مقدمة
هذا الكاتب العربي
أين نضع المبادئ؟
العروبة موقف
هذا هو عصرنا
العربي بين حاضره وماضيه
جسور عبرناها
من مواطن الضعف
مأزق حرج
إرادات مبعثرة
अज्ञात पृष्ठ
من إشعاعات التوحيد
جمود الفكر ما معناه؟
فكر على فكر
حياة قلقة
العربي اليوم غامت رؤيته
صورة الإنسان
الثقافة العربية إلى أين؟
صورة مصغرة
مقدمة
هذا الكاتب العربي
अज्ञात पृष्ठ
أين نضع المبادئ؟
العروبة موقف
هذا هو عصرنا
العربي بين حاضره وماضيه
جسور عبرناها
من مواطن الضعف
مأزق حرج
إرادات مبعثرة
من إشعاعات التوحيد
جمود الفكر ما معناه؟
अज्ञात पृष्ठ
فكر على فكر
حياة قلقة
العربي اليوم غامت رؤيته
صورة الإنسان
الثقافة العربية إلى أين؟
صورة مصغرة
عربي بين ثقافتين
عربي بين ثقافتين
تأليف
زكي نجيب محمود
अज्ञात पृष्ठ
مقدمة
لقد أتيحت لمؤلف هذا الكتاب حياة ثقافية امتدت به منذ شبابه الباكر حتى انتصف العقد التاسع من عمره، ولبثت طوال هذه السنين مفتوحة النوافذ على الثقافة الغربية والثقافة العربية معا. إلا أن أسلوب التلقي لهاتين الثقافتين قد اختلف مرحلة بعد مرحلة من مراحل العمر؛ فلفترة طويلة ظلت الثقافة الغربية وحدها تقريبا هي التي تقدم في صيغة دراسية منظمة بحكم دراستها في المدارس. وكانت الثقافة العربية عندئذ تسايرها جنبا إلى جنب من باب الهواية الحرة؛ إذ تعلق المؤلف وهو بعد في غض شبابه بقراءة ما وقعت عليه يداه من التراث الأدبي العربي، ودواوين الشعراء بصفة خاصة، وكان يجد في ذلك متعة شديدة لما انطوت عليه فطرته من ميل إلى الذوق الفني عموما، والفن الأدبي خصوصا.
فلما انتصف به العمر، كان قد حصل في الجانب الغربي من ثقافته على قدر كبير، منه ما كان مدروسا في معاهد التعليم ومنه ما كان مقروءا في مطالعاته الخاصة، كما قد حصل من الجانب العربي في تكوينه الثقافي قدرا كبيرا جاء معظمه عن طريق الميول الخاصة والجهود الذاتية - إذا صح هذا التعبير - ومنذ ذلك الحين أخذ شيء من القلق يساوره لما أحسه من عرج في بنائه الثقافي، خصوصا وأن محصوله من ثقافة الغرب كان يدعمه سند قوي من حضارة عصرية تقوم على أساسه، وتبرهن بذلك على مدى صلاحيته في عالم التطبيق في حين أن محصوله من التراث الثقافي المأثور عن أسلافه لم يعد ينعكس منه شيء يذكر في الحياة الحضارية كما يعرفها هذا العصر، وإنما يستند على سند حضاري ذهب زمانه، فانكب انكبابا على ذلك التراث، ما كان قد حصده منه مضافا إلى ما أخذ سبيله إلى حصده، محاولا أن ينفذ إلى جوهره ومحوره لتصبح المقارنة ممكنة بينه وبين ما كان يعرف عن جوهر هذا العصر ومحوره، لعله يلتمس بين الجانبين موقفا يحقق الحفاظ على الجوهر الأول، والدخول في قلب الجوهر الثاني في صيغة واحدة، إذا وجدها كانت خير ما يقدمه إلى أبناء الجيل الجديد من شباب المثقفين، وقد يجدون فيه ما يستحق النظر.
