية أن الرشيد كذلك؛ وابن المقفع يطلب في تقريره الذي رفعه إلى المنصور أن يسن قانونا عاما للمسلمين يرجع فيه إلى النصوص المجمع عليها وإلى العدالة.
14
ولكن شيئا من ذلك لم يكن بل تركت الحرية للقضاة وللمفتين كماتركت للمؤلفين والشراح؛ وكان خيرا أن يقيد القضاة بقانون يعلمه الناس قبل أن يتقاضوا، ويعلمه القضاة قبل أن يقضوا، ويكون هذا القانون مجالا للتعديل والتغيير على مر الزمان وعلى مقتضيات الأحوال، ثم يترك العلماء والفقهاء أحرارا في كتبهم وشروحهم وجدالهم، وهذه الآراء التي يدونونها، والحوار الذي يقومون به، والنقد الذي ينتقدونه، تكون غذاء للقانون العام، ومصدرا للتغيير والتعديل، ولو فعلوا لكان لذلك أثر بعيد في حياة المسلمين القضائية.
كذلك من ظواهر الفقه الإسلامي سعة دائرته التي يبحث فيها؛ فهو يشمل القانون التجاري، والقانون المدني، وقانون العقوبات، كما يشمل العبادات، وفيه ما تنفذه السلطة التنفيذية، وفيه ما تترك العقوبة فيه لله - كل أعمال الإنسان داخلة في دائرته من الوضوء إلى الميراث - وسبب هذا بناء القانون الإسلامي على الكتاب والسنة، وهما قد تعرضا لجميع هذه الأبواب، ففي القرآن والسنة نصوص في الطهارة، كما فيهما نصوص في الدين، كما فيهما نصوص في عقوبة السرقة إلخ. وهذا - من غير شك - قد جعل مهمة الفقيه المجتهد أشق وأدق؛ فهو لابد أن يحيط بكل هذه الفروع، ولابد أن يعلم مبادئها والأصول التي استندت عليها حتى يستطيع أن يستنبط أحكاما للمسائل التي تجد. وكان الأمر يكون أسهل لو تخصص قوم للعبادات، وآخرون للأمور المالية وغيرهم للمسائل الجنائية، ولكن لم يصل العالم إلى التخصص إلا في العصور الحديثة، فكان الفقيه فقيه كل شيء، كما كان الطبيب طبيب كل شيء. •••
والذي يستعرض ما كتب في الفقه في هذه العصور وما بعدها يرى أن الفقهاء والمؤلفين قد جمعوا المسائل التي تتعلق بموضوع واحد في باب بعينه، ولكنهم في عرضهم قد عرضوا الجزئيات دون القواعد غالبا، فإذا عرضوا للبيع استعرضوا الجزئيات من مثل «من باع صبرة طعام كل قفيز بدرهم جاز البيع، ومن باع قطيع غنم كل شاة بدرهم فسد البيع، ومن اشترى ثوبا على أنه عشرة أذرع بعشرة دراهم فوجده أقل فالمشتري بالخيار إن شاء أخذه بكل الثمن وإن شاء ترك» إلخ. وهذه الفروع - من غير شك - ترجع في أساسها إلى مبادئ، لكن هذه المبادئ قلما تذكر وإن كانت في نفس المجتهد، وقد كان من الممكن أن يكون بجانب هذه الفروع أصول الفقه، فتذكر في كل باب النظريات العامة التي انبنت عليها الفروع، ولكن الأصول التيدونت في ذلك العصر ليست من هذا القبيل، إنما عرض فيها لأدوات الاجتهاد لا للنظريات العامة في البيع والإجارة ونحوها؛ لأن أساسها - كما أشرنا - هو ما كان بين الفقهاء من المناظرة والجدال. وقد حاول قوم بعد عصرنا أن يتجهوا هذا الاتجاه فيذكروا في كل باب المبادئ العامة للأبواب المختلفة، ولكنهم لم يسيروا في هذا الطريق إلى آخره.
وسبب سير الفقه هذا السير في النظر إلى الجزئيات أن الفقه والتدوين فيه بدأ يجمع ما نقل من الحديث عن رسول الله، وفتاوى الصحابة والتابعين؛ ثم تبويب كل جمع من الجزئيات في باب، فكان طبيعيا أن يكون الباب الفقهي حكاية عن فروع وردت، ثم كانت عبارة عما يراه المجتهد في هذه المسائل حسب أصوله، وحسب مشايخه، وحسب مسلكه في الاجتهاد.
والآن نعرض للمذاهب المشهورة وكبار رجالها ومسلكها في التشريع: (1) أبو حنيفه ومدرسته
أبو حنيفة هو النعمان بن ثابت بن زوطى فارسي الأصل، قد ولد جده زوطى بكابل، وأختلف في ولادة أبيه فقيل بالأنبار، وقيل بنسا، وولد أبو حنيفة بالكوفة،
15
وكان ثابت مملوكا لرجل من ربيعة من بني تيم الله بن ثعلبة من فخذ يقال لهم بنو قفل، فكان أبو حنيفة مولى لبني تيم الله
16
فلذلك يقال أبو حنيفة التيمي - يعنون أنه تيمي بالولاء - وقد شعر بعض الحنفية بغضاضة هذا الولاء، فرووا أنه من أحرار فارس ولم يجر عليه رق قط؛ ما دروا أن أمر العلم والدين بعيد عن الاعتزاز بالنسب والمعرة بالولاء وما إليه، وأن العلم لا يقوم أحدا بقبيلته ولا ماله ولا جاهه، إنما يقومه بقيمته الذاتية ومزاياه العقلية، وقبل أبي حنيفة كان كثير من سادة الفقهاء من الموالي كنافع مولى ابن عمر، وعطاء بن أبي رباح فقيه مكة، وطاوس بن كيسان فقيه اليمن، والحسن البصري، وابن سيرين فقيهي العراق وغيرهم. كما أن العصبية المذهبية حملت بعض الأتباع لكل مذهب أن يضعوا الأخبار لإعلاء شأن إمامهم، ومن هذا الباب ما رووا من الأحاديث بتبشير النبي
صلى الله عليه وسلم
لكل إمام ، من مثل ما روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال في أهل العراق: «إن الله وضع خزائن علمه فيهم»، ومثل: «يكون في أمتي رجل يقال له النعمان بن ثابت، ويكنى بأبي حنيفة يحيي الله على يديه سنتي في الإسلام» إلخ، حتى لقد زعموا أن أبا حنيفة بشرت به التوراة، وكذلك فعل بعض الشافعية في الشافعي، والمالكية في مالك؛ وما كان أغناهم عن ذلك؛ ومن أجل هذا صعب على الباحث معرفة التاريخ الصحيح لكل إمام، فقد كان كلما أتى جيل تزيد في فضائل إمامه، كأن الفضل لا يقوم إلا بالمبالغة فيه، ولذلك نرى أن ترجمة الأئمة كلما قاربت عصرهم، كانت أقرب إلى الصدق وأبعد عن الغلو.
أغلب المؤرخين على أن أبا حنيفة ولد بالكوفة سنة 80ه ومات ببغداد سنة 150ه، فيكون قد عاش نحو سبعين سنة، منها نحو 52 سنة في العصر الأموي ونحو 18 في العصر العباسي؛ إذن فقد ولد في عهد عبد الملك بن مروان، ولما مات عبد الملك كان أبو حنيفة في السادسة من عمره، ونشأ في ولاية الحجاج على العراق، فقد مات الحجاج وعمر أبي حنيفة خمسة عشر عاما، فرأى قسوة الحجاج ومعاملته للثائرين، وحروبه وسطوته وسلطانه في العراق، وكان شابا أيام عمر بن عبد العزيز، سمع بعدله وشاهد آثاره، ورأى تدهور الأمويين، وشاهد بدء الدعوة العباسية، وسايرها حتى تمت للعباسيين، والعراق وما إليه كان مهدا لهذه الدعوة، وكان مساهما في حرب الأمويين؛ وشاهد بعد الحجاج يزيد بن المهلب أميرا على العراق يحكم الناس حكما عربيا عصبيا، كما شاهد إمارة خالد بن عبد الله القسري، ونصر بن سيار، وما كان فيهما من فتن، ورأى انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين على يد قومه من الفرس، ورأى خروج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب على المنصور، وقالوا إنه عطف على محمد، وكان ميله معه، وأخيرا رأى استقرار الأمر في يد العباسيين، وبناء المنصور لبغداد، وتحول أبهة الدنيا وحضارتها وجمالها إليها؛ ثم مات في خلافة المنصور. كل هذه الأحداث مرت على أبي حنيفة وأعمل فيها فكره، وأثرت في نفسه آثارها المختلفة، وساهم في بعضها، وكان خريجها الناشئ في أحضانها، والمتكون من ذراتها، والناضج على نيرانها.
نشأ أبو حنيفة في الكوفة، وكان في زمانه بعض الصحابة وكبار التابعين، نعلم كثيرا عن نشأته الأولى وكيفية تعلمه، وقد رووا أنه في السادسة عشرة من عمره حج مع أبيه، وشهد عبد الله بن الحارث أحد الصحابة يحدث بما سمع عن رسول الله، وقد اجتمع عليه الناس في المسجد الحرام، فسمع أبو حنيفة منه حديثا، كما رووا أنه سمع أنس بن مالك وأربعة غيرهما من الصحابة، وبعض العلماء يشك في ذلك. ثم رأيناه بعد نشأته الأولى في التعلم يجلس في حلقة المتكلمين بمسجد الكوفة، وكانت لهم حلقة بل حلقات - بجانب حلقات الفقه وحلقات الشعر وحلقات النحو - يتكلمون فيها في القضاء والقدر، والكفر والإيمان، ويستعرضون أعمال الصحابة في الحروب وغيرها، إلى غير ذلك من مسائل علم الكلام، فلما بلغ في ذلك مبلغا كبيرا تحول إلى الفقه؛ روى زفر بن الهذيل قال: «سمعت أبا حنيفة يقول: كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغا يشار إلي فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان، فجاءتني امرأة يوما فقالت: رجل له امرأة يريد أن يطلقها للسنة كم يطلقها؟ فأمرتها أن تسال حمادا ثم ترجع فتخبرني ... فرجعت فأخبرتني، فقلت: لا حاجة لي في الكلام، وأخذت نعلي فجلست إلى حماد».
17
ويروى عنه أنه قال: «كنت رجلا أعطيت جدلا في الكلام فمضى دهر فيه أتردد وبه أخاصم، وعنه أناضل، وكان أصحاب الخصومات والجدل أكثرها بالبصرة، فدخلت البصرة نيفا وعشرين مرة، منها ما أقيم سنة وأقل وأكثر، وكنت قد نازعت طبقات الخوارج من الأباضية والصفرية وغيرهم ... وكنت أعد الكلام أفضل العلوم، ثم علمت أنه لو كان فيه خير لتعاطاه السلف الصالح، فهجرته».
18
وعلم الكلام قد طعم بالفلسفة قبل أي علم آخر، وتأثر بها كما تأثر بآراء الأديان الأخرى للاحتكاك بها في المناظرة والدعوة إلى الدين - وقد أبنا ذلك قبل - فكان عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهما في البصرة يدعون إلى الإسلام، ويردون طعن الطاعنين، ويبحثون في صفات الله، وفي العاصي: أكافر أم مؤمن؟ إلخ؛ ويطلعون على أقوال أهل الديانات ويفندونها بمثل حججهم الفلسفية. فالظاهر أن أبا حنيفة بدراسته لبرنامج الكلام، وبلوغه فيه مبلغا يشار إليه بالأصابع، أكسبه قوة في المناظرة، وقدرة في المنطق، ومرانا على الأسلوب العقلي في التفكير غير أسلوب المحدثين، فإن كان المحدثون يكتفون في الحديث ببحث الرواة، فالمتكلمون يتجاوزون ذلك أيضا إلى النقد الخارجي، وهو موافقة الحديث لمبادئ الإسلام العامة وأصوله، ونحو ذلك كما رأيت. وقد عرف عن المعتزلة رؤساء المتكلمين نقد بعض الصحابة في جرأة لم يقدم عليها غيرهم، ونقد بعض ما روي من الحديث في صراحة، ونجد لذلك كله أثرا في أبي حنيفة كما سيأتي.
كذلك كان أبو حنيفة بجانب حياته العلمية يحترف التجارة، فكان خزازا يبيع الخز ويجلس في السوق، ويسمونه النعمان بن ثابت الخزاز؛ قال الأعمش وقد سئل عن مسالة: «إنما يحسن الجواب في هذا ومثله النعمان بن ثابت الخزاز، أراه بورك له في علمه»؛
19
وقد أكسبه هذا أيضا فائدة كبرى؛ إذ جعله يتصل بالحياة المالية العلمية، فيعرف حقيقة ما يجري في الأسواق، ومعاملات الناس في البيع والشراء، والنقود، والصرف، والسلم والدين وما إلى ذلك، فإذا تكلم تكلم عن علم وخبرة، ونظر وممارسة ومران.
درس أبو حنيفة الفقه في مدرسة الكوفة، وكانت مدرسة لها رجالها، ولها طابعها الخاص؛ ولتصوير أشهر رجالها نضع هذا الجدول البسيط:
هؤلاء أشهر رجال مدرسة العراق، وكان لكل منهم يد في تلوينها وتشكيلها: فابن مسعود فقيه جليل يتأثر عمر بن الخطاب في دقة نظره وحريته، وعلي بن أبي طالب خلف مجموعة من القضايا والفتاوى لأهل العراق حفظت عنه وعدت دستورا، وعلقمة كان خير تلاميذ ابن مسعود وحامل علمه وفقهه، ومسروق خلف لأهل العراق فتاوى كثيرة كان يستفتى فيها، وشريح مارس القضاء نحو ستين سنة في العصر الأموي، فلابس الحياة العملية، وقد دعم مذهب الرأي بدعائم قوية وكان له أكبر الأثر في تلوينه وتميزه، والشعبي - على العكس من ذلك - كان يغذي العراقيين بالحديث والآثار، فكأنه هو شريح تعاونا على تدعيم المذهب بعنصريه، كان الشعبي ينقبض للفتوى ويتهيبها شأن صاحب الآثار، وكان النخعي يتهلل لها وينبسط شأن صاحب الرأي، وكان ذلك على خلاف حياتهما العلمية؛ فقد كان الشعبي ظريفا مبتسطا فكها، فإذا جاءت الفتوى انقبض، وكان النخعي منقبضا جادا، فإذا جاء الرأي انشرح، ثم جاء حماد بن أبي سليمان فجمع ذلك كله في صدره وأسلمه لأبي حنيفة فصاغه مذهبا، ولعلك لاحظت معي كثرة النخعيين في هذه المدرسة، فعلقمة نخعي، والأسود نخعي، وإبراهيم نخعي، ثم مسروق بن الأجدع همداني، ثم عامر الشعبي نسبة إلى شعب وهو بطن من همدان، والنخع وهمدان قبيلتان يمنيتان، وشريح كندي، وكندة من اليمن، وحماد بن أبي سليمان أشعري بالولاء، وأشعر قبيلة من اليمن. ونحن نعلم أن معاذ بن جبل أرسله النبي
صلى الله عليه وسلم
قاضيا على الجند باليمن يعلم الناس القرآن وشرائع الإسلام ويقضي بينهم، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن؛ كان معاذ من أعلم الصحابة بالحلال والحرام، وهو صاحب الحديث المشهور الذي هو دعامة أهل الرأي، وهو أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال لمعاذ بن جبل حين وجهه إلى اليمن: بم تقضي؟ قال: بما في كتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بما في سنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال اجتهد رأيي - فلعل هؤلاء اليمنيين كانوا متأثرين بمبدأ معاذ وتعاليمه وفقهه - وبالفعل نجد بعض أعلام هذه المدرسة كالأسود بن يزيد النخعي من تلاميذ معاذ بن جبل. •••
أخذ أبو حنيفة الفقه عن كثير: فسمع من عطاء بن أبي رباح، وهشام بن عروة، ونافع مولى ابن عمر، ولكن أستاذه الذي أخذه عنه أكثر علمه حماد بن أبي سليمان الأشعري، وقد كان حماد واسع العلم فقيها، قال فيه النسائي: إنه «ثقة مرجئ»، وكان غنيا سمحا كريما، مات سنة 120؛ كانت له حلقة كبيرة في مسجد الكوفة ، يجلس إليه فيها المتعلمون يعلمهم ويسألونه، ويأتي إليه أصحاب الحاجات في المسائل التي تعرض لهم فيستفتونه، وقد لزمه أبو حنيفة نحو ثمانية عشر عاما لما رأى من علمه، فقد كان يقول: «حماد أعلم من رأيت»، جالسه أولا نحو عشر سنوات ثم حدثته نفسه أن يستقل ويكون لنفسه حلقة خاصة، ثم خجل من شيخه، وأتيحت له فرصة ذهاب حماد إلى البصرة، فجلس مكانه يعلم ويفتي، وعرضت عليه نحو ستين مسالة جديدة لم يسمع فيها رأي شيخه، فلما عاد سأله فيها فأقره على أربعين منها، وخالفه في عشرين، فلزمه حتى مات.
20
وإذ قد علمنا أن حمادا مات سنة 120 فيكون أبو حنيفة قد لازمه إلى أن بلغ سنه نحو الأربعين، وقد كان يجادل شيخه ويناقشه ويلازمه، حتى روي عنه أنه قال: «لزمت حمادا لزوما ما أعلم أحدا لزم أحدا مثل ما لزمته، وكنت أكثر السؤال فربما تبرم مني ويقول: يا أبا حنيفة قد انتفخ جنبي وضاق صدري»؛ وحتى روي أنه قال له يوما: «أنزفتني»، أي أخذت كل ما عندي، وهي عبارة قيلت قبل من سعيد بن المسيب لقتادة. ولما مات حماد نظر أصحابه في من يجلس مجلسه، ويترأس حلقته، فاختاروا ابنه إسماعيل بن حماد، ولكنه كان أميل إلى الأدب من شعر ومعرفة بأيام العرب، فتنحى عن الحلقة فترأسها موسى بن أبي كثير، ولم يكن بارعا في الفقه ولكنه لقي المشايخ الكبار وجالسهم، ثم خرج حاجا فجلس مكانه أبو حنيفة وملأ مكان حماد، واستمر في هذه الحلقة يعلم الناس ويفتي نحو ثلاثين سنة إلى أن مات سنة 150.
كل الأخبار تدل على أنه كان في سعة من العيش، ولعل ذلك كان من تجارته، فقد علمنا أنه كان بزازا، وله دكان في دار عمرو بن حريث، وكان طويلا تعلوه سمرة، لباسا، حسن الهيئة، كثير التعطر؛ يعرف بريح الطيب إذا أقبل وإذا خرج من منزله قبل أن تراه».
21
وقد روي أنه أريد على القضاء مرتين فامتنع، إحداهما في العهد الأموي، أراده ابن هبيرة - عامل مروان بن محمد آخر بني آمية على العراق - فأبى، فضربه بالسوط، وفي رواية أنه أراده ليكون على بيت المال فأبى فضربه؛ والأخرى في العهد العباسي: أشخصه أبو جعفر من الكوفة على بغداد، ثم أراده على القضاء فأبى حبسه فمات في الحبس، والروايات في هذه الحادثة مختلفة، فبعضهم يرويها على هذا الوجه، وآخرون يروون أن المنصور هدده بالضرب فقبل القضاء على كره، ثم مات بعد أيام، وغيرهم يروون أن المنصور هدده بالضرب فقبل القضاء على كره، ثم مات بعد أيام، وغيرهم يروي أن المنصور إنما استقدمه من الكوفة لأنه اتهم بالتشيع لإبراهيم العلوي، فعاش خمسة عشر يوما ثم سمه فمات. فالروايات مجمعة على استدعاء المنصور له، ومجمعة على أنه مات بعد استدعائه بقليل، وأنه مات في بغداد وقبره إلى الآن في بغداد شاهد على ذلك. ونحن نستبعد سم المنصور له؛ فقد كان للمنصور من القوة إذ ذاك ما يخول له القتل علنا إن شاء، وقد سبق أن قتل أبا مسلم الخرساني، وهو ما هو في قوته وتعلق الجند به، كما قتل غير أبي مسلم من ذوي الوجاهة والعزة، ونرجح الرواية الأولى من إرادته على القضاء وامتناعه وسجنه وتعذيبه؛ ويظهر أن هذا التعذيب والسجن ليس عقوبة على إبائه القضاء؛ لأن أمام المنصور كثير من العلماء يرغبون في هذا المنصب، وقد أراد الليث بن سعد على القضاء فأبى فتركه من غير أن يعذبه كما مر، ولكنه استدل من إباء أبي حنيفة على صحة ماأتهم به من التشيع وعدم رضائه عن دولتهم؛ وقد روي عن أبي حنيفة أشياء من ذلك، فقد روى زفر بن الهذيل أن أبا حنيفة كان يجهر بالكلام (يعني ضد المنصور) أيام إبراهيم (يعني أخا النفس الزكية، وكان قد خرج على المنصور) جهارا شديدا، فقلت له: والله ما أنت بمنته حتى توضع الحبال في أعناقنا.
22
كما روي أن المنصور كتب كتابين للأعمش وأبي حنيفة على لسان إبراهيم بن عبد الله ابن حسن، وبعث بهما مع من يثق به، فقرأ الكتاب الأعمش وأطعمه الشاة، وأما أبو حنيفة فقبل الكتاب وأجاب عنه فلم يزل في نفس أبي جعفر منه شيء حتى فعل به ما فعل.
23
فالغالب أن أبا حنيفة كان أميل - في الفتنة التي قامت بين العلويين والعباسيين - إلى محمد بن عبد الله النفس الزكية وأخيه إبراهيم، وكان يرى أن محمدا أحق بالخلافة، وكان ناقما على العباسيين سطوتهم وشدتهم، وكثير من العلماء في هذا العصر كانوا على هذا الرأي، وكان امتحان العباسيين لهم ولميولهم مظهره عرض الوظائف عليهم، والاستدلال بإبائهم أو قبولهم على ميولهم، كما لا ننكر أنه كانت هناك نزعة عند بعض العلماء ترى أن في تولي الوظائف السلطانية تعريض الدين للخطر، حتى أن كثيرا من المحدثين لا يروون حديث من تقرب إلي السلطان وأن كثيرا عابوا أبو يوسف من أجل توليه القضاء؛ والحكايات من هذا القبيل كثيرة، قال محمد بن جرير الطبري: «إنه قد تحامى حديث أبي يوسف قوم من أهل الحديث، من أجل غلبة الرأي عليه وتفريعه الفروع والأحكام، مع صحبة السلطان وتقلده القضاء».
24
ولعل السببين معا كانا هما الباعثين لأبي حنيفة على امتناعه من تولي القضاء في العهد الأموي، وهو يرى الدولة قاسية شديدة مضطربة وقومه الفرس يخرجون عليها ويبثون الدعوة ضدها، وفي الدولة العباسية ظلم وعسف واغتصاب الخلافة من العلويين، هذا إلى ما في القضاء من تعرض لغضب السلطان إن أرضى الله، وغضب الله إن أرضى السلطان؛ وفي بعض الروايات أنه قال للمنصور: «لو هددتني أن تغرقني في الفرات أو أن ألي الحكم لاخترت أن أغرق
فلك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك ، فلا أصلح لذلك».
25
وقد روى بعضهم أن أبا حنيفة تولى للمنصور عد اللبن في بناء بغداد، ويقول الخطيب إن العامة هي التي تدعي ذلك.
منحاه في الاجتهاد:
مسلك أبي حنيفة في القرآن الكريم مسلك كل الأئمة، إن اختلفوا في شيء فيه فاختلاف في فهم مدلوله وإشارته وطرق الاستنباط منه. أما في الحديث فكان له مسلك خاص، وهو التشدد في قبول الحديث، والتحري عنه وعن رجاله حتى يصح، وكان لا يقبل الخبر عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلا إذا رواه جماعة في جماعة، أو كما يعبرون هم إذا كان خبر عامة عن عامة، أو كان خبرا اتفق فقهاء الأمصار على العمل به، أو روى واحد من الصحابة الحديث عن رسول الله في جمع منهم، فلم يخالفه أحد؛ لأن هذا يدل على إقرارهم له، ولو كانوا يخالفونه لردوا عليه، فكان هذا بمثابة الحديث يرويه جماعة؛ قال أبو يوسف: فعليك من الحديث بما تعرف العامة،
26
وإياك والشاذ منه؛ فإنه حدثنا ابن أبي كريمة عن أبي جعفر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
دعا اليهود فحدثوه حتى كذبوا علي عيسى (عليه السلام)، فصعد النبى
صلى الله عليه وسلم
المنبر فخطب الناس فقال: إن الحديث سيفشو علي فما آتاكم عني يوافق القرآن فهو مني، وما آتاكم عني يخالف القرآن فليس مني.. وكان عمر فيما بلغنا لا يقبل الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلا بشاهدين، وكان علي بن أبي طالب لا يقبل الحديث عن رسول الله، والرواية تزداد كثرة، ويخرج منها ما لا يعرف ولا يعرفه أهل الفقه، ولا يوافق الكتاب ولا السنة، فإياك وشاذ الحديث، وعليك بما عليه الجماعة من الحديث وما يعرفه الفقهاء، فقس الأشياء على ذلك، فما خالف القرآن فليس عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وإن جاءت به الرواية.. فاجعل القرآن والسنة المعروفة لك إماما وقائدا، واتبع ذلك وقس عليه ما يرد عليك مما لم يوضح لك في القرآن والسنة».
27
فأبو يوسف رسم في هذا القول الخطة التي كان يسير عليها هو وشيخه أبو حنيفة نحو الحديث، وخلاصتها تضييق دائرة ما يعمل به من الحديث والاقتصار منه على المعروف المشهور الذي عرفه عامة الفقهاء، وعدم الأخذ بالأحاديث التي لم تستوف هذه الشروط. روي عن يحيى بن نصر أنه قال: «سمعت أبا حنيفة يقول: عندي صناديق من الحديث ما أخرجت منها إلا اليسير الذي ينتفع به».
28
وروي عن أبي يوسف أنه قال: «كان أبا حنيفة لا يرى أن يروي من الحديث إلا ما حفظه عن الذي سمعه منه»
29
وقال: «ردي على كل رجل يحدث عن النبي
صلى الله عليه وسلم
بخلاف القرآن ليس ردا على النبي
صلى الله عليه وسلم
ولا تكذيبا له ولكنه رد على من يحدث عنه بالباطل، والتهمة دخلت عليه ليس على نبي الله، وكل شيء تكلم به النبي
صلى الله عليه وسلم
فعلى الرأس والعين قد آمنا به، وشهدنا أنه كما قال، ونشهد أيضا أنه لم يأمر بشيء يخالف أمر الله، ولم يبتدع، ولم يتقول غير ما قال الله، ولا كان المتكلفين».
30
وعلى الجملة فقد كان يشدد في الأخذ بالحديث، وهذا - من غير شك - يضطره إلى التوسع في القياس والاستحسان فما لم يكن فيه أثر كتاب ولا أثر صحيح، فليس فيه أمام المجتهد إلا القياس والاستحسان.
كذلك كان من مبدئه إعمال عقله فيما إذا روي في المسألة 319 قولان أو أكثر للصحابة فيختار منها أعدلها أو أقربها إلى الأصول العامة، وعدم الاعتداد بأقوال التابعين إلا أن يوافق اجتهاده، فقد روي عنه أنه قال: «إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والآثار الصحاح عن التي فشت في أيدي الثقات ، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين، وسعيد بن المسيب؛ فلي أن أجتهد كما اجتهدوا»،
31
وهذا المنهج يسلم إلى عدم التزام العمل بالمأثور عن التابعين، ثم يسلم بعد إلى القياس والاستحسان.
فهذا التشدد في قبول الحديث، وهذه الحرية في وزن أقوال الصحابة والتابعين مضافا إليهما ما ذكرنا قبل من أسباب، جعلت القياس أساسا كبيرا من أسس التشريع في فقه أبي حنيفة.
وفي الواقع كان أبو حنيفة قياسا، سلك في القياس مسلكا فاق فيه كل من سبقه، وأعانه على ذلك ملكاته الخلقية، فكان دقيق النظر، سريع الخاطر في إدراك ما بين الأشياء من فروق وموافقات، قوي الحجة حتى كان - كما قالوا - لو أراد أن يقيم الحجة على أن هذه السارية ذهب لفعل. وزاده ظهورا في ذلك أنه لم يكن يتحرج من الفتيا تحرج أهل الحديث، فليس يهمه أوقع الأمر أم لم يقع، وكان حقيقيا أم فرضيا، بل يقول كما قال لقتادة: «إن العلماء يستعدون للبلاء ويتحرزون من قبل نزوله»؛ وذكر عنده مرة قول من قال: لا أدري نصف العلم، قال أبو حنيفة: فليقل «لا أدري» مرتين ليستكمل العلم؛ ولذلك كان كثيرا ما سئل وكثيرا ما أجاب، حتى روي أنه قال ستين ألف مسألة، وقال بعضهم ثلاثة وثمانين ألفا، ثمانية وثلاثين ألفا في العبادات، وخمسة وأربعين ألفا في المعاملات؛
32
ومهما كان العدد مبالغا فيه فإنه يدلنا على كثرة ما سئل وما أجاب، وما فرع وما علم، وهذا لا يتأتى مع الصحة والضبط ودقة النظر إلا من عقل قانوني كبير مرن، حتى كأن أصول الفقه الأربعة هي قواعد الحساب الأربع، تعرض فيها المسائل فيطبقها على هذه القواعد، ويحلها في سهولة على مقتضاها، ثم هو يجادل ويعارض فيما يفتي فيقيم الحجج القوية على ما رأى وما أفتى، وقد حكي عنه من هذا الشيء الكثير في كتب المناقب إن بولغ في بعضه فالأصل صحيح.
وقد نازله فقهاء عصره ونازلهم فانتصف منهم في الأغلب، ونسوق لك أمثلة قليلة مما روي، سئل عن رجلين اشتركا في ثلاثة دراهم دفع أحدهم درهمين والآخر واحدا واختلطت الدراهم، ثم ضاع درهمان من الثلاثة، فقال أبو حنيفة : الدرهم الباقي بينهما أثلاثا، ثلث لذي الدرهم، والثلثان لذي الدرهمين؛ و سئل فيهما ابن شبرمة فقال: إن الدرهم الباقي بينهما أنصافا، لكل نصف. حجة ابن شبرمة أن درهما من الدرهمين الضائعين هو من مال دافع الدرهمين بيقين، والدرهم الثاني من الدرهمين الضائعين هو من مال دافع الدرهمين بيقين، والدرهم الثاني من الدرهمين الضائعين مشكوك فيه فيكون منهما، فيكون الدرهم الثاني مناصفة؛ وحجة أبي حنيفة أن الدراهم الثلاثة لما خلطت أصبح كل درهم مشتركا، لصاحب الدرهم ثلثه، ولصاحب الدرهمين ثلثاه، فأي درهم ذهب فهذا حكمه، والدرهم الباقي هذا حكمه أيضا، ثلثه لذي الدرهم وثلثاه لذي الدرهمين. وفي هذا مثل من أمثلة الرأي الذي كان يستعمل؛ وسئل: ما قولك في الشرب في قدح أو كأس في بعض جوانبها فضة؟ فقال: لا بأس به، فقيل له أليس قد ورد النهي عن الشرب في إناء الفضة والذهب؟ فقال أبو حنيفة: ما تقول في رجل مر على نهر، وقد أصابه عطش، وليس معه إناء فاغترف الماء من النهر فشربه بكفه وفي أصبعه خاتم؟ فقال مناظره: لا بأس بذلك، قال أبو حنيفة: فهذا كذلك.
وجاءه جماعة من أهل المدينة ليناظروه في القراءة خلف الإمام (وأبو حنيفة يقول بعدم القراءة)، فقال لهم لا يمكنني مناظرة الجميع، فولوا الكلام أعلمكم، فأشاروا إلى واحد، فقال: هذا أعلمكم؟ والمناظرة معه كالمناظرة معكم؟ قالوا: نعم، قال: والحجة عليه كالحجة عليكم؟ قالوا: نعم، قال: إن ناظرته لزمتكم الحجة؛ لأنكم اخترتموه فجعلتم كلامه كلامكم، وكذا نحن اخترنا الإمام فقراءته قراءتنا.
ومثل هذه مئات من المسائل استعمل فيها الرأي أو القياس أو الاستحسان، ذكرت في كتب الفقه وكتب المناقب، يطول بنا القول لو أكثرنا منها، حتى ذكروا أنه كان مولعا بالقياس أيضا في حياته العادية، فقد رووا أنه أمر حجامه أن يلقط الشعر الأبيض من رأسه أو لحيته، قال: إن لقطتها كثرت، قال: إذن القط السود حتى تكثر. وتنادروا عليه في استعمال القياس بأنه كان في مبدأ أمره يشتغل بالنحو، ويريد أن يجري القياس فيه، فجمع كلبا على كلوب قياسا على قلب وقلوب.
33
وروى الجاحظ عن حماد بن سلمة قال: كان رجل في الجاهلية معه محجن يتناول به متاع الحاج سرقة، فإذا قيل له سرقت، قال لم أسرق إنما سرق محجني، فقال حماد لو كان هذا اليوم حيا لكان من أصحاب أبي حنيفة.
34
وعلى الجملة فقد مهر في القياس، وطبقه تطبيقا واسعا أثر في الفقه أثرا كبيرا من كثرة الفروع وتحديد وجوه المشابهات، وتسليح المجتهد سلاحا قويا في الإفتاء. وقد لا تدرك كبير فرق فيما لدينا من كتب الفقه في المذاهب المختلفة، كمذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة، ومن أجل هذا قال بعض المستشرقين إن الفروق بين المذاهب قليلة؛ ولكن في رأيي أن هذه القلة إنما كانت في كتب تلاميذ الأئمة؛ لأن تلاميذ أبي حنيفة أخذوا ما احتاجوا إليه من الحديث، وتلاميذ مالك توسعوا في اقتباس ما هم في حاجة إليه من القياس فتقاربت المذاهب، أما في عصر أبي حنيفة ومالك نفسيهما فالفرق كان كبيرا.
كذلك عرف أبو حنيفة بالمهارة في فقه الحديث، أعني أنه كان يسمع الحديث ويصح عنده، فيستطيع أن يفرغ منه الفروع ويستخرج منه الأحكام الفقهية في مهارة. سأله الأعمش (وهو من كبار المحدثين) عن مسائل فأفتاه، فقال له الأعمش: من أين لك هذا؟ قال: أنت حدثتني عن إبراهيم بكذا، وحدثتني عن الشعبي بكذا، فقال الأعمش: يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة.
35
ومن أجل هذا فرقوا بين المحدث والفقيه، فقد يكون الرجل محدثا لا فقهيا وقد يكون قليل الحديث وهو فقيه. •••
ومن الأمور الظاهرة في فقه أبي حنيفة الحيل الشرعية، وقد أصبحت فيما بعد بابا واسعا من أبواب الفقه في مذهب أبي حنيفة وغيره في المذاهب، وإن كانت في مذهب الحنفية أظهر، وألفت فيها الكتب الخاصة، حتى لقد وضعت فيما بعد حيل للهروب من كل الالتزام، فحيل لإسقاط الشفعة، وحيل لتخصيص بعض الورثة بالوصية، وحيل في إسقاط حد السرقة وهكذا،
36
وقد خصص ابن القيم جزءا كبيرا من كتابه إعلام الموقعين في الكلام في الحيل، وفي قيمتها والتشنيع على من توسع فيها.
37
وقد قال إن تجويز الحيل يضر بالشرائع؛ لأن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيله، وقال: «إن المتأخرين أحدثوا حيلا لم يصح القول بها عن أحد من الأئمة، ونسبوها إلى الأئمة وهم مخطئون في نسبتها إليهم.. ومن عرف سيرة الشافعي وفضله ومكانه من الإسلام، علم أنه لم يكن معروفا بفعل الحيل ولا بالدلالة عليها، ولا كان يشير على مسلم بها، وأكثر الحيل التي ذكرها المتأخرون المنتسبون إلى مذهبه من تصرفاتهم، تلقوها عن المشرقيين وأدخلوها في مذهبه».
38
وقد أطال في أقسام الحيل وما يجوز منها وما لا يجوز، فما كان من الحيل لأخذ أموال الناس وظلمهم في نفوسهم وسفك دمائهم، وإبطال حقوقهم، وإفساد ذات بينهم، فهي محرمة ... ولا يختلف المسلمون أن تعليم هذه الحيل حرام والإفتاء بها حرام، والشهادة على مضمونها حرام، والحكم بها مع العلم بحالها حرام ... وهناك حيل للتوصل إلى الحق أو لدفع الظلم بطريق مباحة، وهذا جائز إلى آخر ما قال
39
وقد ضرب أمثلة كثيرة لذلك.
وقد رويت عن أبي حنيفة مسائل في هذا الباب، أكثرها من باب الأيمان والطلاق، ومنها يظهر أن سكان العراق تفننوا في الأيمان والطلاق تفننا عجيبا، وكانوا يستفتون الأئمة في هذه الأيمان العجيبة التي يوقعونها، فيحلف «الأعمش» بطلاق امرأته إن أخبرته بفناء الدقيق أو كتبت به أو راسلته، أو ذكرت لأحد ليذكره له، أو أومأت في ذلك، فتسأل امرأته أبا حنيفة، فيحتال لمخرج لهذا، فيقول لها: إذا انتهى الدقيق فشدي جراب الدقيق على إزاره أو ثوبه وهو نائم، فإذا أصبح أو قام من الليل علم خلاء الجراب وفناء الدقيق.
40
ويحلف آخر ليقربن امرأته نهارا في رمضان. فيفتيه أبو حنيفة أن يسافر بها فيقربها نهارا في رمضان. ويحلف رجل وقد رأى امرأته على السلم فيقول: أنت طالق ثلاثا إن صعدت وطالق ثلاثا إن نزلت، فيفتيه أبو حنيفة أن تقف المرأة على السلم ولا تصعد ولا تنزل، ويحتال جماعة يحملون السلم بالمرأة فيضعونها على الأرض
41
ويسأله رجل فيقول: لي ولد ليس لي غيره فإن زوجته طلق، وإن سريته أعتق، وقد عجزت عن هذا فهل من حيلة؟ فقال له أبو حنيفة: اشتر الجارية - التي يرضاها هو - لنفسك، ثم زوجها منه فإن طلق رجعت مملوكتك إليك وإن أعتق أعتق ما لا يملك،
42
إلى أمثال ذلك. فنرى من مجموع هذا أن الحيل التي أفتى بها أبو حنيفة ليست من نوع التحايل على إبطال الحق أو أكل الأموال بالباطل ونحو ذلك، إنما هي استخراج فقهي للخروج من مأزق، مع عدم التعدي على أحد في ماله ونفسه.
ويظهر أن هذا الباب أستغل بعد من ناحيتين: (1)
فبعد أن وقعت حوادث قليلة من هذا القبيل، توسع فيها من طريق الفرض، وسبح الخيال يستخرج فروضا عديدة، خصوصا في الأيمان والطلاق، لم تحدث ولن تحدث، ولكن الخيال يتوهمها، والفقيه الفرضي يتمرن على حلها. (2)
والأمر الثاني ما أشار إليه ابن القيم من أن المتأخرين ارتكنوا على هذه المسائل القليلة الواردة عن الأئمة وتوسعوا فيها حتى جعلوا في كل باب من أبواب الفقه، ولم يقفوا عند الحدود التي وقفت فيها الأئمة، بل جعلوا منها ما يحتال به على إضاعة الحقوق وإفساد الالتزامات. •••
مما لا شك فيه أن أبا حنيفة خرج على الناس بمذهب جديد، فيه حرية للعقل بكثرة استعمال الرأي والقياس، وبما استتبع ذلك من كثرة الفروع ورجوعها إلى أصول، وبمقدرة فائقة في الاستنباط، وبشجاعة في مواجهة المسائل حتى الفرضية منها والإفتاء فيها، وبتعرف وجوه الحيل في المسائل، في الحدود التي ذكرناها، وبتقريب الفقه إلى الأذهان، حتى قال الجاحظ: «وقد تجد الرجل يطلب الآثار وتأويل القرآن، ويجالس الفقهاء خمسين عاما، وهو لايعد فقيها ولا يجعل قاضيا، فما هو إلا أن ينظر في كتب أبي حنيفة وأشباه أبي حنيفة، ويحفظ كتب الشروط في مقدار سنة أو سنتين، حتى تمر ببابه فتظن أنه من بعض العمال وبالحري ألا يمر عليه من الأيام إلا اليسير حتى يصير حاكما على مصر من الأمصار أو بلد من البلدان».
43
وطبيعي أنتحدث هذه المبادئ ثورة فكرية عنيفة، وتقسم الناس إلى قسمين: مؤيد لها وناصر، وهاج لها وقادح، وكذلك كان؛ فقد وقف العراق في أمر أبي حنيفة معسكرين يتنازعان، ووقف المؤيدون لمذهب أبي حنيفة من العراقيين أمام المدنيين كذلك يتنازعون، ويترامون بالأقوال، هؤلاء ينصرون أبا حنيفة ويبينون فضله ومزاياه، ووجوه تفضيل مذهبه على غيره، وهؤلاء يضعون من شأنه ويرون أنه خطر على الدين، وأن طريقته تخالف طريقة المتقدمين، وخلف لنا كل معسكر تراثا من آرائه وأقواله؛ وقد عقد الخطيب البغدادي فصلا طويلا نقل فيه أكثر ما قاله الفريقان، وكذلك فعل ابن عبد البر في كتابه الانتقاء.
وكان أكثر الذين عادوه من أصحاب الحديث، وطبيعي أن يكون ذلك لأن منهجه غير منهجهم، فهم يروون الحديث ويكتفون في تصحيحه بأن الراوي غير مجرح، وهو يشتدد في روايته على النحو الذي ذكرناه، فإذا رد آثارا ولم يعمل بها هاجوا عليه وقدحوا فيه. وكذلك عاداه الفقهاء من مدرسة الحديث؛ لأنه كان يستعمل القياس مع وجود الحديث في نظرهم، مع أن الحديث لم يصح عنده فتركه إلى القياس، فإذا رد الحديث ونطق بما يفيد أنه لم يثبت عنده شنعوا عليه بأنه أكذب الحديث؛ فقد سأله رجل عن شيء، فأجاب فيه، فقال له الرجل: إنه يروي فيه عن النبي
صلى الله عليه وسلم
كذا، فقال أبو حنيفة: دعنا من هذا؛ وحدثه أبو إسحق الفزاري حديثا، فقال أبو حنيفة: هذا حديثا خرافة؛ وحدثه أحدهم حديث «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فقال أبو حنيفة: أرأيت إن كانا في سفينة؟ أرأيت إن كانا في سجن؟ أرأيت إن كانا في سفر؟».
وروي له أن يهوديا رضخ رأس جارية بين حجرين، فرضخ النبي
صلى الله عليه وسلم
رأسه بين حجرين، فقال أبو حنيفة: هذا هذيان. رووا هذا وأمثاله، والظاهر منها أن أبا حنيفة كان ينكر هذه الأحاديث؛ لأنها لم تصح عنده، فشنع المحدثون عليه، وقالوا: إنه ينكر قول الرسول ويقدم عليه رأيه، ويقولون: ما رأينا أجرأ على الله من أبي حنيفة، كان يضرب الأمثال لحديث رسول الله، وأحصوا عليه أنه أفتى بنحو مائتي مسألة خالف فيها الحديث؛ قال رسول الله: «للفرس سهمان وللرجل سهم» فقال أبو حنيفة؛ أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن؛ وقال
صلى الله عليه وسلم : «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» وقال أبو حنيفة: إذا وجب البيع فلا خيار؛ وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر، وقال أبو حنيفة: القرعة قمار إلخ. ووضح في هذا كله أن الشروط الدقيقة التي اشترطها في الأخذ بالحديث خالفت بين أنظاره وأنظارهم، وجعلت الحديث يصح عندهم ولا يصح عنده، فإذا استعمل القياس لأن الحديث لم يصح عنده اتهموه بأنه يقدم رأيه على الحديث، وقالوا: إنه استقبل الآثار واستدبرها برأيه، إلى كثير من أمثال هذا التشنيع. وما من أحد من الأئمة إلا كان له مثل هذا الموقف حين لا يصح عنده حديث صح عند غيره فلا يأخذ به، وإن كان أبو حنيفة في ذلك أكثر، للأسباب التي أبناها.
نقم عليه المحدثون والفقهاء كثرة استعماله للرأي والقياس، وشنعوا عليه بأن ذلك من قبيل اتباع الهوى. وفرق كبير بين اتباع الهوى واستعمال الرأي بعد ذلك الجهد، فاتباع الهوى الميل إلى الرأي لتحصيل مصلحة خاصة من مال أو جاه، أما الرأي بمعنى بذل الجهد ثم الوصول بعد ذلك إلى ما يعتقده الحق فليس من الهوى في شيء؛ وقد روي عن كثير من هؤلاء أقوال في تجريح أبي حنيفة، كمالك بن أنس والأوزاعي وسفيان الثوري، ومن الغريب أن ينقل إلينا عن بعضهم كسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك أقوال متناقضة بعضها في مدحه والاعتراف بفقهه وفضله، وبعضها في نقده من هذه النواحي أيضا.
44
فإما أن يكون لهم رأي فيه قد عدلوا عنه إلى غيره، وإما أن تكون الأقوال في إحدى الناحيتين موضوعة مختلفة، والوقوف على أصحها عسير. ويقول ابن عبد البر: إن ممن جرح أبا حنيفة أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، وعده في الضعفاء والمتروكين.
45
ولم يرو عنه ولا حديث واحد في صحيح البخاري ومسلم، ولكن روى له النسائي والترمذي، كما تعصب له آخرون من العلماء مثل شعبة بن الحجاج وابن جريج، ويحيى بن معين وغيرهم.
كذلك نقده بعضهم في مسألة الحيل التي ألممنا بها قبل، وعقد لذلك البخاري بابا في كتابه الجامع الصحيح، وعناه بقوله: «وقال بعض الناس إن أحكام الله شرعت لجلب مصالح إلينا أو دفع مضار، ومن أمحل المحال أن يشرع من الحيل ما يسقط شيئا أوجبه أو يحل شيئا حرمه إلخ».
46
وقد رأيت أن أبا حنيفة نفسه لم يتوسع في الحيل توسع من بعده، ولم يستجز إلا ضروبا محدودة منها. ونقدوه كذلك لقوله بالإرجاء، وسنعرض لذلك بعد.
نرى من كل هذا كيف كان أبو حنيفة وفقهه مبعثا لحركة فكرية عنيفة أقامها حوله رجال الحديث حينا، وأقامها من ليسوا على مذهبه في منهج التشريع، وأقامها أعداء له وخصوم، كابن أبي ليلى، وكان قاضي الكوفة للأمويين والعباسيين، وكان معاصرا لأبي حنيفة، وكان أبو حنيفة يفتي أحيانا بغير رأيه، ويجهله في بعض قضاياه ويبين خطأه، فاستعدى عليه الولاة. وخير ما قيل في هذا الباب ما قاله ابن عبد البر: «إن كثيرا من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لرده كثيرا من أخبار الآحاد العدول؛ لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن، فما شذ عن ذلك رده وسماه شاذا، وكان مع ذلك أيضا يقول الطاعات من الصلاة وغيرها لا تسمى إيمانا (أي لأن الإيمان اعتقاد بالقلب)، وكل من قال من أهل السنة والإيمان قول وعمل ينكرون قوله، ويبدعونه بذلك. وكان مع ذلك محسودا لفهمه وفطنته»
47
وتدخل الشعراء في النزاع، روى ابن قتيبة عن شقيق البلخي أنه أطرى أبا حنيفة بمرو، فقال له علي بن إسحاق لا تطره بمرو فإنهم لا يحتملون ذلك، فقال شقيق: قد مدحه مساور الشاعر فقال:
إذا ما الناس يوما قايسونا
بآبدة من الفتيا ظريفة
أتيناهم بمقياس صحيح
تلاد من طراز أبي حنيفه
إذا سمع الفقيه بها دعاها
وأثبتها بحبر في صحيفه
فقال له قد أجابه بعض أصحابنا:
إذا ذوي الرأي خاصم في قياس
وجاء ببدعة هنة سخفه
أتيناهم بقول الله فيها
وآثار مبرزة شريفه
فكم من فرج محصنة عفيف
أحل حرامه بأبي حنيفه
48
وفضل شاعر أهل الكوفة على أهل المدينة في الفقه فقال:
وليس يعرف هذا الدين نعلمه
إلا حنيفية كوفية الدور
لا تسألن مدينيا فتخرجه
إلا عن البم والمثناة والزير
فأجابه رجل من أهل المدينة:
لقد عجبت لغاو ساقه قدر
وكل أمر إذا ما حم مقدرو
قال المدينة أرض لا يكون بها
إلا الغناء وإلا البم والزير
لقد كذبت لعمر الله إن بها
قبر الرسول، وخير الناس مقبور
ومهما قيل فإن هذه الحركة القوية، وهذا النزاع الشديد بين أصحاب الرأي والحديث، رقى الفقه في هذا العصر رقيا عظيما، وفتق الأذهان واستخرج منها أحكاما ونظريات هي خير نتاج العصور الإسلامية. •••
لم يصل إلينا أي كتاب في الققه لأبي حنيفة، ويظهر أنه لم يؤلف في ذلك، وكل ما رواه ابن النديم عن كتبه هي كتاب الفقه الأكبر، ورسالته إلى البستي، وكتاب العالم والمتعلم، وكتاب الرد على القدرية؛
49
فيظهر أنه لم يدون في الفقه، ولكن تلاميذه كانوا يحفظون أقواله ويكتبونها عنه، فنقلوا إلينا أقواله في كل باب من أبواب الفقه.
أما كتابه في الفقه الأكبر الذي ذكره ابن النديم فمختلفون فيه؛ ذلك أنه وصل إلينا كتاب صغير في العقائد اسمه الفقه الأكبر في ورقات، روي بروايات مختلفة، وطبع في الهند مع شروحه، وبعض هذه الروايات غير صحيح؛ لأنه يحتج على الأشعرية ولهم، والأشعري كان بعد أبي حنيفة بنحو قرنين، وبعضهم يروي أن الفقه الأكبر ليس ما بين أيدينا، وإنما هو كتاب في الفقه كبير حوى نحو ستين ألف مسألة
50
والأرجح عندي أنه لم يدون في الفقه؛ لأن حركة التدوين في العصر العباسي أدركته وهو متقدم في السن، وأن الفقه الأكبر كان في العقيدة، ولا يعد هذا تدوينا لأنه رسالة كالرسائل التي يرسلها العلماء بعضهم إلى بعض، وأن الفقه الأكبر الذي بين أيدينا أساسه صحيح النسبة لأبي حنيفة وإن زيد عليه بعد، كما سنبحث ذلك عند الكلام في العقائد ومنها الإرجاء إن شاء الله.
أتى بعد أبي حنيفة تلاميذه، فجدوا في المحافظة على مذهبه بتدوينه والاستدلال له، وترتيب مسائله وتوسيعها، كما أتيح لبعضهم فرصة رياسة القضاة فقوى مذهبه وبثه وأيده، وكان من أشهر هؤلاء التلاميذ أبو يوسف ومحمد وزفر، ويطول بنا القول لو استقصينا أخبارهم وآراءهم، فنكتفي في ذلك بلمحة يسيرة.
أبو يوسف:
عربي الأصل، جده سعد بن حبتة أحد الصحابة من الأنصار، وأخذ الفقه فيمن أخذ على أبي حنيفة، وكان من أقرب تلاميذه إليه، ولد سنة 113 وتوفي سنة 182، نشأ فقيرا، وكان أبو حنيفة يمده بالمال ثم تولى القضاء لثلاثة من الخلفاء: المهدي، ثم الهادي، ثم هارون الرشيد، وكان في أيام الرشيد قاضي القضاة، وكان عند الرشيد حظيا مكينا؛ وكان موقفه هذا دقيقا محرجا، فحول الخلفاء إذ ذاك قادة ورؤساء يحتاجون إلى مداراة، وهم الذين قال فيهم أبو حنيفة للمنصور: «فلك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك»، فبقاء أبي يوسف في هذا المنصب هذا العهد الطويل يدل على لباقة ومرونة فائقتين، خصوصا إذا أراد أن يجمع بين الدين والمنصب والجاه، ولعل ما يمثل أبا يوسف خير تمثيل قوله: «رءوس النعم ثلاثة: أولها نعمة الإسلام التي لا تتم النعمة إلا بها، ونعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها، ونعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها». فقد أراد أن يجمع بين الإسلام والعافية والغنى، وما أدق ذلك وأشقه؛ لذلك نراه في خطبة كتاب الخراج يقف موقفا من أحسن المواقف وأشرفها، يعظ الخليفة هارون الرشيد في قوة وحزم، وبجانب ذلك تروى عنه الأخبار الكثيرة في ابتداع الحيل للخروج من المآزق يقع فيها الخلفاء والقواد، إن بولغ في بعضها فالأساس صحيح، والجمع بين ذلك كله لا يستطيعه إلا أمثال أبي يوسف إن استطاعوا.
أفاد أبو يوسف فقه أبي حنيفة من وجوه: (1)
أنه تولى القضاء عهدا طويلا، وفي هذا فائدة للفقه كبيرة؛ ففي القضاء امتحان للنظريات العلمية وصهر لها في بوتقة العمل، ومواجهة لمشاكل عملية لا يدركها من اقتصر على النظر، ومقابلة الصعاب في طرق المرافعات، ممن له البينة، ومن عليه اليمين ونحو ذلك، لا يفكر فيها كثيرا من يستفتى أو يؤلف الكتب. فلهذا كان أبو يوسف منظما لمذهب أبي حنيفة ومغذيا له بالطرق العلمية، ومن أجل هذا قال الحنفية: إنه يعمل بقول أبي يوسف في باب القضاء، أضف إلى هذا أن أبا يوسف في مثل مركزه يستطيع أن يعرف شئون الدولة ومناحيها في التفكير والعمل، وما يعرض لها من مشاكل وكيفتحل ما لا يعرفه غيره، وكل هذا يكسبه نظرا جديدا ورأيا في مسائل لا يراها من يقيس أو يستحسن بين جدران أربعة أو حلقة المسجد. (2)
تولى قضاء بغداد وكان من يتولاه يكون قاضي القضاة، فله نوع إشراف على سائر القضاة، وفي هذا تمكين لمذهب أبي حنيفة ونشر له ولمبادئه. (3)
كان أبو يوسف أوسع اتصالا بالمحدثين وأكثر رواية للحديث عنهم؛ قال ابن جرير الطبري: (كان أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي فقيها عالما حافظا، ذكر أنه كان يعرف بحفظ الحديث، وأنه كان يحضر المحدث فيحفظ خمسين أو ستين حديثا ثم يقوم ويمليها على الناس، وكان كثير الحديث، وكان قد جالس محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ثم جالس أبا حنيفة، وكان الغالب عليه مذهب أبي حنيفة، وكان ربما خالفه أحيانا في المسألة بعد المسألة».
51
وقد رحل إلى المدينة ولقي مالكا وناظره وأخذ عنه، ورجع عن بعض آرائه إلى قول مالك وأقوال الحجازيين؛ ومع هذا فقد رضي عنه بعض المحدثين كابن معين وابن حنبل، ولم يرض عنه أكثرهم، فلم يرو عنه شيئا أحد من أصحاب كتب الحديث الستة؛ قال ابن عبد البر: «كان ابن معين يثني عليه ويوثقه، وأما سائر الحديث فهم كأعداء لأبي حنيفة وأصحابه».
52
على كل حال سهل له اتصاله بالمحدثين سبيل تقوية مذهب أبي حنيفة بالحديث أيضا، وتطعيم المذهب ببعض آراء الحجازيين، وبمخالفة أبي حنيفة إلى ما صح عنده من حديث أحيانا. (4)
بما ألف في الفقه، فقد روى ابن النديم أنه ألف كتاب الصلاة - كتاب الزكاة - كتاب الصيام - كتاب الفرائض - كتاب البيوع - كتاب الحدود - كتاب الوكالة - كتاب الوصايا - كتاب الصيد والذبائح - كتاب الغصب والاستبراء - كتاب اختلاف الأمصار - كتاب الرد على مالك بن أنس - كتاب رسالة في الخراج إلى الرشيد - كتاب الجوامع، ألفه ليحيى بن خالد (البرمكي)، يحتوي على أربعين كتابا، ذكر فيه اختلاف الناس والرأي المأخوذ به، أمال أملاها، رواها بشر بن الوليد القاضي، يحتوي على ستة وثلاثين كتابا مما فرعه أبو يوسف.
53
والذي بقي لنا من ذلك كله كتاب الخراج، وأقوال نقلها عنه الفقهاء من بعده، وأبواب نقلها عنه الشافعي في الأم.
كتاب الخراج:
اسمه الخراج ولكنه يبحث في الواقع في أهم أبواب مالية الدولة، يقول في أوله: «إن أمير المؤمنين أيده الله تعالى سألني أن أضع له كتابا جامعا يعمل به في جباية الخراج والعشور والصدقات والجوالي، وغير ذلك مما يجب عليه النظر فيه والعمل به»، ويعني بالخراج ضريبة الأرض، فقد تركت الأرض المفتوحة على ملك أصحابها، وفرض عليهم دفع ضريبة هي الخراج، ويعني بالعشور ما يحصل من الأراضي التي أسلم أهلها كأرض المدينة واليمن، ويعني بالصدقات الزكاة المفروضة على المسلمين في مالهم، وبالجوالي الجزية على رءوس الذميين وأمثالهم؛ لذلك هو يتعرض لضرائب الأرض، وضرائب الرءوس، ويضطره ذلك إلى البحث في الأراضي الإسلامية أيها فتح عنوة وأيها فتح صلحا؛ ويتوسع في هذا الباب فيبحث في قسمة الغنائم التي يحرزها جيش المسلمين وفي الأرض الموات، وفيما يخرج من البحر، وفي شئون الري وما يعرض له، وفي معاملته أهل الذمة من حيث الضرائب، وبناء الكنائس والبيع والصلبان إلخ.
ونجد في كتاب الخراج مصداق كل ما ذكرناه عن أبي يوسف، فهو يتعرض لأمور من أهم شئون الدولة المالية، لا يستطيع الإلمام بها والوقوف على دقائقها إلا من كان في مثل منصبه واتصاله بالخلفاء ومهام الدولة؛ وهو واسع الاطلاع في الحديث، كثير الأخذ عن الشيوخ في مختلف الأمصار، ومختلف الاتجاهات؛ فهو يروي عن «بعض أشياخنا الكوفيين» و«عن بعض أشياخنا من أهل المدينة»، وعن أبي حنيفة، وعن مالك بن أنس، وعن الليث بن سعد، وعن عشرات غيرهم؛ وهو واسع الاطلاع على أقوال الصحابة وأعمالهم، ويتجلى في كتاب الخراج وقوفه على تصرفات عمر بن الخطاب؛ لأنه كان العمدة في هذا الباب؛ إذ إن عمر واجه هذه المشاكل المالية عند فتحه لبلاد الفرس والروم، وسن لمن بعده ما يحتذونه، وقد ورد اسمه في كتاب الخراج نحو 123 مرة.
ويظهر في الكتاب أثر النقل والعقل معا، فهو كتاب النقل عن النبي
صلى الله عليه وسلم
والصحابة والتابعين وغيرهم؛ وهو مع هذا يخالف عمر بن الخطاب فيما قدر على الأراضي، ويرد على اعتراض على ذلك فيقول: لم لم ترد الناس إلى ما كان عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) وضعه على أرضهم ونخلهم وشجرهم، وقد كانوا بذلك راضين، وله محتملين، قال أبو يوسف: إن عمر (رضى الله عنه) رأى الأرض في ذلك الوقت محتملة لما وضع عليها، ولم يقل حين وضع عليها ما وضع من الخراج إن هذا الخراج لازم لأهل الخراج، وحتم عليهم، ولا يجوز لي ول من بعدي من الخلفاء أن ينقص منه ولا يزيد فيه، بل كان فيما قال لحذيفة وعثمان حين أتياه بخبر ما كان استعملهما عليه من أرض العراق: «لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق» دليل على أنهما لو أخبراه أنها لا تطيق ذلك الذي حملته من أهلها لنقص مما كان جعله عليهم من الخراج. فلما رأينا ما كان جعله (عمر) على أرضهم من الخراج يصعب عليهم، ورأينا أخذهم بذلك داعيا إلى جلائهم عن أرضهم وتركهم لها، لم نحملهم ما لا يطيقون، ولم نأخذ من الخراج إلا بما تحتمله أرضهم».
54
ونراه يفاضل بين الأحاديث ويختار أشهرها وأعمها، فيقول: «واتبعنا الأحاديث التي جاءت عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في مساقاة خيبر لأنها أوثق عندنا وأكثر وأعم مما جاء في خلافها».
55
ويخالف أبا حنيفة في بعض أقواله، ويرجع إلى الأثر فيقول: «وسألت يا أمير المؤمنين عما يخرج من البحر من حلية وعنبر. وقد كان أبو حنيفة وابن أبي ليلى رحمهما الله يقولان: ليس في شيء من ذلك شيء لأنه بمنزلة السمك، وأما أنا فإني أرى في ذلك الخمس، وأربعة أخماسه لمن أخرجه لأنا قد روينا فيه حديثا عن عمر (رضى الله عنه)، ووافقه عليه عبد الله بن عباس فاتبعنا الأثر ولم نر خلافه»
56
إلخ.
محمد بن الحسن الشيباني:
قال بعضهم إن أصله من قرية في ضاحية دمشق تسمى «حرستا» وقال بعضهم إن أصله من الجزيرة (شمال العراق) وإن أباه كان في جند الشام،
57
واتفقوا على أنه من الموالي ونسبته إلى شيبان بالولاء، وأنه ولد بواسط ونشأ بالكوفة، ولد سنة 132 وأخذ العلم عن أبي حنيفة، ولكن الظاهر أنه لم يصاحبه طويلا، فقد مات أبو حنيف وعمر محمد نحو ثماني عشرة سنة وتتلمذ أيضا لأبي يوسف، ورحل إلى المدينة وسمع من مالك وسمع من الأوزاعي وغيرهما، فهو كأبي يوسف تفقه بفقه أهل الرأي في الكوفة، وبفقه أهل الحديث في المدينة وغيرها، وقد جمع في دراسته أيضا - كأبي يوسف - بين دراسة أدبية من نحو ولغة وشعر، ودراسة دينية من قرآن وحديث وفقه، وقد أقام بالمدينة ثلاث سنين وبعض سنة يأخذ عن مالك وشيوخ المدينة، ومن أجل هذا كان جيد اللغة، واسع الاطلاع في نواحي التشريع المختلفة، ويظهر أنه نشأ في سعة من العيش لا كأبي يوسف، فقد روي أنه أنفق على تعلمه النحو والشعر والحديث والفقه ثلاثين ألف درهم كما روي أنه أعان الشافعي بماله، وقد كان جميل المنظر حسن الملبس، فصيح القول، جيد الفقه، قال فيه الشافعي: «كان محمد بن الحسن يملأ العين والقلب». وقد ولي القضاء للرشيد، ولاه قضاء الرقة، ورويت عنه أخبار تدل على أنه لم يكن يداري ويجامل كما كان أبو يوسف. روى الخطيب البغدادي أن الرشيد أقبل يوما، فقام الناس كلهم إلا محمد بن الحسن فإنه لم يقم، فخرج الآذن ونادى محمد بن الحسن، فجزع أصحابه له، فلما خرج سئل عما كان قال: سألني مالك لم تقم مع الناس؟ قلت: كرهت أن أخرج عن الطبقة التي جعلتني فيها، إنك أهلتني للعلم، فكرهت أن أخرج إلى طبقة الخدمة
58
إلخ. كما روي أن الرشيد سأله في أمان أعطاه لأحد الطالبيين، وأراد الرشيد أن يتحلل منه فقال محمد: هذا أمان صحيح ودمه حرام، وقد تقدم الخبر بذلك ، وقد عزله الرشيد عن قضاء الرقة ثم استدناه، وقد مات. محمد وهو مع الرشيد في خرجته إلى الري سنة 189 وقد كانت بينه وبين شيخه أبي يوسف وحشة استمرت بينهما إلى الوفاة، ولعل السبب اختلاف النزعتين.
وقد أفاد محمد فقه أبي حنيفة من ناحيتين: ناحية اشترك فيها مع أبي يوسف من سماع المحدثين وسماع فقه المدينة وتطعيم فقه أبي حنيفة بذلك؛ وناحية أخرى هامة جدا، وهي تفريع المسائل من الأصول، وقد عرف محمد بذلك وبمهارته في الحساب مما يحتاج إليه المواريث ونحوها، ثم تدوين الفقه في كتب كثيرة هي عماد من أتى بعد في فقه أبي حنيفة؛ فمن أشهر كتبه الكتب الستة: المبسوط، والزيادات، والجامع الصغير، والسير الصغير، والجامع الكبير، والسير الكبير؛ ويسمي الحنفية هذه الكتب كتب ظاهر الرواية؛ لأنها رويت عن محمد برواية الثقات، وقد جمع الحاكم الشهيد هذه الكتب الستة في كتاب سماه الكافي، وشرحه جماعة منهم السرخسي في كتابه المشهور «المبسوط»، وقد وصل إلينا وطبع في ثلاثين مجلدا، كما وصل إلينا كتاب الجامع الصغير لمحمد،
59
يذكر في صدر كل باب: «محمد عن يعقوب (أبي يوسف) عن أبي حنيفة». وعلى الجملة فقد كان محمد حلقة اتصال بين فقهاء الحديث وفقهاء الرأي، كما كان حلقة اتصال بين مذهب أبي حنيفة والشافعي، وكما كان له أكبر الفضل في تدوين مذهب أبي حنيفة وحفظه في الكتب، واغتراف الناس منه بعد، وتأثر المؤلفين به وبكتبه.
زفر:
وأما زفر فعربي من تميم، كان من أشهر أصحاب أبي حنيفة، وكان أمهرهم في القياس وأكثرهم التزاما لمسلكه في الرأي؛ كان أبوه هذيل واليا على البصرة،
60
وكانت أمه أمة فارسية؛ فورث وجهه من أمه ولسانه من أبيه، وكان قوي الحجة، مقدما عند أصحاب أبي حنيفة، قياسا، ولد سنة 110 وتوفي سنة 158.
ويعجبني في المقارنة بين الثلاثة ما روي عن المزني صاحب الشافعي أنه جاءه رجل فسأله عن أهل العراق، قال: ما تقول في أبي حنيفة؟ قال: سيدهم؛ قال: فأبو يوسف؟ قال: أتبعهم للحديث؛ قال: فمحمد بن الحسن؟ قال : أكثرهم تفريعا؛ قال: فزفر؟ قال: أحدهم قياسا.
61 •••
وعلى الجملة فقد انتشر فقه أبي حنيفة في العراق، وكان طبيعيا أن يسود في العراق، ففيه نشأ، ومذهب البلد أدرى بما يعرض من المسائل وأقدر على حلها، وهو باعتماده على الرأي والقياس - حيث لا نص يصح - أكثر إسعافا للفتوى فيما يجد من أحداث تتطلب سرعة في البت، ثم قدر لأبي يوسف أن يكون في منصب رئيس يستطيع أن يخدم فيه هذا الفقه بسلطانه، كما حظي الفقه بمحمد يدونه ويسجله؛ ويذكر ابن النديم أنه رزق كذلك بمحمد بن شجاع الثلجي (المتوفى سنة 256)، وكان معتزليا «ففتق فقه أبي حنيفة واحتج له، وأظهر علله، وقواه بالحديث، وحلاه في الصدور».
62
كما يصح أن نستنتج أن فقه أبي حنيفة تغير بعض الشيء على يد أبي يوسف ومحمد والثلجي وأضرابهم عما كان عليه في زمن أبي حنيفة نفسه، فرجعوا عن آراء له إلى الحديث الذي صح عندهم، وضيقوا حدود الرأي والقياس عما كانت عليه زمن الإمام، باتصالهم بأهل الحديث وفقهاء الحديث، وبالحملات الشديدة التي شنع بها هؤلاء على أهل العراق؛ وتلاقت هذه النزعة بنزعة أخرى تشبهها، وهي نزعة بعض فقهاء الحديث إلى الاستفادة من أصحاب الرأي، وتجلت هذه النزعة في الشافعي - كما سيأتي - وبذلك قلت مسافة الخلف التي كان يراها الرائي بين أبي حنيفة ومالك. (2) مالك ومدرسته
وهو مالك بن أنس الأصبحي المدني، والأصبحي نسبة إلى ذي أصبح قبيلة يمنية، والأشهر أنه عربي الأصل، وأن نسبه إلى ذي أصبح نسب عربي صحيح، وبذلك قال الواقدي، ولكن محمد بن إسحق خالفه في ذلك، وزعم أن مالكا وجده وأعمامه موالي لبني تيم بن مرة، وهذا هو السبب في تكذيب مالك لمحمد ابن إسحق والطعن عليه
63
ولد سنة 93 أو 97، وتوفي سنة 179، وعاش حياته بالمدينة، ولم أعرف أنه رحل عنها إلا إلى مكة حاجا.
وقد تزيد بعضهم في أخباره، كما فعل الحنفية وغيرهم، فزعموا أن أمه حملت به ثلاث سنين (ولا أدري قيمة هذا في فضل الرجل)، ورووا أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «يخرج الناس المشرق والمغرب فلا يجدون عالما أعلم من أهل المدينة». إلخ.
ولسنا نعرف كثيرا عن نشأته الأولى، ودراسته العلمية في صباه، وقد ذكروا أنه أخذ القراءة عن نافع بن أبي نعيم، وسمع الحديث من كثير من شيوخ المدينة أشهرهم ابن شهاب الزهري، ونافع مولى ابن عمر، فابن شهاب الزهري أحد الفقهاء والمحدثين، وكان من أعلم الناس في زمنه بالسنة؛ وقد روى عنه مالك في الموطأ (في بعض نسخ الموطأ) مائة واثنين وثلاثين حديثا، ونافع مولى عبد الله بن عمر أصله من الديلم، أصابه عبد الله بن عمر في غزوة غزاها فأسلم وأخذ عن ابن عمر حديثه، وكان من أشهر علماء المدينة. وقد روى عنه مالك في الموطأ ثمانين حديثا كما أخذ عن هشام بن عروة بن الزبير، وقد روى عنه في الموطأ ستة وخمسين حديثا، وهكذا لقي شيوخا كثيرين وخاصة شيوخ المدينة، وأخذ عنهم.
ومن أشهر ما حدث له محنته أيام المنصور حين خرج محمد بن عبد الله بن الحسن وأخوه إبراهيم علي المنصور، وقد روي ت في هذه الحادثة روايتان: إحداهما أن مالكا كان يفتي الناس أنه لا يقع طلاق المكره، ويحدث الناس بحديث «ليس على مستكره طلاق» ولم تكن هذه الفتوى تعجب العباسيين؛ لأن هذا يستتبع أن من بايع العباسيين مكرها فله أن يتحلل من بيعته، وله أن يبايع محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة، فرووا أن المنصور نهى مالكا عن التحدث بهذا الحديث، ثم دس إليه من يسأله، فحدث به على رءوس الناس فضربه بالسياط؛ والرواية الأخرى أن مالكا لما علا شأنه بالمدينة سعى حساده إلى والي المدينة جعفر بن سليمان، وقالوا إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، وهو يأخذ بحديث ثابت بن الأحنف في طلاق المكره أنه لا يجوز؛ فغضب جعفر ثم جرده ومده فضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه؛ قالوا: فما زال مالك بعد هذا الضرب في رفعة من الناس، وعلو من أمره حتى كأنما كانت تلك السياط حليا حلي بها.
64
كما روي عنه أنه سئل عن البغاة (يعني العصاة الخارجين على الخلفاء) أيجوز قتالهم؟ فقال: إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز، فقال: فإن لم يكن مثله؟ فقال: دعهم ينتقم الله من ظالم بظالم، ثم ينتقم من كليهما، فكانت هذه الكلمة من أسباب محنته.
على كل حال تتفق الروايتان في ضربه، وفي الأصل السبب، وتختلف في التفاصيل. وقد روينا قبل عن أبي حنيفة مثل هذا الموقف، وزيد عليه طلبه للقضاء وإباؤه؛ فلعل رأي أبي حنيفة ومالك كان متفقا، وسياسة المنصور في الحالين واحدة. •••
تركزت مدرسة المدينة في مالك كما تركزت مدرسة الكوفة في أبي حنيفة، فإن أردنا تصوير مدرسة المدينة كما فعلنا بمدرسة الكوفة فليكن هكذا:
بعضهم يعد من الفقهاء السبعة أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي المتوفى سنة 94، ويضعه بدل سالم بن عبد الله بن عمر.
وأكثر رجال هذه المدرسة عرفوا بالحديث والفقه فيه، فبعد عصر الصحابة كان رأس المدرسة من التابعين سعيد بن المسيب، وقد كان يعد وارث عمر في علمه في المدينة؛ وتصدر سعيد للفتوى، وكان لا يهابها، فأثر عنه كثير من الفتاوى والآراء، وكان يقول: «ما قضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي قضاء إلا وقد علمته». وجاء في الطبقة التي بعده الزهري ونافع. فكانا أعلم أهل المدينة حديثا وفقها. كل هؤلاء كانوا يحفظون الحديث عن رسول الله، وطبيعي أن تكون المدينة أغنى من أي مصر آخر في هذا، فالنبي كان فيها أكثر أيام التشريع، كما كان بها من الخلفاء الراشدين أبو بكر وعمر وعثمان، وكانت حاضرة الخلافة في أيامهم، ومنها تصدر الآراء في المسائل الدينية والسياسية، كما كان المدنيون أقدر على مشاهدة التشريع العملي، فهم أعرف بما كان النبي يفعله في وضوئه وصلاته وزكاته، وما كان يفعله كبار الصحابة. فكما كان كل جيل من العلماء يتلقى الأحاديث المروية ع من قبله كذلك كان يتلقى الأعمال وهيئاتها من الجيل الذي قبله، فكان طبيعيا أن تكون المدينة مقر مدرسة الحديث - ولكن الذي قد يلفت النظر أن يكون بين كبار رجال المدينة ربيعة الرأي، وهو كما يدل عليه اسمه من أهل الرأي، ومن شيوخ مالك، وقد روى عنه في الموطأ اثنى عشر حديثا، وهو فارسي الأصل؛ وقد روي عنه أنه جادل سعيد بن المسيب في دية الأصابع، وسعيد يتمسك بالسنة، وربيعة يعترض بالرأي، فقال له سعيد: أعراقي أنت؟ قال لا، بل عالم متثبت أو جاهل متعلم، قال سعيد: هي السنة، وقد روي في ترجمته أنه كان في العراق أيام السفاح وأنه قربه واستعمله، فهل أخذ الرأي عن العراقيين أيام كان بينهم؟ ظن بعضهم ذلك، ولكن يظهر أنه غير صحيح، فقد رأينا هذه النزعة عنده قبل أن يكون في العراق؛ لأنه بهذه النزعة جادل سعيد بن المسيب المتوفى سنة 93 قبل ولاية السفاح بزمن طويل، ولأنه قد روى الرواة أن ربيعة كان يكره العراق وأهله، واستعفى أبا العباس من أجل ذلك وعاد إلى المدينة، فقيل له: كيف رأيت العراق وأهلها؟ قال: «رأيت قوما حلالنا حرامهم، وحرامنا حلالهم، وتركت بها أكثر من أربعين ألفا يكيدون هذه الدين» فالظاهر أن نزعة الرأي عنده وليدة المدينة نفسها، فالصحابة الذين كانوا بالمدينة منهم من كان يعمل العقل حيث لا نص، كما تقدم في سيرة عمر بن الخطاب، ومنهم من لا يميل إلى ذلك كابنه عبد الله بن عمر، ولا شك أن النزعتين بقيتا، وتأثر بهذه قوم، وهذه آخرون، ولكن كان لون الحديث أبين وأوضح، وكان وجود ربيعة الرأي بينهم علما على اللون الآخر، وسنرى أثر ذلك حتى في فقه مالك:
65
وكان طبيعيا كذلك أن تكون المسائل التي تعرض لفقهاء المدينة أقل عددا؛ لتحرج المدنيين من الفتوى إذا قيسوا بالعراقيين، ولأن المشاكل القانونية والمسائل الفقهية تدور مع المدنية، ولأن المدينة كانت أقرب إلى بساطة العيش وأبعد عن تعقيدات الحضارة، وكان ما أثر عندهم من حديث كثير كافيا في أغلب الأحيان كل ما يعرض من إشكال.
منحى مالك في الاجتهاد :
كان مالك لا يشترط في الحديث ما اشترطه أبو حنيفة من الشهرة وغيرها، بل يعمل بخبر الواحد إذا صح أو حسن؟ وهذا المبدأ يجعل الأحاديث التي يبني عليها مذهبه أكثر عددا، فلا يتطلب في الحديث شهرة، وإنما يتطلب صحة السند ونحوها، ولا يفهم من هذا تساهله في قبول الحديث من غير تحر أو تدقيق، بل هو شديد التحري ولكن لا يشترط شهرة الحديث وعمومه؛ وروي عنه أنه قال: «لقد أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عند هذه الأساطين، (وأشار إلى مسجد رسول الله) فما أخذت عنهم شيئا، وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال لكان أمينا، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن»؛ وكان يقول: «لا يؤخذ العلم من أربعة، ويؤخذ م من سواهم: لا يؤخذ من سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو إلى بدعته، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف، ما يحمل وما يحدث به».
66
وقد جمع الموطأ وظل سنين يحرره، ويحذف منه الحديث يتبين له عدم صحته، ولكن مع هذا كله كانت دائرة الصحة عنده أوسع من دائرة أبي حنيفة.
ومسألة أخرى هي عنده أساس للتشريع، وهي عمل أهل المدينة: كان مالك يدل بعمل أهل المدينة، ويرى أنهم أدرى بالسنة وبالناسخ والمنسوخ، ويقول في كتابه لليث بن سعد: «إن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن»؛ وخلاصة رأيه في هذا الموضوع أن أهل المدينة إذا اتفقوا على عمل مسألة واتفق مع العمل علماؤها فهذا العمل حجة يقدم على القياس، بل ويقدم على الحديث الصحيح؛ أما إذا لم يكن عملا إجماعيا، بل عمله أكثرهم، فهذا العمل أيضا حجة يقدم على خبر الواحد لأن العمل بمنزلة الرواية، فعمل الأكثر بمنزلة رواية الأكثر، فإذا جاء خبر واحد يخالفهم كان الراجح أنه منسوخ، على أنه ينبغي التفرقة بين إجماعهم على العمل النقلي والاجتهادي، فالنقل كنقلهم تعيين محل منبر النبي
صلى الله عليه وسلم
وقبره ومحل وقوفه للصلاة، وكتعيينهم مقدار المد والصاع والأوقية في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ونقلهم كيفية الأذان، والإقامة هل كانت مثنى أو فرادى، والاجتهادي كاجتهاد المدنيين في بطلان خيار المجلس ونحوه، فالأول لا خلاف في حجيته عند مفسري مذهب مالك، والثاني مختلف فيه عندهم؛ وهذه التفرقة معقولة، فالأعمال التي يجمع عليها أهل المدينة كتحديد المكاييل، والموازين وأشكال الأعمال التي عملها الرسول
صلى الله عليه وسلم ، الأرجح فيها أن الجيل التالي من سكان المدينة نقلها عن الجيل الأول كما هي، خصوصا إذا قرب العهد، كما رجحوا عند الخلاف أعمال المكيين في مناسك الحج لأنهم بها أدرى؛ أما المسائل الاجتهادية فالأمر فيها سواء بين مجتهدي الصحابة والتابعين من المدنيين والكوفيين والشاميين والمصريين. وقد نقل مالك إجماع أهل المدينة في موطئه على نيف وأربعين مسألة،
67
وقد خالف مالكا في حجية عمل أهل المدينة الليث بن سعد في رسالته إلى مالك، والشافعي في الأم، وناقشاه مناقشة قيمة ممتعة.
ومن مسلك مالك في التشريع، العمل بقول الصحابي إن صح نسبته إليه، وكان من أعلام الصحابة - كالخلفاء الراشدين، ومعاذ بن جبل، وابن عمر - وكان لم يرد في المسألة عينها حديث عن النبي صحيح، وقد رد عليه في ذلك بأن الصحابة ليسوا محل العصمة، ويجوز عليهم الغلط، وبأن قول الصحابة لو كان حجة لزم التناقض؛ لأن كثيرا ما صح في المسألة الواحدة آراء مختلفة للصحابة
68
وقد رأينا قبل مسلك أبو حنيفة في أقوال الصحابة إلخ .
ومن هذا نرى أن هذين الأصلين، أعني عمل أهل المدينة وقول الصحابي، قد غذيا مالك بآثار كثيرة كان من شأنها تضييق دائرة الرأي؛ ومع هذا فلم ينكر مالك الرأي بتاتا، فمن أصول مذهبه القول بالمصالح المرسلة أو الاستصلاح، وقد تقدم الكلام فيه، ومن هذا القبيل ما قاله من الضرب عند التهمة للاعتراف بالسرقة، ورويت عنه أقوال دليلها الاستحسان، كتضمين الصناع وثبوت الشفعة في بيع الثمار. فمن هذا نرى أن مسالك الأئمة من أصحاب الرأي وأصحاب الحديث، تكاد تكون واحدة في العدد، ولكن الاختلاف إنما هو في سعة الدوائر وضيقها، فإن ضاقت دائرة الحديث واتسعت دائرة الرأي عند الأولين كان الأمر على العكس عند الآخرين، أما عدد الدوائر نفسها فتكاد تكون واحدة. •••
أكبر آثار مالك التي نقلت إلينا «الموطأ» و«المدونة».
الموطأ:
69
فأما الموطأ فكتاب ألفه مالك، فيه مظهر للحديث ومظهر للفقه، فمظهر الحديث أن أغلب ما فيه حديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أو الصحابة أو التابعين، أخذ هذه الأحاديث عن رجال عديدين بلغوا نحو خمسة وتسعين رجلا كلهم مدنيون إلا ستة: اثنان بصريان، ومكي واحد، وخراساني وجزري وشامي. والأحاديث التي يرويها عن هؤلاء الستة قليلة جدا، فمنهم من يروي له الحديث ومنهم من يروي له الحديثين، وقد لقيهم مالك أما في المدينة أو في مكة
70
أما من عدا هؤلاء الستة فمدنيون يروي عنهم مالك، بعضهم يروي له كثيرا كابن شهاب الزهري، ونافع، ويحيى بن سعيد، وبعضهم يروي له الحديث الواحد أو الاثنين أو الثلاثة، وحتى الصحابة الذين يروى لهم أكثرهم م من أقام بالمدينة طويلا - حتى روي أن الرشيد قال لمالك: لم لم نر في كتابك ذكرا لعلي وابن عباس، فقال: لم يكونا ببلدي، ولم ألق رجالهما. وهذا الخبر مشكوك فيه، ولكن مما لا شك فيه أن روايته عنهما في الموطأ قليلة؛
71
وبعض الأحاديث في الموطأ مسندة وبعضها مرسلة، ومتصلة ومنقطعة، وبعضها مما يسمى بلاغات، وهو ما يقول فيها مالك بلغني أو نحوه من غير أن يعين من روى عنه فيقول: بلغني عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلخ. أو يقول عن الثقة عندي عن، عمر بن شعيب إلخ. وقد جمع مالك أحاديث كثيرة، ثم كان يختار منها على مر السنين؛ فقد رووا أن مالكا «جمع في الموطأ أربعة آلاف حديث أو أكثر، ومات وهي ألف ونيف يخلصها عاما عاما بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين وأمثل في الدين»؛
72
وقد رووا أنه شغل به نحو أربعين عاما. وأما ناحية الفقه فيه فإنه رتبه ترتيب الفقه، فكتاب الطهارة، ثم كتاب الصلاة، ثم كتاب الزكاة، ثم الصيام وهكذا، وفي كل كتاب من هذه فصول، كل فصل يجمع المسائل المتشابهة كصلاة الجماعة، وصلاة المسافر إلخ؛ وأيضا يزيد على الحديث أحيانا استنتاجه الفقهي منه.
وطريقته في التأليف أن يذكر الأحاديث المتعلقة بالموضوع الواحد، وقد يعقب الحديث بتفسير كلمة لغوية فيه، وأحيانا يعقبه بأنه سئل في كذا فأجاب بكذا استنادا إلى آية أو حديث أو قياس؛ «سئل مالك عن الحائض تطهر فلا تجد ماء، هل تتيمم؟ قال: نعم، لتتيمم فإن مثلها الجنب إذا لم يجد ماء تيمم». وأحيانا يعقبه بتفريع مسائل وذكر حكمها، كأن يقول بعد أحاديث السرقة: «وليس على الأجير ولا على الرجل يكونان مع القوم (السارقين) قطع؛ لأن حالهما ليست بحال السارق، وإنما حالهما حال الخائن، وليس على الخائن قطع ...» «والأمر عندنا في السارق يوجد في البيت قد جمع المتاع ولم يخرج به أنه ليس عليه قطع، وإنما مثل ذلك كمثل رجل وضع بين يديه خمرا ليشربها فلم يفعل فليس عليه حد»، وأحيانا لا يبدأ بالحديث، بل يذكر المسألة ويذكر حكمها ودليله على هذا الحكم، وأحيانا يذكر في المسألة حكم علماء المدينة، فيقول: «الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا كذا»، إلخ، إلخ.. فهو لهذا كله كتاب حديث وفقه معا.
وقد روي في الموطأ روايات مختلفة تختلف في ترتيب الأبواب، وتختلف في عدد الأحاديث حتى عدها بعضهم عشرين نسخة، وبعضهم ثلاثين،
73
واختلافها باختلاف رواياتها عن مالك، وسبب الاختلاف - على ما يظهر - أن مالكا لم ينته من نسخة يؤلفها ويقف عندها، بل قد كان دائم التغيير فيها لما روينا قبل من أنه كان دائم المراجعة للأحاديث وحذف ما لم تثبت صحته منها، فألذين سمعوا الموطأ سمعوه من مالك في أزمان مختلفة، فكان من ذلك الاختلاف في النسخ. وقد بقي من هذا النسخ بين أيدينا رواية يحيى بن يحيى الليثي، وهي التي شرحها الزرقاني، ورواية محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، وفيها أشياء كثيرة ليست في رواية يحيى، وهو يمزج ما روى عن مالك بآرائه، فكثيرا ما يقول: «قال محمد».
وقد روي أن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون سبق مالكا فعمل كتابا ذكر فيه ما اجتمع عليه أهل المدينة، (يعني آراءهم وفقههم)، عمل ذلك من غير حديث، ورآه مالك فقال: ما أحسن ما عمل، ولو كنت أنا الذي عملت ابتدأت بالآثار، ثم سددت ذلك بالكلام.
74
ويظهر أنه أنفذ فكرته بعد فألف الموطأ على هذا المنهج الذي رسمه: بدء بالحديث غالبا، ثم تثنية بعمل أهل المدينة، أو تفريع الفروع واستنتاج حكمها.
وعلى كل حال فكتاب الموطأ يعد من أوائل الكتب التي ألفت في الحديث والفقه، وقد نشره الآخذون عن مالك في الأمصار، فمحمد بن الحسن في العراق، ويحيى بن يحيى الليثي في الأندلس، وعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم، وعبد الله بن عبد الحكم وأشهب في مصر، وأسد بن الفرات في القيروان إلخ وكان له أثر كبير في الحركة العلمية الدينية على اختلاف العصور.
المدونة:
أما المدونة فهي مجموعة رسائل تبلغ نحو ستة وثلاثين ألف مسألة، جمعها أسد بن الفرات النيسابوري الأصل التونسي الدار، وكان تلميذا لمالك سمع منه الموطأ ثم رحل إلى العراق، وفعل في العراق كما فعل محمد بن الحسن في المدينة كلاهما مزج الفقهين، وقرب بين المدرستين، فقد لقي أسد بن الفرات صاحبي أبي حنيفة أبا يوسف ومحمدا، وسمع منهما الفروع على الطريق العراقية، ثم ذهب إلى مصر ولقي أصحاب مالك بها، ولا سيما ابن القاسم، وعرض عليهم هذه الفروع ونحوها، وسمع منهم حكمها على مذهب مالك، أما حسب ما سمعوا من مالك، وأما اجتهادا على أصوله ومنحاه وجمع أسد بن الفرات ذلك كله في كتاب سمي المدونة، ثم رحل بها أسد إلى القيروان فأخذها عنه سحنون الفقيه المغربي، وعاد بها إلى مصر سنة 188 فعرضها علي ابن القاسم، وأصلح فيها مسائل، وكانت لما جمعها أسد بن الفرات غير مرتبة ولا مبوبة، فرتبها سحنون وبوبها، واحتج لبعض مسائلها بالآثار،
75
وعاد إلى القيروان، وانتشرت منها إلى الأندلس، وكان لها الفضل في نشر مذهب مالك في قطري المغرب والأندلس.
فالمدونة كما ترى متأثرة بالعراقيين في تفريع المسائل وتوليدها، وبالحجازيين في تطبيق مذهب مالك عليها، ومن هذا ترى كيف كان الزمن والرجال والرحلات تعمل على استفادة كل مذهب بما للآخر، فالمدونة ليست إذن من تأليف مالك، وإنما هي جمع لفتاوى مالك في مسائل، واجتهاد من تلاميذه وتلاميذ تلاميذه في وضع أحكام لمسائل على قواعده ومبادئه.
وقد كان لمالك أصحاب أكثر عظمائهم مصريون كعبد الله بن وهب وابن القاسم وأشهب وعبد الله بن الحكم، ومن عظمائهم أندلسي كبير، وهو يحيى بن يحيى الليثي.
فالأربعة الأولون كانوا عماد المدرسة الدينية في مصر لعهدهم، وكانوا مع أخذهم عن مالك يجتهدون ويخالفون أحيانا، كما خالف أبو يوسف ومحمد أبا حنيفة، وكما خالف المزني والبويطي الشافعي. وأما يحيى بن يحيى الليثي فأصله من قبيلة بربرية يقال لها مصمودة، ونسب إلى بني ليث بالولاء، رحل إلى المدينة وسمع من مالك، ورحل إلى مكة، وسمع بمصر من الليث بن سعد وابن وهب وابن القاسم، ورجع إلى الأندلس بعد ما كمل علمه، فكان عالم الأندلس وعظيمها ووجيهها، وإليه الفضل في نشر مذهب مالك في الأندلس، فقد كان - كما قال ابن حزم -: «مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به، على أن يحيى ابن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائدا في جلالته عندهم، وداعيا إلى قبول رأيه لديهم»،
76
وهو صاحب الفتوى المشهورة لأمير الأندلس عبد الرحمن بن الحكم، فقد وقع على جارية له في رمضان، فأفتى أن يكفر بصوم شهرين متتابعين. وسئل لم لم تفته بمذهب مالك، فعنده أنه مخير بين عتق رقبة وإطعام ستين مسكينا وصوم شهرين؟ فقال: لو فتحنا له هذا الباب لسهل عليه هذا العمل، ويعتق فيه رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود - وتعد روايته للموطأ أصح رواية، وهي التي بين أيدينا - وقد خالف مالكا في مسائل ذهب فيها إلى مذهب الليث بن سعد، فلم ير القضاء بالشاهد مع اليمين كما رأى مالك، وقال لابد من شاهدين رجلين أو رجل وامرأتين اتباعا لليث، وكان يرى جواز كراء الأرض بجزء مما يخرج منها كما يرى الليث.
77 •••
وعلى الجملة فإن كانت مدرسة أبي حنيفة قد وسعت الفقه بكثرة الفروع، وبما يستلزمه ذلك من رأي وقياس واستحسان، وبمواجهة المشاكل المعقدة التي قدمتها لها المدنية الضخمة، والتي قدمتها لها بقايا الأمم الممدنة في العراق من آشوريين وكلدانيين وفرس وغيرهم، فإن مدرسة مالك قد أثرت في الفقه بما نقلت من أحاديث كانت وافرة فيها بحكم قيام الرسالة فيها، وكثرة الصحابة بها، وبما قدمت من أشكال أوضاع تداولها سكان المدينة جيلا عن جيل، وأهل المدينة في ذلك أوثق؛ فقد شهد الأولون منهم النبي يتوضأ على نحو خاص، ويصلي على نحو خاص، وعرفوا مقدار المكاييل والموازين التي كانت تستعمل لعهده، فنقلوا ذلك كله إلى من بعدهم من طريق الأخبار أحيانا، ومن طريق التوريث أحيانا أخرى، وتسلسل ذلك إلى مالك ومدرسته؛ ثم كان من أصحاب الذهبيين من ينتفع بمزايا كل، فيرحل محمد بن الحسن الحنفي إلى المدينة يمكث فيها ثلاث سنين ويروي الموطأ، ويعود إلى العراق مزودا بالآثار، ويذهب أسد ابن الفرات ويمكث في العراق طويلا، ويعود إلى مصر والقيروان مزودا بكثرة الفروع، وبذلك وأمثاله تأثرت المدرستان، وتقارب المذهبان. (3) الشافعى ومدرسته
الشافعي هو محمد بن إدريس، قرشي من جهة الأب، يلتقي مع النبي
صلى الله عليه وسلم
في عبد مناف؛ وقد روى الجرحاني (وهو من الحنفية) عن أصحاب مالك أن شافعا جد الشافعي والذي ينسب إليه لم يكن قرشي الأصل، وإنما كان مولى لأبي لهب، وعلى ذلك يكون الشافعي مولى، ولكن قوله هذا لم يقره عليه علماء الأنساب، والظاهر أنه حمله على ذلك العصبية المذهبية فالصحيح أنه قرشي، والراجح أن أمه أزدية، والأرذ من اليمن؛ وكان أبوه خرج في حاجة، إلى الشام فولدت له الشافعي بغزة أو عسقلان سنة 150 ثم مات أبوه فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين، وقد نشأ فقيرا كما حدث هو عن نفسه. روي عنه أنه قال: «كنت يتيما في حجر أمي ولم يكن لها مال، وكان المعلم يرضى من أمي أن أخلفه إذا قام، فلما جمعت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء فأحفظ الحديث أو المسألة، وكانت دارنا في شعب الخيف، فكنت أكتب في العظم، فإذا كثر طرحته في جرة عظيمة»، وفي رواية: «لم يكن لي مال فكنت أطلب العلم في الحداثة، فأذهب إلى الديوان فأستوهب منهم الظهور فأكتب فيها»؛
78
قال: «وخرجت من مكة فلزمت هذيلا بالبادية أتعلم كلامها وآخذ اللغة، وكانت أفصح العرب»:
79
وقد أفادته الإقامة في البادية مع قرشيته معرفة واسعة باللغة والشعر، أعانته على فهم معاني القرآن والسنة، فنراه يستشهد على أن السعي معناه العمل في قوله تعالى:
إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله
يقول زهير:
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهموا
فلم يفعلوا ولم يليموا ولم يألوا
80
وبأن السر معناه الجماع في قوله تعالى:
ولكن لا تواعدوهن سرا
بأبيات لامرئ القيس وجرير إلخ
81
كما أفادته قوة في التعبير وعربية رصينة في الأسلوب وذوقا دقيقا، حتى لقد قرأ عليه رجل فلحن، فقال له الشافعي «أضرستني»؛ وقد روي أن الأصمعي أخذ عنه شعر الهذليين وشعر الشنفري؛ ثم اتجه إلى الحديث والفقه، فأخذ في مكة عن سفيان بن عيينة ومسلم بن خالد الزنجي، وحفظ الموطأ ثم رحل إلى مالك في المدينة وسمع منه الموطأ، وأخذ عنه فقهه، ولازمه إلى أن مات مالك سنة 179 ثم خرج إلى اليمن، وقد ذكر في رحلته إليها أسباب كثيرة أقربها أن والي اليمن جاء مكة فكلمه بعض القرشيين أن يأخذ الشافعي ويوليه بعض الأعمال، ففعل وولاه بعض الأعمال، ثم اتهم بالتشيع وامتحن؛ والروايات كذلك مختلفة: هل اتهم هذه التهمة وهو باليمن أو بعد أن عاد إلى الحجاز؛ فإن ابن عبد البر يروي أنه اتهم بالتشيع والميل إلى مبايعة علوي وهو بالحجاز؛ وابن حجر يروي روايات مختلفة كلها متفقة على أنه اتهم بذلك وهو في اليمن، والكل متفقون على النتيجة، وهي أنه حمل في هذه التهمة إلى هارون الرشيد، فنفى الشافعي التهمة وعفا عنه الرشيد؛
82
وكان ذلك نحو سنة 184، وسن الشافعي نحو أربع وثلاثين سنة، ثم قدم بغداد سنة 195 وأقام بها سنتين، ثم رجع إلى مكة، ثم قدم بغداد سنة 198 فأقام فيها أشهرا، ثم خرج منها إلى مصر سنة 199، وظل بها إلى أن مات سنة 204. وفي أثناء إقامته بالعراق اتصل بمحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وأخذ عنه فقه العراقيين، قال ابن حجر: «انتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس، رحل إليه (الشافعي) ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة، فأخذ (الشافعي) عن صاحبه محمد بن الحسن جملا ليس فيها شيء إلا وقد سمعه عليه فاجتمع له علم أهل الرأي، وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك حتى أصل الأصول، وقعد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره وعلاه ذكره، وارتفع قدره حتى صار منه ما صار».
وقد خلف لنا الشافعي في كتاب الأم وصيته التي أوصى بها قبل أن يموت بسنة، فتاريخها صفر سنة 203، يقول فيها: «هذا كتاب كتبه محمد بن إدريس ابن العباس الشافعي في صحة منه وجواز من أمره، أن الله رزق أبا الحسن (ابن الشافعي) مالا فأخذ منه محمد بن إدريس لابنه»، وفي هذه الوصية تصدق على ابنه بثلاثة أعبد كان يملكها الشافعي، ووصيف أشقر خصي يقال له صالح، ووصيف نوبي خباز يقال له بلال، وعبد فراني، وتصدق بأمة شقراء كانت له - وفي هذه الوصية أيضا تصدق بحلية، وقد عددها في الوصية - وتصدق بمنزلين له في مكة وقفهما على ابنه، ثم من بعده لأولاد ابنه الذكور والإناث إلخ.
83
وله وصية أخرى في شعبان من هذه السنة، أوصى فيها بماله وقسمه أسهما، وبين ما يفعل بعبيده وجواريه، وما يعطون من ماله، وما يعطى لفقراء آل شافع.
84
وهذه الوصايا تدل على أن حالته المالية في مصر كانت لا بأس بها، وإن لم تبلغ درجة الغنى.
وأما صفاته العقلية واللسانية فيكاد المؤرخون يجمعون على عذوبة منطقه، وحسن بيانه وذكائه، وقدرته الفائقة على الجدل، وقوته في التفكير، ومهارته في الاستنباط.
إذن ثقافته ثقافة في اللغة والأدب واسعة، وثقافة في الحديث، رحل في طلبه إلى بلاد كثيرة، وثقافة في الفقه على نمط مدرسة الحجاز، وثقافة في الرأي على نمط مدرسة العراق، وثقافة اجتماعية من مشاهدته لحياة البدو في البادية، والحضارة الأولية في الحجاز واليمن، والحضارة المعقدة المركبة في العراق ومصر، وحياة الفقراء من البدو والزهاد من المحدثين، ومن أخذوا بحظهم من الدنيا كمحمد بن الحسن الشيباني في العراق، وابن عبد الحكم في مصر، ورؤية لأنماط من الحياة الاجتماعية والاقتصادية مختلفة، تتطلب أنواعا من التشريع مختلفة، فالمصريون يتعاملون أنواعا من المعاملات لا يتعاملها أهل العراق، والمصريون والعراقيون يشتركون أحيانا فيما لا يشترك معهم فيه الحجازيون، ونظام الري للنيل في مصر غير نظام دجلة والفرات في العراق، وذلك يستتبع اختلافا في الخراج وما إليه، وكلاهما يختلف في ذلك عن بلاد لا تعرف أنهارا كالحجاز؛ كل هذا وأمثاله كان له أثر كبير في تكوين مذهب الشافعي، فإن نحن أردنا أن نخطط رسما بيانيا لمدرسته كما فعلنا من قبل كان هذا يسيرا سهلا:
وكان الشافعي في أول أمره يعد نفسه تلميذا لمالك، ومتبعا لمذهبه وتعاليمه وأحد رجاله مدرسته، وما زال كذلك إلى سنة 195 حيث قدم بغداد قدمته الثانية، فهناك بلغ مبلغ مؤسس مذهب يدعو إليه، والظاهر أن أقوى ما أثر فيه اتصاله في قدمته الأولى بأصحاب أبي حنيفة واستفادته من كتب محمد وعلمه بطريقة أهل العراق، فقد رأى من غير شك أن طريقتهم لا يحسن أخذها كلها، ولا تركها كلها، فعندهم القياس وهو منهج صحيح، ولكنه في نظره ليس على إطلاقه بل لابد أن يتأخر عن الأحاديث الصحيحة حتى ما كان منها خبر آحاد، وعندهم طريقة التفريع، وتوليد المسائل الكثيرة من أصولها، وهي طريقة جيدة، وعندهم الجدل والاستدلال بالعدالة والمصلحة، وإلحاق الشبيه بالشبيه، وما بين الأشياء من فروق وموافقات، والمناظرة في ذلك وتأليف الحجج، وقد رأى ذلك حسنا، ورأى نفسه في استعداد جيد للدخول في هذا الباب والتفوق فيه، فاقتبس من ذلك أحسنه وأضافه إلى ثروته الحجازية من اللغة والأدب أولا، والحديث وإجماع أهل المدينة وطريقة الحجازيين في الاستنباط ثانيا.
هاتان الناحيتان قد استفاد منهما الشافعي، وألف بينهما بشخصيته، فأخرج مذهبا جديدا دعا إليه في العراق سنة 195، وتبعه عليه بعض أصحابه البغداديين مثل أبي علي الحسين بن علي الكرابيسي، وكان من مشاهير علماء العراق، وله مصنفات كثيرة مات سنة 256؛ ومثل أبي ثور الكلبي، وقد صحب الشافعي في بغداد وأخذ عنه، وألف في مسائل الاختلاف بين مالك والشافعي، وكان أميل إلى الشافعي في كتبه؛ وكأبي علي الزعفراني، كان يقرأ كتب الشافعي التي ألفها قبل قدومه مصر. ولكن يظهر أن الشافعي لم يجد لمذهبه في العراق نجاحا كبيرا لمزاحمة الحنفية له، ولما لهم من جاه وسلطان وقوة، فتحول إلى مصر. قال الزعفراني: لما أراد الشافعي الخروج إلى مصر أنشد لنفسه:
أخي أرى نفسي تتوق إلى مصر
ومن دونها أرض المهامه والقفر
فوالله ما أدري أللفوز والغنى
أساق إليها أم أساق إلى قبري
قال الزعفراني: فوالله لقد سيق إليهما جميعا؛
85
وسأل الشافعي الربيع عن أهل مصر قبل أن يرحل إليهم، فقال له الربيع: هما فرقتان: فرقة مالت إلى قول مالك وناضلت عنه، وفرقة مالت إلى قول أبي حنيفة وناضلت عنه، فقال الشافعي: أرجو أن أقدم مصر إن شاء الله فآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعا؛ قال الربيع: ففعل ذلك والله حين دخل مصر.
86
وقد أقام بمصر نحو أربع سنوات أملى فيها كثيرا من كتبه.
منحاه في الاجتهاد:
لعل خير ما يلخص مسلكه ما ذكره هو إذ قال: «الأصل قرآن وسنة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وصح الإسناد منه فهو سنة، والإجماع أكبر من الخبر المفرد، والحديث على ظاهره، وإذا احتمل معاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به، وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسنادا أولاها، وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيب، ولا يقاس أصل على أصل، ولا يقال للأصل لم وكيف، وإنما يقال للفرع لم، فإذا صح قياسه على الأصل صح وقامت به الحجة».
أظهر مزايا الشافعي أنه على أثر ما رأى من صور مختلفة للتشريع، وتباين بين نمط الحجازيين والعراقيين، وما كان له من الجدل ومناظرات بين هؤلاء وهؤلاء، عمد إلى أن يحدد موقفه تحديدا دقيقا أمام هؤلاء وهؤلاء، رأى موقف الحجازيين إزاء الحديث غير موقف العراقيين، فسأل نفسه: ما موقفه، ورأى موقف الحجازيين إزاء القياس والاستحسان غير موقف العراقيين، فأراد أن يتعرف موقفه في ذلك؛ ورأى مثل هذا في إجماع أهل المدينة وإجماع العلماء عامة، فحاول أن يضبط ذلك؛ كل هذا نقله من الفروع إلى الأصول، وهذه من غير شك خطوة جديدة في التفكير، فإذا فرغ من وضع خطة في أصل هاجم مخالفها، لا فرق عنده بين أن يكون مخالفه حجازيا أو عراقيا، ولا فرق بين أن يكون أستاذه الذي أخذ عنه العلم، أو إنسانا لا يعرفه.
ولنسق لذلك بعض الأمثلة، فقد فكر في الحديث ورأى نفسه أمام جماعة ينكرون الأخذ بالحديث بتاتا، وجماعة يعملون به بشروط طويلة، وجماعة يعملون به في سهولة، فوضع له خطة خلاصتها: أنه إذا حدث ثقة عن ثقة عن رسول الله ولم يكن هناك حديث يخالفه عمل به، فإذا كانت هناك أحاديث مختلفة نظر: هل فيها ناسخ ومنسوخ، كأن يتأخر أحدها في الزمن، ويثبت بدليل أن الحديث الأخير نسخ ما قبله فيعمل بالناسخ، فإن لم يكن ناسخ ولا منسوخ نظر في أوثق الروايات وأمعنها في الصحة فعمل بها، فإن تكافأت عرضها على أصول القرآن والسنة الثابتة وعمل بما كان من الأحاديث أقرب إلى ذلك؛ وإذا ثبت الحديث عن رسول الله لا يترك هذا الحديث لأي قياس ولا لأي رأي، ولا لأي أثر يروى عن صحابي كائنا من كان، أو تابعي كائنا من كان.
فلما وصل إلى هذا الأصل استعرض موقف الحجازيين والعراقيين فرأى في كليهما مخالفة له فهاجمها، هاجم مالكا وانتقده؛ لأنه ترك أحيانا حديثا صحيحا لقول واحد من الصحابة أو التابعين أو لرأي نفسه، وكان أشد نقد موجه منه لمالك أنه ترك قول ابن عباس في مسألة إلى قول عكرمة، مع أن مالكا يسيء القول في عكرمة، ولا يرى لأحد أن يقبل حديثه، قال الشافعي: «والعجب أن يقول في عكرمة ما يقول، ثم يحتاج إلى شيء من علمه يوافق قوله فيسميه مرة ويسكت عنه أخرى».
87
وهاجم بهذا المبدأ أيضا العراقيين؛ لأنهم يشترطون في الحديث أن يكون مشهورا، ويقدمون القياس على خبر الآحاد وإن صح سنده، وأنكر عليهم تركهم لبعض السنن لأنها غير مشهورة، وعملهم بأحاديث لم تصح عند علماء الحديث بدعوى أنها مشهورة؛ ومن أمثلة ذلك أيضا أنه وقف في القياس موقفا وسطا لم يتشدد فيه تشدد مالك، ولم يتوسع فيه توسع أبي حنيفة، فهو يقول: «إن جهة العلم الكتاب والسنة والإجماع والآثار، ثم القياس عليها ... ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها، وهي العلم بأحكام كتاب الله عز وجل، فرضه وأدبه وناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصه ... ولا يجوز لأحد أن يقيس حتى يكون عالما بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف، وإجماع الناس واختلافهم، ولسان العرب، ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرق بين المشتبه، ولا يعجل بالقول به دون التثبت، ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه؛ لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزداد به تثبتا فيما اعتقد من الصواب، وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده والإنصاف من نفسه حتى يعرف من أين قال ما يقول وترك ما يترك».
88
وهو على هذا الأساس قد أنكر الاستحسان وهاجم القائلين به، ويظهر من مجموع قوله أنه يعني بالاستحسان مجرد الرأي من غير أن يكون مستندا إلى أصل شرعي، وشبه المستحسن في أثناء كلامه بالتاجر يقدر للشيء ثمنا من غير أن يدخل السوق ويعرف أسعار اليوم. فتقديره لا ينبني على أساس، كذلك الفقيه يستحسن من غير أن يرجع في استحسانه إلى أصول الشريعة، ولذلك هاجم مالكا في قوله بالمصالح المرسلة، وهاجم الحنفية في قولهم بالاستحسان.
وهكذا سار الشافعي على هذا المنوال، حدد موقفه بقواعد، وهو عمل فيما نعلم لم يسبق إليه؛ وقد كان رحلته إلى المدينة ومكة واليمن والعراق مرارا ومصر أثر في اتساع ثروته في الحديث، فلم يقتصر على الحديث الشائع في الحجاز كما فعل مالك، بل ضم إليه كثيرا من الحديث الشائع في هذه البلدان الأخرى، وهذه الرحلات كذلك جعلته لا يتعصب لأهل المدينة، ولا يعترف بالحجة التي جعلها مالك أصلا من أصول مذهبه، وهي إجماع أهل المدينة، فنقد مالكا في هذا نقدا قويا، وذكر أن مالكا كان يقول بالإجماع، على حين أنه نفسه يروي أحاديث ضد الإجماع، فيقول مالك: «إن الناس أجمعوا على أن لا سجدة في سورة الحج إلا مرة واحدة، مع أنه يروي عن عمر وابن عمر أنهما سجدا في سورة الحج مرتين إلخ».
89
ولم يسلم الشافعي من تهجم بعض العلماء عليه في حديثه كابن معين، فقد أكثر فيه القول، وقال فيه ابن عبد الحكم: إنه كان يروي عن الكذابين والبدعيين، فروى عن إبراهيم بن يحيى مع أنه كان قدريا، وروى عن إسماعيل بن علية مع أنه طعن فيه، وقالوا: إن البخاري ومسلما لم يرويا عنه شيئا في صحيحهما، ولولا أنه كان ضعيفا في الرواية لرويا عنه، وأن مذهبه أن المراسيل ليست بحجة، وقد ملأ كتبه من قوله أخبر الثقة، أخبرني من لا أتهمه إلخ.
90
وقد دافع أصحاب الشافعي عن هذه الأقوال دفاعا شديدا، ومع هذا كله فقد كان الشافعي أقرب إلى المحدثين وهم إليه أميل، ولئن فاقه بعضهم في معرفة الحديث وأسانيده ورجاله فقد فاقهم بفقهه في الحديث، حتى روي عنه أنه قال لأحمد بن حنبل: أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه.
91
كان المحدثون أميل إلى الشافعي؛ لأنه توسع في استعمال الحديث والاستدلال به أكثر مما فعل مالك وأبو حنيفة، وحد من الرأي والقياس وضيق سلطتهما، ولذلك كان من أنصاره أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وغيرهما من كبار المحدثين، كما أنه كان أقرب إلى نفوس الحنفية من المحدثين وفقهائهم؛ لأنه لم ينكر القياس جملة، بل قال به وقعد له القواعد، حتى لقد عدل بعض فقهاء العراق عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهبه؛ ولعل هذا الموقف - وهو تقريبه وجهة النظر بين المدرستين: مدرسة الحجاز ومدرسة العراق، وانتخابه ما رأى الحق في كلتيهما - هو أوضح ظاهرة في مدرسة الشافعي. قال الرازي: «إن الناس كانوا قبل الشافعي فريقان: أصحاب الحديث وأصحاب الرأي، أما أصحاب الحديث فكانوا عاجزين عن المناظرة والمجادلة، عاجزين عن تزييف طريق أصحاب الرأي، فما كان يحصل بسببهم قوة في الدين ونصرة الكتاب والسنة؛ وأما أصحاب الرأي فكان سعيهم وجهدهم مصروفا إلى تقرير ما استنبطوه برأيهم ورتبوه بفكرهم ... (فجاء الشافعي) وكان عارفا بالنصوص من القرآن والأخبار، وكان عارفا بأصول الفقه وشرائط الاستدلال ... وكان قويا في المناظرة والجدل.. فرجع عن قول أصحاب الرأي أكثر أنصارهم وأتباعهم».
92
آثار الشافعي:
من أهم ما وصل إلينا من عمل الشافعي رسالته في أصول الفقه، رواها عنه تلميذه المصري الربيع بن سليمان المرادي، وقد تكلم فيها فيما يحتاج إليه المجتهد إزاء القرآن من العام والخاص، والناسخ والمنسوخ، وتكلم في موقف المجتهد من الحديث، وناسخه ومنسوخه، وما كان فيه من اختلاف وما يقبل منه وما لا يقبل، ثم تكلم في الإجماع، وإن «من قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم»، ثم تكلم في إثبات القياس والاجتهاد، وحيث يجب القياس وحيث لا يجب، ومن له أن يقيس، ومن ليس له، ونقد الاستحسان ورد على القائلين به؛ وهو بهذا أول من وضع خطة في البحث في أصول الفقه جرى عليه كل من أتى بعده من علماء المذاهب الأخرى؛ قال الرازي: «واعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسططاليس إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض، وذلك لأن الناس كانوا قبل أرسططاليس يستدلون ويعترضون بمجرد طباعهم السليمة، لكن (ما) كان عندهم قانون مخلص في كيفية ترتيب الحدود والبراهين، فلا جرم كانت كلماتهم مشوشة ومضطربة، فإن مجرد الطبع إذا لم يستعن
93
بالقانون الكلي قلما أفلح، فلما رأى أرسططاليس ذلك اعتزل عن الناس مدة مديدة واستخرج علم المنطق، ووضع للخلق بسببه قانونا كليا يرجع إليه في معرفة ترتيب الحدود والبراهين؛ وكذلك الشعراء كانوا قبل الخليل بن أحمد ينظمون أشعارا، وكان اعتمادهم على مجرد الطبع، فاستخرج الخليل علم العروض فكان ذلك قانونا كليا في معرفة مصالح الشعر ومفاسده، فكذلك - هاهنا - الناس كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي رحمه الله أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة أرسططاليس إلى علم العقل ... واعلم أن الشافعي صنف كتاب الرسالة ببغداد، ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب الرسالة، وفي كل واحد منهما علم كثير، والناس وإن أطنبوا بعد ذلك في علم أصول الفقه إلا أن كلهم عيال الشافعي فيه؛ لأنه هو الذي فتح هذا الباب، والسبق لمن سبق».
94
نعم روى ابن النديم أن محمد بن الحسن ألف كتابا في أصول الفقه،
95
ولكن لم يصل إلينا هذا الكتاب حتى نستطيع أن نقارن بينه وبين رسالة الشافعي، ونعلم ماذا استفاد الشافعي من أصول محمد وماذا اخترع من نفسه؛ وقد كان هناك طريقان أمام مخترع أصول الفقه: الأول أن يضع القواعد التي تعين المجتهد على استنباط الأحكام من مصادر التشريع، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ والثاني استخراج القواعد العامة الفقهية لكل باب من أبواب الفقه، ومناقشتها وتطبيق الفروع عليها، - فيستنتج - مثلا - قواعد البيع العامة، أو قواعد الإيجار، ويحددها ويبين مسلك التطبيق عليها، وكلا الطريقين يصح أن يسمى أصول الفقه، وقد سلك الثاني الفرنج على النحو الذي تراه في أصول الشرائع لبنتام ومن حذا حذوه؛ وقد اختار الشافعي الطريق الأول، وألهمه ذلك ما كان من الجدل القوي بين المحدثين والفقهاء من جانب، وفقهاء العراق وفقهاء الحجاز من جانب آخر. فاضطره هذا الخلاف أن يضع القواعد التي رأى أنها تحسمه؛ أضف إلى ذلك أن الطريق الثاني أكثر ما ينمو في التشريع الوضعي الذي يعتمد على النظريات العقلية الطليقة وتعديلها وفق ما يجد من نظريات فلسفية وآراء مدنية، على أن هذا الضرب قد اتجه إليه بعض المسلمين بعد كما ترى في الأشباه والنظائر لابن نجيم وإن لم يسر طويلا.
وليس تعرضه لأصول الفقه مقتصرا على رسالته في الأصول، بل تعرض له أيضا في مواضع كثيرة من كتاب الأم، فتعرض - مثلا - لمناقشة الفرقة التي تنكر العمل بالأحاديث بتاتا،
96
وكتب فصلا في إبطال الاستحسان،
97
فيظهر أن كثيرا من المسائل الفرعية كانت تعرض له فتثير في ذهنه أصولا متفرقة يفكر فيها ويطيل التفكير، ثم يضع لها القواعد، ثم جرد هذه القواعد وأكملها ورتبها وأخرجها في كتابه الرسالة؛ وله الفضل خاصة في تنظيم الإجماع والعمل به وما يصلح منه وما لا يصلح، وتنظيم القياس الذي جرى عليه الحنفية، ووضع قواعد له، وتقسيمه أقساما وتوضيح علله وبيان ما يجوز منه وما لا يجوز.
وقد خطا بكتابه خطوات في الفقه من حيث وضع القواعد للمجتهد وإلزامه الأخذ بها أو بنظائرها، حتى لا يأتي اجتهاده متناقضا، يوما يستدل بالعام ويوما يقول إن دلالته ظنية، ويوما يستدل بالخاص ويوما يقول يحتمل أنه خصوصية إلخ، ولا يخفى ما يترتب على وضع هذه المبادئ من انتظام سير الفقه وتوحيد مجاريه، وعدم الاضطراب في التفريع.
الأم:
هو أكبر أثر للشافعي بين أيدينا، وقد ثار الخلاف حديثا في مصر هل الأم كتاب ألفه الشافعي أو ألفه البويطي؟ وأظن أنه لو حدد موضع النزاع في دقة لكان الأمر أسهل حلا، فليس يستطيع أحد أن يقول إن ما بين دفتي الكتاب الذي بين أيدينا هو من تأليف الشافعي، وأنه عكف على كتابته وتأليفه في هذا الوضع النهائي، وأهم دليل على ذلك أن مطلع كثير من الفصول العبارة الآتية: «أخبرنا الربيع قال قال الشافعي»، وهي عبارة لا يمكن أن يكتبها الشافعي وهو يؤلف الكتاب، وفي ثنايا الكتاب نجد أخبارا بعدول الشافعي عن هذا الرأي كأن يجيء في سير الكلام: «قال الربيع قد رجع الشافعي عن خيار الرؤية وقال لا يجوز خيار الرؤية»؛
98
ومحال أن تصدر من الشافعي هذه العبارة وأمثالها؛ كما لا يستطيع أحد أن ينكر أن في الأم مذهب الشافعي بقوله وعبارته، فالظاهر أنها أمال أملاها الشافعي في حلقته كتبها عنه تلاميذه وأدخلوا عليها تعليقات من عندهم، واختلف روايتهم بعض الاختلاف، والذي بين أيدينا منها رواية الربيع المرادي عن الشافعي.
على كل حال بين أيدينا مجموعة في سبعة أجزاء أغلبها من كلام الشافعي رواها عنه تلميذه وأدخل فيها بعض تعليقات أفردها وبينها حتى لا تلتبس بكلام الشافعي، ومجموع ذلك هو الذي أطلق عليه «كتاب الأم»؛ وقد بوب على أبواب الفقه كما فعل مالك في الموطأ، ولكن فيه فصول في أصول الفقه كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
وقد أمليت هذه الأبواب في مصر، والعلماء يقسمون فقه الشافعي إلى مذهبين: قديم وجديد. فأما القديم فهو ما كتبه وقال به في العراق، وأما الجديد فهو ما كتبه وقال به في مصر؛ ذلك أنه لما جاء مصر عدل عن بعض أقواله له كان قالها من قبل، وسببه أنه خالط علماء مصر، وسمع ما صح عندهم من حديث وسمع تلاميذ الليث بن سعد ينقلون عنه آراءه وفقهه، ورأى بعض حالات اجتماعية تخالف تلك التي رآها في الحجاز والعراق؛ فغير ذلك من فقه الشافعي في بعض أقواله، وأطلق عليه المذهب الجديد.
وفي «الأم» مصداق لجميع ما ذكرنا عن الشافعي، فهو فيه فصيح العبارة، قوي الأداء ، تشوب عبارته بلاغة البادية وفصاحتها، وقوة القرشية وإيجازها، أخذ عليه بعض المتعقبين له أشياء عدوها غلطا كقوله: ماء عذب، وماء مالح بدل ملح، وقول: الطهور هو المطهر، مع أن الطهور هو الطاهر على سبيل المبالغة، وقوله: وليست الأذنان من الوجه فيغسلان بدل فيغسلا، إلى أمثال ذلك؛ وهي في الحقيقة ليست أخطاء بل أجازها اللغويون والنحويون. وعلى كل حال فليس يستطيع أن ينكر أحد ما في عبارة الشافعي من دقة وقوة وبلاغة.
وفي الكتاب تظهر قوة الشافعي في الجدل، فأسلوب الكتاب كله تقريبا أسلوب جدلي، حتى ليفترض مجادلا يجادله فيرد عليه، ثم يعترض فيجيب: فإن قال قائل كذا رددنا عليه بكذا، «قال المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا في الكلام، قلت: فالذي ذهبت إليه محال، لا يجوز في اللسان. قال: وما إحالته وكيف لا يحتمله اللسان؟ قلت إلخ»، وهكذا يسير في كثير من المواضع على هذا الحوار السقراطي، مما كان متأثرا فيه بنمط العراقيين وحجاجهم وإكثارهم من «أرأيت».
99
ثم هو في الكتاب محدث يكثر من الاستدلالات بالحديث، وهو قياس يكثر من استعمال القياس، فيقول: «وبهذا نأخذ وهو قول الأكثر من أهل الحجاز والأكثر من أهل الآثار بالبلدان»،
100
ويقول: «وقلنا في الكلب بما أمر به رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وكان الخنزير إن لم يكن في شر من حاله لم يكن في خير منها، فقلنا به قياسا عليه»،
101
إلى كثير من أمثال ذلك.
ثم هو متأثر بالمصرية أحيانا فإذا أراد أن يمثل بصيغة لوقفية مثل لذلك بوقف بيت المال في الفسطاط من مصر،
102
ويتكلم في الطين الذي يعرف بالطين الأرمني والطين الذي يقال له طين البحيرة، وهما مما يدخلان في الأدوية، ويقارن بين الطين الأرمني وطين رآه في الحجاز،
103
ويتكلم في القراطيس (وهي مصرية) ويبين متى يجوز أن تسلف ومتى لا يجوز،
104
ويتكلم في شهادة الشعراء، ومن يجوز شهادته منهم ومن لا يجوز، فيستملي فيما يظهر من حال الشعراء في مصر
105
إلى أمثال ذلك.
وعلى الجملة فالكتاب ثروة كبيرة من حيث دلالته على مناحي الشافعي في الاجتهاد، وعلى فقهه وعلى ما كان من أثر مصر في القول بالمذهب الجديد.. إلخ. •••
وكان للشافعي أصحاب أخذوا عنه وتتلمذوا له، وحفظوا مذهبه، ونشروه، بعضهم في العراق وبعضهم في مصر؛ ومن أشهرهم في مصر البويطي والمزني والربيع المرادي. فالبويطي هو يوسف بن يحيى، والبويطي نسبة إلى بويط قرية من قرى صعيد مصر،
106
وكان أكبر أصحاب الشافعي وأعلمهم، وقد خلف الشافعي في رياسة حلقته، وكان في حياته يفتي على مذهبه وتتلمذ له كثيرون نشروا مذهب الشافعي، وألف كتابه المختصر اختصر فيه كلام الشافعي.
قال ابن عبد البر: «وكان ابن أبي الليث الحنفي قاضي مصر يحسده ويعاديه، فأخرجه في وقت المحنة في القرآن في من أخرج من أهل مصر إلى بغداد، ولم يخرج من أصحاب الشافعي غيره، وحمل إلى بغداد وحبس فلم يجب إلى مادعي إليه في القرآن، وقال هو كلام الله غير مخلوق، وحبس ومات في السجن يوم الجمعة قبل الصلاة سنة 231».
107
وأما المزني فهو إسماعيل بن يحيى، كان أقدر أصحاب الشافعي على المناظرة والجدل والغوص على المعاني الدقيقة، وقد كان يخالف الشافعي في بعض أقواله، فيقول بعد أن يحكي كلام الشافعي في مسألة: «ليس هذا عندي بشيء».
108
ويظهر أنه امتحن في مسألة خلق القرآن فقال كلاما نجا به من الاضطهاد، فشنع عليه أعداؤه من المصريين حتى قل الناس في حلقته، ثم زال ما في نفوسهم منه وعظمت حلقته حتى أخذت أكثر الجامع، وهو أكثر من دون فقه الشافعي، وألف فيه الكتب الكثيرة، منها المختصر المطبوع على هامش الأم، وانتشرت كتبه ومختصراته في الأقطار فخدمت مذهب الشافعي، مات سنة 264.
وأما الربيع المرادي مولى قبيلة مراد، فكان مؤذنا بمجسد عمرو بالفسطاط، وربما كان أبطأ تلاميذ الشافعي فهما، وقيل كانت فيه سلامة صدر وغفلة
109
ولكنه ثقة صادق فيما يرويه، حتى لو تعارضت روايته مع رواية المزني فأصحاب الشافعي يقدمون روايته، وقد حمل عن الشافعي الكثير من علمه، والنسخة المطبوعة من الأم روايته، مات 270.
وعلى الجملة فقد كان البويطي أفقه ، والمزني أفصح وأمهر وأذكى، والمرادي أروى ولكل فضل.
ومما يلاحظ أن أصحاب الشافعي لم يكونوا يخالفونه كثيرا، كما كان أصحاب أبي حنيفة يخالفونه، فالمسائل التي خالف فيها أصحاب الشافعي إمامهم تكاد تكون معدودة وكثير منها تخرج على أصوله، وهذا بخلاف أصحاب أبي حنيفة، فقد خالفه أبو يوسف ومحمد وزفر في الأصول والفروع، وهذا يرجع - فيما أرى - إلى سببين: الأول أن مذهب أبي حنيفة لم يقيده أبو حنيفة، وإنما قيده ورتبه أصحابه، وله العذر في ذلك فقد أزهر أبو حنيفة قبيل عصر التدوين، وكان السابق والمبتكر في صبغ الفقه صبغته الجديدة، وترك لتلاميذه تدوينه، وهذا يجعل أصحابه في حل المخالفة عند مقارنة المسائل بعضها ببعض، وتطبيقها على الأصول، والسبب الثاني أن مذهب أبي حنيفة - كما علمنا - أميل إلى الرأي من مذهب الشافعي، والرأي يمنح أصحابه حرية لا تكون لأصحاب الحديث ومن نحا منحاهم ومن قرب منهم. •••
ويطول بنا القول على هذا النمط في ترجمة أصحاب المذاهب الثلاثة عشر الذين عددناهم قبل، ويحتاج ذلك إلى كتاب مستقل، فنكتفي بهؤلاء الذين ذكرنا إذ كانوا يمثلون المناحي المختلفة في التشريع، ولكن لا بأس من أن نلم إلماما خفيفا ببعض من كان لهم أثر كبير أو لون مختلف في الفقه فمنهم
أحمد بن حنبل:
وهو أحمد بن محمد بن حنبل؛ عربي الأصل من شيبان وأصله من مرو، ولد ونشأ ببغداد سنة 164، ورحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة والشام واليمن والجزيرة في جمع الحديث؛ وقد صحب الشافعي وأخذ عنه، والشافعية يعدونه شافعيا، ولكنه في الواقع يستقل عنه. وقد امتحن في مسألة خلق القرآن فضرب وحبس، وظل على قوله بأن القرآن غير مخلوق، وصبر على ما لحقه من أذى، فكان ذلك مما زاده رفعة في نظر الناس، وكان ضربه وجبسه سنة 220 في خلافة الواثق، فلما جاء المتوكل أفرج عنه لما ألغي القول بخلق القرآن كما سيجيء الكلام في هذه المسألة تفصيلا إن شاء الله، وتوفي بغداد سنة 241.
ولا خلاف في عده من كبار المحدثين، ولكن الخلاف في عده من الفقهاء؛ فابن جرير الطبري لم يعد مذهبه في الخلاف بين الفقهاء، وكان يقول إنما هو رجل حديث لا رجل فقه، وثارت عليه الحنابلة من أجل ذلك، ولم يذكره ابن قتيبة في كتابه «المعارف» بين الفقهاء، وذكره المقدسي في المحدثين لا في الفقهاء، واقتصر ابن عبد البر في كتابه الانتقاء على الأئمة الثلاثة، أبي حنيفة ومالك والشافعي، وخالفهم في ذلك غيرهم وخاصة المتأخرين.
والواقع أن فقهه أكثر ما يبنى على الحديث، فإذا وجد حديثا صحيحا لم يلتفت إلى غيره، وإذا وجد فتوى من الصحابة عمل بها، وإذا وجد فتاوى لهم تخير أقربها إلى الكتاب والسنة، وأحيانا يختلف الصحابة في المسألة على قولين، فيروى عن ابن حنبل في المسألة روايتان، وإذا وجد حديثا مرسلا أو ضعيفا رجحه على القياس، ولا يستعمل القياس إلا عند الضرورة القصوى، ويكره الفتوى في مسالة ليس فيها أثر،
110
ولم يضع ابن حنبل كتبا في الفقه على نمط خاص به، وكل ما روي له في الفقه مسائل سئل عنها فأفتى فيها، وإنما رتب المذهب وبوبه ودونه أتباعه.
فإن نحن نظرنا من ناحية النظريات القانونية ونظمها ورقيها، وجدنا ابن حنبل أكبر أثرا في الحديث منه في الفقه.
وممن له لون خاص في التشريع داود بن علي الأصبهاني، المعروف بداود الظاهري؛ ولد بالكوفة نحو سنة 200، ونشأ ببغداد وتوفي بها سنة 270، درس مذهب الشافعي وتعصب له وألضف في مناقبه، ثم استقل بمذهب يعرف بمذهب الظاهرية، وتبعه كثير من الناس خصوصا في فارس والأندلس.
وموقفه في الفقه موقف النقيض من الحنفية، ينكر القياس، ويرى أن في القرآن والحديث وعموماتهما ما يكفي لبيان الأحكام؛ فهو يتمسك بظاهر الكتاب والسنة، ومن هذا اشتق اسم الظاهرية، ويرى أن القول بالقياس تشريع عقلي، والدين إلهي، ولو كان الدين بالعقل لجرت أحكام على خلاف ما أتى به الكتاب والسنة، فوجب أن تتقيد بهما بل بظاهرهما ولا نبيح القياس إذا ورد نص بتحريم أو تحليل وبين فيه علته، فحينئذ يجوز لنا أن نشرك في الحكم الأشياء التي لم ينص عليها ولكن تتحد في العلة؛ أما إذا لم ينص على العلة، فليس للمجتهد أن يقول بها من عنده ثم يقيس عليها، فالله تعالى يقول:
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله
ولم يقل إلى الرأي والقياس. وقد هاجم القياسيين، وبين ما ألجأهم إليه القياس من خطأ في الأحكام، وأداء هذا المنحى إلى مخالفة المذاهب الأخرى في كثير من المسائل.
وعلى الجملة فقد كان مجال التشريع عندهم أضيق من غيرهم؛ لأن أكبر منحى للاجتهاد هو القياس وقد أنكروه.
كذلك مما لا يسعنا إغفاله ما للشيعة والخوارج من فقه، وسنتكلم في فقههما عند الكلام في عقائدهما إن شاء الله. •••
وبعد، فنستطيع بعد هذا الاستعراض للتشريع ومناحيه المختلفة أن نسجل النتائج الآتية: (1)
كان هذا العصر الذي نؤرخه أكثر عصور الإسلام نشاطا في التشريع وأكثر عددا من الفقهاء المجتهدين، كل ما كان فيه من وئام وخصام سبب صهر المسائل الفقهية، والجد في تجريدها وتصفيتها، وكان العلماء أحرارا ولا تحجر على حريتهم في الاجتهاد والتفكير ما داموا بعيدين عن مسائل الخلافة وما إليها، فلهم أن يجتهدوا في غيرها ما شاءوا، ولهم أن يستنتجوا الأحكام من الكتاب والسنة أو القياس ما شاءوا، لا تتعرض ل من وسع على نفسه فاستعمل الرأي إلى غاية مداه، كما لا تتعرض ل من ضيق على نفسه فالتزم الأحكام من الكتاب والسنة وحدهما؛ ولم تلتزم الحكومة قانونا بعينه تفرضه على الدولة كلها، ولا مذهبا معينا تفرضه على الأمصار فرضا، بل اختارت القضاة من مناح مختلفة في الاجتهاد، وتركت لهم الحرية في الأحكام على حسب اجتهادهم، فربما حكم في المسألة بحكمين مختلفين في مصرين مختلفين، بل ربما حكم بحكمين مختلفين في بلد واحد إذا كان لهما قاضيان، كما ذكر ابن المقفع، ولم تتدخل الحكومة في حسم الخلاف وتوحيد القضاء ولا في عاصمتها نفسها، وأما من عدا القضاة من الفقهاء المجتهدين فحريتهم في التشريع أظهر.
وكما كثر الفقهاء والمشرعون وكثر اجتهادهم، كثرت المسائل القانونية، وأحكام الجزئيات كثرة لا يقاس بها ما كانت عليه قبل هذا العصر، ففرعت الفروع، وفرضت الفروض، ووضع لها الأحكام، وعرضت كل العادات والتقاليد والعرف في الأمصار المختلفة في عراق وحجاز وشام ومصر على الفقه، وواجهها الفقهاء وشرعوا لها الأحكام، أو أقروها على ما هي عليه إذا لم تصطدم بنص، وتوسعوا في بابي الإجماع والقياس، حتى دخلت منهما العادات العراقية والشامية والمصرية، وأقرت على ما هي عليه أحيانا، وعدلت إذا خالفت أصول الإسلام وأصبحت جزءا من الفقه الإسلامي.
