أفيحل للشاعر العربي - أو الأديب العربي، أو الفنان العربي - أن تضيق له نفس وأن يضطرب له قلب بذات الصورة التي ضاقت بها نفس الشاعر في الغرب واضطرب قلبه؟ ومع ذلك فقد شاع فينا شعر جديد انصرف فيه الشاعر إلى ذات نفسه انصرافا تاما، وأخذ يغترف من تياره الشعوري الباطني ما ليس يفهم له معنى إلا صاحبه، أو ناقد متحذلق يدعي أنه يعلم؟ نعم لقد كان ما يريده الشاعر دائما - أيا كان مكانه وزمانه - لا ينكشف كله للقارئ، بل يظل بعض المعنى المقصود حبيسا في «بطن الشاعر» - كما كان العرب يقولون - لكن تبقى بين المعلوم والمجهول من معنى الشعر المعروض، نسبة معقولة؛ ومن هنا استطاع القارئون أو السامعون درجة من الفهم، حتى لو بعدت مسافة المكان وفترة الزمان، وإلا فكيف يتاح للعربي اليوم أن يفهم بدرجة كافية، شعرا أنشده أصحابه منذ خمسة عشر قرنا؟ لكن اقرأ لشاعر عربي جديد، أو استمع، تجدك أمام مركبات لفظية قد تردعك بشفافيتها، وإيحاءاتها، وهي في كل الحالات تشير إلى باطن أكثر جدا مما تشير إلى ظاهر. وسؤالنا المطروح هنا هو: ماذا دعا شاعرنا الجديد إلى هذه الضبابية الموحية وليس هناك في حياته العصرية إلا سلبية يتلقى بها علوم الغرباء ومصنوعاتهم؟! ربما جاءك الجواب بأن أزماتهم في الوطن العربي من نوع مختلف عن أزمات المبدعين في الغرب، لكنها أزمات على أية حال جاءت، فإذا كانوا في الغرب قد ضاقوا صدرا بضبط العلم ودقة العمل في المصانع، فنحن قد ضاقت صدورنا هنا بأفاعيل السياسة الخارجية، ومظالم السياسة الداخلية، فقد تزهق نفوسهم هناك معامل العلم ومصانع الإنتاج، وتزهق نفوسنا هنا معتقلات وصور مختلفة من الاضطهاد والتعذيب والانتقام وكم الأفواه، فضلا عن ضيق اقتصادي في العيش تتعذر معه الحرية لو أردناها، فأي عجب - إذن - أن ينكب الشاعر على ما قد طواه بين ضلوعه من هموم؟ وجوابنا على ذلك هو حيرة لا تعرف كيف تجيب، اللهم إلا «حدسا» نرى به ما لا نملك له برهان العقل، والذي نراه بذلك الحدس المبهم هو أنه ما دامت قد اختلفت همومنا نوعا عن همومهم؛ إذ اختلفت مصدرا وطبيعة، فقد كان المتوقع المرجح - إذا لم تتدخل سلبية المحاكاة العمياء - أن يجيء رد الفعل على صورة عربية فريدة في نوعها وطبيعتها. وهذا الذي نقوله الآن يصدق على الأدب صدقه على الفن بجميع أشكاله، ونسوق مثلا؛ فقد نشأ في الغرب أدب «العبث» أو ما أسميناه نحن عندئذ بأدب «اللامعقول»، وكان الدافع إليه هناك هو الدافع نفسه الذي بسطناه فيما سلف، وهو أن ظروف الحياة العصرية قد مزقت المجتمع الإنساني شعوبا وأفرادا، تمزقا نشأ عنه عدم التفاهم بين متكلم وسامع أو بين كاتب وقارئ؛ إذ انسدت قنوات التفاهم بين الطرفين؛ فما يقصده المتكلم لا يصل إلى قلب السامع، لاختلاف نظرته، فيجيب جوابا بعيدا عن سياق الحديث. وهكذا جاء هذا الأدب انعكاسا للحياة المعاصرة هناك، فأغرى أدبهم العبثي هذا بعض أدبائنا لينسجوا على منواله، وكان اعتراضنا عندئذ هو أن ما دفعت إليه ضرورات الحياة هناك ليس حتما أن يكون هو ما تدفع إليه الضرورة هنا، ففيم المحاكاة؟ إنهم هناك قد شبعوا إلى حد التخمة علما وصناعة، فضاقت صدورهم، وأما نحن فلم نعبر بعد عتبة الدخول إلى دنيا العلم والصناعة، اللهم إلا في صورة سلبية متلقية، ليس فيها عناء المبادرة والكشف والإبداع، فلماذا نفزع حنينا إلى العبث كما يفزعون؟