ولئن كانت هذه المحاولة الساعية إلى إيجاد تلك الصيغة الثقافية للمواطن العربي الجديد قد غلبت على جميع ما اتجه إليه فكره وقلمه منذ سنة 1960م، فإن هذا الكتاب الذي أقدمه بين يدي القارئ، قد احتوى على جهد مكثف في هذا السبيل، يصطبغ بلون خاص إذا قورن بغيره من الجهود السابقة؛ إذ اختار المؤلف مجموعة من الزوايا التي تصلح للإطلال منها على مواضع اختلاف جذرية بين الثقافتين أدت إلى مذاقين مختلفين لحياة الإنسان. وذلك تمهيدا للنظر من جديد نظرة فاحصة؛ فربما تبين أن ما حسبناه اختلافا يضرب إلى الجذور ويستحيل على المصالحة والتوفيق، إنما هو في حقيقته أكثر مرونة مما حسبنا، بحيث يصبح في حدود المستطاع أن نقترح صيغة تجمع الطرفين دون تضحية بما هو أساسي وجوهري في كل من الطرفين.
فاختار المؤلف أول ما اختار، فكرة «المبادئ» لعمق موضعها من البنيان الثقافي؛ فالمبادئ عند العربي حقائق لا تقبل الجدل، ومنها يبدأ الإنسان ليبني عليها ما يتلاءم مع طبيعتها؛ ومن ثم يتحقق عنصر الدوام في المناخ الثقافي العربي، وأما أبناء الغرب من أهل هذا العصر العلمي بصفة خاصة، فقد أخذوا ينظرون إلى «المبادئ» من حيث هي فروض، يعتمد بقاؤها على نجاح النتائج المتولدة عنها ، فيصبح سؤالنا إزاء هذين الموقفين هو: هل هنالك ما يمكن تعديله في النظرة العربية حتى لا يتورط العربي في ثبات يؤدي به إلى ضعف وعجز، مبقيا على ثبات الجانب الذي لا بد من بقائه، ولأنه في الوقت نفسه سبيل إلى قدرة وقوة؟ وكان الجواب بالإيجاب؛ إذ ليس هنالك ما يمنع التفرقة بين مبادئ تتصل بالعقيدة فتبقى ومبادئ أخرى من صنع الإنسان فتخضع للتغيير إذا كان ازدهار الحياة يقتضي ذلك التغيير.
وكانت الزاوية الثانية التي نظر منها المؤلف إلى كلتا الثقافتين، هي زاوية النظر العلمي إلى أوضاع الحياة بحيث تكون الكلمة الفاصلة للعلم وما يقرره، فهذا العصر القائم هو عصر علم في المقام الأول، ليس فقط بمعناه الذي عرفه الأقدمون من عرب وغير عرب، وأعني توليد النتائج استدلالا صحيحا من نصوص بين أيدينا، بل إن علم هذا العصر قد اتجه بصفة أساسية نحو ظواهر الكون لاستخراج قوانينها، وبالكشف عن قوانين ظاهرة معينة يصبح الإنسان قادرا على تسخيرها؛ ومن هنا جاءت هذه القدرة الهائلة التي سيطر بها أصحاب الحضارة العصرية على ظواهر الطبيعة على نحو ما نرى، وواضح أن العربي في عصرنا لم يضف إلى الحياة العلمية في صورتها الجديدة شيئا. واكتفى بالحصول على ما ينتج عنها جاهزا وبلا عناء؛ مما دفع كثيرين منا إلى التهكم على العلم الجديد، واتهامه بأنه حصرم مر لا يغري على السعي في سبيله، وذلك من قبيل الشعور بالعجز والرغبة في الدفاع عن النفس. لكن المؤلف يسأل جادا: هل في تراثنا الفكري ما يمنع العربي عن المشاركة في جهود العلم الجديد؟ ثم يأخذ المؤلف في تحليلات مفصلة مستفيضة بطريقة التفكير التي مارسها العربي في شتى ميادين الحياة ليرى كيف نشأت وبماذا تميزت؟ فيجد أن من أهم ما يميز العربي استناده إلى حقيقة كبرى مجردة إلى أقصى درجات التجريد ثم يستولد نتائجها، وهو موقف نراه متمثلا عند العربي في حياته العلمية وفي حياته الدينية معا، ثم هو موقف تشربه من طبيعة بيئته الصحراوية من جهة ومن عقيدة التوحيد في مجال الدين من جهة أخرى، وإذا كان ذلك كذلك فلن يتعذر على العربي - إذا صحت عزيمته - أن تطور هذه الوقفة الاستدلالية بحيث يضيف إليها فرعا يقام فيه الاستدلال على أساس ما قد حصلته المشاهدات من خصائص الظواهر، وهذا هو نفسه ما فعلته أوروبا في نهضتها حين أضافت إلى صورة العلم القديم صورة جديدة تواجه ظواهر الكون مواجهة مباشرة، والمهم هنا هو أن منطق العقل قد لازم العربي، مجدولا مع حياة وجدانية تستغني عن ذلك المنطق، منذ عرفته الدنيا وعرفها، فلا هو كمن استغرقه الوجدان كما استغرق أمما أخرى في الشرق الأقصى، ولا هو كمن كاد يستغرقه منطق العقل كما فعل مع أمم أخرى في الغرب.