ذلك بأنهم جعلوا العرف أساسا من أسس التشريع، واستندوا في ذلك على حديث «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن»،
111
وجاء في المبسوط: «الثابت بالعرف كالثابت بالنص». وقسموا العرف إلى قسمين: عرف عملي كتعارف قوم صرف الفضة بالفضة، وعرف قولي كتعارفهم إطلاق لفظ على معنى بحيث لا يتبادر عند سماعه غيره، وكلا المعنيين أخذ به الفقهاء، فأجازوا كثيرا من المعاملات لجريان العرف بها، وحملوا في كثير من الأحيان ألفاظ الوقف والطلاق والأيمان على ما جرى العرف في تفسيرها؛ فدخل الفقه من هذا الباب كثير من العادات المستعملة في الأمصار. مثال ذلك «الاستصناع» وهو أن يقول شخص لرجل من أهل الصنائع اصنع لي الشيء الفلاني، ويصفه، بثمن قدره كذا، فقد أجازه الحنفية لجريان العرف به مع ورود النص في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، فخصصوا النص بالعرف، وأجاز مشايخ بلخ أن يدفع الرجل للحائك غزلا على أن ينسجه بالثلث، وقالوا إن هذه إجارة صحيحة لتعامل أهل بلدهم بها «والتعامل حجة يترك به القياس ويخص به الأثر»،
112
إلى كثير من أمثال ذلك، وقد اشترطوا في المجتهد معرفة عادات الناس «لأن كثيرا من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير العرف» ومن ذلك ما روى الكردري في المناقب أن محمد بن الحسن «كان يذهب إلى الصباغين ويسأل عن معاملتهم وما يديرونها فيما بينهم». وكتب الفقه مملوءة بمسائل الخلاف بين الأئمة مما كان سببه اختلاف العرف في أمصار الأئمة أو زمانهم؛ وكل الذي أريد أن أذكره هنا أنه من هذا الطريق - طريق العرف والعادات - دخل كثير من عادات الأمم ودون في الفقه، وكان أئمة كل مصر يستعرضون ما عندهم من عادات فيعرضونها على قواعد الإسلام فما لم يخالف منها نصا صريحا أجازوه، بل أحيانا يجيزونه ويخصصون النص كما رأيت. ومن أمثلة ذلك أيضا إجازة بعضهم بيع ثمار البستان إذا كان بعضها قد خرج وبعضها لم يخرج؛ لأن العرف جرى بذلك، وقال شمس الأئمة: «أستحسن ذلك لتعامل الناس، فإنهم تعاملوا بيع ثمار الكرم بهذه الصفة، ولهم في ذلك عادة ظاهرة، وفي نزع الناس من عاداتهم حرج»،
113
مع أن هذا أيضا ينطبق عليه أنه بيع الإنسان ما ليس عنده، وهو ما نهي عنه؛ لأن الثمار التي تتلاحق ليست موجودة كلها، فخصصوا النص أيضا بالعرف. وأفتوا فيما يدخل في المبيع تبعا وما لا يدخل بعرف كل بلد، فقالوا إن السلم المنفصل يدخل في بعيد البيت في القاهرة لأن بيوتهم طبقات لا ينتفع بها إلا به، ولا يدخل البلاد التي بيوتها طبقة واحدة إلخ.
وقد كان لكل أمة عرف وعادات في بيعها وشرائها وفي لغتها، ودلالة ألفاظها على معانيها، وفي الزواج وما يكون جهازا وما لا يكون، وفي الأراضي هل يدفع العشر المؤجر أو المستأجر إلخ، وكل هذه العادات عرضت على الأئمة فأدخلوها في الفقه وكانت من أكبر مصادره، لأن كثيرا من عادات الأمم لم تعرف في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
فلم يرد فيها نص من كتاب ولا سنة، ورجوع الناس عن عاداتهم التي جروا عليها أجيالا ليس بالأمر الهين؛ لذلك أجاز الفقهاء الكثير منها وأقروها وعدوها إسلامية، وكان هذا سببا من أسباب تضخم الفقه. (2)
كان المسلمون قبل هذا العصر، وفي أول العصر لا ينحازون إلى مذاهب، بل المسلم أحد رجلين، أما عالم مجتهد فهو يدرس ويجتهد لنفسه في تعرف الأحكام ويعلم ذلك لتلاميذه، وأما عامي أو شبه عامي إذا عرضت له مسالة استفتى فيها من صادفه من المجتهدين كائنا من كان فيعمل بما يفتيه، والمجتهدون كثيرون مختلفون، فلما تقدم الزمن في العصر العباسي رأينا المذاهب تتبلور، ولكنها مع تبلورها كثيرة، اشتهر منها ثلاثة عشر مذهبا أو يزيد، ورأينا الكتب توضع في كل مذهب، ورأينا الناس ينحازون إلى هذه المذاهب، ثم رأينا بعض المذاهب يقدر لها الانقراض فيفنى أصحابها، أو يقل أتباعها، وبعضها يقدر له البقاء والنماء، حتى يصبح بعد عصرنا هذا والمذاهب أربعة فقط حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي، هذا عدا الشيعة والخوارج، وإذا بالناس ينحازون إلى هذه المذاهب لا إلى غيرها، وتنقسم البلاد هذه المذاهب، فيسود كل مذهب قطرا، وتقل بجانبه المذاهب الأخرى (كما سيأتي بيانه في حينه)، وإذا عرض لعامي أمر استفتى فيه علماء مذهبه غالبا، وتعبد عليه في الصلاة والزكاة والصيام والحج، وسار في الزواج والطلاق على مذهب إمامه. (3)
إذا تتبعنا ما كان بين مدرسة الرأي ومدرسة القياس، ونظرنا إلى الفقهاء من حيث مقدار حريتهم في الرأي، وأردنا أن نضع لهم قائمة تبين درجتهم في ذلك، وجدنا أن أول القائمة طائفة رأت عدم العمل بالحديث والاكتفاء بالقرآن، قالوا: لأنكم تروون الحديث عن رجل آخر، وليس أحد إلا وهو عرضة للخطأ أو النسيان، فلسنا نقبل منها شيئا إذ كانت عرضة للوهم، ولا نقبل إلا كتاب الله الذي لا يسع أحدا الشك في حرف منه،
114
وقد حكى الشافعي في الأم عنهم أنهم انقسموا قسمين، قسم قالوا: ما لم يكن فيه كتاب الله فليس على أحد فيه فرض، وقسم قالوا: يقبل الحديث إذا كان فيه قرآن.
115
ومثل هؤلاء القوم يصح أن يوضعوا في أعلى قائمة الحرية إذا كان مذهبهم أن نلتزم فقط ما جاء في القرآن، أما ما عداه فنعمل فيه بالرأي والعدالة، وهذا هو الأقرب من قولهم، كما يصح أن يوضعوا في أسفل القائمة حتى بعد الظاهرية إن قالوا لا نعمل إلا بما ورد في كتاب الله، ومما يؤسف له أنا لم نجد نصا صريحا يعين اتجاه مذهبهم فإن كانوا قد ذهبوا إلى الاتجاه الأول كانوا - من غير شك - أكثر الفقهاء حرية لأنهم لا يلتزمون إلا ما ورد في الكتاب من أحكام ، أما ما عدا ذلك فهم أحرار في استعمال الرأي فيه؛ كما أنه مما يؤسف له أنا لا نعلم لذلك زعيما دعا إلى هذا الرأي ووضع له قواعده وأصوله وفرع عليه، بل لم يسم الشافعي في الأم اسم من ذهب هذا المذهب.
يلي هؤلاء - إن كان مذهبهم كما فسرنا - مذهب أبي حنيفة؛ فقد قيد الحديث الذي يعمل به وضيق دائرته ووسع القياس، ثم الشافعي فقد وسع الحديث وقلل دائرة القياس، ثم مالك فلم يتوسع في القياس كما توسع الشافعي، ثم أحمد بن حنبل فقد أبى استعمال القياس إلا عند الضرورة القصوى، وفضل عليه الحديث الضعيف، ثم داود الظاهري فقد أنكر القياس إلا ما نص فيه على العلة.
والذي يستعرض هذه الآراء يرى أن دائرة الحرية التي كان يسبح فيها مذهب أبي حنيفة أخذت في الضيق، حتى أن تلاميذه أنفسهم كأبي يوسف ومحمد كانا من عوامل هذا التضييق؛ فقد أخذا من مدرسة الحجاز حديثا كثيرا عدلا به مذهب أبي حنيفة وخالفا به شيخهما، ولئن أثر مذهب أبي حنيفة في المذاهب الأخرى من ناحية الرأي والقياس، فقد كان تأثير مدرسة الحديث في مذهب أبي حنيفة أقوى وأكثر. ولو فكر مفكر في ذلك العصر ربما توقع غلبة مذهب أبي حنيفة وسيادته على مذهب الحديث لتأييد الحكومة العباسية له بعض الشيء، ولغلبة مذهب الاعتزال نحو خمسين عاما ختمت ببدء خلافة المتوكل، ومذهب الاعتزال هو القائل بالتحسين والتقبيح العقليين، ولظهور الفلسفة في العراق وهي أدعى إلى الحرية الفكرية، ولكن مع كل هذا كانت الغلبة في الفقه لمدرسة الحديث، والسبب في هذا - على ما يظهر - أن قوة المحدثين كانت أكبر وجمهور المسلمين كان لهم أنصر، وأن حركة الاعتزال وحركة الفلسفة كانتا حركتين أرستقراطيتين يعتنقهما في الغالب أرستقراطية الشعب لا جمهوره؛ ولذلك هوجم القول بخلق القرآن الذي قال به المعتزلة هجوما عنيفا من الشعب، ورفع جمهور الناس الذين يقفون في وجهه ويتحرجون من القول به ويتحملون العذاب في سبيله إلى درجة عليا إلى أن قضى عليه، وكذلك هوجمت الفلسفة من الشعب، ولم ينفع كثيرا تأييد الحكومة العباسية مذهب أبي حنيفة بعض الشيء؛ لأن أكبر هذا التأييد مصدره وجود أبي يوسف على رأس القضاة، وأبو يوسف نفسه كما رأينا كان من عوامل إدخال الحديث الكثير في فقه أبي حنيفة وتعديله. لهذا كله ضاقت دائرة الرأي والقياس واتسعت دائرة الحديث، يضاف إلى ذلك أيضا أن المحدثين قد نشطوا نشاطا كثيرا في هذا العصر، فجمعوا الأحاديث المتفرقة في الأمصار المختلفة صحيحها وضعيفها، وكثير من هذه الأحاديث تتعلق بالأحكام؛ فاضطر الفقهاء أمام هذه الأحاديث وأمام قوة المحدثين أن يخضعوا أنفسهم للحديث، ولهذا نرى كتب الفقه حتى كتب الحنفية تستدل على أكثر الأحكام بالحديث، وإن كان بعضها ضعيفا، ونرى أن الفروق بين المدارس المختلفة قلت، فلم تعد بين تلاميذ أبي حنيفة والشافعي ومالك فروق كالتي كانت بين مالك وأبي حنيفة أنفسهما، حتى ليظن الظان لأول وهلة أن منحى التشريع عند الجمهور واحد، ولم يكن ذلك صحيحا عند تأسيس هذه المدارس، وإنما أظهره بهذا المظهر شيء واحد: هو «غلبة رجال الحديث».
الفصل السادس
اللغة والأدب والنحو
كان العرب يسكنون الجزيرة وما حولها، وكانوا - كما أسلفنا - يعيشون قبائل، وكانت هذه القبائل تختلف في لغتها.
وهذا الخلاف قد يكون خلاف كلمات، فقبيلة تستعمل البر، وقبيلة تستعمل القمح، وحمير تستعمل كلمة «القيل» لما يستعمل فيه العدنانيون «الملك» وهكذا.
وقد تكون الكلمة واحدة ولكن القبائل تستعملها في معان مختلفة، كمادة الوثب، فالحجازيون يستعملونها في معنى ظفر واليمانيون يستعملونها استعمالا مضادا فيقولون ثب أي اقعد، ومن ذلك ما روي عن «موألة» أن عامر بن الطفيل قدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فوثبه وسادة، يريد فرشها له وأجلسه عليها، والوثاب الفراش بلغة حمير، وهم يسمون الملك موثبان - يريدون أنه يطيل الجلوس، ولا يغزو - ويروون أن حجازيا خاطبه ملك حميري بثيب فقفز، وإنما كان يريد الملك اقعد، فقال الملك إذ ذاك: «من دخل ظفار حمر»؛ وظفار مدينة يمنية، أي من دخل ظفار فليتعلم الحميرية».
1
وقد يكون الاختلاف في الحركات، فبعض القبائل كقريش تفتح حرف المضارعة فيقولون: «نستعين» وبعضها كأسد تكسرها، فتقول: نستعين.
وكذلك هناك أنواع عديدة من الاختلافات، فبعض القبائل تقول: أولئك وبعضها تقول ألالك؛ وبعضهم يقول: استحييت، وبعضهم يقول: استحيت وبعضهم يقول: مستهزئون، وبعضهم يقول: مستهزون؛ وبعضهم يميل في قضى ورمى ونحوهما، وبعضهم لا يميل؛ وبعضهم يقولون: ما زيد قائم، وبعضهم ما زيد قائما؛ وبعضهم يقولون: هلموا إلينا، وبعضهم يقول للجمع والمفرد والمثنى هلم إلينا؛ وبعضهم يقول: «صاعقة»، وبعضهم يقول فيها: «صاقعة»؛ وبعضهم يقول: هذه البقر وهذه النخل، وبعضهم يقول: هذا البقر وهذا النخل. إلى كثير من أمثال ذلك.
وهذا الخلاف بين القبائل قد يعظم ويشتد، كالخلاف بين القبائل العدنانية في الحجاز والقحطانية في اليمن؛ فقد كانوا يختلفون في المفردات والتراكيب حتى قال أبو عمرو بن العلاء: «ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا». وقال ابن جني: «لسنا نشك في بعد لغة حمير ونحوها عن لغة ابني نزار ... دخلت يوما على أبي علي رحمه الله فقال لي: أين أنت؟ أنا أطلبك، قلت: وما ذلك؟ قال: فما تقول فيما جاء عنهم (عن العرب) من حوربت
2 ؟ فخضنا معا فلم نحل بطائل منه، فقال: هو من لغة اليمن ومخالف للغة ابني نزار، فلا ينكر أن يجيء مخالفا لأمثلتهم»،
3
وقد يكون الاختلاف يسيرا كالخلاف بين قبيلتين متجاورتين من أصل واحد.
كان لهذا الخلاف نتائج: منها اختلاف القراءات في القرآن، فإنها تليت جسب اختلاف العرب لغاتهم ولهجاتهم. روي عن ابن عباس قال: «نزل القرآن على سبع لغات، منها خمس بلغة العجز من هوازن، وهم الذين يقال لهم عليها هوازن ، وهم خمس قبائل أو أربع، منها سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف»،
4
فقراءات القرآن يمكن دراستها من هذه الناحية؛ ناحية أنها تمثل بعض لغات قبائل العرب ولهجاتها.
وكان هذا الاختلاف أيضا أهم الأسباب في كثرة المترادفات في اللغة العربية، فإحدى القبائل تضع اسما لشيء، وتضع قبيلة أخرى اسما آخر، وقد وردت أدلة على ذلك فقالوا: - مثلا - إن السكر اسمه المبرت بلغة اليمن.
ولهذا كثرت المترادفات كثرة غريبة، فقالوا: إن للعسل ثمانين اسما، وللسيف خمسين اسما، حتى ألف صاحب القاموس كتابا سماه «الروض المسلوف، فيما له اسمان إلى ألوف»،
5
وكان لكثرة هذه المترادفات فوائد ومضار؛ فقد مكنت الشعراء من أن ينظموا عليها قصائدهم الطويلة مع التزام الروي والقافية، وما كان ذلك يسهل لولا المترادفات؛ كما أنها كانت أداة جيدة لبلاغة الكتاب وفصاحة الفصحاء، فقد استطاعوا أن يتخيروا من الألفاظ المترادفة ما يناسب السجع أحيانا والترصيع أحيانا، كما استطاعوا أن يتخيروا أقوى الكلمات لأقوى المواقف، وألين الكلمات لألين المواقف وهكذا؛ ولكنها من ناحية أخرى ضخمت اللغة ضخامة فوق الحد، وجعلت الإلمام بها مستحيلا، وحتى زحمت المترادفات الكثيرة المكان الذي نحتاجه لمعان ومدلولات لا نجد لها كلمة واحدة؛ وقد كان لكل قبيلة عذرها، فليس لها للدلالة على الشيء الواحد إلا كلمة أو كلمتان تؤدي بها أغراضها، فلما جاء الجامعون للغة جمعوا كل الكلمات لكل القبائل أو أكثرها وقدموا إلينا لاستعمالها، وفي التضخم ضرر كالهزال. •••
لم تكن هذه القبائل العربية في درجة واحدة من الفصاحة، فقد اشتهر بعضها بأنه أفصح من بعض، ولم تكن في درجة واحدة من السلامة، فقد سلمت بعض القبائل وحافظت على عربيتها لبعد مكانها عن الاختلاط والفساد؛ ولذلك لما جاء العلماء يروون اللغة تحروا، وفضلوا بعضا على بعض، فاستبعدوا لغة حمير؛ لأنها تكاد تكون لغة وحدها مخالفة للغة مضر، ولأنهم خالطوا الحبشة وخالطوا اليهود وخالطوا الفرس فتأشبت لغتهم، ولم يأخذوا عن القبائل التي كانت تسكن التخوم لمجاورتهم لمصر والشام وفارس والهند؛ ولهذا لم يأخذوا عن لخم وجذام وقضاعة وغسان وتغلب، ولم يأخذوا عن بني حنيفة وسكان اليمامة وثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولم يأخذوا عن الحضريين لفساد لغتهم.
وقالوا: «إن الذين عنهم نقلت اللغة العربية وبهم أقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد ثم هذيل، وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم»،
6
وقال أبو عمرو بن العلاء: «أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم».
7
والسبب في هذا ما ذكرت من أنهم كانوا يختارون من العرب ما بقوا على عربيتهم، ولم يفسدها اختلاطهم بغيرهم، وقد عقد ابن جني بابا «في ترك الأخذ عن أهل المدر كما أخذ عن أهل الوبر» وقال: «إن علة ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل، ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم، ولم يتعرض شيء من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر، وكذلك لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاص عادة الفصاحة وانتشارها، لوجب رفض لغتها، وترك تلقي ما يرد عنها».
8
هذا وقد عدوا قريشا أفصح العرب، وقالوا: «أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن قريشا أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة».
وقد شك بعضهم في هذا القول؛ لأن قريشا كانت تسكن مكة وما حولها وهم من أهل المدر، وقريش تجار، والتجارة تفسد اللغة، وكان هذا مما عيب على اليمن من ناحية لغتهم؛ ولأن رسول الله نشأ في بني سعد بن بكر بن هوازن واسترضع فيهم، فتعلم الفصاحة منهم، وأن كثيرا من غلمان قريش في عهد محمد
صلى الله عليه وسلم
كان يرسل إلى بني سعد لتعلم اللغة والفصاحة، ومن أجل هذا ظنوا أن هذا الرأي موضوع لإعلاء شأن قريش في اللغة؛ لأن رسول الله منهم.
9
والذي يظهر لي أن سلامة اللغة من دخول الدخيل فيها أمر غير الفصاحة، وأن سلامة اللغة كانت في بني سعد خيرا مما هي في قريش لأنهم أهل وبر، وأبعد عن التجارة وعن الاختلاط بالناس، وعلى العكس من ذلك قريش فهم أهل مدر، وكثير منهم كان يرحل إلى الشام ومصر وغيرهما ويتاجر مع أهلها، ويسمع لغتهم، فهم من ناحية سلامة اللغة ينطبق عليهم ما انطبق على غيرهم ممن خالط الأمم الأخرى، ولكنهم من ناحية الفصاحة فصحاء، وأعني بالفصاحة قوة التعبير عما في نفوسهم، وقد اشتهروا بذلك أيضا في الإسلام، يضاف إلى هذه الفصاحة ما حكي عنهم من رقة ألسنتهم، وحسن اختيارهم للألفاظ، فكانوا إذا أتتهم الوفود من العرب للأسواق أو للحج تخيروا من كلامهم وأشعارهم ولغاتهم، وربما كان أدق تعبير في هذا ما ذكره الفارابي في أول كتابه المسمى بالألفاظ والحروف، إذ قال: «كانت قريش أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعا، وأبينها إبانة عما في النفس»
10
فإذا امتازت قريش بالفصاحة فقد امتازت بنو سعد بسلامة اللغة، وقد جمع للنبي
صلى الله عليه وسلم
الأمران، ففي الحديث: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد بن بكر».
كانت جزيرة العرب قبل الإسلام قليلة الاتصال بمن حولها وبما حولها! وخاصة سكان أواسط الجزيرة، فلما جاء الإسلام وفتحت الفتوح، كان لذلك آثار في اللغة متعاكسة، فمن ناحية: انتشرت اللغة العربية في البلاد المفتوحة، في مصر والشام والعراق وفارس والسند، وأخذ أهل هذه الأمصار يتكلمون العربية شيئا فشيئا حتى غلبت ما عداها، فكسبت اللغة من المتكلمين بها أضعاف من كان يتكلم بها من عرب الجزيرة.
واستفادت أيضا أن كل مصر من هذه الأمصار غذى اللغة العربية بكلمات لم تكن تعرفها، فنباتات كل مصر وحيواناته وملابسه ونحو ذلك مما لم يكن للعرب به علم قد أخذه العرب وأدخلوه في لغتهم، وأخضعوه لأحكامها، نعم إن العرب قد لجأوا إلى التعريب حتى في الجاهلية، فاستعمل الأعشى كلمة: «شهنشاه» أي ملك الملوك، واستعمل امرؤ القيس: «السجنجل» وهي المرآة، وكان التجار منهم يجلبون الرياش والأثاث والثياب، وصنوف البقول، وأنواع الماعون، ويجلبون أسماءها معها.
وجاء القرآن فاستعمل كلمات معربة مثل: زنجبيل وسجل وسجين وسلسبيل إلخ. وجاء في الحديث بعض كلمات أجنبية عربت كذلك كقوله
صلى الله عليه وسلم : «فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين» والأريس والأريس في لغة أهل الشام الأكار، وهو الفلاح أو الحارث. ولكن كثر ذلك بعد الإسلام والفتح، فأخذ العرب الفاتحون من الفرس أسماء نباتاتها وحيوانها، وماعونها إلخ؛ وفعلوا كذلك في العراق والشام ومصر، فمن الحيوان: جاموس وبط وبرذون وفيل إلخ، ومن النباتات: فلفل وكمثرى وخوخ وجوز ولوز ونرجس وورد وياسمين إلخ، ومن العقاقير: قرفة ومصطكا إلخ، ومن الطيب: مسك وعنبر وصندل، ومن اللباس قميص وسروال وكرباس وديباج وإبراسيم وخز، ومن المأكول: فالوذج وسميذ وسكر إلخ، ومن المعادن: رصاص وزئبق وجص إلخ، ومن الأحجار: زمرد وياقوت وفيروز إلخ، ومن الآلات والأدوات: منجنيق وبركار وقانون وناي وبربط وقمقم وطست وطبق وكوز وفنجان ولجام إلخ مما لا يعد ولا يحصى، وقد ألفت في ذلك الكتب الكثيرة، وعلماء اللغة العربية الذين دونوا اللغة لم يكونوا مهرة في اللغات المختلفة فعدوا كثيرا من الكلمات عربية الأصل مع أنها مشتقة من لغات كثيرة، كمنبر فإنها مأخوذة من الحبشية في الغالب من ومبر بمعنى كرسي أو مجلس، وعلماء اللغة يقولون إنها من نبر بمعنى ارتفع، وكالنفاق قالوا إنه من النافقاء، وفي الحبشة معناها البدعة في الدين، وكقبس فإنها خبس في اللغة الهيروغليفية بمعنى مصباح، وكنبي معناه في الهيروغليفية رئيس الأسرة.
11
وكثيرا ما كانوا إذا عربوا كلمة حوروها إلى وزن من أوزانهم، كدينار معرب عن دينار يوس
denarius ، وقد يبقونها على وزنها من غير تغيير ولو لم يكن لها وزن. في لغتهم كخراسان وإبراهيم وآجر شطرنج وابريسم، وقد يدخلون عليها تغييرا، ومع هذا التغيير لا تتفق مع أوزانهم كشهنشاه معرب شاهان شاه.
وقد اختلف علماء العربية في ذلك فقال الجوهري: «التعريب أن تتكلم العرب بالكلمة على نهجها وأسلوبها»، وتبعه الحريري في ذلك، فقال في درة الغواص: إن فتح الشين من شطرنج خطأ والصواب كسرها لتصير على وزن قرطعب وجردحل، ويريان أنه إذا نطقت العرب بكلمة لا على وزن لغتهم كخراسان وآجر لم تكن عربية بل تبقى أعجمية.
أما سيبويه وجمهور أهل اللغة، فقد ذهبوا إلى أن التعريب أن تتكلم العرب بالكلمة الأعجمية مطلقا، ولو لم تكن على وزن كلماتها.
وكان العرب إذا حولوا كلمة إلى لغتهم أخضعوها لقوانين اللغة، فتتوارد عليها علامات الإعراب، وتعرف بأل وتضاف ويضاف إليها، وتثنى وتجمع، وتصرف ويشتق منها. فقالوا في زنديق: زندق وتزندق، وفي طراز: طرز تطريزا وهو مطرز ومطرز، ومن ديوان: ودون تدوينا، ومن نوروز: نورز، وفي لجام: ألجم وهو ملجم، والمصدر إلجام، وقالوا: درهمت الخبازي، أي صارت كالدراهم وقالوا: جنقونا بالمنجنيق.
واستمر المعربون على تعريبهم في العصر العباسي، وكان ذلك حتى في يد غير العرب، فابن المقفع في كليلة ودمنة عرب البازيار (مربى البزاة) وسرجين (الزبل) وفيج (رسول السلطان) وأساورة (جمع أسوار لمن يحسن الرمي).
والجاحظ عرب بعض كلمات أعجمية في كتبه كالكرابج (جمع كربج) وهو الحانوت؛ والنصارى النساطرة في تعريبهم استعملوا كلمات أعجمية من أسماء أمراض ونباتات وعلاج ونحوها.
وكان هذا سببا كبيرا من أسباب نمو اللغة العربية، يضاف إليه سبب آخر وهو تغير مدلول الكلمات، فالإسلام أدخل في اللغة معاني جديدة لكلمات كثيرة كمؤمن ومسلم، وصلاة وزكاة، وركوع وسجود، فمدلول هذه الكلمات في الجاهلية غيره في الإسلام، فالصلاة التي كان مدلولها الدعاء أصبح مدلولها الحركات والسكنات بأشكال خاصة، وكذلك الزكاة كان مدلولها النماء، فأصبح مدلولها إخراج المال في حال معينة وعلى نحو خاص وهكذا.
وجدت مذاهب مختلفة كمعتزلة ومرجئة وخوارج إلخ، لها معان خاصة، واستعملت كلمات استعمالات دارت مع الزمن كالحاجب، والديوان، والكاتب والوزير. قد كان يطلق الوزير - مثلا - على كل ناصر ومعين، فاستعمل في معنى خاص؛ وكانت كلمة الديوان تطلق على الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجند مثلا، ثم استعمل في المكان الذي يحفظ فيه، ثم استعملوه في مجموعة أبيات الشاعر، فقالوا: ديوان عمر بن أبي ربيعة وهكذا.
وكانت الأحداث سببا في استعمال كلمات في معان خاصة لم تكن تستعمل، فقد قال ابن دريد في الجمهرة: «ذكر بعض أهل اللغة أن كلمة الجائزة بمعنى العطية - والجمع جوائز - كلمة إسلامية، وأصلها أن أميرا من أمراء الجيوش واقف العدو، وبينه وبينهم نهر، فقال: من جاز هذا النهر فله كذا وكذا، فكان الرجل يعبر النهر فيأخذ مالا، فيقال: أخذ فلان جائزة؛ فسميت جوائز لذلك».
وجاءت العلوم فوضع لها العلماء مصطلحات خاصة، أخذوا أكثرها من كلمات عربية الأصل وحوروا مدلولها، فالعروض، والبحر الطويل، والبسيط، والمديد، والنحو، والفاعل، والمفعول، والمنطق، والقضية، والموضوع، والمحمول وأصول الفقه، والقياس، والاستحسان إلخ، كل هذه معان دخلت في اللغة ومعاجمها لم يكن للعرب الأولين بها علم.
وهكذا كان الإسلام والفتح وما تبعهما من حضارة سببا في انتشار اللغة وسعتها، ولكن هناك ناحية أخرى لا يصح إغفالها، وهو أن الإسلام والفتح والحضارة أنتجت أشياء لها خطرها؛ من ذلك أن جزيرة العرب أصبحت مرتادا للأعاجم، فحاضرة الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين هي المدينة، ومقصد المسلمين كلهم في الحج مكة، فكان الناس من الأعاجم يأتون أفواجا للحج أحيانا، ولقضاء مصالحهم في حاضرة الخلافة أحيانا، وعرب الجزيرة بحكم الفتح قد ملكوا رقيقا كثيرا سكنوا مع سادتهم في الحجاز وغيره، فاختلط العجم بالعرب في البيوت وفي الأسواق وفي المناسك وفي المساجد؛ فتطرق من ذلك الخلل في لسان العرب، وكانوا يتكلمون العربية عن سليقة، فأخذ الفساد يدب في تلك السليقة وظهر اللحن؛ وكذلك كان حال الأمصار الأخرى، خالط عرب مصر القبط، وعرب الشام الشاميين، وعرب العراق الفرس والنبط وهكذا، فدب اللحن إليهم أيضا، وكان مما ساعد على هذا اللحن أن اللغة العربية لغة معربة، وهذا يجعلها من أصعب اللغات ويجعل الفساد يسرع إليها، وكان هذا اللحن قديما، حتى رووا أن رجلا لحن في حضرة النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: أرشدوا أخاكم؛ ورووا أن كاتبا لأبي موسى الأشعري كتب إلى عمر: «من أبو موسى» فكتب عمر إلى أبي موسى: عزمت عليك لما ضربت كاتبك سوطا؛ ورووا أن ابن عمر كان يضرب بنيه على اللحن . وسرى هذا اللحن إلى البادية، فقال الجاحظ: أول لحن سمع بالبادية هذا عصاتي، ولحن محمد بن سعد بن أبي وقاص لحنة، فقال حسن: إني لأجد حرارتها في حلقي؛ وكان الحجاج بن يوسف يلحن أحيانا وفشا اللحن في العصر العباسي أكثر مما كان لكثرة الاختلاط.
12
كل هذا حمل العلماء على وضع قواعد لحفظ العربية، فكان النحو وكان علم اللغة. •••
كما اتجه المحدثون إلى الحديث يجمعونه، والفقهاء إلى الحديث وفتاوى الصحابة والتابعين يدونونها، اتجه قوم إلى اللغة يجمعونها، وكانت مهمتهم جمع الكلمات التي نطق بها العرب وتحديد معانيها، فرحل العلماء إلى البادية بمدادهم وصحفهم يسمعون ويكتبون، ورحل عرب البادية إلى الحضر ليؤخذ عنهم؛
13
ولكن يؤخذ على هؤلاء العلماء الذين رحلوا ورحل إليهم ودونوا اللغة أنهم اعتبروا اللغة العربية وحدة مع اختلاف القبائل ألفاظا وتراكيب ولهجة، فلم يرسم لنا الراحل من العلماء خطة سيره، وأي القبائل نزل بينها، وما هي الألفاظ واللهجات التي أخذها عنها، وما الألفاظ واللهجات التي أخذها عن القبيلة الأخرى؛ ولما رحل البدوي إلى المصر ماذا أخذ عنه من الألفاظ واللهجات؟ ومن أي قبيلة كان؟ نعم وردت شذرات من هذا القبيل، ولكنها قليلة جدا لا تكفينا لتفريق اللغة على القبائل.
لو فعلوا ذلك لاستفدنا فوائد كثيرة، فعرفنا كل ما يختص بالقبيلة من ألفاظها ولهجاتها، وعرفنا المترادفات ومنشأها، وعرفنا الألفاظ التي امتازت بها كل قبيلة، وعرفنا سببها إلخ، ولاستنتج الباحث من ذلك كله أشياء قيمة جدا؛ ولكنهم لم يفعلوا وساروا في جمعهم على نظرية وحدة اللغة العربية، بقطع النظر عن اختلاف القبائل.
قد تقول إن ما تطلبه ميسور، فلدينا الشعراء، وقد عرفنا قبائلهم معرفة صحيحة فنحن نعرف من من الشعراء من تميم، ومن من قريش، إلخ، فإذا جمعنا شعر الشعراء من قبيلة واحدة ودرسنا ألفاظهم ومعانيهم وتراكيبهم أمكننا أن نستنتج كل ما نريد. فأقول إن هذا صحيح إلى حد ما، ولكنه لا يكفي؛ لأن الشعر أحد المصادر، لا كلها، فهناك ألفاظ تنطق بها القبيلة ولا تدخل في شعر شعرائها، لأنها ليست من الألفاظ الشعرية، ويكاد يكون للشعر معجم خاص.
على أن هذا يسلمنا لمشكلة أخرى هي من أصعب المشاكل وأحوجها للنظر، وهي أن الشعر والأدب الذي ورد عن العرب يكاد يكون كله بلغة واحدة، فقد حدثونا عن عنعنة تميم (فتقول في أن عن)، وتلتلة بهراء فيقولون: (تعلمون وتصنعون بكسر التاء)، وكشكشة ربيعة فيقولون: (إنكش ورأيتكش مكان إنك ورأيتك)، وكسكسة هوازن فيقولون: (أعطيتكس ومنكس وعنكس مكان أعطيتك ومنك وعنك). وحدثونا أن لغة تلزم الأسماء الخمسة الألف فنقول: هذا أباه وأخاه، وحدثونا عن أشياء كثيرة من هذا القبيل اختلف فيها قبائل العرب ويستشهدون على كل ذلك بالبيت أو البيتين أو الثلاثة، فإذا نحن عدنا إلى ما روي عن هذه القبائل من شعر لم نجد لما حدثونا به أثرا، فنرجع إلى شعراء تميم فلا نجد عنعنة، وإلى شعراء ربيعة فلا نجد كشكشة وهكذا، فما علة ذلك وقد كان هذا في شعر الجاهليين والإسلاميين على السواء؟
قد يقال إن الرواة غيروا ما ورد ونطقوا به على وفاق اللغة الفصحى، ففتحوا - مثلا - ما ورد من التاءات المكسورة، وحوروا عن إلى أن، وقد ورد بالفعل روايتان لقول ذي الرمة:
أعن ترسمت من خرفاء منزلة - وأأن ترسمت، وقول ابن هومة: أعن تغنت على ساق مطوقة - وأأن تغنت.
ولكن ذلك لا يحل الإشكال، فهناك كلمات لو نطق بها الشاعر على وفاق لغته وأراد الراوي أن يحولها إلى اللغة الفصحى لاختل الوزن ككشكشة ربيعة وكسكسة هوازن، فلو قال الشاعر: إنكش، وحورها الراوي «إنك» لانكسر البيت؛ من أجل هذا ذهب بعض الباحثين المستشرقين إلى افتراض أن الشعراء كانت لهم لهجة ينظمون عليها شعرهم، ويتبعونها في نظمهم، مهما اختلفت قبائلهم، وأن الشاعر كان إذا تكلم كلاما عاديا تكلم بلسان قبيلته ولهجتها، فإذا نظم اتبع في نظمه الطريقة المشتركة، كما هو الشأن اليوم بين المتكلمين بالعربية من مصريين وشاميين وعراقيين وغيرهم، يتكلمون بلهجات مختلفة، ويتحدون في لغة الأدب ولغة الشعر، وهو فرض يحتاج إلى نظر، وربما يستأنس له بقول ابن جني في الخصائص : «فإذا اجتمع في لغة رجل واحد لغتان فصاعدا، فينبغي أن تتأمل حال كلامه، فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتين في الاستعمال، كثرتها واحدة فإن أخلق الأمر به أن تكون قبيلته تواضعت في ذلك المعنى على تينك اللفظتين؛ لأن العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليه في أوزان أشعارها»
14
إلخ.
على كل حال اتجاه العلماء إلى جمع اللغة باعتبارها وحدة، وكانت مصادرهم متعددة، فأول ذلك القرآن الكريم، ففيه مفردات واستعمالات كانت أصح مصدر لعلماء اللغة، قال الراغب الأصفهاني: «ألفاظ القرآن هي لب كلام العرب، وزبدته وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم، وما عداها وما عدا الألفاظ المتفرعات عنها والمنتقاة منها هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة، وكالحثالة والتبن بالنسبة إلى لبوب الحنطة».
15
وعلى الجملة كانت ألفاظ القرآن مادة كبيرة من مواد اللغة اجتهد العلماء في تحديد معانيها، وكانت حافزا لهم على الرحلة والرواية لتبيين مدلولها؛ كما كانت ألفاظه سببا في أن يجمعوا حول كل لفظة ما يتصل بها ويبين اشتقاقها وما تفرع من مادتها، فإذا جاءوا مثلا لكلمة أجاج في قوله تعالى: « هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج» قالوا إن معناها شديد الملوحة، وقارنوا بينها وبين أجيج النار، وقولهم أج الظليم إذا عدا، إلخ؛ وقارنوا بين استعمال الكلمات المختلفة في القرآن ذوات المبنى الواحد لتحديد معانيها، ووجوه الشبه بينها فقارنوا بين فجر في قوله تعالى:
وفجرنا الأرض عيونا
والفجر في قوله:
والفجر * وليال عشر
والفجر في قوله:
إن قرآن الفجر كان مشهودا
والفجار في قوله تعالى:
إن كتاب الفجار لفي سجين
وقوله:
بل يريد الإنسان ليفجر أمامه
إلخ.
كذلك كان من مصادرهم ما ورد من الشعر الذي يحتج به من جاهلي وإسلامي فقد أتى فيه كثير من الغريب، فأخذوا يبحثون عن معانيه؛ والشعر نفسه بعضه يدل على معاني بعض.
ومن مصادرهم سماع الأعراب في البادية؛ وكثيرا ما كانوا يخرجون ويمضون الأعوام فيها، ويخالطون الأعراب ويؤاكلونهم ويشاربونهم، ويسمعون منهم ويدونون، يسمعون الرجل والمرأة والغلام يتحدثون في الإبل والمراعي والزواج والطلاق وجميع شئونهم، ويصغون إليهم، وينقلون عنهم؛ وقد كثر ذلك من العهد الأموي إلى العصر العباسي الأول إلى ما بعده، وروي عنهم من ذلك الشيء الكثير؛ فيقول الأصمعي: سمعت صبية «بحمى ضرية»
16
يتراجزون فوقفت وصدوني عن حاجتي، وأقبلت أكتب ما أسمع فأقبل شيخ فقال: أتكتب كلام هؤلاء الأقزام الأدناع.
17
وقال أبو زيد: قلت لأعرابية بالعيون ابنة مائة سنة: مالك لا تأتين أهل الزققة؟ فقالت: إني أخزى أن أمشي في الزقاق؛ أي أستحي. وقال آخر: سمعت أعرابية تقول لابنتها: همي أصابعك في رأسي، أي حركي أصابعك فيه.
18
وهذا النحو من التلقي عن العرب قد يكون محدودا مضبوطا لا يحتمله شك، كما إذا أشار إلى شيء ونطقوا بلفظه، فأشاروا إلى إنسان وقالوا إنسان، وإلى يد وقالوا يد، وإلى عين وقالوا عين؛ وقد تدل عليه القرائن، فإذا سمع أحد قول الشاعر:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
طاروا إليه زرافات ووحدانا
فهم أن زرافات بمعنى جماعات، وقد يكون غير محدود يدخل الشك في معناه، بل لا يفهمه العربي نفسه في دقة، فقد مر أن أعرابيا سمع كلمة «اليرندج» ففهم منها ومما أحاط بها أنه نسج ينسج، مع أنه جلد يصبغ. وسمع أعرابي «اليلب» فظنه أجود الحديد مع أنه الجلد
19
إلخ. وقال أبو حاتم: قلت لأم الهيثم ما الوغد؟ فقالت: الضعيف، فقلت: إنك قلت مرة الوغد العبد، فقالت: ومن أوغد منه؟ فإذا كان هذا الشأن في الأعراب أنفسهم، فما ظنك بالعالم اللغوي يقيم بينهم؟ لا شك أنه يخطئ أحيانا، ويقارب أحيانا، وهذا - من غير شك - سبب من أسباب ما نرى من اختلاف في تفسير الكلمات في كتب اللغة، فيقولون - مثلا - القيض: قشرة البيضة العليا اليابسة، وقيل هي التي خرج فرخها أو ماؤها كله، ويقولون: أرض بسيطة منبسطة مستوية، وقيل البسيطة الأرض، اسم لها؛ وقال أبوعبيد: البسيطة الأرض العريضة الواسعة، إلى كثير من أمثال ذلك، فهم يختلفون في تفسير الكلمات بحسب ما فهموا من الأعراب .
هذه هي المصادر الأولى لجمع اللغة. القرآن، والشعر الموثوق بصحته والموثوق بعربية قائله، ومشافهة العرب، وبعد الرعيل الأول من العلماء كانت إحدى المصادر أخذ العلماء عمن قبلهم؛ وبهذا جمعوا ما رواه العلماء المختلفون من المصادر السابقة، فيقولون: أملى علينا فلان كذا؛ ويقول الفراء: سمعت الكسائي يقول إنه سمع اسقني شربة ما (بالقصر)، يريد شربة ماء. ويروي عبد الرحمن فيقول: حدثني عن الأصمعي قال : سمعت أعرابيا يدعو لرجل فيقول: جنبك الله الأمرين (يريد الفقير والعري). ويقول أبو المنهال: أخبرنا أبو زيد قال: «السانح الذي يليك ميامنة إذا مر، من طير أو ظبي، والبارح الذي يليك مياسرة إذا مر بك» إلخ. وقد يأخذ العالم من كتاب فيقول ابن الأنباري: وجدت في كتاب أبي عن أحمد بن عبيد عن أبي نصر، كان الأصمعي يقول: الجلل الصغير اليسير، ولا يقول الجلل العظيم
20
إلخ.
وكان هذا سبب وفرة الجمع؛ لأن كل عالم جمع أشياء سمعها وعرفها واقتصر عليها، وبجانبه عالم آخر سمع أشياء أخرى وعلمها واقتصر عليها، فجاءت الطبقة التي بعدهم فجمعت ما تفرق عند العلماء، ومن ذلك كانت كل طبقة أوسع معرفة ممن قبلها، وشأنها في ذلك شأن المحدثين، فقد كان كل صحابي يعرف بعض الحديث، فجاء التابعي فسمع من جملة من الصحابة، وجاء تابع التابعي فسمع من عدد أكبر، حتى جاءت طبقة رحلت إلى مصر والشام والعراق وجمعت ما عند العلماء، وكان لنا من ذلك كتب الحديث الضخمة كما رأيت، بل قد رتب علماء اللغة درجة الأخذ والتحمل كما فعل المحدثون، فقال: «أملى علينا» أرفع من «سمعت»، و«سمعت» أعلى من «حدثني»، و«حدثني» خير من «أخبرني» كما يفعل المحدثون.
وكان دون ذلك كله الأخذ من الكتب والصحف.
وبدءوا في رواية اللغة بدءهم في الحديث، فكانوا يذكرون السند، فيقول ثعلب - مثلا - في أماليه: حدثني أبو بكر بن الأنباري عن أبي العباس عن ابن الأعرابي قال: يقال لحن الرجل يلحن لحنا فهو لاحن، إذا أخطأ ولحن يلحن لحنا فهولحن، إذا أصاب وفطن؛ ولكن علماء اللغة لم يستمسكوا بذلك طويلا كما استمسك المحدثون، فلم يكن لنا معجم لغة مسند كمسند البخاري ومسلم. والسبب في هذا أن اللغة أوسع جدا من الحديث، فلو اتبع في كل كلمة وكل اشتقاق الإسناد لبلغ المعجم حدا لا يقدر، ولأن اللغة فيما عدا ألفاظ القرآن ليس لها من التقديس ما للحديث.
كذلك مما اتبع في اللغة على نمط الحديث أنهم رتبوا ما ورد من اللغة ترتيب أهل الحديث. ففصيح وأفصح، وجيد وأجود، وضعيف ومنكر ومتروك، كما فعلوا في الحديث من صحيح وحسن وضعيف، فقالوا: إن اللغة التي ورد بها القرآن أفصح مما في غيره، فقالوا: أوفى بالعهد أفصح من وفى بالعهد؛ لأن الأولى لغة القرآن؛ وقالوا: المزراب لغة في الميزاب وليست فصيحة؛ وقالوا: الخوى الجوع مقصور، وقد مده قوم وليس بالعالي؛ وقالوا: رضبت الشاة لغة مرغوب عنها، والفصيح ربضت؛ وقالوا: دمعت عيني (بكسر الميم) لغة رديئة. والظاهر أنهم راعوا في تفضيل لغة على لغة، وجعل بعض اللغات أفصح من بعض، وقبول بعض اللغات واللهجات دون بعض أمورا كثيرة، منها: أن الكلمة إذا نطقت بها جملة قبائل كانت خيرا من الكلمة تنطق بها قبيلة واحدة، ومنها: أن الكلمة إذا وردت على القياس النحوي والصرفي فضلوها على غيرها. «قال رجل لأبي عمرو ابن العلاء: أخبرني عما وضعت مما سميت عربية، أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال: لا، فقلت: كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة؟ فقال: أحمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات». ومنها: أن الكلمة إذا رواها علماء كثيرون كانت أصح من الكلمة رواها راو واحد. قال في الجمهرة: «قال الأصمعي: أرض قرواح وقرياح وقرحياء قفراء ملساء، وقريحاء لم يجئ بها غير الأصمعي». وقال القالي: «قال اللحياني: يقال قعد فلان الأربعاء والأربعاوي، أي متربعا وهو نادر ولم يأت به أحد غيره» إلخ.
ومما اتبعوا فيه نمط المحدثين تجريح الرجال وتعديلهم، فعدلوا الخليل بن أحمد وأبا عمرو بن العلاء مثلا، وجرحوا قطربا المتوفي سنة 206، وهو الذي قال فيه ابن السكيت: كتبت عنه قمطرا ثم تبينت أنه يكذب في اللغة فلم أذكر عنه شيئا، ولكن لم يبلغوا في ذلك مبلغ المحدثين في دقة التحري والتقصي.
على كل حال ما جمع من اللغة ليس كله في درجة واحدة من الثقة به، وليس في درجة واحدة من الصحة، فقد تطرق إليه الشك أحيانا، والخلل والفساد أحيانا من عدة جهات: (1)
أن بعض علماء اللغة لم يكن ثقة فيما يرويه قال الخليل بن أحمد: «إن النحارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادة اللبس والتعنت».
21
وقال اللاحقي: سألني سيبويه: هل تحفظ للعرب شاهدا على إعمال فعل؟ قال: فوضعت له هذا البيت:
حذر أمورا لاتضهر وآمن
ما ليس منجيه من الأقدار
وقال الخليل: أما ضهيد وهو الرجل الصلب، فمصنوع لم يأت في الكلام الفصيح. وقالوا: عنشج، وهو الرجل المتقبض الوجه السيء المنظر مصنوع. وفي الجمهرة: قد جاء في باب «فيعلول» كلمتان مصنوعتان في هذا الوزن، قالوا: عيدشون دويبة، وليس بثبت، وصيخدون، قالوا: الصلابة ولا أعرفها. وقد ورد من ذلك الشيء الكثير، وقد حملهم على الوضع حب الظهور بمعرفة ما لم يعرفه أحد من العلماء، والضيق عند السؤال، وما كان بين العلماء من منافسات شديدة بين يدي الخلفاء والأمراء وفي محضر الناس. (2)
ما سبق من أخذ بعض العلماء اللغة عن الكتب والصحف، وقد كانت الكتابة في عصورها الأولى غير منقوطة ولا مشكولة إلا القرآن، فدخل اللغة ما سمي التصحيف. قال المعري: أصل التصحيف أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره عن الصواب، قال في المزهر: وقد وقع فيه جماعة من الأجلاء من أئمة اللغة أئمة الحديث، حتى قال الإمام أحمد: «و من يعري من الخطأ والتصحيف؟»
22
حتى الأئمة الكبار في اللغة مثل الخليل والأصمعي وغيرهما وقعوا في التصحيف، فمن ذلك يوم «بعاث» وهو يوم كان فيه حرب بين الأوس والخزرج، فجاء في كتاب العين «بغاث» بالغين المعجمة، وكان هذا مما طعن فيه على كتاب العين لأنه يوم مشهور لا يصح أن يخطئ فيه الخليل:
وقال العجاج يصف امرأة من نساء عفيفات:
وحاضن من حاجنات ملس
من الأذى ومن قراف الوقس
في قنس مجد كل قنس
23
فصحفه أبو عبيدة فرواه القبس بالباء. وروى البصريون بيت الأعشي:
نفى الذم عن رهط المحلق جفنة
كجابية الشيخ العراقي تفهق
وفسروه بأن الشيخ العراقي إذا تمكن من الماء ملأ جابيته لأنه حضري، فلا يعرف مواقع الماء ولا محاله، وتقول أم الهيثم الأعرابية الكلابية - راوية أهل الكوفة - إنما هي كجابية السيح أي النهر الذي يجري على جابيته فماؤها لا ينقطع لأن النهر يمده.
24
وفي المثل: دقك بالمنحاز حب القلقل، فقال العامة فيه: حب الفلفل، قال الأصمعي: «وهو تصحيف إنما هو بالقاف وهو أصلب ما يكون من الحبوب». واختلفوا في بيت الحارث بن حلزة يذكر قوما أخذوهم بذنب غيرهم:
عنتا باطلا وظلما كما تعتر
عن حجرة الربيض الظباء
فقرأه بعضهم «تعتر» بالعين والراء المهملتين، ذلك أنهم كانوا في الجاهلية يقولون: إن بلغت إبلي مائة عترت عتيرة. فإذا بلغت مائة ضن بغنمه فصاد ظبيا، فعتره أي ذبحه. يقول الحارث: هذا الذي تفعلونه باطل وظلم كما يعتر الظبي عن ربيض الغنم. وكان الأصمعي يقرأ البيت «تغنز» بالزاي المعجمة، ويفسره بأنها تطعن بالعنزة، وهي الحربة، وعد العلماء قوله تصحيفا، وجاء في الحديث: اكفتوا صبيانم حتى تذهب فحمة العشاء،
25
فكان أبو عمرو بن العلاء يقولها بالفاء، وكان عيسى بن عمر يقولها بالقاف، وكل يرمي الآخر بالتصحيف.
وجاء في اللغة من ذلك الشيء الكثير، بعضه عرف واستكشف، وبعضه لم يعرف ولم يستكشف، وهذا - من غير شك - يوقع الشك في بعض ما ورد في اللغة، فمثلا يقول في القاموس: «الغلث كالعلث في معانيه» ولا أظن إلا أن إحدى الكلمتين مصحفة عن الأخرى؛ لأن راويها أخذها عن الكتب. (3)
عدم تحديد المعاني التي ينقلونها، وذلك أن كثيرا من الكلمات - كما رأيت - كان ينقل سماعا عن العرب، ويفهم السامع معانيها لا بالإشارة ولكن بالقرائن، فيفهم سامع شيئا ويفهم سامع آخر شيئا آخر؛ فقد سمعوا مثلا قول العربي: ما أصابتنا العامقابة، ففسرها بعضهم بقطرة من مطر، وفسرها بعضهم بالرعد، ويتصل بهذا ما كان يروى لهم من شعر، فكانوا يختلفون في تفسير غريبه اجتهادا منهم واستعمالا للقرائن، وهم يختلفون في فهمها. (4)
اعتمادهم في أخذ مفردات اللغة أحيانا على أبيات نسبت إلى الجاهليين أو الإسلاميين زورا، وإنما هي من وضع الشعراء أمثال خلف وحماد فاستشهدوا بأبيات من لامية العرب - أقيموا بن أمي صدور مطيكم - وقد قال الثقات إنها مصنوعة.. إلخ. (5)
تعرض اللغويين إلى أصل الكلمات، وبيان أنها أخذت من الفرس أو الروم أو نحوهما، وكان علمهم بلغات من حولهم ناقصا فلم يكن فيهم من يعرف الهيروغليفية والحبشية والسريانية واليونانية والحميرية والسبئية معرفة صادقة حتى يستطيع أن يقول قولا يعتمد عليه في أصل الكلمات واشتقاقها؛ ولهذا وقعوا في كلامهم في المعاجم في أخطاء كثيرة، فزعموا في كلمات أنها عبرانية وليست عبرانية وكلمات سريانية وليست كذلك، وكلمات عربية وهي ليست بها، وادعوا اشتقاقها من كلمات وليست كذلك إلخ. (6)
ما ذكره ابن الأنباري من أن الكلمات قسمان: كلمات متواترة وآحاد، فأما المتواترة فلغة القرآن وما تواتر من السنة وكلام العرب، وهذا قطعي يفيد العلم، وأما الآحاد فما تفرد بنقله بعض أهل اللغة، ولم يوجد فيه شرط التواتر اه. وهذا المتوتر قليل إذا قيس بغيره، فكثير من الكلمات لم يروها جمع من أهل المتواتر عن غيرهم وأقصى ما في الأمر أنها رويت عن الخليل وأبي عمرو والأصمعي وأقرانهم، ولا شك أن هؤلاء ما كانوا معصومين ولا بالغين حد التواتر،
26
فهي مظنونة لا مقطوع بها.
من كل هذا نتبين أن هناك ألفاظا مقطوعا بصحتها وهي ألفاظ القرآن ونحوها، وألفاظا مظنونة وهي غيرها، تحتمل الشك وتحتمل الفساد؛ ومع هذا فلا ضير علينا، فيكفي في اللغة المواضعة والاتفاق على الكلمة، ولوخلقت خلقا، وكل الذي نريد أن نستفيده من هذا أن اللغة وهذا شأنها فيما عدا ما ذكرنا من الألفاظ لم تبلغ حدا من التقديس يصح أن تهدر معه حرية الأمم في اختيار الكلمات المناسبة ، وإماتة غير المناسبة، وتكميل ما نقص، وخلق ما ليس بموجود. •••
كان طبيعيا أن يسير جمع اللغة في مراحل ثلاث:
المرحلة الأولى:
جمع الكلمات حيثما اتفق؛ فالعالم يرحل إلى البادية يسمع كلمة في المطر، ويسمع كلمة في اسم السيف، وأخرى في الزرع والنبات، وغيرهما في وصف الفتى أو الشيخ إلى غير ذلك، فيدون ذلك كله حسما سمع من غير ترتيب إلا ترتيب السماع، كالمحدث كان يسمع حديثا في الوضوء، وحديثا في البيع، وحديثا في الميراث، فيجمع ذلك كله على ما سمع من غير ترتيب؛ ودليل ذلك ما روي عن العلماء الأولين في روايتهم وعن صحفهم من تفسير كلمات متفرقة لا يربطها رابط.
المرحلة الثانية:
جمع الكلمات المتعلقة بموضوع واحد في موضع واحد، كالمحدث يجمع أحاديث الصلاة، ويسميها كتاب الصلاة، وأحاديث البيع، ويسميها كتاب البيع، كما فعل مالك في الموطأ، والذي دعا إلى هذا في اللغة - على ما يظهر - أنهم رأوا كلمات متقاربة المعنى، فأرادوا تحديد معانيها، فدعاهم ذلك إلى جمعها في موضع واحد. مثال ذلك: ما روي عن الأصمعي: «من أصوات الخيل الشخير والنخير والكرير: فالأول من الفم؛ والثاني من المنخرين، والثالث من الصدر» ومثل قوله: «الهتل من المطر أصغر من الهطل». أو رأوا كلمات متقاربة اللفظ متقاربة المعنى، فأرادوا تحديد معانيها في دقة، مثال ذلك ما قال الكسائي: «القضم للفرس، والخضم للإنسان»، ومثل: «القبض الأخذ بأطراف الأنامل، والقبض الأخذ بالكف كلها» و«القد طولا، والقط عرضا» إلخ. أو رأوا كلمة واحدة وضعت لمعان مختلفة ففسروها، كالذي قال الأصمعي: «العين النقد من الدراهم والدنانير وليس بعرض. والعين مطر أيام لا يقلع، والعين عين الإنسان، والعين عين البئر، والعين عين الميزان، والعين عين النفس أن يعين الرجل الرجل ينظر إليه فيصيبه بعين إلخ»: ولكن هذه المحاولة الأولى لم تكن مستقصية ولا وافية، بل كانت خطرات وأمثلة منثورة.
وتوجت هذه المرحلة بكتب تؤلف في الموضوع الواحد، فألف أبو زيد كتابا في المطر، وكتابا في اللبن. وألف الأصمعي كتبا كثيرة صغيرة كل كتاب في موضوع، فكتاب في النخل والكرم وكتاب في الشاء، وكتاب في الإبل، وكتاب في أسماء الوحوش، وكتاب في الخيل، وكتاب النبات والشجر إلخ.
ولبيان نوع التأليف في ذلك نسوق مثلا، قال الأصمعي في كتاب النخل والكرم: «من صغار النخيل الجثيث، وهو أول ما يطلع من أمه، وهو الودي والهراء والفسيل. وإذا كانت الفسيلة في الجذع ولم تكن مستأرضة فهو خسيس النخل، والعرب تسميها الراكب ، فإذا قلعت الودية من أمها بكر بها قيل ودية منعلة، فإذا غرسها حفر لها بئرا فغرسها ثم كبس حولها بترنوق المسيل والدمن، فتلك البئر هي الفقير. يقال فقرنا للودية تفقيرا والأشأ من صغار النخل».
ويقول: ومن نعوت سعفها وكربها وقلبها: يقال للفسيلة إذا أخرجتقلبها قد أنسغت. ويقال للسعفات اللواتي يلين القلبة «العواهن» في لغة أهل الحجاز أما أهل نجد فيسمونها «الخوافي»، وأصول السعف الغلاظ «الكرانيف» الواحدة كرنافة، والعريضة التي تيبس فتصير مثل الكتف هي الكربة، وشحمة النخلة هي الجمار، فإذا صار للفسيلة جذع قيل قعدت، وفي أرض بني فلان من القاعد كذا وكذا، والسعف هو الجريد عند أهل الحجاز، واحدته جريدة وهو الخرص وجمعه خرصان، والخلب الليف واحدته خلبة».
27
المرحلة الثالثة - وضع معجم يشمل كل الكلمات العربية على نمط خاص إليه؛ ليرجع إليه من أراد البحث عن معنى كلمة.
وأول من فكر في هذا الموضوع - في اللغة العربية - الخليل بن أحمد - على ما بلغنا - فكر في أن يجمع كل ما عرف من ألفاظ العرب في كتاب مرتب، وقد اعترضته في ذلك صعوبتان: الأولى كيف يحصر لغة العرب، الثانية كيف يرتبها.
أما المسألة الأولى فحلها بالطريقة الآتية: رأى أن الكلمات العربية أما أن تكون مركبة من حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، ولا تزيد الكلمة العربية عن ذلك باعتبار أصولها، ثم رأى أن الكلمات الثنائية - عقلا - يمكن حصرها بأن يفرض أن الحرف الأول مثلا ا فالحرف الثاني قد يكون باء أو تاء أو ثاء إلخ، فإذا ضربنا 1 × 27 (وهي عدد حروف الهجاء) أمكن أن نحصر الكلمات الثنائية المبدوءة بالألف. ثم نأخذ الباء ونضربها في 26، والتاء ونضربها في 25 وهكذا، ومجموع كل هذا نضربه في 2 ليكون معنا مقلوب الحروف؛ لأن التقديم والتأخير معتبر في التركيب، فيكون مجموع ذلك جميع الكلمات المركبة من حرفين.
ويلاحظ أنه بهذا ترك الكلمات المركبة من حرفين متماثلين مثل أ أ، ب ب.
ثم عمل كذلك في الثلاثيات، ففرض أن كل ثنائي مما تقدم يعتبر كأنه حرف واحد، فتضرب عدد الثنائيات في 26 وما بعده في 25 وهكذا، ومجموع ذلك يضرب في 6 جملة المقلوب، وفعل مثل ذلك في الرباعي والخماسي.
وبذلك حصر جميع الكلمات التي يمكن أن توجد - نظريا - ثم بين منها المهمل والمستعمل، ويعني بالمهمل الكلمة التي لم تقلها العرب ولم تستعملها في معنى خاص، كعضخ فإنها استعملت مثلا خضع ولم تستعمل عضخ، فكان الخليل إذا وصل إلى مادة مهملة نبه على أنها مهملة، وإذا وصل إلى مادة مستعملة أبان معناها.
المسألة الثانية - نرى أن الخليل رتب الكلمات على حسب أوائلها، ولكنه لم يراع الترتيب المعروف عندنا: ا ب ت إلخ، بل رتبها هكذا:
ع ح ه خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م وا ي
وقد سمى كتابه كتاب العين؛ باعتبار أول أجزائه، كما سمى أبو تمام كتابه بالحماسة؛ لأنه أول باب من أبوابه العشرة.
وقد راعى في هذا الترتيب مخارج الحروف، فبدأ بحروف الحلق، ثم ما بعدها من حروف الحنك، ثم الإضراس، ثم الشفة، وجعل حروف العلة آخرا، وهي الحروف الهوائية.
وبدأ من حروف الحلق بالعين لأنه من أقصى حروف الحلق؛ وقد لوحظ عليه أن العين ليست أقصى الحروف مخرجا، وإنما أقصاها الهمزة ثم الهاء.
وقد روي عن الخليل أنه قال: لم أبدأ بالهمزة لأنه يحلقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفية لا صوت لها، فنزلت إلى الحيز الثاني وفيه العين والحاء، فوجدت العين أنصع الحرفين.
وقد جاء في دائرة المعارف الإسلامية أنه اتبع في ترتيبه كتاب العين ما كان يتبعه علماء النحو في اللغة السنسكريتية؛ فقد كانوا يبدءون بحروف الحلق وينتهون بحروف الشفة.
وقد شك في هذا الكتاب كثير من الثقات، وقال بعضهم: إنه من عمل الليث بن المظفر بن نصر بن سيار الخراساني. وروي عن ابن المعتز أنه قال: كان الخليل منقطعا إلى الليث، فلما صنفه وقع عنده موقعا عظيما؛ فأقبل على حفظه وحفظ منه النصف، ثم اتفق أنه احترق ولم يكن عنده نسخة أخرى والخليل قد مات، فأملى النصف من حفظه، وجمع علماء عصره فكملوه على نمطه.
28
وروي عن أبي الطيب اللغوي أن الخليل رتب أبوابه وتوفي من قبل أن يحشيه. وعن ابن راهوايه: كان الخليل عمل منه باب العين وحده، وأحب الليث أن ينفق سوق الخليل فصنف باقيه، وسمى نفسه الخليل من حبه له؛ فهو إذا قال الخليل بن أحمد فهو الخليل، وإذا قال الخليل مطلقا فهو يحكي نفسه؛ فجميع ما فيه عن الخليل منه لا من الخليل.
وقال النووي: كتاب العين المنسوب إلى الخليل إنما هو من جمع الليث عن الخليل.
وقال ابن جني في الخصائص: أما كتاب العين ففيه من التخطيط والخلل والفساد ما لا يجوز أن يحمل على أصغر أتباع الخليل. وقال أبو علي القالي: «لما ورد كتاب العين من بلاد خراسان في زمن أبي حاتم أنكره هو وأصحابه أشد الإنكار؛ لأن الخليل لو كان ألفه لحمله أصحابه عنه، وكانوا بذلك أولى من رجل مجهول، ثم لما مضت بعده مدة طويلة، ظهر الكتاب في زمان أبي حاتم، وذلك في حدود سنة 205، فلم يلتفت أحد من العلماء إليه، والدليل على كونه لغير الخليل أن جميع ما وقع فيه من معاني النحو إنما هو على مذهب الكوفيين، بخلاف مذهب البصريين الذي ذكره سيبويه عن الخليل، وفيه خلط الرباعي والخماسي من أولهما إلى آخرهما».
وعلى العكس من ذلك كان أبو العباس المبرد يرفع قدر كتاب العين ويرويه وكذا ابن درستويه، ويكاد لا توجد لأبي إسحق الزجاج حكاية في اللغة العربية إلا منه.
29
وقال ابن النديم في الفهرست: «قرأت بخط أبي الفتح النحوي ... قال أبو بكر بن دريد: وقع بالبصرة كتاب العين سنة 48 (يعني ومائتين)،قدم به وراق من خراسان، وكان في ثمانية وأربعين جز ءا فباعه بخمسين دينارا».
وعلى كل حال فيكاد العلماء يتفقون على أن فكرة جمع اللغة على هذا النحو هي للخليل بن أحمد، وإن اختلفوا في أنه ألف كتاب العين كله أو بعضه، أو قصر على وضع الفكرة فيه.
وكان في كتاب العين جملة عيوب: (أولا):
صعوبة الأخذ منه لصعوبة ترتيبه؛ لأنه رتب حروفه حسب المخارج كما علمت، ومن الصعب تتبع هذا، ولأنه خلط بين الثلاثي المضاعف والرباعي المضاعف، وفيه أيضا خلط كثير نبه عليه الزبيدي في مختصر العين. (ثانيا):
أنه يذكر الكلمة ويذكر مقلوبها، فيذكر في مادة ع ب د مثلا ب ع د، إلخ، فمن الصعب عند البحث عن كلمة معرفة أيها الأصل وأيها المقلوب. (ثالثا):
أنه وقع فيه تصحيف كثير لما علمت من أن الكتابة في ذلك العصر لم تكن تنقط، وحروف اللغة العربية فضلا عن ذلك متقاربة في الشكل فبين الفاء في الوسط والغين تقارب، والتاء والنون كذلك إلخ، وهذا قد أوقع اللغة العربية ومؤلفاتها في كثير من اللبس، ولم ينتبه إليه من مؤلفي المعاجم إلا الفيروزابادي صاحب القاموس، فلم يكتف بالضبط بالقلم بل كان يضبط بالكلمات فيقول بالتاء المثلثة مثلا، على وزن غراب، وعلى وزن أمير إلخ.
وعل كل حال فقد أخذوا على كتاب العين كثيرا من التصحيف، وألف كثير من العلماء كتبا في تصحيح ما جاء فيه من الغلط أو تكميل ما فاته من النقص، وإليك أمثلة مما جاء فيه من التصحيف:
قال: ائذعر القوم، تفرقوا. والصواب: ابذعروا.
قال:عسا الليل، أظلم. وإنما هو غسا بالغين المعجمة.
قال: الجحل أولاد الإبل. وهو غلط إنما هو: الحجل بالحاء قبل الجيم.
قال: بنات بحر، ضرب من السحاب. والصواب: بنات بخر بالخاء المعجمة.
وقال: مرحت الجلد، دهنته. وإنما هو: مرخت.
وقال: ضبأت المرأة، كثر ولدها. والصواب: ضنأت.
وقال : شيء ربيذ، بعضه على بعض. والصواب: رثيد. إلى كثير من أمثال ذلك.
واستمر مؤلفو العاجم يسيرون على نمط الخليل حتى أتى الجوهري في القرن الرابع فاخترع النمط الذي جرى عليه فيما بعد القاموس ولسان العرب وغيرهما، كما سنبينه في حينه إن شاء الله.
هذه هي المراحل الثلاث الطبيعية لجمع اللغة، جمع مفردات حيثما اتفق، وجمع كلمات متقاربة نوعا من التقارب، أولها موضع واحد ، ثم جمع المعجم، وكانت كل مرحلة من هذه المراحل تسلم إلى ما بعدها. ولا يعكر على هذه الفكرة إلا أن الخليل وهو واضع الفكرة الثالثة كان أسبق زمنا من أبي زيد والأصمعي، واضعي الفكرة الثانية، ولكن نجيب على هذا بأن الثلاثة تعاصروا زمنا طويلا فالخليل عاش من (100-175) والأصمعي من (122-213) وأبو زيد (توفي سنة 215) عن بضعة وتسعين عاما؛ فقد عاشوا معا زمنا طويلا، وربما سبق الأصمعي وأبو زيد بالتأليف في المفردات، وبأن الخليل على ما عليه أكثر المحققين وضع الفكرة فقط ولم يستطع أن يملأها وينفذها من قاربه في الزمن مثل الأصمعي وأبي زيد؛ لأن فكرة الخليل كانت طفرة في التفكير، وكانت قبل زمانها، فلم يستطع أن يملأها إلا من أتى بعده وبعد الأصمعي وأبي زيد، لهذا لا تزال فكرة التسلسل معقولة صحيحة.
ومع هذا فلا الخليل ولا غيره ممن أتى بعه من أصحاب المعاجم استطاعوا أن يجمعوا الألفاظ العربية كلها، ولا أن يستقصوا معاني الألفاظ التي جمعوها، وآية ذلك أن كلمات كثيرة وردت في الشعر الجاهلي والإسلامي تستعمل استعمالا لا يتفق وما في المعاجم. •••
وكل ما قلناه في اللغة ينطبق على الأدب، فقد كانت اللغة ممتزجة بالأدب امتزاجا تاما، كان لكل قبيلة أدبها كما كان لكل قبيلة لغتها، فتروي خطب خطبائها وشعر شعرائها، ويحفظ الخلف من القبيلة آثار السلف.
والعلماء الذين رحلوا إلى البادية أو رحل الأعراب إليهم، كانوا يأخذون عن العرب أدبهم كما يأخذون لغتهم، وأحيانا كانوا يأخذون اللغة في ثنايا الأدب. قال الأصمعي: بينا أنا بحمي ضرية إذ وقف علي غلام من بني أسد في أطمار، ما ظننته يجمع بين كلمتين، فقلت: ما اسمك، فقال: حر يقيص، فقلت: أما كفى أهلك أن يسموك حرقوصا
30
حتى حقروا اسمك؟ فقال: إن السقط ليحرق الحرجة،
31
فقلت: أتنشد شيئا من أشعار قومك؟ قال: نعم أنشدك لمرارنا، قلت: افعل، فقال:
سكنوا شبيثا والأحص وأصبحوا
نزلت منازلهم بنو ذبيان
32
وإذا يقال أتيتمو لم يبرحوا
حتى تقيم الخيل سوق طعان
وإذا فلان مات عن أكرومة
رقعوا معاوز فقره بفلان
33
وقال الأصمعي أيضا أنشدتني عشرقة المحاربية، وهي عجوز حيزبون زولة:
34
جريت مع العشاق في حلبة الهوى
ففقتهمو سبقا وجئت على رسلي
فما لبس العشاق من حلل الهوى
ولاخلعوا إلا الثياب التي أبلي
ولا شربوا كأسا من الحب مرة
ولا حلوة إلا شرابهم فضلي
وكانوا يأتون القبائل يأخذون عنهم شعر الشعراء، فرووا أن الشافعي رحل إلى البادية، وكان يحفظ عشرة آلاف بيت من هذيل بإعرابها وغريبها ومعانيها، وكان يحمل شعر الشنفري، وأخذ عنه العلماء ذلك، ومنهم الأصمعي.ورووا عن الأعراب قصصهم وخرافاتهم وأيامهم، وللأصمعي في ذلك القدح المعلى، فقد ملأ كتب الأدب بما روى عن أعراب في البادية، ومن هذا الشيء الكثير في أمالي القالي، وعلى كل حال فقد طلب العلماء الأولون الأدب، أما لنفسه وأما لأنه مادة اللغة، ومستودع غريبها.
وكما كان في اللغة صحيح ومصنوع كان في الأدب صحيح ومصنوع. قال محمد بن سلام الجمحي في الطبقات: «في الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه، ولا حجة في غريبه، ولا غريب يستفاد، ولا مثل يضرب، ولا مدح رائع، ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب، ولا نسيب مستطرف. وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن يقبل من صحيفة، ولا يروي عن صحفي، وقد اختلفت العلماء بعد في بعض الشعر، كما اختلفت في سائر الأشياء، فأما ما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج عنه؛ وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات».
35
ودخل الشك فيما روي من الأدب ما عدا ما جاء منه متواترا لأسباب ورد أكثرها فيما ذكرنا من الشك في اللغة.
ووقع التصحيف في الأدب كما حصل في اللغة، فصحف الأصمعي بيت الحطيئة:
وغررتني وزعمت أن
ك لابن في الصيف تامر
أي كثير اللبن والتمر إلى: وغررتني وزعمت أنك لاتني بالضيف تامر - أي لا تتواني عن ضيفك تأمر بتعجيل القرى إليه.
وأنشد الأخفش أبا عمرو بن العلاء:
قال قتيلة ماله
قد جللت شيبا شواته
فقال أبو عمرو: كبرت عليك رأس الراء، فظننتها واوا، وإنما هي سراته؛ قلت: وما سراته؟ قال: سراة كل شيء ظهره. إلى كثير من أمثال ذلك.
هذا إلى أن كثيرا من الأبيات رويت بروايات مختلفة، فأبو عمرو يروي البيت:
دعاني إليها القلب إني لأمره
سميع فما أدري أرشد طلايها
والأصمعي يرويه:
عصاني إليها القلب إني لأمره
مطيع فما أدري أرشد طلابها
وتقرأ شرح ابن الأنباري على المفضليات فلا تكاد تجد قصيدة لم ترو روايات عدة، بزيادة أو حذف، وتقديم أو تأخير، وتغيير كلمات في الأبيات؛ ولنسق لهذا مثلا، فالبيت:
صرمت زنيبة حبل من ألا يقطع
حبل الخيل وللأمانة تفجع
يروى: ولا الأمانة يفجع، ويروى: وصل من لا يقطع، ويروى: وللإمانة تفج. وقول تأبط شرا:
بل من لعذالة خذالة أشيب
حرق باللوم جلدي أي تحراق
روى: جدالة، أي كثير الجدل والمنازعة، وروى جذالة؛ وروى (في أشب): نشب؛ ويروى: يحرق بدل حرق، وروى: بل من لعاذلة، وروى: خرق بدل حرق
36
إلخ. وربما لا تفتح صفحة من الكتاب إلا وتقع عينك على مثل هذا.
وسببه أمور أهمها: أن الأدب الجاهلي والإسلامي ظل سنين طويلة يتناقله الرواة شفاها عن حفظهم لا عن كتاب مدون، والحافظة كثيرا ما تخطئ، وكثيرا ما تضع كلمة مكان كلمة متى استقام الوزن والمعنى، فراو يغير كلمة، وراو يغير أخرى، وراو لا يغير؛ والعلماء يروون عن رواة مختلفين فيأتي هذا الاختلاف. ومن أسباب ذلك ما تقدم وهو أن العلماء كانوا يأخذون أحيانا عن صحف غير منقوطة ولا مشكولة، فيقرؤها كل حسبما يصح عنده معناها، فخذالة إذا لم تنقط تقرأ جدالة وجذالة، وحرق إذا لم تنقط تقرأ حرق وخرق، فيأخذها كل حسب اجتهاده، ويمعن الفكر في تأويل المعنى على وفق ما قرأ. وقد روي لنا الشيء الكثير فيما وقع بين العلماء من نزاع وخصومة حول البيت يرويه أحدهم على شكل ويرويه الآخر على شكل آخر. •••
ولما دونوا الأدب اتجهوا جهة أخرى غير جهة اللغة، ففي اللغة ساروا نحو الجمع والاستقصاء حتى وصلوا إلى عمل معجم شامل، أما في الأدب فساروا على منهج الاختيار، ولم يحاولوا أن يضعوا كتبا شاملة لكل ما روي من أدب عن كل القبائل، ولم يبتكروا نظاما لجمع الأدب كما ابتكروا نظاما لعمل المعاجم؛ ولعل سببه أنهم لو شاءوا ذلك ما تيسر لهم؛ لأن فردا وأفرادا لا يستطيعون القيام به، ولو حاولوا لبلغ ذلك مئات المجلدات بل أكثر؛ قد يسهل الجمع إذا أرادوا أن يجمعوا شعر شاعر ما في الدواوين؛ أما أن يجمعوا كل الشعر وكل النثر فشيء تنوء به العصبة أولو القوة؛ ولأن الأدب فن، والفنان - عادة - يتجه إلى اختيار الأجود من الصور، وفي عرضه غناء عن عرض كل الصور. نعم روي أن الخليل أراد أن يعمل في الشعر ما عمل في اللغة، فقد روى ابن الأنباري: «أنه أول من حصر شعر العرب»،
37
ولكن لم يصل إلينا شيء من ذلك، وما أظن الشعر بحيث يستطيع أحد جمعه كله، بل أظن أن هذه العبارة محرفة، وأن العبارة الصحيحة ما وردت في ابن النديم: «إن الخليل أول من استخرج العروض وحصن به أشعار العرب»،
38
بدليل أن عبارة ابن الأنباري نفسه لا تستقيم إلا بهذا، فإنه يقول: «كان أول من حصر أشعار العرب، وكان يقول البيتين والثلاثة ونحوها في الأدب»؛ فالعبارة الأخيرة تؤيد ما ذهبنا إليه.
على كل حال اتجه علماء الأدب إلى جمع المختارات، ومن أقدم ما وصل إلينا من ذلك العصر: المفضليات والأصمعيات وجمهرة أشعار العرب كلها وكلها شعر.
فالمفضليات مجموع قصائد ، قال ابن النديم: «إنه عملها للمهدي، وهي مائة وثمان وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص، وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية عنه، والصحيحة هي التي رواها عنه ابن الأعرابي».
39
وما بين أيدينا الآن منها يحتوي على 126 قصيدة لسبعة وستين شاعرا، منهم ستة عاشوا حياتهم كلها في الإسلام، وأربعة عشر مخضرمون عاشوا أكثر حياتهم في الجاهلية ثم أسلموا، وسبعة وأربعون عاشوا وماتوا في الجاهلية.
وقد روى المفضل القصائد كلها كاملة، فهي قصائد لا مقطعات، كما فعل أبو تمام في ديوان الحماسة، فقد اختار من القصائد أجودها، أما المفضل فاختار من الشعر أجوده قصائد؛ وقد وصلت إلينا هذه القصائد، ووصل إلينا شرحها القيم لأبي محمد القاسم بن محمد بن بشار الأنباري، وقام بنشره الأستاذ “Lyall”
مع ترجمة للمفضليات إلى الإنجليزية، ومع تعلقيات وبحث في المفضليات في مقدمته.
أما الأصمعيات فمجموعة قصائد أيضا تنسب إلى الأصمعي، وهي سبع وسبعون قصيدة، وقد روى بعضهم أن الأصمعي أراد بها أن يكمل المفضليات ويزيد عليها، كما كان بعضهم أن المفضليات التي بين أيدينا لم تبلغ هذا المبلغ من الكبر إلا بزيادة الأصمعي فيها. روي أن محمد بن الليث الأصبهاني قال: «أملى علينا أبو عكرمة الضبي المفضليات وذكر أنها كانت ثلاثين قصيدة، وكان جمعها لأمير المؤمنين المهدي، فقرئت من بعد على الأصمعي فبلغ بها مائة وعشرين». وقد نشر الأصمعيات الأستاذ «أهلورت
Ahlwardt » مع تعليقات عليها وبحث فيها.
وأما جمهرة أشعار العرب فكتاب ينسب إلى أبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، وهو شخصية غير معروفة، قالوا إنه مات سنة 170، ولكن تاريخ حياته وهويته أحاط بها الغموض، هو ثنايا الكتاب يقول: حدثنا المفضل ابن محمد الضبي، فإن صح ذلك فهو تلميذ من تلاميذه.
والجمهرة مختار من الشعر الجاهلي والمخضرم، ورتبها سبع مرات في كل مرتبة سبع منظومات. المعلقات، وقد خالف في ترتيبها المشهور. والمجمهرات، يعني القصائد المحكمة السبك، القوية النسج. والمنتقيات، أي المختارات. والمذهبات أي التي تستحق أن تكتب بالذهب. والمراثي. والمشوبات، أي التي شابها الكفر والإسلام. والملحمات، ولعلهم أرادوا بهذه التسمية الإشارة إلى إحكام نظمها، وإلحام شعرها.
40
والتفريق بين هذه الأسماء - كما ترى - غير مضبوط ولا متقن، وهذا التقسيم بهذا الشكل لا نعرف له نظيرا في هذا العصر، عصر الضبي وتلاميذه، فإذا أضيف إلى ذلك عدم التحقق من المؤلف، حملنا هذا كله على الشك في الكتاب، وإن كان ما فيه قيما.
كما أن من أقدم ما وصل إلينا من الكتب التي جمعت بين مختار الشعر والنثر: البيان والتبيين للجاحظ، ثم الكامل للمبرد. وقد سبق الكلام فيهما في الجزء الأول من ضحى الإسلام.
بعد أن جمعت اللغة والأدب نوعا من الجمع جاء علماء النحو والصرف ففلسفوا اللغة كما فلسف الفقهاء آيات الأحكام من القرآن والأحاديث، وفتاوى الصحابة والتابعين، وكما فلسف المتكلمون العقائد. ويعجبني في ذلك قول عبد اللطيف البغدادي: «اعلم أن اللغوي شأنه أن ينقل ما نطقت به العرب ولا يتعداه، وأما النحوي فشأنه أن يتصرف فيما ينقله اللغوي ويقيس عليه، ومثالهما المحدث والفقيه، فشأن المحدث نقل الحديث برمته، ثم إن الفقيه يتلقاه ويتصرف فيه، ويبسط فيه علله، ويقيس عليه الأمثال والأشباه».
41
وفي الواقع جاء علماء النحو (وكانوا أيضا علماء لغة وأدب، لأن هذه الفروع لم تنفصل وتحدد ويتميز كل عالم بعلم منها إلا بعد العصر الأول) فأرادوا أن يضعوا للجزئيات كليات، فقد رأوا جاء محمد، وذهب علي، وحسن منظره، فأرادوا أن يسموا الضمة على دال محمد وياء علي وراء منظره رفعا، وأن يسموا هذه الكلمات فاعلا، وأن يضعوا القاعدة العامة «الفاعل مرفوع»، وكذلك فعلوا في قواعد الصرف وبذلوا في ذلك جهدا غريبا في تتبع النصوص وإعمال الفكر واستخراج القاعدة، وليس يدري أحد مقدار المجهود الذي بذل في تعرف قاعدة يعرفها أطفال المدارس الابتدائية اليوم.
وقد نبت هذا البحث في العراق، ونما في العراق، كما نشأ جمع اللغة وتدوينها في العراق، وكما نشأ الفقه (بمعناه الخاص) في العراق، ولم يكن بالحجاز ولا غيره من الأمصار شيء يذكر من اللغة والنحو بجانب ما في العراق. قال الأصمعي: «أقمت بالمدينة زمانا ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة، وكان بها ابن دأب يضع الشعر وأحاديث السمر، وكلاما ينسبه إلى لعرب، فسقط وذهب علمه وخفيت روايته «اه». وأما مكة فكان بها رجل من الموالي يقال له ابن قسطنطين شدا شيئا من النحو، ووضع كتابا لا يساوي شيئا».
42
وفي الحق أن العراق بز سائر الأمصار في اختراع العلوم وتدوينها، وعلة ذلك أن سكان العراق بقايا أمم قديمة متحضرة كان بها علم وتدوين، فلما دخل أهله في الإسلام فعلوا في العلوم العربية على قياس أممهم السابقة، فما كان منهم إلا أن طبقوا ما عرض في الإسلام على ما جرى عليه آباؤهم - هذا في العلوم عامة، وأما في علم النحو والصرف واللغة خاصة فإن حاجة البلاد الأعجمية إليها أشد من حاجة البلاد العربي، فما حاجة عرب البادية والحجاز إلى النحو واللغة، وهم يعرفون لغتهم ويتكلمون بها صحيحة عن سليقة، فإذا كان الباعث على النحو ما بدا من اللحن كان طبيعيا أن يكون منشؤه بلدا أعجميا، ولا أفضل في ذلك من العراق؛ فقد جمع إلى أعجميته ثقافة واسعة عميقة موروثة.
وأيا ما كان، فإن القياس الذي عرفت شأنه في الفقه، والذي قام به شيوخ أبي حنيفة في العراق وأكمله أبو حنيفة ووسعه، لعب دورا كبيرا في اللغة والنحو في العراق أيضا، وانقسم فيه العلماء أيضا بين محبذ ومشجع، وكاره ومخذل. كان الخليل بن أحمد في اللغة والنحو كأبي حنيفة قياسا يجيد القياس ويمد أطنابه، وكان الأصمعي كشيوخ المحدثين متشددا واقفا عند النص اللغوي يكره القياس ويعارضه؛ ودليلنا على ذلك ما ذكره ابن جني، قال في الخليل: «إنه سيد قومه، وكاشف قناع القياس في علمه»، ويقول في الأصمعي: «إنه ليس ممن ينشط للمقاييس»، ويقول فيه: إنه معروف «بقلة ابتعاثه في النظر وتوفره على ما يروي ويحفظ»
43
ويؤكد هذا أن الخليل أخذ يعلم الأصمعي العروض فتعذر ذلك على الأصمعي، فيئس الخليل منه، وعرض له بقول الشاعر:
إذا لم تستطع شيئا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع
وقبل الخليل كان علماء يميلون إلى القياس، كما كان قبل أبي حنيفة في ذلك في الفقه، فقد ذكروا أن ابن أبي إسحق الحضرمي «كان شديد التجريد للقياس».
44
هذا القياس الذي مهر فيه الخليل هو الذي أوجد النحو، ووسع اللغة من وجوه عدة: (1)
أن القواعد التي وضعوها اشتقوها من طريق استقراء ناقص، فطردوها في الباب كله، فقد سمعوا أفعالا ثم وضعوا قواعد أن الماضي إذا كان كذا كان مضارعه كذا، وأمره كذا، واسم فاعله كذا، واسم مفعوله كذا؛ وهم لم يسمعوا كل فعل ولا كل اسم فاعل ومفعول، وقالوا: إن ما كان من الكلام على وزن «فعل» فجمعه في التكسير على وزن أفعل، وأجازوا ذلك حتى فيما لم يسمع من العرب. ومن الجائز أن العرب لم تجمع كل المفردات منه هذا الجمع بل جمعت بعضها على نمط آخر، ونحن نرى أن جميع اللغات لم تجر على نمط واحد في جمعها؛ قال ابن جني: «ألا تراك لو لم تسمع تكسير واحد من هذه الأمثلة، بل سمعته مفردا، أكنت تحتشم من تكسيره على ما كسر عليه نظيره»، ويقول: «فإذا سمعت ضؤل ولم تسمع مضارعه، فإنك تقول فيه يضؤل، ولا تحتاج أن تتوقف لأنه لو كان محتاجا إلى ذلك.. لكان معنى هذا أن القوم قد جاءوا بجميع المواضي والمضارعات وأسماء الفاعلين والمفعولين والمصادر وأسماء الأزمنة والأمكنة، والآحاد والثنائي، والمجوع والتكابير والتصاغير» يعني وهي لم تفعل ذلك.
45
وهذا باب عظيم الخطر؛ لأنه مكن النحويين من وضع القواعد العامة، وجعلهم يهدرون ما عدا ذلك مما ورد غير سائر على مقتضاها، وعدوه شاذا، كما أنه وسع اللغة سعة كبيرة، فإنا لم نسمع من العرب كل مشتقات الكلمة، فجرينا على القواعد الموضوعة من هذا الاستقراء الناقص، فتضخمت اللغة واطردت وتمت مواضع النقص منها. بل انظر في عبارة ابن جني نفسه، فقد جرى في التعبير فيها على ذلك، فقد جمع الماضي على مواض، وقال المضارعات والتكابير والتصاغير، وليس يدعي أحد أن العرب نطقت بهذه الكلمات في هذه المعاني، وإنما هو القياس. (2)
ومن ذلك أن يقيسوا على كلمة وردت كلمات أخرى من قبيلها، من ذلك ما قالوا (مويت) إذا كتبت «ما» و(لويت) إذا كتبت «لا»، وكوفت كافا حسنة، ودولت دالا جيدة، وزويت زايا قوية.
46
وواضح أن العرب لم تنطق بهذا كله، ولكن النحويين قاسوه على كلام العرب واستعملوه. (3)
ومن ذلك أيضا أن الطريقة التعليمية التي جرى عليها النحويون والصرفيون جعلتهم يجرون في ذلك إلى حد بعيد، فيقولون: كيف تصيغ من الضرب على وزن صمحمح، فتقول ضربرب، ومن القتل: قتلتل، ومن زبرج: زبرجج، ومن الخروج: خرجرج وهكذا. ويقول ابن جني: ولو قال لك قائل: بأي لغة كان هؤلاء يتكلمون؟ لم تجد بدا من أن تقول بالعربية.
47
ويقولون لو سميت رجلا بعلي أو إلي أو لدي، فكيف تثنيها وكيف تجمعها وكيف تصغرها؟ إلى كثير من أمثال ذلك؛ فتجاوزوا بذلك الواقع إلى الفروض، وهذا بعينه هو ما وقع للحنفية في فرض الفروض، وطلب الأحكام لها. (4)
ومن ذلك أنهم يخترعون علة لما ورد ثم يقيسون عليها، فيعللون قلب الواو والياء ألفا بأنهما متى تحركتا حركة لازمة وانفتح ما قبلها إلخ، فإنهما يقلبان ألفا، ويقيسون على ذلك، ويرد عليهم قود وغيب،
48
مع أنهما قلبتها في دار وعاب فيجيبون عن ذلك ويتأولون. وعلى كل حال يطردون القاعدة فيما يعرض ولم يسمع، إلى غير ذلك من ضروب القياس التي ملئت بها كتب النحو، وتوسع في ذلك من أتى بعد، وخاصة أبا علي الفارسي وابن جني؛ وقد عقد الأخير في كتابه الخصائص فصولا تشبه أصول الفقه، ففصل في جواز القياس، وفصل في تعارض السماع والقياس، وفصل في الاستحسان، وفصل في العلل، وفصل في إجماع أهل العربية متى يكون حجة إلخ، مما يدل على تأثر النحويين بالفقهاء، وإن كان ابن جني نفسه يعقد فصلا يذكر فيه أن علل النحويين أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين.
نعم إن الأصوليين اختلفوا هل تثبت اللغة بالقياس أو لا تثبت؟ وانقسموا قسمين، ولكن مهما كان اختلافهم فقد وقع القياس فعلا وأثر في اللغة والنحو أثرا كبيرا كما رأيت، وكان شأن الفقهاء، حارب كثير منهم القياس وشنع على قائليه واستخدمه فعلا كأداة للتشريع. قال ابن الأنباري: «اعلم أن إنكار القياس في النحو لا يتحقق لأن النحو كله قياس، فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو، ولا يعلم أحد من العلماء أنكره» وينسب إلى الكسائي أنه قال:
إنا النحو قياس يتبع
وبه في كل أمر ينتفع •••
هذا القياس الذي اخترع منه النحويون كليات القواعد كان له أثر كبير في اللغة العربية، وأخشى أن تكون لغتنا التي نستعملها اليوم وقبل اليوم هي وليدة النحو واللغة معا، وليست وليدة اللغة وحدها، فاللغة - عادة - لا تخضع لقياس مطرد، فهي تقول: أكرم ويكرم، وأحسن ويحسن ولكن بجانب ذلك تقول: أحزن ويحزن؛ وفي القرآن الكريم
فلا يحزنك قولهم
وفي اللغة: أكرم فهو مكرم وأعظم فهو، معظم، ولكن بجانب ذلك أحب فهو محبوب؛ وفي اللغة: إن الساعة آتية، ولكن فيها أيضا: إن هذان لساحران؛ وفي اللغة: اليوم أقرأ وأكتب (بالرفع عند تجرد عوامل النصب والجزم) ولكن فيها أيضا ما قاله امرؤ القيس:
اليوم أشرب غير مستحقب
إثما من الله ولا واغل
إلى كثير من أمثال ذلك.
فالنحويون بقياسهم قد أهدروا كثيرا من الاستعمالات التي كان ينطق بها العرب في نظير وضع قواعدهم الكلية، وشددوا في احترامها، وخضع الناس لها لأنهم كانوا المسيطرين على التعليم، وسموا ما خرج عن قواعدهم شذوذا، أو أولوه تأويلا بعيدا ليتفق ومذهبهم - والواقع أن هناك فروقا كبيرة بين اللغة كما حكيت عن العرب وكما قعدها النحويون - أما اللغة نفسها فلا تخضع دائما للقياس ولا تسير دائما على قواعد؛ ويعجبني في ذلك ما قاله أبو علي الفارسي في تعليل أغلاط الأعراب: «إنما دخل هذا النحو كلامهم (أي كلام العرب) لأنهم ليست لهم أصول يراجعونها، ولا قوانين يستعصمون بها، وإنما تهجم بهم طباعهم على ما ينطقون به، فربما استهواهم الشيء فزاغوا به عن القصد»؛
49
وقد سمى أبو علي ونحوه ما جاء عن العرب من هذا القبيل شاذا أو غلطا لأنه لم يجر على أصولهم، وفي الواقع أنه ليس شاذا ولا غلطا إلا لأنهم أرادوا وضع قواعد، واللغات جميعا لا تلتزم القواعد، والعرب لا يعرفون ما وضع النحويون، وإن فهموا من النحويين بعض النحو، فلا يفهموا فنونهم في الصرف، «حضر مجلس الكسائي أعرابي وهم يتحاورون في النحو فأعجبه ذلك، ثم تناظروا في التصريف فلم يهتد إلى ما يقولون، ففارقهم وأنشأ يقول:
ما زال أخذهم في النحو يعجبني
حتى تعاطوا كلام الزنج والروم
بمفعل فعل، لا طاب من كلم
كأنه زجل الغربان والبوم
50
وقال عمار الكلبي وقد عيب عليه بيت من شعره:
ماذا لقينا من المستعربين ومن
قياس نحوهموا هذا الذي ابتدعوا
إن قلت قافية بكرا يكون بها
بيت خلاف الذي قاسوه أوذرعوا
قالوا: لحنت، وهذا ليس منتصبا
وذاك خفض وهذا ليس يرتفع
وحرضوا بين عبد الله من حمق
وبين زيد فطال الضرب والوجع
كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم
وبين قوم على إعرابهم طبعوا
ما كل قولي مشروحا لكم فخذوا
ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
لأن أرضي أرض لا تشب بها
نار المجوس ولا تبنى بها البيع
ومن أجل هذا أخذ النحويون يتأولون ما لم يجر على قواعدهم، ويتكلفون في تخريجه، بل ويضعون أبيات الشعر أحيانا وضعا للاستشهاد عليه.
مدرستا البصرة والكوفة في اللغة والنحو:
ذكرنا قبل أن اللغة والنحو كانا ممتزجين، وأن العالم بالنحو كان عالما باللغة، وإن كان بعض العلماء أبرز في اللغة، وبعضهم أبرز في النحو، وذكرنا أن العراق كان أسبق الأمصار إلى تدوين اللغة والنحو، وكان من له الفضل في ذلك البصريون، ثم الكوفيون، ثم البغداديون.
فالبصرة أول مدينة عنيت بالنحو واللغة وتدوينها، واختراع القواعد لها، وقد سبقت البصرة بنحو مائة عام حتى أتت الكوفة بعد تؤسس مذهبا خاصا يضاهي مذهب البصرة وينازعه، ويتعصب لكل علماؤه، قال ابن النديم: «قدمنا البصريين أولا لأن علم العربية عنهم أخذ». وهذا جدول يبين أشهر علماء البصرة والكوفة ويبين أسبقية البصرة:
أخذت هذا الجدول عن كتاب
Arabic Grammar by Howell
بعد أن زدت فيه بعض زيادات وأصلحت بعض التواريخ، وإذا تكرر الاسم في الجدول فمعنى ذلك تعدد مشايخه.
ومن هذا يتضح أن مدرسة البصرة ظلت قائمة وحدها في النحو وما إليه إلى أن جاء أبو جعفر الرؤاسي، فكان أول من ألف في النحو من الكوفيين، وأول من أسس مدرسة الكوفة، ودعمها تلميذاه الكسائي والفراء، وكانا نظيري سيبويه رئيس البصريين.
وتاريخ النحو في منشئه غامض كل الغموض، فإنا نرى فجأة كتابا ضخما ناضجا هو كتاب سيبويه، ولا نرى قبله ما يصح أن يكون نواة تبين ما هو سنة طبيعية من نشوء وارتقاء، وكل ما ذكروه من هذا القبيل لا يشفي غليلا.
ذكروا أن واضع النحو أبو الأسود الدؤلي، بل منهم من نسبه إلى علي ابن أبي طالب، وأنه دفع إلى أبي الأسود رقعة مكتوبا فيها «الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبيء به، والحرف ما أفاد معنى. واعلم أن الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس فيما ليس بظاهر ولا مضمر.. ثم وضع أبو الأسود بابي العطف والنعت ثم بابي التعجب الاستفهام إلى أن وصل إلى باب إن وأخواتها ما خلا لكن، فلما عرضها على علي أمره بضم لكن إليها، وكلما وضع بابا من أبواب النحو عرضه عليه».
51
وكل هذا حديث خرافة، فطبيعة زمن علي وأبي الأسود تأبى هذه التعاريف وهذه التقاسيم الفلسفية، والعلم الذي ورد إلينا من هذا العصر في كل فرع علم يتناسب مع الفطرة ليس فيه تعريف ولا تقسيم، إنما هو تفسير آية أو جمع لأحاديث ليس فيها تبويب ولا ترتيب، فأما تعريف وأما تقسيم منطقي فليس في شيء مما صح نقله إلينا عن عصر علي وأبي الأسود، وأخشى أن يكون ذلك من وضع بعض الشيعة الذين أرادوا أن ينسبوا كل شيء إلى علي بن أبي طالب (رضى الله عنه) وأتباعه، ويشهد لهذا الروايات الكثيرة المتناقضة في سبب الوضع،
52
ومن حسن الحظ أن هذا ليس محل اتفاق بين العلماء، فمنهم من قال إن واضع النحو عبد الرحمن بن هرمز المتوفى سنة 117 في خلافة هشام، ومنهم من قال إنه نصر ابن عاصم المتوفى سنة 89 والقائلون بهذا - من غير شك - ينكرون نسبته إلى علي، وأبي الأسود.
ويظهر لي أن نسبة النحو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح، وذلك أن الرواة يكادون يتفقون على أن أبا الأسود قام بعمل من هذا النمط، وهو أنه ابتكر شكل المصحف ، فأخذ صبغا يخالف لون المداد الذي كتب به المصحف ووضع على الحرف المفتوح نقطة فوقه، والمكسور نقطة أسفله، والمضموم نقطة بين يدي الحرف، والنون نقطتين، وترك الساكن؛ فكتب «والقلم وما يسطرون» - مثلا - هكذا «والقلم وما يسطرون»، ووضع الخطة في ذلك وأمر الكتاب أن يسيروا على هذا النمط حتى أتم المصحف، وواضح أن هذه خطوة أولية في سبيل النحو تتمشى مع قانون النشوء، وممكن أن تأتي من أبي الأسود،
53
وواضح كذلك أن هذا يلفت النظر إلى النحو، فعمل أبي الأسود يسلم إلى التفكير في الإعراب، ووضع القواعد له، أضف إلى هذا أن «النحو» لم يكن في العصور الأولى مفهوما منه هذا المعنى الدقيق الذي نعرفه به اليوم، بل ابن جني نفسه - وهو من المتأخرين - يعرف النحو بأنه «انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره» وعلى هذا فمن قال إن أبا الأسود وضع النحو فقد كان يقصد شيئا من هذا، وهو أنه وضع الأساس بضبط المصحف حتى لا تكون فتحة موضع كسرة، ولا ضمة موضع فتحة، فجاء بعد من أراد أن يفهم النحو على المعنى الدقيق، فاخترع تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، والاسم إلى ظاهر، ومضمر وغير ظاهر ولا مضمر، وباب التعجب وباب إن.
وقد اختلف المؤلفون الأقدمون أنفسهم في التعبير عما فعله أبو الأسود، فقال بعضهم: إنه أول من وضع النحو كما رأيت، وعبر بعضهم تعبيرا أدق، فقال ابن قتيبة في كتابه «المعارف»: «أول من وضع العربية أبو الأسود»، وقال ابن حجر في الإصابة: «أول من نقط المصحف ووضع العربية أبو الأسود».
فالذي يظهر أنهم يعنون بالعربية هذه العلامات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون والتي استعملها أبو الأسود في المصحف، وأن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسموا كلامهم «نحوا» سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود وقالوا: إنه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم «النحو» بتاتا. ومثل ذلك يقال أيضا في النص الذي ذكره ابن سلام في «طبقات الشعراء» فقد قال: «وكان لأهل البصرة في العربية قدمة بالنحو، وبلغات العرب والغريب عناية، وكان أول من أسس العربية وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها، أبو الأسود الدؤلي ... وكان رجل البصرة وكان علوي الرأي ... وإنما قال ذلك حين اضطرب كلام العرب فغلبت السليقة، فكان سراة الناس يلحنون، فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب والجزم». فالظاهر أيضا أن عمله في أول الأمر كان ساذجا بسيطا، وهو وضع علامات الرفع والنصب وما إليها، ولم يزد على ذلك، فلما سمى العلماء بعد بعض ضروب الرفع فاعلا، وبعض ضروب النصب مفعولا، قالوا: إن أبا الأسود وضع باب الفاعل والمفعول، وإن كان أبو الأسود نفسه لم يعرف «فاعلا» ولا «مفعولا» بل ربما لم يعرف أيضا رفعا ولا نصبا، فإنهم يروون أنه قال لكاتبه: «إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه، وإن ضممت فمي فانقط بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقط من تحت» وهو تعبير ساذج يتفق وزمن أبي الأسود؛ فالذين جاءوا بعد أطلقوا الأسماء الاصطلاحية التي وضعوها على ما فعل أبو الأسود في وضعه الأول الساذج، وهذا هو الذي يمكن أن يتمشى مع طبيعة النشوء.
ويظهر لي أن الخطوة التي تلت هذه كانت ناشئة عن عمل أبي الأسود، فإن عمله أثار الكلام حول الرفع والنصب والجر والتنوين، فكان العلماء الذين ذكروا أمثال نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، يثيرون مسائل متفرقة من هذا الباب، أما حول آية من القرآن الكريم استلفتت نظرهم، أو حول بيت من الشعر لم يجر على المألوف، فيقفون عند رفع الكلمة لم رفعت؟ ونصبها لم نصبت؟ فعبد الله ابن أبي إسحق الحضرمي يسمع الفرزدق يقول:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتا أو مجلف
54
فيرى أن «مجلف» في رفعها لا تناسب «مسحتا» في نصبها، فيعترض على الفرزدق، فيهجوه الفرزدق بقول:
فلو كان عبد الله مولى هجوته
ولكن عبد الله مولى مواليا
فيعترض ابن أبي إسحق على قوله مولى مواليا أيضا، ويقول بل هو مولى موال؛ فهذا وأمثاله يلفت النظر ويجعلهم يفكرون في أن مثل موضع «مجلف» هذه ينبغي أن تكون منصوبة، فيتبعون الأدوات التي مثل أو، فيرون الواو والفاء ويخترعون اسما لهذا كحروف العطف، وقد يكون استقصاؤهم في أول الأمر ناقصا فيأتي من بعدهم فيستدرك ذلك وهكذا. ويسمعون قول النابغة: «في أنيابها السم ناقع» فيقول عيسى بن عمر: قد أساء النابغة إنما هو «ناقعا» ويسمعون قول الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربنا
بحاصب كنديف القطن منثور
على عمائمنا تلقى وأرحلنا
على زواحف تزجى مخها رير
55
فيقول ابن إسحق: إنما هو «رير» ويقول يونس إن ما قاله الفرزدق جائز حسن، فلما ألحوا على الفرزدق قال: «زواحف تزجيها محاسير».
56
وكذلك كانوا يختلفون في آيات القرآن مثل:
يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ، فكان عيسى بن عمر وابن أبي إسحق ينصبان «نكذب» و«نكون» وكان الحسن وأبو عمرو بن العلاء ويونس يرفعون «نكذب» و«نكون»
57
ويتجادلون في ذلك. وهكذا مسائل متفرقة في مواضع متفرقة في مناسبات مختلفة تجعل العالم يضع بعض القواعد المبعثرة، وتأتي طبقة أخرى تكملها.
أضف إلى ذلك أنه بعد علي وأبي الأسود كان هناك موال شغلوا بهذا الموضوع، وكان منهم من أصله فارسي، ومنهم من أصله سندي، ومنهم من اتصل بالسريانيين، وكان لهؤلاء نحو احتذوا حذوه أحيانا كما سيأتي.
وبدأ البصريون يستعملون القياس، ويوسعون به مسائل النحو، ويؤلفون الكتب في بعض المسائل على النحو الذي ألف فيه الأصمعي في اللغة كتاب الإبل، وكتاب الشاء ، فيفردون الكتاب في مسألة كالهمزة أو اللام، وكان من أسبق الناس في ذلك ابن أبي إسحق الحضرمي المتوفى سنة 117ه، فهم يقولون: «إنه كان أعلم أهل البصرة وأنقلهم، ففرع النحو وقاسه، وتكلم في الهمز حتى عمل فيه كتاب مما أملاه»،
58
ومع هذا فلا نظن أنه كان يعلم كثيرا من النحو الذي عرف في عهد سيبويه، فقد روي عن يونس أنه سئل عن علم أبي إسحق من علم الناس اليوم (أيام يونس)، فقال يونس: «لو كان في الناس اليوم (من) لا يعلم إلا علمه لضحك منه».
59
ثم جاءت الخطوة التالية، وهي جمع مسائل النحو المعروفة في كتاب، وقد ذكروا أن عيسى بن عمر الثقفي المتوفى سنة 149 فعل ذلك، فألف كتابين سمى أحدهما الجامع والآخر الإكمال، ورووا أن الخليل بن أحمد قال:
ذهب النحو جميعا كله
غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع
فهما للناس شمس وقمر
قال ابن الأنباري: «وهذان الكتابان لم نرهما، ولم نر أحدا رآهما»، وقال محمد ابن يزيد: «قرأت أوراقا من أحد كتابي عيسى بن عمر، وكان كالإشارة إلى الأصول» وعبارة محمد بن يزيد تدل على أن الكتابين محاولة أولية لجمع النحو.
إنما الذي كان له الفضل الأكبر في ذلك «الخليل بن أحمد» ذو العقل الجبار المبتكر الذي قل أن يوجد له نظير في علماء ذلك العصر، والذي عكف على العلم يخترع فيه ويستنبط أصوله من فروعه على طريقة لم يسبق إليها، واكتفى في دنياه بالقليل من العيش، ووجد في لذته الفكرية عوضا عن كل لذة، فهو أول مبتكر للمعاجم كما رأيت، وهو أول مبتكر لوضع العروض وحصر كل أشعار العرب في بحوره، وهو الذي اخترع علم الموسيقى العربية وجمع فيه أصناف النغم، وهو الذي عمل النحو الذي نعرفه إلى اليوم؛ ويظهر أنه كان أرقى من أن يعكف على الكتب يدونها، فهو يخترع العلم ويتركه لتلاميذه يدونونه، فعل ذلك في اللغة فوضع فكرة المعجم وتركه لتلميذه الليث بن نصر يكمله كما رأيت قبل، وفعل ذلك في النحو «فهو الذي بسط النحو ومد أطنانه وسبب علله، وفتق معانيه، وأوضح الحجاج فيه حتى بلغ أقصى حدوده. ثم لم يرض أن يؤلف فيه حرفا أو يرسم منه رسما ... واكتفى في ذلك بما أوحى إليه سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره ونتائج فكره، ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلده، وألف فيه الكتاب الذي أعجز من تقدم قبله، كما امتنع على من تأخر بعده».
60
ولكن سيبويه لم يقتصر في كتابه على أقوال الخليل بل ذكر كثيرا من أقوال العلماء غيره، فهو ينقل كثيرا عن يونس حتى قد ينقل عنه أبوابا برمتها، وقد نقل فصلين من التصغير عنه، وقال: «وجميع ما ذكرت لك في هذا الباب وما أذكر لك في الباب الذي يليه قول يونس»،
61
ويحكي أقوال أبي عمرو ابن العلاء، يوازن بينها وبين قول الخليل ويونس، ويقول: «سألت الخليل عن القاضي في النداء فقال: أختار «يا قاضي»؛ لأنه ليس بمنون كما اختار في هذا القاضي، وأما يونس فقال: «يا قاض» وقول يونس أقوى
62
ويروي عن أبي الخطاب الأخفش، ويقول: حدثني من أثق بعربيته ويريد «أبا زيد». وأحيانا يروي عن العرب مباشرة، ويقول إنه سمع منهم؛ فيقول: «إن هذا البيت أنشدناه أعرابي من أفصح الناس، وزعم أنه شعر أبيه»،
63
ويقول: سمعنا ذلك من العرب، وسمعنا من يوثق به من العرب.
وعلى الجملة فيظهر أن سيبويه جمع في كتابه ما تفرق من أقوال العلماء قبله، ورتبها وبوبها، وجمع ما استشهد به العلماء من شعره، وما سمعه هو بنفسه؛ مما يدل على سعة اطلاع، وطول باع؛ ففي الكتاب ألف بيت وخمسون من شعر العرب، نسب منها نحو ألف بيت إلى قائليها، وفيه كثير من كلام العرب وأمثالهم، ولم يكن جامعا، بل كانت له شخصية قوية في التعليل والترجيح مع جودة في العبارة. فإذا علمنا أنه فارسي الأصل وأنه عربي بصري بالمربى، وأنه مات وله بضع وثلاثون سنة أدركنا مقدار نبوغه، وكان ثقة فيما يرويه، عرض كتابه على يونس، فاستعرض ما نقله عنه فوجده صادقا، وحاز الكتاب ثقة العلماء وتداولوه بالشرح، وإذا قالوا «الكتاب» فإنما يعنونه، وكل ما ألف في النحو بعده فمبني عليه ومستمد منه.
والكتاب مملوء بالقياس والعلل، وقد استعمله في مهارة وكثرة، فهو يولد من الشيء أشياء ويعلل ويقيس، ويذكرنا عمله بتفريع الحنفية وتعليلها وقياسها، ففي التصغير مثلا يستقصي ما يصغر وكيف يصغر، ويفرض الفروض فيتساءل: إذا سميت رجلا بعين أو أذن فكيف تصغرهما؟ وإذا سميت امرأة بفرس فكيف تصغرها؟ إلى كثير جدا من أمثال هذا في كل باب تقريبا، فكثيرا ما يقول: والقياس كذا، أو والقياس يأباه، ويقول: «سألت الخليل عن العرب ما أميلحه، فقال: لم يكن ينبغي أن يكون في القياس؛ لأن الفعل لا يحقر، وإنما تحقر الأسماء إلخ».
64
وفي الكتاب مصداق ما ذكرنا من أن للنحويين دخلا كبيرا في اللغة التي بين أيدينا، وأنهم خلقوا أشياء لا تعرفها العرب، وعمموا ما لم تعممه العرب، فهو يعقد بابا عنوانه: «هذا باب استكرهه النحويون وهو قبيح، فوضعوا الكلام فيه على غير ما وضعت العرب»،
65
والكتاب يحتاج إلى درس طويل يخرج بنا عما رسمنا، وقد أخذ المبرد على سيبويه غلطات ولكن لم يسلم العلماء منها إلا ببعضها.
وبعد، فهل النحو علم عربي محض؟ أو هو علم أقتبس من علم النحو الأمم الأخرى؟
قال الأستاذ ليتمان في محاضراته: «اختلف العلماء الأوروباويون في أصل هذا العلم، فمنهم من قال إنه نقل من اليونان إلى بلاد العرب؛ وقال آخرون ليس كذلك، وإنما كانت تنبت الشجرة في أرضها، كذلك نبت علم النحو عند العرب، وهذا هو الذي روي في كتب العرب من زمن، ونحن نذهب في هذه المسألة مذهبا وسطا، ونقول كما أثبته في هذه السنة عالم اسمه (Josph la Blance) ، وترجمته يوسف الأبيض، وهو أنه أبدع العرب علم النحو في الابتداء، وأنه لا يوجد في كتاب سيبويه إلا ما اخترعه هو والذين تقدموه، ولكن لما تعلم العرب الفلسفة اليونانية من السريان في بلاد العراق تعلموا أيضا شيئا من النحو، وهو النحو الذي كتبه أرسططاليس الفيلسوف ، وبرهان هذا أن تقسيم الكلمة مختلف؛ قال سيبويه: «فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل»، وهذا تقسيم أصلي، أما الفلسفة فيقسم فيها الكلام إلى اسم وكلمة ورباط، أي الاسم هو الاسم والكلمة هي الفعل، كما يقال له في اللغات الأوربية (Verd) ، والرباط هو الحرف كما يقال له في اللغات الأوربية (Conjuction)
أي ارتباط؛ وهذه الكلمات اسم وكلمة ورباط، ترجمت من اليونانية إلى السرياني ، ومن السرياني إلى العربي، فسميت هكذا في كتب الفلسفة لا في كتب النحو؛ أما كلمات اسم وفعل وحرف فإنها اصطلاحات عربية ما ترجمت ولا نقلت» اه.
66
والذي يظهر لي أن تأثير اليونان والسريان في العصر الأول لوضع النحو كان تأثيرا ضعيفا، وربما كان أكبر الأثر أثرا غير مباشر، كاستخدام آلة القياس والتوسع بواسطتها في وضع القواعد النحوية كما رأيت، فلما نقلت الفلسفة اليونانية واشتغل بها المتكلمون أولا والفلاسفة ثانيا، وعرفوا المنطق وما إليه تأثر النحو بذلك في قواعد وعلله، حتى قالوا - مثلا - إن أبا الحسن الرماني الذي عاش من سنة 296-384 «كان متفننا في علوم النحو واللغة والفقه والكلام على مذهب المعتزلة، وكان يمزج كلامه بالمنطق، حتى قال أبو علي الفارسي: إن كان النحو ما يقوله أبو الحسن الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان النحو ما نقوله فليس معه منه شيء»،
67
وموضع تفصيل هذا بعد عصرنا الذي نؤرخه.
وعلى كل حال فقد توج نحو البصرة بسيبويه وكتابه، ونشأت بالكوفة مدرسة على رأسها أبو جعفر الرؤاسي وتلميذاه الكسائي والفراء.
أنشأ الرؤاسي مدرسة الكوفة في النحو ووضع فيه كتابا لم يصل إلينا؛ وقالوا إن الخليل اطلع عليه وانتفع به، وبدأت من ذلك الحين مدرسة الكوفة تناظر مدرسة البصرة. بدأ الخلاف هادئا بين الرؤاسي في الكوفة والخليل في البصرة، ثم اشتد بين الكسائي في الكوفة وسيبويه في البصرة، وصار لكل مدرسة علم تنحاز إليه كل فرقة، ويظهر أن هذه العصبية العلمية بين المدرستين كانت مؤسسة على العصبية السياسية التي ظهرت بين البلدين، والتي حكينا أمرها من قبل، وكانت كذلك أثرا من آثار ظهور العصبيات البلدية التي أخذت تحل محل العصبية الجنسية، وأيا ما كان فقد اختلفت مدرسة الكوفة عن مدرسة البصرة في مبادئ أساسية.
وربما كان أهم الفروق الأساسية بين المدرستين أن مدرسة البصرة رأت أن أهم غرض وضع قواعد عامة للغة في الرفع والنصب والجر والجزم ونحوها تلتزمها وتريد أن تسير عليها في دقة وحزم، وإذا كان كانت اللغات دائما لا تلتزم القواعد العامة دائما، بل فيها مسائل لا يمكن أن تجري على القاعدة، وخصوصا اللغة العربية التي هي لغات قبائل متعددة تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا كما رأيت، أراد البصريون تمشيا مع غرضهم أن يهدروا الشواذ، فإذا ثبتت صحتها قالوا إنها -
تحفظ ولا يقاس عليها - بل جرءوا على أكثر من ذلك فخطأوا بعض العرب في أقوالهم إذا لم تجر على القواعد، كما رأيت من تخطئه ابن أبي إسحق الحضرمي للفرزدق في بعض شعره، مع أن الفرزدق عربي صميم يحتج العلماء بشعره ولا يشكون في ذلك.
فالبصريون إذا رأوا استجاد واستزاد واستخار واستعار، ورأوا الأكثر يجري على هذا النسق، ثم رأوا استصوب واستحوذ، عدوا ذلك شذوذا يسمع ولا يقاس عليه، وإذا رأوا «إن» تنصب الاسم وترفع الخبر غالبا، ثم رأوها في بعض المواضع لا تسير هذا السير مع الوثوق بصحة ما ورد نحو
إن هذان لساحران
ألزموا الناس باتباع الأكثر الأغلب، فهم قد فضلوا القياس وآمنوا بسلطانه وجروا عليه وأهدروا ما عداه، وإذا رأوا لغتين: لغة تسير مع القياس، ولغة تسير عليه، فضلوا التي تسير عليه، وضعفوا من قيمة غيرها، فهم - في الواقع - أرادوا أن ينظموا اللغة ولو بإهدار بعضها، وأرادوا أن يكون ما سمع من العرب مخالفا لهذا التنظيم مسائل شخصية جزئية يتسامحون فيها نفسها ولا يتسامحون في مثلها والقياس عليها حتى لا تكثر فتفسد القواعد والتنظيم، هذا إذا لم يتمكنوا من أن يؤولوا الشاذ تأويلا يتفق وقواعدهم ولو بنوع تكلف.
أما الكوفيون فلم يروا هذا المسلك، ورأوا أن يحترموا كل ما جاء عن العرب ويجيزوا للناس أن يستعملوا استعمالهم، ولو كان الاستعمال لا ينطبق على القواعد العامة، بل يجعلون هذا الشذوذ أساسا لوضع قاعدة عامة، قال السيوطي في بغية الوعاة: «إن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلا ويقيس عليه؛ فأفسد النحو بذلك»، وقال الأندلسي: «الكوفيون لو سمعوا بيتا واحدا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا وبوبوا عليه»، فهم أكثر تجويزا للوجوه المختلفة في المسائل، فإذا سمعوا - مثلا - «يا ليت عدة حول كله رجب» وضعوا لذلك قاعدة مع أنه شاذ؛ لأنه وصف الحول وهو نكرة بكله وهي معرفة، وقالوا: «إن تأكيد النكرة بغير لفظها جائز إذا كانت مؤقتة»،
68
وأجازوا أن تقول صمت شهرا كله، وتهجدت ليلة كلها، مع أن البصريين في ذلك يقولون: أولا، إن هذا البيت لم يعرف قائله، وثانيا: لو صح لكان شاذا لا يقاس عليه. فإذا أضفت إلى ذلك أن الكوفيين كانوا أكثر رواية للشعر، وأن الشعر المصنوع لديهم أكثر من الشعر المصنوع عند البصريين، أدركت مقدار الخلف بين البصريين والكوفيين في مسلكهم.
وكانت هاتان النزعتان في البصرة في أيامها الأولى، فهم يقولون: إن ابن أبي إسحق الخضرمي وتلميذه عيسى بن عمر كانا أشد ميلا للقياس، وكانا لا يأبهان بالشواذ، وكانا لا يتحرجان من تخطئة العرب، وكان أبو عمرو بن العلاء وتلميذه يونس بن حبيب البصريان أيضا على عكسهما: يعظمان قول العرب ويتحرجان من تخطئتهم، فغلبت النزعة الأولى على من أتى بعد من البصريين، وغلبت النزعة الثانية على من أتى بعد من الكوفيين، ولا سيما الكسائي الكوفي.
ونرى في هاتين النزعتين أن البصريين كانوا أكثر حرية وأقوى عقلا، وأن طريقتهم أكثر تنظيما وأقوى سلطانا على اللغة، وأن الكوفيين أقل حرية وأشد احتراما لما ورد عن العرب ولو موضوعا، فالبصريون يريدون أن ينشئوا لغة يسودها النظام والمنطق، ويميتوا كل أسباب الفوضى من رواية ضعيفة أو موضوعة، أو قول لا يتمشى مع المنطق؛ والكوفيون يريدون أن يضعوا قواعد للموجود حتى الشاذ، من غير أن يهملوا شيئا حتى الموضوع، فكل عملهم أن يضعوا الشيء إلى لفقه، فإذا كان للشيء الواحد جملة صور وضعوا له جملة قواعد.
ولعل المسألة الزنبورية نفسها التي أشرنا إليها قبل جارية هذا المجرى، فسيبويه لا يجيز إلا أن نقول: فإذا هو هي؛ لأنها المتمشية مع المنطق، هو مبتدأ، وهي خبر، وكلاهما ضمير رفع، والكسائي روي له أو سمع: فإذا هو إياها، فاستمسك بما سمع وأجازه وأجاز القياس عليه وإن كان شاذا؛ أما سيبويه فلم يجزه لأنه لا يؤمن بالشاذ وإن ثبت سماعه، فلا يجوز أن نجيزه في أقوالنا، ولا أن نقيس عليه فيما يجري في كلامنا.
ونشأ عن اختلافهم في الأصول اختلافهم في الفروع النحوية، وألف ابن الأنباري كتابا سماه: «الإنصاف في مسائل الخلاف، بين البصريين والكوفيين»،
69
عد فيه مائة مسألة واثنتين تخالف فيها البصريون والكوفيون، مثل: الاسم مشتق من السمو عند البصريين، وقال الكوفيون من الوسم؛ ومثل: الفعل مشتق من المصدر، أو المصدر مشتق من الفعل، ومثل: الاسم الذي فيه تاء للتأنيث كطلحة يجمع جمع مذكر سالما أولا، ومثل: حاشا في الاستثناء حرف جر أو فعل ماض إلخ. وذهب كل من المدرستين في كل مسألة إلى أدلة بعضها عقلي وبعضها نقلي، واحتدم الخلاف بينهما، وانتصر ابن الأنباري للبصريين ورد على الكوفيين حججهم.
وكان البصريون أكثر اعتدادا بأنفسهم، وأكثر شعورا بثقة ما يروون، وأشد ارتيابا فيما يرويه الكوفيون؛ لذلك كان الكوفي يأخذ عن البصري، ولكن البصري يتحرج أن يأخذ عن الكوفي، حتى قالوا: إن أبا زيد كان يروي عن علماء الكوفة، ولا يعلم أحد من علماء البصريين بالنحو واللغة أخذ عن أهل الكوفة إلا أبا زيد، فإنه روى عن المفضل الضبي».
70
وظل الحال كذلك حتى تأسست مدينة بغداد، وهدأت الأمور السياسية، واستتب الأمن، وأخذ الحلفاء والأمراء يشجعون العلماء ويدعونهم لتربية أولادهم؛ فتسابق العلماء إلى بغداد، وكان للكوفيين الحظوة عند الخلفاء والأمراء أكثر مما كان للبصريين، لما سبق من أسباب، فالكسائي رئيس مدرسة الكوفة ذو الحظوة العظمى عند الرشيد، ومعلم الأمين والمأمون، والفراء تلميذ الكسائي كان معلم أولاد المأمون، وابن السكيت تلميذ الفراء كان معلم أولاد المتوكل، نعم كانت هناك مزاحمة للبصريين في القصور، فقد كان اليزيدي وهو بصري أحد معلمي المأمون، وكان ثعلب الكوفي والمبرد البصري معلمي عبد الله بن المعتز، ولكن كان الكوفيون أعظم سلطانا وأكثر عددا، فإذا قرب بصري فلأسباب خاصة، كاليزيدي السابق ذكره كان معلما ليزيد بن منصور الحميري خال المهدي، ونسب إليه فسمي اليزيدي، وكان ذلك قبل احتدام الخلاف بين البصريين والكوفيين؛ فحفظت له مكانته من ذلك الحين وإن كان بصريا، ومع هذا فقد كان مسالما للكسائي معترفا بسلطانه.
ومع هذا فقد كان التقاء الكوفيين والبصريين في بغداد سببا في عرض المذهبين ونقدهما والانتخاب منهما، ووجود مذهب منتخب كان من ممثليه ابن قتيبة، قال ابن النديم: «وكان ابن قتيبة يغلو في البصريين إلا أنه خلط المذهبين، وحكى في كتبه عن الكوفيين»،
71
ومثله في ذلك أبو حنيفة الدينوري فقد أخذ عن البصريين والكوفيين جميعا. •••
كذلك كان الشأن في اللغة والأدب، فاقت البصرة فيهما ما عداها من الأمصار، وحسبك دليلا أن أقوى الشخصيات التي روي ت عنها اللغة والأدب من البصريين نذكر منهم ثلاثة كانوا أشهر الناس في ذلك، وهم: الأصمعي، وأبو زيد، وأبو عبيدة، وكلهم بصري.
فالأصمعي عربي من باهلة، اسمه عبد الملك بن قريب، نسب إلى جده أصمع، وقد نشأ بالبصرة وأخذ عن علمائها، ورحل إلى البادية وكتب عن أهلها اللغة والأدب، وكان قبيح المنظر، وهبه أحد الأمراء جارية فخافت منه، ولكن خفيف الروح، ظريف، ميال إلى حكاية ملح الأعراب وأخبارهم، يعرف كيف يعجب من يحدثه، ويستخرج ضحكه واستحسانه؛ وقد رزق خصلتين كانتا سر شهرته، أولاهما: حافظة جيدة، حتى لتمر على سمعه القصيدة الطويلة فيحفظها، فيروى عنه أنه يحفظ ستة عشرة ألف أرجوزة، عدا دواوين العرب، وهذا إن بولغ فيه فأساسه صحيح؛ ولم يكن بهذا القدر من الذكاء العلمي، فالخليل يعجز عن أن يعلمه العروض، ولا يبلغ في النحو مبلغا كبيرا؛ لأن نحو عصره كان يحتاج إلى مهارة في القياس ونحوه، ولذلك يقول من رآه يتناظر مع سيبويه: «إن الحق كان مع سيبويه والأصمعي يغلبه بلسانه». والثانية: جودة الإلقاء، حتى قال أبو نواس: «إنه بلبل يطرب الناس بنغماته»، ويقول فيه الشافعي: «ما عبر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي»، وكان سماع العرب في كلامهم ولهجتهم مما يعجب الحضريين، فأعجبتهم منه هذه الخلة. مكنته هاتان الخصلتان من التقرب للقصر، فكان نديم الرشيد وسميره ومضحكه بما يروى من ملح الأعراب، وملأ كتب الأدب بما روى من قصص عن العرب والأعراب في حياتهم الاجتماعية، وبما روى من لغة وأدب، وبما دار بينه وبين العلماء في القصر وبين يدي الأمراء وفي حلقات العلماء، وكان اتصاله بالرشيد سببا في شهرته الواسعة، كما كان سببا في غناه.
وكان واسع العلم باللغة وألفاظها وتحديد معانيها واشتقاقها، لا يكتفي بمعرفة اللفظ حتى يشاهد مدلوله إن كان مما يشاهد، فأبو عبيدة يجمع من ألفاظ الخيل وأعضائها وما يتعلق بها أضعاف ما يجمع الأصمعي، ولكن يسأل أبو عبيدة عن مدلول الألفاظ إذا أحضر فرس فلا يعرف، ويعرف ذلك الأصمعي في دقة؛ وذلك نتيجة مخالطة العرب طويلا وسماعه منهم واتصاله بهم في معيشتهم، على حين أن أكثر علم أبي عبيدة نظري.
وكان واسع الحفظ لأشعار العرب ودواوينها، فيقول الأخفش: «ما رأينا أحدا أعلم بالشعر من الأصمعي وخلف»، ويقول ابن الأعرابي: «شهدت الأصمعي وقد أنشد نحوا من مائتي بيت ما فيه بيت عرفناه»؛ وقد روي عنه الكثير من شعر قبائل العرب.
كما أن وجوده في القصور وبين يدي الأمراء وما يتطلبه هؤلاء من سمر وأحاديث طريفة، وحسن استعداد الأصمعي لذلك جعله يروي الشيء الكثير من ملح الأعراب في عشقهم وزواجهم ومشاكلهم وما إلى ذلك، حتى ملأ جو العراق بهذا النوع من القصص ثم تناقلته الأمصار.
ولكن هل كان ثقة صدوقا فيما يروي؟ يختلف الناس في الحكم عليه، فيقول بعضهم: «كان الأصمعي منسوبا إلى الخلاعة، ومشهورا بأنه كان يزيد في اللغة ما لم يكن منها».
72
ويروون أن رجلا رأى عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي ، فقال له: ما فعل عمك؟ فقال: قاعد في الشمس يكذب على الأعراب.
73
ومر ما روى ابن الأعرابي أنه قال: لقيني أبو محلم ومعه أعرابي، فقال: جئتكم بهذا الأعرابي لتعرفوا منه كذب الأصمعي، أليس كان يقول في بيت عنترة:
شربت بماء الدحرضين فأصبحت
زوراء تنفر عن حياض الديلم
إن الديلم الأعداء لأنهم أعاجم، والعرب كانوا يعدون جميع الأعاجم أعداءهم، فسلوا هذا الأعرابي ما معنى الديلم ، فسألناه فقال: الديلم حياض بالغور أوردتها إبلي غير مرة!
وقيل لأبي عبيدة إن الأصمعي يقول: بينا أبي يسابق سلم بن قتيبة على فرس له» فقال أبو عبيدة: «سبحان الله والحمد لله والله أكبر ... والله ما ملك أبو الأصمعي قط دابة ولا حمل إلا على ثوبه».
74
وقال ثعلب: «سمعت ابن الأعرابي يقول في كلمة رواها الأصمعي، سمعت من ألف أعرابي خلاف ما قاله الأصمعي».
75
وآخرون يوثقونه، فقد وثقه ابن معين وأحمد بن حنبل في الحديث، وقال أبو داود عنه إنه صدوق، ووثقه بعض اللغويين، فقال أبو الطيب: «لم ير الناس أحضر جوابا، وأتقن لما يحفظ من الأصمعي ولا أصدقه لهجة، وكان شديد التأله فكان لا يفسر القرآن ولا شيئا من اللغة له نظير واشتقاق في القرآن، وكذلك الحديث تحرجا، وكان لا يفسر شعرا فيه هجاء، ولم يرفع من الأحاديث إلا الأحاديث اليسيرة، وكان صدوقا في كل شيء من أهل السنة، فأما ما يحكي العوام وسقاط الناس من نوادر الأعراب، ويقولون هذا مما اختلقه الأصمعي، وما يحكونه عن ابن أخيه (قد تقدمت الحكاية) وكيف يقول ذلك عبد الرحمن، ولولا عمه لم يكن شيئا مذكورا ... وأنى يكون الأصمعي كذلك، وهو لا يفتي إلا فيما أجمع عليه العلماء، ويقف عما ينفردون عنه، ولا يجيز إلا أفصح اللغات، ويلح في دفع ما سواه».
ويظهر لي جمعا بين الروايات المتناقضة أنه كان فيما يروي من الحديث متحريا شديد التحري، فوثقه المحدثون، وكان في اللغة صادقا غالبا، إلا أنه يجتهد أحيانا في تفسير الغريب فيخطئ، أما في النوادر والملح وما يحكي عن الأعراب فيرخي في ذلك لنفسه العنان، وإذا وجد الحال يستدعي قولا ظريفا أو ملحة تزيد فيها أو اخترعها، ولا يرى التساهل في ذلك ما يمس دينا أو يخرج به عن التقوى؛ لذلك نشك فيما يرويه من النوادر كحكاية الأعرابي الذي أضناه العشق وهو ابن ست وتسعين سنة، قالها للرشيد، فقال له: ويحك يا عبد الملك! «ابن ست وتسعين يعشق؟!» وغير ذلك كثير، فلما أنس الناس منه ذلك وعرف به، اخترعوا النوادر الظريفة من الأعراب أيضا ونسبوها إليه. وقد ألف كتبا كثيرة بقي لنا بعضها، منها في الأدب كتاب الأصمعيات، وقد سبق القول فيه، وبعض رسائل في اللغة نقلنا نموذجا منها قبل.
وأما أبو زيد الأنصاري، فهو سعيد بن أوس، عربي من الخزرج من الأنصار، ونشأ بالبصرة كذلك، وأخذ العلم عن علمائها أمثال أبي عمرو بن العلاء، ورحل إلى بغداد في أيام المهدي، ولكن اتصاله بالخلفاء لم يكن كاتصال الأصمعي وأبي عبيدة، ويظهر أن صفاته لم تكن تؤهله لذلك؛ فقد كان متقعرا يبحث عن الغريب، ويلتزم - حتى مع العامة - النحو والإعراب.
وكان يفضل الأصمعي وأبا عبيدة بالتزام الصدق، حتى لا يستطيعا أن يجرحاه مع أنه يجرحهما؛ روى الخطيب البغدادي أن أبا زيد «سئل عن أبي عبيدة والأصمعي فقال: كذابان، وسئلا عنه فقالا: ما شئت من عفاف وتقوى وإسلام».
76
وكان العلماء إذا قارنوا بين الثلاثة رأوا أن أهم مميزاته الصدق، فقد قال ابن مناذر: «أما الأصمعي فأحفظ الناس، وأما أبو عبيدة فأجمعهم، وأما أبو زيد فأوثقهم»؛
77
وكان سيبويه يقول: أخبرني الثقة، يريد أبا زيد؛ كذلك كان يمتاز عنهما بأنه أعلم منهما في النحو، وله فضل كبير فيه، وهو إمداده النحو بالشواهد الكثيرة التي حكاها عن العرب.
كما كان من مميزاته ضعف العصبية البلدية عنده، فلم يتحرج من الأخذ عن علماء الكوفة كما فعل غيره من علماء البصرة، بل أخذ عمن وثق به من الكوفيين كالمفضل الضبي، فأخذ عنه كثيرا من الشعر، وصرح باسمه وبما نقل عنه.
وكان أبو زيد أكثر الثلاثة أخذا عن العرب في البادية، وله في الأخذ عنهم مذهب يخالف مذهب الأصمعي، فالأصمعي كان يضيق دائرة الأخذ، ولا يجوز إلا أصح اللغات، ويشدد في ذلك، وأما أبو زيد - فمع تحريه الشديد وتوثيق الناس له أكثر من الأصمعي - كان لا يضيق دائرة من يؤخذ عنهم، بل يروي ما سمعه ولو كان غريبا نادرا؛ ولذلك انفرد بأشياء، وكان ما روي عنه من اللغة أكثر مما روي عن الأصمعي.
وعمر طويلا حتى قارب المائة، واختل حفظه ولم يختل عقله، أراد الرياشي أن يقرأ عليه كتابه في الشجر والكلأ، فقال أبو زيد: «لا تقرأه علي فإني أنسته». مات سنة 215.