والمفارقة التي تلفت النظر حقا، هو أننا قد نسرع إلى الأخذ بكل بدعة جديدة تظهر في الغرب، إذا جاءت في ميادين الأدب والفن، لا نقف لنرى في تلك البدعة ما يمكن أن يلتئم منها بتيارنا الذوقي وما لا يمكن، في الوقت الذي نتردد ألف مرة إذا ما دعينا إلى الأخذ بالجانب المنهجي من الحياة العقلية العلمية عندهم ، حتى لقد انقضى على لقائنا الحديث مع الغرب نحو قرنين دون أن نفتح صدورنا وعقولنا للوقفة العقلية العلمية التي هي عماد الحضارة الحديثة؛ لأنها هي التي انتهت بهذه الحضارة إلى ما يميزها من علمية النظر حتى في المجالات التي لم يكن مألوفا من قبل أن تندرج في دائرة المنهج العلمي، وبصفة خاصة ما يختص منها بالإنسان وحياته الفردية والاجتماعية، فإذا كانت حياة الغرب في حضارته الجديدة تقوم على ركيزتين؛ إحداهما علم من النوع التكنولوجي الجديد، والأخرى فنون وآداب جديدة تسرف في الاغتراف من تيار الشعور الداخلي، لعل ذلك يعين الإنسان على تقرير ذاته أمام طوفان الآلات التي يتدفق بها العلم، والتي من شأنها أن تحوله ليكون عبدا لها بعد أن كان الظن أن يكون سيدها، أقول إنه إذا كانت حضارة الغرب الحديث تقوم على هاتين الركيزتين، فقد كان موقف العربي الحديث منهما هو أن يفتح ذراعيه في فرحة الطفل، ليستقبل كل جديد في ناحية الفن والأدب، وأن يعرض عن قبول الوقفة العقلية العلمية إلا في حدود ما يحفظه أثناء دراسته، حفظا لا يصاحبه قلب مطمئن مؤمن، مع أن منطق الحياة السوية يصرخ بأنه إذا كان الإنسان ليقبل أحد الجانبين دون الآخر لأي سبب من الأسباب، فالجانب المتصل بالذات الإنسانية وذوقها - وهو جانب الفنون والآداب - هو الذي لا يؤخذ عن الغرباء بل يترك لينبع وينمو داخل الحدود، وأما الجانب العقلي العلمي فهو مشترك بين الناس جميعا؛ فلا خير في أن يأخذه عربي عن يوناني أو عن هندي أو عن إنجليزي أو عمن شاء له الحظ من سائر الشعوب أن يكون له السبق في علم أو ما يترتب على علم؛ لأن ذلك كله وليد العقل، والعقل إنساني مشترك. ولا بد لنا أن نذكر هنا عن آبائنا العرب الأولين، حين فتحوا أبوابهم ونوافذهم على الحضارات القديمة المجاورة لهم، لينقلوا عنهم ما أرادوا نقله، لم يترددوا في نقل كل ما استطاعوا الحصول عليه من نواتج العقل البشري، كالعلوم والفلسفة، لكنهم أحجموا على نقل الأدب ؛ إذ لم يتصوروا إلا أن يكون الأدب نباتا محليا ينبت في وطنه الذي ينتمي إليه.
وربما تساءل قارئ هامسا لنفسه: لماذا يزعم لنا هذا الكاتب - كما رأيناه يزعم دائما - أن العربي الحديث قد تردد في قبول الجانب العقلي العلمي من حضارة الغرب الحديث، وها هي ذي جامعاتنا وسائر معاهدنا الدراسية، مكبة على ذلك العلم بشتى فروعه ومختلف درجاته؟ والجواب على ذلك هو أن نطلب من القارئ المتسائل أن يفرق بين «حفظ» ما نتلقاه من علوم الغرب، ثم ممارسة تلك المادة المحفوظة في حياتنا العملية ممارسة تنحبس في حدودها، وبين حالة أخرى يتشرب فيها منهج ذلك العلم ليستخدمه - أولا - في المشاركة الإيجابية في الكشف العلمي، و- ثانيا - ليحمل ذلك المنهج العلمي في صدره ميزانا يزن به الأفكار العامة، كلما نشأت عند الناس فكرة يقابلون بها مشكلة عرضت لهم في حياتهم.
