إذا لم تذق في هذه الدار صبوة ... فموتك فيها والحياة سواء
وقال آخر:
ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر ... حبيبًا ولا وافى إليك حبيب
وقال آخر:
ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها ... فيما مضى أحد إذا لم يعشق
وقال المتنبي:
وعذلت أهل العشق حتى ذقته ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق
وقلت أنا مضمنًا لقول المتنبي هذا مع زيادة التورية:
إن تسألوا عما لقيت من الهوى ... فأنا الذي مارسته وعرفته
خالفت في رشف الرضاب وطعمه ... وعذلت أهل العشق حتى ذقته
حكي أن الملك بهرام جور كان له ولد واحد فأراد ترشيحه للملك بعده فوجده ساقط الهمة دنيء النفس فسلط عليه الجواري والقيمان فعشق منهن واحدة فأعلم الملك بهرام بذلك ففرح وأرسل إلى التي قيل أنه عشقها أن تجني عليه وقولي أني لا أصلح إلا لشريف النفس عالي الهمة ملك أو عالم فلما قالت ذلك راجع العلم وما عليه الملوك من شرف الهمة حتى برع في ذلك وتولى الملك فكان من خيرهم وأثبت ذلك في حكمة إلى كسرى إن الملك لا يكمل إلا بعد عشقه وكذلك العالم قالوا والعشق المباح مما يؤجر عليه العاشق كما قال شريك وقد سئل عن العشاق فقال أشدهم حبًا أعظمهم أجرًا.
قالوا وأرواح العشاق عطرة لطيفة وأبدانهم ضعيفة وأرواحهم بطيئة الانقياد لمن قادها حاشي سكنها الذي سكنت إليه وعقدت حبها عليه وكلام العشاق ومنادمتهم تزيد في العقول وتحرك النفوس وتطرب الأرواح وتجلب الأفراح وتشوق إلى مساع أخبارهم الملوك فمن دونهم ويكفي العاشق المسكين الذي لم يذكر مع الملوك ومع الشجعان الأبطال أنه يعشق ويشتهر بالعشق فيذكر في مجالس الملوك والخلفاء فمن دونهم تدور أخباره وتروى أشعاره ويبقى له العشق ذكرًا مخلدًا ولولا العشق لم يذكر له اسم ولا جرى له رسم ولا رفع له رأس ولا ذكر مع الناس وقال المرزباني سئل أبو نوفل: هل سلم أحد من العشق فقال: نعم الجلف الجافي الذي ليس له فضل ولا عنده فهم فأما من في طبعه أدنى ظرف أو معه دمائة أهل الحجاز وظرف أهل العراق فلا يسلم منه وقال بعضهم لا يخلو أحد من صبوة إلا أن يكون جافي الخلقة ناقصًا أو منقوص البنية أو على خلاف تركيب الاعتدال:
وا عجبًا للدهر لم يخل مهجة ... من العشق حتى الماء يعشقه الخمر
ويكفي العاشق أنه يرتاح للمعروف وإغاثة الملهوف كما قيل:
يرتاح للمعروف في طلب العلا ... لتحمد يومًا عند ليلى شمائله
وقال أبو النجاب رأيت في الطواف فتى نحيف الجسم بين الضعف يلوذ ويتعوذ ويقول:
وددت بأن الحب يجمع كله ... فيقذف في قلبي وينفلق الصدر
لا ينقضي ما في فؤادي من الهوى ... ومن فرحي بالحب أو ينقضي العمر
فقلت يا فتى أما لهذه البنية حرمة تمنعك من هذا الكلام. فقال بلى والله ولكن الحب ملأ قلبي فتمنيت المني والله ما سرني ما بقلبي منه ما فيه أمير المؤمنين من الملك وإني أدعو أن يثبته الله في قلبي عمري ويجعله ضجيعي في قبري دريت به أم لا أدري هذا دعائي وله قصدت وفيه ترغبت مما يعطي الله سائر خلقه. ثم مضى قلت: ذكرت هنا ما قاله الأخطل وقد لامه عبد الملك على الخمر، فقال:
ليت شعري ما يعجبك فيها ... وأولها مرارًا وآخرها خمار
فقال لكن بينهما والله نشوة لا أبيعها بخلافتك يا أمير المؤمنين أخذه الشاعر فقال:
إن يكن أول المدام كريهًا ... أو يكن آخر المدام صداعًا
فلها بين ذا وذاك هنات ... وصفها بالسرور لن يستطاعا
وأما ما جاء في ذمة وسريان سمه فأكثر من أن يحصر فكم ترك الغنى صعلوكًا والمالك مملوكًا كما قيل:
ظل من فرط حبه مملوكا ... وقد كان قبل ذلك مليكا
تركته جآذر القصر صبا ... مستهامًا على الصعيد تريكا
وهذه الأبيات لبعض ملوك الأندلس وسيأتي ذكرها في الباب الثاني من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله وعرضه ونفسه وضيع أهله ومصالح دينه ودنياه ووقع فيما يأباه أي والله.
والعشق يجتذب النفوس إلى الردى ... بالطبع واحسدي لمن لم يعشق
1 / 11