وبقي لنا من كتبه: كتاب «النوادر»، وكتاب «المطر»، وكتاب «اللبأ واللبن».
فكتاب النوادر قال في أوله: «ما كان فيه من شعر القصيد فهو سماعي من المفضل بن محمد الضبي، وما كان من اللغات وأبواب الرجز فذلك سماعي من العرب» وطريقته فيه أن يأتي بالقطعة من القصيدة أو الرجز، البيتين أو الثلاثة أو أكثر ثم يشرح ما فيها من غريب، ويظهر أنه قد تعمد اختيار الأبيات التي فيها غريب ليشرحه، مثال ذلك قوله: قال رجل من غطفان:
لقد علمت أم الصبيين أنني
إل الضيف قوام السنات خروج
إذا المرغث العوجاء بات يعرها
على ثديها ذو ودعتين لهوج
وإني لأغلي اللحم نيئا وإنني
لممن يهين اللحم وهو نضيج
السنات: جمع سنة وهي النعاس، والمرغث: المرضع، فلذلك دعيت عوجاء، وعجفاء، وعوجها عجفها، والودعتان منقافان في عنقه إلخ.
ويظهر أن هذا الكتاب قد دخلته حواش كثيرة من أئمة اللغة بعده، ففيه نقل عن أبي حاتم السجستاني والرياشي والمبرد وغيرهم ممن كانوا من تلاميذه أو جاءوا بعده.
وأما كتاب «المطر» و«اللبأ واللبن»،
78
فعلى مثال رسائل الأصمعي في النخل والكرم، فيقول - مثلا - في كتاب «اللبأ واللبن»: «يقال للبن المذيق ضيح، والحضار والثمال الذي ماؤه أكثر من حليبه، والقطيبة أن يخلط لبن المعز بلبن الضأن، وهي النخيسة أيضا، تدعى النخيسة إذا حمضت، وكل ممزوج قطيب» إلخ. والكتاب في نحو ورقتين اثنتين.
أما أبو عبيدة معمر بن المثنى، ففارسي الأصل، يهودي الآباء، تيمي بالولاء كان أعلم الثلاثة وأوسعهم اطلاعا، مكنته ظروفه من ثقافات واسعة، ثقافة يهودية وفارسية وعربية، لا يقتصر على اللغة والنحو والنوادر كزميليه، بل يشارك في كثير من العلوم، ويعرف كثيرا من أخبار العرب وأيامها، ويقارن ذلك بأخبار الفرس وأيامها، ولكن إذا كان فارسي الأصل عربي المربى لم يكن يحسن التعبير بالعربية إحسان الأصمعي وأبي زيد، وقد وصفه أبو نواس أحسن وصف إذ قال: «أبو عبيدة عالم ما ترك مع أسفاره يقرؤها». فهو عالم لا بليغ ولا صفيح، يفوق قرينيه في القدرة على التأليف وسعة الاطلاع، ويفوقانه في حسن الأداء، ومكنته فارسيته من التحرر من العصبية العربية، فهو شعوبي يطعن على العرب أحيانا وعلى أنسابهم ويؤلف الكتب في معايبهم؛ ولكنه مع هذا عالم باللغة العربية علما واسعا لا يقل كثيرا عن علم الأصمعي وأبي زيد بها، حتى قال ابن مناذر: «كان الأصمعي يجيب في ثلث اللغة، وكان أبو عبيدة يجيب في نصفها، وكان أبو زيد يجيب في ثلثيها»؛ وقد فسر بعضهم هذه الجملة بأن ليس منشأ ذلك سعة الاطلاع وقلته ولكن منشؤه التوسع في الأخذ والتحمل والفتيا والتضييق فيها، فكان بعضهم أشد تضييقا فيما يأخذ كالأصمعي، «وكان أبو عبيدة أعلم الثلاثة بأيام العرب وأخبارهم وأجمعهم لعلومهم»، حتى روي عنه أنه كان يقول: ما التقى فرسان في جاهلية ولا إسلام إلا عرفتهما وعرفت فارسيهما»، وهي مع غلوها تدل على معرفة واسعة بالأخبار. وقد استقدمه بغداد إسحق بن إبراهيم الموصلي وقربه إلى الرشيد، وكان هو وبعض الفرس كالبرامكة يقدمونه على الأصمعي ويزاحمونه به عصبية منهم؛ وفي الواقع كان هو أعلم من الأصمعي، وقد حررته فارسيته من الخضوع للعصبية العربية، وكان لا يتشدد في تفسير آيات القرآن والحديث تشدد الأصمعي، ولا يتحرج من أن يجتهد في الفهم، ويقول في ذلك ما يؤديه إليه اجتهاده؛ وعمر كذلك طويلا حتى قارب المائة، ومات سنة 213.
وقد ترك من الكتب كثيرا أهم ما بقي لنا منها: كتاب النقائض بين جرير والفرزدق، جاء في أوله: «قال الحسن بن الحسين السكري: قال محمد بن الحبيب، حكي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي قال إلخ»، وقد ذكر فيه ما كان بين جرير والفرزدق من أشعار النقائض، وعليها بعض تفسيرات لغريبه، وشرح واف لأيام العرب وما كان فيها من أحداث، مما كان أساسا لما جاء منها في العقد الفريد، وتاريخ ابن الأثير وغيرهما؛ فالكتاب خير دليل على ما كان لأبي عبيدة من سعة الاطلاع في الأدب والشعر وتاريخ العرب وقبائلهم وأنسابهم، وقد قام بنشره الأستاذ بيفان
Bevan
من سنة 1905 إلى سنة 1912 في ثلاثة مجلدات، اثنان في النقائض وشرحها، وثالث في فهارسه، وهو من غير شك، أكبر أثر لأبي عبيدة بين أيدينا يدل على طريقته ومنهجه في التأليف ولغته وأسلوبه.
هؤلاء الثلاثة هم نجوم البصرة، وهم العلماء الذين أخذنا عنهم أكثر اللغة والأدب، فلو جردت كتب اللغة مما أخذ عنهم ما بقي إلا أقلها.
وكان يقابلهم من علماء الكوفة نجوم أخرى ثلاثة: الكسائي والفراء والمفضل الضبي، وكلهم كان في قصر الخليفة، وكلهم كان مربي ولي عهد.
فأما المفضل الضبي فعربي من ضبة، ومن أشهر علماء الكوفة، يروون أنه خرج على المنصور مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فظفر به المنصور ثم عفا عنه وجعله مربي ابنه المهدي؛ وقد اشتهر بالنحو ومعرفته بالأنساب وأيام العرب وروايته للشعر، وعرف بالصدق فيما يروي، مات سنة 164 أو 168 أو سنة 170 على اختلاف في الروايات.
وقد بقي لنا من أهم كتبه كتاب المفضليات، وقد تقدم القول فيه، وكتاب الأمثال.
وأما الكسائي ففارسي الأصل كسيبويه البصري، نشأ في الكوفة، وتعلم بها علي أبي جعفر الرؤاسي، وذهب إلى البصرة وأخذ عن الخليل بن أحمد، ثم خرج إلى بوادي الحجاز ونجد وتهامة، فرجع وقد أنفذ خمس عشرة قنينة حبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ، ولم يبلغ في النحو مبلغ سيبويه، كما يدل عليه ما نقل إلينا من مناظراته النحوية؛ وقد كان في قصر الرشيد في اللغة والنحو نظير أبي يوسف في الفقه،
79
واتخذه مؤدبا لولديه الأمين والمأمون، «وكان أثيرا عند الخليفة حتى أخرجه من طبقة المؤدبين إلى طبقة الجلساء والمؤانسين».
80
وقد اشتهر بالنحو واللغة والقراءات «ولم يكن له في الشعر يد حتى قيل ليس في علماء العربية أجهل من الكسائي بالشعر».
81
وقد هجنه البصريون، وقالوا إنه أخذ نحوه من البصريين، ثم سار إلى بغداد فلقي أعراب الحطمية،
82
فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن ؛ فأفسد بذلك ما كان أخذه بالبصرة كله. وقالوا: «إن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز من الخطأ واللحن، وشعر غير أهل الفصاحة والضرورات، فيجعل ذلك أصلا ويقيس عليه حتى أفسد النحو». وقد تقدم أن هذه هي الطريقة التي سار عليها الكوفيون في النحو، ويظهر ممانقل عنه أنه كان كثير القياس كثير التأويل، فكثيرا ما يجيز الجر والرفع والنصب والفتح والضم والكسر على تأويل بعيد
83
وكان أقل حظا من سيبويه في التعليل.
وقد اختلفوا في توثيقه شأنهم مع الأصمعي وغيره، فكان أبو زيد الأنصاري يقول: «ما جربت على الكسائي كذبة قط»، وابن الأعرابي يثلبه بأقبح المثالب ويقول: «لئن كان أبو زيد قال هذا فما في الأرض أحد أخل عقلا منه»،
84
هذا مع أن أبا زيد بصري وابن الأعرابي كوفي وتلميذ للكسائي؛ والصورة التي يصوره بها الخطيب البغدادي صورة تدل على الصدق والكمال، وسعة العلم والأدب، وأيا ما كان فأكثر الناس على تعديله وتوثيقه، لا سيما وهو أحد مشهوري القراء. مات سنة 189.
ولم يبق لنا من كتبه إلا رسالة تنسب إليه في لحن العامة.
وجاء بعد الكسائي تلميذه الفراء، وهو يحيى بن زياد الديلمي الأصلي الأسدي بالولاء، وكان - بلا شك - أعلم الكوفيين، جمع إلى علم الكوفيين علم البصريين، فأخذ عن الكسائي الكوفي كما أخذ عن يونس البصري، ثم هو كبير العقل بجانب سعة الاطلاع، فهو بحر في اللغة، ونسيج وحده في النحو، حتى يلقب بأمير المؤمنين في النحو، وفقيه عالم باختلاف الفقهاء، وماهر في علم النجوم، وخبير بالطب، وحاذق في أيام العرب وأخبارها وأشعارها، وهو إلى ذلك متكلم «يميل إلى الاعتزال، وكان يتفلسف في تصانيفه ويستعمل فيها ألفاظ الفلاسفة»
85
قد اتخذه المأمون مربي أولاده، وكان الفرق بين الفراء والكسائي كالفرق بين المأمون والرشيد، وكالفرق بين محافظة الرشيد وحرية العقل عند المأمون، وكالفرق بين الحركة العلمية الناشئة في عهد الرشيد، والناضجة في عهد المأمون؛ وكان للفراء أثر واسع في التفسير وفي اللغة وفي النحو، وقد طلب إليه المأمون أن يجمع أصول النحو ، وأن يجمع ما سمع من العرب، وأفرد له حجرة من حجر قصره، ووكل إليه من يخدمه، وجعل بين يديه خزائن كتبه، وجعل له الوراقين يكتبون بين يديه، فعكف على ذلك وألف الكتب، وضبط النحو وفلسفه، فألف فيه كتاب الحدود، واسم الكتاب يدل على تأثره بالمنطق، فهو يريد بالحدود التعاريف كحد المعرفة والنكرة وحد النداء وحد الترخيم إلخ.. وهذه أمور لم يعن بها سيبويه في كتابه كثيرا، وهي أثر من آثار الفلسفة والمنطق، وكان له فضل تقريب النحو إلى الإذهان حتى ليستطيع أن يفهمه الصبيان، على عكس ما كان عليه سيبويه من العمق والصعوبة، كما أنه جمع اللغة وضبطها؛ يقول ثعلب: «لولا الفراء ما كانت اللغة لأنه حصلها وضبطها»، كما كان له أثر في تفسير القرآن، وقد تقدم في موضعه.
وعلى الجملة فقد خطا الفراء باللغة والنحو خطوة واسعة نحو الضبط، وتقعيد القواعد، وتمييز الفروع من الأصول، ظهر ذلك في كتب من بعده لأن أكثر كتبه لم تصل إلينا. وقد مات سنة 207.
وممن كان في طبقة الفراء من الكوفيين محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي ولم يكن أبوه أعرابيا كما يتبادر من اللفظ، بل كان عبدا سنديا، وإنما لقب بالأعرابي «لأنهم يقولون رجل أعجم وأعجمي إذا كان في لسانه عجمة وإن كان من العرب، ورجل عجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا، ورجل أعرابي إذا كان بدويا وإن لم يكن من العرب، ورجل عربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدويا» وقد عرف بالنحو، وعد من أكابر أئمة اللغة، وكان راوية لأشعار القبائل، ومنح حافظة لاقطة تشبه حافظة الأصمعي، كان يملي على الناس من حفظه ما لو جمع لألف كتبا عديدة، ويظهر أنه كان ثقة فيما يروي قاسي الحكم على العلماء، وقد جرح الأصمعي وأبا عبيدة والكسائي، ورماهم بالكذب والاختلاق. مات سنة 231 عن نحو ثمانين عاما.
وهناك فن متميز نوع تميز وهو فن رواية الأشعار والأخبار وأيام العرب وأحداثها، وقد كان من سبق ذكرهم قبل يساهمون في هذا الباب قليلا أو كثيرا، ولكن اشتهر قوم بهذا الفن وغلب عليهم و عرفوا به، وشاء القدر أن يكون أحد رءوس هذا الفن أيضا كوفيا والآخر بصريا، فالكوفي حماد الرواية والبصري خلف الأحمر، كلاهما غير عربي الأصل؛ فحماد ديلمي، وخلف فرغاني، وكلاهما واسع العلم عارف بالشعر وفنونه ومميزات عصوره، عالم بالأخبار والأيام والأحداث، وكلاهما أخذ عنه البصريون والكوفيون جميعا، وكلاهما كاذب وضاع. قال ابن الأعرابي: «سمعت المفضل الضبي يقول: قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا، فقيل له: وكيف ذلك؟ أيخطئ في روايته أو يلحن؟ قال ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها، ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك».
86
وروى الأغاني أن المهدي قال للمفضل: «إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال: دع ذا وعد القول في هرم - ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضل: ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئا إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله، أو يروي في أن يقول شعرا فعدل عنه إلى مدح هرم، وقال: دع ذا. ثم دعا المهدي بحماد فسأله هذا السؤال فقال حماد ليس هكذا قال زهير ياأمير المؤمنين، قال: فكيف قال؟ قال فأنشده:
لمن الديار بقنة الحجر
أقوين مذحجج ومذ دهر
قفرا بمندفع النحائت من
ضفوى أولات الضال والسدر
دع ذا وعد القول في هرم
خير الكهول وسيد الحضر
وروي أن أعرابيا جاء حمادا فأنشده قصيدة لم تعرف ولم يدر لمن هي، فقال حماد: اكتبوها، فلما كتبوها وقام الأعرابي قال حماد: لمن ترون أن نجعلها؟ فقالوا أقوالا، فقال حماد: اجعلوها لطرفة.
87
وحماد هو الذي جمع السبع الطوال «المعلقات». ويقول الأصمعي: «كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس فهو عن حماد الراوية إلا شيئا سمعناه من أبي عمرو بن العلاء»
88
ثم هو يحدث عن بني أمية الأحاديث الغريبة أشبه ما تكون بقصص ألف ليلة.
89
ومات سنة 155 بعد أن ملأ العالم الإسلامي بما وضع، وخلف لنا تلميذه وراويته ومن على شاكلته، وهو الهيثم بن عدي وسيأتي ذكره.
90
هذا هو حماد الكوفي ونظيره خلف البصري، فقد كان كذلك من أعلم الناس بالشعر ومن أوضعه فيه «وضع على شعراء عبد القيس شعرا موضوعا كثيرا وعلى غيرهم، وأخذ ذلك عنه أهل البصرة والكوفة ... وكان يضرب به المثل في عمل الشعر، وكان يعمل على ألسنة الناس فيشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يضعه عليه. ثم نسك فكان يختم القرآن كل يوم وليلة ... فلما نسك خرج إلى أهل الكوفة فعرفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة، فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم،
91
ومات في حدود سنة 180 ولكن يظهر أن خلفا البصري كان أقل جرأة على الكذب من حماد الراوية، بل نرى العلماء يختلفون في صدق خلف ولا يختلفون في كذب حماد، فتلميذ خلف محمد بن سلام الجمحي صاحب طبقات الشعراء يوثقه إذ يقول: «أجمع أصحابنا أن الأحمر كان أفرس الناس ببيت شعر وأصدق لسانا، وكنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبرا أو أنشدنا شعرا ألا نسمعه من صاحبه».
92
وربما كان هذا من الأسباب التي جعلت شعر الكوفة أكثر، والعلماء أقل به ثقة، فيقول أبو الطيب: «والشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بين في دواوينهم».
93
ولكن مما لا شك فيه أيضا أن من وسائل الخصومة التي كانت بين البصريين والكوفيين أن بعض علماء كل بلد كانوا يبالغون في تجريح الآخرين.
وعلى الجملة كان البصريون أقوى وأكثر إنتاجا وأوثق رواية، ولذلك أسباب: منها أن الأعراب الفصحاء الذين كانوا يردون على البصرة ومربدها أكثر ممن كانوا يردون على الكوفة، وهؤلاء الوافدون من الأعراب أخذ عنهم العلماء كثيرا من اللغة والأدب، فكما كانت طريقة الأخذ الرحلة إلى البادية كان كذلك رحلة الأعراب إلى الأمصار، وكانوا يفضلون أعراب بادية البصرة على أعراب بادية الكوفة؛ لأن الأولين أعرق بداوة والآخرين أفسدتهم الحضارة. ومنها: - ما علمت - من أن مدرسة البصرة سبقت مدرسة الكوفة بنحو مائة سنة في الوجود، فكان طبيعيا أن ينضج النحو واللغة في البصرة أكثر مما نضج في الكوفة. ومنها: أن الكوفيين كانوا أكثر صلة بالأمراء والخلفاء ببغداد، وهذا جعل تزاحم الكوفيين على الأبواب أشد، وجعلهم يتخيرون ما يحسن في السمر والمنادمة، ويتزيدون فيما يعجب وبخاصة ما ليس في التزيد فيه حرج كبير، كالحكايات والقصص من الأعراب؛ ولكن من ناحية أخرى يظهر لي أن الكوفيين لقربهم من الخلفاء، ولاشتغالهم بمهنة تأديب أولاد الخلفاء والأمراء كانوا يتجهون في اللغة والعلم جهة الإيضاح والتبسيط أكثر مما فعل البصريون، وقد رأيت أن الفراء الكوفي مؤدب أولاد المأمون جعل النحو أقرب إلى أن يكون في متناول الصبيان، على حين أنهم يروون أن «المبرد كان إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه (البصري) يقول له: هل ركبت البحر؟ تعظيما لكتاب سيبويه واستصعابا لما فيه».
وأيا ما كان فقد استمر التعاون بين المدرستين في خدمة العلم، والنزاع المستمر والتفاخر والترامي بالكذب والوضع إلى أواخر القرن الثالث الهجري فكان لكل مدرسة شخصيتها ومميزاتها وأعلامها إلى أن اختلطتا وامتزجتا في مدرسة بغداد، فأخذت الفروق تضمحل، وأخذ علماء النحو واللغة بعد يدرسون مسائل الخلاف بين المدرستين على أنها مسائل تاريخية، وربما كان خاتمة أعلام المدرستين ثعلب الكوفي، المتوفى سنة 285، والمبرد البصري المتوفى سنة 291 وكان بينهما من المفاخرة والمناقب الشيء الكثير، ثم خفت من بعدهما الجدال وقل النزاع. •••
وبعد، فنظرة إلى ما تقدم ترينا: أن هذا العصر كان العصر الذي جمعت فيه اللغة ونقلت من الألسنة إلى الكتب، ومن المشافهة إلى التحرير، وأن الذين تولوا ذلك التدوين والجمع هم من ذكرنا وقليل أمثالهم، وفي الواقع أن هؤلاء مهما بلغوا من الجد لم يستطيعوا أن يدونوا كل كلمات العرب على اختلاف قبائلهم؛ لأن ذلك كان يحتاج إلى سلطة عليا دقيقة منظمة تضع خطة محكمة تشبه الخطة التي تضعها «مصالح الإحصاء الرسمية»، فتحدد القبائل التي يصح الأخذ عنها، وتوجه كل طائفة من العلماء إلى قبيلة أو جملة قبائل، وترسم لهم طريقة الأخذ والتدوين، ولو فعلت لكان الحصر أوفى والضبط أتم، ولما استطاع فرد أو أفراد أن يختلقوا أو يتزايدوا؛ ولكن هذه الفكرة لم تكن في ذلك العصر ولا يمكن أن تكون، ولم تتخذ الحكومة في ذلك الوقت أية خطوة للإشراف على الحركة العلمية، سواء في ذلك الدولة الأموية والعباسية، وسواء في ذلك العلوم اللسانية والعلوم الدينية، حتى القانون الذي تحكم به الرعية لم يتخذ شكلا رسميا، ولم تحتضنه الدولة - كما رأيت عند الكلام في الفقه - بل كانت الحركات العلمية مجهود الأمة نفسها، فهم يتعلمون بمحض إرادتهم ويعلمون بمحض إرادتهم، والرغبة الشخصية هي التي تدفع للتعلم، والكفاية الشخصية في الأوساط العلمية هي وحدها التي تؤهل العالم أن يعلم ويتخذ له حلقة في المسجد وهكذا. فهؤلاء اللغويون جدوا من أنفسهم في جمع اللغة وتدوينها، أما من طريق الخروج إلى البادية، أو من رحلة الأعراب إليهم وسماعهم منهم؛ وطبيعي أنهم بهذا الشكل - الذي لم ترسم له خطة محدودة - يفوتهم كثير من الكلمات العربية لم تقع لهم، وهذا ما يعلل ما نرى من أن كثيرا من الكلمات التي وردت في الشعر الفصيح الصحيح من جاهلي وإسلامي لم يرد له ذكر فيما بين أيدينا من معاجم، وكلمات كثيرة استعملت في الشعر الفصيح الصحيح للدلالة على معان لم تفسرها المعاجم تفسيرا يتفق وهذه المعاني .
كذلك كان هذا العمل الفردي الاجتهادي سببا في أن لغويا قد يفهم من مخالطته للعرب وسماعه للكلمة مدلولا قد فهمه من القرائن، على حين أن لغويا آخر سمع هذه الكلمة وفهم من قرائن أخرى مدلولا يخالف المدلول الذي فهمه الأول مخالفة قريبة أو بعيدة، وهذا هو الذي يفسر ما نراه في المعاجم التي بين أيدينا من إيراد احتمالات مختلفة لتفسير الكلمات. وقد يكون لهذا سبب آخر وهو أن الكلمة التي تكون واحدة وتستعملها قبيلة في معنى، وتستعملها قبيلة أخرى في معنى آخر، وعدم النظام الذي ذكر جعل الراوي لا يعين القبيلة التي أخذ منها هذه الكلمة وهذا المعنى - غالبا - ولهم بعض العذر في ذلك؛ فلو فعلوا لبلغ المعجم مجلدات عديدة.
وناحية أخرى وهي أن ضعف الكتابة العربية في ذلك العصر، وعدم العناية بالنقط والشكل، وتقارب الحروف في اللغة العربية، والاكتفاء في التفريق بينها بالنقط مع أنهم لا يلتزمونه، جعل التصحيف ميسورا سهلا، فلا فرق بين العين والغين إلا النقطة، ولا بين الباء والتاء والثاء والنون والياء في أول الكلمات ووسطها إلا النقط، وهذا هو الذي يفسر ما نرى في المعاجم من أن الكلمة يرويها بعضهم بالعين وبعضهم بالغين، وكلمة أخرى يرويها بعضهم بالفاء وبعضهم بالقاف، وكلمة ثالثة يرويها بعضهم بالصاد وبعضهم بالضاد، وكل يخطئ الآخر، وقد فتحت «لسان العرب» حيثما اتفق فخرجت مادة قبض فوجدت فيها ما يأتي: قال الليث: «القبيضة من النساء القصيرة: وقال الأزهري: هذا تصحيف والصواب القنبضة». وفيها: في حديث بلال في التمر، فجعل يجيء به قبضا قبضا»، وقد روي بالصاد المهملة. وفيها أن بيت الشماخ:
وتعدو القبضي قبل عير وما جرى
ولم تدر ما بالي ولم أدر ما لها
يرويه بعضهم القبضي بالضاد وبعضهم القبصي بالصاد، فهذه ثلاثة تصحيفات في مادة واحدة، فكم في اللغة جميعها.
ومن أطراف ما يروى في ذلك أن جماعة من العلماء اختلفوا في اسم شاعر، فكتبوا إلى أربعة علماء يسألونهم عن اسمه الصحيح، فأجاب كل واحد بما يخالف الآخرين، فقال بعضهم : هو حريث بن مخفض (بالخاء والضاد)، وقال بعضهم محفص (بالحاء والصاد) وقال آخرون: هو ابن محيصن، وقال ابن دريد إنما هو حريث بن محفض (بالحاء والضاد).
94
وقد نصوا على بعض التصحيف ولكن ورد كثير من الكلمات إذا نظر فيها الناظر لا يشك في أنها من هذا الباب.
هذا إلى أن بعض اللغويين لم يكونوا ثقات، فكانوا بحضرة خليفة أو أمير أو في مجلس عام يسألون عن كلمة فيحرجون فيخترعون، كالذي حكي عن المبرد أن جماعة وضعوا له كلمة القبعض وسألوه عن معناها فقال: «معناها القطن» قال الشاعر: «كأن سنامها حشي القبعضا»،
95
فاخترع المعنى واخترع له الشاهد.
ومع ما بذله العلماء من جهد في التحري عن الخطأ والتصحيف والوضع بقي منه ما بقي في الكتب، ومما يؤسف له أن جهود العلماء وقفت تقريبا على ما وضع في العصر العباسي الأول والثاني، ولم يكن لمن أتى بعدهم إلا جمع ما قالوا أو اختصار ما جمعوا، فلم يحكموا بالإعدام على كلمات تبين عدم صحتها أو عدم الحاجة إليها، ولم يحكموا بصحة كلمات تثبت صحتها أو دعت الحاجة إليها.
وكذلك الشأن في الأدب إنما جمع في العصر العباسي، وروي من شعر الأدب ونثره ما كان العرب يتناقلونه في ذلك العصر شفاها، فحول من رواية شفوية إلى كتابة وتدوين، ودخل في الأشعار اختلاف الروايات كما رأيت؛ لأن الحافظة تخطئ كثيرا فتضع لفظا مكان لفظ، وتقدم بيتا على بيت، وتحذف بيتا كان إلخ، وجاء حماد وخلف الأحمر - كما سبق - وأمثالهما، فعدوا من الظرافة أن يتزيدوا، وتسابقوا في الوضع، واستغلوا إعجاب الناس بالجديد الذي لم يسمع من قبل، وتلهفهم على الكتابة عنهم ما لم يرو من قبل عن غيرهم، كما استغلوا إعجاب الناس بما يستخرج الدهشة من خبر غريب أو حادثة غير مألوفة، أو قصيدة فرشوا لها فرشا يناسبها؛ فكان من ذلك ما أدركه المفضل الضبي من أن تمييز الصحيح من غير الصحيح أصبح بعد هؤلاء الكذبة المهرة عسيرا أو محالا.
يقول الأصمعي: حدثنا بعض الرواة، قال : قلت للشرقي بن القطامي ما كانت العرب تقول في صلاتها على موتاها؟ قال: لا أدري، قلت: فاكذب له، قال: كانوا يقولون رويدك حتى تبعث الخلق باعثة، فإذا أنا به يوم الجمعة يحدث به في المقصورة؛ «وابن دأب» يضع الشعر وأحاديث السمر وكلاما ينسبه إلى العرب،
96
وملأوا الأحداث والغزوات التي غزاها النبي
صلى الله عليه وسلم
بالأشعار، فأدخلها محمد بن إسحق في سيرته. ومع هذا فلم ييأس العلماء أمثال محمد بن سلام الجمحي من أن يمتحنوا وينقدوا، ويدخلوا الشعر في البوتقة فيمتحنوا جيدة من زائفه.
كذلك نحن مدينون لهذا العصر كل الدين بالنحو والصرف، فما اخترعه الخليل ودونه وسيبويه وأكمله الفراء وأمثالهم في هذا العهد هو أساس كل ما وصل إلينا، فإن كان بعد جديد فتبويب وشرح وتبسيط وإكمال قليل، لكن لا اختراع جديد ولا إنتاج جديد. فإذا قلنا إننا عشنا القرون الطويلة نأكل من المائدة التي صنفها هؤلاء في اللغة والأدب والنحو والصرف، ولم نزد صنفا عليها، بل لم نغير كثيرا في طريقة إعداد الصنف وتهيئته لم يكن ذلك بعيدا من الصواب.
ومما ألاحظه أيضا أن اللغة والنحو لم يشترك في وضع أسسها غير العراق، فالمصريون والشاميون ساهموا في القراءات، وساهموا في الحديث، وساهموا في التاريخ، وساهموا في الفقه، وكان لهم في كل ذلك رجال يعدون في طبقة رجال العراق، كما أبنا ذلك عند الكلام في مراكز الحياة العقلية، ولكنا - فيما وصل إلينا - لم نجد مصريا أو شاميا جد في جمع اللغة وتدوينها في ذلك العصر كما جد أبو عمرو بن العلاء، والخليل والأصمعي وأضرابهم، مع أن في مصر عربا خلصا كان المصريون يستطيعون أن يدونوا ما يسمعونه عنهم فيكون لهم نصيب في ذلك، وربما أفادونا لونا غير اللون الذي أثر عن العراقيين، وكان بالشام عرب خلص كذلك، وقريب منهم بادية الشام، فيستطيعون أن يخرجوا إليها يستمعون أعرابها ويدونون ما سمعوا منهم، كما فعل الأصمعي والكسائي وغيرهما، وربما أفادونا في ذلك لونا خاصا أيضا، ولكنهم لم يفعلوا، ولم نعلم كذلك من المصريين والشاميين من وضع حجرا أساسيا في بناء النحو في عهد تأسيسه، كما فعل الخليل وسيبويه والفراء. قد كان لمصر الليث بن سعد، وللشام الأوزاعي وهما يضارعان فقهاء العراق، ولكن لم يكن لهما أصمعي ولا سيبويه - فيما نعلم - وربما كان السبب في ذلك جملة أمور مجتمعة منها: أن اللغة العربية لم تنتشر في مصر انتشارها في العراق، فعرب أهل مصر لا حاجة لهم يجمع لغة ولا بنحو، وأهل مصر أنفسهم أخذوا يتعلمون اللغة العربية في العصر الأموي تعلما ابتدائيا لا يمكنهم من جمع وابتكار فيها، فلما نضجوا أو قاربوا النضج كان النحو قد تكون واللغة قد جمعت، أما العلوم الأخرى من حديث وتاريخ وتشريع فالباعث الديني كان عندهم فيها أقوى من الباعث اللغوي أو النحوي، والعرب الذين في مصر في حاجة إلى الحديث وما يتبعه من تاريخ وتشريع، لا إلى نحو ولا إلى لغة؛ فلما اشتغلوا هم بالحديث وما إليه دون اللغة والنحو قلدهم في ذلك غيرهم من الموالي، وقريب من ذلك يصح أن يقال في الشاميين، وإن كانوا أكثر اتصالا بالعرب من المصريين. ومنها: أن ظروفا خاصة أشرنا إليها قبل جعلت تأسيس النحو في البصرة، ثم نقلت العدوى إلى الكوفة فتعاون المدرستان في تأسيسه والنحو وليد اللغة، ولم تنتقل العدوى إلى مصر والشام لبعد المسافة. ومنها: أن العراق ربيب حضارات مختلفة، وأهله قد شغلوا بالعلوم كثيرا قبل أن يتعربوا، وبعض هذه الأمم كان لها لغة معروفة ونحو موضوع، فلما تعربوا اتجهت أفكارهم المنظمة تنظيما علميا أن يؤسسوا في العربية ما أسس قبل ذلك في غيرها؛ أضف إلى ذلك ذوق الخلفاء والأمراء العباسيين في العراق وتشجيعهم لحركة اللغة والنحو، ولم يكونوا كالأمويين الذين يشجعون الأدب العربي من ناحية روايته، لا من ناحية علميته؛ فكل هذا ونحوه أنتج الظاهرة التي أبناها. •••
وأيا ما كان فمما يلفت النظر حقا جد العلماء في ذلك العصر في جمع اللغة وابتكار النحو جدا لم يكن له نظير في العصور الإسلامية بعد؛ فاحتمال العناء في مخالطة الأعراب في البادية، وتحملهم السفر وخشونة العيش، وصبرهم على كل ما يلقون من مكروه، وتفكيرهم الطويل العميق مع الزهد في عرض الدنيا - كما يقدم لنا الخليل بن أحمد صورة من ذلك من أجمل الصور - كل هذا من غير شك يدعو إلى الإعجاب. (قال الأصمعي: قال عيسى بن عمر: «كنت أنسخ بالليل حتى ينقطع سوائي» أي وسطي)؛ وأبو العباس ابن عم الأصمعي يهلع من الغربة في البادية ويشتاق أهله فيهم بالرجوع، ثم يرى عربيا فيتوسل له أن يسهل له سبيل الأخذ عن الأعراب فيفعل، ويصحبه فيسمع قصيدة من أعرابي مطلعها:
لقد طال يا سوداء منك المواعد
ودون الجدا المأمول منك الفرقد
فيقول أبو العباس: «قد والله أنسيت أهلي، وهان علي طول الغربة وشظف العيش سرورا بما سمعت». وروي عن أبي المحلم أنه أنشد يونس بن حبيب أبياتا من رجز، فكتبها على ذراعه إذ لم يجد صحيفة.
ومثل ذلك كثير يشهد بأنهم عانوا في العلم أشد مما يعاني الجندي في صف القتال.
الفصل السابع
التاريخ والمؤرخون
ذكرنا قبل أن أول ما عني به - من التاريخ الإسلامي - سيرة النبي
صلى الله عليه وسلم
وما يتبعها من مغاز، وأن هذا النوع من التاريخ اعتمد على شيئين: الأول ما كان دائرا بين العرب عن أخبار الجاهلية كأخبار جرهم ودفن زمزم، وأخبار قصي بن كلاب وغلبته على أمر مكة وجمعه قريش، ومعونة قضاعة له، وقصة سد مأرب ونحو ذلك. والثاني أحاديث رواها الصحابة والتابعون من بعدهم عن حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
من ولادته ونشأته ودعوته إلى الإسلام، وجهاده مع المشركين وغزواته، وعلى الجملة أخباره إلى حين وفاته؛ وقد أضافوا إلى أخبار الجاهلية والإسلام الأشعار التي رويت في هذه الموضوعات، مما يصح بعضه ولم يصح بعضه عند الثقات.
وقد تأثر ما يروى في السيرة من أحداث قبل الإسلام بالنمط الذي تروى به أيام العرب في الجاهلية، كما تأثر ما يروى منها من أحداث الإسلام بنمط الحديث.
وقد كان تاريخ النبي
صلى الله عليه وسلم
داخلا فيما يروى من الحديث، وكانت الأحاديث فيه متفرقة يوم كان المحدث يجمع كل ما وصل إليه علمه من غير ترتيب، فلما رتبت الأحاديث في الأبواب، جمعت السيرة في أبواب مستقلة، كان من أشهرها باب يسمى «المغازي والسير»
1
ثم انفصلت هذه الأبواب عن الحديث وألفت فيها الكتب الخاصة، ولكن ظل المحدثون يدخلونها ضمن أبوابهم، ففي «البخاري» - مثلا - كتاب المغازي، وفي «مسلم» كتاب الجهاد والسير ، وفي «مسند أحمد» كتاب المغازي، إلى غير ذلك من الأبواب المتصلة بتاريخ النبي
صلى الله عليه وسلم
ونستطيع أن نضع الجدول الآتي، لبيان تسلسل التأليف في السيرة:
فأول من عرف بالتأليف في المغازي أربعة: أبان بن الخليفة عثمان المتوفى سنة 105ه، وقد كان واليا على المدينة لعبد الملك بن مروان سبع سنين، وعرف بالحديث والفقه، والظاهر أن سيرته التي جمعها لم تكن إلا صحفا فيها أحاديث عن حياة الرسول
صلى الله عليه وسلم
كما يدل، عليه قول ابن سعد في المغيرة بن عبد الرحمن: «وكان ثقة قليل الحديث، إلا مغازي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أخذها من أبان بن عثمان، فكان كثيرا ما تقرأ عليه ويأمرنا بتعليمها»
2
ولكن من الغريب أن مؤلفي السيرة الأولين كابن سعد وابن هشام لم يرووا له شيئا في السيرة.
والثاني
عروة بن الزبير ، وهو من أشراف البيوت وأنبلها، أخو عبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير، أبوهم الزبير بن العوام، وأمه وأم عبد الله أسماء بنت أبي بكر، وقد ولد عروة سنة 23ه، ونشأ بالمدينة وأخذ الحديث والأخبار عن كثير من الصحابة، منهم: أبوه، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس؛ وكان يكره بني أمية ويجلس في مسجد الرسول بالمدينة مع علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فيتذاكران جور من جار من بني أمية والمقام معهم، وهما لا يستطيعان تغيير ذلك، ويخافان أن تحل عقوبة الله بهما لسكوتهما؛
3
وكان عروة كثير الحديث ثقة فيما يرويه، وكان يدون علمه، قال هشام بن عروة: «أحرق أبي يوم الحرة كتب فقه كانت له، فكان يقول بعد ذلك: لأن تكون عندي أحب إلى من أن يكون لي مثل أهلي وولدي»،
4
وقد رحل من المدينة إلى مصر وأقام بها سبع سنين. روى البلاذري عن عروة قال: أقمت بمصر سبع سنين وتزوجت بها، فرأيت أهلها مجاهيد قد حمل علهيم فوق طاقتهم، وإنما فتحها عمرو بصلح وعهد وشيء مفروض عليهم؛
5
ويذكر ابن سلام في طبقات الشعراء أن عروة بن الزبير كان بمصر عندما خلع عبد الله بن الزبير يزيد بن معاوية،
6
وبعد مقتل عبد الله كان عبد الملك يعامل عروة في إجلال واحترام، فيروي الأغاني أن عروة «قدم على عبد الملك بن مروان، فأجلسه معه على السرير، فجاء قوم فوقعوا في عبد الله بن الزبير، فخرج عروة فقال للآذن: إن عبد الله بن الزبير ابن أبي وأمي، فإن أردتم أن تقعوا فيه فلا تأذنوا لي عليكم»
7 - وكان عروة أحد الفقهاء العشرين الذين استعان بهم عمر بن عبد العزيز أيام إمارته على المدينة (من سنة 87 إلى سنة 93) - وعد عروة أحد الفقهاء السبعة الذين انتهى إليهم العلم بالمدينة، وقد مكنه نسبه من أن يروي الكثير من الأخبار والأحاديث عن النبي
صلى الله عليه وسلم
وحياة صدر الإسلام، فروى عن أبيه الزبير وأمه أسماء، وروى الكثير عن خالته عائشة.
وكان أكبر الرواة عنه ابن هشام بن عروة، وابن شهاب الزهري؛ ووصلت إلينا كثير من روايات عروة وأحاديثه في كتب ابن إسحق والواقدي والطبري، فرويت عنه أخبار الهجرة إلى الحبشة وأخبار الهجرة إلى المدينة، وغزوة بدر إلخ، وكثير مما روي عنه كان إجابة عن أسئلة وجهت إليه من عبد الملك بن مروان والوليد وغيرهما. ويدل ما وصل إلينا من إجابته على أنه كان يجيب في المغازي من أحاديث جمعها.
وعلى الجملة فكتب السيرة الأولى التي وصلت إلينا كابن هشام وابن سعد والطبري مدينة في جزء كبير منها لما رواه عروة بن الزبير.
والثالث
شرحبيل بن سعد ، مولى الأنصار، وقد عمر أكثر من مائة سنة ومات سنة 123، وقد روى كثيرا عن زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة، وقد روي عنه أنه كتب «ثبتا» بأسماء من هاجر من مكة إلى المدينة، وأسماء من اشتركوا في غزوة بدر وغزوة أحد، وقال سفيان بن عيينة: إن أحدا لم يعرف المغازي وغزوة أحد معرفته؛ ولكن لم يكن من الثقة بحيث كان أبان وعروة، فابن سعد يقول فيه: «إنه بقي إلى آخر الزمان حتى اختلط، واحتاج حاجة شديدة، وله أحاديث وليس يحتج به»؛
8
وقد رووا أن الناس تحاموه لأنه كان إذا نزل بأحد فلم يصله، قال له إن أباك لم يشهد بدرا، ولذلك لم يرو عنه ابن إسحق والواقدي شيئا، ولكن ابن سعد روى عنه خبرا في انتقال النبي
صلى الله عليه وسلم
من قباء إلى المدينة.
9
والرابع
وهب بن منبه ، وقد مضى القول فيه كثيرا، والذي يهمنا الآن أخباره في السيرة، وقد ذكر صاحب «كشف الظنون» عند كلامه في علم المغازي والسير: «يقال أول من صنف في المغازي عروة ابن الزبير، وجمعها أيضا وهب بن منبه»، وكتاب السير الأولون لا يسندون إليه شيئا في كتبهم، ولكن عثر على قطعة من كتابه في المغازي، وهي الآن في مدينة «هيدلبرج» في ألمانيا وكتبت سنة 228ه وراويها «محمد بن بكر عن أبي طلحة عن عبد المنعم عن أبيه عن أبي إلياس عن وهب»، وفي هذه القطعة لا يستعمل الإسناد، وهذه عادة وهب، وقد ذكر فيها «العقبة الكبرى» واجتماع قريش في دار الندوة، وهجر النبي
صلى الله عليه وسلم
إلخ. ولا يتبين من هذه القطعة إن كان وهب قد أدخل في المغازي شيئا من معارف أهل الكتاب، وقد كان عارفا بها مطلعا فيها.
هؤلاء الأربعة هم الدعامة الأولى في كتابة المغازى، ونرى من أخبارهم أن ثلاثة منهم، وهم أبان وعروة وشرحبيل، الأولان من خير بيوتات قريش وأشرفها: أبان وعروة، والثالث مولى من موالي الأنصار، وطبيعي أن تكون المدينة أهم مصدر المغازي؛ فقد وقعت أكثر الأحاديث تحت أعين أهلها، وأما وهب فقد ذكروا أنه من أهل الكتاب الذين أسلموا، وأنه يمني من أصل فارسي قد اعتد في أخباره على ما روى عن عباس وجابر وأبي سعيد الخدري وغيرهم، وعلى ما قرأ من كتب أهل الكتاب.
ثم جاءت بعد هؤلاء طبقة أخرى عنيت بالمغازي من أشهرهم: (1) عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري (2) وعاصم بن عمر بن قتادة (3) والزهري. فأما عبد الله فكان جده الأعلى عمرو بن حزم من كبار الصحابة، بعثه رسول الله إلى أهل اليمن ليفقههم في الدين ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم، وجده محمد بن عمرو مات يوم الحرة، وكان معروفا بالتقوى، وأبوه أبو بكر كان قاضي المدينة لما كان عمر بن عبد العزيز واليا عليها، وضم إليه سليمان ولاية المدينة، وظل فيها في خلافة عمر. وروي عن مالك أنه قال: «لم يكن أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر بن حزم»، وهو الذي كتب إليه عمر بن عبد العزيز يطلب إليه أن يجمع الحديث. وقد خلف أبو بكر ولدين محمدا وعبد الله الذي نترجم له، فمحمد كان قاضيا على المدينة، وكان يخرج في قضائه عن الحديث أحيانا إلى العمل بما أجمع عليه أهل المدينة، ويأبى عليه أخوه عبد الله إلا أن يتبع الحديث.
وقد نقلت عن عبد الله هذا أخبار كثيرة ذكرها ابن إسحاق والواقدي وابن سعد والطبري، ورويت له أخبار تتعلق ببدء حياة النبي
صلى الله عليه وسلم ، ووفود القبائل إلى رسول الله، وأخبار في حروب الردة إلخ. ففي سيرة ابن هشام: «قال ابن إسحق، وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن امرأته فاطمة بنت عمارة عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن عائشة كذا». وفي الطبري عن محمد بن إسحق أنه «دخل على عبد الله بن أبي بكر، فقال لامرأته فاطمة: حدني محمدا ما سمعت من عمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: سمعت عمرة تقول، سمعت عائشة تقول إلخ» ويروي الطبري: عن محمد بن إسحق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: كان جميع ما غزا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بنفسه ستا وعشرين غزوة: أول غزوة غزاها ودان، ثم غزوة بواط إلخ. وعلى الجملة فقد كان عبد الله بن أبي بكر عظيم الأثر في كتب السير والمغازي، وكان له من بيته العظيم في الأنصار، وتزوجه بقاطمة التي تروي عن عمرة التي تروي عن عائشة ما يسر له جمع الأحاديث التي تتصل بالمغازي.
وأما
عاصم بن عمر
بن قتادة الظفري
10
فمدني من الأنصار، كان جده قتادة أنصاريا شهد مع الرسول غزوة بدر، وابنه عمر بن قتادة روى الأخبار عن أبيه وبلغها ابنه عاصما، واتصل عاصم هذا بعمر بن عبد العزيز، وقال فيه ابن سعد: «كان راوية للعلم، وله علم بالمغازي والسير، أمره عمر بن عبد العزيز أن يجلس في مسجد دمشق فيحدث الناس بالمغازي ومناقب الصحابة ففعل». أرخ بعضهم موته بسنة 120 وبعضهم بسنة 129، وكان مصدرا من المصادر التي اعتمد عليها ابن إسحق والواقدي.
وأما
ابن شهاب الزهري
فمكي، كما يدل عليه نسبه إلى بني زهرة، فهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، حارب جده عبد الله بن شهاب مع المشركين يوم بدر «وكان أحد النفر الذي تعاقدوا يوم أحد لئن رأوا رسول الله ليقتلنه أو ليقتلن دونه»،
11 «وكان عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في جبهته»،
12
وأبو مسلم «كان مع ابن الزبير على الأمويين» واتصل محمد بن شهاب الزهري بعد ذلك بالأمويين، عبد الملك وهشام، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، وكان يستوطن الشام ويتردد على الحجاز ويصاحب الخلفاء، حتى قال فيه مكحول: «أي الرجل الزهري، لولا أنه أفسد نفسه بصحبة الملوك».
وكان ابن شهاب الزهري من أسبق الناس إلى تدوين علمه على حين أن علماء زمنه كثيرا ما يتحرجون من ذلك، قال الزهري: «مانشر أحد من الناس هذا العلم نشري ولا بذله بذلي»، وقد كان مجدا في جمع الحديث وتدوينه قال: «أدركت من قريش أربعة بحور: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبا سلمة ابن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة». وقالوا: «كان الزهري يأتي المجالس من صدورها ولا يأتيها من خلفها، ولا يبقى في المجلس شابا ولا كهلا، ولا عجوزا ولا كهلة إلا سألهم، حتى يحاول ربات الحجال» وكان يدون ذلك كله. قال صالح بن كيسان: «كنت أطلب العلم أنا والزهري، فقال: تعال نكتب السنن، قال: فكتبنا ما جاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة، قال: فكتب ولم أكتب، فأنجح وضيعت». وكان مع اتصاله بخلفاء بني أمية لا يجاريهم إن أرادوا إفساد العلم، فقد أراد هشام بن عبد الله أن يقول في قوله تعالى:
والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ، إن الذي تولى كبره هو علي بن أبي طالب، فأبى وقال: هو عبد الله بن أبي بن سلول، فقال له هشام: كذبت هو علي، فقال الزهري: «أنا أكذب؟ فوالله لو ناداني مناد من السماء إن الله أحل الكذب ما كذبت، حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعبد الله وعلقمة بن وقاص عن عائشة أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي» وروى الأغاني عن ابن شهاب الزهري أنه قال: «قال لي خالد بن عبد الله القسري: اكتب لي النسب، فبدأت بنسب مضر وما أتممته، فقال: اقطعه قطعه الله مع أصولهم، واكتب لي السيرة، فقلت له: فإنه يمر بي الشيء من سيرة علي بن أبي طالب فأذكره، فقال: لا! إلا أن تراه في قعر الجحيم».
13
وقد نقلت إلينا مجموعة مما رواه في كتب الحديث، ونقل ابن سعد عنه كثيرا من أخبار المغازي في كتابه. وقد مات سنة 124.
وكان كثير من هؤلاء الرواة للسيرة يسمعون للشعر ويشاركون فيه، ويجدون متعة في روايته، فابن أبي بكر بن حزم يفضل حسان بن ثابت الأنصاري على الفرزدق في حكاية طويلة،
14
وابن شهاب الزهري كان «يحدث ثم يقول هاتوا من أشعاركم فإن الأذن مجاجة وللنفس حمضة»،
15
فلعل ميل هؤلاء الأولين إلى الشعر وشغفهم به هو السبب في إدخال بعض الشعر في ثنايا السيرة.
وجاءت بعد هؤلاء طبقة أخرى عاشت في العصر العباسي، أشهرهم موسى ابن عقبة، ومعمر بن راشد، وابن إسحق والواقدي.
فأما
موسى بن عقبة
فمولى للزبيريين، ولعله استفاد من هذه الصلة بعض علمه، وقد رأينا قبل أن من أشهر علماء المغازي عروة بن الزبير وابنه هشام، وقد عني موسى وأخواه إبراهيم ومحمد بمدارسة العلم في مسجد المدينة، واشتهروا ثلاثتهم بالفقه والحديث وعرف أصغرهم موسى بالمغازي، حتى قال فيه مالك بن أنس: «عليكم بمغازي ابن عقبة وهي أصح المغازي»؛
16
وكانت سيرته التي كتبها مختصرة موجزة، كما يروي الرواة، وصل إلينا منها بعض مقتطفات، ونجد ابن سعد ينقل عنه بعض الأخبار، كما ينقل عنه الطبري بعض أخبار السيرة وبعض أخبار الخلفاء الراشدين وبني أمية، وينقل عنه الأغاني أخبار زيد بن عمرو،
17
الذي كان يتأله في الجاهلية، ويروي موسى بن عقبة أن كريب بن أبي مسلم مولى عبد الله ابن عباس وضع عنده حمل بعير من كتب ابن عباس.
18
وقد مات موسى سنة 141.
وأما
معمر بن راشد ، فكذلك كان من الموالي، كان مولى للأزدي، وقد ولد ونشأ بالبصرة ثم رحل إلى اليمن، وظل ينتقل بين اليمن والبصرة، وكان عظيم الخلق، يصفه ابن سعد فيقول: «كان معمر رجلا له حلم ومروءة ونبل في نفسه»، كما كان واسع العلم بالحديث والسير. وقد ذكر ابن النديم في الفهرست أن له من الكتب «كتاب المغازي» - ولم يصل إلينا، وإنما وصل من مقتطفات في الواقدي وابن سعد والطبري والبلاذري - وأكثر ما يقوله معمر ينسبه إلى الزهري، وقد كان شيخه. وقد مات بصنعاء سنة 150 أو سنة 152.
فإن نحن وصلنا إلى ابن إسحق والواقدي فقد وصلنا إلى أكبر مؤرخي العصر العباسي الأول، ومن كان عليهما يعتمد أكثر المؤرخين الذين جاءوا بعدهما.
ابن إسحق : هو محمد بن إسحق بن يسار، وكان كذلك من الموالي أسر جده يسار في عين التمر في العراق، ووجه إلى المدينة وكان مولى لقيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، وهو من أصل فارسي.
19
وقد نشأ محمد بن إسحق في المدينة، والراجح أنه ولد نحو سنة 85، وقد اتهم بأنه في شبابه كان يغازل النساء، ورفع أمره إلى والي المدينة «فأمر بإحضاره، وكان حسن الوجه، فضربه أسواطا ونهاه عن الجلوس في مؤخر المسجد».
20
وقد لقي كثيرا من علماء المدينة وأخذ عنهم الحديث ، فسمع القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأبان بن عثمان، ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن هرمز، ونافعا مولى عبد الله بن عمر، وابن شهاب الزهري؛ وفي سنة 115 رحل إلى الإسكندرية وسمع من يزيد بن أبي حبيب، ثم عاد إلى المدينة، وكان يجمع الأحاديث وخاصة ما اتصل منها بالمغازي حتى اشتهر بها. وروي عن الشافعي أنه قال: «من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحق».
21
وقد عاداه في المدينة عالمان كبيران: هشام بن عروة بن الزبير، ومالك بن أنس؛ فأما عداء هشام فسببه أن ابن إسحق روى بعض أخباره عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر، وفاطمة هذه هي زوجة هشام بن عروة، فلما بلغ هشاما ذلك أنكره وقال: «ألعدو الله الكذاب يروى عن امرأتي؟ من أين رآها؟»
22
ودافع بعض العلماء عن ابن إسحق، فقد روي عن أحمد بن حنبل أنه قال: «وما ينكر هشام؟ لعله جاء فاستأذن عليها فأذنت له، وهو لم يعلم»؛
23
سيما وقد كان من المألوف في هذا العصر أن يروي الرجال عن النساء. فقد رأينا قبل أن عبد الله بن أبي بكر يروي عن امرأته فاطمة بنت عمارة، ويدعوها لأن تقص على ابن إسحق خبرا، هذا إلى أن فاطمة بنت المنذر كانت متقدمة في السن أيام محمد ابن إسحق، فقد ولدت سنة 48ه، فهي أسن منه بنحو 37 سنة.
وأما عداء مالك فله سببان: الأول ما تقدم من أن ابن إسحق كان يطعن في نسب مالك بن أنس، ويروي أنه هو وأهله من موالي بني تميم بن مرة؛
24
والثاني أنه كان يطعن في علم مالك ويقول: «ائتوني ببعض كتبه حتى أبين عيوبه، أنا بيطار كتبه»؛
25
فكان مالك يقول فيه: «إنه دجال من الدجاجلة»، وكان يقول: نحن نفيناه عن المدينة،
26
وكان يقول: «محمد بن إسحق كذاب». على كل حال وقف فيه علماء المدينة موقفين مختلفين، فكان هشام ومالك يجرحانه، وكان ابن شهاب الزهري وغيره يثنون عليه . وقد اتهم بالتشيع والقول في القدر؛ فلما قامت الدولة العباسية رحل إلى العراق، فنزل الكوفة والجزيرة والري وبغداد، واتصل بالمنصور، وطلب منه أن يصنف كتابا لابنه المهدي منذ خلق الله آدم إلى يومه ففعل، فاستطاله المنصور فاختصره في هذا الكتاب المختصر، وألقي الكتاب الكبير في خزانة المنصور.
27
وقد ألف كتابه المغازي من مجموعة الأحاديث والأخبار التي سمعها من المدينة والتي سمعها من مصر، كما يدل على ذلك ما بين أيدينا من الكتاب. والظاهر أنه قد جمع كتابه قبل أن يرحل إلى العراق؛ إذ ليس فيه من أثر لأحاديثه، وقد بحث بعض المستشرقين في احتمال تأثر ابن إسحق بالعباسيين لاتصاله بالمنصور، وذكروا مثلا على ذلك موقف العباس في غزوة بدر «وهو جد العباسيين»، فقد ذكر مثلا ابن إسحق أنه حارب في بدر مع المشركين، ولكنه لطف ذلك فزعم أنه كان مكرها، وروى في ذلك حديثا عن ابن عباس عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «من لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنما خرج مستكرها»، ورد عليه آخرون بأن بعض تلاميذ ابن إسحق في المدينة وهو إبراهيم بن سعد روى عنه خبرا كهذا قبل اتصاله بالعباسيين.
28
ألف ابن إسحق كتابه المغازي، وهو أول كتاب وصل إلينا في السيرة من بين المؤلفين الأولين الذين ذكرناهم، وإن كان قد وصلنا مختصرا في سيرة ابن هشام
29
المتوفى سنة 218، وقد تلقى ابن هشام السيرة عن زياد بن عبد الله البكائي المتوفى سنة 183 عن ابن إسحق.
وتنقسم مغازي ابن إسحق إلى ثلاثة أقسام: «المبتدا» و «المبعث» و«المغازي» فالمبتدا يبحث في تاريخ الوحي قبل الإسلام، والمبعث في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
في مكة، والمغازي في حياته في المدينة؛ وقد اختصر ابن هشام هذه السيرة ونص على ما فعله فيها فقال: «وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم ومن ولد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من ولده وأولادهم لأصلابهم، الأول فالأول من إسماعيل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل - على هذه الجهة للاختصار - إلى حديث سيرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وتارك بعض ما ذكره ابن إسحق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببا لشيء من هذا الكتاب ولا تفسيرا له ولا شاهدا عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعضه يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقص إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له والعلم به»؛
30
فحذف ابن هشام من القسم الأول من سيرة ابن إسحق تاريخ الأنبياء من آدم (عليه السلام) إلى إبراهيم (عليه السلام) وحذف كذلك من فروع إسماعيل من لم يلد النبي
صلى الله عليه وسلم
كما حذف أخبار القبائل الأخرى وعباداتهم ونحو ذلك.
وقد بقي بعض هذه الأخبار التي حذفها ابن هشام في تاريخ الطبري وغيره من التواريخ منسوبة إلى ابن إسحق؛ وابن إسحق قليل الإسناد في القسم الأول كثيره في الأخيرين وخاصة الأخير، فهو يروي عن عاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر، ويكثر من الرواية عن الزهري، واتصل بكثر من الزبيريين ومواليهم، فأخذ عنهم، علم عروة بن الزبير وهشام بن عروة.
كذلك اتصل ابن إسحق بغير المسلمين من يهود ونصارى ومجوس، ونقل عنهم، فينقل عن «بعض أهل العلم من أهل الكتاب الأول»، وعن «أهل التوراة» و«من يسوق الأحاديث عن العجم». وقد خلف ابن إسحق في هذا الباب وهب بن منبه، ونحا منحاه، وأحيانا ينقل أيضا عن وهب، وربما كان ابن إسحق أول من نقل عن التوراة والإنجيل نقلا حرفيا، وقد عابه بعضهم على ذلك فيقول ابن النديم: «وكان يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتبه أهل العلم الأول»، كما قال فيه أيضا: «إنه كان يعمل له الأشعار ويؤتى بها ويسأل أن يدخلها في كتابه فيفعل فضمن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر»،
31
وقد نقل عنه الطبري وابن هشام شيئا من هذا الشعر، وكثيرا ما يقول ابن هشام عند ذكر ما رواه ابن إسحق «وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة»، وقد نقده على ذلك أيضا محمد بن سلام الجمحي صاحب كتاب طبقات الشعراء؛ وعلى الجملة فقد رأى أن يجمع كل ما يروى من الشعر في الموضع الذي يذكر خبره، ويترك لعلماء الشعر نقده والاستيثاق من صحته.
ولابن إسحق فضل جمع الأحداث وترتيبها وتبويبها وسلسلتها، وربما كان هو أول من فعل ذلك، وحذا حذوه من بعده.
وكان له تلاميذ يروون عنه كتابه، منهم إبرهيم بن سعد بالمدينة، والبكائي الذي أخذ عنه ابن هشام، وسلمة بن الفضل الذي يروي عنه الطبري أكثر ما يروي عن ابن إسحق، ويروي الخطيب البغدادي: «إن محمد بن إسحق صنف هذا الكتاب في القراطيس. ثم صير القراطيس لسلمة بن الفضل فكانت تفضل رواية سلمة على رواية غيره لحال تلك القراطيس».
32
وقد اختلف العلماء فيه في العراق، كما اختلفوا فيه في المدينة من مجرح ومعدل، وموثق ومكذب، وقد عقد الخطيب البغدادي فصلا طويلا حكى فيه الأقوال التي قيلت له والتي قيلت عليه، ولم يحكم بينها كعادته، ووقف بعضهم في ذلك موقفا وسطا، فقالوا إن سعة علمه لا تنكر، وإنه لم يكن كاذبا، ولكنه كان قدريا وكان يتشيع، وكان لا يتقيد بالقيود الكثيرة التي يتقيد بها ثقات المحدثين، فيقول فيه ابن حنبل: «كان رجلا يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه»، والمحدثون لا يرضون عن هذا ويشترطون السماع. و«كان يحدث عن جماعة بالحديث الواحد ولا يفصل ذا من ذا»، والمحدثون يكرهون ذلك ويشددون في نسبة كل جزء من الحديث إلى قائله، فالظاهر أنه لم يلتزم طرق المحدثين في الحديث، وتوسع في نقل الأخبار فكرهه بعضهم من أجل ذلك وعابوه.
وقد مات ببغداد سنة 152 أو سنة 153.
الواقدي - كان الثاني بعد ابن إسحق في سعة العلم بالمغازي والسير والتاريخ، وكان معاصره وأصغر منه سنا، وكان مولى مثله، فهو محمد بن عمر بن واقد الواقدي مولى بني هاشم، وقيل مولى بني سهم بن أسلم؛ وقد لقي كثيرا من الشيوخ وأخذ عنهم مثل معمر بن راشد، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري؛ ومن أشهر شيوخه في التاريخ الذين يروي عنهم كثيرا أبو معشر السندي واسمه نجيح، كان من علماء المدينة، فلما قدم المهدي المدينة استصحب معه أبا معشر هذا إلى بغداد وأمر له بألف دينار، وقال له: «تكون بحضرتنا فتفقه من حولنا». ومات ببغداد سنة 170، وكان كثير العلم بالتاريخ والحديث، ففي الحديث يضعفه كثير من المحدثين، ويروون أنه اختلط في آخر عمره، وبقي قبل أن يموت سنتين في تغير شديد لا يدري ما يحدث به لكثرة المناكير في روايته؛ والبخاري يقول فيه: «إنه منكر الحديث»، ولكنهم لا يطعنون في سعة علمه بالمغازي، فيقول فيه أحمد بن حنبل: إنه بصير بالمغازي: وقد ألف كتابا فيها ذكره ابن النديم في الفهرست، اقتبس منه ابن سعد في كتابه الطبقات عند الكلام في السيرة، وكذلك الطبري.
فيظهر أن الواقدي استفاد كثيرا من علم أبي معشر في المغازي والتاريخ، كان تلميذه أيام كان في المدينة.
ولد الواقدي بالمدينة سنة 130 في خلافة مروان بن محمد، وسمع من شيوخها؛ ولما حج الرشيد (وربما كان ذلك سنة 170) زار المدينة فقال ليحيى بن خالد: «ارتد
33
لي رجلا عارفا بالمدينة والمشاهد، وكيف كان نزول جبريل (عليه السلام) على النبي
صلى الله عليه وسلم
ومن أي وجه، كان يأتيه، وقبور الشهداء؛ فسأل يحيى بن خالد، «قال الواقدي»: فكلهم دله علي، فبعث إلي فأتيته، وذلك بعد العصر، فقال لي: يا شيخ، إن أمير المؤمنين أعزه الله يريد أن تصلي عشاء الآخرة في المسجد، وتمضي معنا إلى هذه المشاهد فتوقفنا عليها؛ ففعلت، ولم أدع موضعا من المواضع ولا مشهدا من المشاهد إلا مررت بهما (يعني الرشيد ويحيى) عليه»،
34
ومنحاه مالا كثيرا، وطلب إليه يحيى بن خالد البرمكي أن يصير إليه في العراق إذا استقرت به الدار، ففعل، واتصل به فأغناه وأخلص في حبه فبعد نكبته كان إذا ذكر اسمه ترحم عليه الواقدي فأكثر الترحم. وخرج إلى الشام والرقة ثم رجع بغداد، فبقي بها حتى ولاه المأمون القضاء بعسكر المهدي،
35
و«كان المأمون يكرم جانبه ويبالغ في رعايته، فلم يزل قاضيا حتى مات ببغداد سنة 207 أو سنة 209».
عني الوقادي بالمغازي والسير والتاريخ الإسلامي عامة، ونبغ في ذلك؛ يقول فيه البغدادي: «وهو ممن طبق شرق الأرض وغربها ذكره، ولم يخف على أحد عرف أخبار الناس أمره، وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم من المغازي والسير والطبقات وأخبار النبي
صلى الله عليه وسلم
والأحداث التي كانت في وقته وبعد وفاته
صلى الله عليه وسلم ، وكتب الفقه، واختلاف الناس في الحديث وغير ذلك»
36
ويحدث هو عن نفسه فيقول: «ما أدركت رجلا من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا وسألته، هل سمعت أحدا من أهل يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعيانه».
37
وتخصص في تاريخ الإسلام، حتى كان لا يعرف كثيرا من أمور الجاهلية؛ وقال إبراهيم الحربي: «كان الواقدي أعلم الناس بأمر الإسلام، فأما الجاهلية فلم يعمل فيها شيئا»؛
38
وكان كثير الكتب، كثير التأليف، فروي أنه «كان له ستمائة قمطر كتب»، وانتقل من جانب من بغداد إلى جانب فحمل كتبه على عشرين ومائة وقر،
39
وقد عد له ابن النديم كتبا كثيرة ألفها أكثرها في التاريخ وقليلها في الفقه .
وقد كانت كتبه عمدة للمؤرخين بعده اقتبسوا منها ووصلت إلينا مقتبساتهم، ففي كتاب ابن حبيش في الغزوات أخبار كثيرة مقتبسة من كتاب الواقدي في الردة.
40
وللواقدي كتاب اسمه «التاريخ الكبير» مرتب على حسب السنين اقتبس منه الطبري كثيرا في تاريخه، وآخر ما اقتبس منه سنة 179.
وله كتاب الطبقات ذكر فيه الصحابة والتابعين مرتبين حسب طبقاتهم، ويظهر أن كاتبه «ابن سعد» قد حذا حذوه وسار في كتابه على منهجه .
ولم يبق لنا مما يصح من كتبه إلا كتاب المغازي، وقد ذكر في أوله شيوخه الذين أخذ عنهم مغازيه، ويبلغون نحو خمسة وعشرين، وكلهم تقريبا من أهل المدينة أو من سكانها، ومن هؤلاء من سبقنا فذكرنا علمهم الواسع بالسيرة كالزهري، ومعمر بن راشد، وأبي معشر، ولم يذكر ابن إسحق في هذه المجموعة، وإن كان في كتابه قد استخدم تآليفه، ومغازي الواقدي على ما يظهر أكثر إخبارا عن سيرة النبي في أيامه المدينة، وهو أميل في أخباره إلى الفقه والحديث من ابن إسحق، وهو يرجع أحيانا إلى كتب وصحف رآها واعتمد عليها، أو سمع عمن رآها، فيقول ابن سعد: قال الواقدي، حدثني عبد الله بن جعفر الزهري قال: وجدت في كتاب أبي بكر بن عبد الرحمن بن المسور. وقال محمد بن عمر (الوقادي): نسخت كتاب أهل «أذرح» فإذا فيه إلخ، ويمتاز عمن سبقه بالدقة في تعيين تاريخ الحوادث.
وكان الواقدي - كما رأينا - على اتصال بالعباسيين، وقد تأثر بهذه الصلة بعض الشيء في كتبه، في حذف اسم العباس من جملة أسماء من وقعوا أسرى في يد المسلمين يوم بدر، وأحيانا يكني عن العباس بفلان، ولا يصرح باسمه، ونحو ذلك.
وقد وقف في الواقدي المحدثون موقفهم من ابن إسحق من معدل ومجرح، وحكى أقوالهم أيضا على اختلافها الخطيب البغدادي، فكان يثق به مالك ولا يثق بابن إسحق، وكان يثق به محمد بن الحسن من الحنفية، ولقبه بعضهم بأمير المؤمنين في الحديث، ويثق به ابن عبيد القاسم بن سلام اللغوي الشافعي، ويقول: «الواقدي ثقة، كما كان يطعن عليه علي المديني ويقول: «عند الواقدي عشرون ألف حديث لم يسمع بها»، ويقول يحيى بن معين: أغرب الواقدي على رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، عشرين ألف حديث» وقال أحمد بن حنبل: «الواقدي يركب الأسانيد»، وقال الشافعي: «الواقدي وصل حديثين» أي لا يصح أن يوصلا.
والظاهر أن مطعن المحدثين عليه كمطعنهم علي ابن إسحق، فلم يكن يتقيد بمذهبهم من ناحيتين: أنه يأخذ من الصحف والكتب كما رأينا ، وكان ثقات المحدثين يكرهون هذا كل الكراهية، ولا يرون أن المحدث يصح له أن يحدث بحديث إلا أن يسمعه بأذنه ممن روي عنه. والثانية أنه كان يجمع الأسانيد المختلفة ويجيء بالمتن واحدا، مع أن جزءا من المتن لبعض الرواة وجزءا آخر لرواة آخرين، وكانوا يعدون هذا عيبا، ويعيبون هذا على الزهري وابن إسحق؛ وقد اعتذر هو عن هذا بأن الأمر يطول. فقد روي أنه لما طالبه تلاميذه بذلك جاءهم بغزوة أحد في عشرين جلدا لما اتبع طريقة إفراد كل حديث بسنده، فاستكثروا ذلك وقالوا: ردنا إلى الأمر الأول.
41
وأيا ما كان فقد كان الواقدي من أوسع الناس علما في عصره بالمغازي والسير، كما كان واسع العلم بالحديث والتفسير والفقه، وكان من أكبر المصادر التي عول عليها الطبري في تاريخه.
ابن سعد:
كان محمد بن سعد نفحة من نفحات الواقدي؛ فهو تلميذه وكاتبه يدون له كتبه وأحاديثه وما يشير به، وقد لقب من أجل ذلك «بكاتب الواقدي»، وخلف لنا كتابه الممتع «الطبقات الكبرى» في ثمانية أجزاء؛ وقد ولد بالبصرة سنة 168، وكان من الموالي، فآباؤه موال للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس. وقد رحل إلى المدينة وإلى بغداد، وبها اتصل بالواقدي، وألف كتبه من علمه، وله فضل الترتيب والزيادة على علم أستاذه أحيانا، فقد كمل ما كان ينقص الواقدي من أخبار الجاهلية واستعان فيها - غالبا - بهشام الكلبي كما استعان في مواضع أخرى بغير الواقدي من العلماء كابن إسحق وأبي معشر وموسى بن عقبة وغيرهم؛ وقد خصص الجزء الأول والثاني من كتابه «الطبقات» لسيرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ومغازيه، وخصص الأجزاء الستة الأخرى لأخبار الصحابة والتابعين، متبعا في ذلك ترتيب الأمصار، فمن في مكة ومن في المدينة، ومن في البصرة والكوفة، ثم رتب علماء كل مصر حسب شهرتهم وزمنهم.
ومدحه كثير من المحدثين، فقال فيه الخطيب: «محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة، وحديثه يدل على صدقه، فإنه يتحرى في كثير من رواياته».
42
وتوفي ببغداد سنة 230، وهو أحد شيوخ المؤرخ الكبير «البلأذري». هؤلاء هم أشهر مؤرخي السير والمغازي من بدء التأليف فيها إلى نهاية العصر الذي نؤرخه،
43
ومنه نستطيع أن نستنتج النتائج الآتية: (1)
أن أكثر كتاب السيرة الأولين كانوا من أهل المدينة؛ لأن أكثر أحداث السيرة من تشريع مدني ومغاز كان والنبي
صلى الله عليه وسلم
فيها، وكان من حوله من أصحاب أعرف الناس بتلك الأخبار، فكانوا يحدثون بها ويروونها، وتناقلها عنهم التابعون ومن بعدهم حتى دونت، وبدأ التدوين في المدينة ونفق في العراق. (2)
كانت السيرة والمغازي جزءا من الحديث يرويه الصحابة كما يروون أحاديث الصلاة والصيام، وكان من بعدهم يرويها عنهم كما يروون أحاديث العبادات والمعاملات، ويصل بعضها ببعض؛ وعني بعض العلماء بهذه الناحية التاريخية كماعني غيرهم بأحاديث الأحكام، ثم أفردت بالتأليف، وضم إلى الحديث غيره من أخبار الجاهلية، وما في يد الناس من شعر. (3)
سلك المؤلفون الأولون في السيرة مسلك المحدثين الأولين، فمنهم من كان يعنى بالإسناد ومنهم من لم يعن به، واضطر ابن إسحق والواقدي وأمثالهما - مراعاة لسير الحوادث وأخذ بعضها برقاب بعض - أن يجمعوا الأسانيد ويجمعوا بعد ذلك المتن، من غير أن يفرزوا كل جزء من المتن بسنده، فهاجمهم المحدثون من أجل ذلك، ولكن عذر المؤرخون عنايتهم بعرض الحادثة كاملة في إيجاز تسهيلا على الكتاب والقراء. (4)
كل ما سبق أن ذكرناه في الحديث من دخول الوضع فيه، وتقسيمه إلى أقسام باعتبار صحته وضعفه ينطبق على السيرة والمغازي، فمن الرواة من كان ثقة صدوقا، ومنهم المتساهل في رواية الأخبار، ومنهم الوضاع، كما أشرنا إلى ذلك من قبل . •••
وهناك ناحية ثانية اتجه إليها المؤرخون بجانب اتجاههم إلى السيرة، وهي تاريخ الحوادث الإسلامية من حروب بين بعض المسلمين وبعض، كوقعة الجمل ووقعة صفين، ومن حروب المسلمين مع الأمم الأخرى من فرس وروم وهنود وغيرهم، وما تبع ذلك من فتوح وأحداث؛ ويظهر لي أن الذي دعاهم إلى تقييد هذه الحوادث أمور: (1)
أنها مادة من مواد التشريع وأصل من أصوله، فأعمال عمر بن الخطاب وسيرته في البلاد المفتوحة اتخذت أساسا ونبراسا لمن جاء بعده من أئمة الفقهاء، من شئون الجهاد ومعاملة أهل الذمة، والخراج والعشر وما ذلك؛ كذلك كانوا مضطرين إلى أن يتتبعوا شئون الفتح ليعرفوا أي البلاد فتح ليعرفوا أي البلاد فتح صلحا، وأيها فتح عنوة؛ لما يترتب على ذلك من اختلاف في الجزية والخراج ونحوهما، وهذا ما دعا مؤرخي البلدان أن يعقدوا الفصول الطويلة في أول كتبهم يبينون فيه حال البلد في الفتح: هل فتحت صلحا أو عنوة؟ كالذي نرى في المقريزي نقلا عن المؤرخين الأولين، وكالذي نرى في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي؛ وهذا بعينه هو الذي دعا البلأذري أن يفرد في ذلك كتابه المشهور «فتوح البلدان»، ومصداق ذلك أنا نرى قسما كبيرا من أقسام الحديث يشمل هذه الأمور التاريخية، والحديث لا شك في أنه مصدر من مصادر التشريع، ففي كتب الحديث فصول وأبواب في أحكام القتال والغزو، وفي الأمان والهدنة، وفي الجزية وأحكامها، وفي الغنائم والفيء إلخ. (2)
وسبب آخر يتصل بهذا، وهو أن حوادث الخلاف بين المسلمين، كالذي كان بين المهاجرين والأنصار عقب وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
فيمن يتولى الخلافة، والخلاف بين عثمان وقاتليه، والخلاف بين علي وعائشة، وبين علي ومعاوية، وبين الأمويين وابن الزبير، وبين الأمويين والشيعة، وبين الأمويين ودعاة العباسيين، وبين العباسيين والعلويين، كلها كانت سببا في الاختلاف في العقائد بين المسلمين، هل الأئمة من قريش أو من الأمة كلها؟ وهل من علي ونسله أو من المسلمين جميعا؟ ومن ذلك نشأ الشيعة والخوارج وغيرهما، فاضطر كل فريق أن يدعم مذهبه بالأحداث التاريخية وتشريحها وتعليلها ، فكانت أحداث التاريخ مرجعا للعقائد كما كانت في السبب الأول مرجعا للتشريع؛ ومن أجل هذا أيضا نرى في كتب الحديث أبوابا وفصولا في هذه المسائل التاريخية: ففصول في الخلافة والإمارة، وفصل في الأئمة من قريش، وفي من تصح إمارته، وفي طاعة الإمام، وفي أعوان الأئمة والأمراء، وفي فضائل الصحابة، وباب كبير في الفتن، وكله تأريخ للخلاف بين المسلمين من مقتل عثمان ووقعة الجمل، وقتال الخوارج وأمر الحكمين، وبيعة يزيد بن معاوية وابن الزبير والحجاج وبني مروان إلخ؛ وفيما نجد مصداق ما نقول من أنها أعدت لتكون منبعا يدعم به كل فريق عقائده في المسائل السياسية. (3)
وسبب ثالث دعا إلى رواية أخبار الفتوح والحرص عليها، وهو أن هذه الفتوح كان يسودها العصبية القبيلة بجانب العصبية الدينية، فكانوا في القتال ينحازون إلى قبائل، كل قبيلة لها مكانها في القتال، ولها لواؤها تقاتل عنه كما تقاتل عن الإسلام، وتفتخر كل قبيلة بنصرتها في بعض أيامها، فتميم أبلت بلاء حسنا في يوم كذا، وغيرها أبلى بلاء حسنا في يوم كذا، مما يعد مفخرة للقبيلة كأيامها في جاهليتها، وحرصت كل قبيلة أن تروي وقائعها وتتزيد فيها أحيانا، ويسلمها السلف إلى الخلف، فكان ذلك باعثا على حفظ الأخبار من طريق الرواية ومن طريق الأشعار؛ فالشعراء أيضا أخذوا مفاخر قبائلهم ونظموها في قصائدهم، وفخروا بها على خصومهم وضمنوها نقائصهم.
ولما تحولت العصبية القبيلة على عصبية بلدية تبعتها رواية الأخبار، ففخرت البصرة على الكوفة والكوفة على البصرة بالأحداث التاريخية - كما رأيت قبل - وفخرت تميم البصرة على تميم الكوفة، وفضلت قبائل البصرة من غير تميم على تميم الكوفة، وإن كانوا من دمها. (4)
وسبب رابع لرواية الأحداث، وهو ما في طبيعة الإنسان من تلذذ بالسمر، ومن خير أنواع السمر رواية الأخبار، وما يتصل به وبأصوله ورجاله من قتال وحروب وخصام وجدال، وهذا هو التاريخ.
بدءوا تاريخهم - شفويا - كما كانت كل نواة علم لهم شفوية؛ وبدأ الجيل الأول الذي شاهد هذه الحوادث واشترك فيها يرويها، وتحملها عنه الجيل الذي بعده، وقيد بعضهم منها أحاديث متفرقة كالذي نرى في كتب الحديث، حتى إذا جاء القرن الثاني رأينا قوما يبدءون في جمع أخبار الحادثة الواحدة، وضم بعضها إلى بعض، وتدوين ذلك في رسالة أو كتاب، وقد اشتهر من ذلك جماعة كان من أولهم: (1)
أبو مخنف لوط بن يحيى
بن سعيد بن مخنف بن سليم الأزدي، كان جده مخنف صحابيا، وله بعض أحاديث في كتب السنن، ترجم له ابن حجر في «الإصابة في تمييز الصحابة»، وقال ابن النديم: «إن مخنفا هذا كان من أصحاب علي» ويظهر أن حفيده الذي نترجم له، قد ورث من جده التشيع؛ فقد قال فيه صاحب القاموس: «إن أبا مخنف أخباري شيعي تالف متروك» وقد ألف كتبا كثيرة، كل كتاب في موضوع من مسائل التاريخ الإسلامي إلا كتابا واحدا اسمه كتاب روستقباذ؛ وقد عدها ابن النديم وصاحب فوات الوفيات، وهي 33 كتابا، منها: كتاب الردة، وكتاب فتوح الشام، وكتاب فتوح العراق وكتاب الجمل، وكتاب صفين، وكتاب مقتل علي، وكتاب نجدة الحروري، وكتاب الأزارقة، وكتاب خالد بن عبد الله القسري إلخ؛ ويظهر أن كل كتاب شرح لمسألة، كأنه فصل من كتاب كبير، وقد عني بالخوارج وما يدور حول علي، وأكثر ما كتبه وألفه كان في الأحداث التي حدثت في العصر الأموي، ويظهر من كتابته أنه لا يضمر الميل إلى الأمويين لما علمت من تشيعه.
ولم يبق لنا من كتبه الصحيحة إلا ما نقله عنه ابن جرير الطبري في تاريخه، فليس لدارسه إلا أن يجرد من الطبري ما نقله عنه ثم يستخرج منه ما يصل إليه من نتائج، كما فعل الأستاذ ولهوسن
Wellhausen ؛ ويظهر منها أنه لم يعن بترتيب الحوادث وتنظيمها، شأن المحاولات الأولى في التأليف.
وقد طعن فيه كثير من المحدثين كالذين نقلنا عن صاحب القاموس، وقال فيه أبو حاتم: «إنه متروك الحديث»، وقال الدارقطني: «أخباري متروك الحديث»، وقالوا: «إنه كان يروي عن جماعة من المجهولين». مات سنة 157. ونقل ابن النديم قال: «قالت العلماء: أبو مخنف بأمر العراق وفتوحها وأخبارها يزيد على غيره ، والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس، والواقدي بالحجاز والسيرة، وقد اشتركوا في فتوح الشام»،
44
وأسلوبه في كتابته سهل جميل.
ويكاد يكون معاصر له (2)
سيف بن عمر
الكوفي الأسدي التميمي؛ قال ابن النديم: «إن له من الكتب كتاب الفتوح الكبيرة والردة، وكتاب الجمل ومسيرة عائشة وعلي» ولم يبق لنا منه أيضا إلا ما يقتبسه من الطبري في أخبار الردة وفي الفتوح الأولى، وكان من شيوخه جابر الجعفي الكوفي أحد كبار علماء الشيعة، وأخذ جابر عن الشعبي وغيره، وقد وجه الباحثون مثل «ولهوسن» و«كايتاني» عنايتهم في درس ما نقله الطبري عن سيف، وقارنوا بين ما نقله هو وما نقله غيره من ثقاة المؤرخين، فوجدوه أقل دقة وإن كان أكثر تفصيلا، والمحدثون أنفسهم لا يوثقونه كثيرا، فيروي ابن حجر في التهذيب أنهم ضعفوه، ولم يرو له إلا الترمذي «فقد روى له فرد حديث»؛ وأسلوبه قوي مؤثر، يتعصب فيما يحكي لقبيلته تميم، ويلون مواقفه بلون زاه جميل. قال ابن حجر: مات بعد سنة 170.
ويلي هذين ومن في طبقتهما (3)
المدائني:
وهو علي بن محمد المدائني مولى عبد الرحمن بن سمرة القرشي، بصري سكن المدائن فنسب إليها، وقد ولد في أوائل عهد الدولة العباسية سنة 135، وعاش نحو تسعين عاما، ومات سنة 225، «واتصل بإسحق بن إبراهيم الموصلي، فكان لا يفارق منزله، وفي منزله كانت وفاته؛ مر عشية من العشيات على حمار فاره وبزه حسنة، فسأله يحيى بن معين: إلى أين يا أبا الحسن؟ فقال: إلى هذا الكريم الذي يملأ كمي من أعلاه إلى أسفله دنانير ودراهم، فقال: ومن هذا قال: أبو محمد بن إسحق بن إبراهيم الموصلي
45
وكان أحد المتكلمين، تتلمذ لمعمر بن الأشعث في الكلام ولكنه اشتهر بالأدب والتاريخ، وقد أكثر من التأليف، فعد له صاحب الفهرست 239 كتابا وزاد عليها ياقوت في معجمه، وهي - كما قسمها ابن النديم - كتب في أخبار النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكتب في أخبار قريش، وكتب في أخبار مناكح الأشراف وأخبار النساء، وكتب في أخبار الخلفاء، وكتب في الأحداث كمقتل عثمان والجمل والردة، وكتب في الفتوح، وكتب في أخبار العرب كالخيل والرهان ومن نسب إلى أمه إلخ، وكتب في أخبار الشعراء، وكتب شتى في مواضع مختلفة.
ونرى من هذا سعة علمه بموضوعات التاريخ الإسلامي سعة فائقة، حتى أن تآليفه فيه استغرق عدها ست صفحات كاملة من كتاب معجم الأدباء لياقوت. ومما يؤسف له أن هذه الكتب كلها ضاعت مع أنه لعهد قريب - عهد عبد القادر البغدادي - كان هناك بعض كتبه استعان بها في تأليفه «خزانة الأدب»، ولم يبق منها إلا ما يرويه في كتبه الطبري والمسعودي، والعقد الفريد، والأغاني، وابن أبي الحديد في نهج البلاغة، وما يرويه المبرد في الكامل وأنساب الأشراف في أخبار الخوارج؛ وصفه ثعلب النحوي فقال: «من أراد أخبار الجاهلية فعليه بكتب أبي عبيدة، ومن أراد أخبار الإسلام فعليه بكتب المدائني»، ووصفه الخطيب البغدادي فقال: «كان عالما بأيام الناس، وأخبار العرب وأنسابهم، عالما بالفتوح والمغازي ورواية الشعر صدوقا في ذلك».
46
وعلى الجملة فالمحدثون لا يطعنون عليه كما طعنوا على سابقيه، فيحيى بن معين أشهر نقاد رجال الحديث يقول إنه ثقة. وقد اتصل بالمأمون وحدثه على ظلم بني تمية لعلي وبنيه، فقال له المأمون: «لا جرم قد ابتعث الله عليهم من يلعن أحياءهم وأمواتهم، ويلعن من في أصلاب الرجال وأرحام النساء؛ يعني الشيعة»،
47
ويظهر مما نقل عنه في أخبار الدولة العباسية أنه كان مؤيدا لها ونصيرا.
وكان من أكبر تلاميذ المدائني (4)
الزبير بن بكار
من نسل عبد الله بن الزبير، وبيتهم هو الذي عرف بسعة العلم وبالسيرة - كما رأيت قبل - وكان الزبير من مشاهير العلماء والأدباء في العصر العباسي، وحامل علم المدائني في التاريخ، وله مؤلفات أيضا ككتاب نسب القرشيين؛ وقد عد له ابن النديم 21 كتابا، بعضها في التاريخ وبعضها في الأدب، وكان مؤدب ولد محمد بن عبد الله بن طاهر حينا، وتوفي وهو قاض بمكة سنة 256، وعمره أربع وثمانون سنة.
ولكن هذه الطبقة على العموم طبقة أبي مخنف وسيف بن عمر والمدائني وأمثالهم لم يكن تأليفهم مرتبا ولا عملهم مسلسلا منظما، ولا شاملا وافيا، كما يدل على ذلك مانقل عنهم، إنما كثر الترتيب والتنظيم في الطبقة التي أتت بعدهم، وهي طبقة البلاذري وابن جرير الطبري، وكان الطبري أكثر تنظيما وأميل إلى تنسيق الحوادث وترتيبها حسب السنين، وله الفضل في أنه جمع في كتابه زبدة ما ألفه المؤرخون قبله كما فعل في التفسير؛ ونرجئ الكلام فيه وفي طبقته إلى الكلام في العصر العباسي الثاني إن شاء الله فهو بهم أليق.
ونلاحظ أن أكثر من ذكرنا ممن كتبوا في التاريخ الإسلامي في ذلك العصر كانوا من أهل العراق، فأبو مخنف كوفي، وسيف بن عمر كوفي كذلك والمدائني بصري سكن المدائن ثم بغداد، والزبير بن بكار وإن كان مدنيا فقد عاش في العراق أزمانا؛ وعلى العكس من ذلك من كتبوا في السير والمغازي، فقد كان أكثرهم مدنيين كما رأينا، وقد أبنا السبب قبل في عناية المدنيين بالسيرة. أما الفتوح وما إليها فقد سكن كثير ممن اشتركوا فيها العراق وتحدثوا بأخبارها ورووا ذلك أبناءهم، وكانوا أقدر على التدوين من أهل الشام ولو أن الخلافة الأموية فيهم، فلما جاء العباسيون كان طبيعيا أن يكون مؤرخوهم من العراق. •••
ونوع ثالث عني به مؤرخو المسلمين وهو الأنساب، وذلك أن العرب كانت بحكم طبيعتها تعيش قبائل، وتعد القبائل وحدة كوحدة الأسرة، وتمحي فيها شخصية الفرد إلى حد كبير، فالمحمدة يأتيها الفرد محمدة للقبيلة، والعار يرتكبه الفرد عار للقبيلة، والشاعر يشعر للقبيلة، والخطيب يخطب للقبيلة، والوفود تفد باسم القبيلة، وهكذا ملكت عليهم القبيلة أنفسهم وتفكيرهم. فلما جاء الإسلام أراد أن يحل الأخوة الدينية محل الرابطة القبلية، ووجدت الرابطة الدينية فعلا وكانت قوية شديدة، ولكن لم تمح العصبية القبيلة، فظل المسلمون ينحازون في القتال إلى قبائل؛ ولما دون عمر ديوان الخراج بدأ بالعباس عم النبي
صلى الله عليه وسلم
ثم ببني هاشم ثم بمن بعدهم طبقة بعد طبقة، فراعى الاعتبار الديني والاعتبار القبلي معا، وفخرت القبائل بما هو لها من مواقف في قتال فارس والروم، وبما كان لهم في قتال المسلمين بعضهم بعضا، ورأينا جريرا والفرزدق والأخطل الأمويين يتهاجون بالقبائل: يفخر جرير على الأخطل بتميم وقيس على تغلب، ويعدد مفاخرهما وأيامهما، ويفخر الأخطل بتغلب على تميم، ويفخر جرير على الفرزدق بفرعه من تميم، ويفخر الفرزدق على جرير ببيته من تميم، ويعد كل مخازي الفرع الآخر، لا فرق في ذلك بينهم وبين الجاهليين. وعاش الأمويون عيشة عربية يقاتلون بالعصبية القبلية ويتخذونها سلاحا لهم؛ وهذا كله من غير شك يدعو إلى العناية بحفظ الأنساب، وكذلك كان؛ فلما خضع الفرس والروم للعرب انقسم الناس إلى قسمين: عرب وموال، فزاد ذلك في العصبية العربية والتمسك بها.
ولما جاءت الدولة العباسية ظهرت الشعوبية، وأخذ الشعوبيون يبحثون عن مثالب العرب ومثالب كل قبيلة ويتزيدون فيها، فكان ذلك باعثا جديدا على تشريح القبائل وعد المفاخر من جانب العرب، وعد المثالب من جانب الشعوبية؛ فكان من ذلك العناية بالأنساب وتدوينها والتأليف فيها، وأقام ذلك فرعا من التاريخ بجانب تاريخ السير والمغازي وتاريخ الأحداث الإسلامية.
وقد اشتهر جماعة من أول عهد الإسلام بحفظ الأنساب، فاشتهر أبو بكر الصديق بأنه نسابة، وله أخبار ومناظرات في ذلك تدل على معرفته الواسعة بقبائل العرب وفروعها.
48
واشتهر بذلك أيضا دغفل بن حنظلة الشيباني، وقد اختلف المحدثون في عده صحابيا، وأكثرهم على أنه كان رجلا أيام النبي
صلى الله عليه وسلم
ولكن لم يلقه، وله مع أبي بكر مناظرة في النسب، ذكرها صاحب العقد، وقد غرق سنة 70ه في حرب الخوارج؛ ويجمع مؤرخوه على معرفته الواسعة بالنسب، فيقول ابن سيرين: «إنه كان عالما ولكن اغتلبه النسب»؛ وقال ابن سعد: «كان له علم ورواية للنسب»؛ ويروون أنه اتصل بمعاوية فأعجب بعلمه وقال له: اذهب إلى يزيد فعلمه. وعدوه فيمن نزل البصرة؛ وله أخبار كثيرة في الأنساب، ولكن كما قال ابن النديم: «لا مصنف له»، وذلك طبيعي بالنسبة لزمنه.
واشتهر بالنسب أيضا من التابعين سعيد بن المسيب، فكان نسابة؛ قال له رجل: أريد أن تعلمني النسب، قال: «إنما تريد أن تساب الناس».
كما اشتهر في العهد الأموي النسابة البكري، و«كان نصرانيا، روى عنه رؤبة بن العجاج».
49
وكان في كل قبيلة قوم يعرفون أنسابها، فلما جاء عصر التدوين عني قوم بملاقاة هؤلاء العارفين والأخذ عنهم، وتدوين ذلك في الكتب، كما فعلوا في اللغة والأدب؛ وقد اشتهر بذلك في عصرنا جماعة، من أشهرهم
محمد بن السائب الكلبي ، وابنه هشام الكلبي؛ فمحمد بن السائب من قبيلة كلب، وإليها ينسب، وكان من علماء الكوفة، استقدمه سليمان بن علي العباسي إلى البصرة.
وقد عاش الكلبي عهدا طويلا في العصر الأموي، وشهد وقعة دير الجماجم مع عبد الرحمن بن الأشعث، ولم يكن ضلعه مع بني أمية، كما يدل عليه خروجه عليهم، وكذلك كان أبوه وجده، فأبوه السائب قتل مع مصعب بن الزبير، وجده بشر كان مع علي في وقعة الجمل وصفين.
وكان محمد بن السائب غزير العلم بالأنساب، يتلقاها عمن عرفها من أهلها، فيقول ابن النديم: «أخذ نسب قريش عن أبي صالح، وأخذه أبو صالح عن عقيل ابن أبي طالب، وأخذ نسب كندة عن أبي الكناس الكندي، وأخذ نسب معد بن عدنان عن النجارين أوس العدواني، إلخ». وتوفي سنة 146.
وجاء بعده ابنه هشام الكلبي، فأكمل خطة أبيه، فكان «عالما بالنسب وأخبار العرب وأيامها ومثالبها ووقائعها»، وله كتب كثيرة ذكرها ابن النديم وقسمها إلى أقسام: كتب في الأحلاف، أي الحلف بين القبائل، وكتب في المآثر والبيوتات والمنافرات والموءودات، وكتب في أخبار الأوائل، وكتب فيما قارب الإسلام من أمر الجاهلية، وكتب في أخبار الإسلام، وكتب في أخبار البلاد، وكتب في أخبار الشعراء وأيام العرب، وكتب في الأخبار والأسمار، وكتب في نسب اليمن، وكتب في أنساب أخرى، وكتب في موضوعات شتى؛ وتبلغ الكتب التي عدها له نحو 140 كتابا. وكتاب نسب فحول الخيل في الجاهلية والإسلام، وكتاب الأصنام الذي طبع في مصر؛ هذا إلى مقتبسات من تآليفه في الكتب المشهورة كالطبري، وكمعجمي ياقوت، وكتاب شرح ابن الأنباري للمفضليات، والعقد الفريد، والأغاني وغيرها.
والمحدثون يتهمونه وأباه، فيقول أبو حاتم محمد بن السائب: «أجمعوا على ترك حديثه، واتهمه جماعة بالوضع»؛ ويقول أحمد بن حنبل في هشام: «من يحدث عنه؟ إنما هو صاحب نسب وسمر، ما ظننت أن أحدا يحدث عنه».
50
حتى الأغاني يعقب على هشام في مواضع مختلفة ويرميه بالوضع، فيقول بعد نقله عن ابن الكلبي أخبارا عن دريد بن الصمة: «هذه الأخبار التي ذكرتها عن ابن الكلبي موضوعة كلها والتوليد بين فيها وفي أشعاره، وما رأيت شيئا منها في ديوان دريد بن الصمة على الروايات ... وهذا من أكاذيب ابن الكلبي، وإنما ذكرته على ما فيه لئلا يسقط من الكتاب شيء قد رواه الناس وتداولوه».
51
وقد فعل الأغاني مثل ذلك في أكثر من موضع.
وروى له ابن خلكان أيضا قولا تظهر فيه الصنعة كل الظهور.
52
وقد اتصل هشام بالمأمون وصنف له كتاب «الفريد» في الأنساب، واتصل بجعفر بن يحيى البرمكي وألف له كتاب «الملوكي» في الأنساب أيضا. وتوفي سنة 204.
كما اشتهر آخرون منهم: أبو اليقظان النسابة، واسمه سحيم، ألف كتبا كثيرة في الأنساب، كنسب تميم ونسب خندف، وكان شيخ المدائني. ومات سنة 190.
ويتصل بهذا ما فعله الشعوبية في هذا العصر، كالذي فعل أبو عبيدة، فقد ألف كتاب المثالب، وكتاب مثالب باهلة، وكتاب أدعياء العرب؛ وكالذي فعله علان الشعوبي، فقد ألف كتابا في المثالب، منه مثالب قريش، ومثالب تميم بن مرة، ومثالب بني أسد، ومثالب بني عدي إلخ؛ وكالذي فعله الهيثم ابن عدي، فله كتاب المثالب الكبير، ضمنه مثالب العرب. فهؤلاء وأمثالهم كانوا يتعرضون للأنساب من ناحية خاصة؛ وهي ذكر عيوب القبائل العربية والتشهير بها تبعا لنزعتهم الشعوبية. •••
ونوع رابع من التاريخ ظهر كذلك في هذا العصر وقبله، وهو تاريخ الأمم الأخرى من فرس وروم ونحوهما، وتاريخ الأديان الأخرى كيهودية ونصرانية، والذي بعث على هذا النوع - في نظري - أمور: (1)
إن بعض الخلفاء، وقد فتحو الفتوح، أرادوا أن يقفوا على الأمم المفتوحة وأخبارها تلذذا بذلك من جهة، واستفادة من معرفة أحوال الأمم في نظمها وترتيب أمورها من جهة أخرى، ووقوفا على أحوالها حتى يكونوا على استعداد إذا أرادوا أن يدهموهم، من جهة ثالثة، فالمسعودي يذكر في سيرة معاوية أنه كان يخصص جزءا من ليله في سماع «أخبار العرب وأيامها والعجم وملوكها، وسياستها لرعيتها، وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة»،
53
ويقول في ترجمة السفاح: إن أبا بكر الهذلي «كان يحدث السفاح يوما بحديث لأنوشروان في بعض حروبه بالمشرق، مع بعض ملوك الأمم»،
54
إلى كثير من أمثال ذلك. ولا يمكن أن نتصور ملكا ضخما كالدولة الأموية والعباسية لم يكن ملوكها واقفين وقوفا تاما على معرفة أحوال الأمم المجاورة، التي تصالحها حينا وتحاربها حينا، والكتب تتداول بينهم وبين ملوكها، والمعاهدات تبرم بينهما وتنقض، وهذا - من غير شك - يضطرها إلى معرفة شيء من تاريخها وأحوال ملوكها. (2)
إن الإسلام نشر سلطانه على كثير من الأمم المفتوحة، ودخل كثير من أهلها في الإسلام وتعربوا في الجيل الثاني، وصاروا يتقنون العربية قولا وكتابة، وكانوا يعرفون تاريخ أممهم من آبائهم ومن أهل جنسهم، فدعتهم النزعة القومية إلى أن يكتبوا تاريخ أممهم بالعربية اعتزازا به، وحرصا على الوطنية الكامنة، فابن المقفع الفارسي الأصل العربي المربى يترجم كتاب «خداينامه»، وهو كتاب في تاريخ الفرس من أول نشأتهم إلى آخر أيامهم، ويترجم كتاب «آبين نامه»، وهو كتاب في نظم الفرس وعاداتهم وشرائعهم، ويترجم كتاب التاج في سيرة أنوشروان إلخ، وإسحق بن يزيد ينقل من الفارسية إلى العربية كتاب سيرة الفرس المعروف باختيار نامه، والسريانيون ينقلون أخبار قومهم، وأخبار اليونان وتاريخ حكمائهم وعلمائهم إلخ. ولما نشطت حركة الترجمة في العصر العباسي وكان كثيرون يتقنون الألسنة المختلفة مع العربية، فمنهم من يتقن الفارسية، ومنهم من يتقن اليونانية، ومنهم من يتقن الهندية، وقعوا - فيما وقعوا عليه - على كتب في تاريخ الأمم المختلفة فنقلوها إلى اللسان العربي، فكان من ذلك كله أن كان أمام من يتكلمون العربية مصادر مختلفة لأخبار الأمم المختلفة، كانت كلها معتمد الطبري في تاريخه ومن أتى بعده من المؤرخين. (3)
إن القرآن والسنة اشتملا على كثير من أخبار اليهود والنصارى، والصابئين والمجوس ، وكان تعرضهما مختصرا مقتصرا فيه على موضع العظة، فأراد المفسرون أن يتوسعوا في تفسير ذلك، فكان مجالهم أخبار اليهود والنصارى وغيرهم مما ورد في التوراة والإنجيل وشروحهما وحواشيهما؛ وقد عد ابن النديم كتبا كثيرة يهودية ونصرانية نقلت إلى العربية وعرفها المسلمون، وصادف ذلك أيضا أن دخل كثير من هؤلاء في الإسلام يحملون في رءوسهم معلومات واسعة تلقنوها قبل إسلامهم. وصف القرآن الكريم بعضهم بقوله:
ومن عنده علم الكتاب ، فكان علمهم وعلم من أتى بعدهم مصدرا للمؤرخين يؤرخون منه الأمم اليهودية والنصرانية وغيرهما، فنقلوا عن اليهود والنصارى ومن أسلم منهم تلك الأخبار وأدخلوها في كتبهم، وقد رأينا قبل ابن إسحق ينقل عن التوراة نصوصا.
ونحن إذا استعرضنا تاريخ الطبري المسمى «تاريخ الأمم والملوك» نستطيع أن نتعرف منه رواة الأخبار لكل أمة ممن كانوا الطبقة الأولى، ومن كانوا الطبقة الثانية، وهكذا حتى وصلت إليه، فهو ينقل عن وهب بن منبه كثيرا في أخبار خلق العالم وما إليه، كما ينقل عن ابن جريج الرومي كثيرا من ذلك ومن أخبار النصرانية، ونجد كثيرا في رواته من كانوا من أصل يهودي أو نصراني كعبد الرحمن ابن دانيل وأسباط، وفي بعض المواضع تكاد تكون سلسلة الرواية واحدة «عمرو عن أسباط عن السدي» إلخ. ويقول في تاريخ الفرس: «ذكر العلماء بأخبار الأمم السالفة من العرب والعجم كذا» إلخ.
ويطول بنا القول لو وقفنا عند كل أمة ذكرها الطبري، وعددنا الرواة وسلسلنا وترجمنا لأصحابنا من أولهم إلى أن وصلت إلى ابن جرير، فنجتزئ بهذا القدر الآن، ونرجئ ما عدا ذلك إلى الكلام في الطبري إن شاء الله.
ومن هذه الطرق كتب المسلمون تاريخ اليهود والنصارى والسريانيين وملوك بابل، وتاريخ الفرس واليونان والروم إلخ.
والذي يلاحظ أن هذا القسم أكثر تضخما بالوضع وبالأساطير لبعد العهد أولا، ولعدم الدقة في النقل ثانيا، ولتزيد كل أمة في أخبارها ثالثا. •••
ونوع خامس من التاريخ وهو «تراجم الرجال» وقد عني به المسلمون قديما عناية غريبة فاقت غيرهم من الأمم في عصورهم، فما إن يظهر أحد بالعلم والمعرفة - ولو برواية حديث واحد أو خبر واحد - إلا يهجم عليه العلماء ويرحلون إليه ويأخذون عنه، ويعد العالم ظفرا كبيرا أن يعثر على رجل أو امرأة من هؤلاء لم يصل إليه غيره، فيقيد عنه ما أخذ ويروي ما سمع، وما إن يموت هذا المروي عنه الحديث أو الخبر، أو من اشتهر بعلم أو معرفة، حتى يتسابق المؤرخون على تدوين أصله ونسبه، والبلاد التي تنقل فيها، والشيوخ الذين أخذ عنهم، والأحداث التي عرضت له في حياته، وتاريخ وفاته وغير ذلك.
وربما كان أصل ذلك ما ورد منذ العصر الأول للإسلام عن فضائل بعض الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعبيدة بن الجراح، وكثير غيرهم مما ملئت به كتب الحديث، فكان هذا داعيا لأن يحتذوا هذا الحذو، ويقفوا على فضائل غيرهم من الصحابة والتابعين من بعدهم. فلما اتسعت الحركة العلمية وكثرت رواية الحديث، ورأى العلماء أنفسهم بين أصناف من الرواة، صادق وغير صادق ومشكوك فيه، جرت ألسنتهم بالحكم على الأشخاص، وقد رأيت قبل أن الصحابة أنفسهم كان بعضهم يمدح بعضا، وبعضهم يجرح بعضا، كالذي قاله عبد الله بن عمر وعائشة في أبي هريرة؛ فلما جاء التابعون من بعدهم رأينا هذا الباب يتسع، ويزيد قول بعضهم في بعض مدحا وذما، وتوثيقا وتجريحا. فقد نقل عن مالك بن أنس الكثير في الطعن منه والطعن عليه، ولما تركزت الأمصار زادت اتساعا، فالحجازيون يشرحون العراقيين، والعراقيون يشرحون الحجازيين وهكذا.
كل هذا يلفت الأنظار إلى الرجال وجعل العلماء يعنون بهذه الناحية؛ وقد رأينا قبل الواقدي ألف كتاب الطبقات وحذا حذوه فيه تلميذه وكاتبه ابن سعد، والظاهر أن الباعث على تأليفهما هو باعث الحديث ليعرف من يصح الأخذ عنه ومن لا يصح؛ هذا إلى الإشادة بذكر أخبار أخيار الناس وقادتهم، وقام المحدثون في هذا الباب بما يستخرج العجب، فبحثوا عن كل راو وشرحوه وحللوه، حتى أتى البخاري فوضع كتبه الثلاثة في تاريخ الرجال كما رأيت ، وحذا من بعده حذوه.
وكان عمل هؤلاء العلماء والمحدثين سببا في أن رجال اللغة والأدب قلدوا المحدثين، فشرح الأصمعي والكسائي وأبو عبيدة وقطرب وحماد وخلف الأحمر كما شرح المحدثون، وقالوا الأقوال المختلفة في تجريحهم وتعديلهم كما قال المحدثون، ولم يكتف المحدثون بالنقد، بل زادوا في ذلك تاريخ الرجل وشيوخه ليتعرفوا من ذلك قيمته، ففعل رجال اللغة والأدب.
وخطا الأدباء خطوة تقليدية أيضا، فوضعوا الكتب كذلك في تراجم الشعراء وطبقاتهم ، فوضع ابن سلام طبقات الشعراء على نسق طبقات المحدثين، وأتى بعده ابن قتيبة، فألف أيضا في الطبقات وترجم لكل شاعر ترجمة مختصرة. ودليلنا على أن الأدباء قلدوا المحدثين أن المحدثين كانوا أسبق إلى هذا العمل تاريخيا، ففي العهد الأموي نرى أحاديث قيلت في جرح الرجال وتعديلهم، ونرى في صدر الدولة العباسية شعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان يؤلفان الكتب في نقد المحدثين وبيان صادقهم من كاذبهم، مع أنا لا نعلم في بدء هذا العصر كتابا أدبيا يصح أن يقال إن موضوعه تراجم رجال الأدب.
بل نرى من أقوى الأدلة على ذلك أن الصبغة التي اصطبغت بها كتب التراجم الأدبية صبغة محدثين أكثر منها صبغة أدباء، خصوصا ما ألف منها أيام سطوة المحدثين، ككتاب الأغاني، فإنك ترى فيه الإسناد على نمط إسناد المحدثين والتعبير في كثير من الأحيان تعبير حديث، وذلك كقوله أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد عن أبيه، عن أبي عبيدة قال: بلغني أن هذا البيت (لا يذهب العرف بين الله والناس) في التوراة؛ قال إسحق: وذكر عبد الله بن مروان، عن أيوب بن عثمان الدمشقي، عن عثمان بن عائشة، قال: سمع كعب الحبر رجلا ينشد بيت الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
فقال: والذي نفسي بيده إن هذا البيت لمكتوب في التوراة؛ قال إسحق قال العمري: والذي صح عندنا في التوراة: «لا يذهب العرف بين الله والعباد».
55
فلعلك ترى معي أنك - وأنت تقرأ هذا - كأنك تقرأ قطعة من أحاديث البخاري.
ومن أكبر المظاهر التي تأثرت بها كتب تراجم الأدباء بكتب المحدثين احتجاب شخصية المؤلف، تقرأ في الأغاني فيغمرك بروايات عن الرجل وأحاديثه ووقائعه وأدبه وشعره، ولكن قل أن تظفر منه بكلام له أو نقد لشعر أو تعليق على حادثة أو نحو ذلك. ويظهر لي أن هذا أيضا أثر من آثار نمط المحدثين؛ فقد حصروا أنفسهم في دائرة النقل، نقل ما حدثوا به، ونقل ما بلغهم عن الرجل، وذلك إن جاز في الحديث ومجال القول ضيق؛ لأن المحدث لا يهمه من المترجم إلا ما يدل على صدقه أو كذبه وتجريحه أو عدالته، فما كان يجوز في الأدب ومجال للقول ذو سعة، وشخصية الأديب في النقد والتحليل وبيان المحاسن والمساوي، وموضع الحسن أو القبيح لها القيمة الكبرى في الفن الأدبي، ولكن هو التقليد للمحدثين نزع بهم هذا المنزع - وليس هذا مقصورا على كتب التراجم، بل هو في أصول كتب الأدب المؤلفة في ذلك العصر أيضا. فإذا قرأت في البيان والتبيين للجاحظ أو عيون الأخبار لابن قتيبة لم تجد للمؤلف شخصية بارزة مع قدرتهما الفائقة، وما لهما من بسطة في العلم والأدب، ولو أحصيت ما للجاحظ في البيان والتبيين لم تجد له ربع الكتاب ولا خمسه، وإنما له الاختيار والجمع - شأن المحدثين في الحديث.
وأيا ما كان فقد ترقى هذا النوع على توالي الزمن، من كتب مرتبة حسب حروف الهجاء، وحسب العصور، ومن إفراد كل علم بطبقات رجاله، من طبقات نحويين وطبقات شافعية وحنفية ومالكية، ومن إفراد أصحاب العقائد الكتب لمعتنقيها من طبقات للشيعة وللمعتزلة إلخ، ومن تاريخ علماء كل بلد كتاريخ البغدادي في علماء بغداد إلخ، مما ليس هذا محل تفصيله. •••
ونوع سادس لم ينزل إلى درجة القصص، فنقرؤه على أنه وليد الخيال واختراع الوهم، ولم يرتفع إلى درجة التاريخ فتفحص وقائعه، وتمتحن أحداثه، وتضبط رواياته، بل كان مزيجا من هذا وذاك، مزج فيه الواقع بالخيال، والحقائق بالأوهام، ويروي صاحبه خبرا صحيحا ويمزجه بأخبار مخترعة، ويرويها كلها على أنها وقائع ثابتة، وأحداث صادقة ، فهو يرويها كما يروي التاريخ، ولكن لا يدقق فيها كما يدقق المؤرخ، وقد أطلق على هؤلاء اسم «الأخباريين»، فهو اسم أقل في الدلالة من اسم مؤرخ، وفيه ما يشعر بالحق والخيال معا، على حين أن المؤرخ يشعر برواية الحق وحده؛ قال السمعاني في كتابه الأنساب: «الأخباري بفتح الألف وسكون الخاء وفتح الباء وفي آخرها الراء، هذه النسبة إلى الأخبار، ويقال لمن يروي الحكايات القصص والنوادر الأخباري».
56
وأكبر ما دعا إلى هذا النوع السمر اللذيذ، وأكثر ما يعجب فيه الغريب الظريف، فإذا رأى الأخباريون في الوقائع الثابتة ما يغذي هذا العاطفة قالوه، وإذا لم يجدوه اخترعوه، وقد يكون أساس الحادثة صحيحا ولكنه ليس يستخرج أقصى العجب فيكملوه من خيالهم، ويتزيدوا فيه من أوهامهم، ويصقلوه بالأسلوب اللطيف، حتى يخرج الخبر كله كأنه واقعة صحيحة. وقد اشتهر بهذا الوصف جماعة من أشهرهم في عصرنا:
الهيثم بن عدي
الطائي الكوفي الأخباري، فهو عربي الأصل من طيئ، أبوه عربي من واسط وأمه من سبي منبج، وإن هجاه قوم فنفوا نسبه، فقال فيه دعبل الخزاعي:
سألت أبي وكان أبي عليما
بأخبار الحواضر والبوادي
فقلت له: أهيثم من عدي؟
فقال كأحمد بن أبي دواد
فإن يك هيثم منهم صحيحا
فأحمد - غير شك - من إياد
متى كانت إياد تروس قوما
لقد غضب الإله على العباد
وقد كان الهيثم تلميذ هشام بن عروة ومحمد بن إسحق، وتتلمذ له محمد بن سعد صاحب الطبقات.
وله كتب كثيرة عدها ابن النديم في الأنساب والمثالب والتاريخ والأدب، وقد اتهم بأنه ذكر العباس بن عبد المطلب بشيء فحبس لذلك عدة سنين؛ وهذا مثل آخر من أمثلة تدخل العباسيين في العلم وتأثيرهم في التاريخ، ويظهر أن الحبس مرنه على أن يجاريهم، فقد نادم كثيرا من خلفائهم، نادم المنصور والمهدي والهادي والرشيد، وكان يتحفهم بالأخبار الطريفة المصطنعة غالبا؛ سأل المهدي يوما: ويحك! إن الناس يخبرون عن الأعراب شحا ولؤما، وكرما وسماحا، وقد اختلفوا في ذلك، فقال الهيثم: خرجت من عند أهلي ... ومعي ناقة أركبها فندت ، فجعلت أتبعها حتى أمسيت، فأدركتها ونظرت فإذا خيمة أعرابي فأتيتها؛ ثم وصف المرأة بمنتهى البخل والشح، والرجل بمنتهى الكرم والسماحة. ثم قال إنه مضى لسبيله وأمسى عليه المساء فنزل خيمة أخرى، وحدث عما جرى له، فإذا المرأة سمحة كريمة، والرجل شحيح لئيم، فتبسم، فسأله الرجل: مم تبتسم؟ فحكى له قصته في الخيمة الأولى، فقال الرجل: إن هذه التي عندي هي أخت ذلك الرجل، وتلك التي عنده أختي.
57
وهكذا لفق الحكاية وصقلها ليبين أن في بعض العرب كرما وسماحة، وفي بعضهم لؤما وشحا؛ ومثل ذلك القصة التي اخترعها ليدل بها على معايب كل قبيلة من قبائل العرب.
58
وعلى الجملة فقد ملأ التاريخ والأدب بأخباره وقصصه ونوادره، وله أثره في مصر، فقد جاءها ونزل بها وحدث فيها، كما روى السمعاني، ومات بفم الصلح سنة 206.
وينسبون إليه أنه من أسبق المؤرخين إلى ترتيب الحوادث حسب السنين، فكان في ذلك قدوة للطبري بعده.
والمحدثون يهاجمونه هجوما عنيفا، فيحيى بن معين يقول: «ليس بثقة» و«ليس بشيء» و«كان يكذب»، ويقول بعضهم فيه: «ساقط قد كشف قناعه»، ورووا عن جارية الهيثم أنها قالت: «كان مولاي يقوم عامة الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب»، وقال أبو داود «هو كذاب»، وقال النسائي: «متروك الحديث».
59
حتى أبو نواس قال فيه:
الهيثم بن عدي في تلونه
في كل يوم له رحل على خشب
فما يزال أخا حل ومرتحل
إلى الموالي وأحيانا إلى العرب
له لسان يزجيه بجوهره
كأنه لم يزل يغدو على قتب
لله أنت فماقربى تهم بها
إلا اجتلبت لها الأنساب من كثب
إذا نسبت عديا في بني ثعل
فقدم الدال قبل العين في النسب
والحق أن أبا نواس هجاه لحادثة حدثت له، وأن المحدثين هاجموا أكثر المؤرخين - كما رأيت - لأن نمطهم يختلف عن نمط المحدثين، ولا يدققون في رواياتهم تدقيق المحدثين، ومن أجل هذا كان بعض المحدثين يطعنون في المؤرخ من ناحية حديثه فقط، ولا يتعرضون لناحيته في التاريخ أو الأنساب وما إلى ذلك؛ فيقول بعضهم في الهيثم: «كانت له معرفة بأمور الناس وأخبارهم، ولم يكن في الحديث بالقوي». وإن كان هذا كله لا يخلي الهيثم من تساهله في التاريخ والأخبار، ويجعل الناقدين على حق في وصفه بأنه «أخباري».
60
وقد اشتهر بوصف «الأخباري» في هذا العصر كثير غيره كأبي بكر عياش، ويموت بن المزرع وغيرهما، نكتفي منهم بهذه الصورة. •••
وهكذا هجم المؤرخون - وما كان أكثرهم في هذا العصر - على فروع التاريخ المختلفة، وأخذوا في تدوينها وترتيبها وترقيتها، من كتب في حوادث مختلفة إلى كتب جامعة، ومن مسائل منتثرة على كتب منظمة، ومن سرد حوادث إلى ترتيبها حسب السنين.
فإن نحن سألنا في التاريخ سؤالنا في النحو، هل التاريخ الإسلامي علم إسلامي مستقل، أو متأثر بالأمم الأخرى؟ قلنا إنه يظهر لنا أن تاريخ السيرة، وتاريخ حوادث الإسلام في عصوره الأولى كان إسلاميا بحتا، ويدل تطوره على أنه تطور طبيعي لم يأته التنظيم من الخارج، نعم كان لليونان تاريخ عام، وتاريخ للبلدان، وتراجم رجال، وكان للفرس تواريخ مؤرخة حسب السنين، ولكن لم يظهر أثر للنقل عنهم في حياة التاريخ الأولى عند المسلمين. أما متأخرو المؤرخين، وتاريخ المؤرخين الأولين للأمم الأخرى من فرس وروم، ويهودية ونصرانية، فالنقل فيها والتأثر بها واضح جلي.
قد يكون في عمل هؤلاء المؤرخين بعض مآخذ، كتلوين التاريخ ببعض العقائد أحيانا، وتعصبهم لقبائلهم أحيانا، وللخلفاء الذين يتصلون بهم أحيانا، وكبنائهم التاريخ حول الخلفاء لا حول الشعوب، وإهمالهم كثيرا من وصف النواحي الاجتماعية، وغلبة النزعة الدينية فيما يعرضون له من أحداث، وضعف النقد وإيجازه وسذاجته إلى غير ذلك؛ ولكن كل هذه العيوب تقل حدتها إذا نظرنا إلى ما ذكرنا من مزاياهم، خصوصا وإنا عند نقدهم يجب أن نقيس محاسنهم ومعايبهم باعتبار زمانهم وبيئتهم التي تحيط بهم، لا بزماننا وبيئاتنا، حتى يكون النقد أدق والحكم أصدق؛ فمن من المؤرخين غيرهم عني في عصرهم بتاريخ الحوادث بالشهر باليوم؟ وبعض المؤرخين الأوربيين يقول إن هذا النمط من كتابة التاريخ لم يعرف في أوربا قبل سنة 1597م؛ ومن من المؤرخين غيرهم عني بالإسناد عنايتهم، فيسند الرجل إلى امرأته وإلى أمته، ويدور على الناس في أخبيتهم ومنازلهم يتلمس الأخبار ويطبق ما يسمع على المشاهد؟ ومن من المؤرخين في مثل عصرهم يتشدد تشددهم في الرواية والسماع، ولا يستجيز الأخذ عن الصحيفة إلا أن يكون ضعيفا مطعونا فيه؟ ومن من المؤرخين في مثل عصرهم صبر على ما صبروا عليه من فاقة وبؤس، وحل من غانة إلى فرغانة، مع بعد الشقة ووعورة الطرق، ثم قيد كل ما سمع مع الإفلاس، وغلاء القرطاس؟
الحق أنهم - على عيوبهم - لم يدخروا جهدا، ولم يعرفوا دعة.
الخلاصة
إذا نحن نظرنا نظرة عامة إلى ما قدمناه من نشأة العلوم على اختلاف أنواعها من علوم دينية، كالتفسير والحديث والفقه، ومن علوم لسانية كاللغة والنحو والأدب، ومن علوم أخرى كالتاريخ، وجدنا أنها تشترك في مظاهر واحدة، وأنها خضعت لقوانين واحدة، ويمكن أن نجملها فيما يأتي: (1)
بدأت هذه العلوم كلها شفوية يتناقلها الناس بعضهم عن بعض بالسماع ولا يعنى بالتدوين فيها إلا أفراد قلائل، في شكل ساذج.
ثم بدأ التدوين يكثر شيئا فشيئا، ولكن على غير نظام، فالعلم كله في نظرهم شيء واحد، والعالم غير متميز؛ فمسألة في التفسير، ومسألة في التاريخ، ومسألة في الأدب، ومسألة في التشريع. وكلها علم ليس بينها من فرق، والعالم يعرض لكل ذلك من غير أن يشعر بأنه انتقل من حدود علم إلى حدود آخر.
ثم أخذ العلم يتركز، ولما اتسعت دائرته وكثرت جزئياته أصبح أكثر العلماء لا تتسع قدرتهم للإحاطة بها، فغلب على كل طائفة ميل خاص إلى بعض المسائل اشتهر به، فمنهم من غلبت عليه نزعة التشريع، ومنهم من غلبت عليه نزعة التاريخ وهكذا؛ وبوضوح هذه النزعات على توالي الزمان أخذت المسائل المتشابهة يتجمع بعضها حول بعض، فتميزت العلوم نوعا ما.
وحتى لما تميزت هذا التمييز لم تكن منظمة في نفسها، فمسائل الفقه مبعثرة ومسائل التاريخ مبعثرة وهكذا؛ فجاء العلماء بعد يدخلون عليها التنظيم شيئا فشيئا، يجمعون المسائل المتشابهة في موضع واحد، ويبوبون لها بابا خاصا ، حتى وصل في آخر العصر العباسي الأول إلى ما رأينا.
وأن التأليف في العلوم كلها خضع لقانون النشوء والارتقاء؛ تفرز الحياة اجتماعية مشاكل تلفت الأنظار وتتطلب الحل، وهذه المشاكل متنوعة، منها في التشريع، ومنها في الخطأ اللساني، ومنها في مطالب السمو ونحو ذلك، فتتجه الأذهان الكبيرة إلى حلها - وكلما حلت مسألة دخل الحل في باب المأثور - وورث كل جيل عن الذي قبله طائفة كبيرة من المأثورات أضاف إليها المشاكل التي عرضت له هو وحلولها، ولم تكن هذه المشاكل منظمة؛ لأنها في كثير من الأحيان وليدة المصادفات، فرجل يحلف يمينا لم تخطر ببال، والفرزدق يقول بيتا من الشعر لم يجر فيه على المألوف، وآية من القرآن تتلى فيقف فيها الواقف من ناحية معناها أو من ناحية مبناها، فتجادل العلماء في كل ذلك ويخلفون آراء لها قيمتها. فإذا تكدست هذه المسائل وظهرت النزعات التي أسلفنا ذكرها اتجهت الأفكار إلى فرزها وتنظيمها والتأليف فيها، وزاد من يأتي بعدهم في ذلك التنظيم حتى يكون من ذلك بعد مثل كتاب الموطأ في الحديث، وكتب أبي يوسف ومحمد الشافعي في الفقه، والعين في اللغة، وكتاب سيبويه في النحو، وابن إسحق والواقدي في السيرة.
ونرى أن التأليف في الفروع المختلفة سار على نمط واحد، تأليف في مسألة جزئية، كتأليف الهمزة واللام في النحو، وتأليف في وقعة الجمل أو صفين أو مقتل عثمان في التاريخ، أو تأليف في النخل والكرم، واللبأ واللبن في اللغة ثم التأليف في أبواب العلم كلها كالذي رأينا. (2)
كان جمع الحديث أساسا لكل العلوم الدينية، تفرع عنه التفسير والفقه وتاريخ السيرة وتاريخ الفتوح والطبقات؛ وكان الحديث في أول الأمر يشمل كل ذلك، ثم أخذت فروعه تنفصل عنه شيئا فشيئا، وتتميز بأسمائها وكتبها.
وأما العلوم اللسانية فكان مبعثها أيضا دينيا، فأهم سبب لوضع النحو المحافظة على القرآن من أن يلحن الناس فيه، وأهم باعث لجمع اللغة معرفة لغة القرآن وتفسير غريبه وهكذا؛ ثم تحول بعد ما كان وسيلة إلى غاية تقصد لذاتها. وهذا ما جعل كل العلوم التي ذكرناها في هذا الجزء تصطبغ بالصبغة الدينية، وتتأثر بالدين وتعاليمه إلى حد بعيد، في الاتجاه الذي اتجهته، والنمط الذي سلكته. (3)
نشط العلم في أحضان العباسيين نشاطا كبيرا، وإن كانت بذرة النشاط بدأت في آخر العصر الأموي، فالتأليف في العصر العباسي شمل كل فرع من فروع العلوم، وعد المؤلفون والمؤلفات فيه بالمئات، واستعراض لفهرست ابن النديم فيما ألف في ذلك العصر يقفنا موقف الدهشة والاستغراب، وليست المسألة مسألة كمية لعدد المؤلفات فحسب، بل الفرق كبير أيضا في كيفية معالجة العلماء العباسيين للموضوع والعلماء الأمويين له، وسبب ذلك الرقي الطبيعي في العلم، وأن كل خطوة فيه تسلم للتي تليها، وأن العباسيين كانوا أكثر اتصالا بالعلماء وتشجيعا، إلى غير ذلك من أسباب عرضنا لها في ثنايا الكتاب. •••
وبعد، فلم يبق لنا من أنواع العلوم إلا ما ترجم منها عن الأمم الأخرى، وقد عرضنا لذلك عند الكلام في الثقافات المختلفة في الجزء الأول من «ضحى الإسلام»، وسنعرض لنتائجها التي تهمنا عند الكلام في «المتكلمين»، وقد خصصنا الجزء الآتي بالكلام في العقائد من معتزلة وشيعة ومرجئة وخوارج ومتصوفة وغيرهم في ذلك العصر. أعاننا الله على إتمامه.
الجزء الثالث
ضحى الإسلام
كتاب في ثلاثة أجزاء، يبحث في الحياة الاجتماعية، والثقافات المختلفة، والحركات العلمية، والفرق الدينية، في العصر العباسي الأول..
تأليف
أحمد أمين
الجزء الثالث
يبحث في الفرق الدينية من معتزلة وشيعة ومرجئة وخوارج كما يبحث في تاريخهم السياسي وفي أدبهم..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين
وبعد، فهذا الجزء الثالث وهو الأخير من «ضحى الإسلام»، بحثت فيه عن الفرق الدينية في العصر العباسي الأول، من معتزلة وشيعة ومرجئة وخوارج، وعرضت من كل فرقة لناحيتها الدينية، وناحيتها السياسية، وناحيتها الأدبية.
وقد رأيت أن من كتبوا في الفرق والملل والنحل سلكوا مسلكين - شأنهم في ذلك شأن المؤرخين - فمنهم من اكتفى بشرح وجهة النظر لكل فرقة، ووقف عند هذا الحد، لم ينقد ولم يحلل، ولم يتعرض لتأييد الرأي ولا الرد عليه، وترك ذلك للقارئ يعمل فكره ويكون رأيه، ثم يقبله أو يرفضه، كما فعل الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» في أغلب الأحيان.
ومنهم من تعرض لكل رأي وأبدى حجته، ونقده، وعارضه أو أيده، كما فعل ابن حزم في الملل والنحل.
ولقد ترددت في أي المسلكين أسلك، ثم لم ألبث إلا قليلا حتى قطعت بتفضيل الطريقة الثانية على الأولى؛ لأنها أنفع للقارئ، وأصدق في أداء المؤلف للواجب، وأدل على شخصيته .
ولكني رأيت ابن حزم وأمثاله إذا عرضوا للرأي المخالف سفهوه، وأوسعوا قائله سبا وتعنيفا، فلم أجارهم في شيء من ذلك، وأدليت برأيي فيه في لين وهوادة وألزمت نفسي - على قدر وسعي - أن أقف موقف القاضي العادل. أدقق النظر وأردد الفكر في أقوال مؤيدي الرأي ومهاجميه، وأصغي لحجج الفريقين، وأحاول ما استطعت أن أتجرد من إلفي وعادتي، حتى إذا نضج الرأي وتبين لي الصواب أصدرت حكمي مؤيدا بدليله في غير جرح ولا تسفيه، ثقة مني بأن قوة الحجة في معانيها الكامنة، لا في أشكالهاالظاهرة، وأن من طلب الحق ودعا إليه، علم أن العنف يدعو إلى العنف، وتسفيه الرأي بالسب يدعو صاحبه إلى الإصرار عليه، وأن خير طريق في الدعوة ما سنه الله في القرآن الكريم:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين
و
ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم .
ولقد لقيت في هذا الجزء من العناء ما لم ألقه في غيره من الأجزاء، لأن العقائد الدينية قد عملت فيها الأهواء أكثر مما عملت في غيرها من منحى الحياة؛ فتحرير المذهب كما يتصوره أصحابه في غاية من الصعوبة، والخطوط المرسومة في تحديده في كثير من الأحيان غامضة ملتوية. وحسبك مثلا على هذا ما نراه في مذهب المعتزلة؛ فقد أبيدت كتبهم، وعدا خصومهم على آثارهم. فإذا أردنا معرفة آرائهم لم نرها محكية إلا في كتب أعدائهم، وهؤلاء في كثير من الأحيان لا يدلون بحججهم في قوة كالتي يدلي بها أصحابها، فهم يضعفون الدليل ويقوون الرد.
ثم آراء الفرق في كتب الفرق مهوشة مبعثرة قل أن تربطها وحدة، وقل أن يعنى فيها بوضع الفروع بعد أصولها. فكنت إذا أحببت أن أترجم لعلم من أعلام الفرقة كالعلاف والنظام، لم أر ذلك مجموعا في موضع ولا مرتبا في مكان، فأضطر إلى جمع رأي من هنا ورأي من هناك، فإذا تم لي ذلك حاولت أن أؤلف منها شكلا منظما، فكنت أنجح حينا وأخفق حينا.
هذا إلى الفوضى هذه الكتب في عرض المذاهب، وغموض التعبير، ومزج القشور باللباب.
ففي سبيل الله ما لقيت من تحري الصواب وإيضاح الفكرة، وعرض الآراء عرضا يوافق ذوق العصر.
وقد كنت وعدت القراء أن يكون لضحى الإسلام جزء رابع يشمل الحياة العقلية في الأندلس، ثم نبهني بعض المستشرقين في أن الخير تأجيل ذلك العصر الذي بعدالضحى حتى تغزر مادة الأندلس ويحسن عرضها، فرأيت الصواب فيما رأوا.
فأختم بهذا الجزء «ضحى الإسلام»، وإن كان في العمر فضل وفي الجهد بقية واليت الكلام في العصر الذي بعده، مستعينا بالله، مستمنحا توفيقه.
أحمد أمين
13 شعبان سنة 1355
29 أكتوبر سنة 1936
في العقائد والمذاهب الدينية في العصر العباسي الأول
تمهيد في نشأة علم الكلام
كثر البحث في العقائد في ذلك العصر وتشعب، واتخذ ألوانا جديدة لم تكن أيام النبي
صلى الله عليه وسلم
ولا الأولين من صحابته، وأخذت هذه البحوث تتركز ليتكون منها علم جديد يساير سائر العلوم التي نشأت في هذا العصر، هو «علم الكلام».
وقد تعاون على نشوئه وارتقائه أسباب كثيرة: بعضها داخلي، وبعضها خارجي؛ وأعني بالأسباب الداخلية أسبابا صدرت من طبيعة الإسلام نفسه والمسلمين أنفسهم، وبالأسباب الخارجية أسبابا أتت من الثقافات الأجنبية والديانات المختلفة غير الإسلام.
فأما الأسباب الداخلية فأهمها: (1)
أن القرآن الكريم بجانب دعوته إلى التوحيد والنبوة وما إليهما عرض لأهم الفرق والأديان التي كانت منتشرة في عهد محمد
صلى الله عليه وسلم ، فرد عليهم ونقض قولهم؛ فحكى عن قوم أنكروا الأديان والإلهيات والنبوات ، وقالوا: «ما يهلكنا إلا الدهر»، ورد عليهم بمختلف الدلائل. وعرض للشرك بجميع أنواعه؛ فمن المشركين من أله الكواكب واتخذها شريكة لله، فرد عليهم بمثل آية إبراهيم:
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الأفلين ؛ ومنهم من أله عيسى عليه السلام، فرد عليهم في مواضع عدة وقال:
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون . وحمل على الذين قالوا بعبادة الأوثان وأشركوها مع الله. وحكى عن قوم أنكروا النبوات جميعا فقالوا:
أبعث الله بشرا رسولا
ورد عليهم: وعن قوم أنكروا نبوة محمد خاصة ورد عليهم. وأورد رأي قوم أنكروا الحشر والنشر، فرد عليهم بقوله:
كما بدأنا أول خلق نعيده ، إلى غير ذلك. وعرض لمسائل التكليف والجبر، والاختيار وأبان الحجة فيها؛ فحكى عن طائفة من المنافقين يوم أحد أنهم قالوا:
هل لنا من الأمر من شيء؟
وقالوا:
لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ، ورد عليهم في قولهم. وأمر الرسول أن يدعو دعوته، ويجادل مخالفيه، فقال تعالى:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن
فكان طبيعيا أن ينهج علماءالملة هذا المنهج فيردوا على المخالفين، ويتوسعوا في الدفاع توسع المخالفين في الهجوم، ويجددوا الحجج في الرد كلما جدد المخالفون الحجج في الطعن، فكان هذا من أسباب نشوء «علم الكلام». (2)
أن المسلمين لما فرغوا من الفتح، واستقر بهم الأمر، واتسع لهم الرزق، أخذ عقلهم يتفلسف في الدين فيثير خلافات دينية، ويجتهد في بحثها والتوفيق بين مظاهرها، ويكاد يكون هذا مظهرا عاما في كل ما نعرفه من أديان، فهي أول أمرها عقيدة ساذجة قوية لا تأبه لخلاف، ولا تلتفت إلى بحث، ينفذ نظرها إلى أسس الدين فتعتنقها وتؤمن بها إيمانا تاما في غير ميل إلى بحث وفلسفة؛ ثم يأتي طور البحث والنظر وصبغ مسائل الدين صبغة علمية فلسفية، وإذ ذاك يلتجئ رجال الدين إلى الفلسفة يستعينون بها في تدعيم حججهم وتقوية براهينهم؛ هذا ما كان في اليهودية، وهذا ما كان في النصرانية، وهذا ما كان في الإسلام؛ فقد كاد ينقضي العصر الإسلامي الأول في إيمان لا يعتوره كثير من الجدل؛ فلما هدأ الناس أخذوا ينظرون ويبحثون، ويتوسعون في النظر والبحث، ويجمعون بين الأشباه والنظائر، ويستخرجون وجوه الفروق والموافقات، فكان ذلك يستتبع حتما اختلاف وجهة النظر، فاختلاف الآراء والمذاهب. والنسق لذلك مثلا: أن المسلمين الأولين كانوا يؤمنون بالقدر خيره وشره، ويؤمنون بأن الإنسان مكلف بما أمره الله به، وكان إيمانهم بذلك إيمانا قويا مجملا من غير تعمق في بحث، ولا تفلسف في نظر؛ فجاء من بعدهم يجمعون الآيات الواردة في هذا الموضوع ويفلسفونها؛ فرأوا من ناحية أن الله تعالى يقول - مثلا -:
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لايؤمنون ، ويقول:
ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا ، ويقول:
تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب
فقالوا إن هذه الآيات وأمثالها. يدل ظاهرها على الجبر والتكليف بما لا يطاق؛ وقد أخبر الله في كل من الآيتين الأخيرتين عن شخص معين أنه لا يؤمن قط، ومع هذا كلفه الإيمان. ومن ناحية أخرى ملئ القرآن بالآيات الدالة على أنه لا مانع لأحد من الإيمان:
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ، وقال تعالى:
رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ،
وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر
كيف التوفيق بين هذه الآيات جميعا؟ وهل الإنسان مجبر أو مختار؟ وهكذا جمعوا الآيات التي ظاهرها الخلاف، وأخذوا يبحثونها البحث العلمي الفلسفي، ويوازنون بينها، فأداهم ذلك إلى اختلاف طويل وجدال عميق سنعرض له بعد. وكل ما نريد الآن أن نبينه هو كيف أدى البحث العلمي في المسألة إلى الاختلاف في الحجج والاختلاف في المذاهب مما كان أساسا من أسس علم الكلام؟ (3)
المسائل السياسية - ولعل أوضح مثل لذلك مسألة الخلافة، فقد توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولم يعين من يخلفه، ولم ينص على نظام يتبع في اختيار الخليفة، بدليل أن المهاجرين والأنصار اختلفوا، فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، ورد عليهم المهاجرون.