لكن انظر حولك بعين نزيهة، وارقب شعور العربي كما يعبر عنه في مناسبات كثيرة، نحو «العلم» وحدود قدرته، ونحو «العقل» وعجزه، ولم يكن مثل هذا الحذر في تقدير الإنسان لقدراته ليثير القلق؛ لأنه حذر مطلوب حتى لا يسرف الإنسان في ذلك التقدير إسراف الطفل الغرير الذي يمد ذراعه ليمسك بالقمر، لولا أن العربي حين يسخر من منجزات العلم الحديث، ويهزأ بالعقل الإنساني وقدراته، إنما يفعل ذلك على ظن منه بأن مثل هذه الوقفة ترضي ضميره الديني، وبأنها وقفة تتضمن أن اعتزاز الإنسان بعقله، واعتداده بقدرته العلمية كما تشهد بها منجزاته الحديثة، فيه جرأة على رب العالمين، الذي هو العليم والذي هو القدير، وكأن أحدا من الناس على مدار الكوكب الأرضي جميعا، يسبق إلى وهمه في مثل هذا السياق، أنه خالق عقل نفسه، ولذلك فهو صاحب الفضل في كل ما ينتج عن ذلك العقل من علم ومنشآت ونظم، كلا، إن شيطانا وسوس للعربي منذ نهض في أوائل القرن الماضي وإلى يومنا، بأن العقل وقدرته رجس، فلا يجوز الاقتراب منهما بأكثر من أطراف الأنامل. وإن شئت أن تتبين ذلك، فقارن مقارنة متأنية بين معظم أوطان الجنس الأصفر - الصين - واليابان، وكوريا، وتايوان وغيرها - في الروح التي يأخذون بها الجانب العلمي والصناعي من الحضارة الحديثة، دون أن يكون في ذلك إهدار لذرة واحدة من قوميتهم، أقول: قارن تلك الروح بروح العربي إزاء هذا الجانب، ولو كان العربي في غنى عن العلم ومنجزاته لقلنا معه: كفى الله المؤمنين شر القتال. لكنه من أكثر أهل الأرض إقبالا على شراء تلك المنجزات. يذكرني ذلك بخبر سمعته من صديق، أعيده هنا لنضحك تخفيفا مما يثقل قلوبنا بالحسرة والأسى، على عربي أراد له الله سبحانه وتعالى أن تكون له الريادة، وأراد لنفسه التبعية، فيقول الخبر إن بلدا عربيا يقع على شاطئ بحر يكثر فيه السمك، لكن أهله لا يصيدونه لأنهم لا يأكلونه، وجاءت إلى أرضهم شركة أوروبية وأقامت مصنعا، فيصاد السمك ويقوم المصنع بتجهيزه وتعليبه، فأقبل الناس عندئذ على شرائه في صورته المصنعة! ولنتذكر أن الشركة الأوروبية قد استخدمت أهل البلد في عملية الصيد وقام مصنعها بالإعداد والتعليب! وفي هذا الخبر موازاة مع ما كنا بصدد الحديث فيه؛ فقد وهبنا خالقنا عز وجل «عقولا» لتنجز ما يتفق مع طبيعة العقل، وطبيعته فكر وعلم وزراعة وصناعة ... إلخ، فأهملنا عقولنا في أدمغتنا، عزوفا عن إعمالها فيما خلقت لتؤديه، فلما أنجز الغرب ما أنجزه بعلمه، اشتريناه!
لكل عصر فكرة تميزه، لا يشذ عن ذلك عصرنا، وفكرته - أساسا - هي أن يقرأ الطبيعة قراءة جديدة، لم يقرأها من قبل عصر آخر، وهي قراءة نتجت عنها للإنسان حسنات وسيئات؛ فمن العلوم الجديدة وتطبيقاتها نشأت حرية أوسع أفقا وأعمق غورا، حين تحرر الإنسان بفضلها من عوائق الطبيعة، لكن المصدر نفسه قد أدى إلى قيود من نوع جديد فرضت على الإنسان، كادت تفقده هويته وذاتيته، لولا فنون جديدة، وآداب جديدة وبعض النظم الجديدة، عملت كلها على إعادة التوازن، وهذا هو عصرنا بخيره وبشره. ولست أطالب العربي بأن يسبح في بحره عن صمم وعمى، بل أطالبه بأن يشارك بنصيب في الإمساك بعجلة القيادة، ليحمل مع غيره تبعات عصر هو يعيش فيه.
3
حوار غريب جرى بين هذا الكاتب ونفسه، عندما أمسك بالقلم ليكتب هذا الجزء الثالث من حديثه عن هذا العصر الذي هو عصرنا، فانقسمت نفسه قسمين؛ سائلا ومجيبا. وفيم الغرابة؟ أليست هذه هي طبيعة العملية الفكرية كلما وقعت لإنسان؟ ماذا تكون «الفكرة» - أية فكرة وكل فكرة بلا استثناء - إن لم تكن عند صاحبها جوابا عن سؤال دارت به نفسه وإن لم ينحدر بين شفتيه لفظا مسموعا؟ كل فكرة هي جواب عن سؤال فقد كان موضوع ما غامضا عند السؤال، وأصبح واضحا بدرجة ما عند الجواب، ولكن لا علينا، فماذا سألت النفس السائلة عند هذا الكاتب لحظة إمساكه بالقلم ليكتب، وبماذا أجابت النفس المجيبة؟
بدأت السائلة فقالت: مهلا! ألا تلحظ أن فترة الزمن التي تسميها «عصرنا» تكاد هي نفسها أن تكون فترة الأعوام التي امتدت بك على هذه الأرض؟
قالت المجيبة: إي والله إنهما ليكادان يتطابقان؛ فقد امتد بي العمر حتى أمسك بالقرن العشرين من طرفيه، أو هو أوشك على ذلك، ولكن ماذا تريدين بسؤالك؟
قالت السائلة: لقد طافت بي فكرة أردت عرضها، وهي أن أسألك: ألا يكون من الطريف ومن المفيد أن يجيء حديثك هذه المرة عن عصرنا حديثا عن صورة العصر مجسدة في خبرتك؟ فتحدث أيها الكاتب عن نفسك، تحدث عن عصرك من الزاوية التي رأيته منها.
अज्ञात पृष्ठ