على هذا النحو أخذ مؤلف الكتاب ينتقل مع أطراف المشكلة طرفا بعد طرف، وقد رأى أن يقدم إلى القارئ في الفصل الأخير بقسميه «صورة مصغرة» يلخص فيها تسلسل الخطوات الفكرية التي سار بها في أحاديثه المسهبة المليئة بتفصيلاتها.
وبالله التوفيق.
يناير 1990م
زكي نجيب محمود
अज्ञात पृष्ठ
هذا الكاتب العربي
أخذت أنوال الزمن تنسج خيوطها، متفاوتة في قوتها، متباينة في ألوانها، مدى ثمانية عقود من السنين، فكان الذي نسجته هو هذا الكاتب الذي يتقدم إليك بهذا الحديث، وبأحاديث أخرى يتوالى ظهورها بإذن الله تعالى؛ لعله يوفق إلى صورة يتمناها للمواطن العربي، تتألف فيها العناصر تألفا يصون له وحدته وشخصيته، ثم تتيح له التفوق والنصر في هذا العالم الذي كثرت سباعه وضباعه يضرس بأنيابها من لم يحاذر - كما قال شاعرنا زهير في قديم الزمان. وإذا كان هذا هو موضوع هذا الحديث وما سوف يتلوه، فلا منجاة لنا من اختلافات في الرأي بين كاتب وقارئ، وبين قارئ وقارئ؛ إذ الحديث عن المواطن العربي وكيف يجمل به أن يكون، إنما هو حديث مباح لكل من فك الخط ومن لم يفكه على حد سواء لحسبانه حديثا هينا لينا، في وسع كل إنسان أن يدلي فيه بدلو مع سائر الدلاء؟ ومن هنا أخذ هذا الكاتب حيطته منذ الكلمة الأولى، فجعل العنوان العام يشير في صراحة إلى أن الرأي المعروض - في هذا الحديث وفيما يجيء بعده من أحاديث - رأي ل «عربي» ولكل عربي آخر أن يقول ما شاء، فذلك لن ينفي أن «عربيا» ما كانت له رؤية فيما يجب أن يتألف في كيان المواطن العربي من عناصر.
لم يكد هذا الكاتب يبدأ في ترتيب أفكاره التي يريد عرضها، حتى ظهرت له صورة من طفولته الباكرة، تصلح أن تكون نقطة البدء؛ فلقد تذكر يوما كان فيه تلميذا في السنة الثانية الابتدائية، وكان الدرس درسا في اللغة الإنجليزية، وكان موضوع المطالعة بضعة أسطر جاءت في كتاب المطالعة وتحت صورة لحصان وقف بجوار غلام، وقرأ أحد التلاميذ السطر الأول، وكانت هذه هي كلماته:
What a Nice Horse Ahmed Has .
فقال المدرس: كيف ترون الترجمة العربية لهذه الجملة؟ فرفعت الأصابع تريد الإجابة، وطلب المدرس من كل تلميذ أن يجيء بما عنده، ثم دار الأمر على النحو التالي:
التلميذ الأول :
أحمد عنده حصان جميل.