وأسرع عمر فبايع أبا بكر وتبعه الناس، وعدت هذه غلطة وقى الله المسلمين شرها، لأن المسلمين لم يستشاروا فيمن يكون خليفة واتبع أبو بكر طريقة أخرى، فعهد بالخلافة إلى عمر، واتبعه عمر طريقة ثالثة.
ولو نظرنا إلى المسألة بعقلنا اليوم لقلنا إنها مسألة سياسية بحتة، فالدين لم يقيد المسلمين فيها بشكل خاص ولا بشكل معين، وكل ما قيدهم به أن ينظروا إلى الصالح العام، فأولوا الرأي في الأمة يضعون القوانين التي تكفل حسن الاختيار، وتحسم أسباب النزاع، ويختارون من يحقق المصلحة العامة، ويعزلون من لم يحققها، وينظرون في كل زمن بما يناسبه، ويتقدمون في فهم ذلك يتقدم الناس في فهم الحقوق والواجبات؛ فإذا حدث خلاف بين أولى الرأي فيما يتبع وفيمن يختار فالخلاف سياسي، كالذي يكون بين الأحزاب السياسية اليوم؛ فإذا رأى قوم استخلاف أبي بكر فلهم رأيهم السياسي وحججهم السياسية، وإذا رأى قوم استخلاف علي فكذلك، وإذا رأى قوم أن لا هذا ولا ذاك أدلوا برأيهم، فإذا استطاعوا أن يقنع بعضهم بعضا فيها، وإن حكموا السيف وانتصر الأقوى فشأنهم شأن الأحزاب يختلفون فيتقاتلون، ويفوز أحدهم بالحكم فيظل فيه حتى يغلبه آخر بالرأي العام أو السيف.
ولكن لم يكن الأمر على هذا النحو في ذلك العصر الذي نؤرخه، فلم تتخذ الأحزاب هذا الشكل السياسي البحت، بل اصطبغت صبغة دينية قوية، وصار كل حزب سياسي فرقة دينية، وصار الذين يقتتلون سياسيا يقتتلون دينيا، وبدل أن يسمى الحزب اسما سياسيا يدل على المبدأ السياسي الذي يدعو إليه تسمى اسما يدل على المذهب الديني: كشيعة وخوارج ومرجئة، وبدل أن يتحاجوا بما ينتج عن أعمالهم من مصالح ومفاسد تحاجوا بالكفر والإيمان والجنة والنار؛ فقد اختلف المسلمون بعد مقتل عثمان وانقسموا أحزابا، وهي في الواقع أحزاب سياسية قد يرى كل حزب أن الحق بجانبه، وأن خير الأمة يتحقق باستخلاف من يدعو إليه؛ فحزب يرى أن عليا أولى الناس بأن يكون خليفة المسلمين، وحزب يرى أن معاوية هو الذي يحقق هذا الغرض، وحزب يرى أن لا هذا ولا ذاك بل لا حاجة إلى الخلافة. فإن كان ولابد فأصلح الناس للناس ولو كان عبدا حبشيا، وحزب محايد لم يكون رأيا أو لم يشأ أن يدخل في الخلاف فيزيده قوة. فهو كما ترى خلاف كالذي يحصل بين الأمم اليوم؛ فيرى قوم أن مصلحة الأمة أن تكون ملكية يحكمها فلان، أو تكون جمهورية تحكم بشكل خاص، وحججهم في ذلك ما يذكرونه من الأدلة العقلية على هذا النوع أو ذاك؛ وقد لا يجدي العقل واللسان فيحكم الحديد والنار ولا يكون بينهم خلاف ديني في هذا. ولكن رأينا في العصر أن الحزب الأول تسمى الشيعة، والثاني الأمويين، والثالث الخوارج، والرابع المرجئة. ورأينا الخلاف خلافا دينيا، ورأينا كل حزب له أدلته الدينية. ورأينا خلافا في هذه الحروب حول الكفر والإيمان. ورأينا أن تسجيل هذه الحوادث والحروب والنزاع لم يكن محلها فقط كتب التاريخ، وهي التي تسجل الحوادث السياسية، بل عني بتسجيلها أيضا كتب الفرق الدينية والملل والنحل.
وأحيانا يحكى القول من أقوال الفرق المختلفة على أنه مذهب ديني بحت ومسألة عقيدة صرفة، مع أنا لو دققنا النظر في أصلها لوجدناه سياسيا: كمسألة مرتكب الكبيرة أكافر أم مؤمن، فالظاهر أن بحثها لم يكن بحثا لاهوتيا بحتا، وإنما منشؤها حكم الأحزاب السياسية بعضها على بعض. فالخوارج أثاروا المسألة من ناحية من اتبع عليا أكافر أم مؤمن، ومن اتبع معاوية أكافر أم مؤمن؟ كما نتساءل نحن اليوم: ما حكم من اتبع مذهب كذا السياسي أخائن لوطنه أم غير خائن؟ ولكن طبيعة الزمن صبغت المسألة هذه الصبغة الدينية، ثم تنوسي أصلها على مر الزمان ووضعت على أنها مسألة إيمانية مجردة من السياسة.
والسبب في هذا أن الدين الإسلامي كان في عنفوانه، وقد امتلأت نفوس الناس به وكان سبب سعادتهم الروحية والدينية والدنيوية وهم قريبو عهد بالنبوة، فنظرهم إلى المسائل - وخاصة الهامة منها - لابد أن يصطبغ اصطباغا قويا بالدين بحكم البيئة والجو. أضف إلى ذلك أنه كان في كل حرب مكرة مهرة، رأوا أن الناس في ذلك العصر لا يستهويهم القول بالصالح العام كما يستهويهم القول بأنهم في دفاعهم إنما يدافعون عن الدين، ويجردون السيف باسم الدين، فغرقت الأحزاب كلها في هذا البحر، واستعملت هذا السيف، وأثارت العواطف من هذا الباب، واستغلت عقول العلماء ليمدوها بما لديهم من علم في هذه السبل، وانضم إليهم من لا يخافون الله، فإذا لم يجدوا في الدين شيئا وضعوا له الحديث والأخبار الدينية - وبذلك كله كان الخلاف السياسي سببا كبيرا من أسباب الخلاف الديني، وسببا في العقائد والفرق؛ وإذا بنا نرى حزب علي فرقة دينية هي حزب الشيعة يرون أن الدين نص على علي وذريته، ونرى حزب الأمويين حزبا دينيا يرون أن إمامة معاوية وأولاده ثبتت بإتقان أهل الحل والعقد في الأمة؛ ونرى حزب الذين لا يرضون عن هؤلاء جميعا حزبا دينيا يسمى الخوارج، له عقائده وتعاليمه؛ ونرى حزب المحايدين حزبا دينيا يسمى المرجئة له خلافاته وآراؤه، وساقهم هذا الخلاف السياسي الذي اصطبغ بالدين إلى الخلاف في تعريف الإيمان والكفر والكبائر والصغائر وحكم مرتكب الكبيرة ونحو ذلك، وانساقوا بعد إلى الخلاف في الفروع حتى تكونت من كل منهم فرقة لها خلاف في الأصول والفروع على مر الزمان.
أما الأسباب الخارجية فأهمها: (1)
أن كثيرا ممن دخلوا في الإسلام بعد الفتح كانوا من ديانات مختلفة: يهودية ونصرانية ومانوية وزرادشتية وبراهمة وصابئة ودهريين إلخ. وكانوا قد نشأوا على تعاليم هذه الديانات وشبوا عليها، وكان ممن أسلم علماء في هذه الديانات، فلما اطمأنوا وهدأت نفوسهم، واستقرت على الدين الجديد وهو الإسلام، أخذوا يفكرون في تعاليم دينهم القديم، ويثيرون مسائل من مسائله، ويلبسونها لباس الإسلام، وهذا ما يعلل ما نرى في كتب الفرق من أقوال بعيدة كل البعد عن الإسلام؛ فنرى أحمد بن حائط يقول في التناسخ شبه ما يقول البراهمة، ويقول في المسيح (عليه السلام) قولا يشبه قول النصارى
1
إلى كثير من أمثال ذلك. (2)
وسبب آخر وهو أن الفرق الإسلامية الأولى وخاصة المعتزلة جعلت من أهم أغراضها الدعوة إلى الإسلام والرد على المخالفين كما سترى، وما كان يتسنى لهم الرد إلا بعد الاطلاع على أقوالهم وأدلتهم، فدفعهم ذلك إلى الإحاطة بالفرق الأجنبية وأقوالها وحججها؛ فأصبحت البلاد الإسلامية ساحة تعرض فيها كل الآراء وكل الديانات ويتجادل فيها، ولاشك أن الجدل يستدعي النظر والتفكير ، ويثير مسائل تستدعي التأمل، وتحمل كل فريق على الأخذ بما صح عنده من قول مخالفه.
وكانت بعض الأديان، وخاصة اليهودية والنصرانية، قد تسلحت بالفلسفة اليونانية، ففيلون اليهودي (25ق.م-50ب.م) كان من أوائل من فلسف اليهودية في الإسكندرية؛ وكليمان الإسكندري (ولد نحو سنة 150م)، وأوريجين (سنة 185-254م) من أوائل من مزجوا النصرانية. بالأفلاطونية الحديثة، وتبعهم كثير من النصارى النساطرة.
2
وقد أدى هذا إلى أن يلجأ المعتزلة إلى مثل السلاح الذي لجأ إليه خصومهم - ومن هذا الاحتكاك بين المعتزلة وأمثالهم وبين الملل الأخرى نشأت بين المسلمين أقوال مختلفة، مثلنا لها من قبل،
3
فكان ذلك سببا من أسباب تضخم علم الكلام. (3)
وسبب ثالث نتج من السبب الثاني، وهو أن حاجة المتكلمين إلى الفلسفة لوقوفهم أمام خصومهم يجادلونهم بمثل حججهم، اضطرتهم إلى أن يقرأوا الفلسفة اليونانية وينتفعوا بالمنطق وباللاهوت اليونانيين؛ فنرى «النظام» يقرأ أرسطو ويرد عليه، وأبا الهذيل العلاف كذلك؛ ونرى كثيرا عن المعتزلة يتكلمون في الطفرة والتوالد والجوهر والعرض والجوهر الفرد، ونحو ذلك من المسائل التي تعد من صميم الفلسفة اليونانية وتدخل في بحوث المتكلمين.
فهذه الأسباب كلها من داخلية وخارجية هي التي كونت علم الكلام وجعلته فنا قائما بنفسه؛ فمن قال: إنه علم إسلامي بحت لم يتأثر أي أثر بفلسفة اليونان وسائر الأديان فقد أخطأ، واستعراض بسيط لموضوعات هذا العلم يكفي للرد عليه؛ ومن قال: إنه وليد الفلسفة اليونانية وحدها فقد أخطأ كذلك؛ لأن الإسلام هو أساسه، وهو محوره الذي يدور عليه، وكان استشهادهم بآيات القرآن والتعويل عليها فوق استشهادهم بالفلسفة اليونانية والتعويل عليها؛ فالحق أنه مزيج منهما، وشخصية المسلمين فيه أقوى من شخصيتهم في دراسة الفلسفة. •••
سمي هذا العلم الذي يبحث في العقائد بالأدلة العقلية والرد على المخالفين بعلم الكلام، وسمي المشتغلون به بالمتكلمين. وقد اختلفوا في سبب هذه التسمية؟ فقال بعضهم: إنه سمي علم الكلام، لأن أهم مسألة وقع فيها الخلاف في العصور الأولى مسألة كلام الله وخلق القرآن، فسمي العلم كله بأهم مسألة فيه، أو لأن مبناه
كلام صرف
في المناظرات على العقائد، وليس يرجع إلى عمل، أو لأنهم تكلموا حيث كان السلف يسكت عما تكلموا فيه، أو لأنه في طرق استدلاله على أصول الدين أشبه بالمنطق في تبيينه مسالك الحجة في الفلسفة، فوضع للأول اسم مرادف للثاني، فسمي كلاما مقابلة لكلمة «منطق»
4
إلى آخر ما قالوا.
والظاهر أن إطلاق هذا الاسم على هذا العلم كان في العصر العباسي، وعلى الأرجح في عصر المأمون، فقد رأينا أنه قبل ذلك كان يسمى البحث في مثل هذه الموضوع «الفقه في الدين» نظير «الفقه في العلم» وهو علم القانون، فقالوا «الفقه في الدين أفضل من الفقه في العلم»، وسمى أبو حنيفة كتابه في العقيدة «الفقه الأكبر». ويقول الشهرستاني: «ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين فسرت أيام المأمون، فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنا من فنون العلم، وسمتها
باسم الكلام »،
5
فعلى قوله يكون المعتزلة هم الذين سموا هذا العلم علم الكلام، وأن ذلك كان بعد أن نقلت إلى العربية كتب الفلسفة اليونانية أيام المأمون. •••
هؤلاء
المتكلمون
من معتزلة ومرجئة وشيعة وخوارج وغيرهم سبقوا
فلاسفة
الإسلام في الزمان، فأول فيلسوف إسلامي عرف هو الكندي (المتوفى نحو سنة 260ه)؛ وقبل ذلك بعشرات السنين كان المتكلمون أمثال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وأبي الهذيل العلاف، والنظام، يبحثون في مسائل الكلام، ويقررون قواعده، ويضعون مبادئه - وقبل ذلك كان الحسن البصري في العهد الأموي، وغيلان الدمشقي، وجهم بن صفوان، يتعرضون لمسائل كلامية.
نعم إن الفلسفة اليونانية وجدت قبل الكندي، فقد عرف منطق أرسطو بين المسلمين من عهد ابن المقفع، وتسربت مسائل فلسفية لاهوتية من نصارى النساطرة وأمثالهم، واطلع بعض متقدمي المعتزلة كالنظام والعلاف على بعض كتب الفلسفة، وترجمت كتب كثيرة في عهد المأمون وبعده، ولكن أول من اشتغل من المسلمين بالفلسفة كنظام كلي، وهضم قدرا صالحا من الفلسفة، واستحق أن يلقب فيلسوفا في الإسلام هو هذا الكندي؛ على حين أن الكلام كان قد نضج قبل ذلك وتكون، واستحق كثير لقب «المتكلمين» سواء أطلق عليهم هذا الاسم أم لا. •••
وهذا يسلمنا إلى التعرض لمسألة هامة، وهي أن للمتكلمين منهجا خاصا في البحث والتقرير والتدليل يخالف من جهة منهج القرآن الكريم والحديث وأقوال الصحابة، ويخالف من جهة أخرى منهج الفلاسفة في بحثهم وتقريرهم وتدليلهم، فمنهجهم يخالف منهج من قبلهم ومنهج من بعدهم؛ ولنشرح ذلك في إيجاز:
فأما مخالفتهم لمنهج القرآن، فذلك أن القرآن اعتمد في الدعوة على أساس فطري، فيكاد يكون كل إنسان مفطورا على الاعتقاد بوجود إله خلق العالم ودبره، ويكاد الناس بفطرتهم يجمعون على ذلك مهما اختلفت أسماء الله عندهم واختلفت صفاته؛ يستوي في ذلك الممعن في البداوة، والمغرق في الحضارة. وهذا ما يعجب له الباحث الاجتماعي، إذ يرى إجماع القبائل - حتى التي لم تتصل بغيرها أي اتصال، والتي لا تعرف من العالم إلا رقعتها من الأرض، وغطاءها من السماء - على إله خالق، إن اختلفوا فيه فخلاف في الأسماء أو الاختصاص؛ فالقرآن اعتمد على هذه الفطرة، وخاطب الناس بما يحيي هذه العاطفة وينميها ويقويها، ويصلح ما اعتورها من فساد الإشراك وما إليه، وأدار الدعوة على هذا الأساس؛ فالله تعالى خلق الإنسان وعني به وأحاطه ببيئته، ينتفع بها في تسيير شئونه من أرض وسماء، وليل ونهار، وماء وهواء، وشمس وقمر، وحيوان ونبات؛ وهو الذي خلق الإنسان، وخلق هذه الأشياء كلها، مما ندرك وما لا ندرك، وما نعلم وما لا نعلم، وهو واهب الوجود لها كلها، وواهب الحياة لما حيي منها، وواضع نظامها الذي لا تحيد عنه، وغيره لا يستطيع أن يخلق ولو ذبابا
إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ؛ ثم غذى هذه العاطفة الفطرية بطلب النظر في كل ما حولنا؛ فذلك يسلم إلى قوة في دين، وإيمان في يقين
فلينظر الإنسان إلي طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا ،
فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب ،
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت ،
وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون ،
تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ،
ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا .
وسلك في الدعوة إلى التوحيد هذا المسلك، فاستدل على ذلك بالمألوف من تنازع ذوي السلطة، وما يؤدي إليه النزاع من فساد
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ،
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ، كما استدل على ذلك بوحدة النظام ووحدة الخلق، وخضوع المخلوقات جميعا لنظام واحد
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا . وهكذا سار أسلوب القرآن على هذا المنهج في إثبات قدرته وعلمه.
وهذا الأسلوب - كما ذكرنا - يساير الفطرة ويغذيها، ويشعر كل إنسان في أعماق نفسه بالاستجابة له والإصغاء إليه، حتى الملحد بعقله؛ وهو منهج يوافق العامة، وهم السواد الأعظم في كل أمة وكل جيل، كما يناسب الخاصة، وهم الأقلون دائما.
فنظرة العامي إلى قوله تعالى:
فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق
تثير إيمانا ساذجا بعجيب القدرة، كما أن نظرة «البيولوجي» (عالم الحياة) إلى منشأ الإنسان وخلقه تثير عجبه وإعجابه وحيرته دائما وإيمانه العميق إلا قليلا؛ ونظرة العامي إلى السماء وتلألؤ نجومها، وسطوع شموسها وأقمارها، تبعث عنده الإيمان بمدبر هذا الكون وعظمته؛ والفلكي بمعرفته الواسعة لحركات النجوم وسيرها ونظامها وخلقها وأبعادها أقدر على معرفة العظمة، وأشد إعجابا بخالقها ومدبرها. وهكذا الشأن في العامي والفسيولوجي، والعامي والسيكولوجي، والعامي والفيلسوف - كلهم صالح لأن يتأثر بهذا المنهج على اختلاف في استعدادهم ومداركهم، وحياة عواطفهم وحياة عقولهم.
فالقرآن لا يؤلف برهانه تأليف المنطقي من مقدمة صغرى وكبرى ونتيجة، ولا يتعرض لألفاظ الفلسفة من جوهر وعرض ونحوهما، ولا يحددهما ولا يثير المشاكل العقلية ويفصلها ويبني عليها، لأن الدين لم يأت للفلاسفة وحدهم ولا للعلماء وحدهم، فالفلسفة والعلم حظ أقل عدد من الناس؛ إنما اعتمد - كما أسلفنا - على الفطرة والعاطفة، وهما قدر مشترك بين الناس جميعا، فمن ثم كان ممن آمن علماء وجهلاء وفلاسفة وغيرهم، ولو اتبع الدين سبيل «علم المنطق» ما آمن إلا القليل.
ولكن جاء في القرآن آيات فيها غموض على الباحث؛ فآيات تدل على الجبر، وآيات تدل على الاختيار، فكيف التوفيق بينها؟ وما الرأي الحق الذي ترمي إليه هذه الآيات؟ وجاءت تثبت لله تعالى وجها ويدا، وتعبر عنه بأنه السماوات والأرض وتقول إنه في السماء
أأمنتم من فى السماء أن يخسف بكم الأرض ، وتذكر أن له تعالى عرشا وتقول:
وجاء ربك والملك صفا صفا
فكيف يتفق هذا وما ورد في القرآن من التنزيه؛ ومن قوله:
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدني من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا
إلى غير ذلك. وإذا كان العقل يثبت أنه تعالى ليس بجسم فكيف يمكن أن تفهم هذه الآيات؟ وهكذا وردت في القرآن آيات سميت «متشابهات» كانت مجال البحث والنظر.
أما الأولون من المسلمين فآمنوا بها وصدقوها من غير بحث كثير ولا جدال طويل، وفهموا هذه الآيات فهما مجملا واكتفوا بهذا الفهم. وكان كثير من ذوي العقول الراجحة في العصر الأول يرى أن الدخول في تفصيل هذه المتشابهات والجدال فيها ليس من مصلحة المسلمين، ولا يستطيع فهمه جمهورهم، فأولى أن يكتفي فيها بالمعنى الإجمالي وإن غمض، وأن يكتفي العالم واسع النظر عميق الفكر بما يرشده إليه عقله لنفسه لا للجمهور، فقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الجارية التي كانت تعتقد أن الله في السماء، لأن عقلها لا يقوى على أكثر من ذلك. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟!». وجاء بعدهم قوم ساروا على هذا النحو؛ فقد روي عن الوليد بن مسلم أنه قال: «سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد عن الأخبار التي جاءت في الصفات (يعني صفات الله) فقالوا: «أمروها كما جاءت بلا كيف»؛ وسئل ربيعة الرأي من قوله تعالى:
الرحمن على العرش استوى
كيف استوى فقال: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق»؛ وروي عن مالك بن أنس أنه سئل: كيف استوى؟ فأطرق برأسه ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة».
فهؤلاء رأوا الوقوف عند ما جاء في الدين من غير تفسير، لأحد سببين: إما لأن هذه البحوث مما لا تصلح للعامة،أو لأن ما يتعلق بالله وصفاته شيء وراء العقل لا يمكن أن يصل إليه الإنسان إلا بأن يقيس الله على نفسه، وذلك خطأ كبير؛ فالأولى أن نقف على ما ورد فيه النص من غير سؤال بكيف وأين؛ وقد استمرت هذه المدرسة إلى العصر العباسي وبعده، فكان زعيمهم في عهد العباسيين أحمد بن حنبل، وفي العصور بعده ابن تيمية، وهكذا.
أما طريقة المتكلمين وشيوخهم فتغاير هذين الأصلين؛ فهم آمنوا بالله وما جاء به رسوله، ثم أرادوا أن يبرهنوا على ذلك بالأدلة العقلية المنطقية، فنقلوا الوضع من فطرة وعاطفة ومخاطبة لهما بالنظر في آيات الله إلى دائرة العقل والنظر، ومن فن جميل إلى علم ومنطق، ومن قلب إلى رأس؛ فبدلا من أسلوب القرآن في نحو قوله:
أفي الله شك فاطر السماوات والأرض؟
وضعوا طريقتهم في حدوث العالم، واضطر بعضهم ذلك إلى القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ وإقامة الدليل على عدم حدوثها بنفسها إلى أن يصلوا إلى إثبات الله. وهكذا سلكوا هذا السبيل في إثبات وحدانيته وسائر صفاته تعالى، وكانت كل خطوة من هذه الخطوات تثير أسئلة وجدلا، وتفتح موضوعات جديدة، فساروا فيها إلى نهايتها.
هذه ناحية، والناحية الأخرى أنهم لم يقنعوا - كما قنع غيرهم - بالإيمان بالمتشابهات جملة من غير تفصيل؛ فجمعوا الآيات التي قد يظهر بينها خلاف كالجبر والاختيار، وكالآيات التي قد يظهر منها جسمية الله تعالى وسلطوا عليهاعقولهم، وجرؤوا على ما لم يجرؤ عليه غيرهم، فأداهم النظر في كل مسألة إلى رأي، فإذا وصلوا إليه عمدوا إلى الآيات التي يظهر أنها تخالف الأولى
فأولوها ، فكان
التأويل
من أهم مظاهر المتكلمين فإذا أداهم البحث إلى أن الإنسان مختار أولوا آيات الجبر؛ وإن أداهم البحث إلى أن الله منزه عن الجهة والمكان أولوا الآيات التي تشعر بأنه تعالى في السماء، وأولو الاستواء على العرش. وإذا أداهم البحث إلى أن نفي الجهة عن الله يستلزم أن أعين الناس لا يمكن أن تراه تعالى، لأنها ركبت تركيبا بحيث لا ترى إلا ما كان في وجهه، أولوا الأخبار الواردة في رؤية الناس لله، وهكذا؛ فالتأويل عنصر من أهم عناصر، وأكبر مميز لهم عن السلف.
وطبيعي أن هذا المنحى في التأويل، وإعطاء العقل حريته في البحث والنظر، واتجاهه إلى أية جهة يراها، يستلزم اختلافا كبيرا؛ فإن أدى النظر قوما إلى الاختيار، وتأويل آيات الجبر، قد يؤدي النظر غيرهم إلى إثبات الجبر وتأويل آيات الاختيار.
وهذان الأمران - أعني الاعتماد في البراهين على العقليات والتأويل - هما اللذان يعللان ما استفاض في عصور المتكلمين من خلاف ومن أقوال لا عداد لها، ومن براهين لا حصر لها، مما لم يكن معروفا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصدر الأول.
6
ويظهر أن الذي دعا إلى هذا التحول أمران: الأول ما أشرنا إليه قبل من أن أوائل المتكلمين قد دخلوا في حوار عميق مع أقوام من الملل الأخرى من يهودية ونصرانية ووثنية، وكانت قد تفلسفت عقولهم، وهؤلاء لم يكفهم في الإقناع أن تذكر لهم آية من القرآن أو الحديث، بل يريدون الرجوع على قضايا تستند على القدر المشترك من العقل، فاضطر ذلك المتكلمين أن يدخلوا في منهجهم ويسلكوا سبيلهم، ويؤلفوا الأدلة العقلية على وجود الله، ويؤلفوا - كمافعل الجاحظ - الكتب في إثبات النبوة على العموم، وفي إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم على الخصوص، مما يدل على وجود قوم بينهم كانوا ينكرون الألوهية يسمون الطبيعيين أو الدهريين، وقوم لا يعترفون بنبوة ما، وقوم يعترفون بالنبوة ولكن يجحدون نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم ؛ فدخلوا معهم في جدال حاد، وفلسفوا أدلتهم كما فلسف المخالفون أدلتهم.
والسبب الثاني: ما في طبيعة كل أمة تتمدين من انقسام إلى محافظين وأحرار، في السياسة والعلم والفلسفة والدين؛ فالمحافظون في الدين رأوا الوقوف عند النص وعدم الخروج قيد شعرة عما صرح به الدين، والنطق بما نطق به في حدود ألفاظه، والسكوت عما سكت عنه؛ والأحرار لا يريدون أن يقفوا عند النصوص، بل يعملون فيها عقلهم، ويصرحون بما يؤديهم إليه رأيهم، ويؤولون ما يخالفه؛ فكان الانقسام بينهم في أصول الدين شبيها بالخلاف بينهم في الفروع من أهل الحديث وهم يمثلون المحافظين، وأهل الرأي ويمثلون الأحرار.
هذا - في إجمال - وجه الخلاف بين منهج الأدلة عند المتكلمين، ومنهج الأدلة في القرآن الكريم.
أما الخلاف بين منهج الفلاسفة في الإلهيات ومنهج المتكلمين، فيرجع إلى أمور أهمها: (1)
أن المتكلمين اعتقدوا قواعد الإيمان، وأقروا بصحتها، وآمنوا بها، ثم اتخذوا أدلتهم العقلية للبرهنة عليها، فهم يبرهنون عليها عقليا كما برهن القرآن عليها وجدانيا؛ أما الفلاسفة فهم يبحثون المسائل بحثا مجردا، ويفرضون أن عقولهم خالية من مؤثرات ومن اعتقادات، ثم يبدأون النظر منتظرين ما يؤدي إليه البرهان، سائرين خطوة خطوة حتى يصلوا إلى النتيجة كائنة ما كانت فيعتقدونها؛ هذا هو الغرض من الفلسفة والعمدة فيها. نعم إن التجرد من الإلف والعادة والنشأة والبيئة لا يمكن أن يحصل على أتمه، وقد حدث فعلا أن تأثر فلاسفة اليونان بالوثنية، وفلاسفة النصارى واليهود بالنصرانية واليهودية، وفلاسفة المسلمين بالإسلام؛ ولكن - على كل حال - منهج بحثهم وعماده هو هذا النظر في المسائل كما يدل عليه البرهان، ومنهج المتكلمين إقامة البرهان بعد أن آمنوا بالقواعد الأساسية للإسلام. فموقف المتكلمين موقف «محام» مخلص اعتقد صحة قضية وتولى الدفاع عنها، يصوغ لها من الحجج والأدلة ما يؤديها ويثبت ما اعتقد من صحتها؛ وموقف الفيلسوف موقف قاض عادل تعرض عليه قضية لا يكون فيها رأيا حتى يسمع حجج هؤلاء وهؤلاء، ويزنها كلها بميزان دقيق من غير تحيز، ثم يكون فيها رأيه، ويصدر حكمه.
ولعل هذا هو ما يقصده ابن خلدون من قوله: «إن نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته، ونظر المتكلم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجد. وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية».
7
هذا هو الأصل، وإن كان المتكلمون بعد أن شاعت الفلسفة في المملكة الإسلامية تأثروا بالفلاسفة في بحوثهم ومناهجهم، ونقلوا في علم الكلام بعض أقوال الفلاسفة، وأخذوا يردون عليهم كأنهم من أرباب العقائد كما فعل الغزالي في كتابه «الاقتصاد».
وكذلك الفلاسفة المسلمون تأثروا بالكلام والمتكلمين، فاستعملوا بعض اصطلاحاتهم؛ وأكثر من ذلك أنهم سلموا بأشياء دينية سمعية لا يمكن إقامة البرهان العقلي على صحتها أو على بطلانها كما قال ابن سينا: «وأما المعاد الجسماني وأحواله فلا يمكن إدراكه بالبرهان ... وقد بسطته لنا الشريعة الحقة المحمدية فلينظر فيها، ولنرجع في أحواله إليها».
8 (2)
أن المتكلمين وقفوا أكثر ما وقفوا للدفاع عن عقيدتهم، ودحض حجج خصومهم، سواء كان هؤلاء الخصوم إسلاميين أم غير إسلاميين، فأكثروا من حكاية الأقوال والردعليها؛ والفلاسفة وخاصة الأولين منهم أكثر ما وقفوا عند تقرير الحقائق، أو على الأقل ما اعتقدوه حقائق، وبرهنوا عليها من غير دخول كثير في حكاية الأقوال المخالفة والرد عليها. ولهذا كان الفلاسفة يرمون المتكلمين بأنهم أهل سفسطة وجدل. قال أبو حيان التوحيدي: «قلت لأبي سليمان: ما الفرق بين طريقة المتكلمين والفلاسفة؟ فقال: ما هو ظاهر لكل تمييز وعقل وفهم، طريقتهم (يعني المتكلمين) مؤسسة على مكايلة اللفظ باللفظ، وموازنة الشيء بالشيء ... والاعتماد على الجدل ... وكل ذلك يتعلق بالمغالطة والتدافع وإسكات الخصم بما اتفق»
9
إلخ.
ولاختلاف المنهجين كان بين المتكلمين والفلاسفة في تاريخ الإسلام خصومة رغم ما استفاد بعض من بعض، كالخصومة بين ابن رشد والمتكلمين، وبين الغزالي والفلاسفة. •••
ومما يتصل بهذا أن هناك فرقا بين علم الكلام والفلسفة الإسلامية من حيث نشوؤهما؛ فالكلام في الإسلام نشأ تدريجيا ونشأ مسائل متفرقة، تثير فرقة مسألة فيبدي فيها قوم رأيا آخر، ويكونون فرقة وهكذا، كالذي حدث في مسألة مرتكب الكبيرة أكافر أم مؤمن؟ تقول الخوارج إنه كافر، فيأتي قوم ويقولون هو في منزلة بين المنزلتين، لا هو مؤمن ولا هو كافر، وتتكون حول هذا الرأي الأخير فرقة الاعتزال. وهكذا كانت المسائل المتفرقة تثار، ويتكون المذهب تدريجيا، وكلما تقدم العصر أثيرت مسائل جديدة، ووضعت لها حلول جديدة، وهذا شأن كل العلوم الإسلامية من نحو وفقه وبلاغة. أما الفلسفة في الإسلام فلم تتدرج هذا التدرج لأنها قطعت شوط النشوء عند اليونان، ثم نقلت كاملة أو شبه كاملة، والجديد فيها إنما كان اشتغال المسلمين بها وتفهمها وشرحها والتعليق عليها، وإبداء بعض الآراء فيها، والتوفيق بين بعض قضاياها والقضايا الإسلامية. وهذا ماجعلنا نعد علم الكلام علما إسلاميا، وإن كان فيه بعض المسائل الفلسفية اليونانية، على حين أنا لا نستطيع أن نسمي الفلسفة التي اشتغل بها الكندي والفارابي وابن سينا فلسفة إسلامية إلا بقدر من التجوز. •••
والآن نعرض لأهم الفرق الإسلامية في العصر العباسي، فنشرح ما حدث فيها بعد أن أبنا نشأتها في العصر الأموي في الجزء الأول من «فجر الإسلام»، ونبين أهم أقوالها، ونترجم لأشهر رجالها.
الفصل الأول
المعتزلة
وقد بدأنا بها لأنها أهم فرقة يدين لها علم الكلام مما أثارت من مسائل، وبسطت من شرح، ووضعت من أصول؛ ولنقسم الكلام فيها إلى قسمين: قسم يتضمن أهم تعاليمهم، وقسم يتضمن تاريخهم السياسي؛ فإذا ذكرنا تعاليمهم فصلنا بعض التفصيل آراءهم وأدلتهم ووجهة نظرهم، وألممنا إلمامة خفيفة بموقف خصومهم منهم؛ وإذا ذكرنا تاريخهم السياسي عرضنا لأشهر رجالهم، والمسائل الفرعية التي قال بها كل منهم، ولموقفهم من الدولة وموقف الدولة منهم، وموقفهم من الرأي العام وموقف الرأي العام منهم، وأهم الأحداث التي حدثت منهم ولهم، وهكذا. (1) تعاليمهم
للمعتزلة مبادئ يكادون يشتركون فيها جميعا، ومبادئ خاصة ببعض رؤسائهم؛ فالأولى هي التي نذكرها الآن، والأخرى نرجئها - غالبا - إلى ترجمة أصحابها؛ فأما المبادئ العامة للمعتزلة فيكاد المؤرخون يجمعون على أنها خمسة أصول: (1)
القول بالتوحيد. (2)
القول بالعدل. (3)
القول بالوعد والوعيد. (4)
القول بالمنزلة بين المنزلتين. (5)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال الخياط (أحد زعماء المعتزلة في القرن الثالث): «وليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإذا كملت فيه هذه الخصال فهو معتزلي».
1
ومثل ذلك ما قاله المسعودي في «مروج الذهب»: «كان يزيد الناقص يذهب إلى قوله المعتزلة وما يذهبون إليه في الأصول الخمسة من التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والأسماء والأحكام - وهو القول بالمنزلة بين المنزلتين - والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
2
ولنوضح الآن نظرهم في كل أصل من هذه الأصول: (1-1) التوحيد
وقد عد هذا المبدأ من أهم مبادئ المعتزلة، لأنهم ذهبوا في تفسيره تفسيرا خاصا، وبلغوا في تحليله وفلسفته أقصى حد، فمن ثم نسب إليهم خاصة، وإن كان المسلمون جميعا يمتازون بالتوحيد، وباعتقاد أن «لا إله إلا الله وحده لا شريك له».
ذلك أن المعتزلة رأوا أن في القرآن آيات كثيرة تدل على التنزيه من مثل قوله تعالى:
ليس كمثله شيء ، وآيات ظاهرها يدل على التجسيم من مثل قوله تعالى:
يد الله فوق أيديهم
ورأوا آيات تدل على أنه تعالى ليس في جهة معينة مثل قوله:
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ، وآيات ظاهرها الجهة مثل قوله:
ثم استوى على العرش ، و
أأمنتم من في السماء .
وكان كثير من علماء المسلمين في ذلك العصر يؤمنون بالتنزيه إيمانا إجماليا، ويمسكون عن الكلام في الآيات الأخرى كآية الاستواء على العرش، والوجه، واليدين، والجهة، ويقولون إننا نؤمن بوجود الله ووحدانيته، ولا نذهب وراء ذلك، لأنه لا يجب علينا أن نعرفه، وإنما يجب علينا أن نؤمن به كما ورد، وإننا إن دخلنا في تفصيل ذلك وتأويله كان تأويلنا قولنا لا قول الله، وهو عرضة للخطأ، فيجب أن نتحرز منه. وقد نقل عن السلف كثير من هذه الأقوال التي يتحرجون فيها من إبداء آرائهم، نقلنا بعضها قبل.
أما المعتزلة فكانوا أجرأ من هؤلاء، فقالوا: إننا نستمسك بآيات التنزيه ونشرحها ونوضحها ونحللها، ونتعرض للآيات الأخرى من مثل الاستواء، والوجه واليدين، ونتأولها تأويلا يتفق والتنزيه، ولا نعكس، لأن الإسلام دين توحيد وتنزيه، ويكاد المسلمون يجمعون على هذا التنزيه، فيجب أن نحمل ما ظاهره يخالف ذلك على ما هو صريح ومجمع عليه، ولا نكتفي بالإيمان الغامض بالآيات المتشابهة، لأن العقل لا يقنع بالغموض، وله حق الشرح والتأويل والتوفيق بين الآيات، فهذا بالعلماء أشبه؛ ومن ثم بسطوا الرأي في التوحيد والتنزيه، فقالوا: «إن الله واحد ليس كمثله شيء، وليس بجسم ولا شبح، ولا جثة ولا صورة، ولا لحم ولا دم، ولا شخص ولا جوهر ولا عرض، ولا بذي لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا مجسة، ولا بذي حرارة، ولا برودة، ولا رطوبة، ولا يبوسة، ولا طول ولا عرض ولا عمق، ولا اجتماع ولا افتراق، ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء، وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين وشمال، وأمام وخلف، وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الجلوس في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدثهم، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود ولا والد ولا مولود ، ولا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه الحواس، ولا يقاس بالناس، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه، ولا تجري عليه الآفات، ولا تحل به العاهات، وكل ما يخطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له، لم يزل أولا سابقا متقدما للمحدثات، موجودا قبل المخلوقات، ولم يزل عالما قادرا حيا ولا يزال كذلك، لا تراه العيون ولا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأوهام، ولا يسمع بالأسماع، شيء لا كالأشياء، عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء، وأنه القديم وحده ولا قديم غيره، ولا إله سواه ولا شريك له في ملكه ولا وزير له في سلطانه، ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق، ولم يخلق الخلق على مثال سبق، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه، ولا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار، ولا يناله السرور واللذات، ولا يصل إليه الأذى والآلام» إلخ.
3
فترى من هذا أنهم حللوا التنزيه تحليلا فلسفيا بما أبانوا من صفات الأ سلوب، وأوضحوا معنى التوحيد في جلاء كما يدل عليه العقل، وشرحوا قوله تعالى:
ليس كمثله شيء
أقصى شرح وأعمقه. وكان طبيعيا بعد ذلك أن يقفوا عند الآيات الأخرى ويؤولونها؛ فقالوا في قوله تعالى:
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء
أن معنى قول اليهود يد الله مغلولة وصفه بالبخل، وقوله:
بل يداه مبسوطتان
تعبير مجازي «يدل على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه، وذلك أن غاية ما يبذله السخي بما له من نفسه أن يعطي بيديه جميعا، فبني المجاز على ذلك».
4
وقالوا في قوله تعالى:
الرحمن على العرش استوى : «لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك جعلوه كناية عن الملك؛ فقالوا فلان على العرش، يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتة، وقالوه أيضا لشهرته في ذلك المعنى ومساواته ملك في مؤداه، وإن كان أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر».
5
ويقولون في قوله تعالى:
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام : «وجه الله ذاته، والوجه يعبر به عن الجملة والذات، ومساكين مكة يقولون أين وجه عربي كريم ينقذني من الهوان».
6
ويقولون في قوله تعالى:
يخافون ربهم من فوقهم : «إن علقت من فوقهم بيخافون. فمعناه يخافونه أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم، وإن علقته بربهم - حالا منه - فمعناه يخافون ربهم عاليا لهم قاهرا؛ كقوله:
وهو القاهر فوق عباده ،
وإنا فوقهم قاهرون .
7
وقالوا في قوله:
وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم و جهركم
معناه المعبود فيها كقوله:
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيها، أو هو الذي يقال له الله فيها لا يشرك به في هذا الاسم».
8
وهكذا لما خلص لهم دليل التنزيه على النحو الذي فسروه به أولوا كل الآيات الدالة على الجهة، وعلى الأعضاء، وعلى مشابهة المخلوقات، وفعلوا ذلك في جميع الآيات والأحاديث التي قد يخالف ظاهرها أصل التوحيد بالمعنى الذي شرحوه؛ فقالوا بنفي الجهة، لأن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية، فكل ما ورد مما ظاهره هذه الجهة يجب أن يؤول، مثل:
ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ، ومثل:
يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ، وقوله:
تعرج الملائكة والروح إليه ، وقوله:
أأمنتم من فى السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور . وكذلك فعلوا في الآيات التي تدل على الجسمية كإثبات الوجه واليدين، فقالوا: إن الدليل على أنه تعالى ليس بجسم أن كل جسم محدث، لحاجة الجسم إلى الأعراض، كالطول والعرض والجهة وما إلى ذلك، وما لا يتعرى عن الحوادث حادث، ولذلك وجب تأويل الآيات التي تشعرنا بالجسمية. وفي تفسير الكشاف للزمخشري - وهو من أكبرعلماء المعتزلة - أوضح مثل لما ذهبوا إليه في التأويل؛ فقد وفي ذلك كله في الآيات التي من هذا القبيل.
وقد كانوا منطقيين مع أنفسهم، وساروا في تطبيق نظرياتهم إلى آخر حدود التطبيق ، ولنذكر لك مثلين من أهم ما سلكوه في الاستنتاج: (المثل الأول) ما أثاروه من مسألة رؤية الله بالأبصار - فقد رأوا أنه إذا انتفت الجسمية انتفت الجهة، وإذا انتفت الجهة انتفت رؤية الناس له تعالى؛ إذ كل مرئي في جهة من الرائي، ولا بد للرؤية من شروط: كالضوء، وكون المبصر ذا لون إلخ، وذلك كله محال في جانب الله.
وبجانب هذه الأدلة العقلية استدلوا بأدلة نقلية مثل قوله تعالى:
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار
ومثل قوله:
ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ، فقوله
لن تراني
يثبت نفي الرؤية مع تأكيده.
وقد ثار الجدل بين المعتزلة وخصومهم حول هذه الآية فقال خصومهم: إن الآية تدل على إمكان الرؤية لأن موسى سألها، ولو كانت مستحيلة لم يسألها، لأنه ليس أقل من المعتزلة معرفة - وأجاب المعتزلة إجابات كثيرة عن هذا السؤال، منها أن قوم موسى كانوا طلبوا أن يروا الله جهرة، فأنكر موسى عليهم وأعلمهم خطأهم، ونبههم على الحق فألحوا، فأراد أن يسمعوا النص من كلام الله فطلبه للرؤية ترجمة عن مقترحهم، وحكاية لقولهم، إلى آخر ما قالوا.
ومن أدلتهم أن الله عاقب قوم موسى الذين سألوه أن يريهم الله، فقال:
يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ، قالوا: «لو طلبوا جائزا لما سموا ظالمين، ولما أخذتهم الصاعقة، كما سأل إبراهيم أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ولا رماه بالصاعقة».
9
فلما خلصت لهم هذه العقيدة - عقيدة عدم إمكان الرؤية - وصح عندهم الدليل العقلي والنقلي على ذلك أولوا كل ما يظهر منه خلاف هذا من الآيات، وأنكروا كثيرا من الأحاديث التي تدل على الرؤية، فقالوا إنها أخبار آحاد، وأخبار الآحاد لا توجب العلم إذا عارضها ظاهر القرآن، مثل قوله تعالى:
لا تدركه الأبصار .
وتأولوا قوله تعالى:
وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة
بأنه «من قول الناس أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، يريد معنى التوقع والرجاء؛ وسمعت مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم، ويأوون إلى مقائلهم تقول: «عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم»، والمعنى أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا لا يخشون ولا يرجون إلى إياه.
10
قالوا فرؤية الله بالأبصار محال، إنما يراه المؤمنون ويعلمونه بقلوبهم.
11 (المثل الثاني) مسألة صفات الله - ذلك أن المعتزلة قالوا - مثل كل المسلمين - بإله واحد، ولكنهم فلسفوا الوحدانية، فقالوا إن معنى وحدانيته أن ليست ذاته تعالى مركبة من اجتماع أمور كثيرة، لأنه لو كان مركبا لافتقر تحققه إلى تحقق كل جزء من أجزائه، وكل جزء من أجزائه غيره، فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، والله منزه عن الافتقار إلى الغير، فحقيقته تعالى أحدية فردية لا كثرة فيها بوجه من الوجوه، فليست له كثرة مقدارية كالتي للأجسام، ولا كثرة معنوية كما لأشخاصنا المركبة من ماهية وتشخص، إنما هو واحد تام الأحادية، ليس ذا أجزاء مقدارية ولا أجزاء معنوية.
فلما فسروا التوحيد بهذا المعنى الدقيق ثارت أمامهم مشكلة أو أثاروها هم، وهي مسألة «صفات الله» هل هي عين ذاته أو غير ذاته، لما يتصل من ذلك بمعنى التوحيد الذي قرروه.
وهي مسألة لم تثر في الإسلام من قبلهم، فلم يذكر في القرآن ولا الحديث الصحيح كلمة (صفات الله) ولم يعرف ذلك عن أحد من الصحابة والتابعين، إنما ورد قوله تعالى:
سبحان ربك رب العزة عما يصفون
ونحوه، حتى جاء المعتزلة فوضعوا مسألة (صفات الله) هذا الوضع، وشغلت حيزا كبيرا في علم الكلام، وأثير حولها من الجدل ما جعلها في الصف الأول من المسائل الكلامية.
ذلك أن القرآن صرح بأوصاف الله في مواضع متفرقة؛ وهذه الأوصاف تنحصر في سبع: العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. فتساءل المعتزلة بعد تقريرهم التوحيد بالمعنى الذي شرحناه: هل هذه الصفات هي الذات نفسها أم هي زائدة عن الذات؟ وبعبارة أخرى: هل هذه الصفات لا توجب معنى جديدا خلاف الذات، أو توجب معنى جديدا غير الذات؟ فهناك صفات سلبية لفظا ومعنى لا تثبت شيئا إيجابيا مثل: (ليس كمثله شيء)؛ وهناك صفات إيجابية لفظا سلبية معنى، وهي كذلك لا تثبت شيئا إيجابيا، كالوحدانية والقدم، فمعنى الوحدانية عدم الشريك، ومعنى القدم انعدام الأولية، وليست هذه هي محل نظر المعتزلة؛ وهناك صفات إيجابية لفظا ومعنى؛ كالإرادة والقدرة والعلم، فهل هي تثبت شيئا زائدا عن الذات؟ وهل الله عالم بعلم زائد عن الذات، وقادر بقدرة زائدة عن الذات، وحي بحياة زائدة عن الذات؟ وهكذا.
فلما فسر المعتزلة التوحيد بالمعنى الذي ذكرنا كانوا مضطرين أن يقولوا إن ذات الله وصفاته شيء واحد، فالله حي عالم قادر بذاته لا بعلم وقدرة وحياة زائدة على ذاته، لأنه لو كان عالما بعلم زائد على ذاته، وحيا بحياة زائدة على ذاته كما هو الحال في الإنسان، للزم أن يكون هناك صفة وموصوف، وحامل ومحمول، وهذه هي حالة الأجسام، والله منزه عن الجسمية. ولو قلنا إن كل صفة قائمة بنفسها لتعددت القدماء، وبعبارة أخرى لتعددت الآلهة.
ثم اختلفت المعتزلة فيما بينهم في تفسير هذا الأصل، فكان أبو الهذيل العلاف يقول: إنه عالم بعلم هو هو، وقادر بقدرة هي هو، وحي بحياة هي هو؛ فالعلم والقدرة والحياة هي نفس ذاته، وإنما اختلف التعبير لغرض، فإذا قلت «عالم» أثبت لله علما هو ذاته ونفيت عن ذاته الجهل، ودللت على أن هناك معلومات منكشفة لذاته، وإذا قلت «قادر» أثبت لله قدرة هي ذاته ونفيت عن ذاته العجز، ودللت على أن هناك مقدورات له، وهكذا.
ويفهم من قول النظام، أن صفات الله من حياة وقدرة وعلم وإرادة إلخ، إنما هي كذلك صفات سلبية لا تقتضي للذات شيئا زائدا عليها؛ فالعلم معناه نفي الجهل عن ذاته، ومعنى «عالم» أن ذاته ليست بجاهلة، ومعنى «قادر» نفي العجز، ومعنى «الحياة» نفي الموت وهكذا؛ وتعددت الصفات لاختلاف ما ينفي عن الذات، أما الذات نفسها فواحدة لا تعدد فيها، ولا تلحقها صفات وجودية.
وقال بعض المعتزلة: إن هذه الأسماء والصفات: كقادر وعالم وحي ومريد، ليس القصد منها إثبات صفة لله زائدة على ذاته، ولكن القصد إفادة الناس معاني تدل عليها؛ فإذا قلنا عالم أفدناك علما بناحية أنه لا يجهل، وأكذبنا من زعم أنه تعالى جاهل؛ وإذا قلنا إنه قادر أفدناك علما بناحية أنه لا يجوز أن يكون عاجزا، وأكذبنا من زعم أنه عاجز ، وهكذا.
12
وهذه التفسيرات كما ترى، تفسيرات متقاربة تختلف شكلا وتتحد جوهرا، وتلتقي في إثبات أن لا شيء غير الذات، وأن الصفات تختلف باختلاف إدراكاتنا نحن لمعاني ذاته.
ولما وصل المعتزلة إلى هذا الحد من قولهم أثاروا مسائل حول الصفات لا حصر لها كان يسلم بعضها إلى بعض.
فأثاروا حول قدرة الله هذا السؤال: هل يقدر الله على الظلم؟ وهل يقدر أن يفني الجنة والنار وأهلهما أو يميتهم بعد ما أخبر عن بقائهم وحياتهم؟ وهل يقدر الله أن يترك ما يعلم أن فعله أصلح لخلقه من تركه؟ فكان النظام وأتباعه يقولون إن ذلك محال، فهو لا يقدر على الظلم «لأن الظلم لا يقع إلا من ذي حاجة حاملة على ارتكابه، أو جاهل بقبحه وعاقبته» وتعالى الله عن ذلك، و«وصف الله جل وعلا بأنه يقدر أن يفني الجنة والنار وأهلهما أو يميتهم بعد ما أخبر عن بقائهم وحياتهم محال لا وجه له».
13
وكان يقول: «إن الظلم والكذب لا يقعان إلا من جسم ذي آفة، فالواصف لله تعالى بقدرته عليهما قد وصفه بأنه جسم ذو آفة، لأن القادر على شيء غير محال وقوعه منه، فلو وقعا منه لدل وقوعهما منه على أنه جسم ذو آفة».
14
وكذلك أثاروا مسألة من أهم المسائل وأعقدها، كان الفلاسفة اليونانيون قبلهم تكلموا فيها، فأثارها المعتزلة على نمطهم، وأجابوا عنها في حدود إيمانهم.
تلك هي أنهم قالوا: إذ ثبت أن الله قادر، عالم، محيط، وأن ذات الله وصفاته لا يلحقهما تغير، لأن التغير صفة المحدثات، والله منزه عن ذلك، فإذا كان الشيء يوجد وقد كان غير موجود، ويعدم وقد كان موجودا، وقدرة الله وإرادته هما اللتان تولتا ذلك فأوجدتا الشيء بعد أن لم يكن، وأعدمتاه بعد أن كانت؛ فكيف تتعلق القدرة الإلهية القديمة بالشيء الحادث فتوجده، ولم أوجدته في هذه اللحظة دون غيرها وليس زمن أولى من زمن؟ فمباشرة القدرة لشيء بعد أن كانت لا تباشره تغير في القدرة، وقد ثبت أن الله لا يلحقه تغير ما، إذ ذلك - بلا شك - شأن القديم، وكذلك القول في الإرادة. ومثل ذلك يقال في العلم؛ فالعلم هو انكشاف المعلوم على ما هو عليه، والمعلوم يتغير من حين لآخر؟ فورقة الشجرة تسقط بعد أن كانت غير ساقطة، والرطب يتحول يابسا، والحي ميتا؛ والله يقول:
وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ؛ وعلم الله تعالى ينكشف به الشيء على ما هو عليه، فهو عالم بالشيء قبل أن يكون على أنه سيكون، وعالم بالشيء إذا كان على أنه كان، وعالم بالشيء إذا عدم على أنه عدم؛ فكيف يتغير علم الله بتغير الموجودات، والعلم المغير بتغير الحوادث علم محدث، والله تعالى لا يقوم به محدث، لأن ما يتعلق به المحدث محدث؟
وقد سلك المعتزلة هم ومن بعدهم مسالك مختلفة للإجابة على هذا السؤال العسير الذي حير العقول، وكان للمتكلمين مناح في الإجابة، وللفلاسفة من المسلمين مناح أخرى.
فمن المتكلمين من قال: إن من المسلم به أن علمنا بأن زيدا سيقدم، غير علمنا بأنه قدم فعلا، وتلك التفرقة ترجع إلى تجدد العلم، ولكن ذلك في حق الإنسان، فهو الذي يتجدد علمه لأن مصدر العلم وهو الإحساس والإدراك متجدد، أما في حق الله فلا تفرقة عنده بين مقدر سيكون، ومحقق قد كان، ومنجز حدث، ومتوقع سيحدث؛ بل المعلومات كلها بالنسبة له على حال واحدة.
ومن المعتزلة من قال: إن الله تعالى عالم بذاته بكل ما كان وما سيكون، وكل المعلومات معلومات عنده بعلم واحد، والاختلاف بين ما سيكون وما كان يرجع إلى الاختلاف في الأشياء نفسها لا في علم الله.
وقال بعض المتكلمين: إن الذي أوجب اختلاف علمنا بما سيكون وما كان يرجع إلى تغيير الأزمنة والأمكنة، فلما لم يكن الله مكانيا كانت نسبته إلى جميع الممكنات على السواء، فليس فيها بالقياس إليه قريب وبعيد، كذلك لما لم يكن الله زمانيا لم يتصف الزمان - بالقياس إليه - بمضي ولا استقبال ولا حضور، بل كانت نسبته إلى جميع الأزمنة سواء، فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له. كل في وقته، وليس في علمه كان وكائن وسيكون، بل هو عالم لا من حيث دخول الزمان فيها، ومثل هذا العلم يكون ثابتا مستمرا لا يتغير أصلا؛ فعلم الله بالأشياء إذا تجرد عن الزمان والمكان لم يكن فيه تقدم ولا تأخر ولا تغير، بل هو علم شامل واسع، وإنما لم تحصل في ذهننا كذلك لقصور علمنا وعدم إحاطته وحدوده بالزمان والمكان. ومثل ذلك مثل شيء ملون بألوان مختلفة وقد سارت عليه نملة، فما واجه حدقتها من الألوان تحسبه قد حدث من عدم، ومازال عن مواجهتها تظنه قد عدم، وما لم يواجه حدقتها تظنه لم يوجد، مع أن الألوان بأسرها موجودة بالفعل، والإنسان المشرف عليه يبصر جميع تلك الألوان دفعة واحدة من غير ترتيب، فنسبة الزمان - وما قارنه - إلينا كنسبة ذلك الملون إلى النملة.
15
ولسنا نريد أن نبين هنا الآراء المختلفة في هذا الموضوع، فهي مستوفاة في كتب علم الكلام، وإنما سقنا هذا القدر لندل به على ما أثار المعتزلة من مسائل، وكيف اتجهوا في حلها، وكيف شغلت العقول من بعدهم. •••
وكان طبيعيا بعد ما أثيرت هذه المسائل أن تثار مسألة تتصل بها أشد الاتصال، وهي مسألة كلام الله وخلق القرآن، وهي أبرز شيء كان في تاريخ المعتزلة لما اتصل بها من أحداث تاريخية واجتماعية وسياسية.
والآن نبدأ بشرح وجهة نظر المعتزلة في هذه المسألة من الوجهة العلمية ونترك تاريخها وأحداثها عند الكلام في تاريخها السياسي :
قالوا إنه ثبت بالبرهان أن الله - ذاته وصفاته - وحدة لا تقبل التجزئة بحال من الأحوال، وثبت بالبرهان أن ذات الله وصفاته لا يلحقها تغير ولا تقوم بها المحدثات - (وقد تقدم برهانهم على هذين الأصلين) - وقد رأينا الله يسند إلى نفسه الكلام فقال:
وكلم الله موسى تكليما ، وسمي القرآن كلام الله في قوله تعالى:
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ، فما معنى وصف الله بالمتكلم، ووصف القرآن بأنه كلام الله؟
قالت المعتزلة : إذا كان الله وصفاته وحدة لا تقبل التغيير فمحال أن يكون القرآن كلام الله على معنى أنه صفة من صفاته، لأنه لو كان كذلك لكان هو وذاته وبقية صفاته شيئا واحدا، ونحن نرى أن في القرآن أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا ووعدا ووعيدا، فهذه حقائق مختلفة، وخصائص متباينة، ومن المحال أن يكون «الواحد» متنوعا إلى خواص مختلفة، وهذه الخواص قد تتضاد كالذي بين الأمر والنهي.
ثم، إذا كان القرآن كلاما أزليا هو صفة من صفات الله ترتب على ذلك جملة استحالات: أولها: أن الأمر لا قيمة له ما لم يصادف مأمورا، فلا يصح أن تصدر «أقيموا الصلاة» إلا إذا كان هناك مأمورون بالصلاة، ولم يكن في الأزل مأمورون مخاطبون، ومحال أن يكون المعدوم مأمورا، والأمر من غير مأمور، بل والكلام كله من غير مكلم «من أمحل ما ينسب إلى الحكيم».
ثانيها - أن الخطاب مع موسى عليه السلام غير الخطاب مع محمد عليه السلام، ومناهج الكلامين مع الرسولين مختلفة، ويستحيل أن يكون معنى واحد هو في نفسه كلام مع شخص على معان ومناهج، وكلام مع شخص آخر على معان ومناهج أخرى، ثم يكون الكلامان شيئا واحدا ومعنى واحدا؛ أضف إلى ذلك أن الخبرين عن أحوال الأمتين مختلفان لاختلاف حال الأمتين، فكيف يتصور أن تكون حالتان مختلفتان يخبر عنهما بخبر واحد؟! والقصة التي جرت ليوسف وأخوته غير القصة التي جرت لآدم ونوح وإبراهيم؛ وإذا اختلفت هذه الاختلافات استحال أن يكون الكلام صفة لله، وهو الواحد في ذاته وصفاته الذي لا يختلف ولا يطرأ عليه اختلاف.
ثالثها - أن المسلمين أجمعوا قبل ظهور هذا الخلاف على أن القرآن كلام الله، واتفقوا على أنه سور وآيات وحروف منتظمة، وكلمات مجموعة وهي مقروءة مسموعة، ولها مفتتح ومختتم، وهو معجزة رسول الله، وأجمعت الأمة على أنه بين أيدينا نقرؤه بألسنتنا ونحسه بأيدينا، ونبصره بأعيننا ونسمعه بآذاننا، ومحال أن يكون هذا كله وصفا لصفة الله. فالكلام الأولى الذي هو صفة الله لا يوصف بمثل هذه الأوصاف.
هذه أدلتهم العقلية . ولهم بعد ذلك أدلة نقلية منها: (1)
أن الله تعالى يقول:
وإذ قال ربك للملائكة ، وإذ ظرف زمان ماض، فيكون قوله الواقع في هذا الظرف مختصا بزمان معين، والمختص بزمان محدث. (2)
يقول الله:
كتاب أحكمت آياته ثم فصلت ، وهذا يدل على أن القرآن مركب من الآيات التي هي أجزاء متعاقبة فيكون حادثا. (3)
قوله تعالى:
حتى يسمع كلام الله ، والمسموع حادث لأنه لا يكون إلا حرفا وصوتا. (4)
أنه تعالى عبر عن القرآن بقوله:
إنا أنزلناه
ولا شك أنه لا إنزال في الأزل. (5)
أن القرآن نص على نسخ بعض الآيات بقوله:
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ، ولا يتصور النسخ إلا في الحادث، لأن القديم ليس عرضة لذلك ... إلخ.
فقالوا إذ ا استحال أن يكون القرآن وكل الكتب المنزلة قديمة وجب أن نقول إنها مخلوقة لله، فكلام الله تعالى عبارة عن أصوات وحروف يخلقها الله في غيره فتصل إلى النبي عن طريق ملك ونحوه، كما قال تعالى:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ؛ فهذه ثلاث طرق في الكلام، أولاها: طريقة الوحي وهو الإلهام، والقذف في القلب كما أوحى إلى أم موسى؛ وثانيتها: أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه، كما كلم موسى، وكما كلم الملائكة؛ وثالثتها: أن يرسل الأنبياء والرسل يكلمون أممهم عن الله.
16
قالوا والقرآن نوع من الكلام الذي يخلقه الله، وإنما سمي كلام الله لأنه خلق الله من غير واسطة، وهذا هو الفرق بينه وبين كلامنا، فكلامنا وألفاظنا تنسب إلينا، وأما القرآن فخلق الله مباشرة، والحروف التي نكتبها في المصحف أو ننطق بها من صنعنا، وإنما وجب لها التعظيم لأنها دالة على المخلوق لله - وإذا معنى كون الله متكلما أنه خالق الكلام وفاعله، فإن الكلام ليس شيئا أكثر من أن يفعل المتكلم فعلا يدل به المخاطب على العلم الذي في نفسه؛ فالله بهذا المعنى متكلم، أي فاعل ما يدل به المخاطب على ما يريد، والمفعول والمجعول مخلوق.
وكأن الزمخشري أراد أن يجعل كل هذه الأدلة ويشير إليها في خطبة تفسيره «للكشاف» إذ يقول: «الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما، ونزله بحسب المصالح منجما، وجعله بالتحميد مفتتحا، وبالاستعاذة مختتما، وأوحاه على قسمين متشابها ومحكما، وفصله سورا، وسوره آيات، وميز بينهن بفصول وغايات. وما هي إلا صفات مبتدع، وسمات منشأ مخترع؛ فسبحان من استأثر بالأولية والقدم، ووسم كل شيء سواه بالحدوث عن العدم، أنشأه كتابا ساطعا تبيانه، قاطعا برهانه، وحيا ناطقا ببينات وحجج، قرآنا عربيا غير ذي عوج» إلخ. •••
وكان يناهض المعتزلة في صفة الكلام وخلق القرآن وغيرها من الصفات فريقان:
فريق يسمون «السلف» يرون أن الله وصف نفسه بصفات: من قدرة، وإرادة، وعلم، وكلام، وسمع، وبصر؛ ووصف نفسه أنه على العرش، وقال:
ليس كمثله شيء ، فيجب أن نؤمن بها كما جاءت، ولا نتعرض لتأويلها وشرحها، فنجري ظواهر النصوص على مواردها، ونكف عن تأويلها، ونفوض معانيها إلى الله قالوا: وقد درج أصحاب رسول الله على ترك التعرض لمعانيها، ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها؛ فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع؛ فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين، ولا نخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الله، فليجر آية الاستواء والمجيء وقوله:
لما خلقت بيدي
و
يبقى وجه ربك
وقوله:
تجري بأعيننا ، وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه.
17
وهم «ينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون من دينهم، ويسلمون للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي جاءت بها الثقات عدلا عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لا يقولون كيف ولا لم لأن ذلك بدعة».
18
فهم - كما ترى - يرون الوقوف عند النص، ولا يسمحون لأنفسهم بتأويلها، وكأنهم يرون أن معرفة صفات الله وذاته فوق العقل البشري. وليس من القدرة ما يستطيع بها أن يدرك كنهها ولا كيفيتها، فتحاشوا أن يسألوا بما وبكيف، وقالوا نؤمن بما جاء كما جاء، ولا نتكلم فيما لم يجيء. وقالوا: إذا عجزنا في أنفسنا عن «ما» دائما، وعن «كيف» كثيرا، فكيف نستطيع أن نجيب عن «ما» و«كيف» في ذات الله وصفاته؟! وإذا كان ذلك كذلك فلنؤمن بما جاء، ولنقف عند ما جاء، فلا نبحث فيما إذا كانت صفات الله عين ذاته ولا غير ذاته، ولا نبحث في كيف تصدر المحدثات عن القديم، ولا كيف يتصل علم الله القديم بالمعلومات المحدثة، ولا نحو ذلك، لأنها فوق عقولنا، وإذ ذاك تكون مجالا للزلل؛ فجوهر الخلاف إذا بين هؤلاء والمعتزلة هو سلطة العقل ومداها وحدودها؛ رأي المعتزلة أن العقل البشري قد منح من السلطة والسعة ما يمكنه من إقامة البرهان حتى على ما يتعلق بالله، فلا حدود للعقل إلا براهينه، ولا زلل ولا خطأ متى صلح البرهان، فلنستعمل البراهين في أدق الأمور وأصعبها وأعقدها، ففي استطاعة العقل الوصول إلى الحق فيها. وهكذا كانت نزعة المعتزلة هذه متجلية في كل أبحاثهم، يسيرون وراء البرهان إلى نهايته، ويثيرون أصعب المشاكل وأعقدها، ويتعرضون لحلها، فإذا تم لهم حلها أو - على الأقل - اعتقدوا بحلها، تأولوا آيات القرآن على مقتضاها. وعلى العكس من ذلك الآخرون: رأوا أن العقل أضعف من ذلك، وأن استطاعته محدودة بإدراك ما يتعلق بشأنه هو أو أقل من ذلك، وأنه منح القدرة على أن يدرك البرهان على وجود الله، والنبوة العامة، ونبوة محمد خاصة؛ ولم يمنح القدرة على كنه الله وصفاته، فلنؤمن بما جاء به أنبياؤه، ولنقف عند ما قالوه، ولا نثر مشاكل لم يأت بها الأنبياء، ولنسد الطرق على من يثيرونها، فإن جادلناهم في شيء ففي بيان خطئهم وفساد طريقتهم؛ فلما أثار المعتزلة القول بخلق القرآن قالوا هم: «القرآن كلام الله لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق»، فإثارة هذه المسألة بدعة لم يقلها النبي
صلى الله عليه وسلم
ولا صحابته، فلا نتابعكم في السير فيها، ولا نتابعكم في الجدال والخصومة، ونقف عند قولنا: القرآن كلام الله، وهذا فقط هو ما قال الله في قرآنه الكريم.
وكلا الفريقين - كما ترى - له وجهة نظر تستحق التبجيل والاحترام. وفريق آخر، من بعض الحنابلة، رغم أن «القرآن بحروفه وأصواته قديم، وقد بالغوا فيه حتى قال بعضهم جهلا: الجلد والغلاف قديمان فضلا عن المصحف»،
19
وقالوا: «قد تقرر الاتفاق على أن ما بين الدفتين كلام الله، وأن ما نقرؤه ونسمعه ونكتبه كلام الله، فيجب أن تكون الكلمات والحروف هي بعينها كلام الله - ولما تقرر الاتفاق على أن كلام الله غير مخلوق فيجب أن تكون الكلمات أزلية فيه غير مخلوقة».
20
وهو قول ظاهر البطلان صادر من عقل ضيق ونظر سقيم.
هذان هما الفريقان اللذان ناهضا المعتزلة في قولهم بخلق القرآن، فكان الخلاف دائرا حول القرآن، أعني حروفه وألفاظه وكلماته؛ يقول المعتزلة بحدوثها، ويقول بعض الحنابلة بقدمها، ويقول آخرون لا نتكلم في هذا الموضوع.
وظل النزاع محصورا في هذه الدائرة أيام محنة القول بخلق القرآن، أعني أيام المأمون والمعتصم والواثق.
حتى جاء أبو الحسن الأشعري المتوفى نحو سنة 330، ونقل موضوع النزاع إلى نقطة أخرى، فقال: إن «كلام الله يطلق أطلاقين كما هو الشأن في الإنسان، فالإنسان يسمى متكلما باعتبارين: أحدهما بالصوت، والآخر بكلام النفس الذي ليس بصوت ولا حرف، وهو المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ، فإذا انتقلنا من الإنسان إلى الله رأينا أن كلامه تعالى يطلق بهذين الإطلاقين: المعنى النفسي وهو القائم بذاته، وهو الأزلي القديم، وهو لا يتغير بتغير العبارات، ولا يختلف باختلاف الدلالات، وهذا هو الذي نريده إذا وصفنا كلام الله بالقدم، وهو الذي يطلق عليه كلام الله حقيقية؛ أما القرآن - بمعنى المقروء المكتوب - فهو بلا شك كما يقول المعتزلة حادث مخلوق، فإن كل كلمة تقرأ تنقضي بالنطق بما بعدها، فكل كلمة حادثة، فكذا المجموع المركب منها، ويطلق على هذا المقروء المكتوب «كلام الله» مجازا.
وهذا - كما ترى - تسليم منهم بكل ما يقوله المعتزلة في القرآن بمعنى المتلو المقروء، ثم انتقل النزاع في مسألة جديدة، هي ما ابتدعه الأشعري من الكلام النفسي، فالمعتزلة أنكروه والأشعرية أثبتوه، وبدأوا الجدل في الإنسان لأنه أقرب منالا، حتى إذا فرغوا من ذلك تكلموا بنفس هذه المعاني في الله تعالى.
قال الأشعري والأشاعرة: إن هناك كلاما نفسيا قائما بالنفس الإنسانية وبذات المتكلم ليس بحروف ولا أصوات، يجده العاقل في نفسه، ويدور في خلده، تارة إخبارا عن أمور رآها أو سمعها، وتارة حديثا مع نفسه بأمر أو نهي، ووعد ووعيد، وتارة حكما عقليا بأن الحق في هذه المسألة كذا، والباطل كذا؛ ثم أحيانا يتحول هذا الكلام النفسي إلى كلام لفظي، وأحيانا لا يتحول، وهذا هو ما يسمى بالنجوى، وهو الذي قال فيه الله تعالى:
فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم ؛ وفي الحديث عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله وقد سأله رجل فقال: إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري، فقال صلى الله عليه وسلم: لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن إلخ. ومن أنكر هذه المعاني فقد جحد الضرورة وباهت العقل، وأنكر البديهيات. ومن العجب أن الإنسان قد يجوز أن يخلو ذهنه عن كل معنى، ولكنه لا يخلو أبدا من حديث النفس حتى في النوم، فإنه في الحقيقة يرى في منامه أشياء، وتحدثه نفسه بأشياء، وربما يطاوعه لسانه وهو نائم، فيتكلم متابعة لنفسه.
وقالت المعتزلة: نحن لا ننكر الخواطر التي تطرأ على نفس الإنسان، وربما نسميها أحاديث النفس، إلا أنها في الحقيقة تقديرات للعبارات التي ينطق بها اللسان؛ ألا ترى أن من لا يعرف كلمة بالعربية لا يخطر بباله كلام العرب، ومن لا يعرف الفارسية لا يخطر بباله كلام الفرس، ومن عرف اللسانين تارة تتحدث نفسه بلسان العرب وتارة بلسان الفرس، فعلم على الحقيقة أن أحاديث النفس تابعة للعبارات اللفظية. فالكلام في الحقيقة هو الحروف التي يعبر عنها اللسان، ومن قدر عليها فهو المتكلم، ومن لم يقدر عليها فهو الأبكم؛ فليس الكلام حقيقة عقلية كسائر المعاني، بل هو عبارات وألفاظ ونحوها تختلف بالمواضعة والاصطلاح والتواطؤ، حتى لو تواطأ قوم على نقرات وإشارات ورموز يحصل التفاهم بها كما يحصل التفاهم بالعبارات.
21
فما يسميه الناس كلام النفس ليس إلا معلومات وإدراكات أدركها الإنسان وزورها في نفسه بعبارات وألفاظ، وليس هناك شيء وراء ذلك.
وهذا هو عين ما يثيره علماء النفس والمنطق حتى الآن من (البحث فيما إذا كان الإدراك يمكن أن يقوم بنفسه من غير ألفاظ أو لا؟ وإذا كان فإلى أي حد يكون ذلك؟ ويذهبون في ذلك مذهبين: فمنهم من يقول إن من الممكن التفكير بدون الاستعانة باللغة؛ ومنهم من يذهب إلى أن ذلك غير ممكن، وأن التفكير من غير ألفاظ ضرب من الوهم الكاذب. وقد قال «مكس ملر»: «إن الفكر واللغة شيء واحد، وشبه ذلك بالنقد (أحد النقود) فقال ليس ما نسميه بالفكر إلا وجها من وجهي النقد، والوجه الآخر هو الصوت المسموع، والنقد شيء واحد لا يقسم؛ فليس ثم فكر وصوت ولكن كلمات»).
22
أثار الأشاعرة والمعتزلة هذا الكلام ليطبقوه على كلام الله، فلما أنكر المعتزلة الكلام النفسي قالوا ليس كلام الله إلا ما نقرؤه ونسمعه من القرآن والكتب الدينية وهي مخلوقة ولا شك، ولا شيء وراءها إلا ذات الله القادرة على خلق الكلام المريدة للخلق. وقال الأشاعرة: إن لله كلاما نفسيا غير القدرة والإرادة والعلم، وهو قديم لا يتغير، والقرآن مظهر لهذه الصفة وأثر من آثارها وهو مخلوق.
قال صاحب المواقف (وهو يعبر عن رأي الأشعرية) بعد كلام طويل: «إذ عرفت هذا فاعلم أن ما يقوله المعتزلة في كلام الله تعالى، وهو خلق الأصوات والحروف الدالة على المعاني المقصودة وكونها حادثة قائمة بغير ذاته تعالى نحن نقول به، ولا نزاع بيننا وبينهم فيه، وما نقوله نحن كلام النفس المغاير لسائر الصفات فهم ينكرون ثبوته، ولو سلموه لم ينفوا قدمه، فصار كل النزاع نفي المعنى النفسي أو إثباته».
23
وقد يعجب القارئ من شدة الاختلاف بين الناس في مثل هذا الأمر حتى احتكموا فيه إلى السيف كما سيأتي بيانه، لكن يجب أن ننبه هنا إلى أن تحديد وجوه الخلاف وحصر نقط النزاع بالشكل الذي أوضحناه لم يكن بينا في أكثر عقول الناس إذ ذاك؛ بل كانت هناك معان غامضة زاد غموضها هياج الناس وتبلبل الأفكار، وأخذ الناس فيها بالشدة - فقد رأوا أن هناك قضيتين واضحتين وهما: (1)
أن كلام الله صفة له، وكل ما هو صفة فهو قديم؛ فكلام الله قديم. (2)
أن القرآن كلام الله وهو مركب من حروف مرتبة متعاقبة في الوجود، وكل ما هو كذلك حادث؛ فالقرآن حادث ومخلوق - فهاتان القضيتان شتتا أفكار الناس وأدخلتاهم في منازعات جدلية شديدة، ودخلت العامة في النزاع فزادوا المسائل غموضا وشتاتا، ولو حددت مواضع النزاع بالشكل الذي شرحنا لا نحسم كثير من الخلاف، ولكن هذا لم يصل إليه العلماء إلا بعد أن أغمد السيف وهدأت الأفكار وتكلم العلماء وحدهم. •••
هذا هو ملخص قول المعتزلة في التوحيد: توحيد لله فلا شريك له، وتوحيد لله ذاته وصفاته فليست متعددة بحال، وتنزيه له عن الجسمية وصفات الحوادث؛ وقد فرعوا على هذا الأصل كل الفروع التي ذكرناها، وفروعا أخرى أقل منها أهمية لم نذكرها، وكانت كل مسألة يثيرونها تستتبع مسائل غيرها وهكذا، فملأوا العالم الإسلامي ببحوثهم من هذا القبيل. (1-2) العدل
الأصل الثاني من أصولهم العدل، والعدل والتوحيد أهم أصول المعتزلة، وكانوا يفخرون بأنهم أهل العدل والتوحيد.
والمؤمنون جميعا يعتقدون بعدل الله، ولكن المعتزلة - كعادتهم - تعمقوا في معنى العدل وحدوده، وأثاروا حول ذلك مسائل كثيرة أهمها: (قالوا: وجدنا من فعل الجور في الشاهد (أي في الإنسان المشاهدة أعماله) كان جائرا، ومن فعل الظلم كان ظالما، ومن أعان فاعلا على فعله ثم عاقبه عليه كان جائرا عابثا، والعدل من صفات الله، والظلم والجور منفيان عنه قال تعالى:
وما ربك بظلام للعبيد
وقال تعالى:
وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، وقال:
فما كان الله ليظلمهم ، وقال تعالى:
لا ظلم اليوم .
24
وقد ساروا في هذا الطريق إلى نهايته ووصلوا ببحثهم إلى مسائل كثيرة أهمها ثلاث: (1)
أن الله يسير بالخلق إلى غاية، وأن الله يريد خير ما يكون لخلقه. (2)
وأن الله لا يريد الشر ولا يأمر به. (3)
وأن الله لم يخلق أفعال العباد لا خيرا ولا شرا، وأن إرادة الإنسان حرة، والإنسان خالق أفعاله، ومن أجل هذا كان مثابا على الخير معاقبا على الشر.
ولنشرح الآن في إيجاز وجهة نظرهم في هذه المسائل:
أما في المسألة الأولى فقالوا: «إن الحكيم لا يفعل فعلا إلا لحكمة وغرض، والفعل من غير غرض سفه وعبث، والحكيم إما أن ينتفع أو ينفع غيره، ولما تقدس الله تعالى عن الانتفاع تعين أنه إنما يفعل لينفع غيره».
25
فهم بذلك يرون أن العالم يسيره الله إلى غاية وإلى غرض، وليس العالم يسير سبهللا، ولا يخبط خبط عشواء؛ فحركات النجوم والبحار والأنهار، وثوران البراكين وكل حوادث الكون إنما تسير وتحدث لتحقيق غرض، وهذا الغرض هو نفع من في العالم. وقد أداهم هذا النظر إلى نظريتين مشهورتين، وهما نظرية الصلاح والأصلح، ونظرية الحسن والقبح العقليين.
فنظرية الصلاح والأصلح، أن الله لما كانت أعماله معللة، ويقصد منها إلى غاية وهي نفع العباد، فالله يقصد في أفعاله إلى صلاح العباد؛ ومن المعتزلة من قال بأنه يجب على الله أن يعمل ما فيه صلاح لعباده، ومنهم من لم يكتف بذلك بل قال يجب رعاية ما هو الأصلح. فكل عمل من أعمال الله على رأيهم لابد أن يقصد به إلى خير العباد وصلاحهم، وجمهور المعتزلة يقولون إنه لابد أن يقصد إلى ما هو الأصلح لهم.
وقد رأى بعض من غير المعتزلة رأيهم ووافقوهم في جوهر قولهم، ولكن عابوهم في تعبيرهم بقولهم: «يجب على الله»، فلو أنهم قالوا هذا هو النظام أو القانون الذي يقصد الله إليه في عمله أو نحو ذلك من التعبير لكانوا أقرب إلى الأدب، وهذا خلاف في التعبير فقط؛ إنما الفريق الكبير الذي كان يخالفهم في هذا الرأي قوم يرون أن أفعال الله ليست معالة بغرض، يعنون بذلك أن ليس الباعث لله على العمل هو الغاية. وقد اعترض بعضهم على وجهة نظر المعتزلة بما في العالم من شرور، كان يكون العالم خيرا منه لو لم تحدث، «فقد منع الأموال قوما، وأعطاها آخرين، وأعطى قوما مالا ورياسة فبطروا وهلكوا، وكانوا مع القلة والخمول صالحين، وأمرض أقواما فملوا وضجروا ونطقوا بالكفر وكانوا في صحتهم شاكرين، وأي صلاح في خلق إبليس والشياطين، وإعطائهم القوة على إضلال الناس؟؟ ثم وجدناه تعالى أمات سريعا من ولي أمور المسلمين بالحق والعدل، وولى عليهم زيادا والحجاج وبغاة الخوارج، فأي مصلحة في هذا لزياد والحجاج وقطري أو لسائر المسلمين؟ إلى آخر ما في العالم من شرور لأحد لها، ولا يمكن تفسير ما فيها من المصلحة؛ ولهم على ذلك أمثلة كثيرة، ومجادلات مع المعتزلة طويلة، فلم خلق من يفسد الحرث والنسل، ويثير الظلم، ويميت الحق؟ ولم أنظر إبليس إلى يوم القيامة، وأمات النبي
صلى الله عليه وسلم ، فهل ذلك أصلح للخلق؟» إلى آخره.
26
وقد استطاع المعتزلة أن يجيبوا عن بعض هذه الاعتراضات وعجزوا عن بعضها، وقالوا ليس عجزنا يضر بنظريتنا، فإنا لم ندع الإحاطة بأغراض الله، ولم تبلغ عقولنا بعد من السعة ما نستطيع بها أن ندرك كل علة وكل غرض.
على كل حال فخلاصة قول الآخرين أن المعتزلة أخطأوا في قياس الله على الإنسان؛ فرأوا أن الإنسان لا يفعل إلا لغاية، وأن الناس يتفاوتون في الغايات، وكلما كان الإنسان أعدل وأحكم كان أصح غاية، وكان أصح توجيها لأعماله إلى هذه الغاية، فالله لابد أن تكون له غاية، وأن يوجه أعماله إليها؛ وفاتهم أن هذا القياس ليس بصحيح أو على الأقل ليس بلازم، فلسنا نعلم عن الله ما يمكننا من هذا الحكم؛ ولو كانت له غاية كما يقولون فكيف نجرؤ على القول بأن غايته من أفعاله هي الغايات التي تخضع لها عقولنا، ثم نفسر غاياته من أعماله بهذا التفسير الإنساني؟
أما نظرية المعتزلة في الحسن والقبح، فإنهم لما قرروا أن الله عادل حكيم، وأن أعماله لغاية، وأنه يتبع العدل في أعماله للوصول إلى هذه الغاية، كان من الطبيعي أن يثيروا مسألة الحسن والقبح في الأعمال، فرأوا أن الحسن والقبح في الأعمال ذاتيان، فالكذب فيه قبح ذاتي، والصدق فيه حسن ذاتي، ومن أجل هذا لا نجوز على الله الكذب لما في الكذب من قبح، ونقول إنه لابد أن يقول الصدق لما في الصدق من حسن ذاتي؛ فجميع الأعمال الحسنة من عدل وصدق وشجاعة وكرم فيها نفسها صفة جعلتها حسنة، وجعلتنا نحكم عليها بالحسن إذا رأيناها، وجميع الأعمال القبيحة من ظلم وكذب وجبن وبخل فيها ذاتها صفة جعلتها قبيحة وجعلتنا نحكم عليها بالقبح - والشرع بأمره بأشياء ونهيه عن أشياء، إنما يتبع في ذلك ما في الأشياء من حسن وقبح، فأمره بالمحافظة على الأنفس والأموال إنما هو لما فيها من حسن، ونهيه عن القتل والسرقة لما فيهما من قبح، ومحال أن يعكس فيأمر بالقتل والسرقة، وينهى عن الأمانة، لأنه ليس مستقلا في أمره ونهيه، بل هو تابع فيهما للحسن والقبح الذاتيين - وكذلك العقل يستحسن أشياء لإدراكه ما في الأشياء ذاتها من حسن، ويستقبح أشياء لإدراكه ما في الأشياء ذاتها من قبح؛ فالشرع في تحسينه وتقبيحه للأشياء مخبر عنها لا مثبت لها، والعقل مدرك لها لا منشئ - وكل ما في الأمر أن العقل قد يدرك الحسن والقبح بالضرورة، أي من غير إعمال نظر، كحسن إنقاذ الغريق، وحسن الصدق النافع، وقبح كفران النعمة؛ وقد يدركه بعد إعمال النظر، كحسن الصدق الضار، وقبح الكذب النافع.
واستدلوا على هذه النظرية بأدلة أهمها: (1)
أن الناس قبل ورود الشرائع كانت تتحاكم إلى العقل، وتتجادل بالعقل، ويلزم الفريق خصومه بما يدل عليه العقل، وليسوا يرجعون في ذلك إلا إلى ما في الأشياء من حسن وقبح ذاتيين، ونرى العقلاء قبل الشرائع يستحسنون إنقاذ الغرقى، وتخليص الهلكى، ويستقبحون الظلم والعدوان، بل إنه يستحسن ويستقبح من أنكر الأديان والشرائع. (2)
لو لم يكن في الأشياء حسن وقبح ذاتيان، لأفحمت الرسل وما استطاعوا الدعوة، لأنهم يطلبون النظر إلى الأشياء بعقولهم، ومنها إمكان إرسال الرسل والمعجزة وما إلى ذلك، فلو لم تكن هذه الأشياء حسنة في ذاتها يدركها العقل من نفسه من غير توقف على الشرع لقال هؤلاء لا يجب علينا النظر في معجزاتكم ونبوتكم إلا بالشرع، ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في نبوتكم ومعجزاتكم فيفحمون. (3)
لو لم يكن في الأفعال ذاتها حسن وقبح، بل هي من عمل الشرع، لما أمكن الفقهاء أن يعملوا عقولهم في المسائل التي لم يرد فيها نص، ولا ستحال تعليل الأحكام، ولبطل القول بلم ولأنه؛ لأن التعليل كله مبناه صفات الأفعال.
ورتب المعتزلة على هذا الرأي أن الإنسان مكلف قبل ورود الشرائع - أو إذا لم تبلغه دعوة الرسل - بما يدل عليه العقل؛ فهو مكلف بشكر المنعم، ومكلف بمكارم الأخلاق، ولو لم يصل إليه شرع في ذلك.
وكان خصومهم يرون غير هذه النظرية، فيرون أن الحسن ما ورد الشرع بالثناء على فاعله، والقبيح ما ورد الشرع بذم فاعله؛ وليس الشرع يمدح ويذم، ويوجب وينهى، تبعا لما في الشيء من حسن وقبح ذاتيين، بل الحسن والقبح تابعان لأمر الشرع ونهيه، فالشرع في أمره ونهيه مثبت لا مخبر، ولا شيء حسن لذاته، ولا قبيح لذاته، ولو عكس الشارع فأمر بالكذب ونهى عن الصدق، لكان الكذب حسنا والصدق قبيحا. ولهم على ذلك أدلة أهمها أن الحسن والقبح لو كانا ذاتيين لم يتخلفا، ولم يتوقفا على شروط، فإن ما بالذات لا يتخلف ؛ ونحن نرى أن القتل قد يكون قبيحا إذا توافرت فيه شروط، وقد يكون حسنا في مواضع، فهو قبيح إذا لم يصدر من المقتول ما يستوجب القتل، وهو حسن إذا كان قصاصا، ولو كان ذاتيا لم يتبدل بالإضافة إلى الأحوال؛ ونرى الشيء قد يكون حسنا في زمن ولا يكون حسنا في آخر، والشرائع نفسها تشرع أشياء لقوم، وتشرع غيرها لآخرين، فلو كان هناك حسن وقبح ذاتيان لم تتغير الشرائع بتغير الزمان والمكان والناس.
وقال هؤلاء: إن الناس يستحسنون ويستقبحون تبعا لشرائع سابقة أو مواضعات أو نحو ذلك، «فلو خلق إنسان تام الفطرة كامل العقل، من غير أن يتخلق بأخلاق قوم، ويتأدب بآداب الأبوين، ولا تربى تربية الشرع، ولا تعلم من معلم، ثم عرض عليه أمران: أحدهما أن الاثنين أكبر من الواحد، والثاني أن الكذب قبيح ... لم يتوقف في الأول وتوقف في الثاني» مما يدل على أن الأمر أمر مواضعات. «فلم يبق إلا عادات الناس، من تسمية ما يضرهم قبيحا، وما ينفعهم حسنا، ونحن لا ننكر أمثال تلك الأسامي، على أنها تختلف بعادة قوم دون قوم، وزمان وزمان، ومكان ومكان، وإضافة وإضافة، وما يختلف بتلك النسب والإضافات لا حقيقة له في الذات؛ فربما يستحسن قوم ذبح حيوان، ويستقبحه قوم، وربما يكون بالنسبة إلى قوم وزمان ومكان حسنا، وربما يكون قبيحا»، «والعقلاء يستحسنون إنقاذ الغرقى، ويستقبحون العدوان لطلب الثناء وخوف الذم».
27
وقد يظهر في بعض المسائل صعوبة تطبيق ذلك، ونتوهم أن الشخص يفعل الحسن لذاته، ويتجنب القبيح لذاته، ولكن بتدقيق النظر يتجلى لنا وجه الحق، وأنه إنما يفعله طلبا للثناء أو لارتباط المعاني، أو نحو ذلك من الأسباب النفسية.
28
ولما تقدم الزمان رأينا نقطة النزاع تتخذ شكلا أدق وأضبط، فقالوا: لا خلاف بيننا وبين المعتزلة في أن كلمتي الحسن والقبح قد تطلقان ويراد بهما ما في الشيء من كمال ونقص، كأن يقال: العلم حسن والجهل قبيح، ونحن جميعا لا ننازع في أن هذه الأمور يدركها العقل؛ وقد تطلق كلمتا الحسن والقبح على ما يلائم الغرض وما لا يلائمه، وقد يعبرون عن المعنى بالمصلحة والمفسدة؛ فما وافق الغرض أو بعبارة أخرى ما كانت فيه مصلحة فحسن، وما لم يوافق الغرض أو ما كان فيه مفسدة فقبيح؛ وهذا أيضا لا نزاع في إدراكه بالعقل، وإن كان إضافيا، فقد يكون حسنا لقوم قبيحا لآخرين بهذا المعنى - إنما النزاع في الحكم على الأعمال بأن فاعلها يستحق المدح والثواب، أو الذم والعقاب. فالمعتزلة يقولون: إن هذا مما يدرك أيضا بالعقل، فنستطيع أن نحكم على بعض الأعمال بالحسن، بمعنى أن فاعلها يستحق مدحا وثوابا، وعلى بعض الأعمال بالقبح، فيستحق فاعلها ذما وعقابا، ومخالفوهم يقولون إن هذا لا يدرك إلا بالشرع.
29
والخلاف بين المعتزلة وغيرهم في الحسن والقبح الذاتيين يذكرنا بالخلاف بين الفلاسفة الحديثين فيما يسمى «نظرية القيم»: «هل قيم الأشياء من جمال وخير وشر وحق وباطل صفات عينية في الأشياء، أي هل لها وجود مستقل عن عقولنا؟ أم هي من وضع العقل؟ فطائفة من الفلاسفة تقول إن للقيم وجودا مستقلا عن العقل، ووظيفة العقل هو إدراكها، فالعقل يتبينها ولا يثبتها؛ وطائفة تقول إن القيم مجرد معان قائمة بالعقل يصف بها الناس الأشياء إذا كانت لها في نظرهم قيمة، ولهم فيها غرض أو غاية، ولا توجد إلا حيث توجد هذه الغاية»
30
إلخ.
أما مسألة الإرادة - أعني علاقة إرادة الله بالكائنات، فوجهة نظر المعتزلة فيها أنا نرى أن مريد الخير خير، ومريد الشر شرير، ومريد العدل عادل، ومريد الظلم ظالم؛ فلو كانت إرادة الله تتعلق بكل ما في العالم من خير وشر لكان الخير والشر مرادين لله، فيكون المريد موصوفا بالخيرية والشرية والعدل والظلم، وذلك محال على الله، فهو يقول:
وما الله يريد ظلما للعباد .
وإذا فقد قالوا: إن الله أراد ما كان من الأعمال خيرا أن يكون، وما كان شرا ألا يكون، وما لم يكن خيرا ولا شرا فهو تعالى لا يريده ولا يكرهه. وبعبارة أخرى: إن الله مريد لما أمر به من الطاعات أن يكون، فهو يريد منا أن نأتي بالصلاة والزكاة، وأن نوحد الله ونؤمن برسله، ولا يريد منا المعاصي، فلا يريد الكفر والفسوق والعصيان؛ أما المباحات فلا يريدها ولا يكرهها.
وكان خصومهم يرون في هذه المسألة أن الله مريد لجميع ما كان، غير مريد لما لم يكن، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فالمعتزلة يقولون إن كفر الكافرين وعصيان العاصين لم يردها الله، وخصومهم يقولون أرادهما.
يستدل المعتزلة بأن الله لو كان مريدا لكفر الكافر، ومعاصي العاصي، ما نهاه عن الكفر والعصيان، وكيف يتصور أن يريد الله من أبي لهب أن يكفر ثم يأمره بالإيمان وينهاه عن الكفر، ولو فعل هذا أحد من الخلق لكان سفيها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا؛ ولو كان كفر الكافر وعصيان العاصي مرادين لله ما استحقا عقوبة، ولكان عملهما طاعة لإرادته - قالوا - هذا إلى ما في القرآن من آيات كثيرة تدل على أنه لا يريد ما نهى عنه، قال تعالى:
سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم ، وقال تعالى:
قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ، وقال تعالى:
وما الله يريد ظلما للعباد ، وقال تعالى:
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .
وحجة خصومهم أن كل ما في الكون من خير وشر محتاج إلى إرادة تريد حصوله، فكل حادث مراد، والشر والكفر والمعاصي حوادث موجودة واقعة، فهي مرادة.
والظاهر أن الخلاف راجع إلى تصور العدل وتصور الحسن والقبح، فلما قاس المعتزلة الغائب على الشاهد في تعرف العدل، وذهبوا إلى ما ذهبوا إليه من الحسن والقبح، كان ضروريا أن يذهبوا في الإرادة هذا المذهب الذي شرحنا. ولما كان خصومهم لم يعترفوا بقياس الغائب على الشاهد، ولم يعترفوا بأن أعمال الله موجهة لغاية وغرض، ولم يعترفوا بأن ما يوصف من أعمالنا بالحسن والقبح هو عين ما يوصف من أعمال الله بذلك، رجحوا الجانب الآخر وهو شمول إرادة الله.
والواقع أن كل فرقة كانت أمام مشكلة عويصة حاولت أن تحلها من جانب فتعقدت من جانب؛ فإذا قلنا إن إرادة الله ومشيئته شاملة لكل ما يحدث فكيف يشاء الشر؟ وإذا قلنا إن إرادته لا تتوجه إلا إلى الخير فكيف يقع في ملكه ما لا يريد؟
ومثل هذا الخلاف في إرادة الله، الخلاف في قدرته تعالى؛ وبعبارة أخرى في العلاقة بين قدرة الله وأعمال العباد: هل أعمال العباد مخلوقة لله، أو هي مخلوقة للعبد؟ وهذه هي المسألة التي تعنون عادة بخلق الأفعال. فأكثر المعتزلة يقولون إن أفعال العباد مخلوقة لهم. ومن عملهم هم لا من عمل الله، وباختيارهم المحض؛ ففي قدرتهم أن يفعلوا وأن يتركوها من غير دخل لإرادة الله وقدرته، ودليل ذلك ما يشعر به الإنسان من التفرقة بين الحركة الاختيارية والاضطرارية كحركة من أراد أن يحرك يده وحركة المرتعش، وكالفرق بين الصاعد إلى منارة والساقط منها؛ فالحركة الاختيارية مرادة من الإنسان مقدورة له، بخلاف الحركة الاضطرارية فلا دخل له فيها - وثانيا لو لم يكن الإنسان خالق أفعاله لبطل التكليف، إذ لو لم يكن قادرا على أن يفعل وألا يفعل ما صح عقلا أن يقال له افعل ولا تفعل، ولما كان هناك محل للمدح والذم والثواب والعقاب، بل ما كان لنبوة النبي وإصلاح المصلح فائدة؛ كما استدلوا على مذهبهم بكثير من آيات القرآن؛ فهناك آيات تضيف الفعل إلى الناس، كقوله تعالى:
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ،
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ،
من يعمل سوء يجز به . وآيات تمدح المؤمن على الإيمان، وتذم الكافر على الكفر، كقوله:
اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ،
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان . وآيات تدل على أن أفعال الله ليست كأفعال المخلوقين من التفاوت والاختلاف، كقوله:
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا . وآيات فيها إنكار وتوبيخ على الكفر والعصيان، كقوله:
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ... الآية ،
فما لهم لا يؤمنون ،
فما لهم عن التذكرة معرضين . وآيات أثبت فيها المشيئة للعبد:
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . وآيات أمر بها العباد بالإسراع إلى الطاعة قبل فواتها:
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم . وآيات حكى فيها التحسر يوم القيامة على الكفر والمعصية:
قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا ،
أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين .
31
وقالوا ثالثا: إن كان الله خلق أعمال الناس فهو إذا لا يرضى عما فعل، ويغضب مما خلق، ويكره ما دبر.
وكان لهم خصوم مختلفون ، فأشد خصومهم من كان يذهب إلى الجبر المحصن؛ ويرون أن أفعال الناس واقعة بقدرة الله تعالى وحدها، وليس لقدرة الناس تأثير فيها، وليس الإنسان إلا محلا لما يجريه الله على يديه، فهو مجبر جبرا مطلقا، وهو والجماد سواء لا يختلفان إلا في المظهر، فمظهر الإنسان أنه مختار وحقيقته أن لا اختيار، والجماد مجبرا مظهرا وحقيقة، وتنسب الأفعال إلى الإنسان مجازا، فضرب فلان وكتب وأساء وأحسن كلها مجازات، كما يقال أثمرت الشجرة، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس، وأمطر السحاب. والثواب والعقاب جبر، كما أن الأفعال جبر، والتكليف جبر، ولهم - كذلك - على قولهم أدلة كثيرة؛ قالوا: إن الإنسان إن كان موجدا لأفعاله وخالقا لها وجب أن تكون هناك أفعال لا تجري على مشيئة الله واختياره، ويكون هناك خالق غير الله؛ هذا إلى ما ورد في القرآن دالا على ذلك من مثل قوله تعالى:
الله خالق كل شيء ،
ختم الله على قلوبهم ،
ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ،
والله خلقكم وما تعملون
إلخ.
والواقع أن هذه هي مشكلة المشاكل، سميت بالجبر والاختيار، وبحرية الإرادة، وبالقضاء والقدر، وحار فيها الفلاسفة قديما وحديثا فأثارها الفلاسفة اليونانيون قبل المعتزلة، وكان بعضهم يرى أن الإرادة حرة في الاختيار كالأبيقوريين، وبعضهم كان يرى أنها مجبورة على السير في طريق لا يمكنها أن تتعداه كالرواقيين.
ولما جاء الإسلام وجاء دور البحث أثاروا هذه المسألة، فقال الجبريون وعلى رأسهم «جهم بن صفوان»: إن الإنسان مجبور، وليست له إرادة حرة ولا قدرة على خلق أفعاله ، وهو كالريشة في مهب الريح أو كالخشبة بين يدي الأمواج، وإنما يخلق الله الأعمال على يديه، وقالت المعتزلة: إن إرادة الإنسان حرة، وقدرته تخلق ما يعمل، وفي استطاعته أن يفعل وألا يفعل، وهو يفعل ما يختار.
والذي دعا إلى هذا الاختلاف بين المسلمين أن الأدلة العقلية متباينة، وظواهر النصوص مختلفة.
فمن ناحية نرى أن الله يطالب الناس بالعمل ويدعوهم إليه، ويأمر وينهى؛ ويثيب على فعل ما أمر، ويعاقب على الإتيان بما نهى، ووضع الحدود والعقوبات ، ووعد و أوعد، وساءل العصاة لم تعديتم ولم عصيتم ولم كفرتم، وقد أفسحت لكم مجال العمل، وأرسلت لكم الرسل، وأبنت الحجة! ثم ملئت نصوص الكتاب بذلك، فكيف يعقل بعد أن نقول إنه لا أثر لقدرة الإنسان أصلا، ولو لم تكن له قدرة لما كان معنى للطلب، ولما كان معنى للثواب والعقاب، ولكان التكليف تكليفا بالمجال، ولحق اعتراض المعترض بأنه لم يفعل ما فعل حتى يستحق لوما أو عقابا.
ومن ناحية أخرى، إذا قلنا إن العبد خالق أعماله ترتب عليه تحديد قدرة الله وأنها لم تشمل كل شيء، وأن العبد شريك لله تعالى في إيجاد ما في هذا العالم، والشيء الواحد لا يمكن أن تتعاون عليه قدرتان، فإن كانت قدرة الله هي التي خلقته فلا شأن للإنسان فيه، وإن كانت قدرة الإنسان هي التي خلقته فلا شأن فيه لقدرة الله، ولا يمكن أن يكون بعضه بقدرة الله وبعضه بقدرة العبد، لأن الشيء الواحد لا بعض له - هذا إلى النصوص القرآنية الكثيرة الدالة على شمول إرادة الله وقدرته.
ففريق المعتزلة رجحوا الجانب الأول، ووقفوا، وقف الدفاع عنه، وتأولوا النصوص التي ظاهرها مخالفته، وبذلوا في ذلك عناء كثيرا ومجهودا شاقا، وألجأهم إلى ذلك ما تصوروه من معنى العدل عند الله كما بينا. وفريق الجبرية رجحوا الجانب الآخر، إذ كان شنيعا لديهم أن يحدوا من إرادة الله وقدرته، وتأولوا الآيات الدالة على قدرة العبد، وقالوا في مسألة التكليف والثواب والعقاب. إنها ليست خاضعة لتصورنا في العدل والظلم، فالعدل والظلم ونحوهما كلمات تطبق على الناس لا على الله، إذ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وحار قوم بين أدلة هؤلاء وهؤلاء، فأرادوا أن يسلكوا سبيلا وسطا، ومن هؤلاء أبو الحسن الأشعري؛ فاخترع ما سماه «الكسب». وقد فسره بعض أتباعه بأنه «الاقتران العادي بين القدرة المحدثة (أي قدرة الإنسان) والفعل، فالله تعالى أجرى العادة بخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته لا بقدرة العبد وإرادته، فهذا الاقتران هو الكسب».
وهو - كما ترى - لا يقدم في الموضوع ولا يؤخر، فهو شكل جديد في التعبير عن الجبر، فهو يرى أن القدرة الحادثة لا تؤثر في المقدور، ولم ينكر أن هذا الذي سماه كسبا من خلق الله؛ فلم هذا الدوران والنتيجة القول بالجبر؟ وقال آخرون: إن الله خلق للعبد قدرة يصرف بها الأمور؛ فأعمال العباد تضاف إلى الله باعتباره أنه أقدرهم عليها، وخلق القدرة فيهم، وتضاف إلى العبد باعتبار أنه هو المصرف لأعماله بالقدرة الحرة التي خلقها الله فيه. وهذا رجوع في الحقيقة إلى قول المعتزلة، مع الخلاف في التعبير فقط.
فنحن في الواقع بين فرقتين لا غير: فرقة الجبر وفرقة الاختيار.
وقد نحا بعض المفكرين من المسلمين نحوا آخر، فقالوا: إن العالم كله مبني على أسباب ومسببات، وإرادة الإنسان خاضعة لأسباب، فإذا أرادت ما أرادت فذلك لأسباب، وإذا لم ترده فلأسباب أيضا؛ فإذا رأى إنسان طعاما شهيا وهو جائع اشتهاه من غير اختيار؛ وإذا رأى شيئا يؤلمه ويؤذيه كرهه وهرب منه. فالعمل الذي نعمله نتيجة أمرين: أسباب خارجية وإرادة منا، ولما كانت هذه الأسباب الخارجية تجري على نظام محدود، وترتيب منضود، لا تختل أبدا، وكانت إرادتنا الداخلية معلولة لهذه الأسباب، كانت إرادتنا كذلك جارية على نظام محدود، «والنظام المحدود الذي في الأسباب الخارجية والداخلية هو القضاء والقدر الذي كتبه الله على عباده».
فإذا نحن نظرنا إلى الأسباب الخارجية قلنا إن الإنسان مجبور، وإذا نظرنا إلى الإرادة وحدها فالإنسان مختار؛ وبهذا يمكن الجمع بين الآيات المختلفة، وقد قرر هذا الرأي الفيلسوف ابن رشد في كتابه «مناهج الأدلة».
32
وهذا القول في حقيقة أمره قول بالجبر الفلسفي.
على كل حال قرر المعتزلة حرية إرادة الإنسان وقدرته بأجلى مظاهرها، وتأولوا الآيات الواردة على خلاف ذلك، فتأولوا ما ورد من الختم والطبع مثل:
ختم الله على قلوبهم
و
بل طبع الله عليها بكفرهم
بتأويلات مختلفة؛ من ذلك ما ذكره الزمخشري أنه من قبيل الاستعارة أو التمثيل، فلا ختم ولا طبع في الحقيقة، ولكن لما كان الحق لا ينفذ إلى قلوبهم، ولا يخلص إلى ضمائرهم من قبل إعراضهم واستكبارهم، جعل قلوبهم كأنها مستوثق منها بالختم أو الطبع، أو أن حالتهم في أن قلوبهم لا ينتفعون بها فيما كلفوا به وخلقوا من أجله تشبه حالة من ختم على قلبه وطبع عليه، واستشهدوا على ذلك بقول بعض المازنيين، وقد جعله الحبسة في اللسان والعي ختما عليه فقال:
ختم الإله علي لسان «عذافر»
ختما فليس علي الكلام بقادر
وإذا أراد النطق خلت لسانه
لحما تحركه لصقر ناقر
وقد أسند الختم والطبع إلى الله لينبه على أن هذه الصفة في فرط تمكنها كالشيء الخلقي غير العرضي إلخ. ومثل ذلك آية
وجعلنا على قلوبهم أكنة
ونحوها.
33
وقد أثارت مسألة خلق الأفعال عند المعتزلة وخصومهم مسائل كثيرة متفرعة عنها؛ فمن ذلك مسألة التولد:
فلما قرر المعتزلة أن أفعال الإنسان مخلوقة له استوجب ذلك التساؤل: ما الرأي في الأعمال التي تتولد عن عمله؟ أهي كذلك من خلقه؟ فإذا ضرب إنسان آخر فالضرب لاشك من خلق الضارب، ولكن ما القول في الألم الذي يحسه المضروب وهو المتولد من الضرب؟ أهو كذلك من خلقه؟ وإذا رمى الإنسان سهما فقتل المرمي، فما القول في القتل؟ أهو من خلق الرامي؟ وهكذا تساءلوا في كل المتولدات؛ فإذا أضفنا نشا وسكر وأنضجناهما تولد من ذلك فالوذج، فهل طعم الفالوذج ولونه من خلقنا؟ وهل خروج الروح عند الذبح وذهاب الحجر عند الدفعة، والإدراك الحسي إذا فتحنا أبصارنا، وكسر الرجل عند السقوط، وصحتها إذا جبرت، ونحو ذلك، من خلقنا؟ هذه هي ما يسمونها (مسألة التولد ).
فقال قوم من المعتزلة وعلى رأسهم «بشر بن المعتمر» رئيس معتزلة بغداد: كل ما تولد من فعلنا مخلوق لنا، فإذا فتحت عين إنسان فأدرك الشيء فإدراكه فعلي، وإدراك جميع الحواس فعل الإنسان؛ ومن فعله أيضا لون ما يصنع من المأكولات - مثلا - طعومها ورائحتها، ومن فعله الألم واللذة والصحة والزمان والشهوة إلخ.
وفرق أبو الهذيل العلاف أحد شيوخ المعتزلة بين المتولدات فقال: إن كل ما تولد من فعله مما يعلم كيفيته فهو من فعله، وما لا فلا؛ فالألم الحادث عن الضرب، وذهاب الحجر صعدا إذا رماه إلى أعلى، وسفلا إذا رماه إلى أسفل ونحو ذلك من فعله؛ أما الألوان والطعوم والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والجبن والشجاعة والجوع والشبع فكلها من فعل الله.
وكان النظام يرى أن الإنسان لا يفعل إلا الحركة، فما ليس بحركة فليس من صنعه، ولا يفعل الإنسان الحركة إلا في نفسه، فأما في غيره فلا؛ فإذا حرك يده فذلك فعله، وأما إذا رمى حجرا فتحرك الحجر إلى فوق أو إلى تحت، فتحرك الحجر ليس من فعل الإنسان، وإنما هو من فعل الله، بمعنى أن الله طبع الحجر أن يتحرك إذا دفعه دافع وهكذا؛ فصلاة الإنسان وصيامه، وحبه وكرهه وعلمه وجهله، وصدقه وكذبه، كلها حركاته، فكلها أفعاله، بل سكونه كذلك فعله، لأن السكون حركة، فمعنى سكون الإنسان في المكان أنه كائن فيه وقتين، أي تحرك فيه وقتين؛ وعلى ذلك فالألوان والطعوم والأراييح والآلام واللذائذ ليست من فعله لأنها ليست حركات.
ولغير هؤلاء أقوال في التوليد يطول ذكرها - وعلى اختلافهم في النظر إلى التولد اختلفوا في تعريفه؛ فقال بعضهم: الفعل المتولد هو الفعل الذي يكون بسبب مني، ويحل في غيري؛ وبعضهم يقول: «هو الفعل الذي أوجبت سببه فخرج من أن يمكنني تركه». وقال بعضهم: كل فعل يتهيأ وقوعه على الخطأ دون القصد إليه، والإرادة له، فهو «متولد»، وكل فعل لا يتهيأ إلا بقصد، ويحتاج كل جزء منه إلى تجديد وعزم وقصد إليه، وإرادة له، فهو خارج عن حد التولد إلى آخر الأقوال.
وتولد من قولهم في التولد مسائل أخرى، فقالوا - مثلا - إذا بعد الشيء عن السبب، فهل يعزى إلى السبب الأول أولا؛ فلو رمى أحد سهما فأمسك آخر بطفل وعرضه للسهم حتى أصابه، فإلى من ينسب الفعل؟ أإلى مطلق السهم، أم ممسك الطفل؟ كما بحثوا في علاقته السبب بالمتسبب: هل السبب موجود قبل المسبب، أو موجود معه؟ وهل السبب موجب للمسبب أولا؛ كما أثار ذلك مسألة علاقة الإرادة بالفعل: هل إذا وجدت الإرادة يتبعها بالفعل حتما،
34
إلخ، مما يخرج بنا عن القصد لو حكيناه.
ويظهر أن هذه المباحث حول التولد وما تولد منه لم تكن مباحث ميتافيزيقية بحتة، بل كان يراد منها أيضا بحث في المسئولية القانونية والأخلاقية فإنا نراهم في هذه المسألة يبحثون في القتل وتحديده، وما هو عمل القاتل وعمل المقتول؛ وماذا إذا فعل القاتل ما يسبب القتل، ولكن لم يتولد من فعله القتل إلخ. وإن كان كلامهم في المسئولية لم يصل إلينا منه إلا القليل؛ كما أن من مقتضى قولهم في التولد، والإيمان بارتباط الأسباب بالمسببات، وأن الإنسان مكلف بالأسباب لحصول مسبباتها، كالتكليف ببناء المعاقل والحصون لدفع العدو، كما قال تعالى:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة
لأن ذلك سبب لابد منه، ينتج عنه صد المغيرين؛ وكبناء القناطر لضبط المياه وتنظيم الري؛ وكإقامة الحدود حتى لا تكثر الجرائم. قالوا: وقد رأينا الشارع كلف بها، فلولا أن الأسباب مربوطة بالمسببة، ولولا أن هذه الأفعال في قدرتنا ما كلفنا بها، ولما كان هناك محل للمدح والذم من أجلها إلخ. (1-3) الوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين
وهما الأصلان الثالث والرابع من أصول المعتزلة، وقد جمعناهما معا للارتباط الشديد بينهما.
وقول المعتزلة في ذلك ينبني على تصورهم للإيمان، وتصورهم للعدل الإلهي كما شرحوه، وعلى قولهم في أن العالم سائر لغرض يرمي إلى تحقيقه، على النحو الذي حكيناه عنهم.
فعند أكثر المعتزلة الإيمان ليس هو التصديق والاعتقاد القلبي وحده، بل هو كذلك أداء الواجبات؛ فمن صدق بأن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله من غير أن يؤدي الأعمال الواجبة لم يكن مؤمنا، «فالإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح؛ وأن كل عمل فرضا كان أو نفلا إيمان، وكلما ازداد الإنسان خيرا ازداد إيمانا، وكلما عصى نقص إيمانه».
35
واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، منها قوله تعالى:
وما كان الله ليضيع إيمانكم
أي صلاتكم إلى بيت المقدس، لأن الآية نزلت بعد تحويل القبلة، وقد توهم بعض الناس أن الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس قد ضاعت، فسمى الصلاة إيمانا وهي عمل؛ ومن ذلك ما ورد في الحديث من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني وهو مؤمن»، ومثل «لا إيمان لمن لا أمانة له» إلخ.
وقد كان لهم معارضون كثيرون في تحديدهم للإيمان هذا التحديد، فمنهم من رأى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب فقط؛ ومنهم من ذهب إلى أنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان. وشغل هذا الموضوع حيزا كبيرا من كتب الكلام يذكرون فيه حجج الفرق المختلفة، وانبنى على اختلافهم في تصور الإيمان اختلافهم في هل يزيد الإيمان أو ينقص، أو لا يزيد ولا ينقص؟ إلخ.
والذي يهمنا هنا حكاية رأي المعتزلة، فبعد تعريفهم للإيمان هذا التعريف قالوا: إن المعاصي التي يرتكبها الناس تنقسم إلى صغائر وإلى كبائر، واختلفوا في تعريف الصغيرة والكبيرة؛ وأشهر أقوالهم أن الكبيرة ما أتى فيها الوعيد، والصغيرة ما لم يأت فيها الوعيد، ولهم بعد أبحاث في هل يصح أن تكون مجموعة من الصغائر تساوي كبيرة أو لا؟ وهل تغتفر الصغائر لمن لم يرتكب الكبائر؟ ونحو ذلك. ثم قالوا إن الكبائر بعضها يصل من كبره إلى حد الكفر؛ فمن شبه الله بخلقه، أو جوره في حكمه، أو كذبه في خبره فقد كفر. وهناك كبائر أقل منها منزلة، وهذه الكبائر يسمى مرتكبها فاسقا، والفسق منزلة بين المنزلتين، لا كفر ولا إيمان؛ فالفاسق ليس مؤمنا ولا كافرا: بل هو في منزلته بين المنزلتين.
ثم ربطوا الثواب والعقاب بالأعمال ربطا حتما، وغلا بعضهم في التعبير فقال: «يجب على الله أن يثبت المطيع ويعاقب مرتكب الكبيرة؛ فصاحب الكبيرة إذا مات ولم يتب لا يجوز أن يعفو الله عنه، لأنه أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعيده ولأن الطاعات والأمر بها، والمعاصي والنهي عنها، وضعت لتحقيق غايات، فمن لم يطع فقد أخل بهذه الغايات فاستوجب العقاب، وهذا هو معنى أصلهم الذي وضعوه وعنونوه بالقول بالوعد والوعيد، يعنون بذلك أن الثواب على الطاعات والعقاب على المعاصي قانون حتى التزم الله تعالى به».
كما قالوا: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار ولو صدق بوحدانية الله وآمن برسله لقوله تعالى:
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، وقوله:
ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها
إلخ.
وكان مخالفوهم يرون أن ثواب الله فضل وعد به، خلف الوعد نقص تعالى الله عنه؛ والعقاب عدل وله العفو عنه، وليس في خلف الوعيد نقص، ومرتكبو الكبيرة من المؤمنين لا يخلدون في النار، لقوله تعالى:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ؛ ومرتكب الكبيرة قد عمل خيرا وهو إيمانه، وشرا وهو كبيرته، فيعاقب على كبيرته، ثم يثاب على إيمانه.
والبحث في هذا أثار مسألة موقف المعصية من الطاعة هل تحبطها؟ فتشدد كثير من المعتزلة في ذلك حتى ذهبوا إلى أن الكبيرة الواحدة تحبط جميع الطاعات، وبعضهم يذهب إلى المعادلة، فمن زادت معاصيه على طاعاته أحبطتها، ومن زادت طاعاته أحبطت عقاب زلاته. (1-4) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وهذا الأصل يشترك فيه المسلمون عامة عملا بقوله تعالى:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون . ولكن من عهد الصحابة إلى هذا العصر الذي نؤرخه والمسلمون مختلفون في مدى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمنهم من رأى هذا الوجوب يكفي فيه القلب واللسان إن قدر عليه، ولا يصح أن يلجأ في ذلك إلى استعمال القوة باليد أو السيف. وكان يرى هذا الرأي سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، ومن أجل هذا تراهم قد اعتزلوا ولم يشتركوا في القتال مع علي ومعاوية، سيرا على مبدئهم هذا، وتبعهم في هذا أكثر المحدثين وعلى رأسهم أحمد بن حنبل.
ويرى غيرهم أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك، فمن اعتقد الحق في جانب وجبت عليه نصرته، فإن أدى اللين واللسان إلى تحقيق هذا الغرض كفى ذلك وإلا فالسيف. وعلى هذا المبدأ سار علي ومن قاتل معه، وعائشة ومن قاتل معها، ومعاوية ومن قاتل معه، وعلى هذا المبدأ أيضا جرى المعتزلة والخوارج، فهم يرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب إن كفى، وباللسان إن لم يكف القلب، وباليد إذا لم يغنيا، وبالسيف إن لم تكف اليد، لقوله تعالى:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ، وفي الحديث «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعذاب من عنده». ولم تتوسع كتب الفرق في شرح هذا الأصل للمعتزلة كما توسعت في الأصول الأربعة الأولى، ولعل مساسه بالسياسة هو الذي منعهم من ذلك، فهذا الأصل يحدد موقف الناس من الحكومة إذا ظلمت، ومن الخليفة أو الوالي إذا تعدى حدوده. وربما كان أوضح ما يبين وجهة نظر المعتزلة في هذا الأصل ما ذكره الزمخشري عند تفسير قوله تعالى:
ولتكن منكم أمة
وملخص ما قال: «إن هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، لأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف ونهى عن المنكر، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشره، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيد إنكاره إلا تماديا أو على من الإنكار عليه عبث ... وقد روي عن رسول الله أنه سئل وهو على المنبر: من خير الناس؟ قال: «آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله، وأوصلهم ». وعن علي: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن شنيء الفاسقين وغضب لله غضب الله له ... والأمر بالمعروف تابع للمأمور به، إن كان واجبا فواجب، وإن كان ندبا فندب. وأما النهي عن المنكر فواجب كله، لأن جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح؛ وشرط الوجوب أن يغلب على ظنه وقوع المعصية، نحو أن يرى الشارب قد تهيأ لشرب الخمر بإعداد آلاته، وألا يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة - ويبتدئ في إنكاره بالسهل ، فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب، لأن الغرض كف المنكر. قال تعالى:
فأصلحوا بينهما
ثم قال:
فقاتلوا التي تبغي . ويباشره كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه.. فهناك القبائح الظاهرة المعروفة، وهذه يتولى النهي عنها كل إنسان؛ فمن رأى غيره تاركا للصلاة وجب عليه الإنكار لأنه معلوم قبحه لكل إنسان. وأما ما يحتاج إلى قتال فإنما يقوم به من في استطاعته القتال كالإمام وخلفائه لأنهم أعلم بالسياسة ومعهم عدتها.
36
وفي مقالات الإسلاميين «أن المعتزلة قالوا إذا كنا جماعة وكان الغالب عندنا أننا نكفي مخالفينا عقدنا للإمام، ونهضنا فقتلنا السلطان وأزلناه، وأخذنا الناس بالانقياد لقولنا؛ فإن دخلوا في قولنا الذي هو التوحيد، وفي قولنا في القدر وإلا قتلناهم. وأوجبوا على الناس الخروج على السلطان على الإمكان والقدرة إذا أمكنهم ذلك وقدروا عليه».
37
وهذا المبدأ هو الذي جعل للمعتزلة موقفا فعالا في الدولة، وجعل لهم سلطانا على الناس يوم يتاح لهم ذلك، فترى - مثلا - عمرو بن عبيد - شيخ المعتزلة - يقول لعبد الكريم بن أبي العوجاء - وكان يتهم بالزندقة والإلحاد وإفساد الشباب - قد بلغني أنك تخلو بالحدث من أحداثنا فتفسده وتستزله وتدخله في دينك، فإن خرجت من مصرنا (يزيد البصرة)
وإلا قمت فيك مقاما آتي فيه على نفسك ».
38
ونرى واصل بن عطاء - شيخ المعتزلة أيضا - بالبصرة، لما ثبت له ما يشهد على إلحاد بشار يخطب فيقول: «أما لهذا الأعمى الملحد، أما لهذا المشنف المكنى بأبي معاذ من يقتله؛ أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية لدسست إليه من يبعج بطنه في جوف منزله أو في حفله.
39
وتعاون واصل وعمرو بن عبيد على الهتف به حتى نفي من البصرة، فذهب إلى حران؛ فلما مات واصل سنة 131 رجع بشار إلى البصرة، فلم يتركه عمرو بن عبيد حتى نفي ثانية، وظل ينتقل في البلاد إلى أن مات عمرو سنة 143، فعاد إلى البصرة وأقام بها.
وفي ذلك يقول صفوان الأنصاري لبشار:
رجعت إلى الأمصار من بعد واصل
وكنت شريدا في التهائم والنجد
هذه ناحية تمثل ناحية من عملهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل الحركة العنيفة القوية في خلق القرآن ومحنته مظهر آخر من مظاهر ما اعتقدوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما سيأتي.
وكان الخوارج في هذا الباب (باب استعمال السيف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أشد وأقسى وأعنف، فمتى اعتقدوا الحق في شيء نفذوه بالسيف، ولهذا كان تاريخهم سلسلة حروب وخروج على الخليفة، لأنهم يرونه غير حائز للشروط التي يشترطونها، وغير سائر على المنهج الذي يرسمونه، وكأنهم يرون ذلك فرض عين، لا فرض كفاية، كما يحكي الزمخشري عن المعتزلة، وكأنهم يرون أن القتال دين حتم على كل فرد متى رأى منكرا، ولم يحكموا العقل في هل هذا القتال يوصل إلى الغاية المنشودة أو لا يوصل كما فعل المعتزلة، فالواجب في نظر الخوارج يجب أن يفعل، ثم لتكن النتيجة ما تكون، وظلوا مخلصين لهذا المبدأ طوال العهد الأموي وصدر الدولة العباسية حتى أبيدوا. (2) نقد وتحليل لأصول المعتزلة
لعل التاريخ الإسلامي لم يشهد قبل المعتزلة هذا القول الشامل الفلسفي في الله وصفاته وأفعاله، مع البراهين العقلية، والحجج النقلية، كما شهده في المعتزلة؛ فقد أطلقوا للعقل العنان في البحث في جميع المسائل من غير أن يحدوه أي أحد، فجعلوا له الحق أن يبحث في السماء وفي الأرض، وفي الله والإنسان، وفيما دق وجل، فليس له دائرة معينة له الحق أن يسبح فيها، ودائرة ليس له حق ذلك، بل خلق العقل ليعلم، وفي مكنته أن يعلم كل شيء حتى ما وراء الطبيعة أو ما وراء المادة، بل كانت أبحاثهم فيما وراء الطبيعة أوسع وأعمق من أبحاثهم الطبيعية بحكم أنهم مصلحون دينيون، ودعاة عقيدة.
وقد كانت نظرتهم في توحيد الله نظرة في غاية السمو والرفعة، فطبقوا قوله تعالى:
ليس كمثله شيء
أبدع تطبيق، وفصلوه خير تفصيل، وحاربوا الأنظار الوضعية من مثل أنظار المجسمة الذين جعلوا الله تعالى جسما، له وجه ويدان وعينان، ولحم ودم، وغاية ما قاله أعقلهم أنه جسم لا كالأجسام، وله وجه لا كالوجوه، ويد لا كالأيدي، وقالوا بأن له جهة هي الفوقية، وأنه يرى بالأبصار وأن له عرشا يستوي عليه، وأنه خلق آدم بيده، إلى آخر ما قالوا مما ينطبق على الجسمية. فأتى المعتزلة وسموا على هذه الأنظار، وفهموا من روح القرآن تجريد الله عن المادية، فساروا في تفسيرها تفسيرا دقيقا واسعا، وأولوا ما يخالف هذا المبدأ، وسلسلوا عقائدهم تسلسلا منطقيا؛ فإذا كان الله تعالى ليس مادة، ولا مركبا من مادة، فليس له يدان ولا وجه ولا عينان، لأن ذلك يدل على جزء من كل، والله تعالى ليس كلا مركبا من أجزاء، وإلا لكان مادة، وإذا كان كذلك فليست تدركه عيوننا التي خلقت، وليس في قدرتها إلا أن ترى ما هو مادة، وما هو في وجهة؛ وليس كلامه تعالى بلسان وأصوات، وإلا لكان جسما، وإنما يخلق الكلام والأصوات كما يخلق سائر الأشياء، ومن ذلك القرآن - وهكذا كانت كل نقطة تسلم إلى التي تليها، فيسيرون فيها من غير خوف من النتائج مهما كانت، متى اطمأنوا إلى أنهم يسايرون العقل؛ فهم من الناحية العقلية جريئون، يقررون ما يرشد إليه في شجاعة وإقدام وهم أمام النقل يسلمون ما يوافق منها البرهان العقلي، ويؤولون ما يخالفه، فالعقل هو الحكم بين الآيات المتشابهة، وهو الحكم على الحديث ليقرر عدم صحته إن لم يوافق العقل ويحتمل التأويل.
كذلك كان نظرهم إلى عدل الله، فقد وقفوا أمام مشكلة المثوبة والعقوبة، فرأوا أن ذلك لا يكون له معنى إلا بتقرير حرية الإرادة في الإنسان، وأنه خلق أعمال نفسه، وأن في إمكانه أن يفعل الشيء وألا يفعل، فإذا فعل بإرادته وترك بإرادته، كانت مثوبته أو عقوبته معقولة عادلة؛ أما إن كان الله يخلق الإنسان ويضطره إلى العمل على نحو خاص، فيضطر المطيع إلى الطاعة، والعاصي إلى العصيان ثم يعاقب هذا ويثيب ذاك فليس من العدالة في شيء. ولعل نقطة الضعف فيهم أنهم أفرطوا في قياس الغائب على الشاهد، أعني في قياس الله على الإنسان، وإخضاع الله تعالى لقوانين هذا العالم؛ فقد ألزموا الله - مثلا - بالعدل كما يتصوره الإنسان وكما هو نظام دنيوي، وفاتهم أن معنى العدل - حتى في الدنيا - معنى نسبي يتغير تصوره بتغير الزمان، وأن ما كان عدلا في القرون الوسطى يعد ظلما الآن، فكيف إذا انتقلنا من عالم الدنيا إلى عالم الله، وكذلك الشأن في قولهم في الحسن والقبح والصلاح والأصلح. إنا نرى أن الإنسان إذا ضاق نظره حكم على الأشياء حكما، فإذا اتسع نظره تغير حكمه؛ فمن نظر فقط إلى أسرته كانت بعض أحكامه خطأ بالنسبة لمن اتسعت نظرته إلى أمه أو إلى الإنسان عامة؛ ونحن في أعمالنا ننظر إلى عالمنا، والله تعالى رب العالمين قد ينظر في أعماله إلى جميع العالم، ما نعلم منها وما لا نعلم، فكيف نخضع الله لتصور العدل الذي نتصوره نحن في عالمنا هذا. وكذلك قولهم في أن صفات الله هي عين الله أو غير الله، كل براهينهم مبنية على قياس الغائب على الشاهد ولكن الشبه معدوم؛ وقد فرضوا أن العينية والغيرية والزمانية والمكانية والسببية والمسببية ونحوها قوانين لازمة لكل موجود، وهذا - في نظري - خطأ محض، فهي قوانين إنسانية وإن تسامحنا قليلا قلنا إنها قوانين عالمنا هذا، ولسنا نستطيع القول بأنها تنطبق على غير عالمنا أو لا تنطبق - فإصدار حكمان على الله على اعتقاد أنها قوانين شاملة للإنسان والله، جرأة لا يرتضيها العقل الذي يعرف قدره ولا يعدو طوره. وليس هذا عيب المعتزلة وحدهم، بل هو عيب من أتى بعدهم من علماء الكلام كذلك.
ولكن على كل حال كان مسلك المعتزلة مسلكا لابد منه، لأنه أشبه برد فعل لحالة بعض العقائد في زمنهم. لقد قرروا سلطان العقل وبالغوا فيه أمام من لا يقر للعقل بسلطان، بل يقول نقف عند النص، فما كان محكما واضحا عملنا به، وما كان متشابها غامضا تركنا علمه إلى الله. وقال المعتزلة بحرية الإرادة وغلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان إرادته، حتى جعلوه كالريشة في مهب الريح، أو كالخشبة في اليم. وعندي أن الخطأ في القول بسلطان العقل وحرية الإرادة والعلو فيهما خير من الغلو في أضدادهما، وفي رأيي أنه لو سادت تعاليم المعتزلة في هذين الأمرين - أعني سلطان العقل وحرية الإرادة - بين المسلمين من عهد المعتزلة إلى اليوم، لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي، وقد أعجزهم التسليم وشلهم الجبر، وقعد بهم التواكل.
لقد قال المعتزلة بسلطان العقل في معرفة الخير والشر؛ فليس الخير يفرض من الله فرضا على الأشياء، ولا الشر كذلك. وبعبارة أخرى ليس أمر الله بالشيء هو الذي يجعله خيرا، ولا نهيه عنه هو الذي يجعله شرا، بل الله يأمر بالشيء لأنه خير في ذاته، وينهى عنه لأنه شر في ذاته، وفي طبيعة الأشياء صفات تجعلها خيرا، وصفات تجعلها شرا، وفي وسع العقل أن يتعرف هذه الطبائع لمعرفة الخير والشر - وفي هذا المبدأ من غير شك تحرير للعقل من الجمود والوقوف عند النصوص، فالمشرع يستطيع أن يعمل عقله فيما لم يرد فيه نص ليدرك الخير فيه من الشر، ويقرر حلاله من حرامه، وليس الأمر في ذلك مقصورا على القياس، بل في إمكانه البحث، ولو لم يكن هناك أصل يقيس عليه ليزن خيره من شره، وليعرف طبيعة الشيء. وإن شئت فقل أنه يقيسه بمقياس العدالة ثم يحكم عليه بأنه يجب أن يعمل أو يجب أن يترك، فالمعتزلي إذا كان فقهيا جعله هذا المبدأ أكثر حرية؛ بل لعل فشو الاعتزال في الحنفية كان من الأسباب التي جعلتهم يركنون إلى استعمال الرأي في مذهبهم، فإن القول بالتحسين والتقبيح العقليين يحل على حرية الرأي واستعمال العقل في الحكم. و«الصفدي» في كتابه «الغيث المسجم» يقول: «إن الغالب في الحنفية معتزلة، والغالب في الشافعية أشاعرة، والغالب في المالكية قدرية (لعله يعني جبرية)، والغالب في الحنابلة حشوية».
40
وإن كان المعتزلي أخلاقيا، فكذلك يستطيع ألا يقف عند حدود الأوامر والنواهي، بل يزن الفضائل والرذائل بمقياس الزمان والبيئة ونحوهما، ويجتهد في تقرير الأخلاق كما يجتهد صاحبه في الفقه.
وقالوا بسلطان عقل الإنسان وإرادته وتحررهما من سلطان القدر؛ فالعقل حر في التفكير لم يقيده قدر سابق، والإرادة حرة في التنفيذ لم نقيدها إرادة سابقة، ومن أجل هذا تحددت مسئولية الإنسان وتعينت تبعته، فهو إذا كان حرا كان مسئولا، وإذا فقد حريته زالت تبعته، وكان كالصغير والمجنون، بل والحيوان والجماد.
ووسعوا دائرة التفكير هذه فقالوا: إن الله والعالم سائران على قوانين العدل ألزم الله بها الإنسان والتزم هو بها، أو بعبارة أخرى كتبها على نفسه، فليس يعذب مطيعا، وليس يثيب عاصيا، لأنه تقيد بقوانين العدل، وليس يدخل الجنة والنار حسبما اتفق ولا لمجرد الرغبة، بل قد كتب على نفسه أن يفعل وفق قوانين العدل؛ فالله تعالى ليس حاكما مستبدا، ولكنه حاكم التزم السير على قانون، وأوجب على نفسه العدل.
