قالوا وكم عاشق هرب من الحب إلى مواقف التلف ليتخلص من التلف بالتلف. وعلى هذا حكاية دعبل الشاعر. قال: كنت بالثغر فنودي بالنفير فخرجت مع الناس فإذا أنا بفتى يجر رمحه بني يدي. فالتفت فنظر إلي فقال: أنت دعبل. قلت: نعم. قال: اسمع مني ثم أنشد:
أنا في أمري رشاد ... بين حب وجهاد
بدني يغزو وعدوي ... والهوى يغزو فؤادي
ثم قال كيف ترى. قلت: جيد والله. قال: فوالله ما خرجت إلا هاربًا من الحب ثم قاتل حتى قتل وقال الواوا الدمشقي:
سبيل الهوى وعر وحلو الهوى مرّ ... وبرد الهوى حر ويوم الهوى دهر
وقال غيره:
العشق مشغلة عن كل صالحة ... وسكرة للعشق تنفي سكرة الوسن
وقال عبد المحسن الصوري:
كان ابتداء الذي بي مجونًا ... فلما تمكن أمسى جنونًا
وكنت أظن الهوى هينا ... فلاقيت منه عذابًا مهينا
وقال محمد اليزيدي:
كيف يطيق الناس وصف الهوى ... وهو جليل ما له قدر
بل كيف يصفو لحليف الهوى ... عشق وفيه البين والهجر
وما أحسن قول عبد الله بن إسباط القيرواني:
قال الخلي الهوى محال ... فقلت لو ذقته عرفته
فقال هل غير شغل قلب ... إن أنت لم ترضه صرفته
وهل سوى زفرة ودمع ... إن لم ترد جريه كففته
فقلت من بعد كل وصف ... لم تعرف الحب إذ وصفته
تنبيه، الهوى أكثر ما يستعمل في الحب المذموم. قال الله تعالى: " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " وقد يستعمل في الحب الممدوح استعمالًا مقيدًا ومنه الحديث " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به ". وقال ابن عباس: الهوى إله معبود وقرأ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه فتلخص من الآية الكريمة. والحديث الشريف أن الهوى ينقسم إلى قسمين: هوى محمود وهو في الخير والصلاح، وهوى مذموم وهو في الشر والفساد، وفي كتاب السهل المواتي في فضائل ابن مماتي: أن بعض الصوفية قال: إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه إلى النار. قلت: لو قال يهوى بصاحبه إلى الهاوية لكان أنسب. وقال بعضهم الهوى الهوان زيدت فيه النون كما قيل:
فسألتها بأشارة عن حالها ... وعلي فيها للوشاة عيون
فتنفست صعدًا وقالت ما الهوى ... إلا الهوان أزيل عنه النون
وقوله تعالى: " أخلد إلى الأرض واتبع هواه " قيل أخلد إلى الأرض أي سكن إليها ونزل بطبعه عليها وكانت نفسه أرضية سفلية لا سماوية علوية وبحسب ما يخلد العبد إلى الأرض يهبط من السماء. قال سهل قسم الله للأعضاء من الهوى لكل عضو حظًا فإذا مال عضو منها إلى الهوى رجع ضرره إلى القلب وللنفس سبع حجب سماوية وسبع حجب أرضية فكلما دفن العبد نفسه أرضًا أرضًا سما قلبه سماء سماء فإذا دفن النفس تحت الثرى وصل قلبه إلى العرش وحاصل القضية أن العشق والهوى أصل كل بلية وفيه ذل كل نفس أبية. وقد قال النبي ﷺ " لا ينبغي للمرء أن يذل نفسه ". قال الإمام: أحمد تفسيره أن يتعرض من البلاء لما لا يطيق وهذا مطابق لحال العاشق فإنه أذل نفسه لمعشوقه كما قيل:
اخضع وذل لمن تحب فليس فيّ ... شرع الهوى أنف يشال ويعقد
وقال آخر:
مساكين أهل العشق حتى قبورهم ... عليها تراب الذل بين المقابر
وقال الشيخ شرف الدين بن الفارض:
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل ... فما اختاره مضنى به وله عقل
وعش خاليًا فالحب راحته عنا ... فأوّله سقم وآخره قتل
فأوله سقم وآخره قتل
الفصل الخامس
اختلاف الناس فيه هل هو اضطراري أو اختياري
أقول هذا فصل عقدناه لما تقدم ذكره وأسفر كالصباح سفره إذ للناس فيه كلام من الطرفين وتبختر بين الصفين فقائل بأنه اضطراري وقائل بأنه اختياري ولكل من القوانين وجه مليح.
1 / 12