ومن مظاهر تمجيدهم للعقل تفسيرهم للقرآن بالمعقول أكثر من اعتمادهم على المنقول، وبنوا تفسيرهم على أسسهم من التنزيه المطلق، وحرية الإرادة، والعدل، وفعل الأصلح ونحو ذلك؛ ووضعهم أسسا للآيات التي ظاهرها التعارض، فحكموا بذلك العقل ليكون الفيصل بين المتشابهات، وقد كان من قبلهم يكتفون بمجرد النقل عن الصحابة والتابعين؛ فإذا جاءوا إلى المتشابهات سكتوا وفوضوا العلم إلى الله - وجرهم القول بسلطان العقل هذا إلى إنكار أحاديث تناقض أسسهم، وأخبار لا تتفق ومذهبهم، وكان هذا أحد الأسباب التي أثارت الخصومة بينهم وبين المحدثين.
وربما أخذ عليهم أنهم في سيرهم هذا وراء سلطان العقل قد نقلوا الدين إلى مجموعة من القضايا العقلية والبراهين المنطقية، وهذا النهج إذا صح أن يقتصر عليه في الفلسفة فلا يصح أن يقتصر عليه في الدين، لأن الدين يتطلب شعورا حيا أكثر مما يتطلب قواعد منطقية؛ فالدين ليس كالمسائل الرياضية ولا كالنظريات الهندسية تتطلب من العقل حلها، وفي ذلك كل الغناء. بل الدين أكثر من ذلك يتطلب شعورا يدعو إلى العمل، وحرارة إيمان تبعث على التقوى. ونظام المعتزلة - وهو الذي جرى عليه المتكلمون بعدهم - نظام جيد التفكير ضعيف الروح، غلا في تقدير العقل، وقصر في قيمة العاطفة. يتجلى ذلك لك إذا أنت وازنته - مثلا - بمنهج الصوفية؛ فهو على العكس من المعتزلة، شعور وعاطفة ولا منطق. والنظام العقلي في الدين يقف الإنسان - في العادة - موقفا سلبيا أكثر منه إيجابيا، فالأسس الخمسة التي قال بها المعتزلة منها الأربعة الأولى لا تتطلب عملا، بل هي تنزيه لله تعالى وتحديد لموقفه مع الناس من أطاع منهم ومن عصى، وليس يتطلب العمل الإيجابي إلا المبدأ الخامس وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا نفسه ليس يتطلب من الإنسان عملا بصفته إنسانا متدينا، وإنما هو نوع من الإشراف على أعمال الغير.
وإذا وصلنا إلى هذه النقطة أمكننا أن ننقد هذا المبدأ (مبدأ الأمر بالمعروف) عندهم، فهم يرون تنفيذ ما يعتقدون وإنكار ما ينكرون ولو بالسيف، وساروا على ذلك فعلا كما روينا من تهديدهم بعض من اعتقدوا الزندقة بالقتل. وهذا من أخطر المبادئ لأنه يجعل في الأمة حكومة داخل حكومة، ويهدد الحرية العامة، فيجعل للفرد سلطانا أن يحمل السيف ليستعمله ضد مخالفه في الرأي والعقيدة. وكنت أفهم أن يقرروا أن يكون أولوا الرأي منهم مشرفين على الحكومة مراقبين لها، فإذا سارت على المنهج القويم أيدوها، وإذ ا رأوا من أحد منكرا استعدوا عليه الحكومة العادلة لتنتصف منه، وإذا لم تكن الحكومة عادلة استنكروا أعمالها وثاروا عليها إذا كان في قدرتهم الثورة. أما أن يقروا الحكومة ويعترفوا بشرعيتها وصحة بقائها، ثم يجعل كل فرد من نفسه حكومة، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولو بالسيف، فمسلك يدعو إلى الفوضى والاضطراب.
ويظهر أن بعض المعتزلة شعر بهذا الخطر فقرر مبدأ عادلا، وهو أنه لا يجوز الخروج على الإمام الجائر إلا لجماعة لهم من القوة والمنعة ما يغلب على ظنهم معها أنها تكفي للنهوض وإزالة الجور، ولا يصح الخروج إلا مع إمام عادل، ولا يتولى إنفاذ الأحكام وقطع يد السارق والقود إلا الإمام العادل، أو من يأمره الإمام العادل، لا يجوز غير ذلك.
ومن ناحية أخرى، لم يفرقوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين شيء أجمع على إنكاره كالسرقة والقتل والزنا ونحو ذلك، وبين شيء مختلف فيه كالاعتقاد بوحدة الله ذاتا وصفات، والقول بالعدل وخلق القرآن؛ فكان يجب أن يفرقوا بينهما، ويقرروا أن الأشياء المختلف فيها يجب أن يكون الأمر بالمعروف فيها والنهي عن المنكر مقصورا على المناظرة والدعوة إلى الرأي فيها بالحسنى. ولكنا نرى أن المعتزلة في أيام دولتهم عكسوا الأمر وجعلوا المسائل المختلف فيها في العقائد في الدرجة الأولى، واشتركوا مع الحكومة في فرض رأيهم بالسيف، وجعلوا المسائل الأولى في المنزلة الثانية، وهو عكس للوضع الطبيعي؛ فمسألة الاختلاف في العقائد داخل حدود الإسلام كان يجب أن تترك حرة، ولو اعتقدوا فيها أنهم على صواب وغيرهم على خطأ. أما أن يقيموا الدولة ويقعدوها ويقدموا القول بخلق القرآن على كل أمر عداه، ويجعلوا البلاد كلها موضوع محاكمة، فسوء تقدير للأمور وخطل في تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد كان من أثر ذلك أن خصومهم يوم دولتهم عاملوا المعتزلة بنفس السلاح الذي استعملوه أيام سلطانهم، فضيقوا عليهم وشردوهم وصادروا كتبهم، وطبقوا عليهم مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذا المعنى المضطرب المفكك.
وأيا ما كان، فلسنا ننكر ما كان للمعتزلة من فضل في ترقية العقل ورفع مستواه في المملكة الإسلامية، وأنهم كانوا السابقين الأولين الذين شقوا الطريق لمن أتى بعدهم من أمثال «إخوان الصفا»، وفلاسفة المسلمين كالكندي والفارابي وابن سينا؛ وأنهم كانوا أول من فلسف الدين، وقرر سلطان العقل في أن يبحث مسائل الدين. •••
وللمعتزلة بعد ذلك آراء سياسية في الإمامة وفي أحداث التاريخ الإسلامي، وإن لم يتفقوا عليها اتفاقهم على الأصول الخمسة السابقة؛ وهم - وإن اختلفوا فيما بينهم في آرائهم - فعلى قولهم جميعا مسحة من حرية الرأي، وتشريح المسائل، ووضعها موضع النقد؛ وفي كلامهم ما يدل دلالة واضحة على أنهم وضعوا الصحابة والتابعين موضع الناس، يخطئون ويصيبون، ويصدر منهم ما يمدح وما يذم، ولم يتحرجوا من ذلك كما تحرج غيرهم؛ فوضعوا الصحابة وكبار التابعين في دائرة لا يستباح مهاجمتها. بل قالوا: «إنا رأينا الصحابة أنفسهم ينقد بعضهم بعضا، بل ويلعن بعضهم بعضا، ولو كانت الصحابة عند نفسها بالمنزلة التي لا يصح فيها نقد ولا لعن لعلمت ذلك من حال نفسها، لأنهم أعرف بمحلهم من عوام أهل دهرنا، وهذا طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم وفي جانبهم لم يروا أن يمسكوا عن علي؛ وهذا معاوية وعمرو بن العاص لم يقصروا دون ضربه وضرب أصحابه بالسيف، وكالذي روي عن عمر من أنه طعن في رواية أبي هريرة، وشتم خالد بن الوليد وحكم بفسقه، وخون عمرو بن العاص ومعاوية ونسبهما إلى سرقة مال الفيء واقتطاعه، وقل أن يكون في الصحابة من سلم من لسانه أو يده، إلى كثير من أمثال ذلك ما رواه التاريخ». قالوا: «وكان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك، ويقولون في العصاة منهم هذا القول، وإنما اتخذهم العامة أربابا بعد ذلك. والصحابة قوم من الناس، لهم ما للناس وعليهم ما عليهم، من أساء منهم ذممناه، ومن أحسن منهم حمدناه، وليس لهم على غيرهم كبير فضل إلا بمشاهدة الرسول ومعاصرته لا غير، بل ربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم، لأنهم شاهدوا الأعلام والمعجزات فمعاصينا أخف لأننا أعذر».
41
يرى أكثر المعتزلة كأكثر الفرق الإسلامية أنه لابد للمسلمين من إمام «ينفذ أحكامهم، ويقيم حدودهم، ويحفظ بيضتهم، ويحرس حوزتهم، ويعبئ جيوشهم، ويقسم غنائمهم وصدقاتهم، وينصف المظلوم، وينتصف من الظالم، وينصب القضاة والولاة في كل ناحية، ويبعث القراء والدعاة إلى كل طرف»؛ وقد خالف من المعتزلة في ذلك أبو بكر الأصم، وهشام الفوطي، فرأيا كما رأى بعض الخوارج «أن الإمامة غير واجبة في الشرع وجوبا لو امتنعت الأمة عنه استحقت اللوم، بل هي مبنية على معاملات الناس، فإن تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على البر والتقوى، واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه، استغنوا عن الإمام».
42
واختلفت المعتزلة بينهم في اشتراط أن يكون الإمام من قريش، فاشترطها بعضهم ولم يشترطها قوم منهم، وقالوا: إن حديث «الأئمة من قريش» لم يكن متواترا، إذا لو تواتر لما ادعت الأنصار مشاركة المهاجرين في الخلافة، بل إن عمر كان يحوز إمامة المولى، فقد قال: «لو كان سالم - مولى حذيفة - حيا لوليته»، وبالغ «صرار» من المعتزلة فقال: «إذا استوى الحال في القرشي والأعجمي فالأعجمي أولى بها، والمولى أولى بها من الصميم».
43
ولعله كان يرى أن الخليفة إن لم تكن له عصبية تحميه كان خلعه أيسر إذا جار وظلم.
وتعرض المعتزلة لمسألة أبي بكر وعمر وعلي، هل خلافتهم صحيحة؟ وأيهم أفضل؟ وقد حكى ابن أبي الحديد رأي المعتزلة في ذلك فقال:
44 «اتفق شيوخنا كافة، المتقدمون منهم والمتأخرون، والبصريون والبغداديون، على أن بيعة أبي بكر الصديق بيعة صحيحة شرعية، وأنها لم تكن عن نص، وإنما كانت بالاختيار ... واختلفوا في التفصيل، فقال قدماء البصريين كعمرو بن عبيد، والنظام، والجاحظ، وثمامة بن الأشرس، وهشام الفوطي، وأبي يعقوب الشحام، وجماعة غيرهم: إن أبا بكر أفضل من علي، وهؤلاء يجعلون ترتيب الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وقال البغداديون قاطبة، قدماؤهم ومتأخروهم؛ كبشر بن المعتمر، وابن صبيح، وجعفر بن مبشر، وأبي جعفر الإسكافي، وأبي الحسين الخياط، وأبي القاسم البلخي، وتلامذته: إن عليا أفضل من أبي بكر ... وذهب كثير من الشيوخ إلى التوقف فيهما، وهو قول واصل ابن عطاء، وأبي الهذيل العلاف. وهما - وإن ذهبا إلى الوقف بين علي وبين أبي بكر وعمر - قاطعان على تفضيله على عثمان».
45
والذي دعا إلى اتفاق المعتزلة على صحة خلافة أبي بكر، حتى من قال منهم بأفضلية علي على أبي بكر، أنهم رأوا عليا بايع أبا بكر غير مكره، فلابد أن تكون بيعته صحيحة، ولا يصح أن يكونوا علويين أكثر من علي.
فإذا وصلنا إلى عثمان وقتلته وجدنا كثيرا من المعتزلة يقفون في ذلك؛ فواصل بن عطاء يقف في الحكم على عثمان لتعارض الأدلة عنده، فلعثمان مقام محمود في الجهاد بماله، وله هجرتان وسابقة إلى الإسلام، ولم يحضر بدرا فألحقه رسول الله بمن حضرها؛ ثم كانت فتوحات في الإسلام عظيمة، وسيرة في الإسلام هادية، ولم يتسبب في سفك دم، ولكنه في السنين الست الأواخر من حكمه حدثت منه أحداث، فتعارضت عنده الأدلة، فترك أمره لله.
قال الخياط المعتزلي: إن واصل بن عطاء وقف في عثمان وفي خاذليه وقاتليه وترك البراءة من واحد منهم، «وهذه هي سبيل أهل الورع من العلماء أن يقفوا عند الشبهات، وذاك أنه قد صحت عنده لعثمان أحداث في الست الأواخر، فأشكل عليه أمره فأرجأه إلى عالمه»،
46
ومثل ذلك قول أبي الهذيل العلاف. قال: لا ندري أقتل عثمان ظالما أو مظلوما.
47
قد أخذ المعتزلة على عثمان، كما أخذ عليه غيرهم، «أنه أوطأ بني أمية رقاب الناس وولاهم الولايات وأقطعهم القطائع. وفتحت أرمينية في أيامه فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان ... وحمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية، وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال»
48
إلخ.
فهذه هي الأحداث التي أشار إليها واصل أنه أحدثها في السنين الست الأخيرة من خلافته. وللمعتزلة كلام واسع مفصل في تحليل أعمال عثمان والاجتهاد في تمحيصها، وبعضهم قد دافع عنه في إسهاب، وبعضهم حمله تبعات ما فعل في إسهاب؛ وقد حكاها ابن أبي الحديد في نحو ثلاثين صفحة من القطع الكبير والخط الدقيق، فارجع إليها إن شئت؛
49
ومحل الجودة فيها أن عليها طابع المعتزلة من الحرية في الرأي وتحكيم العقل.
فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الحروب التي كانت مع علي وخصومه، رأينا أن واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وقفا في الحرب بين علي وطلحة والزبير وعائشة يوم الجمل، كالموقف السابق الذي حكيناه عن واصل في عثمان وقتلته، «كان علي وطلحة والزبير وعائشة عندهم (واصل وعمرو) أبرارا أتقياء مؤمنين، قد تقدمت لهم سوابق حسنة مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهجرة وجهاد وأعمال جميلة، ثم وجداهم قد تحاربوا وتجالدوا بالسيوف، فقالا: قد علمنا أنهم ليسوا بمحقين جميعا، وجائز أن تكون إحدى الطائفتين محقة والأخرى مبطلة، ولم يتبين لنا من المحق منهم من المبطل فوكلنا أمر القوم إلى عالمه، وتولينا القوم على أصل ما كانوا عليه قبل القتال، فإذا اجتمعت الطائفتان قلنا: قد علمنا أن إحداكما عاصية لا ندري أيكما هي»
50
وذهب جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب والإسكافي (وكلهم من المعتزلة) إلى أن الحق في هذه الحرب كان مع علي، وأن طلحة والزبير وعائشة قد تابوا من خروجهم على علي، فهم لذلك يتولونهم جميعا.
51
وأما في الحرب بين علي ومعاوية فهؤلاء جميعا (واصل وعمرو وجعفر بن مبشر) يؤيدون وجهة نظر علي، «ويتبرأون من معاوية وعمرو بن العاص ومن كان في شقهما»،
52
بل إن البلخي وهو أحد شيوخ المعتزلة رمى عمرو بن العاص ومعاوية بالإلحاد، لما روي أن معاوية قال لعمرو - وقد طلب منه أن يوليه مصر - إني أكره لك أن تتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا، فقال عمرو: دعني منك. وقد بالغ البلخي في تفسير هذه الجملة، وقال إن عمرا يعني «دع هذا الكلام لا أصل له، فإن اعتقاد الآخرة وأنها لا تباع بعرض الدنيا من الخرافات»، وهذا تحميل للكلام أكثر ما يحتمل؛ ثم قال البلخي: «وكان معاوية مثله في الإلحاد والزندقة».
53
وقال الجاحظ: «كانت مصر في نفس عمرو بن العاص، لأنه هو الذي فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة في خلافة عمر، فكان لعظمها في نفسه، وجلالتها في صدره، وما قد عرفه من أموالها لا يستعظم أن يجعلها ثمنا من دينه».
54
وإذا كان معاوية غير محق فخلافته غير صحيحة، وكذلك من ولي بعده. ولكنهم يقولون: إن الصحابة والتابعين الذين كانوا في زمن معاوية ويزيد وبني أمية معذورون في جلوسهم عنه لعجزهم عن إزالتهم ولقهر بني أمية لهم بطعام أهل الشام، و
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
55
وبناء على ذلك تكون نظرتهم إلى بني أمية أنهم خلفاء لا عن حق، وقد طبقوا مذهبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الصحابة والتابعين الذين كانوا في عهد الأمويين؛ فمذهبهم أنه لا يصح الخروج إلا عند غلبة الظن بنجاح الثورة. أما الخوارج الذين يجعلون الثورة واجبا فرديا مهما تكن النتيجة، فكان تاريخها ثورة مستمرة.
ولعل هذا هو السبب في أن المأمون أيام سلطة المعتزلة قد هم بلعن معاوية على المنبر بتأثير ثمامة بن الأشرس المعتزلي.
56
وكذلك لم يرضوا عن أبي موسى الأشعري وموقفه في التحكيم، فقد ذكر ابن أبي الحديد «أن أبا موسى عند المعتزلة من أرباب الكبائر، وحكمه حكم أمثاله ممن واقع كبيرة ومات عليها».
57
وعلى الجملة فيظهر أن المعتزلة كان موقفهم من الدولة الأموية موقف كراهية وإن لم يثوروا ثورة الخوارج، ولعلهم نهجوا في هذا منهج شيوخهم وأسلافهم؛ فقد رأينا قبل أن رجلا سأل الحسن البصري عن رأيه في الفتن فقال له: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. فقال الرجل: ولا مع أمير المؤمنين؟ فقال الحسن: ولا مع أمير المؤمنين. وكان القائلون بحرية الإرادة - وهم الذين يسمون القدرية - قبل تأسيس فرقة المعتزلة من أعداء الدولة الأموية؛ فمعبد الجهني - وهو من أوائل من تكلم في القدر - خرج مع ابن الأشعث على الدولة الأموية فقتله الحجاج؛ وغيلان الدمشقي - من أوائل القدرية كذلك - قتله هشام بن عبد الملك، وجهم بن صفوان - وإن كان جبريا إلا أنه يعد من شيوخ المعتزلة لقوله بنفي الصفات كما تقول المعتزلة، وقال بخلق القرآن، وقد خرج مع الحارث بن سريج على بني أمية فقتل.
فلعل المعتزلة ورثوا أيضا كراهية بني أمية من شيوخهم هؤلاء، وبنو أمية - كما يظهر - كانوا يكرهون القول بحرية الإرادة، لا دينيا فقط، ولكن سياسيا كذلك، لأن الجبر يخدم سياستهم. فالنتيجة للجبر أن الله الذي يسير الأمور قد فرض على الناس بني أمية كما فرض كل شيء، ودولتهم بقضاء الله وقدره، فيجب الخضوع للقضاء والقدر. وجهم وإن كان جبريا إلا أنه قد ثار مع الخارجين على بني أمية، وقال بأقوال أحفظت عليه الناس، فاستغلت السياسة كراهية عامة الناس له وقتلته ...
ولما أسرف الوليد بن يزيد بن عبد الملك في الشراب واللهو والطرب وسماع الغناء، وكان متهتكا ماجنا خليعا، كان المعتزلة من أشد الناقمين عليه، والعاملين على قتله، وإحلال يزيد بن الوليد محله في الخلافة. فيقول المسعودي: «وكان خروج يزيد بن الوليد بدمشق مع
سابقة من المعتزلة
وغيرهم من أهل دارايا والمزة من غوطة دمشق على الوليد بن يزيد لما ظهر من فسقه وشمل الناس من جوره».
58
وإنما نصر المعتزلة يزيد لأنه كان دينا تقيا، وكان يعتقد مذهب المعتزلة. قال المسعودي: «وكان (يزيد) يذهب إلى قول المعتزلة وما يذهبون إليه»،
59
بل دفعت المعتزلة العصبية المذهبية على أن يفضلوا يزيد بن الوليد على عمر بن عبد العزيز، فقال المسعودي: «والمعتزلة تفضل في الديانة يزيد بن الوليد على عمر بن عبد العزيز لما ذكرنا من الديانة».
60
وقال ابن عبد الحكيم: «سمعت الشافعي يقول: لما ولي يزيد بن الوليد دعا الناس إلى القدر وحملهم عليه، وقرب أصحاب غيلان».
61
ولما قتل الوليد قام يزيد فقال: «إني والله ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا طمعا ولا حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وإني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي، ولكني خرجت غضبا لله ولدينه، وداعيا إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، حين درست معالم الهدى، وطفئ نور أهل التقوى، وظهر الجبار المستحل الحرمة، والراكب البدعة؛ فلما رأيت ذلك أشفقت إذ غشيتكم ظلمة لا تقلع عنكم، على كثرة من ذنوبكم، وقسوة من قلوبكم» إلخ.
فهم في نصرة يزيد جروا على مبدئهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فخرجوا مع إمام اعتقدوا فيه العدل، ولم يخرجوا إلا بعد أن غلب على ظنهم الفوز، وقد فازوا فعلا.
فإذا نحن وصلنا إلى العصر العباسي وجدنا عمرو بن عبيد رأس المعتزلة لا يميل إلى العباسيين ويجتهد في الهرب من أبي جعفر المنصور، وهو ينقد أبا جعفر ويعدد مظالمه. فيقول له أبو جعفر: فماذا أصنع؟ قد قلت لك خاتمي في يدك، فتعال أنت وأصحابك فاكتفي. فيقول عمرو: «ادعنا بعدلك تسخ أنفسنا بعونك، ببابك ألف مظلمة، أردد منها شيئا نعلم أنك صادق».
62
وروى البغدادي «أن المنصور قال لعمرو بن عبيد: بلغني أن محمد بن عبد الله بن الحسن كتب إليك كتابا. قال (عمرو) قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه. قال: فيم أجبته؟ قال : أوليس قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا؛ إني لا أراه. قال (المنصور): أجل، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي. قال (عمرو). لئن كذبتك تقية لأحلفن لك تقية، قال (المنصور): والله والله أنت الصادق البر».
63
وهذه الحكاية لها مغزاها؛ فمحمد بن عبد الله بن الحسن هذا هو زعيم الشيعة الذي خرج هو وأخوه إبراهيم على المنصور؛ وهذه القصة تدل على أن محمدا أراد أن يستعين على المنصور بعمرو بن عبيد وأتباعه من المعتزلة، فيخرج المعتزلة لقتال المنصور بالسيف؛ فلما أجاب عمرو لم يجب بأن هواه مع المنصور، ولم يتبرأ من أن هواه مع محمد، وكل ما قاله أنه لم ير استعمال السيف. فكأن عمرا يرى أن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصح أن يصل إلى حد السيف؛ فهو ينكر على المنصور مظالمه بلسانه، ويعظه ويؤنبه، فأما السيف فلا. وقد اكتفى منه المنصور بذلك، ولكن فهم منه من غير شك ميله النفسي لمحمد بن عبد الله بن الحسن، ولم يعبأ كثيرا بهذا الميل متى لم يستعمل السيف؛ فمبدأ استعمال السيف في الأمر بالمعروف لم يكن رأي عمرو، وإن كان رأي غيره من بعض المعتزلة.
فإذا استنتجنا من هذه الحكاية أن عمرو بن عبيد كان أميل لمحمد بن عبد الله بن الحسن منه للمنصور لم نبعد.
وقال الجهشياري: «إن المنصور عرض على عمرو معونته فأبى وخرج من حضرته، فلقيه أبو أيوب (المورياني وزير المنصور) فقال له: يا أبا عثمان (كنية عمرو) أظنك قد ردعت هذا الرجل (يعني المنصور) قال: نعم ... فإن استطعت أن تعين بخير فافعل، وكفى بأمة شرا أن تكون أنت المدبر لأمرها».
64
ويظهر أن الرشيد كان يكره الاعتزال والمعتزلة؛ فالجهشياري يروي أن العتابي (الكاتب الشاعر) كان يقول بالاعتزال، فاتصل ذلك بالرشيد، وكثر عليه في أمره، فأمر فيه بأمر عظيم، فهرب إلى اليمين، فكان مقيما بها حتى احتال له يحيي بن خالد البرمكي فأعاده.
65
ويقول المرتضى: «إن الرشيد منع من الجدال في الدين، وحبس أهل علم الكلام».
66
إنما حسن مركز المعتزلة وناصروا الدولة يوم اعتنق الخلفاء مبادئهم أمثال المأمون، فقد كان معتزليا في مبادئه وتصرفاته، وكذلك في أيام المعتصم والواثق. قال المسعودي: «وسلك الواثق في المذاهب (يعني مذهب الاعتزال) مذهب أبيه (يعني المعتصم) وعمه (يعني المأمون) من القول بالعدل (أي الاعتزال)»
67
فلما جاء المتوكل انصرف عن المعتزلة فانصرفوا عنه، وكاد لهم وكادوا له. •••
ثم للمعتزلة أيضا ناحية أخرى جاءتهم من تقديرهم لسلطان العقل، وهي أنهم بعد أن قرروا أصولهم، وآمنوا بها إيمانا تاما، كان ما يعارضها من آيات يؤولونها كما رأيت من قبل، وما يعارضها من أحاديث ينكرونها - وكل ذلك في جرأة وصراحة - ولذلك كان موقفهم في الحديث كثيرا ما يكون موقف المتشكك في صحته، وأحيانا موقف المنكر له، لأنهم يحكمون العقل في الحديث لا الحديث في العقل، ولنضرب لذلك بعض أمثلة:
كان عمرو بن عبيد يقول: «
لا يعفى عن السارق
دون السلطان» أي لا يصح لأحد ولا للمسروق منه أن يعفو عن السارق إلا السلطان (كأنه ينظر في ذلك إلى أن السرقة وقد تمت ليست جريمة على المسروق منه وحده، بل هي جريمة على الأمة، فمن حق السلطان وحده أن ينظر فيها، لأنه الذي بيده حق الأمة)، فروى له بكر بن حمدان حديث صفوان بن أمية (وهو أن صفوان توسد رداء في المسجد ونام، فجاء سارق فأخذ رداءه، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به أن تقطع يده، فقال صفوان: إني لم أرد هذا يا رسول الله، هو عليه صدقة، فقال رسول الله: فهلا قبل أن تأتيني به؟»، ومعنى هذا أن صفوان كان يحق له أن يعفو عنه قبل أن يأتي به لرسول الله، وهذا مناقض لقول عمرو بن عبيد؛ فقال عمرو لبكر بن حمدان: أتحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن النبي قاله؟ فقال بكر لعمرو: أتحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن النبي لم يقله؟ فحلف عمرو».
68
واستهزأ الجاحظ بما روي أن الحجر الأسود كان أبيض فسوده المشركون، فقال: كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا.
69
وأنكروا حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته،
70
لأنه ينافي قوله تعالى:
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار .
وأنكروا حديث: «لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن» وقالوا: ينبغي إذا أن تكون الريح عندكم غير مخلوقة، لأن كل شيء في الله قديم غير مخلوق.
وعاب المعتزلة بعض الصحابة في روايتهم أخبارا غير صحيحة، بل رموهم بالكذب أحيانا كما فعل النظام، فقد قال: «زعم ابن مسعود أن القمر انشق وأنه رآه، وهذا من الكذب الذي لا خفاء به، لأن الله تعالى لا يشق القمر له وحده ولا لآخر معه، وإنما يشقه ليكون آية للعالمين، وحجة للمرسلين، ومزجرة للعباد، وبرهانا في جميع البلاد، فكيف لم تعرف بذلك العامة، لم يؤرخ الناس بذلك العام، ولم يذكره شاعر، ولم يسلم عنده كافر، ولم يحتج به مسلم على ملحد».
71
وإنما قال النظام ذلك لما روي له أن ابن مسعود، قال: «رأيت حراء بين فلقتي القمر»، وكان النظام يرى أن انشقاق القمر الوارد في الآية إنما يكون يوم القيامة. فترى كيف كان النظام جريئا في تحكيم المنطق في رواية ابن مسعود.
وكذلك فعل النظام فيما روي عن ابن مسعود أيضا من أنه رأى قوما من الزط فقال: «هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن»، وذلك أن المعتزلة ينكرون قدرة الناس على رؤية الجن لقوله تعالى:
يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه
يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم . يقول الزمخشري: وفي ذلك دليل بين أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم من يدعي رؤيتهم زور ومخرقة».
وقد ذكر الجاحظ في كتاب الحيوان كلاما ممتعا على الجن وعدم إمكان رؤيتهم فقال: وللناس في هذا الضرب ضروب من الدعاوى، وعلماء السوء يظهرون تجويزها وتحقيقها، كالذي يدعون من أولاد السعالي من الناس، وكما يروي أبو زيد النحوي عن السعالاة التي أقامت في بني تميم حتى ولدت فيهم؛ فلما رأت برقا يلمع من شق بلاد السعالي حنت وطارت إليهم، وأنشدني أن الجن طرقوا بعضهم فقال:
أتوا ناري فقلت منون أنتم؟
فقالوا الجن، قلت عموا ظلاما
فقلت: إلى الطعام، فقال منهم
زعيم نحد الإنس الطعاما
ولم أعب الرواية، وإنما عبت الإيمان بها والتوكيد لمعانيها، وقد أفاض في ذلك بما يدعو إلى الإعجاب.
72
وتأول أحاديث ورد فيها رؤية الشياطين، واستهزأ بمن يعتقدها على ظاهرها.
73
وقد حكى التنوخي أن نساء المعتزلة لم يكن يخشين الجن والأرواح وكذلك صبيانهم، لأنهم لم يكونوا يسمعون أحاديث الجن من آبائهم، بل كانوا يسمعون إنكار رؤيتهم. قال: «سمعت جماعة من أصحابنا يقولون: من بركة المعتزلة أن صبيانهم لا يخافون الجن».
74
وروي أن عجوزا صالحة كانت معتزلية جلدة نزل عليها لص وكانت وحدها في البيت فشعرت به، فقالت: من هذا؟ قال: أنا رسول رب العالمين أرسلني إلى ابنك الفاسق لأعظه وأعامله بما يمنعه من ارتكاب المعاصي. فقالت: يا جبريل، سألتك بالله إلا رفقت به فإنه واحدي. وغافلته وجذبت الباب بحمية، وجعلت الحلقة في الرزة، وجاءت بقفل فأقفلته؛ فقال لها افتحي الباب لأخرج فقالت: يا جبريل، أخاف أن أفتح الباب فتذهب عيني من ملاحظتي لنورك، فقال: إني أطفئ نوري. فقالت: يا جبريل، إنك رسول رب العالمين لا يعوزك أن تخرج من السقف، أو تخرق الحائط بريشة من جناحك وتخرج. وتركته يهذي حتى جاء ابنها فمضى وأحضر صاحب الشرطة وفتح الباب وقبض على اللص.
75
وحكي أن لصا دخل دار معتزلي فأحس به فتبعه، فنزل إلى البئر فأخذ المعتزلي حجرا عظيما ليدليه عليه، فخاف اللص فقال: «الليل لنا والنهار لكم» يوهمه أنه من الجن، فهزئ المعتزلي بذلك ورمى بالحجر فهشمه.
ولنعد إلى ما كنا فيه فنقول: إن المعتزلة نقدوا الصحابة والتابعين بحرية، ورموهم بالتناقض أحيانا، فنقد النظام أبا بكر في قوله حين سئل عن آية من كتاب الله فقال : أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا أنا قلت في آية من كتاب الله برأيي؛ ثم سئل عن الكلام فقال: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني. قال النظام: والقول الثاني خلاف القول الأول. وعاب حذيفة بن اليمان إذ جعل يحلف لعثمان على أشياء بالله تعالى ما قالها، وقد سمعوه قالها، فقيل له في ذلك. فقال: إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله. إلى كثير من أمثال ذلك مما نقله ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث، وألف كتابه هذا للرد عليه والتوفيق بين ما ظاهره التناقض في الحديث.
وعلى الجملة فقد كان هذا وأمثاله من أكبر مظاهر المعتزلة في الإيمان بسلطان العقل وتحكيمه في كل الأمور، فلا عجب بعد أن يطلق عليهم المستشرقون اسم «العقليين». وقد استخدموا ما وصل إليه العلم والترجمة والفلسفة في عصرهم في بحوثهم الدينية، وهاجموا بذلك كله المحافظين والمتشددين، وقد أدرك ذلك الناس وعبروا عنه تعبيرا ظريفا؛ فقالوا: «النرد أشعري والشطرنج معتزلي»، لأن لاعب النرد يعتمد على القضاء والقدر، ولاعب الشطرنج يعتمد على الكد وإعمال الفكر. وفي ذلك يقول بعضهم في النرد:
وفي الفصوص لعبنا
منقل كالمثل
تلوح في أكفنا
كالجوهر المفصل
تفعل فيما بيننا
فعل القضا في الدول
ويقول آخر في الشطرنج:
والصغير الحقير يسمو به السير
فيعنو له الكبير الجليل
فرزن البيدق التنقل حتى انحط عنه
في قيمة الدست فيل.
76 (3) تاريخ المعتزلة ومشهورو رجالهم
كان أهم عصر في تاريخ المعتزلة من سنة 100 إلى سنة 255ه، ففي هذا العصر تكونوا ونموا وبلغت دولتهم أوجها، وقد رأينا قبل أنهم نشأوا في أواخر العهد الأموي، وكانوا يكرهون الأمويين ويكرههم الأمويون، وأن هشام بن عبد الملك كان يكره هذه النزعة منهم، ونكل ببعض من يرى رأي القدرية، وأنهم لم يرضوا عن أحد من بني أمية كما رضوا عن يزيد بن الوليد لاعتناقه مذهبهم.
وأنهم في أول العهد العباسي كان زعيمهم عمرو بن عبيد مهادنا للمنصور لا يخرج عليه، ولكن لا يعاونه.
وفي بدء العصر العباسي نشطت دعوتهم، وبعثوا الدعاة إلى أقصى الأمصار ينشرون مبادئهم، وقد وصف ذلك شاعر المعتزلة صفوان الأنصاري أصدق وصف، إذ يقول في قصيدته التي تعد وثيقة من أهم الوثائق في أعمال المعتزلة:
له
77
خلف شعب الصين في كل ثغرة
إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر
78
رجال دعاة لا يقل عزيمهم
تهكم جبار ولا كيد ماكر
إذا قال: مروا في الشتاء تطاوعوا
وإن كان صيفا لم يخف شهر ناخر
79
بهجرة أوطان وبذل وكلفة
وشدة أخطار وكد المسافر
فأنجح مسعاهم وأثقب زندهم
وأورى بفلج للمخاصم قاهر
وأوتاد أرض الله في كل بلدة
وموضع فتياها وعلم التشاجر
80
وما كان سبحان يشق غبارهم
ولا الشدق من حيي هلال بن عامر
تلقب بالغزال
81
واحد عصره
فمن لليتامى والقبيل المكاثر
ومن لحروري
82
وآخر رافض
وآخر مرجى وآخر حائر
وأمر بمعروف وإنكار منكر
وتحصين دين الله من كل كافر
يصيبون فصل القول في كل منطق
كما طبقت في العظم مديه جازر
تراهم كأن الطير فوق رءوسهم
على عتمة معروفة في المعاشر
وسيماهموا معروفة في وجوههم
وفي المشي حجاجا وفوق الأباعز
وفي ركعة تأتي على الليل كله
وظاهر قول في مثال الضمائر
وفي قص هداب وإعفاء شارب
وكور على شيب يضيء لناظر
فتلك علامات تحيط بوصفهم
وليس جهول القوم في جرم خابر
ففي هذه القصيدة وصف المعتزلة بأن لهم دعاة بلغوا أقصى الصين وخلفها، وبلغوا المغرب الأقصى، وأن لهم من إيمانهم في دعوتهم ما يستسهلون معه الصعاب، فلا يثنيهم البرد القارس ، ولا الحر القائظ، ولا تعوقهم مشقة السفر، ولا احتمال الخطر، وهم في كل بلد أوتادها كأنهم الجبال الرواسي في الثبات ومتانة العقيدة، وهم من سعة النظر ومعرفة الدين بحيث كانوا موضع الفتيا، ثم وصفهم بأنهم أهل الجدل والمناظرة، يثيرون المسائل ويبرهنون عليها، ويحركون العقول للبحث والتفكير وتقليب الآراء على وجوهها المختلفة، إلى طلاقة في اللسان، يعجز عن بلوغ شأوها سحبان، وهم حرب على أهل العقائد المختلفة يلزمونهم الحجة، ويدعونهم إلى المحجة، ينازلون الخوارج، وينازلون الروافض، ويجادلون المرجئة، ويزيلون شك الشكاك، ثم لهم سيما خلقية، فهم في سمت حسن، ورزانة وهدوء، كأن على رؤوسهم الطير، وهم الحجاج لا يعبأون بمشاق الأسفار، وهم المتعبدون تطول صلاتهم، وتطول فيها تلاوتهم، إلى صدق في القول، وصراحة في الكلام، ولهم شعار في ملابسهم وشكلهم، فهم يعتمون عمامة خاصة يعرفون بها، ويقصون أطراف الثوب (وهو كناية عن تقصيرها)، يعفون شاربهم (وهو المبالغة في قصها والأخذ منها).
وهذا يقدم لنا صورة واضحة بعض الوضوح عن انتشار المعتزلة في البلدان وأعمالهم فيها، وحياتهم النشيطة في الدعوة، وما يمتازون به من الناحية العقلية والخلقية، فيذكر المرتضى أن واصل بن عطاء بعث من أتباعه عبد الله بن الحارث إلى المغرب فأجابه خلق كثير، وبعث إلى خراسان حفص بن سالم فدخل ترمذ وناظر جهم بن صفوان حتى قطعه ... وبعث القاسم إلى اليمن، وبعث أيوب إلى الجزيرة، وبعث الحسن بن ذكوان إلى الكوفة، وعثمان الطويل إلى أرمينية.
83
فنرى من هذا أن واصلا كون حوله رجالا كثيرين، وبعث بهم إلى البلدان دعاة يدعون إلى الاعتزال وينشرونه بين الناس، وكان ناجحا في تأسيس جمعيته وتنظيمها ووضع خططها.
ويذكر ياقوت في مادة «تاهرت» وهي «مدينة بالمغرب قرب تلمسان» «أن مجمع الواصلية (أصحاب واصل بن عطاء) كان قريبا من تاهرت، وكان عددهم نحو ثلاثين ألفا في بيوت كبيوت الأعراب يحملونها».
ويقول الصفدي: «ومن وقف على طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار علم قدر ما كانوا عليه من العدد والعدد».
84
وقد اعتنق هذا المذهب كثير من الناس على اختلاف طبقاتهم من الخلفاء، أمثال: المأمون، والمعتصم، والواثق، إلى العجائز في البيوت كالذي روينا قبل عن التنوخي. ويقول الجاحظ: «سألت بعض العطارين من
أصحاب المعتزلة عن
فارة المسك فقال: ليس بالفارة وهو بالخشف أشبه. ثم قص علي شأن المسك وكيف يصطنع».
85
ويقول الأغاني: إن عبد الصمد بن المعذل كان شاعرا فصيحا من شعراء الدولة العباسية بصري المولد والمنشأ، وكان هجاء، خبيث اللسان، شديد العارضة؛ وكان أخوه أحمد أيضا شاعرا إلا أنه كان عفيفا، ذا مروءة ودين
وتقدم في المعتزلة ، وله جاه واسع في بلده وعند سلطانه لا يقاربه فيه عبد الصمد.
86
وكان بين المعتزلة صلة متينة، وعطف، وتعاون، حتى كان التآلف بينهم مضرب الأمثال؛ فقد كتب أبو محمد العلوي إلى أبو بكر الخوارزمي يقول: «إن اعتداده به اعتداد العلوي بالشيعي والمعتزلي بالمعتزلي».
87
وفي أيام المأمون والمعتصم والواثق زاد عددهم، لأن الدولة كانت دولتهم، وقد بلغوا في أيامهم أوجهم.
هذا من ناحية العدد والعدد. وقد كانوا في البلدان جاعلين لأنفسهم حق الإشراف، يستعملون حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد رأينا قبل ماذا فعل واصل وعمرو بن عبيد في بشار. ويروي الأغاني في ترجمة ابن منذر أنه كان في أول أمره يتأله، ثم عدل عن ذلك فهجا الناس، وتهتك، وخلع، وقذف أعراض أهل البصرة، وكان يهوى عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي، فضايقه المعتزلة فخاف منهم، فاستنجد ببني رياح، ثم نفي من البصرة إلى الحجاز فمات هناك.
88
ثم أثاروا الفكر وحملوه على البحث ووجهوا نظره إلى مسائل لم تثر قبلهم، فأثاروا مسائل كثيرة في الإلهيات كالذي رأينا، وفي الطبيعيات، وفي السياسيات.
يقول صاحب الانتصار: «إنهم أرباب النظر دون جميع الناس، وإن الكلام لهم دون سواهم».
89
ثم هم يعقدون المجالس للمناظرات فيناظر بعضهم بعضا، ويناظرون غيرهم من أصحاب المذاهب الأخرى، والأديان الأخرى فيحكي صاحب الانتصار عن مجلس كان بين أبي الهذيل المعتزلي، وهشام بن الحكم الشيعي بمكة وإفحام أبي الهذيل له.
90
ويقول: «هل على الأرض أحد رد على الدهريين سوى المعتزلة، كإبراهيم النظام، وأبي الهذيل، ومعمر، والأسواري وأشباههم؟! وهل يعرف أحد صحح التوحيد، واحتج لذلك بالحجج الواضحة، وألف فيه الكتب، ورد فيه على أصناف الملحدين من الدهرية والثنوية سواهم؟!».
91
ويقول إن إبراهيم النظام وأشباهه حاطوا التوحيد ونشروه وذبوا عنه، وشغلوا أنفسهم بجوابات الملحدين ووضع الكتب عليهم، إذ شغل أهل الدنيا بلذاتها وجمع حطامها.
92
ومناظرات في خلق القرآن أيام المأمون ومن بعده ترينا جدهم في البحث والمناظرة.
وقد أنجحهم في المناظرة ما رزقه كثير منهم من رجاحة العقل وفصاحة اللسان، والقدرة على الخطابة، حتى يروي الجاحظ أن بشر بن المعتمر المعتزلي هو واضع أصول الخطابة في اللغة العربية برسالة له قيمة، وسيأتي ذكرها بعد.
93
وقد نقل الجاحظ: «أن كبار المتكلمين ورؤساء النظارين (وعلى رأسهم المعتزلة) كانوا فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء، وهم تخيروا الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفا لكل خلف، وقدوة لكل تابع».
94
كما أن المتكلمين وقوامهم المعتزلة، قد وضعوا في العربية الأسس التي بني عليها بعد «علم البحث والمناظرة». روى الراغب الأصفهاني قال: «اجتمع متكلمان فقال أحدهما: هل لك في المناظرة؟ فقال: على شرائط، ألا تغضب، ولا تعجب، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تقبل على غيري وأنا أكلمك، ولا تجعل الدعوى دليلا، ولا تجوز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوزت لي تأويل مثلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التصادق، وتنقاد للتعارف، وعلى أن كلا منا يبغي مناظرته على أن الحق ضالته، والرشد غايته».
95
فللمعتزلة الفضل الأول في وضع الأسس الأولى لعلم الكلام، وعلم البلاغة، وعلم الجدل والمناظرة، كما أنهم كانوا المنفذ الأول الذي دخل منه فلاسفة المسلمين إلى الفلسفة اليونانية، لأن المعتزلة أول من استعان بالفلسفة اليونانية، واستقوا منها في تأييد نزعاتهم، فأقوال كثيرة من أقوال النظام وأبي الهذيل والجاحظ وغيرهم، بعضها نقل بحت من أقوال فلاسفة اليونان، وبعضها دخله شيء من التعديل كما سيأتي بيانه في مواضع متفرقة. •••
ومدرسة المعتزلة تنقسم إلى فرعين كبيرين: فرع البصرة، وفرع بغداد، وفرع البصرة أسبق في الوجود، وله الفضل الأكبر في تأسيس المذهب، وأكثر استقلالا في رأيه، ويتلوه في كل ذلك فرع بغداد. ولنرسم بيانا مجملا لأشهر رجال كل فرع، ونترجم لأعلامهم: (3-1) فرع البصرة
فأهم رجال هذا الفرع:
واصل وعمرو بن عبيد
وقد سبق القول فيهما،
96
غير أنه يصح أن نقول إنا إذا وازنا بينهما وجدنا «واصلا» أوسع عقلا وأغزر علما، وكان له الفضل الأكبر في تأسيس الاعتزال على أسس علمية، ووضع الخطط في نشره، بإرسال الدعاة في الآفاق يبشرون به ويلفون الناس حوله. وكان أقدر على الجدل والمناظرة، سريع البديهة في استحضار آيات القرآن التي تؤيد مذهبه، وفي تأويل ما لا يتفق ظاهرها مع مبادئه؛ وكان أوسع معرفة للمذاهب المختلفة في عصره، ماهرا في معرفة المسالك في الرد عليها. قال بعض أصحابه: «ليس أحد أعلم بكلام غالية الشيعة ومارقة الخوارج وكلام الزنادقة والدهرية والمرجئة وسائر المخالفين والرد عليهم منه».
97
أما عمرو بن عبيد فيظهر أنه مع علمه كان أقل من واصل بمراحل، وقد قالت أخت عمرو وكانت زوجة لواصل: «إن بينهما كما بين السماء والأرض»؛ وكان كثير التأليف، فقد ألف كتابا فيه ألف مسألة للرد على المانوية، ويقال: إنه وصل إلى أبي الهذيل العلاف قمطران من كتبه ربما كانا منبعا لعلمه.
98
ولهذا كان أكثر رجال المعتزلة تلاميذ لواصل أو تلاميذ لتلاميذه. وميزة عمرو بن عبيد كانت أبين في أنه حي القلب، يعظ فيجيد الوعظ، ثم لا يخشى في وعظه خليفة وأميرا، يحتقر عطاياهم ويعلو بنفسه على نفوسهم، وينفذ بموعظته إلى قلوبهم فيبكيهم، ثم يلحون عليه في أن يغشى مجالسهم ويتردد عليهم، فيأبى ويفر منهم. وكان إذا جادل واصلا هزمه واصل، فهو من ناحيته العقلية أقل منه، مع أنه من ذلك في منزلة رفيعة، ولكنه من ناحية قلبه وإيمانه لا يقل عن واصل إن لم يزد عليه زهدا وورعا.
وقد وصفه النظام فقال: كان عمرو بن عبيد عالما عاقلا عابدا، وكان ذا بيان وحلم وصاحب قرآن.
أبو الهذيل العلاف
ومن أقوى الشخصيات في مدرسة البصرة «أبو الهذيل العلاف»، كان رئيس الاعتزال في عصره، وإليه يرجع الفضل في تطعيم مبادئ الاعتزال بمبادئ الفلسفة. وهو محمد بن الهذيل العلاف من موالي عبد القيس، ولذلك يقال له العبدي، وقد عمر نحو مائة سنة، كانت تقريبا هي المائة الأولى للدولة العباسية؛ فقد ولد سنة 135 أي بعد ثلاث سنوات من قيام الدولة العباسية، ومات سنة 235 في أول خلافة المتوكل،
99
وبلغ ذروته في أيام المأمون، فقال الدينوري: «وعقد (المأمون) المجالس في خلافته للمناظرة في الأديان والمقالات، وكان أستاذه فيها أبا الهذيل محمد بن الهذيل العلاف». ولقب بالعلاف لأن داره بالبصرة كانت في العلافين. وقد كان واسع الاطلاع، كثير الحفظ للشعر العربي، كثير الاستشهاد به، فصيح القول، جيد المناظرة. قال المبرد: ما رأيت أفصح من أبي الهذيل والجاحظ، وكان أبو الهذيل أحسن مناظرة، شهدته في مجلس وقد استشهد في جملة كلامه بثلاثمائة بيت»؛
100
ويقول فيه الخياط: «وهو نسيج وحده، وواحد دهره في البيان ومعرفة جيد الكلام».
101
وقد ناظر صالح بن عبد القدوس فأفحمه فقال فيه صالح:
أبا الهذيل جزاك الله من رجل
فأنت حقا لعمري مفصل جدل
كما أنه اتصل بالفلسفة اليونانية وقرأ فيها. يقول النظام إنه (أي النظام) نظر في كتب الفلاسفة وهو بالكوفة، فلما ورد البصرة كان يظن أنه علم من لطيف الكلام ما لم يعلمه أبو الهذيل، قال النظام: فلما ناظرته خيل إلي أنه لم يكن متشاغلا قط إلا بها.
102
ولعل اتصاله هذا بالفلسفة اليونانية هو الذي مكنه من تنظيم مبادئ المعتزلة؛ وفتح له جهات نظر لم تكن تعرف من قبل.
وقد امتلأت حياته بالمناظرة والجدل مع الزنادقة، والشكاك، والمجوس، والثنوية، ورووا أنه أسلم على يده أكثر من ثلاثة آلاف رجل.
وصوره الجاحظ في كتاب البخلاء صورة ظريفة، فعده أبخل المعتزلة،
103
وقال: إن أبا الهذيل كان أسلم الناس صدرا، وأوسعهم خلقا، وأسهلهم سهولة، أهدى إلى مويس بن عمران دجاجة، فجعلها مثلا لكل شيء ؛ فيسأل مويسا كيف رأيت الدجاجة يا أبا عمران؟ فيقول كانت عجبا من العجب، فيقول: وتدري ما جنسها وتدري ما سنها؟ وتدري بأي شيء كنا نسمنها؟ فلا يزال في هذا وأبو عمران يضحك ضحكا نعرفه ولا يعرفه أبو الهذيل، لما كان به من سلامة الصدر؛ وكانت إذا ذكرت بطة أو جزور أو بقر قال: فأين كانت هذه الجزور في الجزر من تلك الدجاجة في الدجاج؛ وإذا ذكروا ميلاد شيء أو قدوم إنسان قال: كان ذلك بعد أن أهديتها لك بسنة، وما كان بين قدوم فلان وبين البعثة بتلك الدجاجة إلا يوم. ومع هذا البخل فكان أبو الهذيل يقول: أنا رجل منخرق الكف لا أليق درهما،
104
ويدي هذه صناع في الكسب، ولكنها في الإنفاق خرقاء، كم من مائة ألف درهم قسمتها على الإخوان في مجلس!!
فهو في هذا يصوره بخيلا، ويبالغ في تصويره كعادته، كما يصوره على شيء من الغفلة؛ إذ يضحك الناس من قوله عن الدجاجة، وهو يظن أنهم معجبون لا مستهزئون، وهو مع بخله يفتخر بالكرم ويدعي التبذير والإسراف. وليس عجيبا أن يكون مع علمه الواسع بخيلا وفيه غفلة، فمن السهل اجتماع ذلك في شخص، والشواهد الواقعية عليه كثيرة. وكلام الجاحظ في شيخه مقبول مصدق، وعلى العكس من ذلك ما اتهمه به بعض المحدثين من الفجور وذكره الخطيب البغدادي، فقد جد المحدثون في وضع الأخبار لانتقاص المعتزلة لما بينهم من عداء.
ويرميه «بشر بن المعتمر» - شيخ معتزلة بغداد - بالنفاق وحب الظهور، ويقول فيه هذه الكلمة البليغة: «لأن يكون أبو الهذيل لا يعلم وهو عند الناس يعلم أحب إليه من أن يعلم وهو عند الناس لا يعلم؛ ولأن يكون من السفلة وهو عند الناس من العلية أحب إليه من أن يكون من العلية وهو عند الناس من السفلة؛ ولأن يكون نبيل المنظر سخيف المخبر أحب إليه من أن يكون نبيل المخبر سخيف المنظر، وهو بالنفاق أشد عجبا منه بالإخلاص، ولباطل مقبول أحب إليه من حق مدفوع».
وعلى الجملة فيظهر من مجموع ما نقل عنه أنه كان من ناحيته العلمية كبير العقل واسع المعرفة، ومن ناحيته اللسانية قوي الجدل فصيح المنطق، ومن ناحيته الخلقية فيه مغمز: فهو بخيل يدعي الكرم، يهمه المظهر أكثر مما يهمه المخبر، وهو إلى الغفلة أقرب منه إلى المكر والدهاء.
نموذج من جدل: (1)
قالوا إنه مات لصالح بن عبد القدوس ابن فمضى إليه أبو الهذيل فرآه حزينا فقال: لا أعرف لجزعك وجها إلا إذا كان الإنسان عندك كالزرع (يعني أن لا حياة له بعد هذه الحياة). فقال: إنما أجزع لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك. قال أبو الهذيل: وما كتاب الشكوك؟ قال: كتاب وضعته، من قرأ فيه شك فيما كان حتى يتوهم أنه لم يكن، وفيما لم يكن حتى يظن أنه كان. قال أبو الهذيل فشك أنت في موت ابنك وافرض أنه لم يمت وإن كان قد مات، وشك أيضا في أنه قرأ ذلك الكتاب وإن كان لم يقرأ. (2)
وجاءه رجل فقال: أشكلت علي آيات من القرآن توهمني أنها ملحونة، فقال أبو الهذيل: أأجيبك بالجملة، أو تسألني عن آية آية؟ قال: بل تجيبني بالجملة. فقال أبو الهذيل: هل تعلم أن محمدا كان من أوسط العرب، وأن العرب كانوا أهل جدل؟ قال: نعم. قال: فهل تعلم أن العرب اجتهدوا في تكذيبه؟ قال: نعم. قال فهل تعلم أنهم عابوه باللحن؟ قال: لا. قال أبو الهذيل: فتدع قولهم مع علمهم باللغة، وتأخذ بقول رجل من الأوساط؟
وقد اشتهر أبو الهذيل بالجدل والإقناع من أقرب طريق، حتى يروي الخطيب البغدادي أن لصا لقيه فأمسك بمجامع جيبه (الجيب فتحة الرقبة) وقال له: انزع ثيابك. فقال أبو الهذيل: استحالت المسألة. قال: وكيف؟ قال تمسك بموضع النزع وتقول لي انزع، أأنزعه من ذيله أم من جيبه؟ قال: أنت أبو الهذيل؟ قال: نعم. فتركه.
ودخل على الحسن بن سهل فلقي عنده رجلا يدعي التنجيم، فقال له أبو الهذيل: إنه عمل باطل. فسأله البرهان، وكان في المجلس تفاح؛ فقال: آكل هذه التفاحة أم لا؟ قال المنجم: تأكلها. فوضعها أبو الهذيل وقال: لست آكلها. قال المنجم. فتعيدها إلى يدك وأعيد النظر. فوضعها وأخذ غيرها. فقال له الحسن: لم أخذت غيرها! قال: لئلا يقول لي لا تأكلها فآكلها خلافا عليه فيقول. قد أصبت في المسألة الأولى.
آراءه وتعاليمه:
كان لأبي الهذيل آراء يتميز بها عن سائر المعتزلة، وكان أتباعه في هذه الآراء يسمون «الهذيلية»؛ من ذلك ما أسلفنا الإشارة إليه من إنكاره لصفات الله في الحقيقة، فهو يقول: إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته، وقادر بقدرة هي ذاته، وهكذا يريد أن ليس شيء في الحقيقة غير الذات، وصفة العلم والقدرة ونحوهما ليست إلا مظاهر لذاته؛ فمظاهر الخلق في نظرنا تدل على قدرته، فنقول إذ ذاك إنه قادر، وتدل على العلم، فنقول إنه عالم، وفي الحقيقة لا شيء غير ذاته. وقد قال الأشعري: «إن أبا الهذيل أخذ قوله من أرسطو، فإن أرسطو قال في بعض كتبه: إن البارئ علم كله، قدرة كله، حياة كله، سمع كله، بصر كله؛ فحسن أبو الهذيل لفظة أرسطو وقال: علمه هو هو، وقدرته هي هو».
105
كان يرى أن للعالم كلا وجميعا، ونهاية، وغاية، لأنه محدث، والمحدث مخالف للقديم؛ فإذا كان القديم ليست له غاية ولا نهاية، وجب أن يكون للمحدث غاية ونهاية، ولأن المحدثات ذات أبعاض، وما كان كذلك فواجب أن يكون له كل ونهاية. فلما اعترض عليه - في قوله هذا - بنعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وأنهما لا نهاية لهما، لم ير هذا الرأي، وقال: إني لا أفهم حركات لا تنتهي، ولذلك يجب أن نقول إن حركات أهل الجنة وأهل النار تنقطع، وأنهم يصيرون إلى سكون دائم خمودا، وتجتمع اللذات في ذلك السكون لأهل الجنة، وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار.
ومن المسائل التي اشتهر بها أبو الهذيل رأيه في «إرادة الله»، وهي مسألة من المسائل المشكلة في الصفات أشرنا إليها فيما قبل؛ ذلك أن الإرادة التي نفهمها في الإنسان صفة من وظيفتها ترجيح أحد طرفي المقدور، فإذا أردت القراءة في كتاب، فقد رجحت القراءة على عدم القراءة، وكانت القراءة وعدمها مقدورين لي. وقد رجحت القراءة لحكمي بأن المصلحة في القراءة تفوق المصلحة في عدمها. فما معنى الإرادة إذا نسبت إلى الله، وقد وردت النصوص بنسبتها؛ كقوله تعالى:
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ؛ ولو فسرت الإرادة في الله كما فسرت في الإنسان لاستحال ذلك، لأن ترجيح الشيء وترتيب الفعل عليه طارئ بعد أن لم يكن، وطروء شيء على الله بعد أن لم يكن محال؛ وهذا بعينه هو الإشكال الذي أثير في مسألة العلم والقدرة، وقد مر الكلام فيهما، فكان أبو الهذيل يرى في إرادة الله أنها ضرب من ضروب العلم، وله على ذلك شرح طويل.
وكان يرى أن الإنسان مكلف بالأشياء التي يستطيع العقل التمييز فيها بين الخير والشر ولو لم تصل إليه أوامر الشرع، وإن قصر في ذلك استوجب العقوبة؛ فيجب عليه الصدق والعدل والإعراض عن الكذب والجور ولو لم يصله شرع في ذلك، لأن العقل يستطيع أن يدرك حسنها وقبحها لما فيها من صفات تجعلها حسنة أو قبيحة.
وقد اقتبس أبو الهذيل مسائل كثيرة من الفلسفة اليونانية، طبيعية وإلهية، وربما كان هو أول من أثارها في الإسلام، وتبعه الناس بعد، ينظرون فيها ويوسعونها ويبدون فيها آراءهم المختلفة؛ فقد أثار الكلام في الجسم ما هو؟ فكان أبو الهذيل يقول: إن الجسم ما له يمين وشمال، وظهر وبطن، وأعلى وأسفل، وأقل ما يكون الجسم ستة أجزاء؛ فتكلم في الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ ما هو؟ وهل له جميع صفات الجسم؟ فكان يرى أنه يتحرك ويسكن ويماس، ولكن لا يحتمل اللون والطعم والرائحة ولا شيئا من الأعراض غير ما ذكرنا، فإذا اجتمعت ستة جواهر وكونت جسما استطاعت إذا أن تتحمل بقية الأعراض.
وبحث في أن جوهر العالم واحد (يعني العنصر الذي ينبني منه العالم) أو جواهر مختلفة - وبحث في حركة الجسم هل تنقسم على عدد أجزائه، وكذلك اللون، فكان يرى أن الحركة تنقسم، فما حل في جزء الجسم من الحركة غير ما حل في جزء آخر، وكذلك اللون، وأن الحركة تنقسم بالزمان، فما وجد منها في زمان غير ما وجد منها في زمان آخر، إلخ. وبحث في رؤية الأجسام والأعراض، فكان يذهب إلى أنهما يريان، فالإنسان يرى الجسم ويرى الحركة والسكون والألوان والقيام والقعود، كما كان يذهب إلى أن الإنسان يلمس الحركة والسكون بلمسه للشيء المتحرك والساكن.
وبحث في الكمون، فكان يرى أن الزيت كامن في الزيتون، والدهن كامن في السمسم، والنار كامنة في الحجر ونحو ذلك.
وبحث في علة الخلق، فقال: إنما خلق الخلق لمنفعتهم، ولولا ذلك لكان لا داعي لخلقهم، لأن من خلق ما لا ينتفع به، ولا يزيل بخلقه ضررا، ولا ينتفع به غيره فهو عابث.
وبحث في حواس الإنسان وإدراكه وإرادته وغير ذلك مما تطول حكايته.
فترى من هذا أنه كان من أسبق الناس في الإسلام في تفتيح موضوعات لم تثر بينهم من قبل. وهذه الموضوعات قد بحثت في الفلسفة اليونانية، فأخذها وكون له فيها رأيا عرضه على المسلمين.
وكثير من هذه الموضوعات لا شأن لها بالاعتزال، ولا بالمسائل الدينية، لأنها مسائل طبيعية بحتة؛ ولكن كأن أبا الهذيل وأمثاله أرادوا أن يستعينوا بالفلسفة فعكفوا على ما وصل إلى أيديهم ليستخرجوا منها ما يثبت مذهبهم، ثم إذا هم يشتاقون إلى الفلسفة للفلسفة - على أنهم في كثير من الأحيان أدخلوا هذه المسائل الطبيعية في الدين، وولدوا منها مسائل دينية؛ كالذي رأيت في بحث أبي الهذيل في الحركة، فقد قاده إنكار أن الحركة لا تتناهى، إلى القول بأن حركات أهل الجنة وأهل النار تنقطع، فصدم بذلك بعض التعاليم الدينية.
كما يصح أن نستنتج من هذا أن هذه المسائل كانت أبحاثا مفرقة لا يؤلف بينها نظام. ويظهر أن مسلك العالم في ذلك الزمان لم يكن تفكيرا منظما يرتب به أصول المسائل، وينتقل من أصل إلى أصل، يربط بينهما رباط منطقي، ثم يستنتج الفروع من الأصول على نظام ثابت؛ بل كانت هناك آراء مبعثرة يتلقفها هؤلاء المعتزلة، ويضعون كل مسألة تحت البحث والجدل، أو بعبارة أخرى يثيرون حولها «الكلام»، وهذا الكلام يجري من شيء إلى شيء. وكثيرا ما يثير الجدل مسائل ليس يربط بعضها ببعض رباط - ومن أجل ذلك حاولت في أبي الهذيل العلاف أن أنقل كل ما روي عنه فيما بين يدي من كتب الكلام، وفكرت في أن أؤلف منها نظاما مسلسلا، وأصولا أساسية وضعها وفرع منها فلم أستطع، وكذلك كان شأني مع غيره من المعتزلة، وهذا يرجع إلى أحد سببين: إما أنهم وضعوا كتبا منظمة فلما ضاعت لم يبق لدينا منها إلا المسائل المبعثرة التي رويت لنا، وهذا عندي بعيد، لأن عناوين الكتب التي روي لنا أنهم ألفوها لا تدل على نظام في البحث، وإنما أكثرها جدل لأهل الديانات الأخرى والمذاهب المختلفة. والسبب الثاني الذي أرجحه هو أن المسائل التي كانوا يثيرونها كانت تخضع للفرص والاتفاق وتشعب الجدل أكثر من خضوعها للنظام ووضع الأصول، وكان هذا طبيعيا؛ فالمعتزلة أول من تعرض لهذا الضرب من البحث. وكل بحث في فرع من فروع العلم يأتي أولا مبعثرا ثم يدخله النظام والترتيب، فكان عملهم إرهاصا لعمل فلسفي منظم يأتي بعد، يقوم به أمثال الكندي والفارابي وابن سينا.
النظام
كان «النظام» آية في النبوغ: حدة ذهن، وصفاء قريحة، واستقلال في التفكير، وسعة اطلاع، وغوص على المعاني الدقيقة، وصياغة لها في أحسن لفظ وأجمل بيان.
وكان في ذلك كله أقدر من أستاذه العلاف، حتى لقد حكموا أن العلاف يذوب أمامه كما يذوب الثلج في الحرارة. روى الجاحظ أنه «قيل لأبي الهذيل: إنك إذا راوغت واعتللت وأنت تكلم النظام فأحسن حالاتك أن يشك الناس فيك وفيه. وقال: خمسون شكا خير من يقين واحد».
106
وهو إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري (وكان من الموالي)، تتلمذ للعلاف في الاعتزال، ثم انفرد عنه وكون له مذهبا خاصا وعاش في بغداد حينا، ومات وهو شاب في نحو السادسة والثلاثين من عمره سنة 221، وكان أستاذ الجاحظ.
وكان له ناحيتان بارزتان: ناحية أدبية، وناحية كلامية أو لاهوتية؛ فهو من ناحيته الأدبية قد عرف بالغوص على المعاني الرقيقة الدقيقة، وصوغها في قالب ظريف. روى الأغاني «أن المأمون هجر عريب، ثم اعتلت فعادها. فقال لها: كيف وجدت طعم الهجر؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، لولا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل، ومن ذم بدء الغضب حمد عاقبة الرضا. فخرج المأمون إلى جلسائه فحدثهم بالقصة، ثم قال: أترى هذا لو كان من كلام النظام ألم يكن كبيرا!».
107
وروي أنه دخل وهو صغير على الخليل بن أحمد، وفي يد الخليل قدح زجاج، فقال له الخليل: صف هذه الزجاجة. قال: أبمدح أم بذم؟ قال: بمدح. قال: تريك القذى، ولا تقبل الأذى، ولا تستر ما وراءها. قال: فذمها. قال: يسرع إليها الكسر ولا تقبل الجبر. قال: فصف إلي هذه النخلة، وأومأ إلى نخلة في داره. قال: بمدح أم بذم؟ قال: بمدح. قال: حلو جناها، باسق منتهاها، ناضر أعلاها. قال: فذمها. قال: صعبة المرتقى، بعيدة المجتنى، محفوفة بالأذى. فقال الخليل: «يا بني نحن إلى التعلم منك أحوج».
108
وأثرت عنه الجمل القصيرة اللطيفة، كقوله - وقد ذكر عنده عبد الوهاب الثقفي -: «هو أحلى من أمن بعد خوف، وبرء بعد سقم، ومن خصب بعد جدب، وغنى بعد فقر، ومن طاعة المحبوب، وفرج المكروب، ومن الوصال الدائم، والشباب الناعم».
109
وقال: «الذهب لئيم، لأن الشكل يصير إلى شكله، وهو عند اللئام أكثر منه عند الكرام». «وكان النظام (على عكس أستاذه أبي الهذيل) له بصر بوجوه الإنفاق، وكان السلطان يصله بالكثير، فإذا اجتمع له مال حبس لنفسه بلغة، وفرق الباقي في أبواب المعروف. قيل له في ذلك فقال: من حق المال علي أن أطلبه من معدنه، وأصيب به الفرصة عند أهله، ومن حقي عليه أن يقيني السوء بنفسه، ويصون عرضي بابتذاله، ولا يفعل ذلك إلا بأن أسمح به. ألا ترى ذا الغنى ما أدوم نصبه، وأقل راحته، وأخس - من ماله - حظه، وأشد - من الأيام - حذره؛ وأغرى الدهر بثلبه ونقصه، ثم هو بين سلطان يرعاه، وذوي حقوق يسبونه، وأكفاء ينافسونه، وولد يريدون فراقه ، قد بعث عليه الغني من سلطانه العناء، ومن أكفائه الحسد، ومن أعدائه البغي، ومن ذوي الحقوق الذم، ومن الولد الملال؛ وذو البلغة قنع فدام له السرور، ورفض الدنيا فسلم من المحذور، ورضي بالكفاف فتنكبته الحقوق».
110
ومن كلامه: «العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر». وسمع وقع الصواعق ودوى الريح فقال: اللهم إن كان عذابا فاصرفه، وإن كان صلاحا فزد فيه، وهب لنا الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء؛ اللهم إن كانت منحة فمن علينا بالعصمة، وإن كان عقابا فمن علينا بالمغفرة. وكان يقول: ثلاثة أشياء تخلق العقل وتفسد الذهن: طول النظر في المرآة، والاستغراق في الضحك، وطول النظر إلى البحر. ومن ظرفه أنه كان يقول: «لا أقول مت قبلك، لأني إذا مت قبله مات هو بعدي، ولكني أقول مت بدلك». وسئل: أي أمور الدنيا أعجب؟ فقال: «الروح». وله تعليقات لطيفة على بعض ما يروى له من أحداث، فقد روي له أن عبد الملك بن مروان توعد الناس فقال: والله ما أنا بالخليفة المستضعف (يعني عثمان)، ولا أنا بالخليفة المداهن (يعني معاوية)، ولا أنا الخليفة المأمون (يعني يزيد بن معاوية)، فقال النظام: والله لولا نسبك من هذا المستضعف، وسببك من هذا المداهن لكنت منها أبعد من العيوق. إلخ.
ثم له شعر رقيق نحا فيه نحوا خاصا في دقة المعنى وحسن السبك كقوله:
ذكرتك والراح في راحتي
فشبت المدام بدمع غزير
فإن ينفد الدمع فرط الأسى
بكتك الحشى بدموع الضمير
وقوله:
يا تاركي جسدا بغير فؤاد
أسرفت في الهجران والإبعاد
إن كان يمنعك الزيارة أعين
فادخل إلي بعلة العواد
إن العيون على القلوب إذا جنت
كانت بليتها على الأجساد
وقوله:
أريد الفراق وأشتاقكم
كأنا افترقنا ولم نفترق
أستغنم الوصل كي أشتفي
وهل يشتفي أبدا من عشق؟!
وقوله:
وشادن ينطبق بالظرف
يقصر عنه منتهى الوصف
رق فلو بزت سرابيله
علقه الجو من اللطف
يجرحه اللحظ بتكراره
ويشتكي الإيماء بالظرف
أفديه من مغرى بما ساءني
كأنه يعلم ما أخفي
ويقول:
توهمه طرفي فآلم خده
فصار مكان الوهم من نظري أثر
وصافحه قلبي فآلم كفه
فمن صفح قلبي في أنامله عقر
ومر بقلبي خاطرا فخرجته
ولم أر جسما قط يجرحه الفكر
يمر فمن لين وحسن تعطف
يقال به سكر وليس به سكر
وقال:
هو البدر إلا أن فيه رقائقا
من الحسن ليست في هلال ولا بدر
وينظر في الوجه القبيح بحسنه
فيكسوه حسنا باقيا آخر الدهر
وقال:
ونشكو بالعيون إذا التقينا
فنفهمه ويعلم ما أردت
أقول بمقلتي أن مت شوقا
فيوحي طرفه أن قد علمت
وقال:
أفرغ من نور سمائي
مصور في جسم إنسي
وافتقر الحسن إلى حسنه
فجل من تحديد كيفي
أبدعه الخالق واختاره
من مازج الأنوار علوي
فكل من أغرق في وصفه
أصبح منسوبا إلى العي
ولما مرض قيل له وفي يده قدح دواء. ما حالك؟ فقال:
أصبحت في دار بليات
أدفع آفات بآفات
فتراه في نثره وشعره يتفلسف فتعزز معانيه، وتجود ألفاظه.
وكان يعجبه أبو نواس للطف معانيه ورقة طبعه، وتفلسفه أحيانا وقربه إلى نفسه. قال الجاحظ: «سمعت النظام يقول - وقد أنشد شعر لأبي نواس في الخمر - كأن هذا الفتى جمع له الكلام فاختار أحسنه».
ولما قال أبو نواس:
تركت مني قليلا
من القليل أقلا
يكاد لا يتجزأ
أقل في اللفظ من لا
سأل النظام عن بيت أبي نواس حتى دلوه عليه فقال له: «أنت أشعر الناس في هذا المعنى، والجزء الذي لا يتجزأ منذ دهرنا الأطول نخوض فيه، ما خرج فيه لنا من القول ما جمعته أنت فيه في بيت واحد».
وفي أقواله نواة لما نراه بعد في تلميذه الجاحظ.
ووصفه الجاحظ بقوة الحجة فقال: كان أبو شمر إذا نازع لم يحرك يديه ولا منكبيه، ولم يقلب عينيه، ولم يحرك رأسه، حتى كأن كلامه إنما يخرج من صدع صخرة. وكان يقول ليس من المنطق أن تستعين عليه بغيره؛ حتى كلمه النظام فاضطره بالحجة وبالزيادة في المسألة، حتى حرك يديه وحل حبوته ، وحبا إليه حتى أخذ بيديه، ففي ذلك اليوم انتقل أيوب من قول أبي شمر إلى قول النظام.
111
وقد صور الجاحظ نفسية النظام وعقليته تصويرا حسنا، وقد كان أعرف الناس به وأكثر خلطة له، وذلك في مواضع منتشرة من كتاب الحيوان؛ فضممنا بعضها إلى بعض لنستخرج منها صورة كاملة بقدر الإمكان، فقد وصفه بالصدق التام فيما يقول، قال: «كان إبراهيم مأمون اللسان قليل الزلل والزيغ في باب الصدق»؛ ثم فسر قوله قليل الزلل والزيغ بأنه استعمل كلمة «قليل» في موضع «ليس» كما يقال قليل الحياء (أي لا حياء عنده)، فمعنى قوله قليل الزلل أن ليس يزل ولا يزيغ في باب الصدق لشدة تحريه للحق. ثم عابه عيبا دقيقا فقال: إنه كان جيد القياس، جيد الاستنباط، ولكنه لا يتحرى الدقة فيما يقيس عليه؛ «فهو يظن الظن ثم يقيس عليه وينسى أن بدء أمره كان ظنا، فلو كان بدل تصحيحه القياس يلتمس تصحيح الأصل لكان ذلك أولى؛ فكان يحكي حكاية المستبصر المتيقن، ولكنه كان لا يقول سمعت ولا رأيت، والسامع لا يشك أنه امتحنه بنفسه مع أنه لم يسمعه ولم يمتحنه».
112
فالجاحظ يعيبه بسرعة الجزم في المسائل الأصلية قبل التثبت منها. فإذا أعمل عقله في القياس والاستنباط أتى بالعجب العجاب - وهذا من غير شك تحليل دقيق جدا لعقلية النظام - ويؤكد هذا المعنى في موضع آخر فيقول: «أخبرني النظام وكنا لا نرتاب بحديثه إذا حكى عن سماع أو عيان»،
113
ولكنه يتهمه بأنه مع صدقه «كان أضيق الناس صدرا بحمل سر، وكان شر ما يكون إذا لم يؤكد عليه صاحب السر، وكان إذا لم يؤكد عليه ربما نسي القصة فيسلم صاحب السر»، وكان إذا عيب في ذلك صير الذنب كله لصاحبه الذي حمله السر.
114
هذه ناحيته الخلقية. أما ناحيته العقلية. فهي عقلية قوية سابقة لزمنها، فيها الركنان الأساسيان اللذان سببا النهضة الحديثة في أوروبا، وهما الشك والتجربة، أما الشك فقد كان يعتبره النظام أساسا للبحث، فكان يقول: «الشاك أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قط حتى صار فيه شك، ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره يكون بينهما حال شك».
115
وبني على ذلك الجاحظ فقال: «تعلم الشك في المشكوك فيه تعلما، فلو لم يكن ذلك إلا تعرف التوقف ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه. والعوام أقل شكوكا من الخواص، لأنهم لا يتوقفون في التصديق، ولا يرتابون بأنفسهم، فليس عندهم إلا الإقدام على التصديق المجرد، أو على التكذيب المجرد، وألغوا الحالة الثالثة من حال الشك».
116
وأما التجربة فقد استخدمها كما يستخدمها الطبيعي أو الكيماوي اليوم في معمله. ومن طريف ذلك أنه اتصل بمحمد بن علي بن سليمان وكان أميرا من أمراء البيت العباسي، فشاركه النظام في عملية لطيفة، وهي أن يسقي الخمر للحيوانات ليرصد نتائج ذلك، فجربوها على كل عظيم الجثة، كالإبل والجواميس والبقر، ثم على الخيل العتاق والبراذين، ثم على الظباء والشاء، ثم على النسور والكلب وابن عرس، ثم أتوا بحاو فكان يحتال على الأفاعي حتى يصب في حلقها بالأقماع، وشاهدوا فعل الخمر في هذه الأجناس المختلفة، وساعد على ذلك مال الأمير وجاهه، حتى احتالوا على أسد مقلم الأظفار فسقوه ليعرفوا مقداره في الاحتمال. قال «النظام». «إني لم أجد في جميع الحيوان أملح سكرا من الظبي، ولولا أنه من الترفه لكنت لا يزال عندي الظبي حتى أسكره وأرى طرائف ما يكون منه».
117
وتجربة أخرى قالها؛ فقد ذكر أنه «شهد محمد بن عبد الله يلقي الحجر في النار، فإذا عاد كالجمر قذف به قدام الظليم، فإذا هو يبتلعه كما يبتلع الجمر. وكنت قلت له: إن الجمر سخيف سريع الانطفاء إذا لقي الرطوبات، ومتى أطبق عليه شيء يحول بينه وبين النسيم خمد، والحجر أشد إمساكا لما يتداخله من الحرارة، وأثقل ثقلا وألزق لزوقا، وأبطأ انطفاء، فلو أحميت الحجارة؛ فأحماها ثم قذف بها إليه فابتلع الأولى، فارتبت به، فلما ثنى وثلث اشتد تعجبي له؛ فقلت: لو أحميت أواقي الحديد ما كان منه ربع رطل ونصف رطل، ففعل فابتلعه، فقلت: هذا أعجب من الأول والثاني ، وقد بقيت علينا واحدة، وهو أن ننظر أيستمرئ الحديد كما يستمرئ الحجارة؟ ولم يتركنا بعض السفهاء أن نتعرف ذلك على الأيام، وكنت عزمت على ذبحه وتفتيش جوفه وقانصته، فلعل الحديد يكون قد بقي هناك لا ذائبا ولا خارجا، فعمد بعض ندمائه إلى سكين فأحمي ثم ألقاه إليه فابتلعه، فلم يجاوز أعلى حلقه حتى طلع طرف السكين مع موضع مذبحه، ثم خر ميتا، فمنعنا بخرقه من استقصاء ما أردنا».
118
وفي هذا مثل أعلى من أمثلة البحث العلمي والتجربة الصحيحة الدقيقة، واستعمال المنطق السليم في البحث عن الحقائق.
ثم هو أبعد ما يكون عن الخرافات، يبحث الأمور بعقله في هدوء وطمأنينة، ويحارب أوهام العوام، ويقيم على ذلك الأدلة؛ فتراه - مثلا - يحارب التطير والتشاؤم، فيقص لذلك قصة لطيفة فيقول: «جعت حتى أكلت الطين، وكان علي جبة وقميصان، فنزعت القميص الأسفل فبعته بدريهمات (لأقتات بثمنه) ثم قصدت فرضة الأهواز فوافيت الفرضة فلم أصب فيها سفينة؛ فتطيرت من ذلك، ثم رأيت سفينة في صدرها خرق وهشم، فتطيرت من ذلك أيضا، فسألت الملاح عن اسمه، فإذا اسمه بالفارسية معناه الشيطان، فتطيرت من ذلك، ثم ركبت معه تصب الشمال وجهي، وينثر الليل الصقيع على رأسي، فلما قربنا من الفرضة ناديت، يا حمال، فكان أول حمال أجابني أعور، فناديت بقارا فليحمل متاعي فأحضر ثورا أعضب القرن، فازددت طيرة إلى طيرة؛ فلما صرت في الخان وجلست فيه سمعت قرع الباب، قلت: من هذا؟ قال: رجل يريدك. قلت: ومن أنا؟ قال: أنت إبراهيم. فظننته عدوا أو رسول سلطان؛ ثم إني تحاملت وفتحت الباب، فقال: أرسلني إليك إبراهيم بن عبد العزيز، وهو يقول: نحن وإن كنا اختلفنا في بعض القالة فإنا قد نرجع بعد ذلك إلى حقوق الأخلاق، وقد رأيتك على حال كرهتها، وما عرفتك حتى خبرني عنك بعض من كان معي، وقال: ينبغي أن يكون قد نزعته حاجة؛ فإن شئت فأقم في مكانك عسى أن نبعث إليك ما يكفيك زمنا من دهرك، وإن اشتهيت الرجوع فهذه ثلاثون مثقالا، فخذها وانصرف وأنت أحق من عذر. فتبين لي أن الطيرة باطلة؛ ثم قال: وعلى مثل هذا يعمل الذين يعبرون الرؤيا».
119
فهو في هذا لا يؤمن بطيرة ولا أحلام، وهو يعرض لما روي في الشعر العربي من أحاديث عن الجن والغيلان وأن بعض الأعراب سمعوهم وحدثوهم، فيحلل ذلك تحليلا نفسيا فلسفيا دقيقا فيقول: «أصل هذا الأمر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء والبعد عن الناس استوحش، ولا سيما مع قلة الاشتغال والمذاكرين والوحدة، ولا تقطع أيامهم إلا بالمنى أو بالتفكير، والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة، وقد ابتلي بذلك غير حاسب ... وخبرني الأعمش أنه فكر في مسألة فأنكر أهله عقله حتى حموه وداووه، وقد عرض ذلك لكثير من الهند؛ وإذا استوحش الإنسان مثل له الشيء الصغير في صورة الكبير. وارتاب وتفرق ذهنه وانتقضت أخلاطه، فيرى ما لا يرى، ويسمع ما لا يسمع، ويتوهم الشيء الصغير أنه عظيم جليل، ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعرا تناشدوه وأحاديث توارثوها، فازدادوا بذلك إيمانا، ونشأ عليه الناشئ، وربى به الطفل، فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس، وعند أول وحشة أو فزعة، وعند صياح بوم ومجاوبة صدى يرى كل باطل ويتوهم كل زور. وربما كان في الجنس والطبيعة تفاحا كذابا وصاحب تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشعر على حسب هذه الصفة، فعند ذلك يقول: رأيت الغيلان وكلمت السعلاة، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: قتلتها، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول رافقتها، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوجتها ... ومما زادهم في هذا الباب وأغراهم به، ومد لهم فيه، أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابيا مثلهم، وإلا غبيا لم يأخذ نفسه قط بتمييز ما يوجب التكذيب والتصديق أو الشك، ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط. وإما أن يلقوا راوية شعر أو صاحب خبر، فالرواة عندهم كلما كان الأعرابي أكذب في شعره كان أظرف عندهم، وصارت روايته أغلب، ومضاحيك حديثه أكثر؛ فلذلك صار بعضهم يدعي رؤية الغول أو قتلها أو مرافقتها أو تزويجها».
120
وهذا تحليل يدل على عقل راجح ونظر دقيق وتفكير حر، ولعل النظام علل هذا تدعيما لرأي المعتزلة الذي سبق من أن الجن لا يراهم الإنس؛ وأن طبيعة تكوين الجن لا تمكن الإنس من رؤيتهم.
ثم هو واسع الحرية في التفكير شديد الجرأة على المحدثين، قليل الإيمان بصحة الحديث، وهو شديد الإيمان بالقرآن، قليل التصديق بما يرويه المفسرون حول الآيات من أخبار، كالذي يرويه في التفسير عكرمة، والكلبي، والسدي، ومقاتل.
وقد ضربنا أمثلة من قبل في بيان مهاجمته للمحدثين وبيان ما في الأحاديث التي رووها من تناقض،
121
ثم هو يحكم العقل في الأحاديث، فإن كان عقله لا يقر الحقيقة التي رواها الحديث أنكر الحديث في شدة غريبة. أسوق لذلك مثلا، وهو أن الأحاديث كثيرة في مدح القط وذم الكلب، وتفضيل الأول على الثاني، فالهرة محبوبة في الإسلام وسؤرها طاهر، والكلب مكروه وسؤره نجس أشد النجاسة، ومع ذلك يقف النظام بجانب عقله ويقول مخاطبا المحدثين: «لقد قدمتم السنور على الكلب. ورويتم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
أمر بقتل الكلاب واستحياء السنانير وتقريبها، وتربيتها، وأنه قال: إنهن من الطوافات عليكم، مع أن كل منفعة السنور إنما هي أكل الفار فقط ... وهو مع ذلك يأكل حمامكم وفراخكم، والعصافير التي يتلهى بها أولادكم، ويأكل الطائر الذي يتخذ لحسنه وحسن صوته، فإن هو عف عن أموالكم لم يعف عن أموال جيرانكم - ومنافع الكلب لا تحصيها الطوامير - ثم السنور مع ذلك يأكل الأوزاغ، والعقارب، والخنافيس، والحيات، وكل خبيثة، وكل ذات سم، وكل شيء تعافه النفس؛ ثم قلتم في سؤر السنور وسؤر الكلب ما قلتم، ثم لم ترضوا به حتى أضفتموه إلى نبيكم
122
صلى الله عليه وسلم ». فترى من هذا جرأته الصريحة العنيفة، حتى إن الجاحظ - وهو يجله إجلال التلميذ الوفي لأستاذه - لا يتمالك بعد أن حكى هذا القول أن يصرخ ويقول: «لا رحم الله النظام ولا من قال بقوله».
والنظام يسير في القول بسلطان العقل إلى آخر حدود السلطان، فهو يرى أيضا في موقف طالب العلم من الكتب ألا يكون حاطب ليل، بل ينبغي أن يتخير مما فيها، ولا يسمح أن يدخل في نفسه إلا الجيد المنتقى، ويقول: «القليل والكثير للكتب، والقليل وحده للصدر - ويقول: إن الكتب لا تحيي الموتى، ولا تحول الأحمق عاقلا ولا البليد ذكيا، ولكن الطبيعة إذا كان فيها أدنى قبول فالكتب تشحذ وتفتق وترهف وتشفي؛ ومن أراد أن يعلم كل شيء فينبغي لأهله أن يداووه، فإن ذلك إنما تصور له بشيء اعتراه، فمن كان ذكيا حافظا فليقصد إلى شيئين أو إلى ثلاثة أشياء، ولا ينزع عن الدرس والمطارحة - ولا يدع أن يمر على سمعه وعلى بصره وعلى ذهنه ما قدر عليه من سائر الأصناف، فيكون عالما بخواص، ويكون غير غفل من سائر ما يجري فيه الناس»،
123
فهو لهذا يضع منهجا بديعا للدرس، فينقد من يسير في تعلمه على طريقة حشو المعلومات في الذهن حشوا، ولا يعجبه قول ابن يسير:
أما لو أعي كل ما أسمع
وأحفظ من ذاك ما أجمع
ولم أستفد خير ما قد جمع
ت لقيل هو العالم المصقع
فكان يقول: «كلف ابن يسير الكتب ما ليس عليها»، فهي لا تصير البليد عالما، فالعلم ليس في جمع الكتب وحفظ ما فيها، وإنما هو بالتعقل. كما أن النظام أوضح فكرة في التعليم كان يظن أنها جديدة، فهو يرى أن العالم يجب أن تكون له ثقافتان: ثقافة عامة فيأخذ من كل شيء بطرف، وثقافة خاصة، وهي أن يتخصص في بعض الفروع ويتعمق فيها ويتبحر:
ومن أثر إيمانه بسلطان العقل جرأته كذلك في نقد الصحابة ووضعهم موضع سائر الناس وتشريح أعمالهم السياسية وآرائهم الفقهية، وقد أشرنا إلى طرف من ذلك قبل.
124
وقد ذكر ابن أبي الحديد أن النظام ألف كتابا اسمه كتاب النكت، انتصر فيه لكون الإجماع ليس بحجة. فاضطره ذلك إلى أن ذكر عيوب الصحابة، فذكر لكل منهم عيبا، ووجه إلى كل منهم طعنا. وقال في علي إنه لما حارب الخوارج يوم النهروان كان يرفع رأسه إلى السماء تارة ينظر إليها، ثم يطرق إلى الأرض فينظرها تارة أخرى، يوهم أصحابه أنه يوحى إليه. ثم يستمر النظام في نقده على ذلك النهج - وقد رد عليه ابن أبي الحديد وأقر بصحة الخبر: أن عليا كان يرفع رأسه إلى السماء تارة ويطرق تارة، وفسر ذلك بأنه حيث كان يرفع رأسه كان يدعو ويتضرع إلى الله، وحيث يطرق كان يغلبه الهم والفكر إلخ
125
وهذا مثل لجرأته النادرة في النقد.
هذا والمحدثون يكرهونه كرها عميقا، وهذا طبيعي بعد الذي ذكرنا من مهاجمته لهم، وهم يصورونه فاسقا سكيرا. فيقول ابن قتيبة: «وجدنا النظام شاطرا من الشطار يغدو على سكر ويروح على سكر، ويبيت على جرائرها، ويدخل في الأدناس، ويرتكب الفواحش والشائنات؛ وهو القائل:
ما زلت آخذ روح الزق في لطف
وأستبيح دما من غير مجروح
حتى انثنيت ولي روحان في جسدي
والزق مطرح جسم بلا روح
126
ومثل ذلك في الأنساب للسمعاني.
والأغاني يصوره محبا لجمال الغلمان، فيروي أنه لقي غلاما حسن الوجه فاستحسنه وأراد كلامه فعارضه، فقال له: يا غلام إنك لولا ما سبق من قول الحكماء مما جعلوا به السبيل إلى مثلك في قولهم: «لا ينبغي لأحد أن يكبر عن أن يسأل، كما أنه لا ينبغي لأحد أن يصغر عن أن يقول» لما أتيت لمخاطبتك ولا انشرح صدري لمحادثتك، لكنه سبب الإخاء وعقد المودة، ومحلك من قلبي محل الروح من جسد الجبان. فرد عليه الغلام بقول للنظام، وهو لا يعرفه. فقال له النظام: إنما كلمتك بما سمعت، وأنت عندي غلام مستحسن، ولو علمت أن محلك مثل محل «معمر» في الجدل لما تعرضت لك».
127
وقال فيه أبو نواس يهجوه:
قولا لإبراهيم فولا هترا
غلبتني زندقة وكفرا
إن قلت ما تشرب؟ قال خمرا ... ... ... ... ...
أو قلت ما تترك؟ قال برا
أو قلت ما ترهب؟ قال بحرا
أو قلت ما تقول؟ قال شرا
أصلاه ربي لهبا وجمرا
ولكن أبا نواس لا يعتد يهجوه فليس في هجائه مقياس الصدق، فقد هجا أبا عبيدة ورماه باللواط، وهجا قطربا النحوي كذلك. وابن الأعرابي وأبان اللاحقي إلخ؛ وهجا كل من كان يضايقه حتى هجا رمضان لأنه بالصوم يضايقه؛ وهجا المطر لأنه أفاته موعد حبيب. وقال الجاحظ في البخلاء: «كان أبو نواس يرتعي على خوان إسماعيل بن نوبخت كما ترتعي الإبل في الحمض بعد طول الخلة. ثم كان جزاؤه منه أنه قال:
خبز إسماعيل كالوشى
إذا ما شق يرفا
والمعتزلة ينكرون هذا كله ويجعلونه من وضع المحدثين والمجان، ويحمدون للنظام دينه ومواقفه في الدفاع عن الإسلام، فقد رد على الدهرية والملحدين، وقضى حياته هو وأمثاله في حياطة التوحيد ونصرته، والذب عنه عند طعن الملحدين فيه، وشغلوا أنفسهم بالإجابة عن دعاوى الملحدين ووضع الكتب عليهم، إذ شغل أهل الدنيا بلذاتها وجمع حطامها.
128
قال الخياط في الانتصار: «ولقد أخبرني عدة من أصحابنا أن إبراهيم «النظام» رحمه الله قال وهو يجود بنفسه: اللهم إن كنت تعلم أني لم أقصر في نصرة توحيدك، ولم أعتقد مذهبا من المذاهب اللطيفة إلا لأشد به التوحيد، فما كان منها يخالف التوحيد فأنا منه بريء، اللهم فإن كنت تعلم أني كما وصفت فاغفر لي ذنوبي وسهل علي سكرة الموت»،
129
ثم قال الخياط: وهذه هي سبيل أهل الخوف لله والمعرفة به.
ولعله كان يشرب النبيذ على عادة أهل العراق، ويستحسن الجمال على عادة الأدباء، فاستغل المحدثون ذلك وشنعوا عليه.
وعلى الجملة فقد كان «النظام» آية دهره، يروون عن الجاحظ أنه قال: «كان الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له، فإن كان ذلك صحيحا فهو النظام».
130
كان ذا ثقافة واسعة، من ثقافة أدبية - فهو يحفظ كثيرا من الأشعار والأخبار - وثقافة دينية، فقد روى المرتضى أنه قرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وتفسيرها، إلى معرفة فقهية واسعة في الأحكام والفتيا، إلى ثقافة فلسفية، فقد قرأ بعض كتب أرسطو ورد عليه. قال المرتضى: «ذكر جعفر ابن يحيي البرمكي أرسططاليس، فقال النظام: قد نقضت عليه كتابه، فقال جعفر : كيف وأنت لا تحسن أن تقرأه؟ فاندفع (النظام) يذكر شيئا فشيئا وينقض عليه، فتعجب منه جعفر».
131
وقال الشهرستاني: «إن (النظام) قد طالع كثيرا من كتب الفلسفة، وخلط كلامهم بكلام المعتزلة». وقال في موضع آخر: «إن أكثر ميله أبدا إلى تقرير ومذاهب الطبيعيين (من الفلاسفة) دون الإلهيين».
آراؤه الكلامية:
اهتم النظام بالدفاع عن الإسلام، والرد على الملحدين؛ وخصص جزءا كبيرا من زمنه في الرد على الدهريين، وهم فرقة كانت منتشرة في زمن النظام في العراق وغيره، لا تؤمن بدين ولا تقر بإله، ولا تؤمن إلا بالمحسوس، ولا تعتقد أن وراء هذا العالم المادي عالما، فلا معاد ولا ثواب ولا عقاب،
132
ونسبتهم إلى الدهر أخذا من حكاية الله عنهم قولهم:
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر .
هم يقولون بقدم العالم وأبديته، وما يحدث في العالم فإنما يحدث بقوانينه الطبيعية، فهم أشبه بما نسميهم اليوم الماديين أو الطبيعيين؛ ويظهر أن تعاليمهم لم تكن في كل العصور ولا كل الفرق واحدة، ولذلك اختلف مؤرخو العقائد في حكاية أقوالهم. وقد استبدوا أكثر تعاليمهم من مذاهب فلسفية يونانية قديمة. وقد تسلسل هذا المذهب الطبيعي من فلاسفة اليونان إلى القرون الوسطى، ثم ترقى في العصور الحديثة على يد أصحاب مذهب النشوء والارتقاء وغيره من الطبيعيين، كما تسلسل الرد عليهم من اليونانيين أنفسهم إلى فلاسفة القرون الوسطى، ومنهم المعتزلة وعلى رأسهم النظام إلى العصور الحديثة، وفي مقدمتهم جمال الدين الأفغاني في رسالته الرد على الدهريين.
133
وقد بقيت لنا من ردود النظام عليهم بعض فقر حكاها عنه الجاحظ في كتاب الحيوان؛ فحكى عن النظام أنه قال: «إن الدهرية قالت في عالمنا هذا أقاويل؛ فمنهم من زعم أنه من أربعة أركان، حر وبرد ويبس وبلة، وسائر الأشياء نتائج وتركيب وتوليد، وجعلوا هذه الأربعة أجساما؛ ومنهم من زعم أن هذا العالم من أربعة أركان: أرض وهواء وماء ونار،
134
وجعلوا الحر والبرد واليبس والبلة أعراضا لهذه الجواهر، ثم قالوا إن سائر الأراييح والألوان والأصوات ثمار هذه الأربعة على قدر الأخلاط في القلة والكثرة والرقة والكثافة إلخ».
135
ثم أطال في الرد عليهم، وكان رده من الناحية الطبيعية العقلية، لا من الناحية الدينية.
136
كما رد على الديصانية في قولهم: «إن أصل العالم إنما هو من ضياء وظلام، وأن الحر والبرد واللون والطعم والصوت والرائحة إنما هي نتائج لهما على قدر امتزاجهما». وقد أدى هذا البحث مع هؤلاء وهؤلاء وغيرهم إلى إثارة مسائل طبيعية كثيرة - فإن سأل سائل: ما الذي دعا المعتزلة إلى ولوج هذه المسائل؟ فالجواب الآن واضح، وهو أن كثيرا من الفرق الأخرى كالدهرية والديصانية كانت تشرح نشوء العالم شرحا طبيعيا وترجعه إلى عناصر أساسية، وتأخذ في شرح الظواهر الطبيعية المترتبة على هذا الأصل، فتعرض المعتزلة للرد عليهم في أصولهم وفروعهم؛ فإذا هم أمام أبحاث طبيعية صرفة - مثال ذلك ما أثاره النظام من نظرية «الظهور والكمون»: فالنار في العود قبل أن يحترق، هل هي موجودة؟ وإن كانت موجودة فهل هي على سبيل المجاورة أو المداخلة؟ فكان النظام يرى أن في الحجر والعود نارا كامنة، ومن أنكر ذلك لزمه أن يقول: إنه ليس في السمسم دهن ولا في الزيتون زيت ولا في الإنسان دم قبل أن يشرط، وكان ليس بين من أنكر أن يكون الصبر مر الجوهر، والعسل حلو الجوهر قبل أن يذاقا، وبين السمسم والزيتون قبل أن يعصرا فرق، ويلزمه أن يقول إن حلاوة العسل، وحموضة الخل، وسواد القار، وبياض الثلج، وحمرة العصفر، وصفرة الذهب، وخضرة البقل، إنما تحدث عند الذوق وعند الرؤية، فإذا وصلوا إلى ذلك دخلوا في باب الجهالات، وكانوا كالذين زعموا أن القربة ليس فيها ماء وإن ثقلت، وإنما يخلق الماء عند حل رباطها، وكذلك فليقولوا في الشمس والقمر والكواكب والجبال إذا غابت عن أبصارهم - وفرع النظام القول بالكمون، وبالغ في التوليد منه والتأكيد عليه، حتى زعم أن التوحيد لا يصح مع إنكار الكمون؛ لأن إنكاره إنكار للطبائع ودفع للحقائق. وقد أطال الجاحظ في شرح مذهب النظام في الكمون وزاد هو على نظريته، وداخل بين كلامه وكلامه مما لا يسعه المقام، فليرجع إليه من شاء وقد سقنا ما ذكرنا مثلا لبحث المعتزلة في الطبيعيات.
137
ويحث النظام في مسألة الجزء الذي لا يتجزأ أو الذرة، وهي قضية دار حولها الجدل طويلا في الفلسفة اليونانية، وألف النظام في ذلك كتابا سماه «الجزء» وأقام البراهين على إنكاره، فكان رأيه أن «لا جزء إلا وله جزء، ولا بعض إلا وله بعض، ولا نصف إلا وله نصف، وأن الجزء جائز تجزئته أبدا ولا غاية له في باب التجزؤ»؛
138
فإن كان قوله من ناحية الإمكان العقلي فهذا صحيح، وإن كان من ناحية الإمكان الفعلي فمحل نظر - وقد شغلت هذه المسألة أفكار كثير من المعتزلة، وسنعود إليها بعد.
كما بحث «النظام» في الطفرة والحركة والسكون، وفسر الطفرة بأن الجسم الواحد قد يكون في مكان ثم يصير إلى المكان الثالث من غير أن يمر بالثاني «على سبيل الطفرة» ومثل لذلك بالدوامة،
139
يتحرك أعلاها أكثر من حركة أسفلها، ويقطع الحز أكثر مما يقطع أسفلها وقطبها - وكل ذلك في زمان واحد، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بالطفرة. وكان يرى أن الأجسام متحركة دائما، وغاية الأمر أن الحركة حركتان: حركة اعتماد، وحركة نقلة، فهي كلها متحركة في الحقيقة، وساكنة في اللغة، وليس الكون إلا حركة، مناقضا في ذلك قول أستاذه العلاف في أن الأجسام قد تسكن حقيقة وتتحرك حقيقة، وأن الحركة والسكون غير الكون.
140
وخالفهما معمر المعتزلي أيضا؛ فكان يرى أن الأجسام ساكنة دائما، وإنما الحركة في اللغة فقط.
وكان «النظام» يرى أن الجوهر مؤلف من أعراض اجتمعت وأن العالم خلق دفعة واحدة على ما هو عليه من معادن ونبات وحيوان، وكل ما في الأمر أن المتأخر منه في الزمان كامن في المتقدم، فالتقدم والتأخر إنما يقعان في ظهورها من كمونها دون حدوثها ووجودها.
وبحث في أشياء كثيرة طبيعية يطول شرحها؛ كبحثه في الأعراض ورؤيتها، وفي الإنسان هل هو الروح فقط أو الروح والجسم، وفي الأصوات، وفي الخواطر، وفي النار والنور، وفي العلل، وفي التولد إلخ. وإنما الذي يهمنا الآن آراؤه الكلامية والدينية.
فقد رقى النظام أصول المعتزلة وزاد فيها ونظمها؛ فوسع القول في توحيد الله على النحو الذي رأيت قبل، وقال: إن الله لا يوصف بالقدرة على الشر، لأن القبح إذا كان صفة ذاتية للقبح ففي تجويز وقوع القبح منه قبح. وزاد في القول بحرية الإرادة عند الإنسان وسيطرته على أعماله، وقد شرحنا قبل أصول المعتزلة، وجزء كبير منها من تنظيم النظام.
ثم له آراء دينية أخرى، كقوله بأن إعجاز القرآن إنما سببه ما فيه من إخبار عن الغيوب؛ كالإخبار عن عالم الغيب؛ وكالإخبار عن أحداث مستقبلة مثل قوله تعالى:
الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين . وقوله:
قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ؛ وإخباره بما في نفوس قوم وبما سيقولونه إلخ؛ «أما التأليف والنظم والأسلوب فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لولا أن الله صرفهم عن الإتيان بمثله».
141
وأنكر الإجماع وقال إنه غير ممكن والعلماء متفرقون في الأمصار على النحو الذي نشاهده، حتى إذا أمكن فقد يجوز أن تجمع الأمة كلها على الضلال من جهة الرأي والقياس كما نقله عنه الجاحظ،
142
فكان لا يؤمن بالإجماع، وكان قليل الإيمان بالقياس، وقليل الإيمان بصحة رواية الحديث، ويكاد لا يؤمن بأصل إلا القرآن والعقل.
وعلى الجملة فكان شخصية غريبة حقا، يشعر هو بقوة شخصيته، وقوة عقليته، فلا يريد أن يقف أمامها شيء؛ فهو يفسر القرآن حسب ما يؤديه إليه عقله، ويخضع ما يرويه المحدثون لحكم عقله؛ ويطلق عقله في نقد ما روي من أعمال الصحابة، وما روي من آرائهم، ولا يرضى عن الفقهاء في كثير من أقوالهم، حتى ولا يرضى عن المعتزلة في مجموعهم، ويهجم على أكبر الفلاسفة فلا يعترف لهم بسلطان؛ فيخطي أرسطو ويخطئ الذريين، ويخطئ الطبيعيين؛ وهكذا كان عقله فوق عواطفه، ورأيه وفكره فوق دينه. يريد أن يخضع كل شيء للمنطق، وفاته أن الدنيا منطق وفن، والإنسان عقل وشعور، والحياة رأي وعاطفة.
وقد كان المعتزلة بعده عيالا عليه؛ قال الجاحظ: «لولا مكان المتكلمين لهلكت العوام من جميع الأمم، ولولا مكان المعتزلة لهلكت العوام من جميع النحل؛ فإن لم أقل ولولا أصحاب إبراهيم وإبراهيم (يعني النظام) لهلكت العوام من المعتزلة، فإني أقول إنه قد أنهج لهم سبلا، وفتق لهم أمورا، واختصر أبوابا ظهرت فيها المنفعة، وشملتهم بها النعمة».
143
الجاحظ
تكلمنا فيما سبق عن الجاحظ الأديب، ونريد أن نتكلم هنا كلمة في الجاحظ المعتزلي.
ولعلنا بعد أن ألقينا بعض الضوء على «النظام» وحياته ومنهجه في البحث، نستطيع أن نقول إن الجاحظ لم يكن أمة وحده، وإنه لم يكن بدعا، ولم تتكون عقليته من عدم، إنما كان وليد النظام ونتاجا له، وصورة من صوره في البلاغة وفي منهج البحث، وفي سعة الاطلاع، وفي تحرير العقل، وفي الشك والتجربة قبل الإيمان واليقين، وربما لم يكن يساوي النظام في حدة الذهن ولا في الجرأة، ولكن ربما فاقه في اطلاعه على كتب الثقافة اليونانية وغيرها أكثر مما اطلع النظام بحكم تقدم الزمان، وازدياد حركة الترجمة والتأليف؛ هذا إلى أن النظام مات شابا في مقتبل حياته، أما الجاحظ فقد عمر طويلا، ولم يمت إلا بعد أن نيف على التسعين، واتصل بالأمراء والخلفاء والعامة، ورزق الحظوة عندهم، ورزقت كتبه الحظوة بما منح من أسلوب فضفاض جذاب طويل متعرج غير ممل.
وكان في حياته لسان المعتزلة المدافع عنها، المناصر لها، الموضح لمشاكلها، الذائد عن حياضها، ولكن - مع الأسف - أدى التعصب البغيض إلى أن يحتفظ الناس بكتبه الأدبية لا الدينية، فكتبه في الاعتزال لم تصل إلينا ولم يسلم من يد المتزمتين ضيقي النظر؛ فقد بقي لنا «البيان والتبيين» و«الحيوان» و«البخلاء» ونحوها من كتب الأدب، ولكن لم يبق لنا مثلا كتابه «الاعتزال وفضله على الفضيلة»، ولا كتابه في «الاستطاعة وخلق الأفعال» و«خلق القرآن» وكتاب «فضيلة المعتزلة» إلى غير ذلك من كتبه الدينية . فالمترجم له من ناحية الاعتزال يحار فيه كما يحار في غيره من المعتزلة، ويحاول أن يجمع نتفا متفرقة هنا وهناك ليتعرف منها مذهبه في الاعتزال، مع أنه المؤلف المكثر والكاتب القدير.
لعل الجاحظ كان أكثر أهل زمانه اطلاعا على أنواع المعارف المعروفة في زمنه، فهو في الأدب مطلع أتم الاطلاع على الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي وشعر المحدثين، ومطلع على أخبار العرب وخطبهم وفصيح قولهم، وفي العلوم الدينية عالم واسع العلم في القرآن والحديث والمذاهب الكلامية، وفي الثقافة اليونانية خبير بها مطلع على دقائقها، وأكبر ما يدل على ذلك كتابه «الحيوان»، فهو عالم بالطبيعيات والإلهيات اليونانية،
144
يعرف ما كتب أرسطو في الحيوان ويكثر النقل عنه، ويسميه «صاحب المنطق» أحيانا ويسميه باسمه أحيانا، وهو عالم بما قاله اليونان في النفس والأخلاق،
145
وينقل عن حنين وبختيشوع
146
وينقل عن سلمويه.
147
وعلى الجملة فقد جمع الجاحظ في عقله كل ثقافة عصره، وقل أن يكون له في ذلك نظير، فقد كان العلماء يبرزون في ناحية من النواحي، فاللغوي لا يعرف الفلسفة، والفيلسوف لا يعرف الأدب، ولكن هذه الإحاطة قل أن نجدها عند غير النظام أولا، والجاحظ من بعده، وقد فاق الجاحظ في ذلك أستاذه. ومن أجل هذا كان للجاحظ فضل على الأدب والفلسفة جميعا، ففي الأدب كان فضله أنه أغزر معانيه، وجعل له موضوعا بعد أن كاد يكون شكلا بحتا؛ فتقرأ رسائله فتجدها ناصعة الأسلوب، غزيرة المعنى، لها موضوع ولها شكل، هذه رسالة في القيان، وهذه رسالة في المعلمين، وهذه رسالة في الغناء، حتى رسالته في الهجاء، وهي رسالة «التربيع والتدوير»، استطاع أن يجعل لها موضوعا علميا، بل لعلها أحسن رسائله لمن شاء أن يعرف أي المسائل العلمية والعقلية والأدبية والفلسفية كان يشغل الناس في عصر الجاحظ. وفضله على الفلسفة أنه صاغها صياغة أدبية قريبة إلى الأذهان، لا كما كان يفعل حنين وبختيشوع الأعجميان؛ فهو يمزج كلام أرسطو بأشعار الجاهليين، وقول الفلاسفة بأقوال الأدباء، ويخرج من ذلك كله إلى نتيجة تلذ القارئ وتغذي العقل.
وهو مع ذلك كله استفاد فائدة كبرى من أستاذه «النظام» ومن المعتزلة عامة في القول بسلطان العقل؛ فليس عبدا للأدب يرويه فقط، بل يرويه وينقده، وليس عبدا لأرسطو وفلاسفة اليونان كما يفعل حنين وبختيشوع وسلمويه، وليس عبدا للحديث كما يفعل المحدثون، بل ينقده ولا يسلم بصحته شيء منه إلا ما استساغه العقل.
فهو يهزأ بروايات العرب عن السعالي وأولاد السعالي من الناس، ويهزأ بما روي من الشعر في رؤية الجن وأحاديث الجن، وينقد العلماء مثل أبي زيد الأنصاري في أنه يروي هذه الأخبار ولا ينقدها، ويرى أن أبا زيد أمين ثقة ولكن ينقصه النقد لأمثال هذه الأخبار،
148
ويهزأ بالخرافات الشائعة في عصره.
149
وينقل عن أرسطو كثيرا من آرائه في الحيوان ثم ينقد بعضها، فيقول مثلا: «وهذا غريب»، ويقول حينا: «ولم أفهم هذا، ولم كان ذلك؟» إلخ
150
بل يهزأ به أحيانا فيقول: «وقد زعم صاحب المنطق أنه قد ظهرت حية لها رأسان، فسألت أعرابيا عن ذلك فزعم أن ذلك حق، فقلت له: فمن أي جهة الرأسين تسعى؟ ومن أيهما تأكل وتعض؟ فقال: فأما السعي فلا تسعى، ولكنها تسعى إلى حاجتها بالتقلب كما يتقلب الصبيان على الرمل؛ وأما الأكل فإنها تتعشى بفم وتتغدى بفم، وأما العض فإنها تعض برأسيها معا - فإذا به أكذب البرية».
151
ثم هو يجرب بنفسه في الحيوان والنبات، ويفضل التجربة على كل نقل، فيصف معركة رآها بين جرذ وسنور.
152
ووصف برنية زجاج فيها عشرون عقربا وعشرون فارا، ووصف ما فعلت العقارب بالفئران.
153
ويقول إن الناس يقولون إن الأفاعي تكره ريح السذاب والشيخ، أما أنا فإني ألقيت على رأسها وأنفها من السذاب ما غمرها فلم أجد على ما قالوا دليلا.
154
وهو يسأل الجزارين ويصحح منهم أخبارا كاذبة شاعت عند الناس،
155
ويسأل الحوائين فيما يتعلق بالحيات.
156
ثم له الملاحظات الدقيقة والتوجيهات اللطيفة حتى في أدق الأمور، كأن يتساءل: لم يناغي الطفل المصباح؟ فيقول: «إن الطفل لا يناغي شيئا كما يناغي المصباح، وتلك المناغاة نافعة له في تحريك النفس وتهييج الهمة، والبعث على الخواطر في فتق اللهاة وتشديد اللسان، والسرور الذي له في النفس أكرم الأثر».
157
ويبحث في الألوان هل أصلها السواد أو البياض وتختلف الألوان بقدر المزاج أو لا، والعلاقة بين البياض والضياء، ويبحث في السبب الذي من أجله تختلف ألوان النيران وألوان السحاب.
158
ويبحث في لغة الحيوان ونشوئها وترقيها من القط والكلب إلى القرد وعدد الحروف التي تنطق بها،
159
إلى كثير من أمثال هذه المباحث الطريفة. ثم هو ينقد الآراء الشائعة بعقله العلمي، فلا يؤمن بأقوال الناس أن في حمص طلسما يمنع العقارب من أن تعيش فيها، ويعلل ذلك باحتمال وجود حيوان مضاد للعقرب يمنعها من أن تعيش في هذا البلد. ويهزأ بوجود طلسم يمنع البعوضة إذا عضت أن تكون لها حرقة، فيكذب ذلك بأن بعوضة عضت ظهر قدمه بعيد المغرب فلم يزل منها في أكال وحرقة إلى أن سمع أذان العشاء.
160
ويبحث في العين وتأثيرها بحثا علميا.
161
ويبحث فيما شاع عند الناس من المسخ وما ورد في ذلك من الآثار، ويعرض لأقوال الطبيعيين والعلماء في ذلك مع الحجج العقلية.
162
فلو قلنا إن الجاحظ كان أوسع أهل زمانه معرفة لم نبعد. ولو بقيت لنا كتبه كلها، وجمعنا ما فيها، ورتبناه ترتيبا أبجديا لخرج لنا منها «دائرة معارف» شاملة وافية دالة على معارف عصر الجاحظ.
ولنعد بعد ذلك إلى ناحية الجاحظ الاعتزالية.
قال المرتضى في المنية والأمل: «إن الجاحظ أغرى بشيئين: كون المعارف ضرورية، والكلام على الرافضة».
163
فأما أن المعارف ضرورية، فهي عبارة غامضة، ما الذي يقصد بها الجاحظ؟ لعله مما يلقي ضوءا على هذه العبارة النصوص الآتية:
قال الأشعري: قال الجاحظ: «ما بعد الإرادة فهو للإنسان بطبعه، وليس باختيار له، وليس يقع منه فعل باختيار سوى الإرادة».
164
وقال الشهرستاني: قال الجاحظ: «إن المعارف كلها ضرورية طباع، وليس شيء من ذلك من أفعال العباد، وليس للعباد كسب سوى الإرادة، ويحصل أفعاله طباعا».
165
وهذه المسألة جرى فيها الخلاف بين علماء الكلام في عصر الجاحظ وبعده: هل المعارف ضرورية أو نظرية؟ ويعنون بالضرورية أنها تحصل بلا اكتساب وبلا نظر، وبأنها نظرية أنها تحصل بالاكتساب والنظر؛ فكان الفخر الرازي يرى كالجاحظ أنها ضرورية، وكان إمام الحرمين والغزالي يريان أنها نظرية؛ ويرى غيرهم أن بعضها ضروري وبعضها نظري، وفي ضوء هذا يمكننا تفسير رأي الجاحظ.
وقد جر المعتزلة إلى البحث في هذا الموضوع مسألتان هما: (1)
هل الإنسان يخلق أفعال نفسه أو يخلقها الله فيه؟ (2)
والأفعال المتولدة من فعل؛ هل تنسب إلى الفاعل أو لا تنسب؛ فإذا رمى حجرا في الماء فتولدت منه دائرة ودائرة ودائرة، هل تنسب إليه؟ وإذا أشعل عودا فأحرق البيت، وتولد عن الإحراق موت أشخاص، وتولد من الموت أحداث، هل تنسب إلى من أشعل العود؟ وقد تقدم بحث هاتين المسألتين؛ فكان «ثمامة بن الأشرس» من أعلام المعتزلة يرى أن الأفعال المتولدة لا فاعل لها؛ فقد يفعل شخص فعلا، ويتولد بعد موته عنه أفعال، فلا يمكن نسبتها إلى الميت، وإذا كانت قبيحة فلا يمكن نسبتها إلى الله، لأنه لا يفعل القبيح، فهي أفعال لا فاعل لها، فيجب أن نقول ذلك في كل المتولدات.
166
ويظهر أن الجاحظ كان يرى هذا الرأي فأداه إلى القول بأن المعارف ليست من فعل الإنسان، لأنها متولدة إما من اتجاه الحواس أو من اتجاه النظر. ولذلك قال إن الإنسان في تحصيل معارفه ليس له إلا توجيه الإرادة، وما يحدث بعد ذلك فاضطرار وطبيعة؛ فإذا أنت فتحت عينك فأدركت أن هذا الشيء أحمر، وهذا أصفر، وأن هذا أكبر من ذاك، ففتحك لعينك عمل إرادي اختياري كسبي، وأما المعارف التي تحصل منه، أو بعبارة أخرى تتولد منه، فاضطرارية؛ وكذلك الشأن في توجيه الفكر إلى البحث واستعراض البرهان، فتوجيه النظر عمل إرادي، ولكن اقتناع الناظر أو عدم اقتناعه وتحصيل العلم به عمل ضروري أو اضطراري لا كسبي.
ومعارف الإنسان معارف بطبعه؛ فهو يلتقم الثدي بطبعه، ويألم ويطرب بطبعه، فإذا نما عقله طبيعيا نمت معارفه طبيعية، فبدأ يدرك أن الكل أكبر من الجزء، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين، وهو بطبعه يتطلب الفكر والنظر ، وهو بطبعه يقبل ما صح لديه من برهان ويرفض ما لم يصح عنده.
ولعل توسع الجاحظ في هذا الباب أداه إلى تضييق دائرة الكافرين الذين يعاقبون على كفرهم؛ فمن لم تبلغه الدعوة فليس بآثم، ومن بلغته ولم يؤده النظر إلى الإيمان بها فليس بآثم؛ إنما يأثم من قام لديه البرهان على صحة الدعوة وعاند. وهذا ما حكاه الغزالي عنه في ذلك: «ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية إن كان معاندا على خلاف اعتقاده فهو آثم، وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم، وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر فهو أيضا معذور؛ وإنما الآثم المعذب هو المعاند فقط، لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. وقد عجزوا عن درك الحق ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى إذ استد عليهم طريق المعرفة».
167
فهو بهذا يرى أن الأوربيين مثلا وغير الأوربيين والعالم كله ناجون إلا فئة قليلة وصل بها بحثها إلى أن الإسلام حق، ثم عاندت في قبول الإسلام حرصا على جاه أو رياسة دينية أو نحو ذلك من الأسباب. وقد رد عليه الغزالي بأن هذا الرأي ليس بمحال عقلا، ولو ورد به الشرع لكان جائزا، ولكن الشرع أتى بعقاب قوم لم ينظروا، وكان في مكنتهم أن ينظروا؛ بل إنا نرى الغزالي مضطربا في هذا الموضوع، فأحيانا يتشدد ويرد على الجاحظ في رأيه هذا كما في كتابه المستصفي، وأحيانا يذهب مذهبا قريبا من مذهب الجاحظ كما في كتابه «فيصل التفرقة».
ووجه ما ذهبنا إليه من ربطنا قول الجاحظ في هذه المسألة بقوله إن المعارف ضرورية، أنه لما رأى أن المعارف ضرورية استتبع ذلك أن آراء الإنسان وعقائده ليست مكتسبة، بل هي مفروضة عليه فرضا، وأنها نتيجة حتمية لكيفية تكوين عقله وما يعرض من الآراء، وأنها تفاعل طبيعي بين هذين العاملين، فمن عرض عليه دين فلم يستحسنه عقله فهو مضطر إلى عدم الاستحسان، وليس في الإمكان أن يستحسن؛ فمن أسلم عن نظر فإسلامه ضروري غير مكتسب، ومن كفر فكفره ضروري غير مكتسب؛ وليس للإنسان من الأعمال المكتسبة إلا توجيه الإرادة، فإذا وجهها فما بعد ذلك من كفر وإيمان لا دخل له فيه. وحينئذ لا يكون مسئولا عن اعتقاده، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها؛ فمن أصيب بعمى اللون فرأى الأحمر أسود فلا لوم عليه في ذلك، إذ ليس في استطاعته إلا أن يفتح عينه أو يقفلها، أما أن يرى هذا أسود أو أحمر فلا دخل له فيه ، وكذلك الشأن في المعقولات.
هذا ما استطعت أن أفهمه من قول الجاحظ: «إن المعارف ضرورية»، ومن قول المرتضى، إنه أغرى بذلك. ولست أرى في هذا الرأي تناقضا بينه وبين مبدأ المعتزلة العام، وهو أن الإنسان يخلق أفعال نفسه، لأنه إذا قال بسيطرة الإنسان على إرادته لم يخالف المبدأ العام، وإن قال إن ما تولد بعد ذلك طبع وضرورة.
بل يظهر أن الجاحظ توسع في نظرية «الطباع» هذه إلى أقصى حد، ونظر إليها نظرة واسعة تشمل العالم حتى الأخرى. ومن الأسف أنه لم ينقل إلينا من ذلك إلا رموز لا تكفي كفاية تامة لشرح النظرية؛ فالشهرستاني يقول: إن الجاحظ «كان يقول بإثبات الطبائع للأجسام كما قال الطبيعيون من الفلاسفة وأثبت لها أفعالا مخصوصة بها؛ وقال باستحالة عدم الجواهر، فالأعراض تتبدل والجوهر لا يجوز أن يفنى. وقال في أهل النار إنهم لا يخلدون فيها عذابا، بل يصيرون إلى طبيعة النار. وكان يقول: النار (أي نار الآخرة) تجذب أهلها إلى نفسها دون أن يدخل أحد فيها».
168
وهي عبارة - على إيجازها - تدل على معان عديدة، فهو يقرر فيها القوانين الطبيعية للأشياء؛ فللماء وللنار ولأشياء هذا العالم كلها قوانين طبيعية لا تتخلف، وهو يقرر المبدأ الهام الحديث وهو أن المادة لا تنعدم، فهو يقول: «الجوهر لا يجوز أن يفنى» وإنما تتغير الأعراض؛ فجوهر المادة ثابت لا ينعدم وإنما يتحول ويتغير فيكون مرة ماء، ومرة زرعا، ومرة معدنا، ومرة خشبا، وهذه كلها أعراض طارئة على المادة، وإن شئت فقل: إنها طارئة على العناصر الأولية التي تتكون منها المواد.
بل يذهب في ذلك إلى رأي غريب حتى في الآخرة؛ يرى أن طبيعة أهل النار وفاق للنار، وعلى هذا النمط طبيعة أهل الجنة وفاق للجنة؛ فأهل النار بطبيعتهم يعلنون النار عن أنفسهم، فهي تجذبهم إليها بطبيعتها وطبيعتهم.
وأما المسألة الثانية التي ذكرها المرتضى، وذكر أن الجاحظ أغرم بها، وهي الكلام على الرافضة؛ فقد بقي لنا مما كتبه الجاحظ فيها نتف قصيرة من رسالته في «استحقاق الإمامة» - والرافضة فرقة من الشيعة سميت بذلك لأنه لما خرج زيد بن علي بن الحسين سئل عن رأيه في أبي بكر وعمر فأحسن القول فيهما وترحم عليهما، فرفضه قوم من الشيعة من أجل توليه لهما فسموا رافضة، وانقسم الشيعة إذ ذاك إلى فريقين: رافضة وزيدية، وكلاهما يفضل عليا على أبي بكر وعمر، ولكن الزيدية أقل طعنا عليهما وأعدل حكما فيهما كما سيأتي.
وقد وقف الجاحظ في هذه الرسالة موقف المدافع عن أبي بكر وعمر، واستحقاقهما الإمامة بعد أن ذكر - في أقوى بيان - الحجج التي لجأ إليها الزيدية والرافضة في تفضيل علي عليهما، ثم أخذ يرد عليهما حجة حجة. وخلاصة رأيه، كما تدل عليه هذه الشذور المتفرقة والمقتطفات المنتثرة: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لم ينص على خليفة، ولم يعين من يتولى بعده، بدليل حديث السقيفة، وأن القرابة لا تصح أن تكون سبب التفضيل، وأن أبا بكر وعمر أولى من علي. وتعرض في ثنايا ذلك إلى البحث في هل يصح أن يكون للمسلمين أكثر من إمام واحد في زمن واحد، فرأى أن هذا لا يصح لما يترتب عليه من المفاسد والمنازعات والخصومات مما يسبب العجز عن درء المفاسد، وتحصيل المصالح على الوجه الأكمل. وأشار في كلامه في هذه الرسالة إلى أن له كتابا خاصا في الرد على الرافضة.
169
ولعله مما يكمل رأيه في استحقاق الإمامة رأيه في بني أمية الذي ذكره في رسالته المعنونة بذلك،
170
فهو يمدح عصر أبي بكر وعمر، وست السنين الأولى من عصر عثمان، فقد كانت أيام ألفة واجتماع كلمة؛ ثم تتابعت الأحداث، وتلاحقت الفتن إلى أن قتل علي، فأسعده الله بالشهادة، وأوجب لقاتله النار واللعنة؛ ثم ذكر معاوية وأنه حول فيه الإمامة ملكا كسرويا، والخلافة غصبا قيصريا، وعدد ما ارتكب من أخطاء، وأكفره من أجل أعماله، ونعى على من ترك إكفاره من أهل عصر معاوية، ومن أهل عصر الجاحظ، فقال: «على أن كثيرا من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره، وقد أربت عليهم نابتة عصرنا، ومبتدعة دهرنا ، فقالوا لا تسبوه فإن له صحبة، وسب معاوية بدعة، ومن يبغضه فقد خالف السنة، فزعمت أن من السنة ترك البراءة مما جحد السنة». واستمر يعدد فظائع يزيد، من قتل الحسين، ورمي الكعبة، وإباحة المدينة، حتى أتى إلى عبد الملك بن مروان فنعى عليه أنه خنق البقية الباقية من الحرية في نقد الخلفاء والولاة، فقال: «وقد كان بعض الصالحين ربما وعظ الجبابرة، وخوفهم العواقب، وأراهم أن في الناس بقية ينهون عن الفساد في الأرض، حتى قام عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف، فزجرا عن ذلك وعاقبا عليه وقتلا فيه، فصاروا لا يتناهون عن منكر فعلوه».
ونقد النابتة من أهل عصره الذين يزعمون «أن سب ولاة السوء فتنة ولعن الجورة بدعة» وعجب من أنهم مجمعون على لعن من قتل مؤمنا متعمدا أو متأولا؛ ثم إذا كان القاتل سلطانا جائرا، أو أميرا عاصيا لم يستحلوا سبه ولا خلعه ولا نفيه ولا عيبه، وإن أخاف الصلحاء، وقتل الفقهاء، وأجاع الفقير، وظلم الضعيف؛ وإنما يتسكعون مرة، ويداهنونهم مرة، ويقاربونهم مرة، ويشاركونهم مرة، إلا بقية ممن عصمه الله.
ومما خلفه الجاحظ في المسائل الدينية بعض نتف من رسالة كتبها يصف فيها أنواع الشراب في عصره، ويحتج فيها لتحليل النبيذ وتحريم الخمر؛ ويظهر من رسالته أنه مع تقريره حل النبيذ لم يكن يشربه.
171
وقد وضع الجاحظ على لسان سائله مزايا النبيذ، واستعمل في ذلك أسلوبه الأدبي، فبالغ في دقة وصفه وأثره في الجسم والنفس بأكثر مما فعل أبو نواس، ورد ردا شديدا جريئا على فقهاء المدينة لتحريمهم النبيذ، منتصرا لرأي العراقيين فيقول: «لعل قائلا يقول: أهل مدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم
ودار هجرته أبصر بالحلال والحرام والمسكر والخمر وما أباحه الرسول وما حظره ... وكلهم مجمع على تحريم الأنبذة المنكرة وأنها كالخمر ... وإنا نقول في ذلك إن عظم حق البلدة لا يحل شيئا ولا يحرمه، وإنما يعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق والسنة المجمع عليها والعقول الصحيحة والمقاييس المعينة». وعاب على أهل المدينة أنهم جلدوا حتى من يحمل الزق الفارغ، «لأنهم زعموا أنه آلة الخمر، وكان يجب على هذا المثال أن يحكم بمثل ذلك على حامل السيف والسكين والسم القاتل، لأن هذه كلها آلات القتل». وختم ذلك بأن أهل المدينة لم يخرجوا من طبائع الإنس إلى طبائع الملائكة، وليس كل ما يقولونه حقا وصوابا.
وقد أفادتنا هذه الرسالة أيضا أن الجاحظ لا يرى العمل بالحديث إلا ما كان مجمعا عليه، كما يدل عليه نصه المتقدم؛ فإذا اختلف الناس في الحديث كأن يصححه قوم ويضعفه آخرون، أو كأن يروي حديث آخر ينقصه فالحكم للعقل؛ ولذلك ترك الأحاديث الواردة في النبيذ، لأن بعضها يفيد الحل، وبعضها يفيد الحرمة، ورجع إلى عقله يحكمه. كما أبان بصراحة أن العقل الصحيح أساس من أسس التشريع، ووضعه في شكل غير الشكل الذي يوضع عادة، وهو القياس المقيد في كتب الفقهاء.
وهاجم في هذه الرسالة رجال الحديث، ورماهم بالقصور في البحث والتنقيب والميل عن التنقير، والانحراف عن الإنصاف، وهذا دأب المعتزلة والمحدثين دائما، متنافرين متباغضين متخاصمين خصومة عنيفة، للاختلاف بينهم في العقلية ومنهج البحث، وبلغ ذلك أشده في فتنة خلق القرآن كما سيأتي.
والجاحظ ينقدهم لأنهم جماعون، لا يعملون عقولهم فيما يروون، يقول: «ولو كانوا يروون الأمور مع عللها وبرهاناتها خفت المئونة، ولكن أكثر الروايات مجردة، وقد اقتصروا على ظاهر اللفظ دون حكاية العلة، ودون الإخبار عن البرهان».
172
وينقدهم هم والمفسرين لأنهم يميلون إلى الغريب من الألفاظ، والغريب من الأخبار والروايات من غير تمحيص؛ ولذلك تراه فيما يعرض له من الحديث ومن التفسير في كتاب «الحيوان» يحكم العقل في الروايات، ويقف لتفهم العلل، ويفسر تفسيره حسب المعقول وطبائع الأشياء.
ثم كان زعيم المعتزلة في زمنه في الدفاع عن مبادئها، والمتوسع في مسائلها، والمقرر لها، ويقف في وجه من يتعرض لها، يدافع عن نظرية الحسن والقبح، والتعديل والتحوير؛ ويدافع عن نظرية خلق القرآن فيقول: «ثم زعم أكثرهم أن كلام الله حسن ... وأن الإنجيل غير القرآن، والبقرة غير آل عمران، وأن الله تولى تأليفه، وجعله برهانه على صدق رسوله، وأنه لو شاء أن يزيد فيه زاد، ولو شاء أن ينقص منه نقص ... ولو شاء أن ينسخه كله بغيره نسخه، وأنه أنزله تنزيلا، وأنه فصله تفصيلا وأنه بالله كان دون غيره، ولا يقدر عليه إلا هو،
غير أن الله مع ذلك كله لم يخلقه ! فأعطوا جميع صفات الخلق، ومنعوا اسم الخلق ... والعجب أن الذي منعه - بزعمه - أن يزعم أنه مخلوق، أنه لم يسمع ذلك من سلفه، وهو يعلم أنه لم يسمع أيضا من سلفه أنه ليس بمخلوق»
173
إلخ.
وعلى الجملة فقد كان الجاحظ من الرجال القليلين الذين لهم أثر واسع في الأدب وفي الكلام وفي الدين، ورزق الحظوة في أسلوبه، فكان أسلوبا سهلا، عذبا، واسعا، فكها، يتتبع المعنى ويقلبه على وجوهه المختلفة، ولا يزال يولده حتى لا يترك فيه قولا لقائل؛ فلما استعمل أسلوبه هذا في الاعتزال وفي المسائل الدينية قربها إلى الأذهان، وكانت قبله مركزة غامضة لا يدركها إلا الخاصة، فجلا بأسلوبه غامضها، وأوسع ضيقها وقربها إلى كل ذهن يفهم، فاتسعت دائرة المعارف، ووصلت به إلى أذهان لم تكن تسيغ أقوال الفلاسفة والمتكلمين، وأقنع عقول قوم لم يكن يقنعهم القول الموجز، والتعبير المجمل؛ فأي إنسان من قراء العربية بعده لم يكن مدينا له؟ (3-2) فرع بغداد
بشر بن المعتمر
هو أبو سهل الهلال مؤسس فرع الاعتزال في بغداد، وقد اتصل بالفضل ابن يحيي البرمكي، وكان مقربا إليه، وأزهر في أيام هارون الرشيد، وهو شخصية قوية، وله ناحيتان بارزتان: ناحيته الأدبية، وناحيته الاعتزالية.
ففي الأدب: يظهر لي أنه أول مؤسس لعلم البلاغة العربية، وذلك بالصحيفة القيمة التي نقلها الجاحظ عنه في البيان والتبيين؛
174
فقد تعرض فيها لأمور أساسية في البلاغة لم أرها لأحد من قبله، فقد نصح فيها للكاتب: (1)
بأن يتخير أوقات الكتابة فليس كل وقت صالحا لها، فليعمد إلى أوقات الفراغ، وخلو البال، ومواتاة الطبع، فإن ذلك أحرى أن يخرج الكلام عنده سهلا سائغا لا متكلفا ولا معقدا. (2)
ورسم المثل الأعلى للكلام البليغ، وهو أن يكون اللفظ رشيقا عذبا، وفخما سهلا، والمعنى ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا. (3)
وأبان أساس البلاغة، وهو أن يكون الكلام مطابقا لمقتضى الحال «فليس يشرف المعنى بأن يكون من معاني الخاصة، وليس يتضع بأن يكون من معاني العامة، إنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال»، فإذا أمكن الأديب أن يفهم العامة معاني الخاصة ويكسوها الألفاظ التي تقربها إليهم «فهو البليغ التام». (4)
وعرض للألفاظ وأماكنها في الكلام، وأنه يجب أن تقع موقعها، وتحل في مراكزها ونصابها، وتتصل بشكلها، ولا تكون نافرة من موضعها، ولا مكرهة على النزول في غير أوطانها.
فمن لم يجد نفسه أهلا لذلك، وتعصى فكره، فإن كان لعارض عرض، فليترك الكتابة إلى أن تواتيه طبيعته، أما إن تخلف ذهنه وذوقه لا لعلة عارضة، ولكن لعدم استعداد وجمود قريحة، فخير أن يترك الأدب والبلاغة، ويتحول إلى صناعة أخرى هو لها أكثر استعدادا وأشد مشاكلة.
وهذه كما ترى أسس البلاغة. وقد كتبها قبل أن يؤلف الجاحظ كتابه البيان والتبيين، لأن الجاحظ نقلها عنه، ولأن بشرا نضج قبل نضج الجاحظ، ومات قبله بنحو خمس وأربعين سنة - فإن بشرا مات نحو سنة 210 ومات الجاحظ سنة 255، ولا نعلم قبل بشر من تعرض لوضع هذه الأسس في اللغة العربية، فلو أسميناه «مؤسس علم البلاغة» لم نبعد.
ثم كانت له قدرة فائقة في نوعي المخمس والمزدوج من الشعر. قال الجاحظ: «لم أر أحدا أقوى على المخمس والمزدوج مما قوي عليه بشر، وقد كان في ذلك أقدر من أبان اللاحقي».
وقد نبغ في نوع من الشعر يذكر فيه حكمة الله في خلقه وعلى الأخص الحيوان، وقد ذكر له الجاحظ في الحيوان قصيدتين طويلتين في هذا الباب وقال: «أول ما نبدأ قبل ذكر الحشرات وأصناف الحيوان والوحش بشعري بشر بن المعتمر، فإن له في هذا الباب قصيدتين قد جمع فيهما كثيرا من هذه الغرائب والفوائد، ونبه بهذا على وجوه كثيرة من الحكمة العجيبة والموعظة البليغة». ثم ذكر القصيدتين وأخذ في شرحهما؛
175
ونحن نسوق مثلا من شعره في ذلك، قال في أول إحدى القصيدتين:
الناس دأبا في طلاب الغنى
وكلهم من شأنه الختر
كأذؤب تنهشها أذؤب
لها عواء ولها زفر
176
تراهم فوضى وأيدي سبا
كل له في نفثه سحر
تبارك الله وسبحانه
من بيديه النفع والضر
من خلقه في رزقه كلهم
الذيخ والتيتل والغفر
177
وساكن الجو إذا ما علا
فيه ومن مسكنه القفر
والصدع الأعصم في شاهق
وجأبة مسكنها الوعر
178
والحية الصماء في جحرها
والتنفل الرائغ والذر
179
وهقلة ترتاع من ظلها
لها عرار ولها زمر
180
تلتهم المرو على شهوة
وحب شيء عندها الجمر
181
وظبية تخضم في حنظل
وعقرب يعجبها التمر
وإلقة ترغث رباحها
والسهل والنوفل والنضر
182
ولعل قصيدتي بشر بن المعتمر في عجائب صنع الله في الحيوان هما اللتان أوحتا للجاحظ تأليف كتابه «الحيوان».
وله شعر مزاوج، مثل قوله في تفضيل علي على الخوارج:
ما كان من أسلافهم أبو الحسن
ولا ابن عباس ولا أهل السنن
غر مصابيح الدجى مناجب
أولئك الأعلام لا الأعارب
كمثل حر قوص ومن حر قوص
بقعة قاع حولها قصيص
183
ليس من الحنظل يشتار العسل
ولا من البخور يصطاد الورل
هيهات ما سافلة كعاليه
ما معدن الحكمة أهل البادية
فشعره أكثره شعر تعليمي تتعلق بالديانات والمذاهب، والعظة بالنظر في مخلوقات الله، وهكذا. وقد ذكر المرتضى أن له قصيدة أربعين ألف بيت رد فيها على جميع المخالفين. •••
وأما مذهبه في الاعتزال فلم يبق من أقواله إلا نتف قليلة، ويظهر أن أهم ما يحثه مسألة «المسئولية» أو التبعة، فكثير من كلامه يدور في الحقيقة حولها، فقد ذكروا أنه «هو الذي أحدث القول بالتولد وأفرط فيه».
184
وقد سبقت الإشارة إلى معنى التولد. والظاهر أن بحثه في التولد كان الغرض منه تحديد المسئولية، فالعمل يصدر من الإنسان قد تتولد منه أعمال أخرى كالحجر يرمي فيكسر زجاجة، وتتطاير من الزجاجة شظية تصيب إنسانا وهكذا، فإلى أي حد يسأل الإنسان عما يتولد من أعماله. ولم ينقلوا إلينا - مع الأسف - تفصيلا شافيا لرأي «بشر» في هذا .
ومما يدور حول المسئولية أيضا بحثه في أعمال الطفل، هل هو مسئول عنها وهل يعاقبه الله عليها؟ فرأى «بشر» أنه ليس بمسئول وأن الله تعالى قادر على أن يعذبه، ولكنه لو فعل ذلك لكان ظالما إياه، ولكنه رأى أن هذا تعبير غير مستحسن في جانب الله؛ فيحسن أن يعبر عن هذا المعنى تعبيرا ألطف.
ومما يتصل بالمسئولية أيضا قوله: إن من تاب عن كبيرة ثم عاد إليها استحق العقوبة على الجريمة الأولى التي تاب عنها، فإن توبته إنما تمحو المسئولية بشرط ألا يعود. •••
وقد تتلمذ له كثيرو كان من أظهرهم شخصية وأبعدهم أثرا في نشر الاعتزال في بغداد ثلاثة: (1)
أبو موسى المردار. (2)
وثمامة بن الأشرس. (3)
وأحمد ابن أبي داود.
أبي موسى المردار
فأما أبو موسى فاسمه عيسى بن صبيح، وإليه يرجع الفضل في انتشار الاعتزال ببغداد، بشخصيته الزاهدة الورعة الناسكة، وبقوة لسانه وفصاحته، وقدرته على الوعظ وحسن القصص. حضر مجلسه يوما أبو الهذيل العلاف، فسمع قصصه بالعدل وحسن ثنائه على الله، ووصفه له بالإحسان إلى خلقه، والتفضل على عبيده، وإساءتهم إلى أنفسهم، وتقصيرهم فيما يجب لله عليهم، فبكى وقال: «هكذا شهدت مجالس أشياخنا الماضيين من أصحاب أبي حذيفة وأبي عثمان رضوان الله عليهم»؛
185
ومن أجل هذا سمي «راهب المعتزلة». ولما حضرته الوفاة أوصى ألا يورث ورثته من تركته، وأن يفرق ما خلف على المساكين، فقيل له: فلم ذلك؟ فذكر أن ماله لم يكن له، وأنه كان للفقراء، فخانهم إياه، ولم يزل. ينتفع به طول حياته».
186
فهو في هذا اشتراكي عملي متطرف.
والناس يؤثر فيهم هذا المنظر الورع الزاهد، فلا عجب إذا انتشر الاعتزال في بغداد بسلوكه.
وناحيته الاعتزالية من جنس شخصيته؛ فهو غال في الاعتزال؛ شديد الغلو؛ يمعن في تكفير الناس، فلا يسلم من تكفيره إلا القليل، حتى بعض المعتزلة لم يسلم من تكفيره؛ فمن قال إن الله يرى بالأبصار فهو كافر؛ ومن قال إن أعمال العباد مخلوقة لله فهو كافر؛ ومن لابس السلطان فهو كافر لا يرث ولا يورث ،
187
حتى سأله إبراهيم بن السندي مرة عن أهل الأرض جميعا فأكفرهم، فقال له إبراهيم: «هل الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض لا يدخلها إلا أنت وثلاثة وافقوك»؟! وكفر المشبهة والمجبرة، وألف كتابا في ذلك كفر فيه أكثر أهل الأرض. ولعله أول من أشعل النار في بغداد في فتنة خلق القرآن، فقد أثار المسألة بشكل يلفت الأنظار، ويغري بالجدال، فزعم أن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة وبلاغة ونظما.
188
ولعله كان يرى كبعض المعتزلة أن الإعجاز أتى من ناحية معانيه الدينية وإخباره بالمغيبات، ثم بالغ (كعادته) في القول بخلق القرآن، وكفر من قال بقدمه، وقال: من قال بذلك فقد أثبت قديمين.
189
وطبيعي أن هذا القول من أبي موسى يثير الناس للجدل والرد عليه، ويجعلهم يقابلون الغلو بالغلو، وكذلك كان، فقد اتسع الموضوع في هذا الحديث حتى كانت المحنة فيما بعد.
ووقف من الصحابة والأحداث السياسية موقف كثير من المعتزلة، فكان يتبرأ من عمرو بن العاص ومعاوية ومن كان في صفهما، وتوقف في الحكم على عثمان، فلم يحكم عليه بخير ولا شر، لأنه خلط عملا صالحا وآخر سيئا، ولكنه تبرأ من قاتليه؛ وشهد لهم بأنهم من أهل النار.
وكان قول المعتزلة هذا في معاوية وعمرو وحزبهما يوافق هوى العباسيين، لأنهم يكرهون دولتهم، ويحبون كل ما يشوه سمعتهم، فإذا كان من رجال الدين - أمثال المعتزلة - من يتبرأ منهم صادف ذلك هوى في نفوسهم. ولكن هل تأثر المعتزلة في هذا الرأي بالسياسة العباسية؟ أظن أن بعضهم من رجال الدنيا والدين معا تأثروا بذلك، وبعضهم هداه إلى ذلك التفكير الحر، وأظن أن من هؤلاء الأخيرين أبا موسى المردار، فقد كان ورعا زاهدا، ومن كان يكر بالقرب من السلطان لا يبيع رأيه له.
الجعفران
وكان من حسنات «المردار» تلميذاه الجعفران، جعفر بن مبشر وجعفر ابن حرب، سيدا معتزلة بغداد في عصرهما، ومضربا المثل في العلم والعمل. وكان جعفر بن مبشر الثقفي مقدما في الكلام والفقه والحديث والقرآن والنسك والاجتهاد، وألف الكتب الكثيرة في الكلام والفقه، وكان يرى ما يشبه قول أهل الظاهر، فيرى إتباع ظاهر القرآن والسنة والإجماع، ويكره الرأي والقياس، وألف في ذلك كتابا في الرد على أصحاب الرأي والقياس. وكان يناظر بشرا المريسي فيفر بشر منه لقوة حجته. وكان خليفة المردار في الزهد والورع وحسن القصص؛ وقد نقل أهل «عانات» كلهم إلى الاعتزال بحسن تأتيه ورقة قصصه.
190
وقد سأل الواثق أحمد بن أبي داود - وكلاهما معتزلي - لم لا تولي القضاء أصحابنا (من المعتزلة)؟ فقال يا أمير المؤمنين: إنهم يمتنعون عن ذلك، وهذا جعفر بن مبشر وجهت إليه بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها، فذهبت إليه بنفسي واستأذنت فأبى أن يأذن لي.. فكيف أولي القضاء مثله؟
191
ومات جعفر بن مبشر سنة 234.
وجعفر بن حرب الهمداني كان كذلك عالما متكلما زاهدا، درس الكلام في البصرة على أبي الهذيل العلاف، ثم درس في بغداد على أبي موسى المردار، وقد عني بالرد على شيخه العلاف، ووضع فيه كتابا سماه «توبيخ أبي الهذيل». وحكى عنه المرتضى أن أباه كان من أصحاب السلطان خلف له ثروة من ضياع ومال فتجرد جعفر عنها، كما حكى أن جعفرا هذا كان يحضر مجلس الواثق للمناظرة، فحضر مرة وحضر وقت الصلاة فقاموا لها، وتقدم الواثق وصلى بهم، وتنحى جعفر فنزع خفيه وصلى وحده؛
192
فقال له أحمد بن أبي داود: إن هذا (يشير إلى الواثق) لا يحتملك على هذا الفعل، فإن عزمت عليه فلا تحضر مجلسه. فقال جعفر: ما أريد الحضور لولا أنك تحملني عليه، ثم انقطع ومات سنة 236.
وعلى الجملة فإن المردار وتلميذيه الجعفرين قد أظهروا في بغداد نوعا من الاعتزال، ورعا زاهدا، فكانوا أشبه شيء بعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء؛ وكانت سيرتهم سببا في انتشار الاعتزال ببغداد، وضرب المثل بالجعفرين، فكان يقال علم الجعفرين، وزهد الجعفرين، كما يقال عدل العمرين.
ثمامة بن الأشرس
أما ثمامة بن الأشرس - أبو معن النميري - فلون آخر من ألوان الاعتزال؛ ليس بالزاهد، ولكنه المعتزلي المغامر في شئون الدنيا، المتردد على قصور الخلفاء، المنادم لهم، والذي يزين مجالسهم بالكلام العذب في الأدب، والمناظرة في مسائل الاعتزال وغير الاعتزال؛ فقد ملئت كتب الأدب بأحاديثه الممتعة، ونوادره الطريفة. يقول الشهرستاني: «إنه كان جامعا بين سخافة الدين، وخلاعة النفس، مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار على فسقه في غير توبة». أما سخافة الدين فلعله أراد به مذهبه في الاعتزال، ولم يكن سخيفا؛ والمرتضى يصفه بأنه «كان واحد دهره في العلم والأدب، وكان جدالا حاذقا»؛ والجاحظ ينقل عنه كثيرا في إجلال واحترام. وأما خلاعة النفس فيظهر أنه كان يعطي لنفسه حظها في الحياة فينعم بالطيبات، ولا يتورع، ولا يتزهد. اتصل أول أمره بهارون الرشيد، ورمي بالزندقة لحرية رأيه فحبسه الرشيد ثم عفا عنه، وأعجبه عقله فاتخذه نديما؛ ثم علا شأنه في أيام المأمون فكان عنده فوق الوزراء. أراده المأمون ليكون وزيرا له بعد قتل الفضل بن سهل فأبى وقال: «إني لم أر أحدا تعرض للخدمة والوزارة إلا لم يكن لتسلم حاله ولا تدوم منزلته» فقبل المأمون منه ذلك، وقال له: فأشر علي برجل صالح لما أريد، فأشار عليه بأحمد بن أبي خالد الأحول.
193
ومع أن ثمامة هو الذي رشح أحمد بن أبي خالد، فلم يعرف أحمد لثمامة يده، وقال له يوما بحضرة المأمون: يا ثمامة، كل أحد في الدار فله معنى غيرك، فإنه لا معنى لك في دار أمير المؤمنين، فقال له ثمامة: إن معناي في الدار والحاجة إلي لبينة، فقال: وما هي؟ قال: أشاور في مثلك هل تصلح لموضعك أم لا تصلح؟ فأفحم.
194
فلما مات أحمد بن أبي خالد عاد المأمون فأراد ثمامة على الوزارة فأبى، فاستشاره فيمن يصلح، فنصحه بيحيى بن أكثم، بعد أن استوثق ثمامة من يحيى بألا يغدر به كما غدر من قبله، ولكن سرعان ما وقع بينهما الشر.
195
ولعل السبب في ذلك كله ما كان يدور في مجلس المأمون من مناظرات ومباحثات يظفر فيها ثمامة بخصمه لفصاحته وقوة حجته؛ فيحقد ذلك عليه من يناظره، ولو كان هو السبب في نعمته، سيما وقد كان ثمامة لا يرحم مناظره ويلزمه الحجة في قسوة.
وكان لثمامة الفضل في نشر الاعتزال، لقربه من المأمون ومعرفة الناس بأنه يستشار في المناصب؛ حتى يحكي طيفور: «أنه بلغ من مقاربة يحيي بن أكثم لثمامة وطلب المنزلة منه أنه جعل يتعلم القول في الاعتزال».
196
يقول الجاحظ: «قال ثمامة، كان جعفر بن يحيي (البرمكي) أنطق الناس، قد جمع الهدوء، والتمهل والجزالة والحلاوة وإفهاما يغنيه عن الإعادة، ولو كان في الأرض ناطق يستغني بمنطقه عن الإشارة لاستغنى جعفر عن الإشارة كما استغنى عن الإعادة». وقال ثمامة مرة: «ما رأيت أحدا كان لا يتحبس ولا يتلجلج ولا يتنحنح، ولا يرتقب لفظا قد استدعاه من بعد ولا يتلمس التخلص إلى معنى قد تقصى عليه طلبه، أشد اقتدارا ولا أقل تكلفا من جعفر ابن يحيي». يقول الجاحظ بعد هذا القول: «وهذه الصفات - التي ذكرها ثمامة بن أشرس فوصف بها جعفر بن يحيي - كان ثمامة بن أشرس قد انتظمها لنفسه واستولى عليها دون جميع أهل عصره، وما علمت أنه كان في زمانه قروي ولا بلدي، كان بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف، ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما كان بلغه، وكان لفظه في وزن إشارته، ومعناه في طبقة لفظه، ولم يكن لفظه إلى سمعك بأسرع من معناه إلى قلبك». قال بعض الكتاب: معاني ثمامة الظاهرة في ألفاظه، الواضحة في مخارج كلامه كما وصف الخريمي شعر نفسه في مديح أبي دلف حيث يقول:
له كلم فيك معقولة
إزاء القلوب كركب وقوف»
197
وهي شهادة من الجاحظ تعترف بأن ثمامة كان أبلغ أهل عصره وأحسنهم منطقا وأقدرهم على أداء المعاني. وحسبك بقول الجاحظ من شهادة. وقد كان ثمامة من شيوخ الجاحظ، نقل عنه كثيرا من أدبه في البيان والتبيين والحيوان، ويقول «أخبرنا ثمامة» و«حدثني ثمامة»، وانتفع به في أسلوبه ومعانيه؛ كما كان - على ما يظهر لي - أستاذه في المجون والفكاهة والنادرة اللاذعة، فما حكى لنا من نودر ثمامة تدل دلالة واضحة على ذلك.
حرض ثمامة المأمون يوما على لعن معاوية وأن يكتب بذلك كتاب يقرأ يوم الدار، ولم يرض عن ذلك يحيي بن أكثم، وقال: يا أمير المؤمنين إن العامة لا تحتمل هذا ولا سيما أهل خراسان، ولا نأمن أن تكون لهم نفرة، وإن كانت لم تدر ما عاقبتها، والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه، وألا تظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصح في السياسة وأحرى في التدبير، فمال المأمون إلى رأي يحيى، وقال لثمامة إن يحيي يخوفني من العامة. فقال ثمامة: وما العامة؟ والله لو وجهت إنسانا على عاتقه سواد ومعه عصا لساق إليك بعصاه عشرة آلاف منها، وقد سواها الله بالأنعام فقال:
أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ، والله يا أمير المؤمنين لقد مررت منذ أيام بشارع الخلد فإذا إنسان قد بسط كساءه وألقى عليه أدوية وهو ينادي: «هذا الدواء لبياض العين والعشاء والغشاوة والظلمة وضعف البصر»، وإن إحدى عينيه لمطموسة ... والناس قد انثالوا عليه يستوصفونه، فنزلت عن دابتي، ودخلت في غمار تلك الجماعة، وقلت: يا هذا، أرى عينك أحوج هذه الأعين إلى العلاج، وأنت تصف هذا الدواء وتخبر أنه شفاء لوجع العين، فلم لا تستعمله؟ فقال: أنا في هذا الموضع منذ عشر سنين ما مر بي شيخ أجهل منك، فقلت: وكيف ذلك؟ قال: يا جاهل أين اشتكت عيني؟ قلت: لا أدري. قال: بمصر. فأقبلت علي الجماعة وقالوا: صدق الرجل وهموا بي. فقلت: والله ما علمت أن عينه اشتكت بمصر. فما تخلصت منهم إلا بهذه الحجة. فضحك المأمون وقال: ما لقيت منك العامة! قال ثمامة: الذي لقيت من الله من سوء الثناء وقبح الذكر أكثر.
198
فثمامة في هذا يدفع المأمون إلى تنفيذ مذهب الاعتزال، وقد بدأ برأي المعتزلة في سب معاوية، وهذه كانت أول خطوة يتلوها ما بعدها، ومنه خلق القرآن كما سترى. وهو يحقر العامة ويحمل الخليفة على ألا يعبأ بهم، لأنهم هم أكبر عقبة في سبيل مذهب الاعتزال الحقيقي.
وله في تحقير العامة الشيء الكثير؛ سأل الرشيد يوما جلساءه عن أسوأ الناس حالا، فقال كل واحد شيئا، حتى جاء دور ثمامة فقال: أسوأ الناس حالا عاقل يجري عليه حكم جاهل. قال ثمامة: فتبينت الغضب في وجه الرشيد (لأنه ظن أنه يعنيه وكان قد حبسه)، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما أحسبني وقعت بحيث أردت، وإنما عنيت حادثة، وهي أن سلاما الأبرش (وكان سجانا) وأنا في السجن كان يقرأ في المصحف:
ويل يومئذ للمكذبين
فقلت له: المكذبون هم الرسل، والمكذبون هم الكفار، فاقرأها
ويل يومئذ للمكذبين
فقال سلام: «قيل لي من قبل إنك زنديق ولم أقبل» ثم ضيق علي أشد الضيق، فجعل الرشيد يضحك.
وهو قوي الحجة: ناظر يحيى بن أكثم بين يدي المأمون في خلق الأفعال فقال ثمامة: ليست تخلو أفعال العباد من أمور: أن تكون كلها من الله ليس للعباد فيها صنع، أو أن يكون بعضها من العباد وبعضها من الله؛ فإن زعمت أن ليس للعباد فيها صنع كفرت، ونسبت إلى الله كل فعل قبيح؛ وإن زعمت أنها من الله ومن العباد كفرت، لأنك جعلت الخلق شركاء الله في فعل الفواحش والكفر؛ وإن زعمت أنها للعباد ليس لله فيها صنع صرت إلى ما أقوله.
ورأى أبو العتاهية يوما ينشد:
إذا المرء لم يعتق من المال نفسه
تملكه المال الذي هو مالكه
ألا إنما مالي الذي أنا منفق
وليس لي المال الذي أنا تاركه
إذا كنت ذا مال فبادر به الذي
يحق وإلا استهلكته مهالكه
فسأله ثمامة: من أين قضيت بهذا؟ قال: من قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» فقال ثمامة له: أتؤمن بأن هذا قول رسول الله، وأنه الحق؟ قال له: نعم، قال ثمامة: فلم تحبس عندك سبعا وعشرين بذرة
199
في دارك ولا تأكل منها ولا تشرب، ولا تزكي، ولا تقدمها ذخرا ليوم فقرك وفاقتك؟ فقال: يا أبا معن والله إن ما قلت لهو الحق، ولكني أخاف الفقر والحاجة إلى الناس. قال ثمامة: وبم تزيد حال من افتقر على حالك، وأنت دائم الحرص، دائم الجمع، شحيح على نفسك، لا تشتري اللحم إلا من عيد إلى عيد؟
ورووا أن المأمون سأل يحيى بن أكثم عن العشق ما هو: فقال يحيى: إنه «سوانح للمرء تؤثرها النفس، ويهيم بها القلب»، فقال له ثمامة: إنما شأنك أن تفتي في مسألة طلاق أو محرم، فقال المأمون: قل يا ثمامة، فقال «العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب مالك، ومالك قاهر؛ مسالكه لطيفة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة؛ ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطي عنان طاعتها، وقياد ملكها، وقوى تصرفها، توارى عن الأنصار مدخله، وغمض في القلوب مسلكه» فقال له المأمون: أحسنت.
قال رجل لثمامة: إن لي إليك حاجة. قال ثمامة: ولي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: لا أذكرها حتى تضمن قضاءها. قال: قد فعلت. قال ثمامة: حاجتي ألا تسألني هذه الحاجة. قال: رجعت عما أعطيتك. قال ثمامة: لكني لا أرد ما أخذت» إلخ.. إلخ.
فهو مناظر قوي، وأديب بارع، وفكه جيد الفكاهة؛ وهو معتزلي ينشر الاعتزال بمناظراته وبقربه من المأمون، ونفوذه في القصر. وقد حكى لنا الشهرستاني أنه كان له فرقة تنتسب إليه وترى رأيه، اسمها «الثمامية»، وقد وسع نظرية التولد التي أشرنا إليها قبل، وقال إن المعارف متولدة من النظر، وهي فعل لا فاعل له كسائر المتولدات، كما توسع في نظرية التحسين والتقبيح العقليين. وقال: «إن العالم فعل الله بطباعه ولعله أراد بذلك ما أراده الفلاسفة من الإيجاد بالذات دون الإيجاد على مقتضى الإرادة».
200
وهذا القول قد حكاه عن ثمامة الشهرستاني، ولكن صاحب الانتصار نفاه عنه وقال إنه من كذب ابن الراوندي عليه، وقال: «إن المطبوع على أفعاله عند أصحاب فعل الطباع هو الذي لا يكون معه إلا جنس واحد من الأفعال كالنار التي لا يكون منها إلا التسخين، والثلج الذي لا يكون منه إلا التبريد، وأما من تكون منه الأشياء المختلفة فهو المختار لأفعاله لا المطبوع عليها»
201
أحمد بن أبي دؤاد
شخصيته من أقوى الشخصيات في عصره - كان له الأثر الكبير في حياة المسلمين وتاريخ الإسلام - هو عربي من إياد، «قيل إن أصله من قرية بقنسرين، واتجر أبوه إلى الشام وأخرجه معه وهو حدث، فنشأ أحمد في طلب العلم وخاصة الفقه والكلام حتى بلغ ما بلغ، وصحب هياج بن العلاء العلمي، وكان من أصحاب واصل بن عطاء فصار إلى الاعتزال».
202
ويروي الخطيب البغدادي أنه ولد بالبصرة سنة 160.
وقد اتصل بالمأمون من طريق يحيي بن أكثم، فكان يحضر مجالس المأمون في الجدل والمناظرة؛ فأعجب المأمون بعقله وحسن منطقه فقربه، وأصبح ذا نفوذ كبير في قصره، وكان من وصية المأمون للمعتصم: «وأبو عبيد الله أحمد ابن أبي دؤاد لا يفارقك الشركة في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع ذلك ولا تتخذن بعدي وزيرا». فلما ولي المعتصم جعل ابن أبي دؤاد قاضي القضاة مكان يحيى بن أكثم، وكان كذلك قاضي القضاة في أيام الواثق، فلما ولي المتوكل أصيب بالفالج وأفل نجمه، فكانت مدة عظمة ابن أبي دؤاد ونفوذه وجاهة نحوا من ثمان وعشرين سنة، من سنة 204، وهي السنة التي عرفه فيها المأمون، إلى 232 وهي سنة خلافة المتوكل. ومات أحمد سنة 240 على ما حكى المسعودي والذهبي وابن خلكان.
كان ابن أبي دؤاد عظيم الجاه، قوي النفوذ، وقد كسب نفوذه من شخصيته الفذة ومكانته من الخلفاء؛ مثل في دولة النفوذ الفارسي المروءة العربية، فكان واسع المروءة، بعيد الهمة، كان مظهر مروءته الكرم الوافر الذي يمتلك به قلوب الناس، وأعلى بكرمه شأن العرب كما أعلى البرامكة بكرمهم شأن الفرس، وكان يقال: «أكرم من كان في دولة بني العباس البرامكة ثم ابن أبي دؤاد».
203
وكان كالبرامكة في أنه يغمر بكرمه أهل الأدب ورجال العلم، فالتف حوله الناس، ثم كان بحكم عربيته يتعصب للعرب ويدفع - ما قدر - السوء عنهم من الفرس والأتراك، وكان عمله في ذلك شاقا لنفوذ الفرس والأتراك في الدولة، فخلص أبا دلف العجلي من يد الإفشين وقد كاد يقتله ، وأنقذ حياة خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني من يد المعتصم، وقصده الشعراء والأدباء لأنه كان أديبا مثلهم، كما كان فقيها متكلما. قال أبو العيناء: «كان ابن أبي دؤاد شاعرا مجيدا، فصيحا بليغا». وقال المرزباني: «وقد ذكره دعبل بن علي الخزاعي في كتابه الذي جمع فيه أسماء الشعراء وروى له أبياتا حسانا»،
204
فمدحه أبو تمام في ديوانه بقصائد كثيرة؛ فمن قوله فيه:
إليك تناهى المجد من كل وجهة
يصير فما يعدوك حيث يصير
وبدر إياد أنت لا ينكرونه
كذاك إياد للأنام بدور
تجنبت أن تدعى الأمير تواضعا
وأنت لمن يدعى الأمير أمير
فما من ندى إلا إليك محله
ولا رفعة إلا إليك تشير
ويقول:
أيسلبني ثراء المال ربى
وأطلب ذاك من كف جماد
زعمت إذا بأن الجود أمسى
له رب سوى ابن أبي دؤاد
ومدحه مروان الأصغر بن أبي الجنوب وغيره. وقد وقف ببابه أبو تمام وجماعة من الشعراء، وقد طالت أيامهم في الوقوف على بابه، فلما دخلوا قال لأبي تمام: أحسبك عاتبا؟ فقال أبو تمام: إنما يعتب على واحد وأنت الناس جميعا فكيف يعتب عليه؟
واتصل به الجاحظ بعد أن كان منحرفا عنه، لأن الجاحظ كان من أتباع محمد بن عبد الملك الزيات، وكان محمد من أعداء أحمد بن أبي دؤاد، فلما أوقع بابن الزيات خاف الجاحظ من ابن أبي دؤاد، وتوقع أن يوقع به، ولكنه عفا عنه وأطلقه، فاتصل بعد ذلك الجاحظ بابن أبي دؤاد، وأهدي إليه كتابه «البيان والتبيين»، وأعطاه ابن أبي دؤاد خمسة آلاف دينار، ومدحه الجاحظ بقوله:
وعويص من الأمور بهيم
غامض الشخص مظلم مستور
قد تسنمت ما توعر منه
بلسان يزينه التحبير
مثل وشى البرد هلهله النسج
وعند الحجاج در نثير
حسن الصوت والمقاطع إما
أنصت القوم والحديث يدور
ثم من بعد لحظة تورث اليسر
وعرض مهذب موفور
205
وفتن به المعتصم حتى ما كاد يرد له طلبا، وكان يقول فيه: «هذا والله الذي يتزين بمثله، ويبتهج بقربه؛ ويعد به ألوف من جنسه» وقال له الواثق: «قد اختلت بيوت الأموال بطلبائك اللائذين بك، والمتوسلين إليك. فقال: يا أمير المؤمنين، نتائج شكرها متصلة بك، وذخائر أجرها مكتوبة لك، وما لي من ذلك إلا عشق اتصال الألسن بحلو المدح فيك». فقال الواثق: يا أبا عبد الله! لا منعناك ما يزيد في عشقك، ويقوي من همتك، فتناولنا بما أحببت.
وهكذا كان ينال من الخلفاء كثيرا، وينفق على الناس كثيرا، ويستحث الخلفاء في عمل الخير للناس وإعطائهم، وتخفيف ويلاتهم؛ لقد وقع حريق بالكرخ فمازال بالمعتصم حتى عوضهم في حريقهم؛ ومرض ابن أبي دؤاد فعاده المعتصم في داره، ونذر المعتصم إن شفاه الله أن يتصدق بعشرة آلاف دينار، فقال ابن أبي دؤاد: فاجعلها لأهل الحرمين، فقد لقوا من غلاء الأسعار عنتا؛ فقال المعتصم: نويت أن أتصدق بها ههنا، وأنا أطلق لأهل الحرمين مثلها. «وقيل للمعتصم: كيف تعوده وأنت لا تعود إخوتك وأجلاء أهلك؟ فقال: وكيف لا أعود رجلا ما وقعت عيني عليه قط إلا ساق إلي أجرا، أو أوجب لي شكرا، أو أفادني فائدة تنفعني في ديني ودنياي، وما سألني حاجة لنفسه قط».
هذا النفوذ الكبير، والجاه العريض في قصور الخلفاء، وفي أوساط العلماء والأدباء، وعلى قضاة الأمصار (إذ كان قاضي القضاة) قد أخطأ فاستعمله في حمل الناس على الاعتزال، وإكراههم على القول بخلق القرآن، فهو أكبر سبب في هذه المحنة، فاستوجب سخط كثير من الناس وضاع مجده وعلو شأنه في كثير من الأوساط، حتى قال محمد بن يحيى الصولي: «لولا ما وضع به نفسه من محبة المحنة لاجتمعت الألسن عليه؛ ولم يضف إلى كرمه كرم أحد»؛ فقد كان موصوفا بالجود والسخاء، حسن الخلق، وافر الأدب، واسع العلم، ولكنه حمل الخلفاء الثلاثة: المأمون، والمعتصم، والواثق، على أن يمتحنوا الناس بالقول بخلق القرآن، فكانت المحنة، وكانت الكارثة، حتى على مذهب الاعتزال نفسه. لقد رأينا قبل أن ثمامة بن الأشرس حاول بعض هذه المحاولات في جعل الاعتزال مذهبا رسميا للدولة، ولكن لم يكن له من الجاه والنفوذ، وحسن مداخلة الخلفاء وسحر التأثير فيهم ما كان لابن أبي دؤاد، فنجح ابن أبي دؤاد حيث فشل ثمامة، أو قل أتم أحمد ما بدأ به ثمامة. •••
هؤلاء الذين ذكرناهم أعلام المعتزلة في البصرة وبغداد، وكان لكل مدرسة من المدرستين ألوان خاصة: (1)
من ذلك أن الاعتزال في البصرة كان مذهبا نظريا، والاعتزال في بغداد كان عمليا متأثرا بالدولة، قريبا من السلطان. (2)
وأن تأثر الاعتزال بالفلسفة اليونانية كان أظهر في مدرسة بغداد منه في مدرسة البصرة، لقوة حركة الترجمة في بغداد، ولأن بلاط الخلفاء كان ملتقى رؤساء المسلمين رؤساء المفكرين من أهل الديانات الأخرى؛ فنرى ثمامة بن الأشرس يقرر أن العالم نشأ عن طبيعة الله، أو بعبارة أخرى أن العالم برز من الله، لأن طبيعة الله من شأنها - طبعا - الإيجاد، ولا يمكن ذلك أن يتخلف، وهذا يؤدي حتما إلى القول بقدم العالم، لأن طبيعة الله لا تتغير؛ وهذا متأثر بآراء أرسطو في قدم العالم وطبيعته، وأنه قانون. وقد أشار إلى هذه الصلة بين هؤلاء المعتزلة وفلاسفة اليونان - الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل»، في أكثر من موضع. (3)
أخذ البغداديون كثيرا من المسائل التي عرض لها البصريون، فوسعوا مدى بحثها، واستفادوا مما نشر من آراء الفلاسفة فيها؛ كمسألة تحيد «الشيء» ومسألة الجوهر والعرض. ولنشرح هاتين المسألتين بعض الشرح: فقد أثار المعتزلة مسألة «هل المعدوم شيء»؛ وبعبارة أخرى: هل «الشيء» يرادف الموجود؟ وكان النظر في أول الأمر تفسيرا لغويا؛ فقد كان سيبويه يقول: «إن الشيء ما يصح أن يعلم ويخبر عنه»، وبناء على ذلك يكون المعدوم شيئا، لأنه يصح أن يعلم أنه معدوم، ويصح أن يخبر عنه؛ وكان غيره يرى أنه مرادف للموجود، فلا يصح أن يطلق على المعدوم أنه شيء. ولكن بعد ذلك نرى أن المسألة تطورت وبحث فيها على هذا النحو: هل المعدوم جوهر ووجوده عبارة عن اتصافه بالأوصاف وقيام الأعراض به أو ليس بجوهر؟ إلى غير ذلك من التفصيلات الواردة في كتب الكلام.
كذلك كان من أظهر المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين الكلام في الجوهر والعرض ، وتابعوا اليونانيين في القول بأن الجوهر ما قام بنفسه، والعرض ما قام بالجوهر ولا يقوم بنفسه، وأطالوا في الفرق بين الجوهر والجسم والعرض، وبحثوا في النفس هل هي جوهر؛ وما الجوهر الفرد، وهل له شكل، وما علاقة الأعراض بالجواهر، وهل الطعوم والألوان والروائح أجسام أو أعراض؟ وقد أطالوا في هذه البحوث، وتعمقوا فيها تعمقا مدهشا، وملئت بها كتب الكلام، وقام خلاف شديد بين البصريين والبغداديين فيها، وقد بقي لنا من ذلك كتاب لأبي رشيد سعيد النيسابوري في آراء البصريين والبغداديين في مسائل الجوهر، وحجج كل فريق مما يطول شرحه.
206
ولعل أهم مسألة وسعها معتزلة بغداد مسألة خلق القرآن.
وإذا كانت هذه المسألة أهم مظهر من مظاهر الاعتزال في هذه الفترة، وكانت الشغل الشاغل للأذهان، والعمل الذي أقام الدولة وأقعدها؛ صح لنا أن نفردها بشيء من التفصيل. (4) مسألة خلق القرآن
لهذه المسألة ناحيتان: ناحية نظرية وقد عرضنا لها من قبل في هذا الجزء
207
وتتضمن الكلام في تحديد موضع النزاع، ورأى كل فريق وحججه؛ والناحية الثانية تاريخ المسألة سياسيا، وتدخل الحكومة في شأنها، وتنفيذها بقوة الدولة، وما جري في ذلك من أحداث، وهذا ما نتعرض له الآن.
قد ذكروا أن القول بخلق القرآن ظهر في آخر الدولة الأموية على لسان «الجعد بن درهم» معلم مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية. قال في سرح العيون: «وهو أول من تكلم بخلق القرآن من أمة محمد، بدمشق؛ ثم طلب فهرب، ثم نزل الكوفة فتعلم منه الجهم بن صفوان القول الذي نسب إليه الجهمية. وقيل إن الجعد أخذ ذلك من أبان بن سمعان، وأخذه أبان من طالوت ابن أعصم اليهودى».
208
وقد قتله خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بالكوفة وكان واليا عليها، وقال: إني أريد اليوم أن أضحي بالجعد؛ فإنه يقول: ما كلم الله موسى تكليما، ولا اتخذ الله إبراهيم خليلا. ولعل الجعد كان مظلوما في هذا، وأنهم استنتجوا من قوله - إن القرآن مخلوق - هذا الاستنتاج البعيد.
ويستنتج من ذلك أن الجعد كان في دمشق، ولكنه بذر بذرته في العراق لما هرب إليه وقتل به.
وقال بذلك أيضا جهم بن صفوان الترمذي الذي قتله سالم بن أحوز بمرو سنة 128؛ فقد كان ينفي الصفات، واستتبع ذلك نفي الكلام، والقول بخلق القرآن.
ثم يحدثوننا أن بشرا المريسي (ويروي بعضهم أنه من أصل يهودي) كان يقول بخلق القرآن في أيام الرشيد، وظل يدعو إلى ذلك نحوا من أربعين سنة، ويؤلف في ذلك الكتب، وقد مات سنة 218.
209
وقد رووا أن الرشيد قال يوما: بلغني أن بشرا يقول القرآن مخلوق؛ والله إن أظفرني الله به لأقتلنه. فأقام بشر متواريا أيام الرشيد.
وورثت المعتزلة هذا القول عن الجعد والجهم، فكانوا يقولون بذلك؛ وزادوا المسألة تفصيلا، ووسعوا فيها الجدل. وقد رأينا «المردار» المعتزلي يتوسع في هذا القول، ويكفر من يقول بقدم القرآن.
ويختلف الباحثون في أن المسلمين تأثروا - في قولهم بخلق القرآن - باليهودية كما يروي ابن الأثير؛ أو بالنصرانية، تقليدا لقولهم في عيسى: إنه كلمة الله، وكلمة الله لا يصح أن تكون مخلوقة، فقلد المسلمون ذلك بقولهم مثل هذا القول في كلام الله.
ولعله مما يؤيد القول الأخير قول المأمون في كتابه الآتي: «فضاهوا به قول النصارى في ادعائهم في عيسى بن مريم أنه ليس بمخلوق، إذ كان كلمة الله».
فيظهر من ذلك أن مسألة خلق القرآن خلقت في آخر الدولة الأموية، وظلت تنمو ويدور حولها الجدل، وتتسع فيها المناظرة، وتؤلف فيها الكتب إلى عهد المأمون. ولكن أحدا من قبل لم يفكر في أن تتخذ هذه المسألة الدين الرسمي للدولة حتى جاء المأمون.
كان المأمون مثقفا ثقافة واسعة عميقة، وشغف من أجل ذلك بالبحث العلمي والأدبي، واتخذ له رجالا يجتمعون في قصره، فيتجادلون ويتناظرون في شتى المسائل: مرة أدبا، ومرة فقها، وحينا تاريخا، وحينا كلاما. وكان عقله عقلا فلسفيا، حرا في تفكيره مع التقييد بأصول الدين. وكان ما يدور في مجالسه من الجدل والمناظرة يتناقل على ألسنة الناس فيتجادلون فيه هم كذلك؛ ويكون جدالهم صدى لجدال القصر.
وإذ كان المأمون على ما ذكرنا من حرية التفكير، كان الاعتزال أقرب المذاهب إلى نفسه، لأنه أكثر حرية وأكثر اعتمادا على العقل؛ فقرب المعتزلة منه، وأصبحوا ذوي نفوذ في القصر، وكان من أظهرهم ثمامة بن الأشرس وأحمد بن أبي دؤاد.
ولكن مع ميل المأمون إلى الاعتزال كان بجانب ذلك مسألة أخرى، وهي هل يظل الاعتزال مذهبا كغيره من المذاهب كالإرجاء ونحوه، كل إنسان حر أن يعتنق منها ما يراه صوابا، ولا دخل للدولة في ذلك، لأن المسألة ليست مسألة كفر وإيمان، إنما هي آراء داخل حدود الإسلام، فلا سبيل إلى الإقناع فيها إلا الحجة والبرهان، أو أن الدولة تتخذ شعارها الاعتزال وتحمل الناس عليه، ويكون المذهب مذهبها الرسمي، كما أن الإسلام دينها الرسمي؟
يظهر أنه كان هناك تياران في هذا، فقد كان هناك فرقة ترى أن الدولة لا شأن لها بذلك، والناس أحرار في اعتقاد ما يرون، والخليفة لا ينبغي أن يدخل في نصرة مذهب على مذهب، وعلى رأس هذا الرأي يحيى بن أكثم قاضي المأمون، ويزيد بن هارون الواسطي؛ فيحيى بن أكثم يقول للمأمون عندما هم بلعن معاوية: «والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه، ولا تظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة، وأحرى في التدبير»، وقد تقدم قوله هذا؛ ويزيد بن هارون يحكي عنه يحيى بن أكثم أن المأمون قال: «لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت القول بخلق القرآن. فقال له بعض جلسائه: ومن يزيد بن هارون حتى يتقيه أمير المؤمنين؟ فقال: إني أخاف إن أظهرته يرد علي فيختلف الناس وتكون فتنة، وأنا أكره الفتنة».
وهناك حزب آخر يحسن للخليفة رأي حمل الناس على ما ثبتت عندهم صحته، وكان من أظهر هؤلاء ثمامة وابن أبي دؤاد.
وشاء القدر أن يضعف الحزب الأول؟ فقد مات يزيد بن هارون سنة 206، وعزل يحيى بن أكثم عن منصب قاضي القضاة سنة 217، وتولى مكانه ابن أبي دؤاد، فرجحت كفة المؤيدين، وحمل المأمون الناس على القول بخلق القران سنة 218.
لم يكن المأمون إمعة يوجه فيتوجه، ولكنه مع قوة شخصيته يتأثر برأي من حوله، وكان على استعداد لذلك؛ فمن قبل أدخل المسائل الدينية في شئون الدولة فأعلن تفضيل علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر، وأغضب بذلك كثيرا من الناس؛ ونادى من قبل بتحليل نكاح المتعة وهو في طريقه إلى الشام لما صح عنده من حديث حل المتعة، فمازال يحيى بن أكثم يروي له الأحاديث في حرمتها عن الزهري، ويقيم له البراهين على حرمتها حتى اقتنع، فأمر بأن ينادى بتحريمها بعد أن كان أمر به.
210
فهو - من قديم - يميل إلى حمل الناس على ما يعتقد أنه الحق في مسائل الدين، ونصره في ذلك وشجعه المعتزلة، لأنهم بالغوا في أصولهم بالقول بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما رأيت قبل؛ وكان كثير منهم يرون أن المؤمنين هم من اعتنقوا أصول الاعتزال، وغيرهم ليس بمؤمن، فحمل الناس على مذهبهم يساوي أو يقرب من دعوة الكفار إلى الإسلام، فإذا نجحوا في حمل الخليفة على أن نسخر الدولة في تعميم رأي المعتزلة، فقد خدموا الإسلام ونشروا العقيدة الصحيحة. وقديما حارب واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد الزنادقة والمستهترين، وحملا بشارا على الهرب لفسقه. وقد كانت مسألة خلق القرآن هي المسألة التي تركز فيها الاعتزال في زمن المأمون لكثرة القول والجدل فيها، ولأنها تبتني على أكبر أصل من أصولهم، وهو التوحيد وعدم تعدد صفات الله، فساعدوا المأمون في ميله، وكان حامل لوائهم هو أحمد بن أبي دؤاد، وظلت هذه المسألة مسألة الدولة والناس من سنة 218 إلى سنة 234.
وسميت في التاريخ بالمحنة، وهي في الأصل الخبرة: محنته وامتحنته: خبرته واختبرته، وامتحنت الذهب والفضة إذا أذبتهما لتخبرهما، والاسم المحنة، واستعمل فيما لقيه الأنبياء من العذاب فصبروا على دعوتهم، كما استعمل فيما لقيه الشيعة من العذاب وصبرهم على بلائهم؛ ثم اشتهر استعماله في اختبار العلماء بالقول بخلق القرآن وما لقوه في ذلك من عذاب.
وقد ذكروا أن المأمون نضجت عنده هذه الفكرة واعتنقها من قديم، فإن صحت الرواية عن المأمون أنه كان يتقي بزيد بن هارون في إذاعة هذا القول، وكان يزيد قد مات سنة 206، دلنا ذلك على أن المأمون كان يفكر في حمل الناس على القول بخلق القرآن قبل هذه السنة؛ ويروي الطبري أنه في سنة 212 أظهر المأمون القول بخلق القرآن، وذلك في شهر ربيع الأول - ثم في سنة 218 امتحن الناس بذلك. فجمعا بين هذه الأقوال يمكن أن نقول إن المأمون كان يتكلم في خلق القرآن في مجالسه الخاصة إلى سنة 212، ثم أعلن رأيه للناس في تلك السنة من غير أن يضطرهم إلى القول به، وظل على هذا الحال ست سنين، ثم كانت الخطوة الأخيرة سنة 218 تحمل الناس على ذلك.
بدأ المأمون في سنة 218 بإرسال كتاب إلى والي بغداد إسحق بن إبراهيم بن مصعب، وهو كتاب مطول حفظ لنا نصه، رواه الطبري في تاريخه وطيفور في تاريخ بغداد.
بدأه بالسبب الذي ألجأه إلى حمل الناس على ذلك، وهو أن خليفة المسلمين واجب عليه حفظ الدين وإقامته، والعمل بالحق في الرعية، «وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة - ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته، ولا استضاء بنور العلم وبرهانه، في جميع الأقطار والآفاق - أهل جهالة بالله وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به، ونكوب عن واضحات أعلامه، وواجب سبيله، وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم، ونقص عقولهم، وجفائهم عن التفكر والتذكر، وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وما أنزل من القرآن، فأطبقوا مجتمعين ... على أنه (أي القرآن) قديم أزلي لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه. وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه الذي جعله لما في الصدور شفاء، وللمؤمنين رحمة:
إنا جعلناه قرآنا عربيا ، فكل ما جعله الله فقد خلقه. وقال:
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور
وقال عز وجل:
كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق
فأخبر أنه قصص لأمور أحدثها بعده وتلا به متقدمها، فقال تعالى:
الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ، وكل محكم مفصل فله محكم مفصل، والله محكم كتابه ومفصله فهو خالقه ومبتدعه، ثم هم الذي جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته مبطل قولهم. ومكذب دعواهم، يرد عليهم قولهم ونحلتهم. ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة؛ فاستطالوا بذلك على الناس، وغروا به الجهال، حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب، والتخشع لغير الله، والتقشف لغير الدين، إلى موافقتهم عليه، ومواطأتهم على سيئ آرائهم، تزينا بذلك عندهم، وتصنعا للرياسة والعدالة فيهم، فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالتهم».
ثم ذكر أن هؤلاء قد زكوا أمثالهم، وقبلت شهادتهم، ونفذت الأحكام بهم، مع دغل دينهم، وفساد عقيدتهم. «وأولئك شر الأمة، ورءوس الضلالة المنقوصون من التوحيد ... وأحق من يتهم في صدقه، وتطرح شهادته، ولا يوثق بقوله ولا عمله، فإنه لا عمل إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام وإخلاص التوحيد».
ثم قال: فاجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فأبدأ بامتحانهم فيما يقولون، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق الله القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلده الله واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه، وخلوص توحيده ويقينه: فإذا أقروا بذلك ... فمرهم بنظر من بحضرتهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك إثبات شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ... واكتب إلى أمير لمؤمنين بما يكون في ذلك إن شاء الله. كتب في «شهر ربيع الأول سنة 218».
نستخلص من هذا الكتاب: (1)
أن المأمون كان يرى أن واجبا عليه تصحيح عقائد الناس الفاسدة ولا سيما إذا تغلغل الفساد إلى أصل من أصول الدين، كالإشراك مع الله في القدم شيئا آخر مثل القرآن. (2)
وأن كثيرا من عامة الناس كانوا يتكلمون في خلق القرآن ويرون أنه قديم، ولهم علماء ومتورعون يدعون إلى ذلك؛ وقد رد عليهم المأمون في كتابه بالحجج من القرآن. (3)
وأن بعض القضاة كان على هذا الرأي من القول بقدم القرآن، وكان يقبل شهادة من يقول بقدمه، وقد يرد شهادة من يقول بحدوثه. (4)
وأن المأمون يرى أن القاضي أو الشاهد لا يوثق بقضائه ولا بشهادته إذا كانت عقيدته غير صحيحة؛ فمن اعتقد قدم القرآن قد ضعف توحيده، وساءت عقيدته، وصار لا يؤتمن على شهادة ولا حكم، وكان مظنة أن يكذب في شهادته، وأن يظلم في حكمه. (5)
فهو لذلك لا يريد أن يولي الأحكام ويزكي الشاهد إلا إذا صح إيمانه، وصح توحيده.
لهذا كانت خطوة المأمون الأولى مقصورة على هذا؛ فلا تعذيب، ولكن لا يتولى أحكامه إلا من وثق به، وهو لا يثق إلا بمن قال: إن القرآن مخلوق، لأنه في نظره برهان صحة عقله وصحة إيمانه؛ فمن لم يكن كذلك يعزل إن كان قاضيا، ولا تقبل شهادته إن تقدم للشهادة. ولا شيء من التهديد في هذا الكتاب وراء ذلك.
والكتاب ظاهر عليه روح الاعتزال، وتعبيرات المعتزلة، وحججهم في التوحيد، كما يظهر فيه طابعهم، فقد كان لها طابع خاص غريب يجمع بين التعصب الحاد وحرية الفكر المفرطة؛ فهم متعصبون أشد التعصب فيما يتصل بتوحيد الله وعدله، لا يقبلون في ذلك هوادة؛ ثم هم أحرار فيما عدا ذلك من الآراء واستعمال العقل والقول بسلطانه. فالمأمون الحر التفكير، الواسع العقل، إذا وصل إلى التوحيد واعتقد أن القول بقدم القرآن يمس هذا التوحيد، خرج عن حريته كالمعتزلة وأبى أن يتولى أحد من القضاة عملا له إلا وحد توحيده.
وإذا علمنا أن المأمون توفي في 18 رجب سنة 218، علمنا أن هذا الكتاب صدر قبل موته بنحو أربعة أشهر، وأرسلت منه صور للأقطار الإسلامية لمصر والشام والكوفة وغيرها، وأمر الولاة أن يفعلوا بقضاتهم كما فعل والي بغداد بقضاتها.
ثم كتب المأمون بعد ذلك إلى إسحق بن إبراهيم أيضا أن يرسل إليه سبعة من كبار المحدثين، وهم محمد بن سعد كاتب الواقدي،
211
وأبو مسلم مستملي يزيد ابن هارون،
212
ويحيي بن معين،
213
وزهير بن حرب أبو خيثمة
214
وإسماعيل ابن داوود وإسماعيل بن أبي مسعود
215
وأحمد بن الدورقي.
216
ويظهر أن هؤلاء كانوا من وجوه المحدثين في بغداد، وممن شنعوا على المأمون بالقول بخلق القرآن، ومن رءوس الذين يقولون بقدمه. ولعل المأمون رأى أنهم إن حضروا أمام الخليفة نفسه كان ذلك أرهب لهم، وحملتهم الهيبة والرهبة على متابعة الخليفة فيما يقول، فينقاد الناس لهم، ويتبعون قولهم فتنقطع الفتنة؛ وقد صدق في حدسه في الشطر الأول، ولم يصدق في الثاني، فأجاب هؤلاء ولم تنقطع الفتنة.
فإنهم لما حضروا امتحنهم المأمون وسألهم جميعا عن خلق القرآن، فأجابوا جميعا إن القرآن مخلوق، فأعادهم إلى بغداد، وأمر إسحاق بن إبراهيم أن يجمع الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث في داره، وأن يقول أمامهم هؤلاء السبعة بمثل ما قالوا به أمام المأمون، ففعلوا وخلى سبيلهم.
217
ولم نجد اسم أحمد بن حنبل بين هؤلاء السبعة؛ إما لأنه لم يكن معروفا إذ ذاك بشدة المعارضة، وأن شهرته في هذا أتت بعد هذا التاريخ؛ أو كما روى بعضهم من أن اسمه كان بين هؤلاء، ولكن ابن أبي دؤاد نصح باستبعاده لأنه يعرف صلابته، فلم يكن من مصلحة القضية أن يكون بينهم. وقد روي أن ابن حنبل حزن لهذا الحادث جدا، وقال: «لو كانوا صبروا وقاموا لله لكان انقطع الأمر، وحذرهم الرجل (يعني المأمون)، ولكن لما أجابوا - وهم عين البلد - اجترأ على غيرهم»، وكان ابن حنبل إذا ذكرهم يغتم ويقول: «هم أول من ثلموا هذه الثلمة».
218
وهذه الحادثة - من غير شك - قوت جانب الحكومة، وفتت في عضد المحدثين والعامة وأحزنتهم، وهيأتهم لأن يرتقبوا البطل الذي يرد على هذا الحادث.
وفي هذه الخطوة الثانية لم يكتف المأمون بأن يحرم من ليس على مذهبه من مناصب الدولة؛ بل أراد أن يحمل الفقهاء والمحدثين على الإقرار بخلق القرآن ولو لم يرد أن يتولى عملا، أو يؤدي شهادة، فكأنه اعتقد أنه - وهو خليفة المسلمين وراعيهم - مسئول عن رعيته؛ ومن هذا أنه مسئول عن توحيدهم، والقول بقدم القرآن شبه إشراك، فيجب أن يرد الناس عن ذلك كما يرد الكافر عن كفره. والخطوة الثالثة أن يقتله كما يقتل المرتد؛ وإذ كان العلماء هم قادة الناس في هذه العقائد، فيجب أن يبدأ بهم وبتصحيح عقيدتهم وبعقابهم إن أصروا، بل بقتلهم أحيانا.
ثم أصدر المأمون بعد ذلك
كتابا ثالثا
لإسحاق بن إبراهيم، بدأه كما بدأ الكتاب الأول بشيء من التفصيل، وأن من الواجب على الخليفة أن يهدي من زاغ ويرد من أدبر، وأن ينهج لرعاياه سمت نجاتهم. ثم قال: «ومما تبينه أمير المؤمنين برويته، وطالعه بفكره، فتبين عظيم خطره وجليل ما يرجع في الدين من وكفه وضرره، ما يناله المسلمون من القول في القرآن الذي جعله الله إماما لهم وأثرا من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
باقيا لهم، واشتباهه على كثير منهم حتى حسن عندهم
وتزين في عقولهم ألا يكون
مخلوقا ...
فضاهوا به قول النصارى في ادعائهم
في عيسى بن مريم أنه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله، والله عز وجل يقول:
إنا جعلناه قرآنا عربيا ، وتأويل ذلك إنا خلقناه، كما قال جل جلاله:
وجعل منها زوجها ليسكن إليها ؛ وقال:
وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا ،
وجعلنا من الماء كل شيء حي ، فسوى عز وجل بين القرآن وبين هذه الخلائق التي ذكرها إلخ ... وقد عظم هؤلاء الجهلة - بقولهم في القرآن - الثلم في دينهم والجرح في أمانتهم، وسهلوا السبيل لعدو الإسلام ... ووصفوا خلق الله وفعله بالصفة التي هي لله وحده، وشبهوه به ... وليس يرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة حظا في الدين، ولا نصيبا من الإيمان واليقين. ولا يرى أن يحل أحدا منهم محل الثقة في أمانة ولا عدالة ولا شهادة ولا صدق في قول ولا حكاية، ولا تولية لشيء من أمر الرعية، وإن ظهر قصد بعضهم وعرف بالسداد مسدد فيهم، فإن الفروع مردودة إلى أصولها، ومحمولة في الحمد والذم عليها، ومن كان جاهلا بأمر دينه الذي أمره الله به من وحدانيته، فهو بما سواه أعظم جهلا ... فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبد الرحمن بن إسحق القاضي كتاب أمير المؤمنين بما كتب به إليك، وانصصهما عن علمهما في القرآن؛ وأعلمهما أن أمير المؤمنين لا يستعين على شيء من أمور المسلمين إلا بمن وثق بإخلاصه وتوحيده، وأنه لا توحيد لمن لم يقر بأن القرآن مخلوق، فإن قالا بقول أمير المؤمنين في ذلك فتقدم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما بالشهادات على الحقول ... فمن لم يقل منهم إنه مخلوق أبطلا شهادته، وإن ثبت عفافه بالقصد والسداد في أمره، وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة، وأشرف عليهم إشرافا يزيد الله به ذا البصيرة في بصيرته، ويمنع المرتاب من إغفال دينه، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن شاء الله».
وليس في هذا الكتاب الثالث جديد إلا التوسع في الحجة والبرهان، والأمر بالتوسع في امتحان الناس، وتقرير أن من لا يقول بخلق القرآن لا يصلح لتولي عمل ما؛ ولذلك رأينا إسحاق بن إبراهيم بعد هذا الكتاب يجمع كثيرا من الفقهاء والحكام والمحدثين ويمتحنهم، فالفقهاء يتولون الفتيا، والحكام يتولون الحكم، والمحدثون يتولون التعليم، وكلها أمور لا يريد المأمون أن يتولاها إلا من قال بخلق القرآن.
أحضر إسحاق بن إبراهيم مشاهير العلماء ورءوس الناس وامتحنهم. ولنقص عليك نماذج من الأسئلة والأجوبة كما وردت في كتب التاريخ:
إسحق بن إبراهيم :
ما تقول في القرآن؟
بشر بن الوليد :
القرآن كلام الله.
إسحق :
لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟
بشر :
الله خالق كل شيء.
إسحق :
هل القرآن شيء؟
بشر :
هو شيء.
إسحق :
فمخلوق هو؟
بشر :
ليس بخالق.
إسحق :
لا أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟
بشر :
ما أحسن غير ما قلت لك.
امتحان آخر
إسحق :
هل القرآن مخلوق؟
علي بن أبي مقاتل :
القرآن كلام الله.
إسحق :
لم أسألك عن هذا، هل هو مخلوق؟
علي :
هو كلام الله، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا.
امتحان ثالث
إسحق :
هل القرآن مخلوق؟
أبو حسان الزيادي :
القرآن كلام الله، والله خالق كل شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وإن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا.
إسحق :
هل القرآن مخلوق؟
أبو حسان :
يعيد عليه مقالته.
إسحق :
هذه مقالة أمير المؤمنين.
أبو حسان :
قد تكون مقالة أمير المؤمنين، ولا يأمر بها الناس ولا يدعوهم إليها، وإن أخبرتنى أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول: قلت ما أمرتني، فإنك الثقة المأمون.
إسحق :
ما أمرني أن أبلغك شيئا، وإنما أمرني أن أمتحنك.
امتحان رابع
إسحق :
ما تقول في القرآن؟
أحمد بن حنبل :
هو كلام الله.
إسحق :
أمخلوق هو؟
أحمد :
هو كلام الله لا أزيد عليها.
إسحق :
ما معنى أنه تعالى سميع بصير؟
أحمد :
هو كما وصف نفسه.
إسحق :
فما معناه؟
أحمد :
لا أدري، هو كما وصف نفسه.
امتحان خامس
إسحق :
ما تقول في القرآن؟
ابن البكاء :
القرآن مجعول لقول الله تعالى:
إنا جعلناه قرآنا عربيا
والقرآن محدث لقوله:
ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث .
إسحق :
فالمجعول مخلوق؟
ابن البكاء :
لا أقول مخلوق ولكن مجعول.
إسحق :
فالقرآن مخلوق؟
ابن البكاء :
لا أقول مخلوق ولكن مجعول.
وهكذا كانت إجابات القوم.
حرر إسحق بن إبراهيم محضرا بجميع أقوال الممتحنين وأرسلها إلى المأمون فثارت ثائرته، وجن جنونه؛ وفي تاسع يوم من إجاباتهم جاء كتاب المأمون وهو الكتاب الرابع في هذا الموضوع، وكله عنف وتقريع؛ فقد رأى المأمون أن أجوبتهم لا تدل على عقل، لا تنكر في صراحة، ولا تقر في صراحة؛ وبعضهم يسلم بالمقدمات وينكر النتيجة، فيقول القرآن مجعول، والمجعول مخلوق، ولا يرضى أن يقول القرآن مخلوق؛ كمن يقول إن هذه الكمية 3 وهذه 4 ولا يريدون أن يقول إن المجموع سبعة. واعتقد أن عقلية هؤلاء عقلية عوام، يريدون أن يتظاهروا بالبطولة أمامهم، وهم على خلاف ذلك أمام أنفسهم، ولو كانوا ذكروا له حججا على نظريتهم أو امتناعهم لجادلهم فيها، ولكنهم كانوا كما رأيت لا يريدون أن يقروا ، ولا يريدون أن ينكروا. ولعل هذا ما أغضب المأمون في كتابه الرابع أشد الغضب، فأمره أن يستدعي بشر بن الوليد، فإن أصر على شركه، ولم يقل إن القرآن مخلوق فاضرب عنقه وابعث برأسه إلي، وإن تاب فأشهر أمره بالتوبة وأمسك عنه، وكذلك أمره في إبراهيم بن المهدي؛ وأما غير هذين فلم يأمر بضرب عنقهم، ولكنه عرض بهم، وذكر أفعالهم ومخازيهم ليبين أن امتناعهم ليس عن دين، ولكن عن تصنع؛ «فالذيال بن الهيثم» يقول المأمون إنه كان يسرق الطعام في الأنبار. و«أبو العوام» صبي في عقله لا في سنه، ويقول: إنه سيحسن الجواب في القرآن إذا أخذه التأديب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك. و«أحمد بن حنبل» إجابته تدل على جهله، و«الفضل بن غانم» اغتنى في مصر من منصبه في أقل من سنة، ومحمد ابن حاتم وابن نوح وأبو معمر فإنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على حقيقة التوحيد. وهكذا استمر يعدد لكل رجل امتحنه عيوبه؛ ثم أمر المأمون إسحاق في كتابه هذا أن يعيد الكرة عليهم، فمن أبى غير بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي «فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين مع من يقوم بحفظهم وحراستهم في طريقهم حتى يؤديها إلى عسكر أمير المؤمنين ويسلمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه لينصحهم أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعا على السيف إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله».
وقد أسرع المأمون بإرسال هذا الكتاب غير منتظر اجتماع البريد، فجمعهم إسحاق ثانية، وكانوا نحوا من ثلاثين قاضيا ومحدثا وفقيها، فأعاد امتحانهم وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، فأقروا جميعا بأن القرآن مخلوق إلا أربعة: أحمد بن حنبل، وسجادة، والقواريري، ومحمد بن نوح؛ فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشدوا في الحديد، فلما أصبحوا أعاد امتحانهم ثالثة، فاعترف سجادة بخلق القرآن فأطلقه، وبعد يوم آخر أجاب القواريري بأن القرآن مخلوق فأخلى سبيله، ولم يبق بعد من هؤلاء إلا أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فشدوا في الحديد ، ووجها إلى طرسوس للمأمون؛ وكتب إسحاق كتابا إلى المأمون يخبره بإشخاصهما، وكتب كتابا آخر يذكر فيه أن القوم الذين أجابوا لم يجيبوا عن عقيدة، وإنما أجابوا عن تأويل، وقد تأولوا أنهم مكرهون، وليس على المكره حرج.
فبعث المأمون كتابا خامسا يعلن أن هؤلاء أخطأوا التأويل، وليست الآية:
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان
منطبقة عليهم، «إنما عني الله بهذه الآية من كان معتقد الإيمان مظهر الشرك، فأما من كان معتقد الشرك مظهر الإيمان فليست الآية له». ثم أمر بإشخاص - من أبى - إليه في طرسوس، فأرسل واحدا وعشرين كانوا امتنعوا عن الإقرار بخلق القرآن؛ فلما كانوا في الرقة بلغتهم وفاة المأمون، فأعادهم والي الرقة إلى والي بغداد فخلى هذا سبيل أكثرهم.
فأما محمد بن نوح فقد مات وهو عائد إلى بغداد بعد موت المأمون، ففك عند قيده وصلى عليه ابن حنبل. وتركزت رياسة المعارضة في أحمد بن حنبل، فكان زعيمها وعلمها ومتجه الأنظار فيها، ولذلك لم يخل سبيله كما خلي غيره؛ وبذلك انتهى المأمون وانتهى دوره في المحنة.
وقد كتب المأمون وصيته للمعتصم، وجاء فيها مما يتصل بموضوعنا: «وخذ بسيرة أخيك في القرآن»، كما أوصاه بابن أبي دؤاد وحرصه عليه وإشراكه في المشورة في أموره كلها.
كان المأمون عالما فكانت كتبه في خلق القرآن تصدر عن علمه، ولكن المعتصم كان رجلا جنديا كره العلم منذ صغره، فكان كما قال الصولي: «يكتب ويقرأ قراءة ضعيفة»، وكانت ثقافته من جنس ثقافة الذين يجربون الحياة ويسمعون أحاديث الناس والعلماء، ولم نعد نرى مجالس المناظرة في قصره كالتي كانت في عهد المأمون. فقد نفذ الامتحان بخلق القرآن في عهده لأنه وكل بذلك من المأمون في العهد الذي صار به خليفة، فكان يرى أنه ملزم بذلك؛ لهذا استمر على طريقة المأمون ولكن لم يصدر منشورات جديدة فيها معان وحجج جديدة - فكتب إلى الأمصار بالاستمرار في امتحان الناس بخلق القرآن، «وأمر أن يعلموا الصبيان ذلك، وقاسى الناس منه مشقة في ذلك، وقتل عليه خلقا من العلماء، وضرب الإمام أحمد بن حنبل، وكان ضربه في سنة عشرين و(مائتين)».
وأصر أحمد بن حنبل على امتناعه عن القول بخلق القرآن، وأصرت دولة المعتصم على حمله على ذلك، واتجهت أنظار الجمهور يعجبون بصلابة أحمد، واتجهت أنظار رجال الدولة لأنه يتحداهم. وظل محبوسا من آخر عهد المأمون. وكان يتسلل إليه قوم، منهم عمه إسحاق بن حنبل، يطلبون إليه أن يقول بخلق القرآن تقية كما قال غيره من العلماء، فيقول: «إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل، فمتى يتبين الحق»، فذكر له ما روي في التقية من الأحاديث، فقال: كيف تصنعون بحديث خباب: «إن من كان قبلكم ينشر أحدهم بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه»، فيئسوا منه.
219
ثم دعاه المعتصم فأدخل والمعتصم جالس، وابن أبي دؤاد وأصحابه في حضرته والدار غاصة بأهلها، وبالقضاة والفقهاء من أتباع الدولة، فأمرهم أن يناظروه؛ وهذه خلاصة المناظرة:
المعتصم :
ما تقول؟
ابن حنبل :
أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن جدك ابن عباس يحكي أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله. فقال: أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة وإتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم (يعني أحمد بن حنبل أن ليس منه القول بخلق القرآن). يا أمير المؤمنين: أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله أقول به.
أحد الحاضرين :
قال الله تعالى:
ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث
أفيكون محدث إلا مخلوق؟
ابن حنبل :
قال الله تعالى:
والقرآن ذي الذكر ، فالذكر هو القرآن وتلك ليس فيها ألف ولام.
آخر :
أليس قال الله خالق كل شيء؟
ابن حنبل :
قال تعالى:
تدمر كل شيء بأمر ربها
فهل دمرت إلا ما أراد الله؟
ثالث :
ما تقول في حديث عمران بن حصين: إن الله خلق الذكر؟
ابن حنبل :
هذا خطأ، إن الرواية
إن الله كتب الذكر .
رابع :
جاء في حديث ابن مسعود : «ما خلق الله من جنة ولا نار، ولا سماء ولا أرض، أعظم من آية الكرسي».
ابن حنبل :
إنما وقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض ولم يقع على القرآن.
خامس :
إن القول بأن كلام الله غير مخلوق يؤدي إلى التشبيه.
ابن حنبل :
هو أحد صمد لا شبيه له ولا عدل، وهو كما وصف به نفسه.
المعتصم :
ويحك ما تقول؟
ابن حنبل :
يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله.
بعض الحاضرين :
يحاجه بحجج عقلية.
ابن حنبل :
ما أدري ما هذا؟ إنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله.
بعض الحاضرين :
يا أمير المؤمنين إذا توجهت له الحجة علينا وثب، وإذا كلمناه بشيء يقول لا أدري ما هذا؟
ابن أبي دؤاد :
يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل مبتدع.
وهكذا ينفض المجلس، ويعاد إلى الحبس ويوكل به من يناظره، ويعاد إلى مجلس آخر على هذا النمط، واستمرت هذه المناظرات ثلاثة أيام.
فلما ملوا مناظرته ويئسوا منه، أمر المعتصم بضربه بالسياط، فضرب كما قال المسعودي «ثمانية وثلاثين سوطا» حتى سال منه الدم، وتعددت فيه الجراحات ثم أرسل إلى السجن، وأرسل إليه طبيب يعالج جراحاته، فعالجه حتى برئ.
220
ويروون أن ابن أبي دؤاد حرض المعتصم على قتله، وقال: «يا أمير المؤمنين إن تركته قيل إنك تركت مذهب المأمون وسخطت قوله وإنه غلب خليفتين»، ولكن المعتصم اكتفى بضربه على نحو ما ذكرنا، ثم أمر به فخلي سبيله.
221
ولم يقتله المعتصم كما قتل غيره (مع أنهم يروون أنه حتى في اليوم الذي دعا المعتصم ابن حنبل لامتحانه كان قد قتل قبله رجلين)، وهذا يرجع لأسباب: منها أن جمهور الناس التفوا حول ابن حنبل أكثر من التفافهم حول أي شخص آخر، فإذا قتله المعتصم كانت فتنة. قال ميمون بن إصبع: «أخرج أحمد بعد أن اجتمع الناس وضجوا حتى خاف السلطان» ويروون أيضا أنه قال: «لو لم أفعل ذلك لوقع شر لا أقدر على دفعه»، ومنها: أن المعتصم أعجب بشجاعته وثباته على ما يعتقد أنه الحق، فلم يخف ولم يهن؛ وكان المعتصم شجاعا يحب الشجعان؛ هذا إلى أنه قرأ في وجهه أنه ليس بمنافق يريد التظاهر بالورع، بل قرأ فيه أنه يتكلم عن عقيدة، ويصرح بأن الله قديم وليس كمثله شيء، ولكن لا يقول بخلق القرآن لأن الله لم يقله، ورسوله لم يدع إليه.
ومات المعتصم سنة 227، أي بعد محنة أحمد بن حنبل بسبع سنوات، فلم يتعرض له؛ وخلفه الواثق، وكان مثقفا ثقافة واسعة أيضا، وكانت أمه رومية اسمها «قراطيس». قال الصولي: «كان الواثق يسمى المأمون الأصغر لأدبه وفضله»، بل فضله بعضهم على المأمون من ناحية أنه كان أكثر رواية للشعر العربي من المأمون؛ فتعصب للقول بخلق القرآن عن علم وعقيدة.
وأظهر ما حدث في أيامه حادثة أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي، كان جده مالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس في أول الدولة العباسية، ولذلك يقولون إنه كان من أولاد الأمراء، وكان يرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أعني أنه كان يرى تنفيذ ذلك بيده، والخروج على الحكومة إن جارت، والثورة عليها فيما انحرفت فيه عن الصواب، وتبعه على ذلك أتباع كان يستعملهم في خطته؛ ولم يعجبه المأمون في سيرته، فثار هو وأتباعه ببغداد أيام كان المأمون بخراسان، فلم قدم المأمون بغداد استتر أحمد بن نصر؛ فلما ولي الواثق استمر في خطته، وعزم هو وأتباعه على الثورة، فوصل الخبر إلى والي بغداد إسحاق ابن إبراهيم، فقبض عليه وعليهم، وقدم إليه أحمد، فقال الواثق: دع ما أخذت له، ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله، ليس بمخلوق، فحمله على أن يقول إنه مخلوق فأبى؛ وسأله عن رؤية الله يوم القيامة (والمعتزلة كما رأيت ينكرونها) فقال بها، وروى له الحديث في ذلك، فقال الواثق: ويحك هل يرى كما يرى المحدود المتجسم، ويحويه مكانه ويحصره الناظر، إنما كفرت برب هذه صفته.
فأمعن بعض الحاضرين في الحصن على قتله، فدعا بالسيف وقال: إني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربا لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها، ثم مشي إليه فضرب عنقه، وأمر به فحمل رأسه إلى بغداد، فنصب بالجانب الشرقي أياما والجانب الغربي أياما. ولما صلب كتب الواثق ورقة وعلقت في رأسه نصها: «هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك، دعاه عبد الله الإمام هارون (وهو الواثق) إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة، فعجله الله إلى ناره، ووكل بالرأس من يحفظه ويصرفه عن القبلة».
222
وظاهر أن بعض غضب الواثق سببه ثورة أحمد بن نصر، وخروجه عن الطاعة وحمل الناس على العصيان، وجاء خلق القرآن خاتمة الغضب، ومظهر الانتقام. ولم يتعرض الواثق لأحمد بن حنبل، ولكن روى بعضهم أن الواثق أمره ألا يساكنه بأرضه، فاختفى ابن حنبل حتى مات الواثق.
223
ثم مات الواثق سنة 232 وبويع للمتوكل فلم يتحمس، للقول بخلق القرآن، ففترت حركة الامتحان حتى سنة 234 «فنهي فيها عن القول بخلق القرآن، وكتب بذلك إلى الآفاق، وتوفر دعاء الخلق له، وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم له، حتى قال قائلهم، الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في رده المظالم، والمتوكل في إحياء السنة»، مع ما كان عليه من الظلم والتعسف. وكما شغل الناس في العراق - مستقر الدولة - بالجدل في خلق القرآن شغل الناس في كل قطر من الأقطار الإسلامية، فكان الجدل بين العلماء وامتحان الأمراء للعلماء والقضاة والحكام في مصر والشام وفارس وغيرها من البلدان.
فيحدثنا أبو المحاسن في كتاب النجوم الزاهرة أن كتاب المأمون الأول الذي صدر لإسحاق بن إبراهيم - والي بغداد - في ربيع الأول سنة 218 وصل إلى مصر في جمادى الآخرة ونصه كنصه، وكان الوالي على مصر نصر بن عبد الله الملقب «كيدر»، فامتحن كيدر قاضي مصر هارون بن عبد الله الزهري، فأجاب بالقول بخلق القرآن؛ وامتحن الشهود، فمن توقف منهم عن القول بذلك سقطت شهادته،
224
وامتحن القضاة وأهل الحديث وغيرهم.
225
وقال كيدر يمتحن الناس حتى جاء الخبر بموت المأمون قبل أن يقبض على من طلبه المأمون؛ ثم ولي مصر المظفر بن كيدر، فأتاه كتاب المعتصم يأمره أن يمتحن العلماء بخلق القرآن بمصر ففعل ذلك. ثم ولي موسى بن العباس مصر سنة 219، فيذكر أبو المحاسن «أنه أباد فقهاء مصر وعلماءها إلى أن أجاب غالبهم بالقول بخلق القرآن».
226
وكان من أشد الناس تحمسا للقول بخلق القرآن، وتعذيب من أنكر من المصريين، محمد بن أبي الليث قاضي مصر في بعض أيام المعتصم وفي أيام الواثق، وكان يناصر المعتزلة، وكان حنفي المذهب، وكان يكره المالكية والشافعية، فاضطدهم واستغل المحنة بخلق القرآن لتعذيبهم والإيقاع بهم، وبجانبه شاعر مصر إذ ذاك الحسين بن عبد السلام الجمل يشيد بذكره ويتشفى ممن نكل به.
ويذكر في قصيدة من قصائده أنه نكل بالشافعية والمالكية، وما زال يعذبهم حتى اعترفوا بخلق القرآن، وصار الأمر كما قال:
كل ينادي بالقرآن وخلقه
فشهرتهم بمقالة لم تشهر
لم ترض أن نطقت بها أفواههم
حتى المساجد خلقه لم تنكر
لما أريتهم الردى متصورا
زعموا بأن الله غير مصور
فبعض الناس لزم بيته فلم يظهر، وبعضهم هرب إلى اليمن، وكان ممن هرب ذو النون المصري الصوفي، ثم عاد فقبض عليه وامتحن فأقر.
ولما ولى الواثق ورد كتابه على محمد بن أبي الليث بامتحان الناس أجمعين، فلم يبق أحد من فقيه ولا محدث ولا مؤذن ولا معلم حتى أخذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس وملئت السجون ممن أنكر المحنة؛ وأمر ابن أبي الليث أن يكتب على المساجد: (لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق)، فكتب ذلك على المساجد بفسطاط مصر، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المساجد، وأمرهم ألا يقربوه.
227
واستمر الحال على ذلك في أيام الواثق، ثم ورد كتاب المتوكل مصر برفع المحنة والسكوت عن هذه المقالة جملة.
وكان ممن نكل به بمصر في أيام الواثق يوسف بن يحيي البويطي صاحب الإمام الشافعي ووارث علمه - وشى به حرملة والمزني وابن الشافعي، ولعلهم نفسوا عليه علمه. وقيل وشى به ابن أبي الليث الحنفي قاضي مصر، فكتب ابن أبي دؤاد إلى والي مصر أن يمتحنه، فأبى أن يقول بخلق القرآن، وقال: «إنما خلق الله الخلق بكن، فإذا كانت مخلوقة، فكأن مخلوقا خلق بمخلوق، ولئن أدخلت عليه (على الواثق) لأصدقته، ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم. وقد حمل من مصر إلى بغداد ومات في سجنها سنة 231.
ولم يقتصر الأمر على محاكمة الولاة للناس؛ بل كانت مجالس الخاصة والعامة تلوك هذه المسألة. فإذا جلس عالم مجلسا سأله سائل: هل القرآن مخلوق؟ وإذا خلا الناس بعضهم إلى بعض تحدثوا في أخبار خلق القرآن؛ ومن حقد على آخر وأراد أن يدس عليه اتهمه بأنه يقول القرآن غير مخلوق.
وقد ورد من ذلك أن البخاري اتهم بأنه يقول إن اللفظ بالقرآن مخلوق، فلما كان بنيسابور وحضر الناس لسماعه قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن، أمخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه ولم يجبه، فأعاد السؤال فأعرض عنه، ثم أعاد فالتفت إليه البخاري وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة. فشغب الرجل وشغب الناس، وتفرقوا عنه.
228
وسبب شغبهم عليه أنه أراد أن يفرق بين القرآن وهو كلام الله، والقرآن الذي هو نطقنا به، وكتابتنا له، وأراد أن يقول إن الأول قديم والثاني محدث، فشغبوا عليه لأنه يقول إن الثاني محدث، إذ يريدون أن يقال إنه قديم حتى ألفاظنا به.
والأمثلة من هذا القبيل كثيرة، وأسئلة وإجابات، وفتن ودسائس، بل وأدخلوا المسألة في المزاح والأدب أيضا .
رووا أن رجلا من الظرفاء سمع آخر يقرأ قراءة قبيحة، فقال: «أظن هذا هو القرآن الذي يزعم ابن أبي دؤاد أنه مخلوق».
ودخل عبادة المخنث على الواثق وقال له: يا أمير المؤمنين، أعظم الله أجرك في القرآن. قال: ويلك، القرآن يموت؟ قال: يا أمير المؤمنين كل مخلوق يموت، بالله يا أمير المؤمنين من يصلي بالناس التراويح إذا مات القرآن؟ فضحك الخليفة وقال: قاتلك الله! أمسك.
وقال أبو العالية:
لو كان رأيك منسوبا إلى رشد
وكان عزمك عزما فيه توفيق
لكان في الفقه شغل لو قنعت به
عن أن تقول كلام الله مخلوق
ماذا عليك وأصل الدين يجمعكم
ما كان في الفرع لولا الجهل والموق
وكان بعض القصاص بأصبهان يتشدد في القول يخلق القرآن، فسئل معاوية: هل كان مخلوقا؟ فقال: نعوذ بالله من نهايات الجهالات ... إلخ. •••
وبعد، فما هذه المسألة وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه؟ وكيف بلى بها المسلمون هذا البلاء؟ وما الداعي إليها؟ وما وجهة نظر كل فريق؟ وما نتائجها؟ هذه أسئلة تجول في ذهن الباحث لأن المسألة غريبة في بابها، وكانت أشبه بمحكمة التفتيش تمتحن فيها العقائد ويعذب عليها الناس.
أما الداعي لحزب الحكومة من معتزلة وخلفاء، ففي رأيي أن نيتهم حسنة وقصدهم حميد، فقد رأى المعتزلة من أول أمرهم - من عهد واصل وعمرو بن عبيد - أن عقائد الناس قد فسدت ويجب تصحيحها، وفي نظرهم أن التصحيح يجب أن يدور على توحيد الله وعدله، وجرهم القول في التوحيد إلى التوحيد بكل معانيه، ورأوا أن القول بقدم القرآن تعديل للقديم، كما أنكروا الصفات لأن فيها تعديدا، وأنكروا رؤية الله لأن فيها تجسيما، فأرادوا أن يدعوا الناس إلى تنزيه فلسفي وتوحيد فلسفي لا تجسيم فيه، ولا تشبيه، ولا تعدد، وكانوا يبثون دعاتهم في الأمصار والبلاد النائية لدعوة الناس إلى ذلك، فإذا أتيحت لهم فرصة في سلطة وقوة استعملوها؛ فمن رأوا منه انحرافا عن الدين، وميلا إلى الإلحاد، وإفسادا لعقيدة الناس، حاربوه وهددوه، وإن استطاعوا قتلا قتلوه، وبذلوا جهدا كبيرا في نشر مذهبهم، وعنونوه بمذهب التوحيد والعدل، وأرسلوا الدعاة لذلك في الهند وفي المغرب وفي مصر والشام وفي فارس، فلبى دعوتهم خلق كثير - ولكن في أدوارهم الأولى لم يظفروا بانضمام الحكومة إليهم - نعم ظفروا بالحكومة في آخر الدولة الأموية، ولكنها كانت صائرة إلى الزوال، وكانت في شغل عن الاعتزال بتوطيد مركزها الذي ينهار. فلما جاء المأمون في العصر العباسي مال إلى نفس الفكرة، ورأى أن يكون مجمعا يتباحث عنده في المذاهب، وينقد صحيحها من فاسدها، ويكون الجدل حرا والبحث صريحا، فما اتفق عليه الرأي ألزم الناس العمل به.
229
وشاء القدر أن يكون مظهر هذا مسألة خلق القرآن، لأنها أثيرت من قبل - كما رأيت - ولأنها مست أصلا من أصول الدين وهو التوحيد؛ وكان يمكن أن يكون المحك مسألة أخرى كرؤية الله يوم القيامة، وكخلق الأفعال؛ ونحو ذلك من مسائل الاعتزال؛ ولكن مسألة خلق القرآن كانت أوضح، وعذر المنكر فيها أضعف، فإن رؤية الله يستطيع أن يهرب المجيب بأنا سنكون يوم القيامة خلقا آخر، ليست عيوننا كعيوننا في الدنيا، ولأن مسألة خلق الأفعال ليست جلية، ففي القرآن آيات تدل على هذا وذاك، أما خلق القرآن فعليه الأدلة العقلية والنقلية جلية.
ثم في كل مسائل التاريخ توجه الظروف الحوادث جهات قد لا تخطر على البال؛ فقد أصدر المأمون «ديكريتو» بتحليل المتعة وبتفضيل علي، ولكن لم تتطور الحوادث فيهما كتطورها في هذه المسألة، لأن المأمون اكتفى فيهما بالقرار ولم يصدر أمرا بالامتحان؛ أما في خلق القرآن فأصدر أمرا بالامتحان، وكانت وجهة نظره في ذلك أن القضاة والشهود يجب أن يكونوا مؤمنين ولا يوثق بأحكام القضاة ولا شهادة الشهود إذا فسدت عقيدتهم؛ كما صرح هو بذلك في كتابه الأول، ومن اعتقد بقدم القرآن فقد أشرك، ومتى أشرك لم يصح منه حكم ولا شهادة؛ ولكنه نظر فرأى قوما لما امتحنوا أنكروا القول بخلق القرآن وقوما لم يريدوا أن يصرحوا؛ وغاظه جدا أن يرى قوما من هؤلاء وهؤلاء يعرف منهم سوء النية وضعف الدين، فمنهم المرتشي والمرابي، وأنهم قد حملهم على مخالفته حب الحظوة عند العامة، فتألم من هذا. وكان المأمون مع حلمه له لحظات حدة، وانفعالات غضب، فثار ثائره واشتد في طريقه، وغلا في عمله، ومن حوله من المعتزلة يدفعونه أيضا إلى ذلك لأنه وفق عقيدتهم، ولأنه وفق هواه.
ومن الناحية الأخرى، فالناس من طبيعتهم حب المعارضة والعطف عليها، سواء في ذلك المعارضة السياسية والمعارضة الدينية، وهم أشد تحمسا للمعارضة الدينية، فوقف المأمون ورجاله في صف، ووقف هؤلاء العلماء المعارضون والعامة من ورائهم ، وتكون بذلك معسكران، وكلما أفرطت الحكومة في التعسف أفرط العامة في التصفيق للمعارض. وظلت كل خطوة تدفع إلى ما وراءها. وكلما علت نغمة حزب أعلى الآخر نغمته حتى تفوقه. وفي عهد المعتصم صار زعيم الحكومة الخليفة؛ وحوله العلماء المعتزلة ورجال الدولة؛ وزعيم المعارضة أحمد ابن حنبل وحوله قلوب الشعب.
وتورطت الحكومة وأصبح من الصعب رجوعها، لأنها من ناحية تعتقد أنها على حق، وأن خصومها ليسوا إلا مشاغبين، وأكثرهم يحب التصفيق أكثر من حبهم للحق. ومن ناحية أخرى فالرجوع عن ذلك يضيع هيبة الحكومة، ويمكن العامة وقادتهم الجهال في نظرهم من السيطرة على الحكومة، وفي هذا خطر كبير.
هذه هي وجهة نظر المعتزلة والحكومة. وأما وجهة نظر المعارضين، فيظهر لي أنهم لم يكونوا جميعا على رأي واحد كما كانت المعتزلة، بل كانوا أصنافا، أمثلهم قوم كانوا في باطن أنفسهم مع المعتزلة في أن القرآن مخلوق، ولكنهم يرون أن الكلام في هذا لا يصح، ولا يصح أن يصل إلى العامة، لأنهم ليسوا أهلا للنظر، وأنا إذا قلنا لهم القرآن مخلوق لم يبق في نفوسهم إلا شيء واحد هو عدم التقديس والإجلال، وهذا يدعو إلى ضعف العقيدة، فوجب أن يسد هذا الباب بتاتا، حفظا لدين العامة وهم السواد الأعظم في الأمة. ولذلك كان هؤلاء إذا سئلوا لم يجيبوا ولم يقولوا إنه مخلوق ولا إنه غير مخلوق، ولا يزيدون عن قولهم إنه كلام الله. وزادهم إيمانا بذلك أنها مسألة لم تثر في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
ولا صحابته، فما الداعي إلى إثارتها الآن؟ وقد كان إيمان النبي
صلى الله عليه وسلم
والصحابة والتابعين موفورا من غير هذه المسألة، والقول فيها بنفي أو إثبات.
ومن هذا القبيل ما روي أن الواثق أتى بشيخ بحضرة ابن دؤاد، فسئل: ما تقول في القرآن؟ قال الشيخ: لابن أبي دؤاد لم تنصفني ولي السؤال. قيل: سل. قال: هل هذا شيء علمه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ وأبو بكر وعمر والخلفاء؟ أم شيء لم يعلموه فقال ابن أبي دؤاد: لم يعلموه. فقال الشيخ: سبحان الله! شيء لم يعلموه، أعلمته أنت؟ وفي رواية أنه أعاد عليه السؤال، فقال ابن أبي دؤاد: علموه ولم يدعوا إليه. فقال الشيخ: هل وسعهم ذلك؟ قال: نعم: قال الشيخ: أفلا وسعك ما وسعهم؟!
ومثله ما رواه العقد الفريد أن بشرا المريسي كتب إلى أبي يحيي منصور بن محمد يسأله: القرآن خالق أو مخلوق؟ فكتب إليه أبو يحيى: «عافانا الله وإياك من كل فتنة، وجعلنا وإياك من أهل السنة، وممن لا يرغب بنفسه عن الجماعة، فإنه إن يفعل فأعظم بها منة، وإن لا يفعل فهي الهلكة، ونحن نقول: إن الكلام في القرآن بدعة يتكلف المجيب ما ليس عليه، ويتعاطى السائل ما ليس له، وما نعلم خالقا إلا الله، وما سوى الله فمخلوق، والقرآن كلام الله، فانته بنفسك إلى أسمائه التي سماه الله بها، فتكون من المهتدين، ولا تسم القرآن باسم من عندك فتكون من الضالين جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون».
230
وقد روي أن البويطي قال له الوالي: قل إن القرآن مخلوق فيما بيني وبينك، قال: «
إنه يقتدي مائة ألف ولا يدرون المعنى ».
231
ومن أجل هذا كان أحمد بن حنبل يكره من يتكلم في المسألة بنفي أو إثبات، فقد روي أنه قيل للكرابيسي، ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله غير مخلوق، فقال له السائل: فما تقول في لفظي القرآن؟ فقال: لفظك به مخلوق. فروي هذا لأحمد بن حنبل، فقال: هذه بدعة . وروي أن السائل رجع على الكرابيسي ونقل له قول أحمد واستنكاره، فقال الكرابيسي: إذا فتلفظك بالقرآن غير مخلوق. فرويت لأحمد فأنكر ذلك أيضا وقال: هذه بدعة.
232
وعلق السبكي على ذلك بقوله: «وهذا يدلك على أن أحمد إنما أشار بقوله (هذه بدعة) إلى الكلام في أصل المسألة ... والسلف لم يكونوا ينكرون أن لفظنا حادث، وأن سكوتهم إنما هو عن الكلام في ذلك لا عن اعتقاده». وقال في موضع آخر: «والسر في ذلك تشديدهم في الخوض في علم الكلام خشية أن يجرهم الكلام فيه إلى ما لا ينبغي، وليس كل علم يفصح به».
هؤلاء هم أمثل المعارضين؛ وهناك قوم أداهم السخف إلى القول بقدم القرآن حتى المكتوب في المصاحف، والملفوظ به في ألسنتنا، وهو قول جر إليه ضيق النظر وضعف العقل، وقد نسب الذهبي إلى ابن حنبل القول بقدم الألفاظ، وما أظنه كذلك، كما نفاه السبكي عنه نفيا باتا.
فإن نحن تساءلنا: أي الحزبين على حق؟ قلنا: إن المعتزلة والمأمون وإن كان رأيهم العلمي حقا وصحيحا، فإن خصومهم على حق في ألا تثار هذه المسألة أمام العامة. وقد أخطأ المعتزلة والحكومة خطأين: (الأول) إرادتهم إشراك العامة في هذه المسائل، والعامة أبعد الناس عن ذلك، وكيف يفهمون علم الكلام وهو علم دقيق تاهت فيه عقول الخاصة؟ إنما هو للفلاسفة وأمثالهم، لا للعامة وأشباههم. هل يريد المعتزلة أن يفهم العامة صفات الله، وهل هي عين الذات أو غير الذات، وأن الرؤية تقتضي أن يكون المرئي محدودا في مكان؟! إن فهموا هذا فهو خرق في الرأي، وقد قبل النبي
صلى الله عليه وسلم
من الجارية أن تعتقد أن الله في السماء وأن تشير إليه، لأن عقلها لا يسمح لها بأكثر من ذلك، ولم يحاول أن يفهمها أنه ليس في مكان، فمحاولة المعتزلة تفهيم العامة ما هو أدق من ذلك تكليف بما لا يطاق.
والخطأ الثاني حملهم الحكومة أن تتدخل بسلطانها وسيوفها وسياطها وجنودها وولاتها في هذه المسألة، فكأنهم أرادوا أن يجعلوا مجالسهم للجدل والمناظرة مجمعا كمجامع القساوسة يقررون فيه ما يشاؤون، ثم يرغمون الناس على القول بما يقررون، بل زادوا عليهم قسوة وتعذيبا. وقد دلوا بعملهم هذا على جهلهم بنفسية الشعوب، وجهلهم بتاريخ انتشار العقائد؛ فالعقيدة لا ينشرها التعذيب، إنما ينشرها الإقناع، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. وقد غلوا غلوا شنيعا في أنهم عدو السكوت عن القول بخلق القرآن إشراكا؛ فالإسلام عماده «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، فمن قالها عصم دمه وحسابه بعد على الله.
وأشد ما يدعو إلى الغرابة أن يكون مصدر هذا التعذيب والمحنة هم المعتزلة الداعين إلى حرية الفكر والقائلين بسلطة العقل، فقد كان الظن بهؤلاء التسامح في العقيدة والبعد عن الضغط والتعذيب. ولكن المعتزلة كما قلنا كانوا عقليين، وكانوا متزمتين في عقليتهم، فهم يؤمنون بسلطان العقل، ولكنهم يرون أن من لا يحكم عقله كما حكموا أنعام أو كالأنعام. ويجب أن يحمل من لا يعقل على قول من يعقل؛ وفاتهم أن العقول متفاوتة وأنماطها مختلفة، وأن القول بسلطان العقل يقضي أن يعذر من ضاق عقله ويسمح له أن يسير في حياته حسب عقله الضيق ما لم يضر بمصلحة عامة.
لقد تجلى في هذه الحركة بأجلى بيان صراع العقل والعاطفة، كان العقل والمنطق في جانب المعتزلة، والعواطف في جانب الجمهور والمحدثين. وكان عقل المعتزلة عقلا حادا جافا فلسفيا، وأضعف نقطة فيه أنه يراد أن يفرض على العامة فرضا، يراد أن تكون الأمة فلاسفة تعرف الجوهر والعرض والكمية والكيفية، والمحدود واللا محدود، والوحدة والتعدد والمكان والجهة، وإلى الآن لم يخلق الله أمة كلها فلاسفة على هذا النمط، ولا أدري إن كان ذلك في مصلحة الإنسانية أو لا.
والمعارضون شعب يؤمن بقلبه لا عقله، ولا يستطيع أن يفهم ما يقوله المعتزلة في صفات الله، وزادهم فيه كراهية أن الحكومة تنصره، والجنود بسيوفها وسياطها تؤيده، وأصحاب المناصب الكبيرة في كل ولاية تمتحن فيه، والناس دائما يكرهون من أعماق قلوبهم هذه المظاهر، ويدعون الخارج عليها بطلا، ويحلون رجال الدين يوم يبتعدون عنها، ويحترمون من يزهد فيها . وكتب التراجم مملوءة بإطراء من رفض عطاء من وال وسلطان؛ فلما رأوا السلطة تؤيد القول بخلق القرآن جال الشك في نفوسهم، وأحسوا إحساسا من طريق الإلهام أن هذا القول لا يتفق والدين؛ والعقلاء من علماء المحدثين فطنوا إلى هذا ورأوا أن العامة إذا تفلسفوا ألحدوا، وإذا قلت لهم إن القرآن مخلوق فذلك يساوي أنه يصح الرد عليه، ويجوز الإتيان بمثله وتصح مخالفته، ويمكن للعقل أن يأتي في التشريع ونحوه بخير منه، إلى غير ذلك من المعاني الغامضة التي قد تجول - مع غموضها - في أنفسهم ولا يستطيعون التعبير عنها، فرأى هؤلاء العقلاء من المحدثين أن الكلام في نفس الموضوع لا يصح لا بالنفي ولا بالإثبات، وعبروا عن ذلك بأن الكلام فيه بدعة، حتى امتنعوا أن يقولوا ما هو ظاهر بالبداهة لا ينكره عاقل، وهو أن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، والحروف والورق في المصاحف مخلوقة، فهذا يكاد يكون محسوسا، فألفاظنا تفنى بمجرد النطق بها، والمصحف عرضة للحريق والفناء بالزمان؛ ولكنهم مع إيمانهم بهذا لا يريدون أن يقولوا به المبدأ الذي ذكرنا. فتلاقى عقل العقلاء من المحدثين مع عواطف العامة، وكونوا جبهة واحدة، وزادهم قوة معنوية أن الجنود والسلاح ليست معهم، وأن العذاب يوقع عليهم، وأن فضيلة التضحية إنما تظهر من جانبهم، وكلما عذب أحد من رجالاتهم زادهم برأيهم إيمانا - وهذا ما صرح به كبراؤهم كأحمد بن حنبل وأحمد بن نصر والبويطي، فقد قالوا جميعا أقوالا متشابهة تدل على أن إيمان العامة أصبح في عنقهم، وأن إقرارهم بخلق القرآن هزيمة للشعب، وهزيمة لإيمان الشعب، وشعور بخذلان الدين، فليضحوا بدمائهم وأنفسهم نصرة للدين وإعلاء لكلمة الله.
ومن الحق أن نقول إن في كل من المعسكرين من كانوا مخلصون لعقيدتهم، فأنا أعتقد أن مثل المأمون والواثق وأحمد بن أبي دؤاد كانوا مخلصين في آرائهم: رأوا أن ما يقولونه هو الحق، وأنا معهم أنه هو الحق، وإن لم أكن معهم في أن كل حق يقال لكل إنسان، وإن لم أكن معهم أيضا في إلزام الناس أن يقولوا ما أرى أنا أنه الحق، ولكن الكثير في هذا المعسكر أتباع كل سلطان، إن قالت السلطة هو أحمر فهو أحمر، أو أسود فهو أسود. ويعبر عن ذلك تمام التعبير ما روي من أن جنديا قال لأحمد بن حنبل لما امتحن أمام المعتصم: «ويحك! إمامك على رأسك قائم، والناس حولك، وتريد أن تغلب هؤلاء جميعا؟»، وكثير من هؤلاء رأوا أنهم لا يستطيعون أن يبقوا في مناصبهم إلا إذا جاروا السلطة في رأيها فقالوا بذلك؛ كما أن في المعسكر الآخر مخلصين كابن حنبل وأشباهه، ومنهم من أعجبه تصفيق العامة، خصوصا إذا لم يصل الأمر إلى السيف، ففضلوا أن يكونوا أبطال العامة على أن يكونوا جنودا مجهولين في معسكر السلطان، لا سيما وكره العامة يكون أحيانا أنكى وأوجع من سياط الحكومة، ومكافأة الجمهور قد تكون أروع من مكافأة الحكومة؛ لقد كوفئ أحمد بن حنبل من جمهور المسلمين مكافأة أين منها مكافأة المأمون والمعتصم والواثق لابن أبي دؤاد؟ لقد مات أحمد فقال فيه القائل:
أضحى ابن حنبل محنة مأمونة
وبحب أحمد يعرف المتنسك
وإذا رأيت لأحمد منقصا
فاعلم بأن ستوره ستهتك
ويقول عبد الوهاب الوراق في جنازة ابن حنبل: «ما بلغنا أن جمعا كان في الجاهلية والإسلام مثله، حتى إن المواضع التي وقف فيها الناس مسحت وحزرت، فإذا هي نحو من ألف ألف، ولحزرنا على السور نحوا من ستين ألف امرأة»، وكان الناس في الشوارع والمساجد حتى تعطل بعض الباعة، وحيل بينهم وبين البيع والشراء، وقيل في عدد المصلين عليه إنهم كانوا نحو ألف ألف وثلاثمائة ألف سوى من كان في السفن إلخ.
أضف إلى ذلك حرمة العلماء والمحدثين له، حتى إن من وثقه ابن حنبل وثق، ومن ضعفه ضعف، وكان أحد الأسباب التي يبني عليها توثيقه وتضعيفه القول بخلق القرآن وعدمه.
وكان بجانب هؤلاء العقلاء من المعارضين طائفة أخرى سخيفة ضيقة العقل، لا تمتنع عن الكلام في القرآن، ولكنها تقول بقدمه حتى المكتوب والملفوظ، وربما دعاهم إلى ذلك أنهم رأوا الأئمة الكبار كأحمد بن حنبل يعارضون المعتزلة، فلم يفهموا سر معارضتهم ووجهة نظرهم، فظنوا أن المعتزلة يقولون بخلق القرآن، فيجب أن يقولوا هم بقدمه في كل مظاهره، وقد حكي هذا القول عن كثيرين.
ثم نلاحظ أن ما نقل إلينا من المناظرات كان ضعيفا سطحيا، فلم يتعرض المتجادلون لجوهر المسألة، ولا أثاروا حقيقة المشاكل، ولا برهنوا البراهين العقلية على وجهة نظرهم، ولا دخلوا في الصميم من الموضوع. وإذا نحن وازنا بين هذه المناقشات التي رويت وبين الكتب التي صدرت عن المأمون، وجدنا كتب المأمون تعرضت لجوهر الموضوع، وأبانت وجهة نظره ونظر حزبه بخير مما تعرض له المناظرات. ولعل السبب في ذلك أمران، (الأول): أن المأمون أثناء المناظرات كان قد لحق بربه وخرج من ميدان المناظرة، وقد كان من أكبر أصحابه عقلا ومن أقدرهم إقناعا، ومن أوقفهم على حقيقة الموضوع. (والثاني): أن المناظرة كانت بين المعتزلة وخصومهم، وخصومهم محدثون لا يرون علم ولا يقرأونه، ولا يتعلمون مصطلحاته وقواعده ومبادئه، فكان المعتزلة إذا ناظروهم في شيء من ذلك قال المحدثون: لا نعلم شيئا مما تقولون، كما حدث مع ابن حنبل، فيضطرون إذا إلى المجادلة فقط في النصوص وفي المنقول لا المعقول، وهي دائرة ضيقة لا تتسع لبيان الأسباب الخفية والدواعي العقلية. •••
ولعل المعتزلة أو كبراءهم كانوا يؤملون من وراء هذه المسألة آمالا واسعة، فكانوا يؤملون أن يصبح الاعتزال مذهب الدولة الرسمي، كما أن الإسلام دينها الرسمي، فإذا تم ذلك انتشر الاعتزال تحت حماية الدولة، وأصبح أكثر المسلمين معتزلة، فوحدوا الله كما يوحدون، واعتنقوا أصول الاعتزال كما يعتنقون، ويحرر المسلمون في أفكارهم، فأصبح المشرعون لا يتقيدون بالحديث تقيد المحدثين، إنما يستعملون العقل ويزنون الأمور بالمصالح العامة، ولا يرجعون إلى نص إلا أن يكون قرآنا أو حديثا مجمعا عليه؛ وتتحرر عقول المؤرخين من المسلمين، فيتعرضون للأحداث الإسلامية بعقل صريح ونقد حر، فيشرحون أعمال الصحابة والتابعين ويضعونها في نفس الميزان الذي توزن به أعمال غيرهم من الناس؛ ثم تهجم العقول على فلسفة اليونان والهند والفرس فتستقي منها، وتعمل - فيها - عقولها، وتأخذ منها ما لا يتنافى مع القرآن والحديث المجمع عليه. وتتحرر عقول العامة فلا يخافون من جن، لأن الجن لا ترى، ولا تصدق بغول وسعلاة، وعلى العموم لا يشلها الخوف من الخرافات؛ ولا يشلها الخوف من الله لأن الله في نظر المعتزلة ليس حاكما مستبدا، بل هو تعالى قد ألزم نفسه بقوانين العدل، فالعدل سيرته تعالى وسيرتنا، وقانونه وقانوننا، ثم يؤمن الناس أنهم متسلطون على إرادتهم، قادرون على الخير والشر، ما صدر من خير فمن خلقهم وبإرادتهم، وما صدر من شر فمن خلقهم وبإرادتهم، ومن أجل ذلك يجزون الجزاء الحسن والجزاء السيئ، فلا يرتكن أحد إلى القدر، ولا يتوقع مسيء مثوبة، ولا محسن عقوبة، بل جزاء الإحسان الإحسان، والإساءة الإساءة، وبهذا تكثر أعمال الخير في العالم، وتقل أعمال الشر، لأن التشكك في النتيجة، واعتقاد الإنسان أنه قد يغفر له إذا أساء، وقد يعاقب إذا أحسن، يقلل إيمانه في الخير والشر. قالوا: فإذا سرت هذه المبادئ في الناس ونفذتها الحكومة زمنا، أشربتها قلوبهم، وجرت عليهم عاداتها، ونشأ عليها ناشئهم، فأصبح العالم الإنساني خير العوالم؛ فلنحتمل شرور المحنة، ولتذهب بعض الضحايا، فالغاية تبرر الوسيلة، ولا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل.
لعل هذه وأمثاله كان هو ما يتوقعه كبار المعتزلة عندما انغمسوا في المحنة، ولكن ماذا كان؟
كره الناس الاعتزال لأن الحكومة احتضنته، ولأن المعتزلة أيام دولتهم عسفوا بالناس وبالمحدثين والعلماء، واستباحوا دماءهم، وملأوا منهم السجون؛ واستغل المشنعون هذا فأساءوا سمعتهم، وشوهوا دعوتهم، ودخلوا على أذهان العامة من الباب الذي يتفق وعقليتهم. قالوا: إن المعتزلة لا يرون أن الله يرى يوم القيامة، فحرموا المؤمنين من أكبر لذة، والمعتزلة يقولون بخلق القرآن، فأنكروا قدسيته وعظمته وجلاله؛ وقالوا إن الإنسان يخلق أفعال الناس، فجعلوا مع الله آلهة يخلقون. ثم كان المعتزلة في دولتهم لا يضحون، بل يغنمون المال والمناصب والجاه، والمحدثون يضحون بالمال والمناصب والجاه والنفس، والناس مع من يضحي ولو لم يسألوا لم ضحى فتجمع في اسم الاعتزال كل هذه المعاني الكريهة وأمثالها.
وجاء المتوكل فأعلن سنة 234 إبطال القول بخلق القرآن، وهدد من آثار هذه المسألة، ودعاه إلى ذلك ما رأى من قوة الرأي العام ضد الاعتزال، وما سببته هذه المسألة من مشاكل للدولة؛ فرأى أن يخلص من هذه المشاكل، ويريح نفسه وحكومته منها، ولم يقف موقف الحياد، بل أظهر الميل للمحدثين ووقف بجانبهم «فاستقدم المحدثين إلى سامرا، وأجزل عطاياهم، وأكرمهم، وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية. وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرصافة، فاجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس، وجلس أخوه في جامع المنصور، فاجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس؛ وتوفر دعاء الخلق للمتوكل، وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم له .... ثم أمر نائب مصر أن يحلق لحية قاضي القضاة بمصر أبي بكر محمد بن أبي الليث، (وهو الذي عذب الناس في المحنة)، وأن يضربه ويطوف به على حمار ففعل ... وولى القضاء بدله الحارث بن مسكين من أصحاب مالك».
233
ومدح أبو بكر بن الخبازة المتوكل في ذلك فقال:
وبعد فإن السنة اليوم أصبحت
معززة حتى كأن لم تذلل
تصول وتسطو إذ أقيم منارها
وحط منار الإفك والزور من عل
وولى أخو الإبداع في الدين هاربا
إلى النار يهوي مدبرا غير مقبل
شفى الله منهم بالخليفة جعفر
خليفته ذي السنة المتوكل
خليفة ربي وابن عم نبيه
وخير بني العباس من منهمو ولي
وجامع شمل الدين بعد تشتت
وفاري رءوس المارقين بمنصل
أطال لنا رب العباد بقاءه
سليما من الأهوال غير مبدل
وبوأه بالنصر للدين جنة
يجاور في روضاتها خير مرسل
ووصفه المسعودي فقال: «لما أفضت الخلافة للمتوكل أمر بترك النظر والمباحثة في الجدال، والترك لما كان عليه الناس في أيام المعتصم والواثق، وأمر الناس بالتسليم والتقليد، وأمر الشيوخ المحدثين بالتحديث، وإظهار السنة والجماعة».
234
ومدحه البحتري بقصائد كثيرة، منها في هذا المعنى الذي نحن بصدده، قوله:
قل للخليفة جعفر ال
متوكل ابن المعتصم
المرتضى ابن المجتبى
والمنعم ابن المنتقم
أما الرعية فهي من
أمان عدلك في حرم
يا باني المجد الذي
قد كان قوض فانهدم
اسلم لدين محمد
فإذا سلمت فقد سلم
نلنا الهدى بعد العمى
بك والغنى بعد العدم
ومع أنه كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه أهل السنة، واغتفروا له سوء فعاله لرفعه المحنة. ورأى له كثير من المحدثين رؤى في المنام تذكر أن الله غفر له.
وكان من أثر هذا حدوث رد فعل عنيف، فانتصر المحدثون انتصارا هائلا، وأخذوا ينتقمون من المعتزلة بأيديهم وعلمهم، وأخذوا يجرحون المعتزلة تجريحا شنيعا، بل يجرحون من امتحن فأقر؛ وأخذ أحمد بن حنبل رئيس المحدثين يشرح الناس، فيحكم على هذا بالضعف، وهذا بالقوة، وكان من أكبر أدواته في الميزان القول بخلق القرآن، ولم يرض حتى على من خاف على نفسه فأقر، ولم يعد هذا إكراها.. وسئل: إذا اجتمع رجلان، أحدهما قد امتحن، والآخر لم يمتحن، ثم حضرت الصلاة فأيهما يقدم؟ قال: يتقدم الذي لم يمتحن.. وسئل عمن قال لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: هذا لا يكلم، ولا يصلي خلفه، وإن صلى رجل أعاد.. واجتمع الأشعث بن قيس وجرير على جنازة، فقدم الأشعث جريرا وقال له: إني ارتددت (أي بالقول بخلق القرآن) وأنت لم ترتد. فروى هذا الخبر لابن حنبل فأعجب به.. وبلغ ابن حنبل أن القواريري سلم على ابن رباح؛ فلما أراد القواريري أن يزور ابن حنبل قال له: ألم يكف ما كان من الإجابة حتى سلمت علي ابن رباح؟ ورد الباب في وجهه. وجاءه الخزامي - وكان قد بلغ ابن حنبل أنه زار أحمد بن أبي دؤاد - فطرده ابن حنبل، وأغلق وراءه الباب. ونهى الشهود عن أن يشهدوا أمام قاض جهمي (يريد معتزليا) ولو استعدي عليه.
235
وتعالت سلطة المحدثين وعلى رأسهم الحنابلة، وقوي نفوذهم حتى كانوا حكومة داخل الحكومة، وحتى ذكروا أن محمدا بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ ألف كتابا في اختلاف الفقهاء لم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فسئل عن ذلك فقال: لم يكن أحمد فقهيا، إنما كان محدثا، وما رأيت له أصحابا يعول عليهم، فأساء ذلك الحنابلة ، وقالوا إنه رافضي؛ وسألوه عن حديث الجلوس على العرش فقال: إنه محال، وأنشد:
سبحان من ليس له أنيس
ولا له في عرشه جليس
فمنعوا الناس من الجلوس إليه، ومن الدخول عليه، ورموه بمحابرهم، فلما لزم داره رموه بالحجارة حتى تكدست، وحتى ركب صاحب الشرطة ومعه ألوف من الجند لمنع العامة عنه ورفع الحجارة.
وبالغوا بعد في ذلك، حتى إنه في سنة 323 «عظم أمر الحنابلة ببغداد وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون دور القواد والعوام، وإن وجدوا نبيذا أراقوه ، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء، فأرهجوا بغداد».
فكان سلطانهم وقوة شوكتهم إجابة لعمل المعتزلة قبلهم. ومن عهد المتوكل ونجم المعتزلة في أفول، ومن اعتزل فسرا، فإن جهر احتاج إلى شجاعة كبيرة، وعرض نفسه لغضب الناس عليه وكرههم له - يروي ابن زولاق في أخبار سيبويه المصري الموسوس المولود سنة 284 والمتوفى سنة 358 «أن سيبويه هذا اشتهى الجدل وعلم الكلام، وأخذ علم الاعتزال عن أبي علي بن موسى القاضي الواسطي وكان وجه المتكلمين بمصر؛ وكان سيبويه يظهر الكلام في الاعتزال في الطرق والأسواق فيحتمل، لما هو عليه (أي من الوسوسة والجنون)؛ حدثني من حضره يوم الجمعة في سوق الوراقين في جمع كبير، وفي الحاضرين أبو عمران موسى ابن رباح الفارسي المتكلم أحد شيوخ المعتزلة المشهورين، فكان سيبويه يصيح ويقول الدار دار كفر، حسبكم أنه لم يبق في هذه البلدة العظيمة أحد يقول القرآن مخلوق إلا أنا وهذا الشيخ أبو عمران أبقاه الله، فقام أبو عمران يعدو حافيا خوفا على نفسه حتى لحقه رجل بنعله».
236
فمن عهد المتوكل والسيادة للمحدثين ومنهجهم، ولم يسترد المعتزلة سلطتهم يوميا بعد المحنة.
لقد كان عمرو بن عبيد أبعد نظرا من ثمامة وابن أبي دؤاد، فقد عرض المنصور على عمرو بن عبيد أن يسمي له قوما من أصحابه المعتزلة ليعهد إليهم ببعض أموره في الدولة فأبى، ولكن ثمامة وابن أبي دؤاد وأمثالهما اختطوا خطة الانتفاع بالحكومة فخسروا دولتهم. وكان المنصور أصدق نظرا من المأمون، فأدرك المنصور حق الإدراك مركز الخلافة، وأنها فوق الأحزاب وفوق المذاهب الدينية، يستعين بكل المذاهب، ولا يخضع سلطانه لواحد منها، يقرب المعتزلة إذا شاء، ويقرب المحدثين والفقهاء ما لم تقض تعاليم أحدهم بشيء يمس سلطانه، فهناك التنكيل. أما في غير ذلك فواسع الصدر لجميعهم. ولكن المأمون خلط بين منصب الخليفة ومنصب المعلم، فأراد أن يكون خليفة ومعلما معا، وفاته أن طبيعة الملك والخلافة إصدار الأوامر الحاسمة التي لا تحمل جدلا ولا مناقشة. وطبيعة المعلم أن يعرض النظريات، ثم توضع نظرياته على بساط البحث ، فتارة تقبل وتارة ترفض، والطبيعتان مختلفتان، فتعرض قوانين الدولة وأوامر الخليفة للعبث بها والشك فيها مفسد لها، ونظريات المعلم إذا اتخذت شكل «دكريتو» أفسدت العلم. وهذا ما حدث من المأمون يوم أن أصدر «ديكريتو» وعاقب مخالفها معاقبة من يخالف أمرا رسميا، فكانت النتيجة إخفاقا تاما له ولمن خلفه على مبدئه. وكانت إخفاقا للمعتزلة لأنهم ربطوا أنفسهم به وبهم، ورضوا عنه وعنهم، وغامروا في الفتنة، وتولوا أمر المحنة.
والآن يحق لنا أن نتسائل: هل كان في مصلحة المسلمين موت الاعتزال وانتصار المحدثين؟
في رأيي أن ذلك لم يكن في مصلحتهم، وأنه كان خيرا للمسلمين ألا يدخل المعتزلة في أحضان الدولة، وأن يعيشوا كما عاشوا في عهد المنصور، وأول عهد المأمون؛ فلو ساروا على هذا النهج، وسار المحدثون على النهج الذي وضعوه لأنفسهم، لانتفع المسلمون من ذلك أكبر نفع، ولتغير تاريخ الإسلام؛ فحزب المعتزلة يمثل حزب الأحرار، وحزب المحدثين يمثل حزب المحافظين؛ ومن مصلحة الأمة أن يكون الحزبان، يدفع المعتزلة الناس إلى إعمال العقل، وإطلاق الفكر ويتقدمون الناس بمشاعلهم وأضوائهم ينيرون السبيل أمامهم؛ ويحافظ المحدثون على العادات والتقاليد الموروثة، ويتعلقون بأذيال المعتزلة يمنعونهم أن يندفعوا في السير حتى لا ينبتوا، فتسير الأمة سيرا هينا، ولكن إلى الأمام دائما. وإخلاء السبيل أمام طائفة من الطائفتين وفقدان الأخرى ضار ضررا بليغا.
فلما ذهب ضوء المعتزلة وقع الناس تحت سلطان المحدثين وأمثالهم من الفقهاء، وظلوا تحت هذا السلطان من عهد المتوكل إلى ما قبل اليوم بقليل؛ فكانت النتيجة جمودا بحتا، علم العالم أن يحفظ الأحاديث ويرويها كما سمعها، ويفسرها تفسيرا لغويا ويشرح رجال السند كما شرحه الأقدمون، هذا ثقة، وهذا ضعيف، من غير نقد عقلي؛ وفقه الفقيه أن يروي أقوال الأئمة قبله، فإذا عرضت مسألة جديدة لم تكن، فقصارى جهد المجتهد أن يخرجها على أصول إمامه. وتعجبني عبارة المسعودي السابقة، وهي أن المتوكل أمر الناس
بالتسليم والتقليد ؛ فهذه هي طبائع العلماء من عهد المتوكل، تسليم بالقضاء والقدر، وتسليم بما كان وما يكون، وتقليد للسابقين، وتقليد في الفتاوى والآراء، ومن ثم تكاد تكون الكتب المؤلفة في الحديث والفقه والتفسير، بل والنحو واللغة من عهد المتوكل صورة واحدة، إن اختلفت في شيء فاختلاف في الإطناب والإيجاز والبسط والاختصار. أما الترتيب فواحد، وأما الأمثلة فواحدة، وأما العبارة الغامضة في الكتاب الأول فغامضة في الكتاب الأخير؛ كلها خضعت لأمر المتوكل بالتسليم والتقليد، وانعدمت فيها كلها الشخصية لأن الشخصية عدوة التسليم والتقليد. ولو بقي الاعتزال لتلون المسلمون بلون آخر أجمل من لونهم الذي تلونوا به.
نعم وجد في الإسلام فرقة الفلاسفة وقاموا على أنقاض المعتزلة، وكان من هؤلاء الفلاسفة أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد وأمثالهم، ولكنهم في الحقيقة لم يغنوا غناء المعتزلة. لقد كان الفلاسفة فلاسفة أولا ودينيين آخرا، لا ينظرون إلى الدين إلا عندما تتعارض نظرية فلسفية مع الدين فيجدون للتوفيق بينهما، أما المعتزلة فكانوا دينيين أولا وفلاسفة آخرا، همهم الأول تعاليم الدين مفلسفا، والقرآن معقولا؛ وهم الفلاسفة آراء أرسطو وأفلاطون بحيث لا تصطدم مع الإسلام، وشتان بين النظرتين وبين الصبغتين. من أجل ذلك تعرض المعتزلة لمسائل الدين عن قرب، وتعرضوا للمحدثين وصدموهم، وللفقهاء ونازلوهم، وكانوا يقررون الأصل الديني ويردون على مخالفيهم في وضوح وجلاء؛ أما الفلاسفة فأرادوا أن يكونوا في سمائهم الفلسفية، وودوا لو نحوا الدين جانبا، فإن كان ولابد فمحاولة للتوفيق حتى لا يثور عليهم رجال الدين. لذلك أرى أن الفلاسفة لم يمسوا الحياة الواقعية للمسلمين، وكانوا في فلسفتهم اليونانية كالمفوضية اليونانية في البلاد الإسلامية، لا تمس مصالح الأمة التي تقيم فيها إلا عند التعارض مع مصلحتها. أما المعتزلة فتريد احتلالا وتريد إصلاحا وتريد توجيها، ولا تطمئن لعيشة العزلة. وناحية أخرى، وهي: أن المعتزلة كانوا أئمة البيان في الأمة العربية، وعلى رأسهم النظام والجاحظ وبشر بن المعتمر وثمامة، وأحمد بن أبي دؤاد. كل منهم إمام البيان في عصره، قد تثقفوا ثقافة عربية واسعة. يعرفون أشعار العرب وأخبارهم وآدابهم، ويعرفون المعاني العميقة التي هداهم إليها علم الكلام، فكانوا أدباء من نوع عميق لا يدانيهم فيه غيرهم؛ ومن ثم اخترعوا علم البلاغة كما أشرت من قبل - فكانوا من هذه الناحية أكثر اتصالا بالأمة الإسلامية وأبعد تأثيرا، إن لم يقرأ الناس كلامهم لاعتزالهم قرأوه لأدبهم وبلاغتهم، فكان الاعتزال يندس في ثنايا قولهم العذب، ومنطقهم الفصيح، ومعانيهم السائغة؛ أما عبارة الفلاسفة فعبارة جافة غامضة، كأنها رموز وإشارات، قد ملئت بالمصطلحات الثقيلة والعبارات الركيكة، فكانت وقفا عليهم وعلى من تتلمذ لهم لا تعدوهم، فكأنهم ألفوها واشترطوا في فهمها أن يكونوا معها ليشرحوها، فكانوا بذلك أمة وحدهم في عقليتهم وعباراتهم، فضاقت دائرتهم، وضعف أثرهم.
ومن أجل هذا لا أرى أن فلاسفة المسلمين سدوا مسد المعتزلة، بل ظلت سلطة المحدثين كما هي لم تتأثر بالفلاسفة أبدا؛ والفلاسفة كانوا يحمدون الله على السلامة منهم، ويرجونه أنه يديم عليهم السعادة التي يشعرون بها في تفكيرهم السماوي الميتافيزيقي.
لقد أدى المعتزلة للإسلام خدمة لا تقدر، فقد جاءت الدولة العباسية تحمي الفرس لأنها قامت على أكتافهم، وطارت من على عاتقهم، ولكن مذاهب الفرس ثنوية وتشبيه وتجسيم ونحو ذلك، وفي إعطاء الحرية للفرس خطر في دخول هذه المذاهب وتسربها إلى المسلمين؛ وقرب العباسيون اليهود والنصارى واستخدموهم في الطب وغير الطب، وكلفوهم الترجمة إلى العربية، فكان ذلك داعيا إلى تقريبهم واختلاط المسلمين بهم أكثر من اختلاطهم في العصر الأموي. فشعور الفرس واليهود والنصارى بهذه الحرية مكن طائفة منهم أن يتسللوا بأديانهم القديمة يريدون نشرها، ولذلك نجد في هذا العصر دعاة كثيرين يدعون إلى ثنوية الفرس ومانوية الفرس، وبعض تعاليم اليهودية والنصرانية، وبعض تعاليم الهنود الأقدمين؛ وبعض هؤلاء الدعاة تستروا بالإسلام، وبعضهم دعا دعوته في علانية، وأبيح الجدل والمناظرة في أدق المسائل وأعمقها، ولم يكن المحدثون والفقهاء يستطيعون أن يقفوا أمامهم، لأن المحدثين وأمثالهم مهرة في النصوص، والذي ينكر الإسلام لا يقتنع بمجرد ذكر آية أو رواية حديث، إنما يريدون دلائل عقلية على وجود الله وعلى نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم ؛ وعلى صحة أن القرآن من عند الله، كما يريدون دلائل عقلية على بطلان مذاهبهم؛ وكان هؤلاء جميعا من ثنوية ويهود ونصارى قد تسلحوا بالفلسفة اليونانية، واستخدموا منطقها فكونوا منه براهين على مذاهبهم، واستخدموا اللاهوت اليوناني يدعمون به معتقداتهم؛ فكان لابد لمن يقنعهم ويرد عليهم أن يتسلح بسلاحهم، وأن يكون على معرفة تامة بأساليبهم وأسرار مذاهبهم، فيقرع حجة عقلية بحجة عقلية، ويحمي المسلمين من هجومهم، وبث دعواتهم، فلم يقم بهذه المهمة، ويحمل هذا العبء في ذلك العصر إلا المعتزلة، فقد نازلوا الثنوية والديصانية والدهرية، واضطهدوا بشارا وجرير بن حازم السمني في البصرة، وجعلوا قوما من الثنوية يدخلون في الإسلام بناء على دعوتهم، وألفوا الكتب الكثيرة في الرد عليهم، ونازلوا اليهود والنصارى وردوا عليهم، وألفوا في إثبات النبوة عامة، وفي إثبات نبوة محمد خاصة، وأبلوا في ذلك بلاء حسنا؛ ولعل هذا هو السبب في أنا لا نجد - فيما وصل إلينا - لتعاليم المعتزلة نظاما عاما في البحث شاملا مرتبا، ولكن مسألة من هنا ومسألة من هناك حسب الجدل والمناظرة، لا حسب العقل الهادئ الذي يرتب في حجرته الأبواب والفصول ترتيبا منطقيا، فالمسائل تثار حسبما اتفق، إما في الجو الوثني أو اليهودي أو النصراني، أو في جو مجالس الخلفاء، أو مجالس العلماء، ويرد عليها المعتزلة، وتدون فيها آراؤهم من غير نظام إلا النظام الزمني في ظهور المسألة.
ولا يدري إلا الله ماذا كان يكون من الشر على المسلمين لو لم يقف المعتزلة هذا الموقف وقت هجوم خصوم الإسلام بهذه القوة التي هجموا بها، بل إن الأسلحة التي تسلح بها المسلمون بعد من علم الكلام على النمط الذي وضعه أبو الحسن الأشعري وخلفه، هي - من غير شك - وليدة الاعتزال، وترتيب لآراء المعتزلة، وتعديل لبعضها، وما كانت تكون لولاهم.
فلما ضعف شأن المعتزلة بعد المحنة ظل المسلمون تحت تأثير حزب المحافظين نحوا من ألف سنة، حتى جاءت النهضة الحديثة. وفي الواقع أن فيها لونا من ألوان الاعتزال، ففيها الشك والتجربة وهما منهجان من مناهج الاعتزال، كما رأيت في النظام والجاحظ؛ وفيها الإيمان بسلطة العقل، وحرية الإرادة؛ وبعبارة أخرى خلق الإنسان لأفعال نفسه، وما يتبع ذلك من مسئولية، وفيها حرية الجدل والبحث والمناظرة، وفيها شعور الإنسان بشخصيته، وعدم تحميل القدر كل تبعة ومسئولية، إلى كثير من أمثال ذلك، وكلها مبادئ - كما رأينا - قد قال بها المعتزلة وجروا عليها. وربما كان الفارق الوحيد بين تعاليم المعتزلة وتعاليم النهضة الحديثة، أن تعاليم المعتزلة لهذه المبادئ كانت مؤسسة على الدين، وتعاليم النهضة الحديثة مؤسسة على العقل الصرف؛ وبعبارة أخرى كان المعتزلة يرون هذه البادئ دينا، والنهضة الحديثة تراها عقلا، فاتصلت هذه المبادئ عند المعتزلة بالدين أتم الاتصال، ولم تتصل بالدين في النهضة الحديثة، بل كانت في كثير من المظاهر والأحوال خروجا على الدين.
في رأيي من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة، وعلى أنفسهم جنوا.
الفصل الثاني
الشيعة
عرفنا من الفصل الذي كتب عن الشيعة في «فجر الإسلام» أن التشيع أساسه الاعتقاد بأن «عليا» وذريته أحق الناس بالخلافة، وأن عليا كان أحق بها من أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عهد له بها من بعده، وكان كل إمام يعهد بها لمن بعده: فأهم خلاف بين الشيعة وغيرهم مسألة «الخلافة» لمن تكون. وإذ كان الخليفة يجمع في يديه الشئون الدينية والشئون السياسية؛ كان الخلاف بين الشيعة وغيرهم خلافا دينيا وسياسيا، وإن كان الخلاف السياسي مصبوغا أيضا بصبغة الدين. وإذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على خلافة علي في رأيهم، وكان علي قد عهد بها لمن بعده، وهكذا؛ فأبو بكر، وعمر، وعثمان، أخذوا حقه، والخلفاء الأمويون والعباسيون معتدون غاصبون للخلافة، والواجب على شيعة علي رد الحق لصاحبه، والعمل سرا وجهرا على أن يتولى الأمر أهله.
وكان يعارض هذا الرأي رأي آخر كان يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على من يخلفه، وترك الأمر للناس يرون ما يصلح لهم ومن يصلح لهم، فكل ما يتطلبه النبي أن يحافظ على الدين، وترعى تعاليمه ومبادئه، وليختر الناس بعد من يرون أنه أقدر على حمل هذا العبء والقيام بتكاليفه. ثم من هؤلاء من رأوا أن تكون دائرة الاختيار محصورة في قريش، لأن العرب أطوع للقرشيين، ولأن الخليفة ينبغي أن يكون ذا عصبية تشد أزره وتحمي ظهره، ولا قبيلة في العرب أعز من قريش؛ ومن هؤلاء من أدعم نظريته بحديث: «الأئمة من قريش»؛ ومنهم من رأى أن دائرة الانتخاب لا تقتصر على قريش، بل تعم المسلمين كلهم، ولو كان عبدا حبشيا متى توافرت فيه شروط الإمامة. وعلى هذا الرأي الأخير أكثر الخوارج.
وقد بدأ التشيع من فرقة من الصحابة كانوا مخلصين في حبهم لعلي، يرونه أحق بالخلافة لصفات رأوها فيه؛ من أشهرهم سلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود. وتكاثرت شيعته لما نقم الناس على عثمان في السنوات الأخيرة من خلافته، ثم لما ولي الخلافة.
وكان حزب الشيعة ككل حزب، ينضم إليه المخلص لمبادئه، ومن يرى المنفعة فيه - فتشيع قوم إيمانا بأحقية علي للخلافة وولده، وتشيع قوم كرهوا الحكم الأموي ثم العباسي، لأنهم ظلموا منه، أو أن قوما من قبائل العرب تعصبوا للأمويين، فكان العداء القبلي يتطلب أن يكون خصومهم في الجانب الآخر؛ وتشيع كثير من الموالي، لأنهم رأوا الحكم الأموي حكما مصبوغا بالأرستقراطية العربية، وأن الأمويين لم يعاملوهم معاملتهم للعرب، ولم يعدلوا بينهم، فاضطروا بحكم الطبيعة البشرية أن يؤيدوا - ولو سرا - من عاداهم، ولا أعدى لهم من الشيعة؛ وتشيع قوم من الفرس خاصة، لأنهم مرنوا أيام الحكم الفارسي على تعظيم البيت المالك وتقديسه، وأن دم الملوك ليس من جنس دم الشعب؛ فلما دخلوا في الإسلام نظروا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
نظرة كسروية، ونظروا إلى أهل بيته نظرتهم إلى البيت المالك، فإذا مات النبي
صلى الله عليه وسلم
فأحق الناس بالخلافة أهل بيته. وهكذا اعتنق التشيع طوائف مختلفة لأسباب مختلفة، بل اعتنقه أيضا قوم أسوأ من هؤلاء، قوم أرادوا الانتقام من الإسلام فتظاهروا بالغلو فيه خديعة ومكرا، ومن ضروب الغلو، الغلو في التشيع. وهذا أمر طبيعي في كل حزب، ففيه دائما المخلص والمدلس، ومن يعتقده دينا، ومن يراه جلبا لمصلحة وتحقيقا لغاية.
وقد انقسم الشيعة إلى فرق عدة، وأساس الاختلاف بينها شيئان: (1)
اختلاف في المبادئ والتعاليم: فمنهم المغالي المتطرف في التشيع الذي يسبغ على الأئمة نوعا من التقديس، ويبالغ في الطعن على من خالف عليا وحزبه إلى درجة الكفر؛ ومنهم المعتدل المتزن الذي يرى أحقية الأئمة في اعتدال، وخطأ من خالفهم خطأ لا يبلغ الكفر. (2)
الاختلاف في تعيين الأئمة؛ فقد أعقب علي وأبناؤه كثيرين، واختلف الشيعة فيما بينهم على الأئمة من ذرية علي؛ فمنهم من يقول هذا، ومنهم من يقول ذاك، فكان ذلك أيضا من أسباب الاختلاف. ولعل من الخير أن نقدم للقارئ هذه الشجرة. لنبين بها تسلسل الأئمة في وضوح وجلاء:
وقد انفض كثير من الفرق، وكانت قليلة الأهمية في تعاليمها وتاريخها، فلنقصر الآن على مذهبين كبيرين باقيين إلى اليوم وهما: الإمامية والزيدية، ولننهج في بحثنا منهجنا في الكلام على الاعتزال، فلنبدأ بتعاليمهم ونثني بمشاهير رجالهم وتاريخهم السياسي.
الإمامية
سموا بهذا الاسم نسبة إلى الإمام (الخليفة) لأنهم أكثروا من الاهتمام به وركزوا كثيرا من تعاليمهم حوله، فكانوا يرون أن عليا يستحق الخلافة بعد النبي
صلى الله عليه وسلم
لا من طريق الكفاية وحدها، ولا من طريق ما ورد عن النبي
صلى الله عليه وسلم
من أوصاف لا تنطبق إلا عليه، بل من طريق النص عليه بالاسم، ثم يرون أن الأئمة هم علي وأبناؤه من فاطمة، على التعيين واحدا بعد واحد، وأن معرفة الإمام وتعيينه أصل من أصول الإيمان؛ وإذا كان علي معينا بالاسم من النبي
صلى الله عليه وسلم
فأبو بكر وعمر مغتصبان ظالمان يجب التبرؤ منهما. على حين أن الزيدية أقل منهم تشددا في ذلك، فإن النبي عندهم عينه بالوصف لا بالشخص ولذلك لا يتبرأون من أبي بكر وعمر ولا يغمطونهما حقهما، بل يرون أن خلافتهما صحيحة وإن كان علي أفضل منهما، لأن إمامة المفضول جائزة مع وجود الأفضل.
وأهم فرق الإمامية «الاثنا عشرية»، وسميت بذلك لأنها تقول باثني عشر إماما على الترتيب الذي تراه في الشجرة. فأولهم الإمام علي ثم ابنه الحسن ثم الحسين إلى الثاني عشر وهو محمد المهدي الذي اختفى نحو سنة 260، وسيعود في آخر الزمان فيملأ الأرض عدلا. وقد كانت الأسرة الصفوية التي حكمت فارس وغيرها من سنة 907-سنة 1148ه. من هذه الطائفة الإمامية الأثنى عشرية، واتخذت التشيع وخصوصا الأثنى عشرية مذهب الدولة الرسمي، ولا يزال ذلك إلى الآن.
1
ومن الإمامية من قال: إن الإمامة انتقلت بعد جعفر الصادق وهو الإمام السادس إلى إسماعيل ابنه لا إلى موسى الكاظم، ومن أجل هذا يسمون الإسماعيلية، وقالوا بعد إسماعيل أتت أئمة مستورة، لأن الإمام يجوز له أن يستتر إذا لم تكن له شوكة وقوة يظهر بها على أعدائه، وإنما يظهر دعاته. وظل هؤلاء الأئمة يتداولون الإمامة واحدا بعد واحد في ستر وخفاء إلى أن جاء عبيد الله المهدي رأس الدولة الفاطمية، فأظهر الدعوة لما أحس القوة، ومن أجل هذا يسمون أيضا بالباطنية، لأنهم يقولون بالإمام الباطن أي المستور:
2
وقال بعضهم: إنما سموا الباطنية لقولهم بأن لكل ظاهر باطنا ولكل تنزيل تأويلا. ولا يزال في الهند إلى الآن طائفة كبيرة من الإسماعيلية.
وأهم مسألة يدور عليها كلام الإمامية مسألة الإمام؛ فهي مركز بحوثهم وهي الملون لعقيدتهم، وأكثر المسائل الفرعية ترجع إليها، وأهم ما يدور من الخلاف بينهم وبين أهل السنة إنما يدور حولها؛ فلنشرح نظرهم فيها، ونعقب عليه برأينا، وسنعتمد في شرح وجهة نظرهم على كتبهم، فذلك أنصف لهم، فننقل خلاصة ما ورد عن «الإمام» في كتاب الكافي للكليني،
3
فهو من أوثق كتبهم، فالإمام عند الشيعة له صلة روحية الله من جنس التي للأنبياء والرسل «كتب الحسن بن العباس المعروفي إلى الرضا: جعلت فداك. أخبرني ما الفرق بين الرسول والإمام والنبي؟ فكتب أو قال: الفرق بين الرسول والنبي والإمام أن الرسول هو الذي ينزل عليه جبريل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي، وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم؛ والنبي ربما سمع الكلام، وربما رأى الشخص ولم يسمع؛ والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص».
4
فالإمام بهذا النص يوحي إليه ، وإن اختلف طريق الوحي عن النبي والرسول، «والله عز وجل أعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل، إن زاد المؤمنون شيئا ردهم، وإن نقصوا شيئا أتمه لهم، وهو حجة على عباده، ولا تبقى الأرض بغير إمام، حجة لله على عبادة، ولو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة وكان هو الإمام». والإيمان بالإمام جزء من الإيمان، «عن أبي حمزة قال لي أبو جعفر: إنما يعبد الله من يعرف الله، فأما من لا يعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالا: قلت: جعلت فداك، فما معرفة الله؟ قال: تصديق الله عز وجل، وتصديق رسوله، وموالاة علي الائتمام به وبأئمة الهدى عليهم السلام، والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم. هكذا يعرف الله»،
5 «ومن لا يعرف الله عز وجل ويعرف الإمام منا أهل البيت فإنما يعرف ويعبد غير الله».
6 «وقال أبو جعفر: إن من أصبح من هذه الأمة لا إمام له، أصبح ضالا تائها، وإن مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق».
7
ويقول الله تعالى:
وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ، النور الإمام يأتم به، ويقول الله تعالى:
من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون، ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ، الحسنة معرفة الولاية وحبنا أهل البيت، والسيئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت
8
وقال الرضا: «الناس عبيد لنا في الطاعة موال لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب».
9
والأئمة هم الهداة الذين قال الله فيهم:
ولكل قوم هاد ، وهم ولاة الله وخزنة علمه. قال أبو جعفر: «نحن خزان علم الله، ونحن تراجمة وحي الله، نحن الحجة البالغة على من دون السماء، ومن فوق الأرض».
10
والأئمة نور الله الذي قال فيه تعالى:
فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ، ونور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار، ويحجب الله نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم.
11
والأئمة هم أركان الأرض أن تميد بأهلها وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثري.
12
وقال الرضا: «إن الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء؛ إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين، وميراث الحسن والحسين؛ إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين؛ إن الإمامة أس الإسلام النامي، وفرعه السامي؛ بالإمامة تمام الصلاة والزكاة، والصيام والحج، والجهاد وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف؛ الإمام يحل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه، بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة؛ الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها العالم، وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار؛ الإمام البدر المنير، والسراج الظاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى، وأجواز البلدان القفار، ولجج البحار؛ الإمام الماء العذاب على الظمأ، والدال على الهدى، والمنجي من الرديء ... الإمام المطهر من الذنوب والمبرأ من العيوب، المخصوص بالعلم، الموسوم بالحلم، نظام الدين وعز المسلمين، وغيظ المنافقين وبوار الكافرين؛ الإمام واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل، ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب، بل اختصاص من المفضل الوهاب؛ فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره؟ هيهات هيهات، ضلت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب ... وكلت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه، أو فضيلة من فضائله، وأقرت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكله، أو ينعت بكنهه، أو يفهم شيء من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه، وهو بحيث النجم من يد المتناولين، ووصف الواصفين ... ولقد راموا صعبا وقالوا إفكا، إذ تركوا أهل بيته عن بصيرة ... ورغبوا عن اختيار الله ورسوله إلى اختيارهم، والقرآن يناديهم:
وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ... فكيف لهم باختيار الإمام؟ عالم لا يجهل، وداع لا ينكل، معدن القدس والطهارة، والنسك والزهادة، والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول، ونسل المطهرة البتول ... إن العبد إذا اختاره الله لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاما، فلم يعي بعده بجواب ، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيد، موفق مسدد، قد أمن من الخطأ والزلل والعصار، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده، وشاهده على خلقه. و
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
13
وأعمال الناس ستعرض على النبي
صلى الله عليه وسلم
والأئمة، قال الله تعالى:
فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون . قال أبو عبد الله: المؤمنون هم الأئمة؛ وقال أبو عبد الله أيضا. «نحن شجرة النبوة، وبيت الرحمة، ومفاتيح الحكمة، ومعدن العلم،
وموضع الرسالة ،
ومختلف الملائكة ، وموضع سر الله، ونحن وديعة الله في عباده، ونحن حرم الله الأكبر، ونحن ذمة الله، ونحن عهد الله؛ فمن وفى بعهدنا فقد وفى بعهد الله، ومن خفرها فقد خفر ذمة الله وعهده».
14
وعند الأئمة جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل، وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها
15
وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين . ثم أورث الله الأئمة ذلك الكتاب الذي فيه تبيان كل شيء،
16
وأنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة، وأنهم يعلمون علمه كله؛ وقد كذب من ادعى من الناس أنه جمع القرآن كله، فما جمعه وحفظه كما نزله الله إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده.
17
وعند الأئمة اسم الله الأعظم؛
18
وعندهم الجفر وهو وعاء من آدم فيه علم النبيين والوصيين، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل، وعندهم مصحف فاطمة، وفيه مثل قرآننا ثلاث مرات، وليس فيه من قرآننا حرف واحد.
19
وقال أبو جعفر : «إن لله عز وجل علمين. علم لا يعلمه إلا هو، وعلم علمه ملائكته ورسله، فما علمه ملائكته ورسله فنحن نعلمه».
20
والأئمة إذا شاءوا أن يعلموا شيئا أعلمهم الله إياه، وهم يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا باختيارهم،
21
وهم يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم شيء؛
22
والله تعالى لم يعلم نبيه علما إلا أمره أن يعلمه عليا أمير المؤمنين، وأنه كان شريكه في العلم،
23
ثم انتهى هذا العلم إلى الأئمة، ولو كان لألسنة الناس أوكية لحدثتهم الأئمة بما لهم وما عليهم،
24
والله أمر بطاعتهم ونهى عن معصيتهم، وهم بمنزلة رسول الله إلا أنهم ليسوا بأنبياء، ولا يحل لهم من النساء ما يحل للأنبياء، فأما ما خلا ذلك فهم بمنزلة رسول الله،
25
وكان مع رسول الله روح أعظم من جبريل وميكائيل، وهذا الروح مع الأئمة،
26
وكل إمام يؤدي إلى الإمام الذي بعده الكتب والعلم والسلاح.
27
والأئمة لم يفعلوا شيئا ولا يفعلونه إلا بعهد من الله عز وجل، وأمر منه لا يتجاوزونه،
28
والإمام لا يلهو ولا يلعب، ولا يستطيع أحد أن يطعن عليه في فم ولا بطن ولا فرج.
29
والله ورسوله نصا على الأئمة واحدا فواحدا، فالله تعالى يقول:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر ، وقد نزلت في علي والحسن والحسين، وقال رسول الله: من كنت مولاه فعلي مولاه.
30
وكان كل إمام يعهد إلى الذي يليه، ويترك له كتابا ملفوفا ووصية ظاهرة، وفي هذا الكتاب ما يحتاج إليه ولد آدم منذ خلق الله آدم إلى أن تفنى الدنيا، وللإمام غيبة «وإذا بلغكم عن صاحب هذا الأمر غيبة فلا تنكروها»، وللإمام الثاني عشر غيبة، وهو المهدي الذي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما، قال تعالى:
فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ، قال أبو جعفر: «الخنس: إمام يخنس في زمانه ... ثم يبدو كالشهاب الواقد في ظلمة الليل».
31
وقال أبو عبد الله: من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر.
32
وقال أبو جعفر: كل من دان الله بعباده يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول، وهو ضال متحير، والله شانئ لأعماله.
33
وقال أيضا، قال الله تبارك وتعالى: لأعذبن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام جائر ليس من الله، وإن كانت الرعية في أعمالها برة تقية، ولأعفون عن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام عادل من الله، وإن كانت الرعية في أنفسها ظالمة مسيئة.
34
والإمام إذا مات لا يغسله إلا إمام. وقال أبو عبد الله: إن الله جل وعز إذا أراد أن يخلق الإمام من الإمام بعث ملكا فأخذ شربة من تحت العرش ودفعها إلى الإمام فشربها فيمكث في الرحم أربعين يوما لا يسمع الكلام ... فإذا وضعته أمه بعث الله إليه ذلك الملك الذي أخذ الشربة فكتب على عضده الأيمن «وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته»، فإذا قام بهذا الأمر رفع الله له في كل بلدة منارا ينظر به إلى أعمال العباد.
35
والملائكة تدخل بيوت الأئمة وتطأ بسطهم وتأتيهم بالأخبار،
36
وليس من الحق في أيدي الناس إلا ما خرج من عند الأئمة، وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل.
37
والأرض كلها للإمام، قال تعالى:
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، وأهل البيت هم الذين أورثهم الله الأرض وهم المتقون. وفي كل من الغنائم والغوص والكنوز والمعادن والملاحة الخمس، قال تعالى:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وللإمام نصف هذا الخمس؛ لأن الخمس يقسم على ستة أسهم: سهم لله، وسهم للرسول، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل، فما لله ولرسوله ولذي القربى للإمام،
38
فللإمام العشر من كل ما ذكرناه، والعشر الآخر ليتامى أهل البيت وحدهم ومساكينهم وأبناء السبيل منهم، فالخمس كله لأهل البيت، نصفه للإمام ونصفه لمن ذكرنا من أهل البيت. «وإنما جعل الله هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم عوضا عن صدقات الناس، وتنزيها من الله لهم لقرابتهم برسول الله
صلى الله عليه وسلم
وكرامة من الله لهم من أوساخ الناس»؛
39
وأما ما أخذ من غير أن يوجف عليه بخيل ولا ركاب فهي الأنفال، وهي لله ولرسوله خاصة، فتؤول للإمام وحده؛ وكذلك الآجام والمعادن والبحار والمفاوز، فهي للإمام خاصة، فإن عمل فيها قوم بإذن الإمام فلهم أربعة أخماس وللإمام الخمس، وتجري على الخمس الأحكام التي ذكرنا قبل.
40 •••
هذه خلاصة نظر الشيعة إلى الإمام مستمدة من أوثق كتبهم، ومعتمدة على ما روي من أقوال الأئمة أنفسهم مجردة من الشروح والحواشي، فهم بهذا النظر يسبغون على الإمام نوعا من التقديس، فهو يتلقى علمه من الله عن طريق الوحي، ويعده الله إعدادا خاصا من حين أن يكون نطفة، ويحفظه برعايته السامية، ويعصمه من الذنوب، ويورثه علم الأنبياء والمرسلين، ويطلعه على كل ما كان وما سيكون. وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يعلم علما علمه الناس، وعلما آثر به عليا، وعلي آثر به وصيه، وهكذا إلى المهدي الثاني عشر. والإمام ظل الله في أرضه، ونور الله في أرضه، والوسيلة الوحيدة لمعرفة الحق والباطل إلخ، والاعتقاد بذلك جزء من الإيمان، كالإيمان بالله ورسوله لا تنفع أعمال الإنسان إلا به، بل إن عصيان المؤمن قد يخففه أو يمحوه الإيمان بالإمام.
وهم بهذا يختلفون اختلافا كبيرا عن «أهل السنة» ونظرهم إلى الخليفة، فالخليفة عند «أهل السنة» إنسان ككل الناس، ولد كما يولد الناس، وتعلم أو جهل كما يتعلم الناس أو كما يجهل الناس؛ ليس له من مزية إلا أن كفايته وأخلاقه جعلت الناس يختارونه، أو أنه تلقى الخلافة ممن قبله، ليس يتلقى وحيا وليس له سلطة روحية، إنما هو منفذ للقانون الإسلامي، وقد ينحرف عن التنفيذ فلا طاعة له على الناس، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ وليس له أن يشرع إلا في حدود القوانين الإسلامية وإلا فتشريعه باطل، ثم قد يجور وقد يعدل، وقد يتهتك ويشرب الخمر فيكون عاصيا؛ والمؤرخون أحرار في تشريحه كتشريح كل الناس، ويزنونه بنفس الموازين التي توزن بها أعمال الناس، وإن انحرف واستطاعوا عزله عزلوه.
أما الإمام في نظر الشيعة ففوق أن يحكم عليه، وهو فوق الناس في طينته وتصرفاته، وهو مشرع وهو منفذ، ولا يسأل عما يفعل، والخير والشر يقاس به، فما عمله فهو خير، وما نهى عنه فشر، وهو قائد روحي، وله سلطة روحية تفوق حتى سلطة البابا في الكنيسة الكاثوليكية؛ فالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج لا تنفع إلا بالإيمان به، كما لا تنفع أعمال الكافر من غير إيمان بالله ورسوله.
وظاهر أن عقيدة الشيعة على هذا المنوال تشل العقل، وتميت الفكر، وتعطي للخليفة أو الإمام سلطة لا حد لها، فيعمل ما يشاء، وليس لأحد أن يعترض عليه، ولا لثائر أن يثور في وجهه ويدعي الظلم، لأن العدل هو ما فعله الإمام. وهي أبعد ما تكون عن الديمقراطية الصحيحة التي تجعل الحكم للشعب في مصلحة الشعب، وتزن التصرفات بميزان العقل، ولا تجعل الخليفة والإمام والملك إلا خادما للشعب، فيوم لا يخدمهم لا يستحق البقاء في الحكم.
حكم الإمام في نظر الشيعة حكم ديني معصوم، وفي هذا إفناء لعقليتهم، وتسليم مطلق لتصرفات أئمتهم؛ وأين هذا النظر من النظر المستند إلى الطبيعة، وهو أن الله لم يخلق فرعا أو أسرة من الناس تمتاز كلها - متسلسلة - بامتياز لا حد له، وفوق مستوى كل الناس في العقل والدين والحكم والتصرف. إن المشاهد والمعقول أن كل أسرة فيها الطالح والصالح والذكي والغبي، وكلنا أولاد آدم، وفينا أصلح الناس وأفسد الناس؛ وولدا آدم لصلبه قال فيهما الله تعالى:
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين ، وابن نوح قال الله فيه:
يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ؛ وقال الله:
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ؛
ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين ؛ ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول لابنته فاطمة - وهو يعظها -: (يا فاطمة! اعملي فلن أغني عنك من الله شيئا).
فهذه الآيات كلها تدل على أن القرابة والنسب لا مدخل لهما في تقويم الأشخاص، وليس الصلاح والتقوى والعلم تورث كما يورث المال، إنما هي أمور خاضعة لقوانين أخرى غير قانون الإرث المالي. ومن مزايا الإسلام العظيمة تقريره أن الإنسان يوزن بأعماله لا بآبائه ولا بجاهه ولا بماله:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، وقد كان من الموالي من هو أقرب لرسول الله من بعض القرشيين. فدعوى أن الإمامة إرث وأن الإمام معصوم، وأن الإيمان بالإمام يجب المعاصي، قلب لنظام الإسلام وهدم لأهم مبادئه.
وقد كان عمر يخطئ وأبو بكر يخطئ وعلي يخطئ؛ ولو كان لعلي كل هذا الذي يدعونه للإمام من عصمة وعلم ببواطن الأمور وخفاياها ونتائجها لتغير وجه التاريخ، ولما قبل التحكيم، ولدبر الحروب خيرا مما دبر؛ فإن ادعوا أنه علم وسكت وتصرف وفق القدر، فهو خاضع للظروف خضوع الناس، تتصرف فيه حوادث الزمان كما تتصرف في الناس؛ خاضع للحكم عليه بالخطأ والصواب خضوع الناس؛ والنبي نفسه يقول
ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني .
الحق أن هذه أوهام جرت على الناس البلاء، وجعلتهم يذلون ويخضعون خضوعا مطلقا للظلم والفساد، ويرضون به، ولا يرفعون صوتهم بالنقد، بل ولا يقومون بأضعف الإيمان وهو الاستنكار بالقلب.
وهذا النظر الشيعي إلى الإمام يلقى على تاريخ الفاطميين وعلى كل الدول الشيعية ضوءا قويا، فنعرف السر لم كان يخضع الناس للخلفاء، وكيف ينظرون إليهم نظر تقديس، وكيف كانت تقابل أعمالهم مهما جارت وظلمت بالقبول والاستحسان.
إن شئت فاستعرض ديوان ابن هانئ الأندلسي المغربي الشيعي تر العجب العجاب، فاستمع مثلا لما يقوله في مدح المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد
وكأنما أنصارك الأنصار
أنت الذي كانت تبشرنا به
في كتبها الأحبار والأخبار
هذا إمام المتقين ومن به
قد دوخ الطغيان والكفار
هذا الذي ترجى النجاة بحبه
وبه يحط الإصر والأوزار
هذا الذي تجدي شفاعته غدا
حقا وتخمد أن تراه النار
من آل أحمد كل فخر لم يكن
ينمى إليهم ليس فيه فخار
كالبدر تحت غمامة من قسطل
صحيان لا يخفيه عنك سرار
وفيها يقول:
أبناء فاطم! هل لنا في حشرنا
لجأ سواكم عاصم ومجار
أنتم أحباء الإله وآله
خلفاؤه في أرضه الأبرار
أهل النبوة والرسالة والهدى
في البينات وسادة أطهار
والوحي والتأويل والتحريم
والتحليل لا خلف ولا إنكار
إن قيل من خير البرية لم يكن
إلا كم خلق إليه يشار
لو تلمسون الصخر لا نبجست به
وتفجرت وتدفقت أنهار
أو كان منكم للرفات مخاطب
لبوا وظنوا أنه إنشار
وفيها يقول:
شرفت بك الآفاق وانقسمت بك ال
أرزاق والآجال والأعمار
عطرت بك الأفواه إذ عذبت لك الأم
واه حين صفت لك الأكدار
جلت صفاتك أن تحد بمقول
ما يصنع المصداق والمكثار
والله خصك بالقران وفضله
واخجلتي! ما تبلغ الأشعار
ويقول في طاعة الإمام:
فرضان من صوم وشكر خلافة
هذا بهذا عندنا مقرون
فارزق عبادك منك فضل شفاعة
واقرب بهم زلفى فأنت مكين
لك حمدنا لا أنه لك مفخر
ما قدرك المنثور والموزون
قد قال فيك الله ما أنا قائل
فكأن كل قصيدة تضمين
ويقول في أن الإمام من نور الله:
وما سار في الأرض العريضة ذكره
ولكنه في مسلك الشمس سالك
وما كنه هذا النور نور جبينه
ولكن نور الله فيه مشارك
ويقول:
لي صارم وهو شيعي كحامله
يكاد بسبق كراتي إلى البطل
إذا المعز معز الدين سلطه
لم يرتقب بالمنايا مدة الأجل
كما يلقى ضوءا على فهم ما يقوم به شيعة الإسماعيلية نحو «السير» محمد شاه ابن أغا علي المعروف بأغاخان (وهو من نسل الحسن بن الصباح صاحب قلعة الموت، والحسن هذا من نسل علي بن أبي طالب)، وهو في منتهى الغنى ومعروف في الأوساط الأرستقراطية الأوروبية ، وله خيل سباق تشترك في أشهر الحفلات، ويعيش عيشة بذخ وترف، ومع هذا يجبي إليه الإسماعيلية عشر أموالهم، وينظرون إليه نظرة تقديس.
إن شئت نظرا معتدلا هادئا فوازن بين قوم يرون أن إمامهم أحد الناس يجري عليه ما يجري عليهم، ويخطئ كما يخطئون، ويصيب كما يصيبون، فإذا أخطأ نقد، وإذا أصر على الخطأ عزل، وهو ليس إلا خادما للأمة، فإذا لم يؤد الخدمة نحي؛ وبين قوم يرون أن إمامهم معصوم لا يأتي بخطأ، ويجب أن تحور العقول ويقلب وضعها في الرؤوس حتى تفهم أن ما يأتي الإمام به عدل كائنا ما كان.
وانظر كيف يسعد الأولون، وكيف تتحرر عقولهم، وكيف يخشاهم إمامهم، وكيف يسعون دائما نحو الكمال بما يثيرون من نقد وما يعالجون من إصلاح، وكيف يفسد أمر الآخرين، وتشل عقولهم، ويتدهورون في شئونهم.
إني أرى رأيا لا تحيز فيه أن نظر أهل السنة إلى الخلافة كان أعدل وأقوم وأقرب إلى العقل، وإن كانوا يؤاخذون مؤاخذة شديدة على أنهم لم يطبقوا نظريتهم تطبيقا جريئا؛ فلم ينقدوا الأئمة نقدا صريحا، ولم يقفوا في وجوههم إذا ظلموا، ولم يقوموهم إذا جاروا، ولم يضعوا الأحكام الحاسمة في موقف الخليفة من الأمة، وموقف الأمة من الخليفة، بل استسلموا لهم استسلاما معيبا، فجنوا بذلك على الأمة أكبر جناية، ولكنهم كانوا أحسن حالا من الشيعة؛ فهناك من مؤرخيهم من دونوا تاريخ الخلفاء في الأمانة، وصوروهم كما يعتقدون، وعابوا بعض تصرفاتهم؛ ومن المشرعين من وضعوا الأحكام السلطانية يبينون فيها ما يجب للإمام، وما يجب للأمة؛ إلى غير ذلك. وعلى كل حال فنحن الآن نوازن بين النظريتين، ونقارن بين الوجهتين.
وأظن أن الزمن الذي أفهم الناس حقوقهم وواجباتهم، وحررهم مما يشل تفكيرهم يعدل بإخواننا الشيعة عن هذا النظر في الأئمة الذي لا يصلح إلا لأن يدون في التاريخ - على أنهم في حياتهم العملية سائرون على هذه الطريقة فعلا من إدخال الإصلاحات الاجتماعية والمجالس النيابية، ومشايعة المدنية الغربية - وهذا لا يتفق ونظرية الإمامة، وترقب المهدي المنتظر؛ وليس من العدل أن تكون أفكار رجال الدين في جانب، والحياة الواقعية من جانب، فمهمتهم أكبر من أن يلقنوا تعاليم الإمامة نظريا وتلقينها كذلك؛ إنما مهمتهم مواجهة الواقع، وإصلاح ما فيه من خطأ إن كان. •••
ولنعد بعد إلى موقفنا في شرح تعاليم الشيعة.
من أهم تعاليمهم التي تتصل بالخلافة أو الإمامة مسائل أربع هي:
العصمة ، و
المهدية ، و
التقية ، و
الرجعة ؛ وهي كلمات كثيرة الدوران في المذهب الشيعي.
فأما العصمة فيقصدون منها أن الأئمة - كالأنبياء - معصومون في كل حياتهم، ولا يرتكبون صغيرة ولا كبيرة، ولا تصدر عنهم أية معصية، ولا يجوز عليها خطأ ولا نسيان. ونظر الشيعة في ذلك وحججهم نلخصها فيما يأتي: (1)
قالوا إن الذي دعا إلى نصب الإمام هو جواز الخطأ من الأمة، فإذا جاز الخطأ أيضا من الإمام لاحتجنا إلى هاد آخر، وهو مثله، فيلزم من ذلك التسلسل.
ورد عليهم خصومهم بأن الحاجة إلى الإمام ليست هي جواز الخطأ من الأمة؛ بل وظيفته تنفيذ الأحكام ودرء المفاسد، وحفظ بيضة الإسلام، ولا حاجة في ذلك إلى العصمة، بل يكفي الاجتهاد والعدالة. (2)
واستدلوا أيضا بأنه حافظ للشريعة، فيلزم أن يكون معصوما حتى يؤمن على حفظها، وإلا احتاج إلى حافظ آخر.
وكان جواب خصومهم أن الإمام ليس هو الحافظ وإنما هو المنفذ، وحافظ الشريعة هم العلماء لقوله تعالى:
والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ؛ وقوله تعالى:
كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون - ولو كان وجود المعصوم ضروريا لوجب أن يكون في كل قطر بل في كل بلدة؛ إذ الواحد لا يكفي للجميع لانتشار المكلفين في الأقطار - ونصب نائب عنه لا يفيد لأن النائب غير معصوم.
ومما ردوا به عليهم أيضا ما روي عن علي في «الكافي» أنه قال لأصحابه: «لا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست آمن أن أخطئ»، وما روي أن الحسين كان يظهر الكراهة من صلح أخيه الحسن مع معاوية ويقول: «لو جز أنفي كان أحب إلي مما فعله أخي»، إلى آخر ما قالوا.
وهذه العقيدة بعصمة الأئمة غريبة حقا على الإسلام، فلم نعرف هذا الموضوع أثير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا صدر الإسلام، بل ولا نعرف وصف العصمة أسند إلى الأنبياء في هذا العصر، وروح القرآن الكريم لا يفهم منها دعوى العصمة لأحد من الناس، وفي القرآن:
وعصى آدم ربه فغوى : وموسى وكز الرجل فقتله:
فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ، وقال:
رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ؛ وفي القرآن قصة سليمان:
إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد، فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ، ويونس:
إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه
ونبينا يقول الله له:
ووجدك ضالا فهدى
ويقول له:
وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ، ويقول له:
عفا الله عنك لم أذنت لهم ، وعاتبه بقوله تعالى:
عبس وتولى أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى ؛ ويعترف القرآن للنبي بذنوب غفرها الله له:
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ،
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ؛ ويؤكد رسول الله في القرآن أنه بشر
هل كنت إلا بشرا رسولا ،
إن أنا إلا نذير وبشير .
فمفهوم هذه الآيات واضح، وهي لا تتفق مطلقا مع ما يدعيه الشيعة لعصمة أئمتهم، فإذا كان هذا ما قصه الله عن الأنبياء، فكيف يرقى الأئمة منزلة فوق منزلة الأنبياء.
ويظهر أن قول الشيعة في الأئمة هو السبب في بحث المتكلمين في عصمة الأنبياء ووضعه بحثا في علم الكلام؛ فذهب قوم من المرجئة وابن الطيب الباقلاني من الأشعرية ومن اتبعه إلى أن الرسل غير معصومين إلا من الكذب في التبليغ فإنه لا يجوز عليهم؛ وذهبت طائفة إلى أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم كبيرة من الكبائر أصلا، وجوزوا عليهم الصغائر؛ وذهب جمهور أهل الإسلام من أهل السنة والمعتزلة والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبي أصلا معصية عن عمد لا صغيرة ولا كبير ة. ويقول ابن حزم: إنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد، ويقع منهم أيضا قصد الشيء يريدون به وجه الله والتقرب منه فيوافق خلاف مراد الله، إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلا، بل ينبههم على ذلك، ويظهر ذلك لعباده ويبين لهم.
41
ويقول المواقف وشرحه: «أجمع أهل الملل والشرائع على عصمة الأنبياء من تعمد الكذب فيما دل المعجز على صدقهم فيه كدعوى الرسالة وما يبغونه عن الله ... وأما سائر الذنوب فهي إما كفر أو غيره، فأما الكفر فأجمعت الأمة على عصمتهم منه ... وأما غير الكفر فإما كبائر أو صغائر، وكل منهما إما عمدا وإما سهوا، أما الكبائر عمدا فمنعه الجمهور ... وأما صدورها عنهم سهوا أو على سبيل الخطأ في التأويل فجوزه الأكثرون ... وأما الصغائر عمدا فجوزه الجمهور إلا الجبائي، وأما سهوا فهو جائز اتفاقا؛ واستثنى أكثر المعتزلة الصغائر الخسيسة، وهي ما يحكم على صاحبها بالخسة ودناءة الهمة، فإنها لا تجوز أصلا لا عمدا ولا سهوا. هذا كله بعد الوحي، وأما قبله فقال الجمهور: لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة. وقال أكثر المعتزلة: تمتنع عليهم الكبيرة، لأن صدورها يوجب النفرة وهي تمنع من إتباعه فتفوت مصلحة البعثة».
42
فظاهر من هذا أن جمهور المسلمين لم ينظروا حتى إلى الأنبياء نظر الشيعة إلى الأئمة، ولم يمنحوا الأنبياء العصمة المطلقة حتى من الخطأ والنسيان، وحتى قبل النبوة كالذي قاله الشيعة في الأئمة.
وفكرة العصمة للأمة بعيدة عن الإسلام وتعاليمه، كما أنها بعيدة عن الطبائع البشرية التي ركبت فيها الشهوات، وركب فيها الخير والشر، ومزجت فيها الميول المتعاكسة؛ وفضيلة الإنسان الراقي ليس في أنه معصوم، بل في أنه قادر على الخير والشر، وينجذب إليهما، وهو في أكثر الأحيان ينجذب إلى الخير، ويدفع الشر. أما الطبيعة المعصومة فطبيعة الملائكة الذين
لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون مايؤمرون
لا طبيعة الإنسان الذي لو فقد شهوته لفقد حيويته.
ويعجبني في ذلك قول الغزالي في التوبة: «وليس في
الوجود آدمي
إلا وشهوته سابقة على عقله، وغريزته التي هي عدة الشيطان متقدمة على غريزته التي هي عدة الملائكة. فكان الرجوع عما سبق إليه على مساعدة الشهوات ضروريا في حق كل إنسان نبيا كان أو غبيا، فلا تظن أن هذه الضرورة اختصت بآدم عليه السلام
43
وقد قيل:
فلا تحسبن هندا لها الغدر وحدها
سجية نفس، كل غانية هند
بل هو حكم أزلي مكتوب على جنس الإنس لا يمكن فرض خلافه ما لم تتبدل السنة الإلهية التي لا مطمع في تبديلها ... فكل بشر لا يخلو عن معصية بجوارحه إذا لم يخل عنه الأنبياء، كما ورد في القرآن والأخبار من خطايا الأنبياء وتوبتهم وبكائهم على خطاياهم، فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب، فإن خلا في بعض الأحوال عن الهم فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله، فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله ... ولا يتصور الخلو، في حق الآدمي عن هذا النقص، وإنما يتفاوتون في المقادير؛ فأما الأصل فلابد منه، ولهذا قال عليه السلام: «إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة»
44
وأغلب الظن أن بحث المتكلمين في عصمة الأنبياء متأخر عن قول الشيعة في عصمة الإمام، كما أن أغلب الظن أن الذي دعا إلى هذه الفكرة ما نشأ بين الشيعة وخصومهم من دعوى التفاضل، فقد فضل الشيعة عليا وفضل «أهل السنة» أبا بكر وعمر، وبدأت من ذلك الحين نغمة تعداد الفضائل لكل، فلم يكتف كل فريق بالحقائق، بل وضعوا الأحاديث لرفعة صاحبهم كما نقلنا قبل من النصوص الدالة على ذلك
45
وأتت الخلفاء بعد من الأمويين والعباسيين لأهل السنة كما تسلسل الأئمة للشيعة، فبقي التفاضل على مرور الزمان تعلو نغماته، ولكن خلفاء «أهل السنة لم تسبغ عليهم العصمة. وأئمة الشيعة أسبغت عليهم العصمة لأسباب: (1)
أن الخلفاء من عهد أبي بكر وعمر ثم الأمويين والعباسيين، قد تسلموا زمام الحكم وباشروا سياسة الرعية فعلا، ومباشرة الحكم - من جهة - تعرض الحاكم للعمل، فإذا عمل تعرض للخطأ والصواب، وكل ما في الأمر أن الأشخاص الحاكمين يختلفون؛ فبعضهم صوابه أكثر من خطئه، وبعضهم خطؤه أكثر من صوابه. وليس من الممكن في طبيعة الحكام أن يصيبوا دائما؛ ومن جهة أخرى. فتصرفاتهم اليومية حتى غير ما يتعلق منها بالحكم ظاهرة للخاصة منقولة على ألسنتهم للعامة، ولذلك عرفنا منهم من كان يشرب، ومن كان لا يشرب، ومن كان يحب الجواري، ومن كان لا يحب، ومن كان يغني أو يحب الغناء ومن لا يغني ومن لا يميل للغناء. على الجملة عرفنا كل تفاصيل حياتهم بمحاسنها ومساوئها وصوابها وخطئها، ومحال أن تدعي العصمة لهؤلاء بعد ذلك. أما أئمة الشيعة فلم يتولوا الحكم إلا أياما قليلة، في عهد علي كانت أيام حرب وعدم استقرار، والأئمة بعد ذلك لم يتعرضوا للحكم ولم يتعرضوا للجمهور، فلم تجرب أعمالهم، ولم تظهر تصرفاتهم، ويضاف إلى ذلك أنهم مضطهدون اضطهادا مستمرا من الولاة والخلفاء، وعواطف الناس دائما مع المضطهد المظلوم، وهي على عكس ذلك مع المضطهد ومن يتولى الحكم.
إن نصف الناس أعداء لمن
ولي الأحكام هذا إن عدل
فدعوى عصمتهم تجد مرتعا خصيبا يساعد عليها تستر الأئمة وأحيانا غيبتهم، فهم لم يتعرضوا للحكم حتى يختبروا وتظهر أعمالهم، إنهم أحيطوا بجو خفاء وغموض يهيئان النفوس لقبول دعوى العصمة؛ ولو ادعيت العصمة لبني أمية والعباس لكانت مهزلة تقابل بالضحك والاستخفاف. (2)
وسبب آخر وهو أن أكثر من كان يحيط بالخلفاء في الصدر الأول والعهد الأموي من العرب، والعرب أمة ديمقراطية تنظر إلى الخليفة نظرهم إلى أحدهم، لا يمتاز عنهم كثيرا، بل منهم من كان يغلو في الديمقراطية أيام النبي نفسه فكان القرآن يحد من هذا الغلو في الديمقراطية، ويقول لهم
لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي . ووفد على النبى وفد بني تميم وقت الظهيرة وهو راقد، فجعلوا ينادونه يا محمد اخرج لنا؛ فاستيقظ فخرج ونزلت:
إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون
ودخل عيينة بن حصن على النبي
صلى الله عليه وسلم
وعنده عائشة من غير استئذان، فقال رسول الله: أين الاستئذان؟ قال يا رسول الله ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت، ثم قال: من هذه الجميلة إلى جانبك؟ فقال
صلى الله عليه وسلم : هذه عائشة أم المؤمنين. فلما خرج قالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: أحمق مطاع، وإنه على ما ترين لسيد قومه؛ ونزل في ذلك قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق
إلى غير ذلك. وكانوا مع من بعده من الخلفاء أشد جرأة، والتاريخ مملوء بالشواهد على ذلك. وهذه الديمقراطية الغالية أحيانا والمعتدلة أحيانا يستحيل أن تنمو فيها بذرة دعوة إلى عصمة. أما التشيع فكان حوله، خصوصا في آخر العهد الأموي والعهد العباسي، كثير من الفرس ربوا على أرستقراطية الملوك، وورثوا عن آبائهم نظرة التقديس لملوكهم؛ وسمي العرب هذه النزعة كسروية نسبة إلى كسرى ملك الفرس، لأنهم لا يعرفونها بين العرب. قال الثعالبي النيسابوري في كتابه (المضاف والمنسوب) بعد أن ذكر عدل كسرى أنو شروان: «فأما سائر الأكاسرة فإنهم كانوا ظلمة فجرة، يستعبدون الأحرار، ويجرون الرعية مجرى الأجراء والعبيد والإماء، فلا يقيمون لهم وزنا، ويستأثرون عليهم حتى بأطايب الأطعمة والثياب الحسنة والمراكب والنساء الحسان، والدور السرية، ومحاسن الآداب؛ فلا يجترئ أحد من الرعايا أن يطبخ سكباجا، ويلبس ديباجا، أو يركب هملاجا، أو ينكح امرأة حسناء، أو يبني دارا قوراء، أو يؤدب ولده، أو يمد إلى مروءة يده، وكانوا يبنون أمورهم على معنى قول عمرو بن مسعدة للمأمون: «ملك ما يصلح للمولى على العبد حرام».
46
مثل هذه النزعة ولهذه الحالة النفسية، وغلبة العبودية يمكن أن تثمر فيها دعوى العصمة.
ويظهر أن دعوى العصمة لم يكن يعرفها الأئمة الأولون، فقد روينا قبل قول علي في المشورة، لأنه لا يؤمن الخطأ من نفسه، وروينا تخطئة الحسين للحسن في صلحه مع معاوية.
إنما وجد القول بالعصمة من غلاة الشيعة أولا، ولم يكن يسلم به الأئمة الأولون ثم زاد القول في آخر الدولة الأموية، وكانت العصمة مسلكا من مسالك الدعوة لآل البيت، وتحريضا للناس على الثورة ضد الظالمين من الأمويين. •••
ويتصل بهذه العصمة قولهم بأن الأئمة وسطاء بين الله والناس وشفعاء، وأن الاعتقاد فيهم كاف في محو السيئات ورفع الدرجات. روى ابن بابويه القمي عن الفضل بن عمرو قال: «قلت لأبي عبد الله: لم صار علي قسيم الجنة والنار؟ قال: لأن حبه إيمان وبغضه كفر، وإنما خلقت الجنة لأهل الإيمان، والنار لأهل الكفر، فهو قسيم الجنة والنار، لا يدخل الجنة إلا محبوه، ولا يدخل النار إلا مبغضوه».
ويقول بعضهم:
حب علي في الورى جنة
فامح بها يارب أوزاري
لو أن ذميا نوى حبه
حصن في النار من النار
ويقول ابن هانئ:
هذا الشفيع لأمة يأتي بها
وجدوده لجدودها شفعاء
وكتب الشيعة مملوءة بالأحاديث والأخبار الدالة على هذا المبدأ، وفيه هدم لمبدأ الإسلام الجميل، وهو مسئولية الإنسان وأن قيمة كل إنسان عمله
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
وأن كائنا من كان حتى الأنبياء لا يغنون عن أحد شيئا
يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ،
واتقوا يوما لاتجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ،
قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا .
ففي الاعتقاد بأن الحب لآل البيت والأئمة غناء إهدار ركن من أعظم أركان الإسلام، وهو المطالبة بالعمل الصالح وارتباط الثواب به، والنهي عن العمل السيئ وارتباط العقوبة به إذ يكفي حب آل البيت ثم ترتفع التكاليف.
لقد دخل على المسلمين من جراء العصمة والمبالغة في الشفاعة ضرر كبير، ولم يقتصر الضرر على الشيعة إذ تسربت تعاليمهم إلى غيرهم من الفرق الأخرى الإسلامية؛ فكان السنيون إذا رأوا الشيعة ينسبون عملا وفضلا لإمام نسبوا مثله للأنبياء على الأقل؛ فغلا بعضهم في القول بعصمة الأنبياء من الكبائر والصغائر قبل النبوة وبعدها، وهو مخالف لصريح القرآن؛ ورأوا أن الشيعة يقولون بأن للأئمة نورا، فقال بعضهم. إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لم يكن له ظل؛ ورأوا الشيعة تقول إن الإمامة تورث، فزعم بعض الصوفية أن مشيخة الطرق تورث، فنور الشيخ ينتقل منه إلى ابنه، وإذا مات وخلف صبيا فهو الشيخ ولو كان رضيعا لأن فيه نور أبيه؛ ورأوا الشيعة تقول بعصمة الأئمة، فاعتقد العامة بعصمة الأولياء، فلا يصح الطعن على من سموه وليا ولو رأوه يشرب الخمر، وكفوا ألسنتهم وأيديهم عنه، بل وتبركوا به، لأنه فوق أن يسأل عن عمله. وكم فسد الإسلام من هذه الأوهام، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
المهدي:
ومن عقائد الشيعة البارزة الاعتقاد في المهدي، وكلمة المهدي اسم مفعول من هدى، يقال هداه الله الطريق أي عرفه ودله عليه وبينه له فهو مهدي. ولم ترد في القرآن كلمة المهدي وإنما ورد المهتدي:
من يهد الله فهو المهتد ، وورد الهادي
ولكل قوم هاد ، وقد ورد في شعر حسان بن ثابت وصف النبي
صلى الله عليه وسلم
بالمهتدي:
بأبي وأمي من شهدت وفاته
في يوم الاثنين النبي المهتدى
ووصفه بالهادي:
بالله ما حملت أنثى ولا وضعت
مثل النبي رسول الرحمة الهادي
ووصفه أيضا بالمهدي في قوله في رثائه
صلى الله عليه وسلم :
ما بال عيني لا تنام كأنما
كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعا على المهدي أصبح ثاويا
ياخير من وطئ الحصا لا تبعد
وقد وردت في بعض الأحاديث كلمة المهدي وصفا لعلي، فقد روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «وإن تؤمروا عليا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الصراط المستقيم»:
47
ولما قتل الحسين بن علي وصفه سليمان بن صرد بأنه «مهدي ابن مهدي». وأطلقه الشعراء في دولة بني أمية حتى على بعض الخلفاء الأمويين، فقال نهار بن توسعة في سليمان بن عبد الملك:
له راية بالثغر سوداء لم تزل
تفض بها للمشركين جموع
مباركة تهدي الجنود كأنها
عقاب نحت من ريشها الوقوع
على طاعة المهدي لم يبق غيرها
فأبنا وأمر المسلمين جميع
48
وهي في كل ذلك بمعناها اللغوي الديني رجل هداه الله فاهتدى، ثم نراها تأخذ معنى جديدا وهو إمام منتظر يأتي فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. وأول ما نعلم من إطلاقها بهذا المعنى ما زعمه كيسان مولى علي بن أبي طالب في محمد بن الحنيفة (وهو ابن علي بن أبي طالب من أم من بني حنيفة نسب إليها)، فقد زعم كيسان إمامة محمد هذا وأنه مقيم بجبل رضوى (وهو جبل على سبع مراحل من المدينة) وإلى هذا أشار كثير عزة، وكان كيسانيا فقال:
وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانا
برضوى عنده عسل وماء
وكذلك فعل المختار بن أبي عبيد الثقفي، فكان يدعو الناس. إلى إمامة محمد بن الحنفية ويزعم أنه المهدي.
49
لقد مات ابن الحنفية سنة 81ه، وصلى عليه أبان بن عثمان بن عفان، وكان والي المدينة، ودفن بالبقيع، ولكن لم يشأ الكيسانية أن يؤمنوا بموته، وقالوا بغيبته وبانتظاره حتى يعود، وكان هذا أساسا لفكرة الإمام المنتظر عند الإمامية الإثنى عشرية.
وهذه العقيدة برجوع الإمام بعد غيبته أو موته هي المسماة في عرف الشيعة بالرجعة، وممن قال بالرجعة في العصر الأول عبد الله بن سبأ، فقد كان يقول برجوع محمد صلى الله عليه وسلم بعد موته. وفي أول المائة الثانية للهجرة كان جابر الجعفي (وهو أحد الكذابين قال فيه أبو حنيفة: ما رأيت أكذب منه) يقول برجعة علي بن أبي طالب، وكان يقول في قوله تعالى:
وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم
إن الدابة هي علي بن أبي طالب؛ ولما أتى القرن الثالث الهجري كان الإمامية يرون أن الأئمة كلهم يرجعون هم وأعداؤهم، وذلك حين ظهور المهدي،
50
وستأتي زيادة إيضاح لمذهبهم في الرجعة.
وزاد القول بالمهدي وانتشر وخاصة بين الشيعة، ووضعت فيه الأحاديث المختلفة، ولم يرو البخاري ومسلم شيئا عن أحاديث المهدي، مما يدل على عدم صحتها عندهما، وإنما ذكرها الترمذي وأبو داود وابن ماجه وغيرهم، من مثل ما روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلا مني أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»، ومثل أن رسول الله قال: «لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورا» إلخ. وكلها تدور على أنه «لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى بالمهدي، وقد أجهد رجال الحديث أنفسهم في فحص سند هذه الأحاديث وأبانوا ما فيها من ضعف رجالها».
51
على الجملة انتشر في جو العصر الأموي فكرة المهدي المنتظر، وكان أكثر دعاة المهدي من الشيعة، ورأينا لبعض البيت الأموي مهديا آخر لا يسمى المهدي، ولكنه يلقب بالسفياني، وذاعت أخبار السفياني هذا في البيئات الأموية، وغيرها وكان السفياني المنتظر كالمهدي المنتظر، قال في الأغاني عن مصعب: «كان خالد بن يزيد بن معاوية يوصف بالعلم ويقول الشعر، وزعموا أنه هو الذي وضع خبر السفياني وكبره، وأراد أن يكون للناس فيه طمع حين غلبه مروان ابن الحكم على الملك وتزوج أمه أم هاشم»؛ قال صاحب الأغاني: «وهذا وهم من مصعب فإن السفياني قد رواه غير واحد وتتابعت فيه رواية الخاصة والعامة». إلخ
52
وأنا أميل إلى قول مصعب رغما عن حجة أبي الفرج التي ذكرها من أن بعض أهل البيت روى حديث السفياني؛ فبعض أهل البيت كان يسره كل الأخبار التي تضعف من شأن البيت الأموي وانقسامه؛ فالظاهر أنه كان لخالد ابن يزيد شيعته وأعوانه، نغص عليهم غلبة مروان بن الحكم على الحكم، وكان خالد طموحا اشتغل بالكيمياء ليغني أصحابه بالذهب إذا نجح كما تقدم، ثم وضع أحاديث المهدي، ولكنه اختار اسما أمويا وهو السفياني إشارة إلى جده «أبي سفيان». قال في النجوم الزاهرة: «وكان خالد المذكور موصوفا بالعلم والعقل والشجاعة، وكان مولعا بالكيمياء، وقيل إنه هو الذي وضع حديث السفياني (أنه يأتي في آخر الزمان) لما سمع بحديث المهدي».
53
ومن أظرف ما حدث أنه لما قال الشيعة بالمهدي وقال بعض الأمويين بالسفياني، وضع الشيعة الأحاديث بأن المهدي إذا خرج سيقابل السفياني إذا خرج، «فسيبايع الناس المهدي يومئذ بمكة بين الركن والمقام، ثم إن المهدي يقول: أيها الناس اخرجوا إلى قتال عدو الله وعدوكم، فيجيبونه ولا يعصون له أمرا، فيخرج المهدي ومن معه من المسلمين من مكة إلى الشام لمحاربة عروة بن محمد السفياني ومن معه من كلب» إلخ
54
ويروي الطبري في حوادث سنة 132. أيام النزاع بين دعاة العباسيين والأمويين أن جماعة من أهل قنسرين وحمص وتدمر تجمعوا، وقدمهم ألوف عليهم أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية ابن أبي سفيان، فرأسوا عليهم أبا محمد، ودعوا إليه وقالوا: «هو السفياني الذي كان يذكر، وكانت موقعة شديدة انهزم فيها أتباع أبي محمد وقتل هو وأرسل برأسه إلى أبي جعفر المنصور» إلخ.
55
ويظهر أن العباسيين أيضا عز عليهم أن يكون للشيعة مهدي وللأمويين سفياني وليس لهم شيء، فرأوا أن يكون لهم أيضا «مهدي»، فوضعت لهم الأحاديث على هذا النمط؛ روى الطبراني عن ابن عمر قال، كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في نفر من المهاجرين والأنصار، وعلي بن أبي طالب عن يساره والعباس عن يمينه، إذ تلاحى العباس ونفر من الأنصار، فأغلظ الأنصار للعباس، فأخذ النبي
صلى الله عليه وسلم
بيد العباس وبيد علي وقال: «سيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض جورا وظلما، وسيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطا وعدلا، فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التميمي فإنه يقبل من قبل المشرق، وهو صاحب راية المهدي».
ويظهر أن واضع الحديث كان ماهرا فترك النص على الإشارة للزمن، فإن انتصر العلويون فالحديث يصلح لهم، وإن انتصر العباسيون صلح لهم؛ فلما انتصر العباسيون اتخذوه حجة لأنهم أصحاب الرايات التي خرجت من المشرق.
وروى الحاكم عن ابن عباس قال: منا أهل البيت أربعة: منا السفاح، ومنا المنذر، ومنا المنصور، ومنا المهدي. قال مجاهد: بين لي هؤلاء الأربعة، فقال ابن عباس: أما السفاح فربما قتل أنصاره وعفا عن عدوه؛ وأما المنذر أراه قال: فإنه يعطي المال الكثير، ولا يتعاظم في نفسه، ويمسك القليل من حقه؛ وأما المنصور فإنه يعطي النصر على عدوه على مسيرة شهر، وهو الشطر مما كان يعطي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ وأما المهدي فإنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وتأمن البهائم السباع، وتلقى الأرض أفلاذ كبدها. قال: قلت: وما أفلاذ كبدها؟ قال: أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة».
ولعل انتشار خبر المهدي وما إليه، حمل المنصور على تسمية ابنه المهدي والإيهام بأنه المهدي المنتظر. روى الأغاني أن المنصور كان يريد البيعة للمهدي، وكان ابنه جعفر يعترض عليه في ذلك، فأمر بإحضار الناس فحضروا، وقامت الخطباء فتكلموا وقالت الشعراء، فأكثرت في وصف المهدي وفضائله، وفيهم مطيع بن إياس؛ فلما فرغ من ذلك قال مطيع: حدثنا فلان عن فلان أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: المهدي منا محمد وابن عبد الله، وأمه من غيرنا، يملؤها عدلا كما ملئت جورا، ثم أقبل على العباس فقال له: أنشدك الله، هل سمعت هذا؟ فقال: نعم، مخافة من المنصور.
56
ورووا عن عبد الله بن مسعود عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: لا تذهب الدنيا حتى يلي أمتي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي. قال البلخي في كتابه «البدء والتاريخ» بعد روايته هذا الحديث: «وقد تأول قوم أنه المهدي محمد بن أبي جعفر لقبه المهدي واسمه محمد، وهو من أهل البيت، ولم يأل جهدا في إظهار العدل ونفي الجور» إلخ.
فنرى من هذا أن عقيدة المهدي فشت في العلويين والأمويين والعباسيين، وأخذت عند كل منهم لونا خالصا.
وفكرة المهدي هذه لها أسباب سياسية واجتماعية ودينية؛ ففي نظري أنها نبعت من الشيعة، وكانوا هم البادئين باختراعها، وذلك بعد خروج الخلافة من أيديهم وانتقالها إلى معاوية، وقتل علي، وتسليم الحسن الأمر لمعاوية، وتسمية هذا العام، الذي فيه سلم الحسن الأمر لمعاوية، عام الجماعة، ثم قتل الحسين.
تم ذلك فرأى رؤساء الشيعة أن هذا قد يسبب اليأس في نفوس أتباعهم، وخافوا أن يذوب حزبهم، فكان منهم بعيدو النظر، بدأوا يبشرون بأن الحكم سيرجع إليهم، وأن بني أمية سيهزمون، فوضعوا لذلك خططا، منها الدعوة السرية للتشيع والعمل في الخفاء على قلب الدولة الأموية وإضعافها، ثم رأوا أن ذلك لا يتم إلا بقيام رئيس للشيعة يلتف الناس حوله ولو سرا، ويلقبونه بأنه الخليفة حقا، ورأوا أن ذلك لا يتم أيضا إلا بصبغه صبغة دينية، فهو الإمام وهو المعصوم، ورأوا من إحكام أمرهم بث الرجاء والأمل في نفوس الناس حتى يشجعوا ويثبتوا، ومنوهم بأن الأمر لهم في النهاية، وأن الأمويين مهما أوتوا من النصر العاجل فإنه ينتظرهم الخذلان الآجل.
ولكن قوما حولوا الأخبار الواردة من الشيعة الأولين في الحكومة المنتظرة إلى حاكم منتظر، لأن ذلك أقرب إلى أذهان العامة، فالأولون كانوا يرمزون بالمهدي المنتظر إلى حكومة شيعية منتظرة، فجعلها المتأخرون حقيقة، وجعلوا المهدي المنتظر حقيقة، وأكثروا من القول فيه وزادوه أوصافا وأخبارا ليلبسوه ثوب الحقيقة.
قال الألوسي في تفسيره: «وتأول جماعة من الإمامية ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهي دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات».
57
ولكن العامة لا يفهمون جيدا رجوع المعاني، إنما يفهمون رجوع الأشخاص فوضعت لذلك أخبار المهدي المنتظر بشخصه ووصفه.
وكما كان في التاريخ أن اليونان لما فشلوا في حكمهم، وغلبهم الرومانيون على أمرهم حولوا الفلسفة العملية إلى فلسفة رواقية تتطلب اللذة في الحياة العقلية، وتتحمل آلام الحياة في صبر وثبات، كذلك الشيعة خرج الأمر من أيديهم فدعوا إلى تحمل آلام الحياة في صبر وثبات، وزادوا على ذلك إجادة تصوير فكرة الأمل، وجسدوها في المهدي.
ولما كان الشيعة هم الأساتذة الأولون في هذا الموضوع قلدهم خالد بن يزيد الأموي لما فشل وخرج الحكم من بيته إلى بيت مروان بن الحكم، ثم قلدهم العباسيون بشكل آخر فسلموا بالمهدي واستغلوا فكرته، وادعوا أن المهدي فيهم لا في شيعة علي. فاليأس عند الشيعة وعند البيت السفياني هو السبب النفسي لقيام فكرة المهدي، وحرب القوم من جنس سلاحهم هو السبب النفسي للمهدي العباسي.
واستغل هؤلاء القادة المهرة أفكار الجمهور الساذجة المتحمسة للدين والدعوة الإسلامية فأتوهم من هذه الناحية الطيبة الطاهرة، ووضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في ذلك، وأحكموا أسانيدها وأذاعوها من طرق مختلفة ، فصدق الجمهور الطيب لبساطته، وسكت رجال الشيعة لأنها في مصلحتهم، وسكت الأمويون لأنهم قلدوها في سفيانيهم، وسكت العباسيون لأنهم حولوها إلى منفعتهم، وهكذا كانت مؤامرة شنيعة أفسدوا بها عقول الناس. وكنت أنتظر من المعتزلة كشف النقاب عن هذا الضلال، إلا أني مع الأسف لم أعثر لهم على شيء كثير في هذا الباب، ولكني أعرف أن الزيدية (وهم فرع آخر من فروع الشيعة الذين تأثروا أثرا كبيرا بتعاليم المعتزلة، لأن زيدا رئيسهم تتلمذ لواصل بن عطاء زعيم المعتزلة)، كانوا ينكرون المهدي والرجعة إنكارا شديدا، وقد ردوا في كتبهم الأحاديث والأخبار المتعلقة بذلك، ورووا عن أئمة أهل البيت روايات تعارض روايات الأئمة الاثني عشرية.
حديث المهدي هذا حديث خرافة، وقد ترتب عليه نتائج خطيرة في حياة المسلمين، نسوق لك أهمها: (1)
أحيط المهدي بجو غريب من التنبؤات والإخبار بالمغيبات والإنباء بحوادث الزمان. فعند آل البيت علم توارثوه عن أخبار الزمان إلى يوم القيامة؛ وهناك الجفر وهو جلد ثور صغير مكتوب فيه علم ما سيقع لأهل البيت مروي عن جعفر الصادق في زعمهم؛ وهناك أخبار زعم مسلمة اليهود أنهم رأوها في كتبهم الدينية مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه في أحداث الدول وأعمارها، فامتلأت عقول الناس بأحاديث تروى وقصص تقص، ونشأ باب كبير في كتب المسلمين اسمه الملاحم، فيه أخبار الوقائع من كل لون، فأخبار العرب والروم، وأخبار في قتال الترك، وأخبار في البصرة وبغداد والإسكندرية، وما جاء في فضل الشام وأنه معقل الملاحم، وأخبار عن مكة والمدينة وخرابهما، وأخبار أن المهدي يملك جبل الديلم والقسطنطينية وسيفتح رومية وأنطاكية وكنيسة الذهب، وأخبار عن فتح الأندلس وما يجري فيه من أحداث
58
إلخ. وجعلت هذه الأشياء كلها أحاديث بعضها نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها إلى أئمة أهل البيت، وبعضها إلى كعب الأحبار ووهب بن منبه، وهكذا. وكان لكل ذلك أثر سيئ في تضليل عقول الناس وخضوعهم للأوهام، كما كان من أثر ذلك الثورات المتتالية في تاريخ المسلمين، ففي كل عصر يخرج داع أو دعاة كلهم يزعم أنه المهدي المنتظر، ويلتف حوله طائفة من الناس، كالذي كان من المهدي رأس الدولة الفاطمية. وتقرأ تاريخ المغرب فلا يكاد يمر عصر من غير خروج مهدي، وكان آخر عهدنا به مهدي السودان، وظهور فرقة البابية في فارس التي دعا إليها ميرزا علي محمد المولود سنة 1235ه، وهو من نسل الحسين، وقد ادعى - لما بلغ الخامسة والعشرين - أنه الباب - ومعنى الباب عندهم «نائب المهدي المنتظر». ولو أحصينا عدد من خرجوا في تاريخ الإسلام وادعوا المهدية، وشرحنا ما قاموا به من ثورات، وما سببوا من تشتيت للدولة الإسلامية وانقسامها وضياع قوتها، لطال بنا القول، ولم يكفنا كتاب مستقل.
وهذا كله من جراء نظرية خرافية، هي نظرية «المهدية»، وهي نظرية لا تتفق وسنة الله في خلقه، ولا تتفق والعقل الصحيح. ولعل تقدم الناس في عقلهم ومعارفهم وتقدمهم في الحكم ونظامه وما ينبغي أن يكون، يقضي على البقية الباقية من هذه الخرافة، ويحول الناس إلى أن ينشدوا العدل، ويعملوا بأيديهم وعقولهم في إيجاد الحكم الصالح، ويحلوا ذلك محل المهدي المنتظر؛ فخير لهم أن يطلقوا العدل في الواقع لا في الخيال، وأن يعملوا على تحقيقه في دنيا الحس والعقل لا دنيا الأوهام. (2)
وشيء آخر تولد من فكرة المهدي المنتظر؛ ذلك أن الصوفية اتصلت بالتشيع اتصالا وثيقا، وأخذت فيما أخذت عنه فكرة المهدي، وصاغتها صياغة جديدة وسمته «قطبا»، وكونت مملكة من الأرواح على نمط الأشباح، وعلى رأس هذه المملكة الروحية القطب، وهو نظير الإمام أو المهدي في التشيع؛ والقطب هو الذي «يدبر الأمر في كل عصر، وهو عماد السماء، ولولاه لوقعت على الأرض»؛ ويلي القطب النجباء، قال ابن عربي في الفتوحات الملكية: «وهم اثنا عشر نقيبا في كل زمان، لا يزيدون ولا ينقصون، على عدد بروج الفلك الاثني عشر، كل نقيب عالم بخاصية كل برج وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات ... وأعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة، ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها، ومعرفة مكرها وخداعها ، وإبليس مكشوف عندهم، يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه، وهم من العلم بحيث إذا رأى أحدهم وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقي مثل العلماء بالآثار والقيافة إلخ».
وقال ابن تيمية في بعض فتاويه: «وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة، مثل الغوث الذي بمكة، والأوتاد الأربعة، والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين، والنجباء الثلاثمائة، فهي ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي مأثورة عن النبي
صلى الله عليه وسلم
لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلا لفظ الأبدال؛ فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي كرم الله وجهه مرفوعا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: إن فيهم (يعني أهل الشام) الأبدال، أربعين رجلا، كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا. ولا توجد أيضا في كلام السلف».
وهكذا كون الصوفية مملكة باطنية وراء المملكة الظاهرية، اتخذوا فيها فكرة المهدي، وغيروا ألفاظها، وكملوا نظامها، وكلها سبح في الخيال وجرى وراء أوهام كلها شعر، ولكنه ليس شعرا لذيذا، بل هو شعر أفسد على الناس عقائدهم وأعمالهم، وأبعدهم عن المنطق في التصرف في شئون الحياة، وقعد بهم عن المطالبة بإصلاح الحكم وتحقيق العدل؛ فكانوا يهيمون في أودية الخيال، والحكام يهيمون في أودية الفساد. وكأنهم تواضعوا على ذلك؛ فالحاكم يفسد، والشعب يحلم، وحالة الأمة تسوء.
الرجعة:
ويتصل بعقيدة المهدي القول بالرجعة؛ فكثير من الإمامية يعتقد بها ويرون أن النبي
صلى الله عليه وسلم
وعليا والحسن والحسين وباقي الأئمة، وخصومهم كأبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية ويزيد يرجعون إلى الدنيا بعد ظهور المهدي، ويعذب من اعتدى على الأئمة وغصبهم حقوقهم أو قتلهم، ثم يموتون جميعا، ثم يحيون يوم القيامة؛ قال الشريف المرتضى: إن أبا بكر وعمر يصلبان على شجرة في زمن المهدي.
وهي عقيدة أعرق في الغرابة من عقيدة المهدي.
التقية:
هو اسم مصدر لتوقي واتقى، تقول توقيت الشيء واتقيته وتقيته تقي وتقية أي حذرته؛ وفي القرآن:
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ؛ وفي قراءة:
إلا أن تتقوا منهم تقاة ؛ ومعناها أن يحافظ المرء على عرضه أو نفسه أو ماله مخافة عدوه فيظهر غير ما يضمر؛ فهي مداراة وكتمان، وتظاهر بما ليس هو الحقيقة؛ وهي عند الشيعة النظام السري في شئونهم، فإذا أراد إمام الخروج والثورة على الخليفة وضع لذلك نظاما وتدابير، وأعلم أصحابه بذلك فتكتموه، وأظهروا الطاعة، حتى تتم الخطط المرسومة، فهذه تقية، وإذا أحسوا ضررا من كافر أو سني داروه وحاروه وأظهروا له الموافقة، فهذه أيضا تقية، وهكذا.
والتقية عند الشيعة جزء مكمل لتعاليمهم تواصوا به وعدوه مبدأ أساسيا في حياتهم، وركنا من دينهم، ورووا فيه الشيء الكثير عن أئمتهم، وانبنى عليه تاريخهم، فالأحداث التاريخية كلها أساسها إمام مختف أو متستر يدعو إلى نفسه في الخفاء، ويبث دعاته في الأمصار، فيتخذون البيعة له من أنصارهم، ويطالبونهم بالكتمان، والتظاهر بالطاعة، ويلزمونهم بأن يعملوا أعمالهم المطلوبة منهم من الولاة الظاهرين على أتم وجه حتى لا تحوم حولهم شبهة، إلى أن تنضج الثورة ويحين الوقت الملائم، فيعلنوا الخروج ويحملوا السلاح في وجه الدولة.
وقد روى الكليني في التقية أخبارا كثيرة، فروى عن أبي عبد الله أنه قال: «تسعة أعشار الدين في التقية ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين». وقال في قوله تعالى:
أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا . قال: بما صبروا على التقية - وما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف، إن كانوا ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير، فأعطاهم الله أجرهم مرتين.
وقد سئل أبو الحسن عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر: التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له، وسئل أبو جعفر عن رجلين من أهل الكوفة أخذا، فقيل لهما أبرآ من أمير المؤمنين علي عليه السلام، فبرئ واحد منهما، وأبى الآخر، فخلى سبيل الذي برئ وقتل الآخر. فقال: أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه، وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة. وأراد جماعة السير إلى العراق، فقالوا لأبي جعفر: أوصنا، فقال أبو جعفر: «ليقو شديدكم ضعيفكم وليعد غنيكم على فقيركم، ولا تبثوا سرنا، ولا تذيعوا أمرنا». وقال أبو عبد الله: إن أمرنا مستور مقنع بالميثاق، فمن هتك علينا أذله الله.
59
وعلى هذا قال كثير من الشيعة: إنه يحسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به؛ ورووا عن بعض أئمة أهل البيت: من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي؛ وفي وجوب قضاء هذه الصلاة عندهم خلاف.
وقد فسروا كثيرا من أعمال الأئمة على أنهم فعلوها تقية، فسكوت علي على أبي بكر وعمر وعثمان كان تقية، ومصالحة الحسن لمعاوية كان تقية إلخ. كما كانت التقية عند الشيعة سببا في تحميل الكلام معاني خفية، وجعلهم للكلام ظاهرا يفهمه كل الناس، وباطنا يفهمه الخاصة، وقصدهم في كلامهم إلى الرمز والكناية ونحوهما، وفسر بعضهم بعض آيات القرآن على هذا النحو، فجعلوا كثيرا من الآيات رمزا لعلي والأئمة، فقال بعضهم في قوله تعالى:
ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، إن المراد بما أنزل إليك خلافة علي؛ وقالوا: إن وراء هذه العلوم أسرارا خفية أشار إليها علي زين العابدين بقوله:
إني لأكتم من علمي جواهره
كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن
إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولا ستحل رجال مسلمون دمي
يرون أقبح ما يأتون حسنا
وجري على هذا النمط بعض الصوفية، فقالوا: إن وراء علم الظاهر علم الباطن، وهو لا يفهم من الوضع اللغوي للكلمات ولا من البراهين المنطقية، إنما يفهم من طريق الإلهام والمكاشفة إلخ.
وكان على عكس الشيعة في القول بالتقية الخوارج، فقالوا: لا تجوز التقية بحال من الأحوال، ولو عرضت النفس والمال والعرض للأخطار.
وحياة الشيعة والخوارج السياسية مظهر من مظاهر قولهم في التقية، فالخارجي يعلن الخروج على الإمام في صراحة ولو كان وحده، ويحاربه ولو كان في نفر قليل، مهما بلغ عدوه من العدد، ولا يداري ولا يماري؛ والشيعي يداري ويجاري، ويتستر ويتكتم حتى يظن أن الفرصة أمكنته فيظهر. •••
أدى الشيعة الاعتقاد بالإمامة، وأنها جزء من الإيمان والعصمة وما إليها، إلى اعتقادهم أن المؤمنين حقا هم علي ومن ناصره ووالاه، ومن تبع الأئمة بعد علي في الأجيال المتعاقبة؛ أما من عداهم من أبي بكر وعمر وعثمان ومن تابعهم، والأمويين والعباسيين ومن شايعهم، فهم في نظرهم مقصرون، وإن اختلف الشيعة فيما بينهم في الوصف الذي يصفونهم به، فمنهم من غلا فيهم إلى درجة الحكم عليهم بالكفر.
فيروون عن الصادق: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة ليست له، ومن جحد إماما من عند الله، ومن زعم أن أبا بكر وعمر لهما نصيب في الإسلام».
وأكثروا من لعن أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة وغيرهم، وبالغوا في ذلك حتى جعلوا لعنهم قربة إلى الله؛ ولهم أدعية مأثورة في لعن هؤلاء وأمثالهم.
60
وهذا - من غير شك - ضيق في النظر أدى إليه اتخاذهم مقياس الفضيلة والرذيلة والإيمان والكفر الإيمان بإمامة علي، فمن آمن بذلك فهو المؤمن وهو الفاضل، وهو الذي يستحق الثواب، ومن كفر بإمامته فهو الكافر وهو الشرير، وهو المعذب بالنار؛ فكأن الإيمان بإمامة علي يساوي الإيمان بالله، بل يزيد عليه، فمن آمن بالله وحده من غير إيمان بإمامة علي لم ينفعه إيمانه، فإذا زاد على ذلك أنه جحد استحقاق علي للإمامة فهذا هو الكفر الذي ما بعده كفر.
وهذا مقياس في منتهى الغرابة، كمن يقيس الحجرة بالقدح بدل الأمتار، أو يقيس المكيل بالمتر بدل القدح؛ فنحن نعلم أن روح الإسلام تقوم المرء بشيئين: توحيد الله، وإيمان برسالة رسوله محمد، ثم الأعمال الصالحة التي تنفع الناس، وبهذا وحده يقدر المرء في نظر الإسلام، وبهذا وحده يوزن أبو بكر وعمر وعائشة كما يوزن به علي نفسه، وكما يوزن به كل إنسان؛ فإلغاء هذا المقياس، ووضع مقياس آخر هو الإيمان بعلي، جهل بروح الإسلام وضعف في العقل حتى في نظر العقل المجرد. ولو قالوا إن المقياس هو الإيمان بالله وبالأعمال، وأن الإيمان بإمامة علي عقيدة من عقائد الخير لقاربوا الحق، ولكان لقولهم مندوحة ولكن إنكار إمامة علي لا يستوجب كفرا ولا يستوجب لعنة، وفضل أبي بكر وعمر على الإسلام أكبر من فضل علي، ولكل فضل، فجحد هذا بالنسبة لهما حتى يستوجبا اللعنة سخف في الرأي، وضيق في الذهن.
على أنا نرى من بين الشيعة من تلطف في الحكم فلم يصل بهؤلاء الصحابة إلى درجة الكفر وإلى استحقاق اللعن.
وعلى كل حال جرأتهم هذه العقيدة على أن ينقدوا أعمال الصحابة ومن يليهم، وأنا أنقل هنا بعضا من أقوال من يعد معتدلا فيهم؛ فأهل السنة - وخاصة من عهد أبي الحسن الأشعري - يرون أنه لا يصلح أن يتعرض لأحد من الصحابة بسوء، ويروون أحاديث في ذلك مثل: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، ومثل: «خير القرون قرني ثم الذي يليه ثم الذي يليه». وروي عن الحسن البصري أنه ذكر عنده الجمل وصفين، فقال: تلك دماء طهر الله منها أسيافنا فلا نلطخ بها ألسنتنا، وقالوا: إن من المروءة أن يحفظ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في عائشة زوجته، وفي الزبير ابن عمته، وفي طلحة الذي وقاه بيده. ثم ما الذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحدا من المسلمين أو نبرأ منه؛ وأي ثواب في اللعنة والبراءة؟ ... ثم قد كان رسول الله صهرا لمعاوية، إذ كانت أم حبيبة زوجه، فالأدب أن تحفظ أم حبيبة وهي أم المؤمنين في أخيها، إلى آخر ما قالوا.
لم يرض الشيعة عن هذا القول، وقالوا: إن الله فرض عداوة أعدائه وولاية أوليائه، يقول الله تعالى:
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . وقد لعن الله العاصين بقوله:
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود ، وأنتم لم تعدلوا في موقفكم، فأنتم دخلتم في أمر عثمان وخضتم فيه، ولم تحفظوا أبا بكر في محمد ابنه، فإنكم لعنتموه وفسقتموه لاشتراكه في فتنة عثمان، ولا حفظتم عائشة أم المؤمنين في أخيها محمد، ومنعتمونا أن نخوض وندخل أنفسنا في أمر علي والحسن والحسين ومعاوية الظالم له ولهما، المتغلب على حقه وحقهما. وكيف صار لعن ظالم عثمان من السنة، ولعن ظالم علي والحسن والحسين تكلفا؛ وكيف تحدثتم في أمر عائشة وحفظتم أمرها ومنعتم من الحديث في خروجها يوم الجمل، ومنعتمونا من الحديث في أمر فاطمة وما جرى لها بعد أبيها؛ وكيف صار التعرض لعائشة من أكبر الكبائر، وكشف بيت فاطمة والدخول عليها في منزلها، وتهديدها بالحريق، من الإيمان؟ والصحابة أنفسهم كان يتعرض بعضهم لبعض، فعائشة تقول في عثمان: اقتلوا نعثلا لعن الله نعثلا؛ وكان عبد الله ابن مسعود يلعن عثمان؛ وقد لعن معاوية علي بن أبي طالب وابنيه الحسن والحسين؛ ولعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة وبرئا منه، وأخرجاه من المدينة إلى الشام ... وهذا طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم لم يروا أن يمسكوا عن علي حتى قصدوا له، وحملوا السيوف في وجهه، وكذلك فعل معاوية وعمرو ابن العاص، وقد لعنهما علي ولعن أبا موسى الأشعري. وهذا عثمان قد نفى أبا ذر إلى الزبدة، إلى كثير من أمثال ذلك - ولو كانت الصحابة بالمنزلة التي تذكرونها لعلمت ذلك من حال نفسها - وهذا كله من وضع المتعصبين للأمويين، فقد كان لهم من ينصرهم بلسانه ويوضع الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف؛ ومن هذا القبيل حديث: «خير القرون قرني»، ومما يدل على بطلانه أن القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة شر قرون الدنيا، فهو القرن الذي قتل فيه الحسين وأوقع بالمدينة، وحوصرت مكة، ونقضت الكعبة، وشربت الخلفاء الخمور، وارتكبوا الفجور، كما جرى ليزيد بن معاوية وللوليد بن يزيد، إلى آخر ما قالوا.
61
وفي هذه الأقوال بعض الحق، ولكن الشيعة وقفوا نفس الموقف الذي عابوه على أهل السنة، فقد رموا أهل السنة بتحاملهم على آل البيت وأتباعهم فتحاملوا هم على من عداهم، ولم يقفوا من الصحابة جميعا موقف القاضي العادل، فجرحوا الصحابة إذا لم يكونوا من الشيعة، وأغضبوا عن كل شيء من الشيعة، ورفعوا الأئمة فوق البشر بل فوق الأنبياء، لأنهم ادعوا العصمة لهم؛ وكان المنطق يقضي - وقد وضعوا مبدأ نقد أعمال الصحابة - أن يضعوا الصحابة كلهم في ميزان واحد، ويحاسبوهم حسابا واحدا. ولعل المعتزلة كانوا أعدل منهم في هذا الباب، فنظروا إلى جميعهم نظرا واحدا وإن أخطأ بعضهم في الحساب.
أداهم هذا النظر الذي ذكرنا إلى أن يروا أنهم لا يأخذون الحديث إلا ممن كان شيعيا، ولا يأخذون علما إلا ممن كان شيعيا، ولا يثقون برواية تاريخ إلا ممن كان شيعيا؛ ولذلك كانت كتب أحاديثهم، وفقههم، وأصول فقههم، ورواية تاريخهم محصورة كلها في المتشيعين.
بهذا حصروا أنفسهم في دائرة خاصة، حتى كأنهم هم المسلمون وحدهم؛ فإن عاشوا وسط السنيين فباطنهم لأنفسهم، وظاهرهم التقية.
وفي الحق أن كثيرا من «أهل السنة» وقفوا نفس موقف الشيعة، فلم يرض كثير من المحدثين أن يرووا أحاديث الشيعة ولم يرض كثير من الفقهاء أن يعدوا خلافات الشيعة بين اختلافات الفقهاء.
وكان أولى الفريقين أن يكون عمادهم في الأخذ والرد صدق الراوي وكذبه مهما كان مذهبه الديني.
ومع هذا فكان نظر السنيين أقرب إلى العدل وأدنى إلى الإنصاف؛ فلم يكرهوا عليا كره الشيعة لأبي بكر وعمر وعائشة، بل مجدوه وعظموه، وأثنوا عليه، واعترفوا بفضائله، وإن رأوا أن أبا بكر وعمر يفضلانه، ورووا ما صح عندهم من حديث علي؛ ولئن كان رجال السياسة قد أساءوا إلى علي وشيعته نفيا وقتلا وتعذيبا، فإن رجال العلم والدين كانوا أعدل في معاملة الشيعة من معاملة الشيعة لرجال الدين والعلم السنيين، وإن أخذ على السنيين شيء إزاء موقفهم نحو الصحابة والتابعين، فهو أنهم بالغوا في تمجيدهم جميعا، فلم يشاءوا أن ينقدوا في جرأة وصراحة عمل أحد منهم سواء كان شيعيا أم غير شيعي، وسواء كان عليا أم أبا بكر، وشتان بين صنيعهم وصنيع الشيعة في السب واللعن لكل من لم يكن شيعيا، وخاصة من دخل في خلاف مع علي وشيعته. ولو أنصفوا جميعا لوقفوا منهم موقف المؤرخ الصريح الصادق ينقدون عمل العامل من غير نظر إلى فرقته ومذهبه، ويمجدون عمل الخير من أي جهة كان، ولكن من لنا بالصدر الرحب والعقل الواسع؟! •••
فقه الشيعة:
ومنحى الفقه الشيعي يشبه منحى الفقه السني من اعتماده على الكتاب والسنة، وإن كان هناك خلاف في الأصول والفروع، فأهم منشئه أشياء: (الأول):
أن ما كان من أصول وفروع عند السنيين يخالف تعاليم الشيعة وعقائدها، التي ألممنا بها من قبل، يرفض رفضا باتا، ويحل محل أصول وفروع تتمشى مع العقائد الشيعية. (الثاني):
أنهم - وقد منعوا أنفسهم من أن يأخذوا حديثا أو رأيا إلا عن إمام من أئمة الشيعة وعالم شيعي وراو شيعي - اضطروا أن يبنوا أحكامهم على الكتاب بالتفسير الشيعي والأحاديث بالرواية الشيعية فقط، وأن يرفضوا ما روي عن غيرهم، وهذا يستتبع حتما ضيقا في التشريع من جهة، ومخالفة للتشريع السني في بعض المسائل من جهة أخرى. (الثالث):
أن الشيعة أنكروا الإجماع العام كأصل من أصول التشريع، لأن هذا يسلم إلى الأخذ بأقوال غير الشيعة، وأنكروا القياس لأنه رأي، والدين لا يؤخذ بالرأي، وإنما يؤخذ عن الله ورسوله وعن الأئمة المعصومين، وقد استلزم قولهم بعصمة الأئمة أن يأخذوا أقوالهم كنصوص من قبل الشارع لا تحتمل خلافا.
ولنسق على ذلك أمثلة من المسائل المشهورة التي خالف فيها الشيعة السنية:
1- فمن أهم ذلك وأشهره نكاح المتعة، وهي أن يتعاقد الرجل مع امرأة أن يتزوج بها بأجر معين إلى أجل مسمى، كأن يقول لها تزوجتك بخمسة جنيهات لمدة أسبوع فتقبل. ونكاح المتعة عند الشيعة لا توارث فيه، فلا ترث الزوجة زواج متعة من الرجل ولا يرث منها؛ ولا يشترط لصحة المتعة شهود بل تصح من غير شهود ومن غير إعلان، ولا حاجة فيها إلى الطلاق، بل ينتهي العقد بانتهاء المدة المحدودة، وعدتها حيضتان لمن تحيض، وخمسة وأربعون يوما لمن لا تحيض، ولا حد لعدد النساء المتمتع بهن، فليس شأنهن شأن الزوجات بزواج دائم من قصرهن على أربع، بل له أن يستمتع بما شاء من عدد.
وقد وردت في المتعة نصوص مختلفة ذهب فيها العلماء مذاهب مختلفة يطول شرحها، ولنورد بعضها في إجمال:
فأولا - ورد في القرآن في سورة النساء وهي مدنية:
فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ، فذهب قوم إلى أن الآية وردت في حل نكاح المتعة، ودليلهم على هذا: (1)
أنه عبر في ذلك بلفظ الاستمتاع دون لفظ النكاح، والاستمتاع والمتعة بمعنى واحد. (2)
أنه أمر بإيتاء الأجر، وفي هذا إشارة إلى أن العقد عقد إيجار، والمتعة إيجار على منفعة البضع. (3)
أنه أمر بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع، وذلك يكون في عقد الإجارة والمتعة، فأما المهر فإنما يجب في النكاح بنفس العقد، ويطالب الزوج بالمهر أولا ثم يمكن من الاستمتاع، فدلت الآية على جواز عقد المتعة.
وقد رد على ذلك آخرون، وقالوا: إن الآية واردة في النكاح المعروف لا في نكاح المتعة، لأن سياق الآية كلها في النكاح، فقد ذكر أول الآيات أجناسا ممن يحرم زواجهن، وأباح ما وراء ذلك، فيصرف قوله:
فما استمتعتم به منهن
إلى الاستمتاع بعقد النكاح المعروف؛ وأما تسمية الواجب أجرا فقد ورد في القرآن تسمية المهر أجرا، قال تعالى:
فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن
أي مهورهن، وقال تعالى:
ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن
وأما أنه أمر بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع - وليس ذلك الشأن في النكاح - فقالوا إن في الآية تقديما وتأخيرا كأنه تعالى قال:
فآتوهن أجورهن إذا استمتعتم به منهن
أي إذا أردتم الاستمتاع كقوله تعالى:
ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن . أي إذا أردتم تطليقهن. واستدل هؤلاء المحرمون للمتعة بقوله تعالى:
والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم
فقد حرم الجماع إلا بأحد شيئين: عقد النكاح وملك اليمين، والمتعة ليست بنكاح ولا بملك يمين، والدليل على أنها ليست بنكاح أنها ترتفع بغير طلاق، ولا يجري التوارث فيها بينهما.
وثانيا - وردت أحاديث كثيرة مختلفة الدلالة في المتعة نسوق بعضها: فقد روي عن ابن مسعود قال: كنا نغزو مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ليس معنا نساء فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل؛ ثم قرأ ابن مسعود
ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم
وعن أبي جمرة قال: سألت ابن عباس عن متعة النساء فرخص، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة أو نحوه؟ فقال ابن عباس: نعم. رواه البخاري.
وعن محمد بن كعب عن ابن عباس قال: «إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه، حتى نزلت هذه الآية
إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم
قال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام». رواه الترمذي.
وعن علي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، وفي رواية نهى عن متعة النساء يوم خيبر.
وعن سلمة بن الأكوع قال: رخص لنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها.
وعن سيرة الجهني أنه غزا مع النبي
صلى الله عليه وسلم
فتح مكة، قال: فأقمنا بها خمسة عشر، فأذن لنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في متعة النساء، فلم أخرج حتى حرمها. وفي رواية أنه كان مع النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: يأيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. رواه أحمد ومسلم. وفي راوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى في حجة الوداع عن نكاح المتعة. رواه أحمد وأبو داود.
هذا طرف من الأحاديث التي وردت في المتعة.
فالظاهر من كل هذا أن نكاح المتعة أجازه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في بعض الأوقات وعند الحاجة؛ كالسبب الذي ذكره ابن مسعود من أنهم كانوا في غزوة من غير نساء، واشتد بهم الأمر حتى استفتوا في الخصاء. وقد روي التحليل في غزوات مختلفة آخرها يوم فتح مكة، ثم حرمت.
ورويت روايات مختلفة عن ابن عباس، فمنها أنه كان يحلها واستمر على ذلك، ومنها أنه عدل عن رأيه. ويروون في ذلك أن سعيد بن جبير قال لابن عباس: قد سارت بفتياك الركبان، وقالت فيها الشعراء؛ قال: وما قالوا؟ قال: قالوا:
قد قلت للشيخ لما طال محبسه:
يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
وهل ترى رخصة الأطراف آنسة
تكون مثواك حتى مصدر الناس؟
فقال ابن عباس: سبحان الله! ما بهذا أفتيت، وما هي إلا كالميتة لا تحل إلا للمضطر.
كذلك رويت روايات مختلفة عن ابن مسعود وعلي وبعض الصحابة.
وقد أكد عمر بن الخطاب تحريمها في خلافته، وأخذ الناس بتحريمها أخذا شديدا، وروي عنه أنه قال: «لا أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته» ثم انقطع الخلاف بإجماع الأئمة الأربعة وفقهاء الأمصار على تحريمها، ما عدا فقهاء الشيعة؛ فقد حكي عن علي والباقر والصادق حلها؛ فجرى من بعدهم على سنهم.
والشيعة إلى الآن تستعمل المتعة، وأكثر ما تستعمله في الأسفار ونحوها؛ فالتاجر مثلا - في فارس - إذا أقام في بلد أياما قد يتزوج زواج متعة.
وكان بعض الأئمة من الشيعة يتعصب لها ويراها قربة، فكان الصادق يقول - كما رووا -: «ليس منا من لم يستحل متعتنا».
وروى الكافي أن الباقر سئل عن المتعة، فقال: أحلها الله في كتابه وسنة نبيه، نزلت في القرآن:
فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن
فهي حلال إلى يوم القيامة؛ فقيل له: يا أبا جعفر، مثلك يقول هذا وقد حرمها عمر؟ فقال: وإن كان فعل؛ فقيل: إنا نعيذك بالله أن تحل شيئا حرمه عمر، فقال الباقر: أنت على قول صاحبك، وأنا على قول رسول الله، هلم ألاعنك أن القول ما قال النبي، والباطل ما قال صاحبك؛ فأقبل عبد الله الليثي وقال: أيسرك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن ذلك؟ فأعرض الباقر حين ذكر نساءه وبنات عمه.
بل ربما كان من الأسباب التي حملت الشيعة على التمسك بالمتعة نهي عمر عنها، لما في نفوسهم من كراهية شديدة له ولأعماله وآرائه. •••
وبعد، فإن حكمنها العقل في هذا النوع من النكاح، لم نجده يفترق كثيرا عن الزنا؛ روي عن علي أنه قال: «لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي»، وقد أصاب عمر وجه الصواب بإدراكه أن لا كبير فرق بين متعة وزنا. ثم إن عد المتعة من باب استئجار بضع المرأة شناعة يمجها الذوق السليم، وفيه تسهيل لعيشة الإباحة التي لا تتقيد بقيود، ولا تتحمل عبء الزواج؛ يضاف إلى ذلك ما يستتبعه نظام إباحة المتعة من فساد المرأة واستهتارها، وكثرة الضحايا منهن، فاستئجار المرأة أياما وتركها يعرضها لأشد أنواع الخطر، وهذا ما حدث فعلا، وضج بالشكوى منه عقلاء فارس.
وإذا كان المثل الأعلى للأسرة زوجا واحدا، وزوجة واحدة، وعروة وثقى باقية أبدا في سعادة ينشأ في أحضانها الأبناء والبنات، فما أبعد نكاح المتعة من هذا المثل.
2- ومما خالفوا فيه «أهل السنة» قولهم بتحريم الزواج من اليهودية والنصرانية، و «أهل السنة» يجيزونه استنادا إلى قوله تعالى فيمن أحل الزواج بهن:
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، والشيعة تقول: إن هذه الآية منسوخة بآية
ولا تمسكوا بعصم الكوافر .
3- وللشيعة كذلك خلاف طويل في نظام الإرث؟ فهم ينكرون العول في الميراث، كما إذا مات شخص عن زوجة، وبنتين، وأم، وأب، فإن للزوجة الثمن، وللبنتين الثلثين، وللأم والأب الثلث؛ فإذا كانت المسألة من أربعة وعشرين كان الناتج سبعة وعشرين، فهذا عول، فتقسم التركة إلى سبعة وعشرين جزءا بدل أربعة وعشرين، والزوجة تأخذ ثلاثة من. سبعة وعشرين، والبنتان 16 والأبوان 8.
وقد ذكروا أن أول من حكم بالعول عمر بن الخطاب، والشيعة تنكر العول وتذهب مذهب ابن عباس في عدم العول، وتقدم بعض الورثة على بعض؛ فتقدم الزوجة والأبوين على البنتين في أخذ نصيبهم، فتأخذ الزوجة في المثال المتقدم ثلاثة من 24، والأبوان 8 من 24 والبنتان 13 وهو الباقي بدل 16.
والشيعة تقدم القرابة على العصبة، ويروون أن الصادق سئل لمن المال للأقرب أو للعصبة؟ فقال: «المال للأقرب، والعصبة في فيه التراب، وتوريث الرجال دون النساء قضية جاهلية».
فإذا مات رجل عن بنت وابن ابن؛ فالمال كله للبنت عند الشيعة لأنها أقرب من ابن الابن؛ وعند أهل السنة النصف للبنت والنصف لابن الابن لأنه عصبة.
ومن أغرب مسائلهم في الإرث أنهم يقولون: إن ابن العم الشقيق مقدم على العم لأب، ولعلهم يرمون بذلك أن يكون علي بن أبي طالب متقدما في إرث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على العباس، لأن عليا ابن عم شقيق والعباس عم لأب. والشيعة لا تورث النساء من الأرض والعقار، إنما تورثهن من فروع الأموال.
وهم يقولون: إن الأنبياء تورث، وأهل السنة يقولون لا يورثون، لحديث، «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة»؛ احتج به أبو بكر فمنع فاطمة من الإرث، وماتت هي واحدة عليه. وقولهم في إرث النبي
صلى الله عليه وسلم
في المال يؤيد من طريق غير مباشر دعواهم في إرث الخلافة.
4- كذلك للشيعة خلاف في صيغة الأذان
62
وفي المسح على الرجلين في الوضوء دون غسلهما، وغير ذلك مما يطول شرحه، فنجتزئ هنا بهذا القدر. •••
وأكبر شخصيات ذلك العصر في التشريع الشيعي، بل ربما كان أكبر الشخصيات في ذلك في العصور المختلفة الإمام جعفر الصادق.
الإمام جعفر الصادق:
عاصر آخر الدولة الأموية، وصدرا من الدولة العباسية، وهو ابن الإمام محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عاش، نحوا من خمسة وستين عاما، ولد كما يقول الكليني سنة 83 وتوفي سنة 148 في خلافة أبي جعفر المنصور؛ وأمه أم فروة بنت القاسم بن أبي بكر الصديق، ولعل هذا كان سببا في تلطيف نظره إلى أبي بكر، على عكس جمهور الشيعة. ويظهر أنه كان بعيد عن غمار السياسة ، والدخول في متاعبها، والاصطلاء بنارها، وهذا ما يعلل عيشته عيشة سالمة من اضطهاد الأمويين والعباسيين له غالبا، على الرغم مما في ذلك العصر من فتن واضطراب ودسائس؛ أو أنه طبق مذهب التقية في دقة وإتقان. حكى المسعودي أن أبا سلمة (داعية العباسيين) حين بلغه مقتل إبراهيم الإمام أضمر الرجوع - عما كان عليه من الدعوة العباسية - إلى آل أبي طالب، فبعث بكتابين مع رسول إلى المدينة، أحدهما إلى جعفر (الصادق)، والآخر إلى عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي ابن أبي طالب؛ فلما وصل الرسول إلى جعفر أعلمه أنه رسول أبي سلمة ودفع إليه كتابه ليلا، فقال جعفر: وما أنا وأبو سلمة، وأبو سلمة شيعة لغيري؟ قال له: إني رسول، فتقرأ كتابه وتجيبه بما رأيت؛ فدعا جعفر بسراج، ثم أخذ بكتاب أبي سلمة فوضعه على السراج حتى احترق، وقال للرسول: عرف صاحبك بما رأيت، ثم تمثل بقول الكميت:
أيا موقدا نارا لغيرك ضوؤها
ويا حاطبا في غير حبلك تحطب
فخرج الرسول من عنده.
63
وكان ذا حظ عظيم من العلم، قال الشهرستاني فيه: «وهو ذو علم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات، وقد أقام بالمدينة مدة يفيد الشيعة المنتمين إليه، ويفيض على الموالين له أسرار العلوم، ثم دخل العراق وأقام بها مدة؛ ما تعرض للإمامة قط، ولا نازع أحدا في الخلافة، ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط، ومن تعلى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط ...».
64
ومركزه العلمي كان بالمدينة في أكثر الأحيان، وفي الكوفة حينا، وله معرفة واسعة بعلوم الدين، وقد ذكروا أن ممن أخذ عنه مالكا وأبا حنيفة، وأنهما استفادا من علمه؟ كما ذكروا أنه كان له معرفة بالتنجيم والكيمياء، وأن من تلاميذه جابر بن حيان.
65
والشيعة تروي عنه الشيء الكثير، حتى صنفوا من إجاباته عن المسائل أربعمائة كتاب سموها «الأصول»، «ولم يرو عن أحد من أهل بيته ما روي عنه حتى قال الحسن بن علي الوشاء - من أصحاب الرضا - أدركت في هذا المسجد (يعني مسجد الكوفة) تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمد ... وذكروا أن الرواة عنه بلغوا نحو أربعة آلاف رجل».
66
وكثير من أحاديث الإمامة ونظمها تروى عنه؛ من أهمها ما رواه جعفر الصادق عن علي بن أبي طالب في كيفية خلق العالم، وانتقال النور من آدم إلى نبينا
صلى الله عليه وسلم
إلى أن قال: «ثم انتقل النور إلى غرائزنا، ولمع في أئمتنا، فنحن أنوار السماء وأنوار الأرض، فينا النجاة، ومنا مكنون العلم، وإلينا مصير الأمور، وبمهدينا تنقطع الحجج؛ خاتمة الأئمة، ومنقذ الأمة، وغاية النور، ومصدر الأمور؛ فنحن أفضل المخلوقين، وأشرف الموحدين، وحجج رب العالمين، فليهنأ بالنعمة من تمسك بولايتنا، وقبض عروتنا».
67
ومن هذا ونحوه يظن أن فكرة المهدية، وعصمة الأئمة وتقديسهم وإعلاء شأنهم نبتت في ذلك العصر، عصر الإمام جعفر الصادق.
ومما عرف من مبادئ جعفر الصادق في التشريع أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد فيها نهي؟ وقوله: ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال. وكان يرى جواز نقل الحديث بالمعنى، فقد سأله محمد بن مسلم: أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص، قال: إن كنت تريد معانيه فلا بأس؛ وسئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر ولا يدري أيهما هو، وليس يقدر على ماء غيره، قال: يهريقهما جميعا ويتيمم. وكان لا يقول بالقياس لأنه رأي وإنما يرجع إلى ما ورد في الأصول من الكتاب والسنة. ويروون أنه ناظر أبا حنيفة في الرأي فقال جعفر الصادق لأبي حنيفة: أيهما أعظم قتل النفس أو الزنا؟ قال: قتل النفس، قال: فإن الله قد قبل في قتل النفس شاهدين، ولم يقبل في الزنا إلا أربعة، ثم سأله أيهما أعظم: الصلاة أو الصوم؟ قال: الصلاة، قال: فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فكيف يقوم لك القياس، فاتق الله ولا تقس ... إلخ.
وللإمام جعفر حكم وأدعية وردت في كتب الشيعة، وروى بعضها الشهرستاني في «الملل والنحل» واليعقوبي في تاريخه.
من أمثلة ذلك قوله: «إن الله تعالى أراد بنا شيئا، وأراد منا شيئا؛ فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا»، وقوله: «اللهم لك الحمد إن أطعتك، ولك الحجة إن عصيتك، لا صنع لي ولا لغيري في إحسان، ولا حجة لي ولا لغيري في إساءة».
ولكن تزيدوا على أقواله وآرائه كما تزيد أتباع الأئمة الآخرين على أئمتهم سواء في آداب الفقه والحديث أو في باب العقائد، فبعض الرسائل التي تنسب إليه لم تصح نسبتها، والشهرستاني يقول: «ولكن الشيعة بعده افترقوا، وانتحل كل واحد منهم مذهبا، وأراد أن يروجه على أصحابه، فنسبه إليه وربطه به، والسيد بريء من ذلك ... فمنهم من زعم أنه حي بعد ولن يموت حتى يظهر فيظهر أمره»
68
إلخ.
ويظهر أن كثرة ما نسب إليه، وصعوبة التمييز بين ما هو صحيح وغير صحيح، حملت البخاري على ألا يروي شيئا من حديثه. ورجال الحديث من أهل السنة يختلفون فيه، فابن سعد صاحب الطبقات يقول: «إنه كان كثير الحديث ولا يحتج به ويستضعف؛ سئل مرة سمعت هذه الأحاديث من أبيك؛ فقال: نعم، وسئل مرة فقال: إنما وجدتها في كتبه»، ويحيي بن سعيد يقول: «في نفسي منه شيء»؛ وقيل لأبي بكر بن عياش مالك لم تسمع من جعفر وقد أدركته؟ قال: سألناه عما يتحدث به من الأحاديث أشيء سمعته؟ قال: لا ولكنها رواية رويناها عن آبائنا، ووثقه الشافعي ويحيي بن معين وغيرهما، ولم أر أحدا يتهمه بالكذب ولكن من لا يروي عنه يتهمه بأنه لا يتقيد بما سمع، بل يحدث بما قرأ في الكتب، وهذا عيب في نظر المحدثين. وكان بعض المحدثين يأخذ بحديثه إذا رواه عنه الثقات، قال ابن حبان: «كان من سادات أهل البيت فقها وعلما وفضلا، يحتج بحديثه من غير رواية أولاده عنه، وقد اعتبرت حديث الثقات عنه، فرأيت أحاديثه مستقيمة ليس فيها شيء يخالف حديث الإثبات، ومن المحال أن يلصق به ما جناه غيره».
69
على الجملة فقد كان الإمام جعفر من أعظم الشخصيات ذوي الأثر في عصره وبعد عصره، وقد مات في العام العاشر من حكم المنصور؛ ويروون أن المنصور سمه ولم يثبت ذلك، ودفن في البقيع بالمدينة مع أبيه الباقر وجده رحمة الله عليهم.
ومن أكبر رجال الشيعة
زرارة بن أعين . قال ابن النديم: «إنه أكبر رجال الشيعة فقها وحديثا ومعرفة بالكلام والتشيع؛ أبوه أعين كان عبدا روميا لرجل من بني شيبان تعلم القرآن ثم أعتقه؛ وجده سنبس كان راهبا في بلاد الروم»
70
صحب زرارة هذا أبا جعفر محمدا الباقر وابنه جعفر الصادق، ومات سنة 150ه، وله آراء كثيرة منثورة في كتب الكلام.
71 •••
على كل حال أهم ما يمتاز به تشريعهم بناؤه على أحاديث رويت عن أهل البيت، وكان كثير من هذه الأحاديث يصعب جمعها في عهد الأمويين لاضطهادهم العلويين، كالذي روينا من قبل من أمر معاوية للرواة ألا يذكروا شيئا من فضائل علي، وأن يستكثروا من فضائل عثمان، فكان بعض الجامعين للحديث يتقون الأمويين في شأن أحاديث أهل البيت، ولم يكن الحال في صدر الدولة العباسية بخير من هذا - وربما كان أكثر الكتب ذكرا لأحاديث أهل البيت مسند أحمد، ويذكر ابن خلكان في ترجمة النسائي (214-303) أنه صنف كتاب الخصائص في فضل علي بن أبي طالب وأهل البيت، وأكثر رواياته فيه عن أحمد بن حنبل، فقيل له: ألا تصنف كتابا في فضائل الصحابة فقال: «دخلت دمشق والمنحرف عن علي كثير، فأردت أن يهديهم الله بهذا الكتاب»، «وقد خرج إلى دمشق، فسئل عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضل!.. وكان يتشيع فمازالوا يدفعون في حضنه حتى أخرجوه من المسجد ... ثم حمل إلى الرملة فمات بها».
72
فكان كثير من أحاديث أهل البيت ولم يرو في كتب أهل السنة لهذا السبب السياسي، ولسبب آخر وهو تزيد أصحابهم عليهم. فاستقل أهل البيت بأحاديثهم، وهم أيضا - من ناحيتهم - لم يشاءوا أن يرووا أحاديث الصحابة غير العلويين أمثال أبي بكر وعمر ومعاوية وعائشة لكرههم لهم، ولاعتقادهم أيضا أن أتباعهم تزيدوا لهم. فنشأ من ذلك مجموعتان من الأحاديث: مجاميع يرويها أهل السنة كالبخاري ومسلم، وقد سبق الكلام فيهما، ومجاميع يرويها الشيعة: ومن أجمع كتبهم في هذا كتاب الكافي في علم الدين لمحمد بن يعقوب الكليني، وهو يحتوي ستة عشر ألف حديث، قسمها - كما فعل أهل السنة - إلى صحيح وحسن وقوي وضعيف إلخ، وقد اتفق في جمعه عشرين عاما، ويسميه الشيعة «ثقة الإسلام»، وقد مات ببغداد سنة 328 أو سنة 329، ودفن بالكوفة؛ وغيره من الكتب ألف بعده على نمطه.
فكان اختلاف التشريع بين أهل السنة والشيعة مبنيا في الغالب على: (1)
اختلافهم في فهم القرآن، وللشيعة تأويلات في بعض الآيات خاصة بهم. (2)
وعلى أحاديث يرويها الشيعة عن أئمتهم لا يعترف بها أهل السنة. •••
وهم يقولون في كثير من مسائل أصول الدين بقول المعتزلة، فقد قال الشيعة كما قال المعتزلة بأن صفات الله عين ذاته، وبأن القرآن مخلوق، وبإنكار الكلام النفسي، وإنكار رؤية الله بالبصر في الدنيا والآخرة، كما وافق الشيعة المعتزلة في القول بالحسن والقبح العقليين، وبقدرة العبد واختياره، وأنه تعالى لا يصدر عنه قبيح، وأن أفعاله معللة بالعلل والأغراض إلخ.
وقد قرأت كتاب الياقوت لأبي إسحق إبراهيم بن نوبخت من قدماء متكلمي الشيعة الإمامية
73
فكنت كأني أقرأ كتابا من كتب أصول المعتزلة إلا في مسائل معدودة كالفصل الأخير في الإمامة، وإمامة علي، وإمامة الأحد عشر بعده.
ولكن أيهما أخذ من الآخر؟ أما بعض الشيعة فيزعم أن المعتزلة أخذوا عنهم، وأن واصل بن عطاء - رأس المعتزلة - تتلمذ لجعفر الصادق، وأنا أرجح أن الشيعة هم الذين أخذوا من المعتزلة تعاليمهم، وتتبع نشوء مذهب الاعتزال يدل على ذلك، وزيد بن علي زعيم الفرقة الشيعية الزيدية التي تنتسب إليه تتلمذ لواصل، وكان جعفر يتصل بعمه زيد؛ ويقول أبو الفرج الأصفهاني في «مقاتل الطالبين»: «كان جعفر بن محمد يمسك لزيد بن علي بالركاب ويسوي ثيابه على السرج»؛
74
فإذا صح ما ذكره الشهرستاني وغيره عن تتلمذ زيد لواصل، فلا يعقل كثيرا أن يتتلمذ واصل لجعفر.
وكثير من المعتزلة كان يتشيع، فالظاهر أنه عن طريق هؤلاء تسربت أصول المعتزلة إلى الشيعة.
وقد اشتهر من الشيعة كثير من المتكلمين من أشهرهم هشام بن الحكم، وشيطان الطاق.
فأما هشام بن الحكم، فيظهر أنه أكبر شخصية شيعية في علم الكلام، كان مولي لبني شيبان، وكان من تلاميذ جعفر الصادق، نشأ بالكوفة وحظي عند البرامكة لتشيعهم المستتر، بل اتصل بالرشيد نفسه، وكان جدلا قوي الحجة، ناظر المعتزلة وناظروه، ونقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرقة تدل على حضور بديهته وقوة حجته، «دخل يوما على بعض الولاة العباسيين، فقال رجل للعباسي: أنا أقرر هشاما بأن عليا كان ظالما، فقال له؛ إن فعلت ذلك فلك كذا، فقال له يا أبا محمد (كنية هشام) أما علمت أن عليا نازع العباس إلى أبي بكر؟ قال: نعم، قال: فأيهما كان الظالم لصاحبه؟ فتوقف هشام وقال: إن قلت العباس خفت العباسي، وإن قلت عليا ناقضت قولي، ثم قال: لم يكن فيهما ظالم، قال: فيختصم اثنان في أمر وهما محقان جميعا؟ قال: نعم، اختصم الملكان إلى داود وليس فيهما ظالم، إنما أرادا أن ينبهان على ظلمه، كذلك اختصم هذان إلى أبي بكر ليعرفاه ظلمه»، فأمسك الرجل.
75
وجاءه رجل ملحد فقال له: أنا أقول بالاثنين، وقد عرفت إنصافك فلست أخاف مشاغبتك؛ فقام هشام وهو مشغول بثوب ينشره وقال: حفظك الله، هل يقدر أحدهما أن يخلق شيئا لا يستعين بصاحبه عليه؟ قال: نعم، قال هشام. فما ترجو من اثنين؟ واحد خلق كل شيء أصح لك؛ فقال الرجل: لم يكلمني بهذا أحد قبلك.
وقد ناظر أبا الهذيل العلاف المعتزلي وروى عنه الخياط أنه كان يقول: إن أمة محمد ارتدت بعد وفاته، وخالفت أمره وبدلت حكمه، وأزالت خليفته عن مقامه إلخ.
76
ويظهر أنه كان يميل إلى الجبر، وله مع المعتزلة في ذلك مناظرات كما كان يميل إلى التجسيم، وحكي عنه في ذلك أقوال، والجاحظ يشتد عليه في المناقشة ويغضب في نقده غيرة على المعتزلة.
وعلى الجملة فقد كان له فضل كبير في صياغة الكلام على المذهب الشيعي، وألف كتبا كثيرة لم يصل إلينا شيء منها. قال ابن النديم «إنه توفي بعد نكبة البرامكة مستترا، وقيل في خلافة المأمون».
وأما
شيطان الطاق
فاسمه محمد بن النعمان، يسميه أهل السنة «شيطان الطاق»، ويسميه الشيعة مؤمن الطاق - من أصحاب جعفر الصادق كذلك.
والطاق محلة ببغداد، وكان صيرفيا ماهرا بمعرفة الدراهم والدنانير، فسموه شيطان الطاق لذلك. وقد حكي في «بحار الأنوار» مناظرة بينه وبين أبي خدرة؛ ذلك أن أبا خدرة كان يفضل أبا بكر على علي، وكان من الخوارج، وشيطان الطاق شيعي يفضل عليا؛ فاجتمع قوم من الخوارج وقوم من الشيعة بالكوفة عند أبي نعيم النخعي، فقال أبو خدرة الخارجي: إن أبا بكر أفضل من علي وجميع الصحابة بأربع خصال: فهو ثاني لرسول الله، دفن في بيته، وهو ثاني اثنين معه في الغار، وهو ثاني اثنين صلى بالناس آخر صلاة قبض بعدها رسول الله، وهو ثاني صديق من الأمة. فرد عليه شيطان الطاق وقال: يا ابن أبي خدرة، أترك النبي
صلى الله عليه وسلم
بيوته - التي أضافها الله إليه، ونهى الناس عن دخولها إلا بإذنه - ميراثا لأهله وولده، أو تركها صدقة على جميع المسلمين؟ فإن تركها ميراثا لولده وأزواجه فقد ترك تسع زوجات، فليس لعائشة إلا نصيب إحداهن (أي فلم يكن لها أن تدفن أبا بكر في بيته ونصيبها لا يسمح بذلك)، وإن كان تركها ميراثا لجميع المسلمين فإنه لم يكن له نصيب من البيت إلا كما لكل رجل من المسلمين؛ وأما قولك إنه ثاني اثنين إذ هما في الغار، فإن مكان علي في هذه الليلة على فراش النبي
صلى الله عليه وسلم
وبذل مهجته دونه أفضل من مكان صاحبك في الغار؛ وأما قولك في صلاته بالناس، فقد تقدم ليصلي بالناس في مرض رسول الله، فخرج النبي وتقدم وصلى بالناس وعزله عنها، ولو كان قد صلى بأمره لما عزله من تلك الصلاة؛ وأما تسميته الصديق فهو شيء سماه الناس، وقد أوجب الله عز وجل على صاحبك الاستغفار لعلي بن أبي طالب بقوله تعالى:
والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ؛ ومن سماه القرآن وشهد له بالصدق والتصديق أولى ممن سماه الناس - إلى آخر المناظرة. كما حكى له مناظرات أخرى مع أبي حنيفة.
77
الزيدية
هم فرقة كبيرة من فرق الشيعة تتبع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب؛ مثل هو وهشام بن عبد الملك ثانية دور الحسين ويزيد بن معاوية؛ فقد كان زيد طموحا إلى الخلافة، نافرا مما يناله وقومه من ظلم الأمويين، وذهب إلى العراق لخصومة مالية - إذ كان قد ادعى عليه خالد بن عبد الله القسري زورا وديعة ستمائة ألف درهم، فألح عليه أهل الكوفة أن يخرج على الأمويين ووعدوه بالنصرة، وكان هشام يخشى جانبه، فأمر عامله على العراق، يوسف بن عمر الثقفي، ألا يدعه طويلا في العراق، فأمره يوسف بالرحيل، فخرج ثم عاد وبث دعاته، وعزم على الخروج على بني أمية. وكان زيد من قديم يرشح نفسه للخلافة ويكره الذل، ويرى أنه أحق بالأمر من هشام، قال مرة: «والله لا يحب الدنيا أحد إلا ذل»، فبلغت هشاما. وقال له هشام مرة: لقد بلغني يا زيد أنك تذكر الخلافة وتتمناها ولست هناك، وأنت ابن أمة (وكانت أمه سندية)، قال يا أمير المؤمنين: لقد كان إسحق بن حرة وإسماعيل ابن أمة، فاختص الله ولد إسماعيل فجعل منهم العرب، فمازالوا ذلك ينمي حتى كان منهم رسول الله. فلما كان في العراق سنة 121 نفذ خطته، وقد نصحه كثيرون ألا يفعل، نصحه سلمة بن كهيل، فقال له: نشدتك الله كم بايعك؟ قال زيد: أربعون ألفا، قال: فكم بايع جدك (الحسين)؟ قال ثمانون ألفا، قال: فكم حصل معه؟ قال: ثلاثمائة، قال: نشدتك الله أنت خير أم جدك؟ قال: جدي، قال: أفقرنك الذي خرجت فيه أم القرن الذي خرج فيه جدك؟ قال: بل القرن الذي فيه جدي، قال أفتطمع أن يفي لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجدك؟ قال: قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم. وكتب عبد الله بن الحسن إلى زيد يقول: «يا ابن عم! إن أهل الكوفة نفخ العلانية خور السريرة، هرج في الرخاء، جزع في اللقاء تقدمهم ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم، لا يبيتون بعدة في الأحداث، ولا ينوءون بدولة مرجوة، ولقد تواترت كتبهم إلي بدعوتهم، فصمت عن ندائهم، وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم، يأسا منهم، وإطراحا لهم، وما لهم مثل إلا ما قال علي بن أبي طالب: «إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم خرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم».
لم تفده تلك النصائح شيئا، وبعث الدعاة إلى أهل السواد وأهل الموصل، وكانت بيعته التي يبايع عليها الناس «إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم
وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء ورد المظالم، وإقفال المجمر
78
ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا وجهل حقنا، أتبايعون على ذلك؟ فإذا قالوا: نعم، وضع يده على يدهم».
ولبث على ذلك بضعة عشر شهرا، ثم أمر أصحابه بالخروج قبل الموعد المحدد لما أحس أن يوسف بن عمر يطلبه هو وأصحابه؛ فلما جد الجد تفرق عنه أكثر من بايعه، ولم يبق معه إلا ثلاثمائة أو أقل، وكانت بينهم وبين يوسف ابن عمر ملحمة ثبت فيها زيد ومن معه، حتى إذا جنح الليل رمي زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى، فلما انتزع منه قضى، فأخذ رأسه وبعث به إلى هشام، فأمر به فنصب على باب مدينة دمشق، ثم أرسل إلى المدينة، ومكث البدن مصلوبا حتى مات هشام، ثم أمر به الوليد فأنزل وأحرق. وكان قتل زيد سنة 122.
كان زيد واسع العلم بالدين قوي الحجة. وصفه خصمه هشام بن عبد الملك فقال: رأيته «رجلا جدلا لسنا خليقا بتمويه الكلام وصوغه، واجترار الرجال بحلاوة لسانه وبكثرة مخارجه في حججه، وما يدلي به عند لدد الخصام من السطوة على الخصم بالقوة الحادة لنيل الفلج.. إن أعاره القوم أسماعهم فخشاها من لين لفظه وحلاوة منطقه مع ما يدلي به من القرابة برسول الله
صلى الله عليه وسلم
وجدهم ميلا إليه، غير متئدة قلوبهم، ولا ساكنة أحلامهم، ولا مصونة عندهم أديانهم».
79
وهرب ابنه يحيي بن زيد إلى خراسان، وصار إلى بلخ، وأقام بها متواريا، يبث الدعاة، ويتهيأ للثورة؛ ثم خرج على الوليد بن يزيد، فأصيب بنشابة أصابت جبهته؛ فكتب الوليد إلى يوسف بن عمر أن انظر عجل العراق
80 (يعني يحيى) فاحرقه، ثم انسفه في اليم نسفا. فأنزله من جذعه الذي صلب عليه، وأحرقه بالنار، وجعله في قوصرة، ثم جعله في سفينة، ثم ذراه في الفرات؛ وكان ذلك سنة 125.
وقد كان قتل زيد وابنه يحيى على النحو الذي روينا سببا من أسباب زيادة البغض للأمويين والاستعداد للثورة عليهم.
وقد روى أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبين: أن أبا حنيفة كان ينصر زيدا ويميل إليه، وأنه أرسل إليه يقول: «إن لك عندي معونة وقوة على جهاد عدوك فاستعن بها أنت وأصحابك في الكراع والسلاح»، وبعث بمال إلى زيد فقبله منه.
81
وقال الزمخشري في الكشاف: «وكان أبو حنيفة يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن علي، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة».
82
ولم يجتمع حوله الشيعة كلهم لنصرته لما ذكرنا من أخلاق أهل الكوفة، ولأن كثيرا من الشيعة كانوا يقولون بإمامة أخيه محمد الباقر، ثم لابنه جعفر الصادق، ولأنه كان معتدلا في تشيعه اعتدالا لا يرضي الغلاة، «اجتمع إليه جماعة من رءوسهم، فقالوا رحمك الله ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قال زيد: رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي يتبرأ منهما، ولا يقول فيهما إلا خيرا، قالوا: فلم تطلب إذا بدم أهل هذا البيت إلا أن وثبا على سلطانكم فنزعاه من أيديكم؟ فقال لهم زيد: إن أشد ما أقول فيما ذكرتم أنا كنا أحق بسلطان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من الناس أجمعين، وأن القوم استأثروا علينا ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا لهم كفرا، قد ولوا فعدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنة؛ قالوا فلم يظلمك هؤلاء إذا كان أولئك لم يظلمون، فلم تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين؟ فقال إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم، وإنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم ، وإلى السنن أن تحيا وإلى البدع أن تطفأ، فإن أنتم أجبتمونا سعدتم، وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل، ففارقوه ونكثوا بيعته ... وقالوا: جعفر إمامنا اليوم بعد أبيه، وهو أحق بالأمر بعد أبيه، ولا نتبع زيد بن علي فليس بإمام، فسماهم زيد الرافضة».
83
هذا زيد زعيم فرقة الزيدية، وقد ظل أتباعه يعملون من بعده حتى نجحوا في بعض البقاع كطبرستان واليمن، ولا يزال معظم بلاد اليمن من الزيدية إلى اليوم، ولا سيما في البلاد الجبلية.
تعاليمه:
قال الشهرستاني: «أتباع زيد بن علي ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة، ولم يجوزوا ثبوت إمامة في غيرهم (أي كمحمد بن الحنفية)، إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي عالم زاهد شجاع سخي خرج للإمامة يكون إماما واجب الطاعة، سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين ... وزيد ابن علي لما كان مذهبه هذا المذهب أراد أن يحصل الأصول والفروع حتى يتحلى بالعلم، فتتلمذ في الأصول لواصل بن عطاء - رأس المعتزلة - مع اعتقاد واصل أن جده علي بن أبي طالب - في حروبه التي جرت بينه وبين أصحاب الجمل وأهل الشام - ما كان على يقين من الصواب، وأن أحد الفريقين منهما كان على الخطأ لا بعينه، فاقتبس منه الاعتزال، وصارت أصحابه كلها معتزلة؛ وكان من مذهبه (مذهب زيد) جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل (ومن أجل هذا صحح إمامة أبي بكر وعمر) ... ولما سمعت شيعة الكوفة هذه المقالة منه، وعرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين رفضوه حتى أتى قدره عليه فسميت رافضة؛ وجرت بينه وبين أخيه محمد الباقر مناظرة لا من هذا الوجه، بل من حيث يتتلمذ لواصل بن عطاء، ويقتبس العلم ممن كان يجوز الخطأ على جده في قتال الناكثين والقاسطين، ومن يتكلم في القدر على غير ما ذهب إليه أهل البيت، ومن حيث إنه (أي زيدا) كان يشترط الخروج شرطا في كون الإمام إماما حتى قال له يوما: «على قضية مذهبك، والدك ليس بإمام (يعني عليا زين العابدين) لأنه لم يخرج قط ولا تعرض للخروج».
84
وهم في تعاليمهم أقرب إلى أهل السنة، فلا يقولون بالتقية، ولا يتبرأون من أبي بكر وعمر ولا يلعنوهما، ولا يقولون بعصمة الأئمة، ولا يقولون باختفائهم.
وهم يشترطون الاجتهاد في أئمتهم، فلذلك كثير فيهم الاجتهاد، وكثرت آراؤهم في الفقه، ونبغ منهم كثيرون من المجتهدين، كالإمام الداعي إلى الحق الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل، وقد ملك طبرستان من سنة 250-270 وله كتاب «الجامع في الفقه»، وكالقاسم بن إبراهيم العلوي الذي تولى على صعدة من بلاد اليمن 246-280، وهو الذي ينسب إليه كتاب الرد على ابن المقفع الذي نشر حديثا.
ومن أهم ما بين أيدينا من كتبهم كتاب «المجموع»
85
جمعت فيه الأحاديث التي رويت عن الإمام زيد والفتاوى مرتبة ترتيب الفقه، وقد ذكروا أنه أول كتاب جمع في الفقه على مذهب الزيدية، والروايات فيه كلها عن زيد عن آبائه من الأئمة؛ فيقول مثلا: حدثني زيد عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام وأكثره على هذا النمط؛ وبعضه فتاوى سئل فيها زيد، مثل: سألت زيدا عن الرجل يكون له أقل من خمسين درهما، قال ليس عليه صدقة الفطر، وهكذا في كل أبواب الفقه - وبعض ما روي في هذا الكتاب عن زيد عن أبيه (علي زين العابدين) عن جده (الحسين) عن علي، يخالف ما يرويه الإمامية عن الإمام الباقر عن أبيه (علي زين العابدين) عن جده عن علي - ويعلل ذلك الزيدية بأن الرواة عن زيدهم عدول الزيدية الذين لا مطعن عليهم، والرواة عن الباقر هم الإمامية ولم تثبت لنا عدالتهم.
86
وهذا الكتاب يطلعنا على ناحيتين هامتين: إحداهما الأحاديث المروية عن أهل البيت من زيد إلى علي مرتبة ترتيبا فقهيا، وذلك يمكن من الإ طلاع على أصولهم التي بنوا عليها الأحكام؛ والثانية ترينا تشدد أهل البيت جميعا في عدم أخذ شيء من الأحكام ولا رواية الأحاديث إلا عن الأئمة، فلا تكاد تجد حديثا في هذا المجموع الكبير إلا ومرجعه الأخير زيد أو علي، لا شيء عن أبي بكر، أو عمر، أو ابن مسعود، أو غيرهم من الصحابة.
التاريخ السياسي للشيعة في هذا العصر : ولست أريد أن أدخل في تفاصيل التاريخ السياسي للشيعة، لأن هذا بكتب التاريخ السياسي أشبه؛ إنما أريد أن أ قتصر منه على ما يوضح الفرق والمذاهب، ويلقي ضوءا على ما ذكرنا قبل من تعاليم، فذلك وحده بموضوعنا أليق.
من وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، إلى آخر عصرنا الذي نؤرخه وإلى ما بعده وشيعة علي تتطلب له ولنسله، وترى أنهم أحق بها، وتاريخهم بين وثبة واستعداد للوثبة، والخلفاء يحذرونهم ويراقبونهم سرا وعلنا، وينكلون بهم تنكيلا شديدا، فلا يرجع الشيعة عن مطلبهم، ولا يغير الخلفاء سياستهم. وكانت حركتهم أيام أبي بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان حركة هادئة نوعا ما، ثم عنفت وتدخل فيها السيف والدم فزادها عنفا. وفي عهد القتال بين علي ومعاوية انقسمت المملكة الإسلامية إلى معسكرين: معسكر العراق وهم شيعة علي، ومعسكر الشام وهم شيعة معاوية؛ وحتى بعد قتل علي واستيلاء معاوية وبيته على الملك ظل العراق - وخاصة الكوفة - شيعي النزعة، وظلت حركات الغلو في التشيع تنبع منه، كحركة عبد الله بن سبأ والمختار الثقفي؛ وانضم إلى حركة التشيع كثير من الموالي، وخاصة موالي الفرس لما بينا قبل من أسباب، فكانت فارس ولا سيما خراسان أميل إلى التشيع كالعراق.
وقف الأمويون من العلويين وقفة لا رحمة فيها، وقفة سياسية لا خلقية، والسياسي إذا نظر إلى العلويين رآهم إما ثوارا إن ظهروا، أو متآمرين على قلب الدولة إن اختفوا، والخلفاء الأمويون شباب تأخذهم الحدة وتملؤهم الحمية. ولم يكن من خلفاء بني أمية وأمرائهم من تقدمت به السن عند تولي الخلافة أو الإمارة، أو طالت أيامه في الخلافة والإمارة حتى أسن إلا الخليفة معاوية والأمير نصر بن سيار.
صفا الجو لمعاوية بقتل علي، وحمله الحسن بن علي أن ينزل عن الخلافة ويترك له الأمر، فتم له ذلك، وصانع بني هاشم وكبار الصحابة وأبناءهم، ورهب ورغب، فاجتمعت كلمة أكثر الناس له.
ولكن العلويين سكتوا على مضض حتى تولى يزيد، فخرج عليه الإمام العلوي الحسين بن علي، فقتله يزيد، وارتكب الشناعات في أبناء فاطمة، ومن بقي منهم حيا بعد نكبة كربلاء كان أكثرهم أطفالا لا يصلحون لقيادة، فمنهم من سكت على مضض ينتظر الزمن في إنضاج الأطفال، ومنهم من بايع ابن علي من غير فاطمة وهو محمد بن الحنفية.
وتستر الشيعة وأخذوا يعملون في الخفاء واصطنعوا مبدأ التقية.
ثم خرج المختار الثقفي يطالب بدم الحسين، وتحرك كثير من أهل العراق لمشايعته، وذلك في عهد عبد الملك بن مروان، فاستعمل الحجاج على العراق فعسف بالناس وخاصة الشيعة، ونكل بهم تنكيلا.
وقد رأينا قبل ما فعل هشام بن عبد الملك بزيد بن علي، وما فعل الوليد بن يزيد بيحيى بن زيد.
ولقي سليمان بن عبد الملك أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية (بن علي بن أبي طالب)، فرأى منه ذكاءه ودهاءه، فبعث إليه من سمه في طريقه؛ فلما أحس أبو هاشم بالسم قيل إنه عهد بالأمر من بعده إلى أحد آل البيت العباسي، وهو محمد بن علي بن عبد الله بن عباس؛ فكان هذا مبدأ تحول الأمر من بيت علي إلى بيت العباس.
وكان الأمويون أقل مراقبة لبني العباس منهم لبني علي، ولذلك تمكن العباسيون من بث الدعوة، فكان دعاتهم يتظاهرون بالتجارة ويبثون الدعوة سرا.
فلما مات محمد بن علي سنة 124 أوصى بالأمر لابنه إبراهيم، فاستعمل إبراهيم أبا مسلم الخراساني ليكون رئيسا لدعاته، فقبض مروان بن محمد علي إبراهيم وقتله، وقبل قتله عهد بالأمر من بعده إلى أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد الملقب بالسفاح، رأس الدولة العباسية.
هذه خلاصة موجزة لما نكب به الأمويون أئمة العلويين، يضاف إلى هذا نكباتهم للأفراد الذين شعروا منهم بالتشيع، كقتل معاوية حجر بن عدي الكندي، وقتل زياد ابن أبيه الألوف من شيعة الكوفة والبصرة، وتبعه ابنه عبيد الله بن زياد في ذلك، فقتل هانئ بن عروة المرادي، ومسلم بن عقيل الهاشمي وغيرهما.
ولما نازع عبد الله بن الزبير عبد الملك بن مروان في الملك، واستولى ابن الزبير على بعض الأصقاع، سار في شيعة العلويين سيرة الأمويين، فقتل المختار الثقفي وكثيرا من أتباعه، وحبس محمد بن الحنفية؛ وفعل الحجاج بالشيعة لأفاعيل حتى خشي الناس أن يسموا أبناءهم أسماء أهل البيت.
كل هذا وأمثاله كان من الأسباب الكبرى لسخط هذا الفريق على الأمويين، وتكاتفهم على إسقاط دولتهم؛ وتضاف إلى ذلك أسباب أخرى لا تهمنا في موضوعنا.
فبدأت الدعوة للخروج على الأمويين، وكان أهم مركز لها خراسان والعراق، وكان الدعاة يستغلون ما فعل الأمويون ببني هاشم، وما ارتكبوه من الفظائع لتشويه سمعتهم، كهتك حرمة المدينة في عهد يزيد بن معاوية، وإباحة مكة في عهد عبد الملك:
طمعت أمية أن سيرضى هاشم
عنها ويذهب زيدها وحسينها
كلا ورب محمد وإلهه
حتى يبيد كفورها وخئونها
لقد اتفق بنو هاشم علي الكيد لبني أمية، وتحالفوا على الخروج عليهم، وعقدوا المجالس يتذاكرون فيها أمر بني أمية، وظلمهم واضطراب أمرهم، وكره الناس لهم، ومحبتهم لبني هاشم، ويدبرون الأمور لبث الدعوة وقلب الدولة.
وبنو هاشم فرعان: فرع علي ، وفرع العباس؛ فأما فرع علي فتسلسل في ولديه الحسن ثم الحسين، ثم افترقوا فرقا أهمها ثلاث: فرقة سلسلتها في أولاد الحسن، لأنه أكبر أولاد علي؛ وفرقة سلسلتها في أولاد الحسين، لأن الحسن قد سلم الخلافة إلى معاوية فأضاع حق أولاده؛ وفرقة جعلتها في ابن علي من غير فاطمة، وهو المعروف بمحمد بن الحنفية، لأن الحق آل إليه بعد وفاة أبيه وأخويه، ثم انتقلت منه إلى ابنه أبي هاشم عبد الله؛ وهنا تحولت فيما يقول العباسيون إلى بيت العباس بتنازل أبي هاشم لمحمد بن علي العباسي.
ومع هذا فكان من إحكام خطة العباسيين أنهم لم يكونوا يصرحون عند دعوتهم في كثير من المواقف باسم الإمام ليتجنبوا انشقاق الهاشميين بعضهم على بعض.
وأما بيت العباس فأولهم العباس عم النبي، ثم ابنه عبد الله بن عباس، وقد ناصر عليا أولا، ثم تحول إلى معاوية وسالم الأمويين، وإن كرههم في أعماق نفسه؛ وكذلك كان ابنه علي بن عبد الله بن العباس الملقب بالسجاد، ذهب في أيام عبد الملك بن مروان إلى دمشق وأقام بها، ثم أساء إليه الوليد ابن عبد الملك بعده فتحول إلى الحميمة (بلدة من أعمال البلقاء بالشام) وبها مات سنة 118ه. ثم أتى ابنه محمد بن علي فتظاهر بمشايعة العلويين، ثم قيل بعد أبي هاشم العلوي إليه فكان ذلك بدء الدعوة العباسية. وكان من أخباره ما تقدم ذكره حتى استولى السفاح سنة 132 وهو أول الخلفاء العباسيين. •••
وما بدأ الملك يستقر للعباسيين حتى غضب عليهم العلويون، وشعر العباسيون بأنهم حديثو عهد الدولة، أنهم في حاجة إلى الشدة والقسوة لتدعيم ملكهم، فقسوا عليهم بأكثر مما قسا الأمويون، ثم كانوا أعرف بالعلويين وأساليبهم يوم خالطوهم وحالفوهم للعمل ضد الأمويين، فكانوا أقدر على تتبعهم ومعرفة مكايدهم ومنازلتهم بمثل أساليبهم. وانكشف الأمر عن معسكرين آخرين كلاهما من بني هاشم، معسكر العلويين أو الطالبيين، ومعسكر العباسيين؛ الأولون يدلون بعلي بن أبي طالب ابن عم النبي
صلى الله عليه وسلم
وزوج ابنته فاطمة، والآخرون يدلون بجدهم العباس عم النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ واحتدم القتال بينهم سرا وجهرا، وعادت المسألة سيرتها الأولى بل أشد، ورأوا أن نار الأمويين كانت جنة إذا قيست بنار العباسيين.
ياليت جور بني مروان عاد لنا
يا ليت عدل بني العباس في النار
وحكى الأغاني أن أبا عدي العبلي (وهو شاعر أموي)، قال في ابتداء حكم بني العباس قصيدته المشهورة في رثاء بني أمية:
تقول أمامة لما رأت
نشوزي عن المضجع الأنفس
وقلة نومي على مضجعي
لدي هجعة الأعين النعس
أبي! ما عراك؟ فقلت الهموم
منعن أباك فلا تبلسي
إلى آخر القصيدة.
فقصد الشاعر عبد الله والحسن ابنا الحسين (الإمامان العلويان) واستنشداه هذه القصيدة فأنشدها، فلما أتى عليها بكى محمد بن عبد الله بن حسن؛ فقال له عمه الحسن بن حسن: أتبكي على بني أمية وأنت تريد ببني العباس ما تريد؟ فقال: والله يا عم لقد كنا نقمنا على بني أمية ما نقمنا، فما بنو العباس إلا أقل خوفا لله منهم، وإن الحجة على بني العباس لأوجب منها عليهم، ولقد كانت للقوم (يعني بني أمية) أخلاق ومكارم وفواضل ليست لأبي جعفر (أي المنصور)، فأعطوا أبا عدي مالا كثيرا وانصرفوا.
87 •••
كانت أكبر حجة للعلويين على الأمويين هي قرابة العلويين لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
فجاء العباسيون ينازعونهم هذه الحجة، وبدأوا بالاعتزاز بالقرابة فقط، فلما خاصمهم العلويون قال العباسيون إنهم أقرب منهم، فالعباسيون ينتسبون إلى العباس عم النبي
صلى الله عليه وسلم ، والعلويون إلى علي، ابن عم النبي، والعم أقرب من ابن العم.
من ذلك أن أبا العباس السفاح لما بويع بالخلافة صعد المنبر وصعد داود بن علي (أحد البيت العباسي) فقام دونه، فتكلم أبو العباس فكان مما قاله: «الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه، فكرمه وشرفه وعظمه، واختاره لنا وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به، والذابين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة لا تقوى وجعلنا أحق بها وأهلها،
وخصنا برحم رسول الله وقرابته، وأنشأنا
من آبائه، وأنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته، جعله من أنفسنا عزيزا عليه ما عنتنا، حريصا علينا، بالمؤمنين رءوفا رحيما، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابا يتلى عليه، فقال عز من قائل فيما أنزل من محكم القرآن:
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ، وقال:
قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، وقال:
وأنذر عشيرتك الأقربين ، وقال:
ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى ؛ فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا تكرمة لنا وفضلا علينا، والله ذو الفضل العظيم» إلخ؛
88
وقام بعده داود ابن علي فكان مما قاله: «أيها الناس، الآن تقشعت حنادس الدنيا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى منزعه،
ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم،
أهل الرأفة بكم، والرحمة لكم، والعطف عليكم ... ألا وإن ذمة الله وذمة رسوله وذمة العباس لكم أن نسير فنحكم في الخاصة والعامة بكتاب الله وسنة رسوله؛ وإنه والله أيها الناس ما موقف هذا الموقف بعد رسول الله أحد أولى به من علي بن أبي طالب، وهذا القائم خلفي، فاقبلوا عباد الله ما آتاكم بشر، واحمدوه على ما فتح لكم» إلخ.
ولما ولي داود بن علي هذا الحجاز من قبل السفاح، قام فخطب، ثم استأذنه سديف بن ميمون، فقام سديف دون داود بمرقاة، فكان مما قال: «أتزعم الضلال - خطئت أعمالهم -
أن غير آل رسول الله أولى بتراثه؟
ولم وبم معاشر الناس؟ ألكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة، الشركاء في لنسب، والورثة للسلب ... لم ير مثل العباس بن عبد المطلب، اجتمعت له الأمة بواجب حق الحرمة، أبو رسول الله بعد أبيه، وجلدة ما بين عينيه يوم خيبر، لا يرد له أمرا، ولا يعصى له قسما» إلخ.
89
وناقش المأمون يوما علي بن موسى الرضا، فسأله بم تدعون هذا الأمر؟ قال: بقرابة علي من النبي صلى الله عليه وسلم وبقرابة فاطمة رضي الله عنها؛ فقال المأمون: إن لم يكن ههنا شيء إلا القرابة ففي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، من هو أقرب إليه من علي، ومن هو في القرابة مثله، وإن كان بقرابة فاطمة من رسول الله فإن الحق بعد فاطمة للحسن والحسين، وليس لعلي في هذا الأمر حق وهما حيان؛ وإذا كان الأمر على ذلك فإن عليا قد ابتزهما جميعا وهما حيان، واستولى علي على ما لا يجب له، فما أحار علي بن موسى نطقا.
90
وكان الشيعة العلويون يدعون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد بدولتهم، وأن علي بن أبي طالب والأئمة من بعده بشروا بهم وبملكهم، فادعى العباسيون مثل هذه الدعوى، ووجدوا من يضعون لهم مثل هذه الأخبار، «فزعم ناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمه العباس: إنها تكون في ولدك، وأنه حين أتاه بابنه عبد الله أذن في أذنه وتفل في فيه، وقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، ثم دفعه إلى أبيه وقال له: خذ إليك أبا الأملاك».
91 •••
تم للعباسيين الأمر، وأبادوا الأمويين، وتربعوا في دست الخلافة، فغضب العلويون وسكتوا قليلا على مضض؛ وكان من رجالاتهم وسادتهم سيدان يقيمان بالمدينة، هما محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان يلقب بالنفس الزكية، وكان ما شئت (فضلا وشرفا ودينا وعلما وشجاعة وفصاحة ورياسة وكرما ونبلا)، ثم أخوه إبراهيم بن عبد الله؛ فالتف كثير من العلويين حول (النفس الزكية)، وأرادوه على أن يخرج على السفاح، وينتهز فرصة بدء الدولة وقرب عهدها، وبثوا الدعاة له، وبدأ بعض القادة الذين كانوا يعملون للعباسيين بالميل إليه، وضبط كتاب من يزيد بن عبد الله بن هبيرة إلى النفس الزكية يعلمه أنه يبايع له، وأن قبله أموالا وعدة وسلاحا، وأن معه عشرين ألف مقاتل؛ فأرسل الكتاب إلى السفاح فأمر بقتل ابن هبيرة فقتل. وكان يبلغ أبا العباس السفاح عن النفس الزكية أشياء فكان يستعين عليه بأبيه وعمه ويصانعهم جميعا فيهدئ من نفوسهم.
حتى إذا انتقلت الخلافة لأبي جعفر المنصور، بدأ محمد بن عبد الله النفس الزكية يتحرك، وبايعه أشراف بني هاشم، وكان أول أمره يتخفى ولا يعلم مكانه، ثم أظهر أمره «وتبعه أعيان المدينة، ولم يتخلف عنه إلا نفر يسير، ثم غلب على المدينة وعزل عنها أميرها من قبل المنصور، ورتب عليها عاملا وقاضيا، وكسر أبواب السجون وأخرج من بها واستولى على المدينة»، وأخذ هو والمنصور يتكاتبان، «فكتب كل واحد منهما إلى صاحبه كتابا نادرا من محاسن الكتب»، وقد احتج كل في كتابه بحقه في الخلافة وفضله على خصمه - والكتابان - حقا - يرياننا حجج كل فريق، وما كان يدور في نفوس العلويين والعباسيين، وشعور كل نحو الآخرين، فهما في الحق وثيقتان من أهم الوثائق نلخص ما فيهما لطولهما.
92
كتب المنصور أولا إلى محمد بن عبد الله يعرض عليه الأمان هو وولده وإخوته ومن بايعه وتابعه، وأن يعطيه ألف ألف درهم، ويتركه ينزل حيث شاء ويقضي حاجاته، ويطلق من سجنه من فيه من أهل بيته وشيعته وأنصاره، ويترك له الخيار في اختيار من أحب لأخذ الميثاق بهذا وكتابة العهد الذي يرضاه.
فكتب إليه محمد بن عبد الله كتابه يقول فيه: «إن الحق حقنا، وإنكم إنما طلبتموه بنا ونهضتم فيه بشيعتنا ... وإن أبانا عليا كان الوصي والإمام فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء، وقد علمت أن ليس أحد من بني هاشم يمت بمثل فضلنا ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا وسببنا ... وأنا بنو أم رسول الله فاطمة بنت عمرو
93
في الجاهلية، وبنو ابنته فاطمة في الإسلام، من بينكم، فأنا أوسط بني هاشم نسبا، وخيرهم أما وأبا، ولم تلدني العجم ولم تعرق في أمهات الأولاد،
94
وأن الله تبارك وتعالى لم يزل يختار لنا، فولدني من النبيين أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أصحابه أقدمهم إسلاما وأوسعهم علما، وأكثرهم جهادا، علي بن أبي طالب، ومن نسائه أفضلهن خديجة بنت خويلد أول من آمن بالله وصلى القبلة،
95
ومن بناته أفضلهن وسيده نساء أهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. ثم قد علمت أن هاشما ولد عليا مرتين،
96
وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين،
97
وأن رسول الله ولدني مرتين، من قبل جدي الحسن والحسين، فمازال الله يختار لي حتى اختار لي في النار، «فولدني أرفع الناس درجة في الجنة وأهون أهل النار عذابا،
98
فأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار إلخ». ثم يعرض على المنصور الأمان كما عرض عليه ويذكره بما نقض من عهود.
فأجابه المنصور رادا على حججه حجة حجة، فما قال: «بلغني كلامك فإذا جل فخرك بالنساء، لتضل به الجفاة والغوغاء. ولم يجعل الله النساء كالعمومة ولا الآباء كالعصبة ... ولقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث محمد
صلى الله عليه وسلم
وعمومته أربعة. فأجابه اثنان أحدهما أبى،
99
وكفر اثنان أحدهما أبوك
100 .... فأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب فإن الله لم يهد أحدا من ولدها للإسلام، وأما ما ذكرت من فاطمة أم الحسن وأن هاشما ولد عليا مرتين، وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين، فخير الأولين والآخرين محمد رسول الله لم يلده هاشم إلا مرة واحدة، ولم يلده عبد المطلب إلا مرة واحدة؛ وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله فإن الله عز وجل أبى ذلك فقال:
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين
ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة، غير أنها امرأة لا تحوز الميراث ولا يجوز أن تؤم، فكيف تورث الإمامة من قبلها، ولقد طلب بها أبوك بكل وجه فأخرجها تخاصم، ومرضها سرا، ودفنها ليلا، فأبى الناس إلا تقديم الشيخين
101 .... وأفضي أمر جدك إلى أبيك الحسن، فسلمه إلى معاوية بخرق ودراهم، وأسلم في يديه شيعته ... فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه؛ فأما قولك إن الله اختار لك في الكفر فجعل أباك أهون أهل النار عذابا، فليس في الشر خيار ... وأما قولك إنك لم تلدك العجم ولم تعرق فيك أمهات الأولاد، وإنك أوسط بني هاشم نسبا وخيرهم أما وأبا، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرا، وقدمت نفسك على من هو خير منك أولا وآخرا وأصلا وفصلا، فخرت على إبراهيم ابن رسول الله،
102
وعلى والد ولده، فانظر ويحك أين تكون من الله غدا، وما ولد فيكم مولود بعد وفاة رسول الله أفضل من علي بن الحسين وهو لأم ولد ... ولقد خرج منكم غير واحد فقتلكم بنو أمية، وحرقوكم بالنار، وصلبوكم على جذوع النخل حتى خرجنا عليهم فأدركنا بثأركم إذ لم تدركوه، ورفعنا أقداركم، وأورثناكم أرضهم وديارهم ... ولقد علمت أن قد توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وليس من عمومته أحد إلا العباس، فكان وارثه دون بني عبد المطلب، وطلب الخلافة غير واحد من بني هاشم، فلم ينلها إلا ولده (أي ولد العباس)، فاجتمع للعباس أنه أبو رسول الله خاتم الأنبياء، وبنوه القادة الخلفاء، فقد ذهب بفضل القديم والحديث» إلخ.
ثم تدخل السيف إذ لم يفلح القلم، فأرسل إليه المنصور جيشا كثيفا على رأسه ابن أخيه عيسى بن موسى، فالتقى جيشه بجيش محمد في موضع قريب من المدينة، فغلب محمد بن عبد الله وقتل وحمل رأسه إلى المنصور.
ثم خرج أخوه إبراهيم بن عبد الله، ومضى إلى البصرة، وأظهر أمره هناك، وكثرت جموعه وانضم إليه كثير من الزيدية والمعتزلة، فأرسل إليه عيسى بن موسى أيضا، فكانت الغلبة لعسكر المنصور كذلك، وقتل إبراهيم في قرية قريبة من الكوفة يقال لها «باخمرى» ومن أجل هذا يعرف إبراهيم بأنه «قتيل باخمرى»، وقتل في هذه المعارك كثير من البيت العلوي، وقبض على عدد عديد منهم، حبسهم المنصور في سرداب على شاطئ الفرات بالقرب من الكوفة لا يصل إليهم ضوء حتى ماتوا. وغضب المنصور من هذه الأحداث المتتالية من الطالبيين، فخطب في أهل خراسان خطبة شديدة خرج فيها عن اتزانه وتؤدته، فسب وشتم ورغب ورهب، وعرض فيها لتاريخ العلويين كما يتصوره هو، فأحببنا إثباتها لأهميتها:
صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم صلى على النبي
صلى الله عليه وسلم
ثم قال :
يا أهل خراسان: أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد علي بن أبي طالب تركناهم والله الذي لا إله إلا هو والخلافة، فلم نعرض لهم فيها بقليل ولا كثير، فقام فيها علي ابن أبي طالب فتلطخ وحكم عليه الحكمان، فاقترفت عنه الأمة، واختلفت عليه الكلمة. ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه، ثم قام من بعده الحسن بن علي، فوالله ما كان فيها برجل، قد عرضت عليه الأموال فقبلها قدس إليه معاوية: أني أجعلك ولي عهدي من بعدي، فخدعه فانسلخ له مما كان فيه وسلمه إليه، فأقبل على النساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غدا، فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه؛ ثم قام من بعده الحسين بن علي، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة؛ أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المدرة السوداء (وأشار إلى الكوفة) فوالله ما هي بحرب فأحاربها، ولا سلم فأسالمها، فرق الله بيني وبينها، فخذلوه وأسلموه حتى قتل؛ ثم قام من بعده زيد بن علي فخدعه أهل الكوفة وغروه، فلما أخرجوه وأظهروه أسلموه.. ثم وثب علينا بنو أمية، فأماتوا شرفنا، وأذهبوا عزنا؛ والله ما كنت لهم عندنا ترة يطلبونها، وما كان ذلك كله إلا فيهم وبسبب خروجهم عليهم، فنفونا من البلاد، فصرنا مرة بالطائف، ومرة بالشام، ومرة بالشراة، حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصارا، فأحيا شرفنا وعزنا بكم أهل خراسان، ودمغ بحقكم أهل الباطل، وأظهر حقنا، وصار إلينا ميراثنا عن نبينا صلى الله عليه، فقر الحق مقره وأظهر مناره، وأعز أنصاره، وقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين، فلما استقرت الأمور فينا على قرارها من فضل الله فيها، وحكمه العادل لنا، وثبوا علينا ظلما وحسدا منهم لنا، وبغيا لما فضلنا الله به عليهم، وأكرمنا به من خلافته، وميراث نبيه صلى الله عليه وسلم:
جهلا علي وجبنا من عدوهم
لبئست الخلتان الجهل والجبن
فإني والله يا أهل خراسان، ما أتيت من هذا الأمر ما أتيت بجهالة، بلغني عنهم بعض السقم والتعرم، وقد دسست لهم رجالا فقلت: قم يا فلان قم يا فلان، فخذ معك من المال كذا وحذوت لهم مثالا يعملون عليه، فخرجوا حتى أتوهم بالمدينة فدسوا إليهم تلك الأموال، فوالله ما بقي منهم شيخ شاب، ولا صغير ولا كبير إلا بايعهم بيعة استحللت بها دماءهم وأموالهم، وحلت لي عند ذلك بنقضهم بيعتي وطلبهم الفتنة: والتماسهم الخروج علي، فلا يرون أني أتيت ذلك على غير يقين، ثم نزل وهو يتلو على درج المنبر هذه الآية
وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب .
103 •••
هذه الحجج من جانبي الهاشميين جعلت الناس ينقسمون قسمين: علويين وعباسيين؛ ورأينا الشعراء ينحازون أيضا فريقين سنعرض لهما بعد؛ ورأينا حتى الفرق الإسلامية تنقسم أيضا هذا الانقسام، ففرقة شيعة علوية، وفرقة أخرى عباسية كان من غلاتها قوم يلقبون بالراوندية.
الراوندية:
قد صورهم المؤرخون تصويرات مختلفة، لعل أصدقها ما ذكره المسعودي إذ قال: «إنهم شيعة ولد العباس بن عبد المطلب من أهل خراسان وغيرهم، (قالوا) إن رسول الله قبض، وأحق الناس بعده العباس بن عبد المطلب لأنه عمه ووارثه وعصبته، لقوله الله تعالى:
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن الناس اغتصبوه حقه، وظلموه أمرا إلى أن رده الله إليهم، وتبرأوا من أبي بكر وعمر، وأجازوا بيعة علي بن أبي طالب بإجازته لها؛
104
وذلك لقوله: يا ابن أخي هلم إلي أبايعك فلا يختلف عليك اثنان. وقد صنف هؤلاء (الراوندية) كتبا في هذا المعنى الذي ادعوه، وهي متداولة في أيدي أهلها ومنتحليها، ومنها كتاب صنفه عمرو بن بحر الجاحظ، وهو المترجم بكتاب «إمامة ولد العباس» يحتج فيه لهذا المذهب ... ولم يصنف الجاحظ هذا الكتاب، ولا استقصى فيه الحجاج للراوندية - وهم شيعة ولد العباس - لأنه (كان) مذهبه، ولا كان يعتقده، لكن فعل ذلك تماجنا وتظرفا».
105
وكان في هؤلاء الراوندية من غلا وسخف، فيروي الطبري أن منهم قوما «عبدوا أبا جعفر المنصور، وصعدوا إلى الخضراء، فألقوا أنفسهم كأنهم يطيرون، وخرج جماعتهم على الناس بالسلاح فأقبلوا يصيحون بأبي جعفر: أنت أنت»
106
يريدون: أنت الله:
وقال الفخري: «إنهم قوم من أهل خراسان كانوا يقولون بتناسخ الأرواح ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى فلان - رجل من كبارهم - وأن جبريل هو فلان - عن رجل آخر - قلما ظهروا أتوا قصر المنصور وقالوا هذا قصر ربنا؛ فأخذ المنصور رؤساءهم فحبس منهم مائتي رجل» إلخ.
وأيا ما كان، فالراوندية شيعة العباسيين وفرقتهم الدينية. غلا فيهم من غلا كما غلا في الشيعة العلوية من غلا.
وبهذا الوضع أصبحت حجة العلويين على العباسيين أضعف من حجتهم على الأمويين، لاشتراك الجميع في الهاشمية والقربى من رسول الله، وتنازع الطائفتين في أيهما أقرب. •••
واستمر النزاع العلوي العباسي طوال العصر الذي نؤرخه وبعده، كلما قام خليفة عباسي قام داع علوي يدعو إلى نفسه، ثم يقاتل ويقتل، وقد يستكشف أمره قبل الخروج فيحبس أو يسم، وقد يدس لعلوي لم يعتزم الخروج والثورة ولكن يتقرب إلى العباسيين من هذا الباب، فتلصق التهمة به ظلما وعدوانا وهكذا؛ فاقرأ تاريخ كل خليفة تحصل على وقائعه مع العلويين حتى كان ذلك شعار للخلافة.
فبعد المنصور تولى المهدي، وقد غضب على وزيره يعقوب بن داود، وقبض عليه وأودعه السجن حتى عمي، لأن المهدي دفع إليه علويا وأمره بحفظه فأطلقه.
ثم تولى الهادي من بعد المهدي، فخرج عليه الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب
107
بالمدينة، وخرج معه جماعة من أهل بيته، فأرسل الهادي إليه جيشا قاتله فقتله؟ بموضع يقال له (فخ) بين مكة والمدينة. ومن أجل هذا يسمى «صاحب فخ» وحمل رأسه إلى الهادي.
ثم ولي هارون الرشيد: فخرج عليه يحيى بن عبد الله بن حسن، وهو أخو النفس الزكية وإبراهيم «قتيل باخمرى»، وكان خروجه بالديلم، وتبعه ناس كثير من الأمصار؛ فبعث إليه الرشيد من يستميله إلى الصلح فمال إليه، وطلب أمانا بخط الرشيد، وأن يشهد عليه فيه القضاة والفقهاء وجلة بني هاشم، فأجابه الرشيد إلى طلبه؛ وقدم يحيى إلى الرشيد فحبسه عنده، واستفتى الفقهاء والقضاة في نقض العهد، فأفتى بذلك بعضهم، وأبى آخرون منهم محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، ثم أرسل الرشيد إلى يحيى من قتله في حبسه. ووشي إليه بموسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، فقبض عليه الرشيد بالمدينة وحمله إلى بغداد، فحبسه ثم قتله قتلا خفيا، وأدخل عليه شهودا شهدوا أنه مات حتف أنفه.
فلما ولي الأمين كان من أمره مع الطالبيين ما قاله أبو الفرج الأصفهاني: «كانت سيرة محمد في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدم، لتشاغله بما كان فيه من اللهو والإدمان له، ثم الحرب التي كانت بينه وبين المأمون حتى قتل، فلم يحدث على أحد منهم في أيامه حدث بوجه ولا سبب».
ولما وقع الخلاف بين الأمين والمأمون، رأى العلويون أن الفرصة سانحة لهم؛ فالناس منقسمون بين الأمين والمأمون، والحروب بينهما قائمة، ولا هم لأحدهما إلا الآخر، وأن الخلاف بينهما يضعف أمرهما معا، وأن ملل الناس من الحرب وويلاتها قد يصرف وجوههم عن العباسيين إلى العلويين؛ ومن أجل ذلك نشط العلويون وبثوا الدعاة، وكثر خروجهم وفتهم.
فخرج محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسين بن علي بالكوفة، وكان مدبر حربه، وقائد جنده أبو السرايا السري بن منصور الشيباني وعظم أمره، وكان كلما بعث المأمون بجيش هزمه أبو السرايا، وفي أثناء القتال مات محمد بن إبراهيم هذا، فولى أبو السرايا بدله غلاما علويا أمرد اسمه محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي.
وقوي أمر أبي السرايا وقوي معه الطالبيون، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة، وأرسل عماله من العلويين على الأمصار مكة والمدينة والبصرة وغيرها. ولم يخضع المأمون هذه الفتن إلا بعناء شديد، وبذل دماء كثيرة، وكان الفضل الأكبر في هزيمة أبي السرايا للقائد الكبير هو ثمة بن أعين، وكان المأمون في هذه الفتنة في مرو - عاصمة خراسان - قبل أن ينتقل إلى بغداد.
فكر المأمون وفكر، ثم طلع برأي غريب، وأحدث عملا لم يقم به أحد قبله من بني أمية وبني العباس، ذلك أنه فكر في حال الخلافة بعده ... واعتبر أحوال أعيان أهل البيتين - البيت العباسي والبيت العلوي - فلم ير فيهما أصلح ولا أفضل ولا أروع ولا أدين من علي بن موسى الرضا (ابن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب)، فعهد إليه وكتب بذلك كتابا بخطه، وألزم الرضا بذلك فامتنع ثم أجاب ... وكان الفضل بن سهل وزير المأمون هو القائم بهذا الأمر والمحسن له، فبايع الناس لعلي بن موسى من بعد المأمون، وسمي الرضا من آل محمد، وأمر المأمون الناس بخلع لباس السواد ولبس الخضرة، وكان هذا في خراسان. فلما سمع العباسيون ببغداد ما فعل المأمون من نقل الخلافة من البيت العباسي إلى البيت العلوي، وتغيير لباس آبائه وأجداده بلباس الخضرة أنكروا ذلك، وخلعوا المأمون من الخلافة غضبا من فعله، وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي».
108
ترى ما الذي حمل المأمون على هذا العمل الذي لم يسبق إليه؟ عندي أن ذلك يرجع إلى أمور: (1)
أنه استعرض الفتن التي قامت من عهد علي إلى يومه، فرآها فتنا مضعفة للدولة، مفرقة للكلمة؛ فلعل من الخير أن يفتح السبيل أمام البيتين العباسي والعلوي يختار خيرهما، فتنقطع الفتن ويتعاون البيتان على الخير العام للمسلمين. فإن كان هذا رأيه فقد غاب عنه أن الناس لا يحكمون العقل دائما، أن الخلاف لا يقطع بمثل هذه السهولة، وأن عصبية العلويين لبيتهم والعباسيين لبيتهم تعمي العقل وتبعث الفتن، وهذا ما كان. (2)
أن المأمون كان معتزليا على مذهب معتزلة بغداد، وهم يرون أن عليا أولى بالخلافة حتى من أبي بكر وعمر، فذريته من بعده أحق؛ فأراد أن يحقق مذهبه وينقل الخلافة إليهم. (3)
أنه كان تحت تأثير الفضل بن سهل والحسن بن سهل وهما فارسيان، والفرس يجري في عروقهم التشيع، كما كان الشأن في بيت البرامكة أيام الرشيد، فمازالوا بالمأمون يلقنانه آراءهما حتى أقرها ونفذها. (4)
أنه رأى أن عدم تولي العلويين للخلافة يكسب أئمتهم شيئا من التقديس، فإذا ولوا الحكم ظهروا للناس وبان خطؤهم وصوابهم فزال عنهم هذا التقديس.
وأغلب ظني أن المأمون كان مخلصا في عمله صادقا في تصرفه، وقد زوج المأمون عليا الرضا هذا بنته، وزوج محمد بن علي بنته الأخرى، ولكن شاء القدر أن يموت علي الرضا سريعا، بعد أن ولاه المأمون عهده، وبعد أن مرض أياما ثلاثة، فادعوا أن المأمون سمه لثورة بغداد، وما أكثر ادعاء الشيعة بسم أئمتهم، وهذا بعيد؛ فالمؤرخون يروون حزن المأمون الشديد عليه ، كما يروون أن المأمون بعد موته وبعد انتقاله إلى بغداد ظل يلبس الخضرة (وهو شعار العلويين) تسعة وعشرين يوما، ويلزم القواد بلبسها، فلما رأى كراهية البيت العباسي لها ودسهم الدسائس في ذلك اضطر أن يغيرها إلى السواد (وهو الشعار العباسي)، فإن كان حقا قد سم، يكون قد سمه أحد غير المأمون من دعاة البيت العباسي.
وقد حكى ابن عبد ربه في العقد الفريد مناظرة طويلة جرت بين المأمون وجملة من جلة العلماء، ذهب فيها المأمون إلى تفضيل علي على أبي بكر وعمر وأحقيته للخلافة دونهما.
ومع هذا كله ظل المأمون يعطف على العلويين رغم كثرة خروجهم، فكان مما أوصى به المعتصم أن قال: «وهؤلاء بنو عمك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأقبل من محسنهم، وصلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى».
109
وفي عهد المعتصم خرج محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب في خراسان، فبعث إليه عبد الله بن ظاهر بجيش هزمه، ثم قبض على محمد بن القاسم وبعث به إلى المعتصم، فأودع السجن، ثم هرب ولم يعرف له خبر؛ وكان محمد من أهل العلم يذهب مذهب الاعتزال من القول بالعدل والتوحيد.
وهكذا كان كما قال ابن الرومي:
لكل أوان للنبي محمد
قتيل زكي بالدماء مضرج
هذا ما فعله العباسيون مع أئمة الطالبيين، ولم يكن تنكيلهم بمن تشيع من عامة الناس بأقل من ذلك، فأبو مسلم الخراساني سلط أعوانه على آل أبي طالب «يقتلهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبهم في كل سهل وجبل»، وملئت سجون المنصور والرشيد بالعلويين ومن تشيع لهم، «ويموت إمام من أئمة الهدى فلا تتبع جنازته، ولا تخصص مقبرته، ويموت (ماجن للعباسيين) أو لاعب أو مسخرة أو ضارب، فتحضر جنازته العدول والقضاة، ويعمر مسجد التعزية عنه القواد والولاة، ويسلم فيهم من يعرفونه دهريا أو سوفسطائيا، ولا يتعرضون لمن يدرس كتابا فلسفيا أو مانويا، ويقتلون من عرفوه شيعيا ، ويسفكون دم من سمى ابنه عليا.. ويتكلم بعض شعراء الشيعة في ذكر مناقب الوصي، بل في ذكر معجزات النبي، فيقطع لسانه، ويمزق ديوانه، كما فعل بعبد الله بن عمار البرقي، وكما نبش قبر منصور النمري: حتى إن هارون والمتوكل كانا لا يعطيان مالا ولا يبذلان نوالا إلا لمن شتم آل أبي طالب، ونصر مذهب النواصب، مثل مروان بن أبي حفصة الأموي، ومن الأدباء مثل عبد الملك بن قريب الأصمعي.. يقتلون بني عمهم جوعا وسغبا، ويملأون ديار الترك والديلم فضة وذهبا؛ يستنصرون المغربي والفرغاني، ويجفون المهاجري والأنصاري؛ ويولون أنباط السواد وزارتهم، وقلف
110
العجم والطماطم
111
قيادتهم، ويمنعون آل أبي طالب ميراث أمهم، وفيء جدهم؛ يشتهي العلوي الأكلة فيحرمها، ويقترح على الأيام الشهوة فلا يطعمها، وخراج مصر والأهواز، وصدقات الحرمين والحجاز، تصرف إلى ابن أبي مريم المديني، وإلى إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي،
112
وإلى زلزل الضارب، وبرصوما الزامر، ويقطع بختيشوع النصراني قوت أهل بلد، وبغا التركي والأفشين الأشروسني كفاية أمة ذات عدد؛ والمتوكل - زعموا - يتسرى باثني عشر ألف سرية، والسيد من سادات أهل البيت يتعفف بزنجية أو سندية! وصفوة مال الخراج مقصور على أرزاق الصفاعنة،
113
وعلى موائد المخاتنة، وعلى طعمة الكلابين، ورسوم القرادين. ويبخلون على الفاطمي بأكلة أو شربة، ويصارفونه على دانق وحبة، ويشترون العوادة بالبدر، ويجرون لها ما يفي برزق عسكر، والقوم الذين أحل لهم الخمس وحرمت عليهم الصدقة، وفرضت لهم الكرامة والمحبة، يتكففون ضرا، ويهلكون فقرا، ويرهن أحدهم سيفه، ويبيع ثوبه، وينظر إلى فيئه بعين مريضة، ويتشدد على دهره بنفس ضعيفة ... ومثالب بني أمية مع عظمها وكثرتها، ومع قبحها وشناعتها، صغيرة وقليلة في جانب مثالب بني العباس الذين بنوا مدينة الجبارين، وفرقوا في الملاهي والمعاصي أموال المسلمين ... فإن تجامل علينا وزير أو أمير فإنا نتوكل على الأمير الذي لا يعزل، وعلى القاضي الذي لم يزل يعدل».
114 •••
أما بعد، فقد كانت ساحة البلاد الإسلامية مجالا للدسائس والفتن والحروب المستمرة من وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تقريبا إلى آخر العصر الذي نؤرخه بعده، من غير أن يحسم النزاع بين الشيعة ورجال الدولة؛ فلا الشيعيون يعدلون عن مطالبهم وتنفيذ خطتهم، ولا الساسة بالطبع يستسلمون لمطالب الشيعة، ولا يعالجونها في رفق وهوادة؛ ومهما بالغت في عظم ما أنفق الفريقان من الرءوس والأموال والتفكير والفتن والخطط، فلست ببالغ قدره؛ وظني أن لو اجتمعت كلمة المسلمين وقدر الجهد الذي بذل في إخضاع العلويين لبني أمية وبني العباس، أو إخضاع الأمويين والعباسيين للعلويين - لكان جهدا يكفي لفتح أكثر العالم وإخضاعه للمسلمين، ولكان يتغير وجه التاريخ تغيرا تاما، ويكتب كله من جديد على نمط آخر. ولكن شهوة الحكم دائما في كل عصر تفرق الكلمة، وتضيع وحدة الأمة، وتحل قوتها، وتضعف مرتها، وتفرق بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه؛ والأحداث الناتجة عن شهوة الحكم هي التي تملأ دائما صفحات التاريخ في القديم والحديث، وفي استطاعة العقل دائما أن يوجد الأسباب المعقولة للشيء وضده؛ فقد تسمع الحجج من الشيعة فتظن أن الحق معهم والباطل مع خصومهم، وتسمع حجج الأمويين والعباسيين فكذلك.
ولو عقل الناس ما قبلوا حجج هؤلاء ولا هؤلاء، ولكان أحق الناس بالحكم أصلحهم، ولو كان عبدا حبشيا، سواء كان من نسل الرسول
صلى الله عليه وسلم
في شرفه ورفعته، أو من نسل نجار أو حلاق في حقارته وضعته، لأن خير الناس أنفعهم للناس، ومن كل بيت مهما علا ينتج الصالح والفاسد، والخير والشرير؛ وحكم الناس صناعة ككل الصناعات ينبغ فيها النابغ، وينبغ من أوساط مختلفة من غير أن نعرف في وضوح قوانين نبعه ونبوغه.
ولكن هذه النظر مع بساطته وسلامته لم يكثر مقتنعوه، لأن البيوت الأرستقراطية لا ترتضيه، ولأنه - مع الأسف - سهل نظريا، أصعب ما يكون عمليا، فمن هو أصلح الناس؟ وإذا عثرنا عليه فكيف نقيمه، وكيف نختار أهل الحل والعقد لحمايته وكيف يحمونه، بل كيف يحمون أنفسهم؟ إلخ.
كم فكر المسلمون قديما في هذا وأمثاله، وكان الحل سهلا، والتنفيذ صعبا، وعلى هذا الخلاف وحده كانت كل الثورات بين الشيعة وخصومهم.
فإن أنت سألت أي الفريقين كان على حق في هذا النزاع؟ لم تكن الإجابة هينة؛ هؤلاء الشيعة يحكمون عاطفة شريفة نبيلة، هي عاطفة الحنو على أهل بيت رسول الله والعطف عليهم، هي عاطفة حب للرسول تبعها حب لنسله، وأداهم هذا الحب إلى أن يقولوا حكمنا رسول الله فليحكمنا نسله - وفي هذا جمال العاطفة وإن لم يكن فيه جمال المنطق - وقال خصومهم: إن الحب شيء والحكم شيء، وليس الحكم مالا يورث، ولا تركة توزع حسب الفريضة، إنما هي أهلية وزعها الله على الناس، فقد تخرج الكفاية من بيت وضيع، ولا تخرج من بيت رفيع؛ وإذا كان المنصب من مناصب الدولة كالقضاء، والوزارة، والكتابة لا تورث لأنها تستوجب أهلية خاصة، فالخلافة أولى لأن عبئها أشد ومسئوليتها أعظم؛ وفي هذا القول جمال المنطق، وإن لم يكن فيه جمال العاطفة؛ فكل حزب نظر من ناحيته فقط، فأسرف في الحكم على الآخر، وكان في كل فريق من يلقي على النار وقودا يزيد اشتعالها.
وتعجبني جملة في نهج البلاغة تنسب إلى الإمام علي، فقد سئل عن رأيه في عثمان وقاتليه فقال: «إنه استأثر فأساء الأثرة وجزعوا فأساءوا الجزع؛ ولله حكم واقع، في المستأثر والجازع»، ولعل هذا أصدق وصف لما كان بين عثمان والناقمين عليه، وهو كذلك أصدق وصف للأمويين والعباسيين، والناقمين عليهم من الشيعيين.
أدب الشيعة:
في الحق أن حركة التشيع أغنت الأدب العربي إلى حد كبير، وكان الأدب الناتج عنها أدبا غزيرا قويا؛ وسبب ذلك أن الموقف الذي وقفه الشيعة من طبيعته أن يلهب العاطفة ويهيجها ويثيرها، والعاطفة أكبر دعامة من دعائم الأدب، فإذا أثيرت وهاجت وكان بجانبها سلطان طلق، وبيان ناصع، فهناك الأدب الحي والقول الساحر.
وكان للشيعة عاطفتان بارزتان قويتان يرجع إليهما النتاج الأدبي الشيعي عاطفة الغضب، وعاطفة الحزن؛ فأما الغضب فإنهم اعتقدوا أنهم سلبوا حقهم وغصبوه، وأخذ منهم ظلما وعدوانا، فغضبوا لذلك، ودعتهم ثورة الغضب أن يقولوا وأن يقولوا كثيرا في هجاء غاصبهم، وفي بيان حقهم، وفي شرح مظلمتهم، وفي وجهة نظرهم، وفي إظهار حججهم، إلى غير ذلك. وأما عاطفة الحزن فإن الدولتين العباسية والأموية أخذتاهم بالعنف، وعاملتاهم بأقسى مما يعامل الكفرة والملحدون؛ فمن حين إلى حين تحدثان فيهم مجزرة. ولا يكاد يجف منهم دم حتى يسيل دم، وتفننتا في ذلك، فقتل وصلب، وإحراق وتذرية، وإماتة بطيئة في السجون بحرمانهم من النور والهواء، والأكل والماء، وكل هذا وأقل منه يستنزف الدمع ويذيب القلب، وكل هذا وأقل منه ينطق الأبكم، فكيف إذا وقعت هذه الأحداث لنفس ثائرة ولسان طلق وبيان جزل. لقد بدأت هذه الأحداث بمجزرة الحسين وآل بيته، فكانت القصائد الباكية، والخطب الرائعة، والأقوال الدامية، صدى للدماء المسفوحة، والجثث المطروحة، وكانت ذكراها تبعث في كل جيل حزنا، فيبعث الحزن أدبا وتتابعت الأحداث فتتابع الأدب، فكان لنا من هاتين العاطفتين - الغضب والحزن - أدب حي غزير، فإن ثارت العاطفة الأولى أخرجت أدبا قويا ثائرا، وإن ثارت الثانية أخرجت أدبا حزينا باكيا، فاجتمع في أدبهم القوة والضعف، واللين والعنف.
والآن أعرض بشيء من التفصيل لهذا المعنى الإجمالي:
الأدب الشيعي أنواع مختلفة، فمن ذلك نوع صدر من أئمة الشيعة أنفسهم يحتجون فيه على خصومهم؛ وإذا قلت الشيعة في الدولة الأموية فأعني بهم شيعة بني هاشم، سواء كانوا علويين أو عباسيين، لأنهم كانوا في ذلك عصبة واحدة ضد الأمويين، أما إذا قلت الشيعة في العصر العباسي، فأعني بها العلويين وحدهم، لأن خصومهم كانوا العباسيين الذين حالفوهم أيام الأمويين، وخاصموهم أيام دولتهم.
فأئمة الشيعة قد وهبوا لسانا ناطقا وقولا عذبا، فأثرت عنهم الخطب الرنانة ، والكتب التي تقرب من حد الإعجاز، والأجوبة القصيرة التي جمعت بين إصابة المعنى وإيجاز اللفظ.
وقد عرفت قريش عامة، والهاشميون خاصة، بقوة اللسان، وسحر البيان. قال أبو الحسن: «أسرع الناس جوابا عند البديهة قريش ثم بقية العرب»، وسئل أيضا علي عن قريش فقال: «أما بنو مخزوم فريحانة قريش، تحب حديث رجالهم (والزواج) في نسائهم؛ وأما بنو عبد شمس (ومنهم بنو أمية) فأبعدها رأيا، وأمنعها لما وراء ظهورها؛ وأما نحن (يعني بني هاشم) فأبذل لما في أيدينا وأسمح عند الموت بنفوسنا؛ وهم (بنو عبد شمس) أكثر وأمكر وأنكر، ونحن أفصح وأنصح وأصبح».
من أجل هذا أنتج النزاع بين البيتين القرشيين (البيت الهاشمي والبيت الأموي) ثم بين البيتين الهاشميين (العلوي والعباسي) هذا النتاج الباهر.
من أمثلة ذلك ما تجده في نهج البلاغة من كتب بين علي ومعاوية، وخطب لعلي في بيان حقه، وظلم الناس له، ونحو ذلك؛ وهي وإن كان بعضها موضوعا فبعضها الآخر رواه الثقات - على أن الموضوع منه أيضا أدب رفيع، في منتهى القوة والبلاغة، وإن شك فيه المؤرخ فلن يشك في قيمته الكبرى الأديب والبليغ، وكل ما يفعله الأديب إذا استعان بالمؤرخ أن ينسبه إلى العصر العباسي لا عصر علي، وذلك لا يقلل من قيمته الأدبية.
وقد عقد ابن عبد ربه في كتابه العقد الفريد فصلا في الأجوبة
115
ذكر فيه كثيرا من الأجوبة التي دارت بين عقيل بن أبي طالب ومعاوية، وما كان من الأجوبة بين معاوية وابن عباس، وما كان بين ابن عباس وعمرو بن العاص، ومجاوبات بني هاشم لابن الزبير، وما كان بين الحسين ومعاوية إلخ؛ وهو فصل ممتع حقا، فائق حقا، وهو مظهر من مظاهر الأدب الشيعي القوي، يدل على ما منحه هؤلاء القوم من إصابة الحجة، ووضوح المحجة، وهو نموذج لما أنتجه النزاع بين الأمويين والهاشميين من أدب، ولولا طوله لنقلته، فليرجع إليه القارئ ليشاركني في رأيي.
وتسلسل هذا النوع من الأدب بين أئمة الشيعة وخصومهم، حتى رأينا في مطلع العصر العباسي هذه الكتب القوية التي كانت بين محمد بن عبد الله بن الحسن، وبين أبي جعفر المنصور، وقد نقلنا بعضها قبل، واتخذها كثير من كتب الأدب كالكامل للمبرد مثلا للأدب الرفيع إلخ.
ونوع آخر من الأدب الشيعي وهو الأدب الحزين، أدب البكاء على القتلى والمصلوبين، أمثال الحسين، وزيد بن علي، ومحمد بن عبد الله إلخ. وهذا النوع قد ملئت به كتب التاريخ والأدب، وكانت حادثة الحسين على الأخص مثارا لقصائد طويلة وقصص خيالية رائعة، في مختلف العصور.
ونوع ثالث، وهو أن هذا النزاع بين الشيعة وخصومهم كون أحزابا؛ ففي الدولة الأموية حزب هاشمي، وحزب أموي، وفي الدولة العباسية حزب علوي وحزب عباسي، ولم تقتصر الخصومة بين الأحزاب على هذا الجانب المظلم، جانب السيف والدم، بل كان إلى هذا جانب طريف هو جانب الخصومة الأدبية التي كانت نعمة على الأدب.
فكان هناك شعراء للشيعة وشعراء لبني أمية وشعراء للعلويين يقابلهم شعراء للعباسيين، وكان هؤلاء الشعراء يقومون لأحزابهم مقام الصحف للأحزاب اليوم. وفي رأيي أن فضل الشيعة الأدبي لم يقتصر على شعراء حزبهم، بل لهم الفضل كذلك حتى على شعراء خصومهم، فلولا خصومة الشيعة الحادة ما كان شعراء الأمويين والعباسيين بهذه القوة والغزارة، ولا نحصر الشعر في هذا الضرب السخيف، شعر المديح الصرف؛ فكان هذا الذي ذكرت سببا من أكبر الأسباب في وجود الشعر السياسي، في العصر الأموي والعباسي.
كان للأمويين شعراء سياسيون، وللشيعة كذلك ولسائر الفرق، وابتدأ ذلك من عهد علي، فكان لعلي أبو الأسود الدؤلي، ولمعاوية مسكين الدارمي ثم لبني أمية أبو العباس الأعمى، وأعشى ربيعة، ونابغة بني شيبان إلخ، وللهاشميين كثير عزة، والكميت، وأيمن بن حريم الأسدي إلخ. وكان شعراء بني أمية أكثر، لأن المال لديهم أوفر، ولهذا مدحهم حتى شعراء الشيعة، وحتى الكميت؛ وكان شعر الشيعة أحر وأقوى، لأن مبعثه الإخلاص غالبا، فليس لأئمة الشيعة ما يكافئون به كثيرا.
ويصح أن نقف وقفة قصيرة عند الكميت، فإنه أكبر شعراء الشيعة في العصر الأموي، وهو أول من احتج في شعره على صحة المذهب الشيعي وأقام حججه وقوي براهينه، حتى قال الجاحظ فيه: «إنه أول من دل الشيعة على طرق الاحتجاج»، ولدينا ثروة كبيرة من شعره في ذلك وهي «الهاشميات»، وسميت القصائد بذلك لأنه احتج فيها لبني هاشم على خصومهم، وعدد أبياتها نحو من 536 بيتا.
116
ولد الكميت أيام مقتل الحسين سنة 60، ومات سنة 126 في خلافة مروان ابن محمد آخر الخلفاء الأمويين. وكان شاعرا جزلا مكثرا، فقد بلغ شعره نحو 5289 بيتا، وكان معلما في مسجد الكوفة، وكان خبيرا بأيام العرب، عالما بلغاتها وشعرائها، وقف حياته متعصبا للمصرية على اليمنية، ثم متعصبا لبني هاشم على الأمويين، إلا فترة قصيرة أحس فيها بالخطر على حياته؛ فاستعمل التقية الشيعية ومدح الأمويين، ولجأ إلى الخليفة هشام بن عبد الملك فمدحه وزعم أنه تاب وأناب فعفا عنه - فلما حضرته الوفاة عاد فأظهر حبه وفتح عينيه ورووا أنه قال: اللهم آل محمد، اللهم آل محمد، اللهم آل محمد.
وفيما عدا هذا المظهر في مدح بني أمية قد استعمل علمه، وطريقة تعليمه ومعرفته الواسعة بالأخبار في مدح بني هاشم عامة، والعلويين خاصة، ودعم مذهبهم بالحجج، وشنع على بني أمية أشد تشنيع. ولنسق بعض الأمثلة من قوله - فمن حججه التي استعملها قوله:
يقولون لم يورث ولولا تراثه
لقد شركت فيه بكيل وأرحب
117
ولا نتشلت عضوين منها يحابر
وكان لعبد القيس عضو مؤرب
118
فإن هي لم تصلح لحي سواهم
إذا فذوو القربى أحق وأقرب
119
فيا لك أمرا قد أشتت وجوهه
ودارا ترى أسبابها تتقضب
120
تبدلت الأشرار بعد خيارها
وجد بها من أمة وهي تلعب
121
يؤلف من ذلك للشيعة حجة فيقول: لو لم يورث النبي
صلى الله عليه وسلم
لكانت الخلافة شائعة في قبائل العرب، ولما كان هناك معنى للقول بأن الخلافة من قريش، فإذا تمسكتم بأن الخلافة من قريش، ودفعتم الأنصار عن الخلافة بهذه الحجة، فلا معنى لتقديم قريش إلا القربى من رسول الله، وإذا كانت القربى هي الحجة فالأقرب أولى، فبنو هاشم أولى من بني أمية، وبنو علي أولى بني هاشم.
وهكذا ظل يؤلف الحجج لهم على هذا النمط، ويطعن الأمويين الطعنات النافذة، فيقول في الموازنة بين بني هاشم وبني أمية:
أسد حرب غيوث جدب بها ليل
مقاويل غير ما أفدام
122
سادة ذادة عن الخرد البيض
إذا اليوم كان كالأيام
123
ساسة لا كمن يرى رعية النا
س سواء ورعية الأنعام
124
لا كعبد المليك أو كوليد
أو سليمان بعد أو كهشام
من يمت فلا يمت فقيدا ومن يحيي
فلا ذو إل ولا ذمام
125
ويقول:
فقل لبني أمية حيث حلوا
وإن خفت المهند والقطيعا
126
ألا أف لدهر كنت فيه
هدانا طائعا لكم مطيعا
127
أجاع الله من أشبعتموه
وأشع من بجوركم أجيعا
ويلعن فذ أمته جهارا
إذا ساس البرية والخليعا
128
بمرضى السياسة هاشمي
يكون حيا لأمته ربيعا
وليثا في المشاهد غير نكس
لتقويم البرية مستطيعا
129
يقيم أمورها ويذب عنها
ويترك جدبها أبدا مريعا
130
ومثل هذا كثير. ولقد اضطهد من أجل هذا وسجن وعذب فكان يقول:
ما أبالي إذا حفظت أبا القا
سم فيهم ملامة اللوام
ما أبالي ولن أبالي فيهم
أبدا رغم ساخطين رغام
فهم شيعتي وقسمي من الأمة
حسبي من سائر الأقسام
إن أمت لا أمت ونفسي نفسا
ن من الشك في عمى أو تعامي
وكان شعره - من غير شك - وقودا للثورة، يسير في الناس فيبعث فيهم الحمية والحماسة، ويدفعهم لكره بني أمية وقتالهم، وقتل فقتلت بعده الدولة الأموية بقليل. •••
فإن نحن وصلنا إلى العصر العباسي، رأينا الشعر السياسي يتلون بالخلاف المذهبي؛ فقد انقسم بنو هاشم إلى علويين وعباسيين، وأخذوا يتحاجون في «الأقربية»؛ يقول العباسيون إنهم ورثة العباس وهو عم، والعم يحجب ابن العم (وهو علي)؛ ويقول العلويون إنهم يرثون ولايتهم عن علي، وهو وإن كان ابن عم إلا أن نسله من فاطمة بنت النبي
صلى الله عليه وسلم
كالحسن والحسين وأولادهما أولى، لأن البنت أقرب من العم؛ فأخذ الشعر يصطبغ هذه الصبغة، وينحاز فريق من الشعراء إلى العلويين وفريق إلى العباسيين.
فأظهر شعراء الشيعة العلويين: السيد الحميري، وهو شاعر مخضرم عاش في الدولتين الأموية والعباسية من سنة 105 إلى سنة 173، وكان مكثرا مجيدا ولكنه كان مثالا للشيعي الغالي في التشيع، «فكان يفرط في سب أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأزواجه، ويستعمل شعره في قذفهم والطعن عليهم، فتحومي شعره من هذا الجنس وغيره، وهجره الناس تخوفا وترقبا؛ وله طراز من الشعر ومذهب قلما يلحق به أو يقاربه، ولا يعرف له من الشعر كثير، وليس يخلو من مدح بني هاشم أو ذم غيرهم ممن هو عنده ضد لهم»؛
131
وقال الأصمعي: «لولا ما في شعره من سب السلف لما تقدمه من طبقته أحد».
قال القصائد الطويلة في فضائل علي، حتى وقف يوما بالكوفة فقال: «من أتاني بفضيلة لعلي بن أبي طالب ما قلت فيها شعرا فله دينار»، حتى الفضائل الخرافية كالذي زعموا أن علي بن أبي طالب قام فتطهر للصلاة، ثم نزع خفه فانسابت فيه أفعى، فلما عاد ليلبسه انقضت عقاب فأخذت الخف فحلقت به، ثم ألقته فخرجت الأفعى منه. ومن خير قصائده في ذلك قصيدته المشهورة:
هل عند من أحببت تنويل
أم لا فإن اللوم تضليل
يقول فيها:
أقسم بالله وآلائه
والمرء عما قال مسئول
إن علي بن أبي طالب
على التقي والبر مجبول
ويقول القصائد الطوال أيضا في رثاء الحسين كقصيدته:
أمرر عل جدث الحسي
ن فقل لأعظمه الزكية
آأعظما لا زلت من
وطفاء ساكبة روية
وإذا مررت بقبره
فأطل به وقف المطية
وابك المطهر للمطهر
والمطهرة النقية
كبكاء معولة أتت
يوما لواحدها منية
ونظم حادثة غدير خم،
132
وهي ما تزعمه الشيعة من أن النبي
صلى الله عليه وسلم
يوم غدير خم أخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه؛ فقال:
عجبت من قوم أتو أحمدا
بخطة ليس لها موضع
قالوا له: لو شئت أعلمتنا
إلى من الغاية والمصرع
إذا توفيت وفارقتنا
وفيهم في الملك من يطمع
فقال: لو أعلمتكم مفزعا
كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا
كصنع أهل العجل إذا فارقوا
هارون فالترك له أروع
ثم أتته بعده عزمة
من ربه ليس له مدفع
أبلغ وإلا لم تكن مبلغا
والله منهم عاصم يمنع
فعندها قام النبي الذي
كان بما يأمره يصدع
يخطب مأمورا، وفي كفه
كف علي نورها يلمع
رافعها أكرم بكف الذي
يرفع والكف التي ترفع
من كنت مولاه فهذا له
مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا
وظل قوم غاظهم قوله
كأنما أنافهم تجدع
حتى إذا واروه في لحده
وانصرفوا عن دفنه ضيعوا
ما قال بالأمس وأوصى به
واشتروا الضر بما ينفع
وقطعوا أرحامهم بعده
فسوف يجزون بما قطعوا
وأزمعوا مكرا بمولاهم
تبا لما كانوا به أزمعوا
لا هم عليه يردوا حوضه
غدا ولا هو لهم يشفع
وقد كان السيد الحميري ينشئ في مدح العلويين ورثائهم، وينظم الأقوال والروايات والأخبار الشائعة التي كانت تقال فيهم، ويحرض المهدي على أن يحرم آل عمر بن الخطاب من العطاء:
قل لابن عباس سمي محمد
لا تعطين بني عدي درهما
احرم بني تيم بن مرة إنهم
شر البرية آخرا ومقدما
إن تعطهم لا يشكروا لك نعمة
ويكافئوك بأن تذم وتشتما
ولئن منعتهم لقد بدأوكم
بالمنع إذ ملكوا وكانوا أظلما
ويظهر أنه سلك طريقا ماكرا أمن به إيقاع العباسيين وتنكيلهم، فكان يعلي شأن العلويين ويمدحهم ويذم الصحابة وبني أمية، ثم يعرج على العباسيين فيمدحهم لأنهم من بني هاشم فبلغ ما أراد، ولم ينتقم منه العباسيون، بل نال من جوائزهم. •••
وجاء بعده دعبل الخزاعي، فوقف موقفا غير موقف السيد الحميري، قد وقف موقف عداء ظاهر للعباسيين، يهجو خلفاءهم أشد هجو وأقذعه، ولم يسلم من لسانه أحد من الخلفاء ولا الوزراء ولا الولاة ولا ذو نباهة، فهجا الرشيد وهجا المأمون وهجا المعتصم؛ ومدح العلويين بقصائد كثيرة، أشهرها تائيته البديعة التي مدح بها علي بن موسى بخراسان ومطلعها:
مدارس آيات خلت من تلاوة
ومنزل وحي مقفر العرصات
وفيها يقول:
قفا نسأل الدار التي خف أهلها
متى عهدها بالصوم والصلوات
وأين الألى شطت بهم غربة النوى
أفانين في الآفاق مفترقات
هم أهل ميراث النبي إذا اعتزوا
وهم خير قادات وخير حماة
وما الناس إلا حاسد ومكذب
ومضطغن ذو إحنة وترات
ملامك في أهل النبي فإنهم
أحباي ما عاشوا وأهل ثقاتي
تخيرتهم رشدا لأمري فإنهم
على كل حال خيرة الخيرات
فيا رب زدني من يقيني بصيرة
وزد حبهم يا رب في حسناتي
ألم تر أني من ثلاثين حجة
أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسما
وأيديهم من فيئهم صفرات
فآل رسول الله نحف جسومهم
وآل زياد حفل القصرات
بنات زياد في القصور مصونة
وآل رسول الله في الفلوات
فلولا الذي أرجوه في اليوم أو غد
لقطع قلبي إثرهم حسراتي
خروج إمام لا محالة خارج
يقوم على اسم الله والبركات
يميز فينا كل حق وباطل
ويجزي على النعماء والنقمات
سأقصر نفسي جاهدا عن جدالهم
كفاني ما ألقي من العبرات •••
وبكى الحسين في رثاء طويل يقول فيه:
رأس ابن بنت محمد ووصيه
يا للرجال على قناة يرفع!
والمسلمون بمنظر وبمسمع
لا جازع من ذا ولا متخشع
أيقظت أجفانا وكنت لها كرى
وأنمت عينا لم تكن بك تهجع الخ •••
يقابل ذلك كلما كان من الشعر في تأييد وجهة نظر العباسيين والاحتجاج بتفضيل العم، كالذي يقول مخاطبا الرشيد:
يا ابن الأئمة من بعد النبي ويا اب
ن الأوصياء أقر الناس أو دفعوا
إن الخلافة كانت إرث والدكم
من دون تيم وعفو الله متسع
لولا عدي وتيم لم تكن وصلت
إلى أمية تمريها وترتضع
133
وما لآل علي في إمارتكم
وما لهم أبدا في إرثكم طمع
يا أيها الناس لا تعزب حلومكم
ولا تضفكم إلى أكنافها البدع
العم أولى من ابن العم فاستمعوا
قول النصيحة إن الحق مستمع
وكالذي يقول:
ألا لله در بني علي
ودر من مقالتهم كثير
يسمون النبي أبا ويأبى
من الأحزاب سطر بل سطور
134
وكان من أكبر دعاة العباسيين في الشعر مروان بن أبي حفصة؛ لقد مدح المهدي والرشيد ونال جوائزهما العظيمة، وقال قصيدته المشهورة التي يمدح بها المهدي عندما عقد البيعة لابنه الهادي:
يا ابن الذي ورث النبي محمدا
دون الأقارب من ذوي الأرحام
الوحي بين بني البنات وبينكم
قطع الخصام فلات حين خصام
ما للنساء مع الرجال فريضة
نزلت بذلك سورة الأنعام
خلوا الطريق لمعشر عاداتهم
حطم المناكب كل يوم زحام
135
ارضوا بما قسم الإله لكم به
ودعو وراثة كل أصيد حام
136
أني يكون، وليس ذاك بكائن
لبني البنات وراثة الأعمام
ألغى سهامهم الكتاب فحاولوا
أن يشرعوا فيها بغير سهام
137
ظفرت بنو ساقي الحجيج بحقهم
وغررتم بتوهم الأحلام
138
عقدت لموسى بالرصافة بيعة
شد الإله بها عرا الإسلام
139
موسى الذي عرفت قريش فضله
ولها فضيلتها على الأقوام
وكان من الأبيات على الشيعة قوله:
أني يكون - وليس ذاك بكائن -
لبني البنات وراثة الأعمام
140
وقد غاظهم هذا البيت جدا حتى لعنوه من أجله، وردوا عليه بقولهم:
لم لا يكون - وإن ذاك لكائن -
لبني البنات وراثة الأعمام
للبنت نصف كامل من ماله
والعم متروك بغير سهام
ما للطليق وللتراث وإنما
صلى الطليق مخافة الصمصام
141
وحتى اغتاله بعضهم؛ فروى الأغاني أن صالح بن عطية لما سمع منه هذا البيت عاهد الله أن يغتاله، فلم يزل يلاطفه إلى أن أنس به، ثم مرض مروان بالحمى، فخلا البيت يوما به وبصالح، فوثب عليه صالح حتى أخذ بحلقه، فما فارقه حتى مات.
142
ويطول بنا القول لو عددنا شعراء العلويين والعباسيين، وما قاله كل في الخلافة واستحقاقها، فنجتزئ بهذا القدر، وهو يكفينا للدلالة على ما كان للشيعة من أثر كبير في الأدب الأموي والعباسي. ولقد ظل هذا النزاع الأدبي على حدته طوال العصور الإسلامية، وفي كل قطر تقريبا حتى يومنا هذا، وكان له الأثر القوي في الأدبين الفارسي والعربي معا. وعلى الجملة فلئن شقيت السياسة بهذا النزاع فقد سعد الأدب؛ ولئن أجرى الدماء، وأزهق الأرواح، وخرب الممالك - فقد حرك العواطف، وأسال الأفكار، وأطلق للخيال العنان.
لقد أغنى المعتزلة الأدب من حيث المعاني، وقوة العقل، وسعة الذهن، وتوليد الأفكار العقلية، والنظر إلى الكون وإلى الطبيعة، وإجراء التجارب عليها، ودلالتها على خالقها، وغاصوا على المعاني غوصا، ونقلوا الأدب من لفظ رشيق، إلى معنى عميق، ومن عبارات مجملة منمقة، إلى موضوعات واسعة مسهبة، وبعد أن كان الأدب خلوا من الموضوع جعلوا له موضوعا؛ فمن موضوعه: الحيوان، والبخلاء، والإمام، والقيان، والتجار، والمعلمون، إلى غير ذلك من موضوعات لم تكن في الأدب قبل المعتزلة؛ ووجهوا الذهن وجهات لم تكن قبلهم. كان النثر قبلهم خطبا ترصف فيه الجمل رصفا، أو جملا حكمية، أو أمثالا سائرة، فجعلوا الأدب كتبا، كل كتاب يدور حول موضوع اجتماعي أو أدبي، أو رسائل كل رسالة لها نواة تدور الرسالة حولها. وكان الجاحظ مظهر المعتزلة، المحيط بأدبهم، الناشر لآرائهم، المحلي لأفكارهم، يزيد عليها من أفكاره، ويحليها بتعبيراته.
وجاء الشيعة فأغنوا الأدب لا من هذه الناحية العقلية، بل من الناحية السياسية والعاطفية، فظلوا يقولون في الحق وطلبه؛ والإرث وغصبه، ثم يبكون على حق ضاع، ودم أريق، وحرمات انتهكت، وبيوت دمرت، وجثث صلبت وذريت.
فكان لنا من الأدبين جميعا؛ فكر وعاطفة، وعقل وقلب، وكلاهما لابد منه في الأدب.
الفصل الثالث
المرجئة1
إن كان أساس «الاعتزال» هو الأصول الخمسة التي شرحناها، وأساس التشيع هو «الإمامة» التي أبناها، فأساس الإرجاء هو تحديد معنى
الإيمان ، وما يتبع ذلك من أبحاث.
لقد بدأ القول بالإرجاء بسيطا ساذجا كما تبين لنا في العصر الأموي، فلما تفلسفت المذاهب الأخرى في العصر العباسي تفلسف «الإرجاء».
ما هو الإيمان؟ لدينا عناصر ثلاثة: تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وإتيان بأنواع الأعمال من صلاة وصوم وزكاة وحج؛ فأي هذه هو الإيمان، أو هل هو كلها جميعا؟ على هذا البحث دار الإرجاء.
فكثير من المرجئة كانوا يرون أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، أو بعبارة أخرى هو معرفة الله بقلبه، ولا عبرة بالمظهر؛ فإن آمن بقلبه، فهو مؤمن مسلم، وإن أظهر اليهودية والنصرانية، وإن لم ينطق لسانه بالشهادتين، وليس الإقرار باللسان ولا الأعمال من صلاة وصوم ونحوهما جزءا من الإيمان.
وحجتهم أن القرآن نزل بلغة العرب، والإيمان في اللغة هو التصديق فقط، وأما العمل بالجوارح فليس يسمى في اللغة تصديقا، فليس إيمانا؛ وقد جاء في القرآن حكاية عن إخوة يوسف:
وما أنت بمؤمن لنا
أي بمصدق ما حدثناك به؛ وفي الحديث: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله» أي تصدق.
ومن «المرجئة» من كان يرى أن الإيمان ركنان: تصديق بالقلب، وإقرار باللسان؛ فالتصديق بالقلب وحده لا يكفي، والإقرار باللسان وحده لا يكفي، بل لابد منهما معا ليكون مؤمنا، لأن من صدق بقلبه وأعلن التكذيب بلسانه لا يسمى مؤمنا.
وعلى كل حال فيكاد المرجئة يجمعون على أن العمل ليس ركنا من أركان الإيمان ولا داخلا في مفهومه.
وكل خصومهم يرون أن للإيمان أركانا ثلاثة: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وعمل الطاعات؛ لأن الإيمان في اللغة وإن كان هو التصديق بالقلب، إلا أن الشارع كثيرا ما يغير المعاني اللغوية ويزيد فيها ويقيدها، كالصلاة كانت في اللغة الدعاء، فاستعملها الشارع في معناها الخاص المعروف؛ وقد قال الله في القرآن:
وما كان الله ليضيع إيمانكم ، وسياق الآية يدل على أن المراد بالإيمان هو الصلاة إلى بيت المقدس قبل أن ينسخ بالصلاة إلى الكعبة، وقال الله:
إن الدين عند الله الإسلام ، وقال في موضع آخر:
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ، فنص على أن عبادة الله دين، وفي الآية الأولى نص على أن الدين الإسلام، فعبادة الله الإسلام، والإسلام هو الإيمان لقوله تعالى:
يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين .
ودليل آخر وهو أن الله قال:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ، فجعل التحكيم من الإيمان وهو غير التصديق بالقلب.
وأيضا لو كان الإيمان وهو التصديق بالقلب لكان كثير من اليهود مؤمنين، فقد قال الله إنهم يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم، وإنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وقال:
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ، مع أنه لا خلاف بين المسلمين في عد هؤلاء اليهود كفارا.
وكان المرجئة الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق بالقلب يردون عليهم في هذا بأن اليهود والنصارى لم يعرفوا أن محمدا رسول الله، ومعنى يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، أي يعرفون أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؛ إلى آخر ما دار بينهم من حوار.
وكان أشد خصوم المرجئة في ذلك هم المعتزلة والخوارج، لأن هاتين الفرقتين اشترطوا في الإيمان الإتيان بالطاعات، واجتناب المعاصي، وجعلوا الأعمال جزءا من الإيمان. وجعلت الخوارج من أتى بالكبيرة كافرا، وجعلته المعتزلة في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمنا ولا كافرا، على حين أن المرجئة يقولون: إن مرتكب الكبيرة مؤمن، لأنه مصدق بقلبه، فاسق لارتكابه الكبيرة؛ بل منهم من يقول إنه لا يصح أن يسمى فاسقا بإطلاق، بل يقال فاسق في كذا.
2
ولعل هذه المسألة - مسألة الإيمان وتحديده - هي محور الإرجاء، وقد تفرع عنها جملة مسائل، مثل: هل الإيمان يزيد وينقص، أو لا يزيد ولا ينقص؟ فلما قال المرجئة بأن الإيمان هو التصديق بالقلب، أو التصديق بالقلب والإقرار باللسان. قال أكثرهم إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأن التصديق غير مقول بالتشكيك، والإقرار باللسان إما أن يكون أو لا يكون، فلا محل للزيادة ولا النقصان؛ ومن قال إن الأعمال داخلة في مفهوم الإيمان، والأعمال تكثر وتقل، قالوا: إن الإيمان يزيد وينقص، وقد احتج الأخيرون بقوله تعالى:
فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا ، وقوله:
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا ؛ وقد تأول المرجئة هذه الآية وأمثالها بأن هذه الآية لما نزلت زادتهم تصديقا بشيء لم يكن عندهم من قبل؛ فالإيمان الذي زاد ليس هو الإيمان بمعنى التصديق بالله، بل الإ يمان فيها هو التصديق بمعنى الآية وما أخبرت به إلخ.
ومما فرعه المرجئة على تعريفهم للإيمان أن المؤمن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار، لأنه - على كل حال - مؤمن، وخالفوا في ذلك المعتزلة والخوارج، إذ يقولون إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، ولا يخرج منها أبدا، واستدلوا بقوله تعالى:
ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها
وقوله:
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ، وقد تأول المرجئة هذه الآيات، فقالوا في الآية الأولى: إن من يعص الله ورسوله ويكون مؤمنا لم يتعد حدوده، بل تعدى بعض حدوده، إنما يتعدى الحدود كلها الكافر؛ وتأولوا الآية الثانية بأن من قتل مؤمنا لأنه مؤمن، ولا يكون القاتل بهذا الوضع إلا كافرا إلخ.
فالمرجئة يرون أنه لا يخلد في النار إلا الكافر.
وكان مما قالوه أيضا: إن وعد الله لا يتخلف، ووعيده قد يتخلف، لأن يتصرف فيه كما يشاء، ولا يعد الخلف في الوعيد نقصا، فخالفوا في ذلك المعتزلة كما تقدم من قولهم. •••
وقد كان من الجائز أن يقابل كلام المرجئة وشرحهم لرأيهم في الإيمان بشيء من التسامح، لولا أن كثيرا من رءوس المتكلمين شعروا بالخطر الذي ينطوي عليه كلامهم في الإيمان، وهو التقليل من شأن الأعمال والإتيان بالطاعات، فرأوا أن جعل الإيمان هو التصديق بالقلب وحده أو مع الإقرار باللسان يجعل أعمال الطاعات في المنزلة الثانية، حتى إن بعضهم فسر تسميتهم المرجئة بأنهم أرجأوا العمل، أي أخروا منزلته بعد منزلة الإيمان؛ وفي هذا خطر، وخاصة على العامة، لأنهم إن فهموا أن الأعمال ليست ركنا من أركان الإيمان، قل التزامهم لها وتمسكهم بالإتيان بها، وعلى العكس من ذلك إذا فهموا أنها جزء من الإيمان لا يكمل إلا بها، فحاربوا مذهبهم وعدوه من الفرق المنحرفة.
أما هي في نظر الخاصة فلا ضرر منها، لأنه إذا كان مفهوم الإيمان هو التصديق فقط، لم يمنع ذلك من وجوب الطاعات كالصلاة والصوم وجوبا حتما مشددا لا يصح التساهل فيه بحال، والخلاف ليس إلا في مدلول الألفاظ.
ومن أجل هذا ثارت مسألة كثر حولها الجدل، فقد نقل عن أبي حنيفة أنه كان مرجئا، وممن نقل ذلك أبو الحسن الأشعري في كتابه «مقالات الإسلاميين»، فقال: «الفرقة التاسعة من المرجئة - أبو حنيفة وأصحابه - يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله والإقرار بالله، والمعرفة بالرسول والإقرار بما جاء به من عند الله في الجملة دون التفسير»
3 - وقد جاء في الفقه الأكبر - المنسوب للإمام أبي حنيفة والذي أثبت العلماء صحة نسبة جزء كبير منه إليه، «الإيمان هو الإقرار والتصديق»؛ وجاء فيه: «ويستوي المؤمنون كلهم في المعرفة واليقين والتوكل، والمحبة والرضا والخوف والرجاء، ويتفاوتون فيما دون الإيمان في ذلك كله»؛ وجاء فيه: «والله متفضل على عباده، عادل، قد يعطي من الثواب أضعاف ما يستوجبه العبد تفضلا منه، وقد يعاقب على الذنب عدلا منه، وقد يعفو فضلا منه»؛ وجاء فيه: «ولا نكفر أحدا بذنب، ولا ننفي أحدا عن الإيمان ».
وهذه المسائل التي نقلناها عن «الفقه الأكبر» هي أصول الإرجاء، ولكن كثيرا من الفقهاء والمتكلمين جدوا في تكذيب هذا، واستكبروا نسبة الإرجاء إلى أبي حنيفة، وقالوا إن اهتمام أبي حنيفة بالفروع وكونه إماما من أكبر الأئمة فيها يدل على أنه يكبر الأعمال، وهذا عكس الإرجاء.
وما قاله في ذلك الشهرستاني: «ومن العجب أن غسان كان يحكي عن أبي حنيفة مثل مذهبه؛ ويعده من المرجئة، ولعله كذب ولعمري كان يقال لأبي حنيفة وأصحابه مرجئة السنة؛ وعده كثير من أصحاب المقالات من جملة المرجئة، ولعل السبب فيه أنه لما كان يقول الإيمان هو التصديق بالقلب وهو لا يزيد ولا ينقص؛ ظنوا به أنه يؤخر العمل عن الإيمان، والرجل مع تخرجه في العمل كيف يفتي بترك العمل؟ وله سبب آخر، وهو أنه كان يخالف القدرية والمعتزلة الذين ظهروا في الصدر الأول، والمعتزلة كانوا يلقبون كل من خالفهم في القدر مرجئا، وكذلك الوعيدية من الخوارج، فلا يبعد أن اللقب إنما لزمه من فريق المعتزلة والخوارج والله أعلم».
4
وأرى أن النقول كثيرة عن الإمام في تعريفه الإيمان بأنه التصديق والإقرار وأنه لا يزيد ولا ينقص، إلى غير ذلك من أصول الإرجاء؛ وأبو الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين نسبه إلى الإ رجاء، وهو معروف بالدقة والضبط في النقل؛ وليس يضير أبا حنيفة مطلقا أن ينسب إلى الإرجاء، بالمعاني التي ذكرنا. والفهم بأن القول بقصر الإيمان على التصديق يضعف شأن العمل - فهم العامة. أما الخاصة فلا يرون في ذلك بأسا، لأن اختلاف مفهوم الإيمان عن مفهوم الأعمال كالخلاف بين مفهوم الصلاة والصوم؛ وكل ما في الأمر أنهم غلبوا في مذهبهم جانب الرغبة على جانب الرهبة، وجانب الرجاء على جانب اليأس، والقرآن نفسه اتبع ذلك أحيانا في مثل قوله تعالى:
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم . وليس أبو حنيفة هو الذي يقلل من شأن العمل ببحثه النظري في تعريف الإيمان، إنما هاجم بعض المتكلمين هذا المذهب لأن العامة لا يفهمون الأمور فهما فلسفيا، فإذا قيل لهم إن العمل ليس ركنا من الإيمان قل شأن العمل في نظرهم - وهذا حق. •••
وقد تسرب كثير من عقائد المرجئة إلى أهل السنة كالقول بعدم تخليد عصاة المؤمنين في النار، والقول بجواز تخلف الوعيد دون الوعد ونحو ذلك.
وإذا قال المتكلم بالأصول التي ذكرناها عد مرجئا.
وكثير من المرجئة كان يقول بهذه الأصول، وفي الوقت عينه يقول ببعض أصول المعتزلة، كأن يرى أن الإنسان يخلق أفعال نفسه، أو أن الله لا يرى بالبصر يوم القيامة؛ فيسمونهم - إذ ذاك - معتزلة المرجئة، وفي هذا التعبير تسامح من كتب الفرق، لأن الإرجاء في جوهره يخالف أصلا هاما من أصول المعتزلة، وهو اعتبار العمل ركنا من الإيمان، وخروج الفاسق عن الإيمان، وإيجاب تعذيب العاصي وتخليد الفاسق في النار؛ وقد قدمنا أنه لا يسمى معتزليا إلا من قال بالأصول الخمسة السابقة؛ فالقول بأن بعض الناس مرجئ معتزلي خطأ إذا أردنا الدقة في التعبير، وصواب إن أردنا أنه يقول ببعض آراء الاعتزال.
وكذلك قال قوم من المرجئة ببعض آراء الخوارج كقولهم في الإمامة إنها ليست بواجبة، فإن كان ولابد، صلح لها من استوفى الأهلية ولو كان غير قرشي؛ فسموهم مرجئة الخوارج، وقولنا في هذا كقولنا في سابقه.
وقد عد الشهرستاني من رجال المرجئة: الحسين بن محمد بن علي بن أبي طالب وقال: قيل إنه أول من قال بالإرجاء، وكان يكتب فيه إلى الأمصار، كما عد منهم سعيد بن جبير ومقاتل بن سليمان، وكان مقاتل يقول: إن المؤمن العاصي يعذب يوم القيامة على الصراط، وهو على متن جهنم يصيبه لفح النار ولهبها فيتألم بذلك على مقدار المعصية، ثم يدخل الجنة؛ وبشر المريسي، وكان يقول: إن أدخل الله أصحاب الكبائر النار فإنهم سيخرجون منها بعد أن يعذبوا بذنوبهم، وأما التخليد فيها فمحال وليس بعدل؛ وحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، وأبا حنيفة،
5
وصاحبيه أبا يوسف ومحمد بن الحسن.
الإرجاء والسياسة : من نتائج تعاليم المرجئة - أعني أن الإيمان هو التصديق وأن العمل ليس داخلا في مفهومه - اتساع دائرة المؤمنين، فكل من آمن بالله ورسله فهو مؤمن وإن ارتكب الكبائر، كما أن مبدأهم في جواز عفو الله من عن العصاة أوجد احتمال أن مرتكب الكبيرة يدخل الجنة من غير عقاب، وبهذا وذلك اتسعت دائرة المؤمنين، ودخل فيها كل مصدق، وكان المحتمل ألا يعذب. وعلى العكس من ذلك المعتزلة والخوارج، فقد ضيقوا دائرة المؤمنين، فمرتكب الكبيرة في نظرهم ليس بمؤمن، ومن لم يأت بفروض الأعمال ليس بمؤمن، بل نرى المعتزلة لا تكاد تعد مؤمنا إلا المعتزلة، والخوارج لا تكاد تعد مؤمنا إلا الخارجي، بل تكاد كل طائفة من طوائف المعتزلة والخوارج تقصر اسم الإيمان عليها، وتعد غيرها كافرا، فكأنهم يزعمون أن الجنة التي عرضها السماوات والأرض لم تخلق إلا لهم وهم حفنة قليلة.
أما المرجئة فعدوا كل الطوائف المخالفة لهم من شيعة ومعتزلة وخوارج وغيرهم مؤمنين، وعدوا كل من تأول واجتهد مؤمنا وإن أخطأ، وليس كافرا إلا من أجمعت الأمة على كفره، وليس أحد يخلد في النار من المؤمنين؛ بل إما أن يعفو الله عن ذنوبهم أو يعذبهم عليها حينا ثم يدخلهم الجنة. وقد اقتبس أهل السنة آراءهم هذه، فعندهم أن المؤمنين العصاة لا يخلدون في النار، وأنه لا يكفر أحد من أهل المذاهب الأخرى إلا في حدود معينة.. إلخ.
وهذه الأنظار التي حكينا عن المرجئة تخدم السياسة ولو من طريق غير مباشر؛ وأقل ما فيها أنها تجعل أصحابها محايدين، لا ضد الدولة ولا معها. وبيان ذلك أنهم لما استعرضوا أعمال السياسة على مبادئهم رأوا أن المتقاتلين الأولين كالذين ناصروا عثمان، والذين خرجوا عليه، والذين قاتلوا مع علي، والذين قاتلوا مع معاوية، كلهم مصدق بالله ورسوله، وكلهم متأول، فكلهم مؤمن؛ وإذا أخطأ بعضهم فعفو الله قد يشملهم، إذا فهم لا يكفرون أحدا من هؤلاء المتقاتلين، لا يكفرون عمرو بن العاص ولا معاوية ولا غيرها، كما يفعل الخوارج وبعض المعتزلة، ولا يكفرون قتلة عثمان، ولا يكفرون طائفة من طوائف المتحاربين، لأن غاية خطئهم إن أخطأوا أنهم ارتكبوا كبيرة، والكبيرة لا تخرج من الإيمان. على أنهم وقفوا في الحكم على أي الفريقين هو المخطئ، لأن كل فريق متأول، وكل فريق له حججه، والأمر يتعلق بالنيات أكثر مما يتعلق بالأعمال، والله هو الذي يطلع على نيات الناس وضمائرهم، فلنكل أمرهم جميعا إلى الله، ولا نسب أحدا، ولا نقطع بأنه سيدخل النار حتما.
ونتيجة هذا أنهم كانوا ينظرون إلى معاوية وصحبه نظرتهم إلى علي وصحبه، ويرون مهادنة بني أمية صحيحة، وأن خلفاءهم مؤمنون لا يصح الخروج عليهم، وتصح الصلاة وراءهم، وأن غاية ما يفعله أحدهم من الشر أن يرتكب كبيرة، ومرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان؛ ولذلك لم نر الأمويين اضطهدوا مرجئا لإرجائه، كما كانوا يضطهدون المعتزلة لاعتزالهم، والخوارج لخارجيتهم، والشيعة لتشيعهم؛ بل نراهم كانوا يستعملون من عرف بالإرجاء في أعمالهم، كما فعل يزيد بن المهلب بن أبي صفرة بثابت قطنة، وهو شاعر المرجئة. فقد ولاه أعمالا من أعمال الثغور.
فإن كان الأمويين قد عذبوا أحدا من المرجئة، فليس سبب العذاب إرجاءه ولكنه شيء آخر؛ فقتلوا الحارث بن سريج وهو زعيم من زعماء المرجئة في عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، لا لأنه مرجئ، ولكن لخروجه وثورته لأسباب قبلية وعداوات شخصية.
وتعذيب أبي جعفر المنصور لأبي حنيفة لا لإرجائه، ولكن لأنه على ما يظهر أحسن منه ميلا إلى تفضيل محمد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكية ) على المنصور، وهكذا.
فالمرجئة أميل إلى المسالمة. حكى الطبري أنه لما تولى يزيد بن عبد الملك ابن مروان خرج عليه يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، واستولى يزيد بن المهلب على البصرة وعلى ما يليها من فارس والأهواز، ودعا الناس، إلى كتاب الله وسنة نبيه، وحثهم على الجهاد؛ ورغم أن جهاد أهل الشام أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم؛ وتبعه في ذلك قوم من المرجئة، وعلى رأسهم رجل يقال له أبو رؤبة؛ وقد أرسل يزيد بن عبد الملك جيشا لمحاربة ابن المهلب يقوده أخوه مسلمة بن عبد الملك. فلما حرض يزيد بن المهلب أصحابه على قتال مسلمة بن عبد الملك وجنده قال أبو رؤبة المرجئ: إنا قد دعوناهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وقد زعموا أنهم قبلوا، فليس لنا أن
نمكر ولا نغدر ولا نريدهم بسوء ، فقال لهم يزيد بن المهلب: ويحكم! أتصدقون بني أمية، إنهم أرادوا أن يجيبوكم ليكفوكم منهم حتى يعملوا في المكر: قالوا: لا نرى أن نغفل ذلك حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قبلوه
6
منا فهم إذا خاصموا بني أمية خاصموهم في لين ورفق.
وكذلك كان شأنهم مع العباسيين، مهادنين مسالمين. وقد روى طيفور أن المأمون قال: «الإرجاء دين الملوك»؛
7
وهذه الجملة تحتمل معاني متعددة: فمنها أن الإرجاء هو الدين الذي يرضاه الملوك من أتباعهم، لأنهم يقفون موقف مسألة فلا يثيرون شغبا، ولا يخرجون عن طاعة مهما ارتكب الملوك من معاص، ومصلحة الملوك - دائما - أن تسالمهم الرعية، وتكل أمر العاصي منهم إلى الله يتولى عقابه أو العفو عنه؛ ولو اعتنق الناس هذا المبدأ مبدأ الإرجاء ما خرج خارج على عثمان ولا على علي ولا على معاوية، ولأرتاح الملوك من الثورات المتتالية.
وهناك معنى آخر لهذه الجملة، وهو أن الإرجاء أنسب المذاهب لأن يعتنقه كل ملك، لأنه يحمله على أن ينظر لأهل المذاهب الأخرى من معتزلة وخوارج وشيعة وغيرهم نظرة معتدلة، فلا يكفر أحدا، ولا يتدخل في عقيدة أحد، فكلهم مؤمنون، ومن عصى منهم فأمره إلى الله ، وهذا يجعل الملك فوق المذاهب وفوق الأحزاب الدينية؛ فهو ملك الجميع، وهذا أصلح للملك.
ولكنا نرى أن المأمون - قائل هذه الجملة - كان أبعد الناس عن الأخذ بهذا المعنى الثاني، فقد تورط في الاعتزال، وانحاز إلى المعتزلة، وأراد أن يحمل الناس كلهم على اعتناقه، ولم يشأ أن يقول أحد إن القرآن ليس بمخلوق، وعده إن قال ذلك غير مؤمن، وحمل الناس على القول بمذهبه بالجلد والحبس - فهل قال هذه الجملة أخيرا بعد أن رأى اضطراب المملكة وفتنتها بالقول بخلق القرآن، وود لو سار على مذهب الإرجاء فترك الناس على مذاهبهم وترفع عن خلافهم؟ يبعد هذا الاحتمال أنه وهو يجود بنفسه أوصى المعتصم بأن يسير سيرته في خلق القرآن - أو أن المأمون قالها إجابة لنزعة من النزعات الوقتية، ثم لم يلبث أن عدل عنها وسار على نقيضها، أو أراد المعنى الأول؛ وهذا لا ينافي اعتقاده لمذهب الاعتزال؟ كل ذلك صالح أن يكون.
أدب المرجئة : لم نر بعد طول البحث أدبا كثيرا يصح أن يسمى أدب المرجئة، ولعل السبب في ذلك أن طبيعة الإرجاء نفسها لا تبعث أدبا، فإنما يبعث الأدب عنصران: عنصر عقلي قوي في يد صناع ولسان طلق، وهذا هو الذي نراه في أدب المعتزلة، فقد اتسعت عقولهم وشملت مناحي الحياة الطبيعية والاجتماعية، وكانت أداتهم اللسانية والعلمية أداة صالحة ثقفت بالثقافة العربية فأنتجت هذا النتاج الوافر الذي أشرنا إليه من قبل، وعنصر العاطفة القوية من حزن عميق وصبر على الشدائد كما هو الشأن في أدب الشيعة، أو عاطفة الشجاعة والقوة، وبعبارة مجملة عاطفة الحرب كما هو الشأن في الخوارج؛ أما المرجئة فالعقيدة نفسها عندهم تبعث على المسالمة والوقوف على الحياد، وهذه أمور تهدئ العاطفة وتجعلها فاترة، والعاطفة إذا افترت لا تنتج أدبا. يضاف إلى هذا أن ليست لهم ناحية عقلية واسعة عميقة؛ فهذا وذاك يجعل نتاجهم الأدبي ضعيفا، حتى لقد رأيت الشهرستاني قد عد من المرجئة شاعرين معروفين كبيرين، وهما الفضل الرقاشي والعتابي. فلما راجعت ما كتبت عنهما فيما بين يدي من كتب وما روي من شعرهما لم أجد فيه أثرا واضحا من أثر الإرجاء.
وكل ما عثرت عليه قطع قليلة توضح مذهب الإرجاء كقصيدة ثابت قطنة، وقد ذكرناها في فجر الإسلام، أو قطع ترد على المرجئة كالذي روى الأغاني
8
من أن عون بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كان مرجئا ثم عدل عن الإرجاء فقال:
فأول ما أفارق غير شك
أفارق ما يقول المرجئونا
وقالوا مؤمن من آل جور
وليس المؤمنون بجائرينا
9
وقالوا مؤمن دمه حلال
وقد حرمت دماء المؤمنينا
10
ونحو هذا من الجمل والأبيات القصيرة القليلة.
ومع هذا يظهر لي أن هناك بابا واسعا من أبواب الأدب - وخصوصا في العصر العباسي - تأثر تأثرا كبيرا بالإرجاء، وهو باب عفو الله عن ذنوب العاصين، فقد كان المعتزلة يرون أن الكبيرة تستحق العقوبة حتما ما لم يتب، وأن من مات عاصيا مرتكبا للكبيرة لابد في النار، وقد كتب الله على نفسه ذلك فلا يعفو؛ والمرجئة تجيز احتمال عفو الله حتى مع عدم التوبة، ومع الإكثار من المعاصي. فلما أفرط كثير من شعراء الدولة العباسية في اللهو، وأسرفوا في اللذة من خمر ونساء وغلمان وما إليها، ركنوا إلى عفو الله على مذهب الإرجاء يأملونه ويركنون إليه، وفتحوا في ذلك بابا واسعا من أبواب الأدب، ترى مثلا منه وضحا جليا في شعر أبي نواس، وربما كان خير مثل لذلك قوله يستهزئ بالنظام ومذهبه في الاعتزال، ويحبذ الإرجاء ورأيه في العفو، ويقول:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
لا تحظر العفو إن كنت امرأ حرجا
فأن حظركه في الدين إزراء
11
ويقول:
أيها الغافل المقيم على اللهو
ولا عذر في المقام لساه
لا بأعمالنا نطيق خلاصا
يوم تبدو السماء فوق الجباه
غير أني عل الإساءة والتفريط
راج لحسن عفو الإله
ويقول:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة
فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن
فبمن يلوذ ويستجير المجرم؟
أدعوك رب كما أمرت تضرعا
فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم؟
مالي إليك وسيلة إلا الرجا
وجميل عفوك ثم أني مسلم
فأي امرئ يقرأ هذه الأبيات ولا يرى فيها عنصر الإرجاء؟ وسار على هذا النمط كثير من الشعراء. ويطول بنا القول لو ذكرنا أقوالهم، فنكتفي بهذا القدر، ونقرر أن مذهب الإرجاء فتح بابا جديدا من أبواب الأدب، هو فلسفة العفو.
الفصل الرابع
الخوارج1
يكاد يكون الأساس الذي يدور عليه مذهب الخوارج من الأساس الذي يدور عليه الإرجاء، أعني مسألة الكفر والإيمان.
قال في كتاب الفرق بين الفرق: «قد اختلفوا فيما يجمع الخوارج على افتراق مذاهبها، فذكر الكعبي في مقالاته أن الذي يجمع الخوارج على افتراق مذاهبها إكفار علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل وكل من رضي تحكيم الحكمين، والإكفار بارتكاب الذنوب. ووجوب الخروج على الإمام الجائر. وقال شيخنا أبو الحسن (الأشعري) الذي يجمعها إكفار علي وعثمان، وأصحاب الجمل والحكمين، ومن رضي بالتحكيم وصوب الحكمين أو أحدهما، ووجوب الخروج على السلطان الجائر».
2
والفرق بين رأي الكعبي ورأي الأشعري، أن الكعبي يحكم أنهم
مجمعون
على تكفير مرتكب الكبائر، والأشعري لم يوافقه على ذلك، لأن هذا هو رأي أغلبيتهم، لا محل إجماعهم، لأن النجدات من الخوارج لا يكفرون أصحاب الكبائر. وأما فيما عدا هذه النقطة فالكعبي والأشعري متفقان.
وترى من قولهما أن بحث الخوارج كبحث المرجئة يدور حول الكفر والإيمان، نظر إليه المرجئة نظرا واسعا رحيما، فأدخلوا في ساحة الإيمان كل مصدق؛ وأجازوا العفو عن كل عاص، وأرجأوا أصحاب الفتنة إلى الله يقضي بينهم، ونظر الخوارج إليه نظرا شديدا ضيقا، فلم يعدوا مؤمنا إلا من تحرز عن الكبائر، وخطأوا عثمان فيما فعله في سنيه الأخيرة فكفروه، وإلى علي وحزبه وخصومه وأحزابهم فأكفروهم، لأنهم - على الأقل - قبلوا التحكيم وكتاب الله واضح لا يقبل تحكيما. ثم قالوا إن الولاة الظلمة من معاوية وقومه من الأمويين كفرة، ويجب أن يقابل كفرهم وظلمهم وجورهم بالخروج عليهم جهارا.
فهم بهذا على النقيض من الشيعة في أمرين أساسيين: (1)
فبينا يقدس الشيعة عليا يكفره الخوارج، ويرون عبد الرحمن بن ملجم - قاتله - من خير البرية، ويقول أحدهم وهو عمران بن حطان:
يا ضربة من منيب ما أراد بها
إلا ليبلغ عند العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه
أوفى البرية عند الله ميزانا (2)
وبينما يعد الشيعة من أصولهم التقية، يعد الخوارج من أصولهم الخروج على السلطان الجائر في غير مواربة، ومن غير نظر إلى قوة الخارج وقوة الإمام.
وهم يخالفون المرجئة لأن الخوارج تؤلف جبهة معارضة وتقاتل الأمويين والعباسيين، والمرجئة يكونون جماعة حياد ومسالمة.
وهم أشد من المعتزلة، إذ يعدون مرتكب الكبيرة كافرا، على حين أن المعتزلة تعده لا كافرا ولا مؤمنا، وهم أشد من المعتزلة أيضا في تمسكهم بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في غير هوادة ولا حسبان قوة وضعف.
هذه هي الأصول التي أجمعت عليها الخوارج، وإن كانوا قد تفرقوا نحو عشرين فرقة تختلف فيما بينها في الفروع لا في الأصول؛ مثال ذلك أن الأزارقة والصفرية تتفق في أن أصحاب الذنوب مشركون، ولكن الصفرية لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم، والأزارقة يرون ذلك؛ ومثل أن الأزارقة استحلت أموال مخالفيهم بكل حال؛ والعجاردة لا يرون أموال مخالفهم فيئا إلا بعد قتل صاحبه؛ ومنهم من يرى أن القتال لا يكون إلا مع إمام منهم، ومنهم من لا يرى اشتراط ذلك، وهكذا من التفاصيل والمسائل الجزئية.
وألمع فكرة لهم رأيهم في الخلافة، وأنه إن كان لابد منها فأصلح الناس لها أحق بها، قرشيا كان أو غير قرشي، عربيا أو غير عربي؛ فليس عندهم فكرة أن الخليفة معين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقول الشيعة، ولا هناك نظام الوراثة وتفويض الخليفة الأمر لمن يليه كما كان الشأن في عهد الأمويين والعباسيين.
ثم إذا انتخب الخليفة وتمت البيعة له، وسار سيرة لا تتفق ومصلحة المسلمين بأن جار و ظلم وجب عزله، فإن اعتزل وإلا قوتل حتى يقتل.
لقد كان أكثر من اعتنق المذهب الخارجي في أول الأمر عربا سكنوا البصرة والكوفة بعد فتوح عمر، وكانت تغلب على أكثرهم البداوة، وكأن كثير منهم من بني تميم، ثم رأينا أن بعض الموالي دخل في عقيدتهم؛ ولعل السبب في دخولهم أنهم اشتركوا مع الخوارج في بعض الأمويين واعتقادهم بعدم صلاحيتهم ووجوب الخروج عليهم حتى تزول دولتهم.
ومع دخول بعض الموالي كان المذهب الخارجي مصبوغا إلى درجة كبيرة بالصبغة البدوية في محاسنها ومساويها، فهم كثيرو الخلاف على الرؤساء، كثيرو التفرق شيعا وأحزابا، محدودو النظر، ضيقوا الفكر في نظرهم إلى مخالفيهم؛ وهم مع ذلك شجعان إلى أقصى حدود الشجاعة، صرحاء في أقوالهم وأعمالهم، أسهل شيء عليهم أن يبيعوا نفوسهم لعقيدتهم، يهزأون بما يقول الشيعة من تقية، ويحتقرون من باعوا آراءهم وضمائرهم للخلفاء الأمويين طمعا في المال والجاه، ثم هم لغلبة بداوتهم أبعد عن التطور الديني والعلمي والاجتماعي؛ فدينهم تغلب عليه البساطة الأولى؛ وهم فيما عدا شذوذهم في بعض عقائدهم يمثلون الإسلام الأول على فطرته قبل أن تدخل فيه تعاليم من الأمم الأخرى، والديانات الأخرى، والتقاليد والنزعات من أهل الملل والنحل التي دخلت في الإسلام بعد. وظل إيمانهم إيمان قلب لا إيمان علم؛ وظلت حياتهم الاجتماعية - في معيشتهم، ونظرتهم للحياة، وحروبهم، ونحو ذلك - حياة بسيطة بدوية لم تتغير كثيرا بتغير الزمان؛ فهم يذكروننا بالوهابيين الآن في بساطتهم وإن اختلفت تعاليمهم.
من أجل ذلك لم يكن ينتظر منهم أن يبحثوا في صفات الله، هل هي عين الذات أو غيرها، وأن الله يرى بالأبصار أو لا يرى، كما فعل المعتزلة؛ لأنها نظرات فلسفية أبعد ما تكون عن طبيعة البداوة، ولا ينتظر منهم أن يقدسوا أئمتهم كما تفعل الشيعة، لأنهم إنما كانوا ينظرون إلى إمامهم كما كان ينظر العرب الأولون إلى شيخ القبيلة.
ومصداق ذلك ما نراه في كتب الملل والنحل عند ذكر خلافات الخوارج؛ فهم يبدأون رأيهم في التحكيم الذي كان بين علي ومعاوية في سذاجة، ويختلفون في القعدة الذين قعدوا عن قتال الأعداء مع قدرتهم هل هم كافرون أم مؤمنون؟ ويختلفون في المعاصي التي يكفر الإنسان بارتكابها. ويختلفون في أطفال المسلمين والكافرين، هل هم مسلمون أم كافرون؟ ونحو ذلك من المسائل الدينية التي تفلسف، واختلافهم في هذا ساذج بسيط. خطب عبد الجبار إلى ثعلبة ابنته، وكلاهما من الخوارج، فسأله ثعلبة أن يمهرها أربعة آلاف درهم، فأرسل الخاطب إلى أم البنت مع امرأة يقال لها أم سعيد، يسأل هل بلغت ابنتهم أم لا (لأنه لا يرى الابن أو البنت يسلم حتى يبلغ)، وقال: إن كانت قد بلغت وأقرت بالإسلام لم أبال ما أمهرتها؛ فلما بلغتها أم سعيد ذلك، قالت: ابنتي مسلمة بلغت أم لم تبلغ، فاختلف الخاطب وأبو البنت وأمها، وتدخل عبد الكريم بن عجرد من رؤساء الخوارج في الأمر فزادهم خلافا، وبرئ بعضهم من بعض على ذلك.
3
نعم تروي هذه الكتب عن بعض الفرق الخوارج أنهم بحثوا في القدر خيره وشره، وإثبات الفعل للعبد، وإثبات الاستطاعة قبل الفعل ونحو ذلك، ولكن هذه المباحث لم تكن من نفسها، وإنما استعارتها من المعتزلة.
ومن أكبر مظاهر بساطتهم وعدم تفلسفهم أن الناظر فيما روي لنا من جدلهم مناظراتهم يرى أنهم التزموا حرفية الكتاب والسنة، ولم يتعمقوا في التأول، فلو أنهم عاشوا في العصر العباسي لكانوا من أهل الظاهر الذين لا يقولون بقياس ويرون إتباع ظواهر النصوص من غير تأويل. وقد أدى تمسك الخوارج بظواهر النصوص إلى سخافات، فكان منهم من يرى أن رجلا لو أكل من مال يتيم فلسين وجبت له النار لقوله تعالى:
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ، ولو قتل اليتيم أو بقر بطنه لم تجب له النار، لأن الله لم ينص على ذلك؛ ومنهم من استحل دماء أطفال المشركين، ولم يستحلوا أكل ثمرة بغير ثمنها؛
4
ومنهم من كان يقتل المسلم المخالف ولا يقتل الذمي؛ ويروي المبرد في الكامل أن واصل بن عطاء (زعيم المعتزلة) وقع هو وبعض أصحابه في يد الخوارج، فقال لأصحابه: اعتزلوا ودعوني وإياهم، وكانوا قد أشرفوا على العطب، فقالوا: شأنك؟ فخرج إليهم، فقالوا ما أنت وأصحابك؟ قال مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده . فقالوا: قد أجرناكم، قال: فعلمونا، فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي، فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا، قال: ليس ذلك لكم قال الله تبارك وتعالى:
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ، فأبلغونا مأمننا. فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذلك لكم. فساروا بأجمعهم حتى بلغوهم المأمن.
5
ويقتل عبد الرحمن بن ملجم علي بن أبي طالب، ثم يظل يقرأ القرآن ويرى أنه تقرب بعمله إلى الله، فإذا أريد قطع لسانه جزع، ويقال له: لم تجزع ؟ فيقول: أكره أن أكون في الدنيا مواتا لا أذكر الله! إلخ إلخ.
ثم إن المذاهب الأخرى التي تفلسفت كالاعتزال والتشيع إنما استمدت فلسفتها العميقة من العصر العباسي، فقد كان جوه جوا تشيع فيه الفلسفة من قصور الخلفاء، ومن اليهود والنصارى، ومن الفرس، ومن الكتب المترجمة، ومن الأطباء، ومن الجدل والمناظرة؛ فكانت كل فرقة تأخذ منه بقدر استعدادها، وبالقدر الذي يتفق وأصولها. وقد جاءت الدولة العباسية والخوارج في أخريات أيامهم، فقد أنهكوا الدولة الأموية وأنهكتهم، ونالوا منها ونالت منهم؛ حتى إذا أعقبهم العباسيون كان الخوارج في حالة تشبه الاحتضار. وحركاتهم التي أتوا بها في العهد العباسي تشبه حركة المذبوح، فلم يتح - من أجل هذا - للمذهب الخارجي فرصة أن يتفلسف.
نعم! كان من بين علماء العصر العباسي من اعتنق مذهب الخوارج، كأبي عبيدة معمر بن المثنى، قال ابن خلكان: «إنه كان يرى رأي الخوارج»، وقال: «كان يميل إلى مذهب الخوارج»، وقال أبو حاتم السجستاني: كان أبو عبيدة يكرمني على أنني من خوارج سجستان، وقال الثوري: «دخلت المسجد على أبي عبيدة وهو ينكت الأرض جالسا وحده، وقال من القائل:
أقول لها وقد جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
فقلت له قطري بن الفجاءة. فقال: فض الله فاك، هلا قلت هو لأمير المؤمنين أبي نعامة؟ ثم قال لي: أجلس وأكتم عني ما سمعت مني».
6
وقد ألف فيما ألفه كتابا في «خوارج البحرين» - ولكن أبا عبيدة لم يكن فيلسوفا ولا من أهل الكلام حتى يستطيع أن يفلسف المذهب الخارجي. وإنما كان عالما واسع الاطلاع في الغريب وأيام العرب - ثم كان إن صح أنه خارجي يكتم مذهبه، كما تدل عليه الحكاية السابقة، فهو يتمذهب بالمذهب الخارجي لنفسه، ومع ذلك يخالفه في الصميم منه، فهو يتقي الجهر به؛ ومن أصول الخوارج عدم التقية، ثم هو أكره للعرب وأميل إلى الشعوبية، ومتصل بالخلفاء والأمراء ومتملقهم، فهو ليس خارجيا إن كان إلا في بعض عقائدها كالطعن على الخلفاء، وكثرة التكفير للمخالفين على أن يكون ذلك سرا مكتوما.
وكذلك الهيثم بن عدي، قال فيه ابن خلكان: «إنه كان يرى رأي الخوارج»، وألف فيهم كتابا اسمه «كتاب الخوارج»، ولكنه كان كأبي عبيدة إخباريا لا فيلسوفا، وكان متصلا بالمنصور والمهدي والهادي والرشيد، ولو كان من الخوارج حقا لخرج خروجهم.
من أجل هذا لم يرو لنا عن الخوارج مذهب مفلسف، ولا فقه واسع منظم ولا نحو ذلك، إلا ما كان من الإباضية أتباع عبد الله بن إباض الخارجي الذي مات في عهده عبد الملك بن مروان؛ فإن هذه الفرقة عاشت وانتشرت في شمالي إفريقية، وفي عمان، وفي حضر موت، وزنجبار، واستمرت إلى يومنا هذا. فكان من الطبيعي أن يكون لهم أصول اعتقادية، وتعاليم فقهية، وكذلك كان فقد تعدل مذهبهم مع الزمان، فلهم أصول كلامية متأثرة إلى حد كبير بمذهب المعتزلة في القول بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الجنة، والله لا يغفر الكبائر، كما لهم كتب فقهية خاصة تخالف أهل السنة في بعض الفروع مثل أنهم لا يرون الزواج يصح إلا فيما بينهم. •••
تاريخهم السياسي في العصر العباسي:
كان نظر الخوارج إلى خلفاء بني العباس كنظرهم إلى خلفاء بني أمية كلهم لا يصلح للخلافة، ولم يختر اختياريا حرا صريحا، ولم يستوف الشروط التي يجب توافرها في الإمام، وكلهم يجب الخروج عليه، ومقاتلته وعزله إن أمكن، وقتله إن أمكن.
فظل نظرهم في العهد العباسي كما كان في العهد الأموي، إلا أن قوتهم في هذا العهد لم تكن كقوتهم في العهد الأموي، لأن الأمويين وولاتهم - ولا سيما المهلب بن أبي صفرة - فتكوا بهم فتكا ذريعا، وإن كان انتصار الأمويين أضعف قوتهم هم أيضا.
ومع هذا فقد حاربوا العباسيين في قوة، وصلابة، وجلد يشبه ذلك الذي كان لهم في العصر الأموي.
فما استقر السفاح في خلافته حتى تحرك خوارج عمان، وعلى رأسهم الجلندى، وكان هو وأصحابه من الخوارج الإباضية، فأرسل إليهم السفاح جيشا، على رأسه أحد القواد العظام «خازم بن خزيمة»، فسار في البحر حتى أرسى على ساحل عمان ثم خرج ومن معه إلى الصحراء ، وتقاتلوا قتالا شديدا كانت الحرب فيه سجالا؛ ثم أشار إلى خازم بعض أصحابه أن يأمر جنوده فيجعلوا على أطراف أسنتهم المشاقة ويرووها بالنفط، ويشعلوا فيها النيران. ثم يمشوا بها حتى يضروها في بيوت أصحاب الجلندي، وكانت من خشب؛ فلما فعل ذلك وأضرمت بيوتهم بالنيران اشتغلوا بها وبمن فيها من أولادهم وأهاليهم، فحمل عليهم خازم وأصحابه، فوضعوا فيهم السيف فقتلوهم، وقتل الجلندي فيمن قتل. وبلغ عدة القتلى نحو عشرة آلاف، وبعث رءوسهم إلى البصرة، فأرسلت إلى السفاح
7
وكان ذلك سنة 134.
وفي عهد المنصور ثار الخوارج بالجزيرة،
8
وعلى رأسهم ملبد بن حرملة الشيباني سنة 137، فأرسل إليه المنصور يزيد بن حاتم المهلبي ليمثل معهم دور عمه المهلب بن أبي صفرة فهزمه ملبد؛ ومازال المنصور يرسل إليه القائد بعد القائد وملبد يهزمهم، وأخيرا وجه إليه خازم بن خزيمة ومعه نحو ثمانمائة ألف من أهل مروروذ، فتقاتلوا طويلا، ثم أمر خازم أصحابه أن يرموهم بالنشاب، فرشقوا ملبدا بنشاته فقتل معه كثيرون، وكان ذلك سنة 138.
وثار الخوارج أيضا في المغرب (تونس وما حولها) من صفرية وإباضية، فأرسل إليهم المنصور عمر بن حفص من ولد قبيصة بن أبي صفرة أخل المهلب، فدامت المعارك بينهم طويلا، وانضم كثير من البربر إلى الخوارج، وكان على رأس الخوارج أبو حاتم الإباضي، وانتهى الأمر بقتل عمر بن حفص واستيلاء أبي حاتم والخوارج على القيروان؛ فأرسل المنصور يزيد بن حاتم بن قبيصة بن أبي صفرة، فتغلب على الخوارج، وقتل أبو حاتم وأتباعه من الخوارج والبربر، وكان عدة من قتل في المعركة نحو ثلاثين ألفا، وجعل آل المهلب يقتلون الخوارج ويقولون يا لثارات عمر بن حفص؛ ومكث يزيد في إخماد هذه الثورة نحو خمس عشرة سنة؛ وقد قالوا إنه كان بين الخوارج وجنود المنصور من لدن قاتلوا عمر بن حفص إلى أن انقضى أمرهم على يد يزيد بن حاتم نحو من ثلاثمائة وخمس وسبعين وقعة.
وفي عهد المهدي خرج بخراسان جماعة من الخوارج وعلى رأسهم يوسف بن إبراهيم المعروف بالبرم، منكرا هو ومن معه على المهدي سيرته التي يسير بها، واجتمع معه خلق كثير، فأرسل إليه المهدي يزيد بن مزيد الشيباني، فأسر يوسف البرم، وبعث به إلى المهدي ومعه وجوه أصحابه، فقتلهم المهدي وصلبهم، وكان ذلك سنة 160.
وفي عهد المهدي أيضا خرج يس التميمي بالموصل، واستولى على أكثر ديار ربيعة والجزيرة، فبعث إليه المهدي. من هزمه وقتله وعدة من أصحابه، وذلك سنة 168.
وفي عهد الرشيد خرج الصحصح بالجزيرة وغلب على. ديار ربيعة، فسير الرشيد إليه من قتله سنة 171.
ثم في سنة 178، كانت ثورة الوليد بن طريف الخارجي بالجزيرة، وقد قال السمعاني في الأنساب: إنه شيباني، وتبعه في ذلك ابن خلكان، وقال ابن الأثير إنه تغلبي. وقد أرسل إليه هارون يزيد بن مزيد الشيباني ابن أخي معن بن زائدة، فكانت البرامكة منحرفة عن يزيد، فقالوا للرشيد: إنما يتجافى يزيد عن الوليد لما بينهما من الرحم. فعلى كلام السمعاني وابن خلكان تفسير هذا أنهما معا من شيبان، وفسر ابن الأثير هذه العبارة بأن شيبان وتغلب كلتيهما من وائل، وهذا هو الرحم. ولعل قول ابن الأثير أصح، فقد قال بعض الشعراء في الوقائع التي بينهما:
وائل بعضهم يقتل بعضا
لا يفل الحديد إلا الحديدا
وأيا ما كان، فقد عظم أمر الوليد في الجزيرة، فنازله يزيد بن مزيد، وقال لأصحابه: «إنما هي الخوارج، ولهم حملة فاثبتوا، فإذا أنقضت حملتهم فاحملوا عليهم، فإنهم إذا انهزموا لم يرجعوا»، وكان الوليد يوم خرج يقول:
أنا الوليد بن طريف الشاري
قسورة لا يصطلي بناري
9
جوركم أخرجني من داري
وقد انكسر جيش الوليد بعد وقائع عنيفة، واتبعه يزيد فقتل الوليد. وأخذ رأسه.
وهكذا كانت ثورات الخوارج في الجزيرة وعمان، وبلاد المغرب، وقد انتصر فيها العباسيون، ولم يلقوا فيها من العنت ما لقي الأمويون، وكانت هذه الهزائم المتوالية للخوارج سببا في ضعف أمرهم، وقلة شأنهم، فلم يعد لهم من القوة والقتال أثر في التاريخ كبير. •••
أدب الخوارج:
لقد كان في الخوارج كل العناصر التي تكون الأدب: عقيدة راسخة لا تزعزعها الأحداث، وتحمس شديد لها تهون بجانبه الأرواح والأموال، وصراحة في القول والعمل لا تخشى بأسا، ولا ترهب أحدا، وديمقراطية حقة لا ترى الأمير إلا كأحدهم، ولا العظيم إلا خادمهم، ورسم الطريق الذي ينبغي أن يسلكوه رسما مستقيما واضحا لا عوج فيه ولا غموض، يجب أن يعدل الخليفة والأمراء، وإلا يقاتلوا حتى يعزلوا أو يقتلوا، ويجب أن يسير المسلمون حسب نصوص الكتاب والسنة من غير أن ينحرفوا عنها قيد شعرة، وإلا يقاتلون ليحل محلهم مسلمون مخلصون طاهرون، ويجب أن يسلك السبيل إلى ذلك من غير تقية، ومن غير مجاملة ولا مواربة، ويجب أن يقابل الواقع كما هو، ويشخص كما هو، ويعالج كما هو، على طريقة عمر بن الخطاب، لا على طريقة عمرو بن العاص؛ ووراء ذلك كله نفوس بدوية - غالبا - فيها كل الاستعداد للقول، وفصاحة اللسان، وفيها كل ما نعهده في البدوي من قدرة على البيان، وسرعة في البديهة، وأداء للمعنى بأوجز عبارة وأقوى لفظ.
من هذا كله نرى الخارجي قد اجتمعت له العاطفة القوية، والأداة الصالحة للتعبير عنها.
وهذا الذي ذكرنا قد جعل لأدبهم لونا خاصا غير لون الأدب المعتزلي، وغير لون الأدب الشيعي. أدب المعتزلة أدب فلسفي، فيه عنصر المعاني أغلب وأقوى؛ وأدب الشيعة أدب باك أو أدب حزين على فقدان الحق، أو أدب غضبان على أن لم توضع الخلافة موضعها؛ أما أدب الخوارج فأدب القوة، أدب الاستماتة في طلب الحق ونشره، وأدب التضحية، فلا تستحق الحياة البقاء بجانب العقيدة، وأدب التعبير البدوي الذي لا يتفلسف ولا يشتق المعاني ويولدها كما يفعل المعتزلة؛ هو في بعض الأحيان أدب غضبان، ولكنه ليس غضبان من جنس غضب الشيعة، فالشيعة يغضبون لشخص أو أشخاص، ولكن الخوارج يغضبون للعقيدة وللإسلام عامة، بقطع النظر عن الأشخاص؛ وإن نظروا للأشخاص ففي ضوء العقيدة، لا كما يفعل غيرهم من النظر إلى العقيدة في ضوء الأشخاص؛ وقد يرثون ويبكون، ولكنهم حتى في رثائهم وبكائهم أقوياء، يذرفون الدمع ليسفكوا الدم، ويبكون الميت ليتشجع الحي، ويؤبنون المفقود، ليرسموا المثل الأعلى للموجود؛ لا يعرفون هزلا في الحياة، فلا يعرفون هزلا في الأدب، ولا يعرفون خمرا ولا مجونا، فلا نجد في أدبهم خمرا ولا مجونا؛ إنما يعرفون الجهاد والقتال والتربية المتزمتة القاسية التي تخرج رجالا أقوياء لا يحرصون على الحياة، فكذلك أدبهم؛ كالذي روي أن مروان أخا يزيد لأمه دخل وهو صغير على عبد الملك بن مروان يبكي لضرب المؤدب له، فشق ذلك على عبد الملك، وكان عنده أحد الخوارج، فقال له الخارجي: «دعه يبكي فإنه أرحب لشدقه، وأصح لدماغه، وأذهب لصوته، وأحرى ألا تأبى عليه عينه إذا حضرته طاعة ربه فاستدعى عبرتها». لا يحبون الكذب، ولا يحبون المعاصي، فكانوا كما قال المبرد: «والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب، ومن ذي المعصية الظاهرة»
10
فكذلك أدبهم، قال قائل:
لقد زاد الحياة إلي حبا
بناتي إنهن من الضعاف
قال عمران بن حطان الخارجي:
لقد زاد الحياة إلي بغضا
وحبا للخروج أبو بلال
11
أحاذر أن أموت على فراشي
وأرجو الموت تحت ذرى العوالي
فمن يك همه الدنيا فإني
لها والله رب البيت قالي
ويقول قائلهم:
ومن يحش أطراف المنايا فإننا
لبسنا لهن السابغات من الصبر
فإن كريه الموت عذب مذاقه
إذا ما مزجناه بطيب من الذكر
وما رزق الإنسان مثل منية
أراحت من الدنيا ولم تخز في القبر
وهم حتى في غزلهم يمزجون بين الشجاعة والغزل، ويوفقون بين حب الموت وحب الحياة، ويتقربون إلى من يحبون بحسن البلاء في الأعداء، إن شئت فاقرأ قول قطري:
لعمرك إني في الحياة لزاهد وفي
العيش ما لم ألق أم حكيم
من الخفرات البيض لم ير مثلها
شفاء لذي بث ولا لسقيم
لعمرك إني يوم ألطم وجهها
على نائبات الدهر جد لئيم
ولو شهدتني يوم دولاب أبصرت
طعان فتى في الحرب غير ذميم
ولو شهدتنا يوم ذاك وخيلنا
تبيح من الكفار كل حريم
رأت فتية باعوا الإله نفوسهم
بجنات عدن عنده ونعيم
إن كان الأدب ظل الحياة الاجتماعية وصورة من صورها، فأدب الخوارج صورة صادقة صحيحة من صور حياتهم. لقد كانوا شجعانا لا يبالون الموت، حتى أدخلوا الرعب على قلوب خصومهم، فكان معاوية بن قرة يقول: لو جاء «الديلم من ههنا، والحرورية (أي الخوارج) من ههنا لحاربت الخوارج» أي لأنهم أشد خطرا؛ وكان العدد القليل من الخوارج يوقع الفزع والرعب في العدد الكثير من غيرهم.
وقد قال في هذا المعنى عيسى بن فاتك الخارجي لما هزم الخوارج جنود السلطان يوم آسك:
فلما أصبحوا صلوا وقاموا
إلى الجرد العتاق مسومينا
فلما استجمعوا حملوا عليهم
فظل ذوو الجعائل يقتلونا
بقية يومهم حتى أتاهم
سواد الليل فيه يراوغونا
يقول بصيرهم لما أتاهم
بأن القوم ولوا هاربينا
أألفا مؤمن فيما زعمتم
ويهزمهم بآسك أربعونا
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم
ولكن الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة غير شك
على الفئة الكثيرة ينصرونا
أطعتم كل جبار عنيد
وما من طاعة للظالمين
من أجل هذا كان كلامهم كسهامهم، وخطبهم كقلوبهم؛ يصفهم عبيد الله ابن زياد فيقول: «لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع»، ويروي المبرد «أن عبد الملك بن مروان أتى برجل منهم، فبحثه فرأى منه ما شاء فهما وعلما، ثم بحثه فرأى منه ما شاء أربا ودهيا، فرغب فيه واستدعاه للخروج عن مذهبه، فرآه مستبصرا محققا، فزاده في الاستدعاء، فقال له: فتغنك الأولى عن الثانية، وقد قلت فسمعت، فاسمع أقل. قال له: قل. فجعل يبسط له من قول الخوارج ويزين له من مذهبهم بلسان طلق، وألفاظ بينة، ومعان قريبة. فقال عبد الملك: لقد كاد يوقع في خاطري أن الجنة خلقت لهم وأني أولى بالجهاد منهم». •••
لقد كانت ثقافة الخوارج - بحكم غلبة البداوة عليهم - ثقافة عربية خالصة، لا أثر فيها لفلسفة اليونان، كما هو الشأن في ثقافة المعتزلة؛ ولا أثر فيها لثقافة الفرس كما هو الشأن في الشيعة. ثقف الخوارج ثقافة أدبية لغوية على نمط العرب في ثقافتهم، وثقافة إسلامية على النمط المعهود في عصرهم، من تفهم للكتاب والسنة في سهولة ويسر؛ فإن جادلوا في الدين فاحتجاج بظواهر النصوص وتمسك بحرفيتها، فكان على أدبهم هذا الطالع.
لذلك كان مظهر أدبهم من جنس أدب العرب، لا كتب تؤلف، ولا بحوث تصنف، ولا موضوع يحلل، ولكنه شعر كثير وخطب كثيرة؛ وحكم منثورة. وقد أنتجوا في هذا إنتاجا ضاع كثيره وبقي قليله، ولو لم يحفظ لنا المبرد في كتابه الكامل طائفة صالحة منه لعمي علينا أمره. وقد دلنا هذا القليل المروي على الكثير الضائع، كما لم يبق في أيدينا - على ما أعلم - من دواوينهم إلا ديوان الطرماح الشاعر الخارجي.
وأكثر ما روي لنا من شعرهم وخطبهم وحكمهم ونوادرهم كان في العصر الأموي. أما ما روي لنا في العصر العباسي فقليل؛ وربما كان السبب أن أمرهم ضعف في العصر العباسي فضعف أدبهم تبعا لذلك، أو أن مدوني الأدب في العصر العباسي أباحت لهم السياسة أن يرووا الأدب الخارجي الأموي؛ لأن هذا الأدب خصم للدولة الأموية، وخصومتها حلال في نظرهم من جميع الوجوه، أما خصومة الخوارج للعباسيين فمبغضة مكروهة. فإن اعترضت بأن الشعر الشيعي قد روي وحفظ في العصر العباسي، وهو خصم كخصومة الخوارج، قلنا إن الشيعة لم يضعف أمرهم في العصر العباسي ضعف أمر الخوارج، وظل منهم قوم ذوو جاه يعطفون على آثار الشيعة، فإن لم يستطيعوا حفظه جهرا حفظوه سرا، فإذا قوي أمرهم أظهروه. أما الخوارج فلم يبق لهم في المدن من يعني بأمرهم كثيرا. ثم إن الأدب الخارجي أدب لساني لا أدب مكتوب، فكان يتطلب لحفظه أن يذهب رواة الأدب كالأصمعي إليهم ليأخذوه عنهم ، وأكثر هؤلاء الرواة كانوا صنائع للدولة العباسية يتقربون إليهم برواية ما يرضيهم.
على كل حال ليس من شأننا في هذا الجزء أن نقف طويلا عند الأدب الخارجي الأموي، فإن نظرنا إلى الأدب الخارجي العباسي رأينا كثيرا منه أدبا إباضيا؛ وقد حفظت مكاتب الإباضية في المغرب وعمان بعض آثارهم التي ترجع إلى العصر العباسي الأول، وإن لم نقف عليها. وربما كان ألمع شيء في الأدب العباسي ما قيل في حادثة الوليد بن طريف التي ذكرناها قبل؛ فقد حاربه يزيد ابن مزيد الشيباني، وكان مسلم بن الوليد (صريع الغواني) متصلا به، فنوه بحروبه للخوارج في شعره؛ من قصيدته المشهورة التي مطلعها:
أجررت حبل خليع في الصبا غزل
وشمرت هم العذال في العذل
وقد أطال فيها وصف حروبه مع الخوارج ثم قال:
ويوسف البرم قد صبحت عسكره
بعسكر يلفظ الأقدار ذي زجل
12
والمارق ابن طريف قد دلفت له
بعسكر للمنايا مسبل هطل
لما رآك مجدا في منيته
وأن دفعك لا يسطاع بالحيل
شام النزال فأبرقت اللقاء له
مقدم الخطو فيه غير متكل
إلى آخر القصيدة، وقد عددنا هذا أدبا خارجيا لأنه يتصل بحوادث الخوارج ويلقي ضوءا على حروبهم.
ولما مات الوليد بن طريف وقفت منه أخته الفارعة الخارجية موقف الخنساء من أخويها، ورثته بجملة قصائد، منها قصيدتها المشهورة:
بتل نهاكى رسم قبر كأنه
على جبل فوق الجبال منيف
تمن مجدا عد مليا وسؤددا
وهمة مقدام ورأى حصيف
فيا شجر الخابور مالك مورقا
كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى
ولا المال إلا من قنا وسيوف
ولا الذخر إلا كل جرداء صلدم
معاودة للكر بين صفوف
كأنك لم تشهد هناك ولم تقم
مقاما على الأعداء غير خفيف
ولم تستلم يوما لورد كريهة
من السرد في خضراء ذات رفيف
ولم تسع يوم الحرب والحرب لاقح
وسمر القنا ينكزنها بأنوف
حليف الندى ما عاش يرضى به الندى
فإن مات لا يرضى الندى بحليف
فقدناك فقدان الشباب وليتنا
فديناك من فتياننا بألوف
وما زال - حتى أزهق الموت نفسه
شجا لعدو أو لجا لضعيف
ألا يا لقومي للنوائب والردى
وللأرض همت بعده برجوف
ألا يا لقومي للنوائب والردى
ودهر ملح بالكرام عنيف
وللبدر من بين الكواكب إذ هوى
وللشمس لما أزمعت بكسوف
ولليث كل الليث إذ يحملونه
إلى حفرة ملحودة وسقيف
ألا قاتل الله الجثا حيث أضمرت
فتى كان للمعروف غير عيوف
فإن يك أرداه يزيد بن مزيد
فرب زحوف لفها بزحوف
عليه سلام الله وقفا فإنني
أرى الموت وقاعا بكل شريف
ومنها قصيدتها:
ذكرت الوليد وأيامه
إذ الأرض من شخصه بلقع
فأقبلت أطلبه في السماء
كما يبتغى أنفه الأجدع
أضاعك قومك فليطلبوا
إفادة مثل الذي ضيعوا
لو أن السيوف التي حدها
يصيبك تعلم ما تصنع
نبت عنك إذ جعلت هيبة
وخوفا لصولك لا تقطع
إلخ ...
خاتمة
ونظرة عامة إلى ما عرضنا له من هذه الفروق في ذلك العصر ترينا كيف تفرق الناس إلى شيع وأحزاب ومذاهب، مع أنا لم نذكر فيما ذكرنا إلا الطوائف الرئيسية، وكل طائفة تفرع منها فروع يصعب عدها؛ فقد انقسم المعتزلة إلى نحو ثلاث عشرة فرقة، والخوارج إلى نحو عشرين، والشيعة إلى نحو ثلاثين، والمرجئة إلى نحو سبع؛ هذا عدا فرقا أخرى لم نذكرها، إذ لم يتسع لها صدر كتابنا، وهذا أيضا عدا ما كان في المملكة الإسلامية من الديانات الأخرى، من اليهودية والنصرانية المجوسية والصابئة، وانقسام كل من هؤلاء إلى مذاهب ونحل.
وكان بجانب هؤلاء جميعا جماعة من الشكاك، رأوا هذه المذاهب المختلفة والآراء المتناقضة، والأدلة المتعارضة، فشكوا فيها جميعا وكفروا بالجدل، وقالوا: إنه لا يسلم إلى إيمان، وقالوا: «كل ما ثبت بالجدل، فبالجدل ينقض».
وحتى هؤلاء لم يشاءوا أن يكونوا فرقة واحدة، بل انقسموا إلى فرق ثلاث: فمنهم فرقة عممت شكها في كل شيء حتى في إثبات الإله والنبوة، «فلم تحقق الباري ولا أبطلته، ولا أثبتت النبوة ولا أبطلتها، وهكذا في جميع الأديان، والأهواء، لم تثبت شيئا من ذلك ولا أبطلته، وقالوا: إن الحق في أحد هذه الأقوال بلا شك؛ إلا أنه غير بين ولا ظاهر ولا متميز»؛ وكان إسماعيل بن يونس الطبيب اليهودي تدل أقواله على أنه كان يذهب هذا المذهب.
وفرقة من هؤلاء الشكاك أثبتوا الإله، وشكوا فيما عدا ذلك حتى النبوات، «فأثبتت الخالق وقطعت بأنه حق، ثم لم تحقق النبوة ولا أبطلتها، ولا حققت دين ملة ولا أبطلته».
وفرقة ثالثة أثبتت الإله والنبوة وشكت فيما عدا ذلك، «فقطعت أن الله حق، وأن النبوة حق وأن محمدا رسول الله، ثم لم تقطع بشيء بعد ذلك.»
وحجج هؤلاء الشكاك أنهم قالوا: «إنا وجدنا الديانات والآراء والمقالات كل طائفة تدعي أنها إنما اعتقدت ما اعتقدته عن الأوائل، وكل طائفة منها تناظر الأخرى فتنتصف منها، وربما غلبت هذه في مجلس، ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر على حسب قوة نظر المناظر وقدرته على البيان، فهم في ذلك كالمتحاربين يكون الظفر سجالا بينهم ... فصح أن ليس ههنا قول ظاهر الغلبة، ولو كان لما أشكل على أحد ولما اختلفت الناس في ذلك، كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم، وبدائه عقولهم، وكما لم يختلفوا في الحساب، وفي كل شيء عليه برهان لائح. قالوا: ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس فيعاندوه بلا معنى، ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا سبب؛ فلما بطل هذا صح أن كل طائفة إنما تتبع إما ما نشأت عليه، وإما ما يخيل لأحدهم أنه الحق دون تثبت ولا يقين. قالوا: ونرى الجماعة الكثيرة قد طلبوا علم الفلسفة وتبحروا فيها، ووسموا أنفسهم بالوقوف على الحقائق وبالخروج عن جملة العامة، ونجد آخرين قد تمهروا علم الكلام، وأفنوا فيه دهرهم ورسخوا فيه، وفخروا بأنه قد لاح لهم الفرق بين الحق والباطل بالحجج، ثم نجدهم كلهم - فلسفيهم وكلاميهم - مختلفين كاختلاف العامة وأهل الجهل بل أشد اختلافا؛ فالناس بين يهودي يموت على يهوديته، ونصراني يتهالك على نصرانيته وتثليثه، ومجوسي يستميت في مجوسيته، ومسلم يستقتل في إسلامه، واستوى العامي في ذلك مع المتكلم. ثم نجد أهل هذه الأديان في فرقهم كذلك سواء بسواء؛ فإن كان يهوديا أو نصرانيا تمسك بفرقته وتهالك غيظا على ما عداها؛ وإن كان مسلما فإما خارجيا يستحل دماء سائر أهل ملته وإما معتزليا يكفر سائر فرق ملته، وإما شيعيا لا يتولى سائر فرق ملته إلخ ... فصح أن جميعهم إما متبعا للذي نشأ عليه والنحلة التي تربى عليها، وإما متبعا لهواه قد تخيل أنه الحق.. فلو كان للبرهان حقيقة لما اختلفوا فيه هذا الاختلاف، ولبان على طوال الأزمان ومرور الدهور؛ ونرى الفيلسوف أو المتكلم يعتقد مقالة، ويناظر عليها، ويعادي من خالفها ، ويبقى على ذلك حياته، ثم تبدو له بادية فيرجع أشد ما كان عداوة لما كان ينصر، وينصرف يناظر في إفسادها، ويجاهد في إبطالها. قالوا
فدل هذا كله على فساد الأدلة وتكافئها . قالوا: وبراهينكم التي تقيمونها، إما أن تكون عن طريق الحواس، وإما أن تكون عن ضرورة العقل وبديهته، ولو كانت كذلك لم تختلفوا كما لم تختلفوا فيما يدرك بالحس وبديهة العقل، مثل أن ثلاثة أكثر من اثنين، وأن المرء لا يكون قائما قاعدا في وقت واحد، وإما أن تكون قد صحت عن طريق غير الحواس وبداهة العقل فما نوع هذا الدليل؟ وما قيمته إذا كان يصلح لكم ولغيركم وللشيء ونقيضه؟»
1
وهذا المذهب - مذهب الشك - يذكرنا بمذهب السوفسطائية اليونانية قديما، ومذهب الذرائع - البراجماتزم - حديثا. وقد كان لهذا المذهب أثر كبير في الصوفية، إذ رأوا أن البراهين المنطقية لا تكسب إيمانا صحيحا فطلبوا الإيمان من طريق الوجدان. •••
وأيا ما كان، فقد انتشر في العصر العباسي آراء وملل ونحل لا عداد لها، وكانت الحرب فيها حربا عوانا بين كل ديانة والديانات الأخرى، وبين كل فرقة في مذهب والفرق الأخرى، وأصبحت المملكة الإسلامية ميدانا لكل هذه الحروب. فإن نحن تساءلنا: هل كان كل هذا التفرق لخير المسلمين؟ أولم يكن خيرا لهم أن يكونوا كما كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أمة واحدة وفرقة واحدة تعتقد مبادئ واحدة؟
قلنا إن ذلك كان ككل شيء في عالمنا، ليس خيرا صرفا ولا شرا صرفا، إن هذا الانقسام والتفرق كان نتيجة طبيعية لاتساع رقعة البلاد الإسلامية، وتكونها من عناصر مختلفة في الجنس وفي العقليات وفي الديانات الموروثة؛ فكان محالا بعد دخول هذه الطوائف المختلفة في الإسلام أن تعتقد الإسلام في صراحته الأولى وسهولته وبساطته، وكان لابد أن تمزجه بعقلياتها ودياناتها وأغراضها، وكان ضروريا للدين أن يتفلسف، لأن هذا طور طبيعي من أطوار الدين.
لقد كان من مزايا هذا الاختلاف ما يدل عليه من حرية في الفكر وحرية في سياسة الدولة، فاحتملت كل هذه الآراء والمذاهب حتى المتطرف منها؛ ولم يصل إلينا من الاضطهاد إلا القدر القليل بالنسبة لتشعب هذه الآراء والأفكار، وكانت هذه الاضطهادات إلا القدر القليل بالنسبة لتشعب هذه الآراء والأفكار، وكانت هذه الاضطهادات التي حدثت سياسية أكثر منها دينية.
وكان من مزاياه لذة العقول وغذاؤها ومرانها على التفكير كالمران الذي يستعمله العقل في الحساب والجبر والهندسة.
وكان من مزاياه رقي فن الجدل والمناظرة رقيا باهرا، حتى أصبح بعد علما توضع له القوانين والقواعد.
ولكنه - من غير شك - أضعف شأن الأمة، فلم تعد الحماسة الدينية كما كانت في عصورها الأولى، فإن قوي العقل فقد ضعف القلب، وإن كثر عدد المسلمين فقد قلت قوتهم، ومن أجل ذلك وقفت الفتوح تقريبا، وانصرف جهد المسلمين إلى إطفاء الفتن السياسية والفتن الدينية، وأسلم ذلك إلى ما سنرى من انقسام المسلمين سياسيا إلى ممالك ودول، كما انقسموا قبل إلى مذاهب ونحل.
هذا وقد أثرت هذه المذاهب الدينية والكلامية في الأدب أثرا كبيرا ألمعنا إليه قبل، فعمقت موضوعاته، ودقت معانيه؛ وظهر ذلك في الكتب التي ألفت في هذا العصر - وخاصة من المعتزلة - ورأينا الشعراء يتلقفون معاني المتكلمين فيدسونها في أشعارهم، ويعتنق الشعراء بعض المذاهب الدينية والكلامية فينتصرون لها ويعيبون ما عداها، ويمدح بعضهم المتكلمين وبعضهم يذمهم، إلى كثير من مثل ذلك. ونحن نسوق طرفا قليلا للتمثيل على ما نقول.
يقول محمد بن يسير يعيب المتكلمين:
يا سائلي عن مقالة الشيع
وعن صنوف الأهواء والبدع
دع من يقود الكلام ناحية
فما يقود الكلام ذو ورع
كل أناس بديهم حسن
ثم يصيرون بعد للشنع
أكثر ما فيه أن يقال له
لم يك في قوله بمنقطع
ويقول غيره في ذلك:
قد نقر الناس حتى أحدثوا بدعا
في الدين بالرأي لم تبعث بها الرسل
حتى استخف بحق الله أكثرهم
وفي الذي حملوا من حقه شغل
وتعصب الناشئ الشاعر للمتكلمين، فقال يفتخر بالكلام:
ونحن أناس يعرف الناس فضلنا
بألسننا زينت صدور المحافل
تنير وجوه الحق عند جوابنا
إذا أظلمت يوما وجوه المسائل
صمتنا فلم نترك مقالا لصامت
وقلنا فلم نترك مقالا لقائل
وقال يصف أصحابه من المتكلمين:
كأنهم في صدور الناس أفئدة
تحس ما أخطأوا فيها وما عمدوا
يبدون للناس ما تخفى ضمائرهم
كأنهم وجدوا منها الذي وجدوا
دلوا على باطن الدنيا بظاهرها
وعلم ما غاب عنها بالذي شهدوا
مطالع الحق ما من شبهة غسقت
إلا ومنهم لديها كوكب يقد
ثم أخذوا معاني المتكلمين وتلطفوا في عرضها، فقال سعيد بن حميد:
قالت: أكتم هواي واكن عن اسمي
بالعزيز المهيمن الجبار
قلت: لا أستطيع ذلك، قالت:
صرت بعدي
تقول بالإجبار
وتخليت عن مقالة بشر
بن غياث لمذهب النجار
2
ويقول أبو نواس في ترك الشراب وألم بمذهب الخوارج:
نالني بالملام فيها إمام
لا أرى لي خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإني
لست إلا على الحديث نديما
جل حظي منها إذا هي دارت
أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني وما أزين منها
قعدي يزين التحكيما
3
كل عن حمله السلاح إلى الحر
ب فأوصي المطيق ألا يقيما
ويقول أبو نواس أيضا في وصف ممدوحه:
تكل عن إدراك تحصيله
عيون أوهام الضمايير
تنتسب الألسن من وصفه
إلى مدى عجز وتقصير
ويقول فيه:
ولي عهد ما له قرين
ولا له شبه ولا خدين
أستغفر الله بلى هارون
يا خير من كان وما يكون
إلا النبي الطاهر الميمون
ويقول:
كمن الشنان فيه لنا
ككمون النار في حجره
فيتأثر في ذلك بقول بعض المعتزلة في الكمون.
ويقول العباس بن الأحنف:
إذا أردت سلوا كان ناصركم
قلبي، وما أنا من قلبي بمنتصر
فأكثروا وأقلوا من إساءتكم
فكل ذلك محمول على القدر
وقد غضب أبو الهذيل العلاف المعتزلي من هذا الشعر لأنه يعترف بالجبر، فهجاه العباس - فما يظن - بقوله:
يا من يكذب أخبار الرسول لقد
أخطأت في كل ما تأتي وما تذر
كذبت بالقدر الجاري عليك، فقد
أتاك مني - بما لا تشتهي - القدر
ويقول أبو تمام في وصف الخمر:
جهمية الأوصاف إلا أنهم
قد لقبوها جوهر الأشياء
ويقول محمد بن عبد الملك الزيات يحرض المأمون على إبراهيم بن المهدي:
ألم تر أن الشيء للشيء علة
يكون له كالنار تقدح بالزند
كذلك جربنا الأمور وإنما
يدلك ما قد كان قبل على البعد
وظني بإبراهيم أن فكاكه
سيبعث يوما مثل أيامه النكد •••
والأمثلة على ذلك كثيرة، نجتزئ منها بهذا القدر، للدلالة على أن المتكلمين أثروا في الأدب أثرا بليغا في الموضوعات، وفي الأشعار، وفي الجد، وفي الهزل. •••
وبعد، فهذه صورة للمتكلمين، عرضتها كما فهمتها، وكما أرشدني البحث الصادق عنها، أثبت ما فيها من خير وشر، ونفع وضر، فإن أصبت فالله أشكر، وإن أخطأت فحسبي أني أخلصت النية وقصدت إلى الحق.
وأكثر ما أتوقع أن يعتب علي إخواني من الشيعة فيما سلكت من نقدهم، وتزييف بعض آرائهم، وأن يعجبوا من دعوتي إلى الوئام والوفاق، ثم أتبع ذلك بشيء من النقد والتجريح.
فإليهم أقرر مخلصا أني لم أقصد في كل ما قلت إلا ما اعتقدت حقا وصوابا، وجاهدت نفسي ألا أتأثر بإلفي وعادتي ومذهبي، فلا أنصر رأيا سنيا لسنيته، ولا أجرح رأيا معتزليا لاعتزاله، أو شيعيا لتشيعه. وأظن أن القارئ رأى معي أني قد أنقد الرأي السني وأرجح عليه الرأي المعتزلي أو الشيعي. ولو كنت أتعصب لمذهب لانتصرت له في كل أقواله، ودافعت عنه في جميع آرائه، ولكني رأيت نصرة الحق خيرا من نصرة المذهب، فلعلهم بعد ذلك ينصفون فيقرأوا قولي في هدوء وطمأنينة، ويأخذوا منه ما تستحسنه عقولهم، ويردوا كذلك في هدوء ما لا يستحسنون، ويقرعوا حجة بحجة، وبرهانا ببرهان؛ على أنه ليس الغرض الأسمى مقارعة الحجج بالحجج، والاعتزاز بالغلبة، إنما الغرض الأسمى التعاون على إنهاض أهل هذه الملل ورفع مستواهم، وتنقية الخرافات والأوهام من رءوسهم حتى ينشدوا الحياة الصحيحة، ويتبوأوا من العالم المكان اللائق بهم.
ثم أقرر أن هذا البحث الحر الطليق لا يتنافى والدعوة إلى الوحدة والوئام، فليس البحث يدعو إلى خصام إذا أخلص الجانبان، وما ينبغي للخلاف بين العلماء واختلاف أنظارهم ونظرياتهم أن يفرق بين نفوسهم ويوقع بينهم العداوة والبغضاء. على أنه إن كان ولابد من عداوة، فمعاداة الناس أهون على نفسي من معاداة الحق. •••
والآن أجمع عدتي في البحث، وأدواتي في الدرس، وأنتقل إلى العصر الذي يلي هذا، وهو «ظهر الإسلام» وأعني به المائة الرابعة من التاريخ الإسلامي. وسيرى القارئ أنه عصر أغزر علما، وأوسع نظرا، وأسطع ضوءا، وأن الحركة العلمية والأدبية فيه لم تتبع الحركة السياسية، بل كانتا ككفتي الميزان، رجحت الأولى وشالت الثانية.
واسأل الله العون والهداية والتوفيق.
अज्ञात पृष्ठ