المدرس :
لا، هذه عبارة لا تكفي.
التلميذ الثاني :
अज्ञात पृष्ठ
عند أحمد حصان جميل.
المدرس :
ولا هذه عبارة تكفي.
التلميذ الثالث :
ما أجمل حصان أحمد.
المدرس :
أنت أحسن قليلا، لكنها عبارة ما زالت ناقصة.
ولم تعد هنالك أصابع مرفوعة، وهنا قدم المدرس ما عنده، فقال في نطق هادئ عميق الصوت، بعد أن مد ذراعه اليمنى ليتكئ بأصابعها على منضدة إلى جانبه، وثنى ذراعه اليسرى واضعا يده على خصره! «يا له من حصان جميل عند أحمد!» ولقد مضت حتى الآن ثلاثة وسبعون عاما، منذ سمع طفل العاشرة ترجمة المدرس للجملة المعروضة، ومع ذلك فلا يزال هذا الكاتب يذكر كيف أحس النشوة بتلك العبارة الجميلة، وكيف أدرك بوجدانه أن الترجمة العربية في عبارة المدرس قد جاءت مطابقة أكمل تطابق مع الأصل الإنجليزي.
وأقول إنه أدرك ذلك التطابق بوجدانه؛ لأنه بالطبع لم يكن في تلك السن الباكرة قادرا على التحليل العقلي، وكبر الطفل شابا، فرجلا، فشيخا، وبقيت تلك اللحظة راسخة في ذاكرته، أضاف إليها على مراحل العمر قدرة تزايدت مع الدراسة، على الفهم الأشمل والأعمق، فطرح على نفسه ذات يوم سؤالا يسأل به عن المقارنة الدقيقة بين تلك الجملة عن أحمد وحصانه الجميل، في صورتيها الإنجليزية والعربية، لعله يقع على السر الذي أدركه طفل العاشرة بوجدانه، حين أدرك التطابق بين الجملة في صورتيها، فكان أول ما أجاب به هذا الكاتب عن السؤال الذي طرحه على نفسه، هو أن هناك فرقا بين مجموعتين من المفردات اللغوية المستخدمة في كل من الصورتين؛ أما المجموعة الأولى فتتألف من العناصر المشتركة بين الحالتين، والتي لم يكن لأحد مفر من أن يجعلها مشتركة، وهي في هذه الحالة ثلاثة عناصر، أحمد، والحصان، وجميل. وأما المجموعة الثانية فتتألف من العناصر المعبرة عن الوقع النفسي عند المتحدث، وهي في هذه الحالة - بالنسبة إلى الجملة العربية - «يا له من» و«عند»، وما يقابلهما في الصورة الإنجليزية، وإذا دققنا النظر في هذه المجموعة الثانية، وجدنا اختلافا واضحا بين الصورتين الإنجليزية والعربية، ولهذا الاختلاف أهمية كبرى سنشير إليها بعد قليل، فقول العربي «يا له من» بعيد عن قول الإنجليزي فيما يقابل ذلك، وقول العربي «عند» أحمد، مختلف اختلافا له مغزاه عن قول الإنجليزي «يملكه» أحمد، فبينما «الملكية» التي يشار إليها في الجملة الإنجليزية توهم بدوام العلاقة بين المالك وما يملكه، نرى «العندية» في الجملة العربية متضمنة معنى الزوال؛ لأن العندية مجرد صلة مكانية، قد تكون اليوم ولا تكون غدا.
وهنا نعرض على القارئ الأهمية الكبرى - بالنسبة إلى موضوعنا - التي نراها كامنة في الفرق بين الصورة العربية والصورة الإنجليزية لجملة واحدة مما يجري على ألسنة الأطفال، وهو فرق نستطيع بعد ذلك تكبيره، فنجده فارقا بين ثقافتين؛ الثقافة العربية من جهة، والثقافة الإنجليزية، أو قل على نحو التقريب الثقافة الغربية من جهة أخرى؛ فقد رأينا في الجملة البسيطة التي تحدثت عن حصان أحمد وكم هو جميل، مما ورد في مطالعة إنجليزية لأطفال في سن العاشرة أو ما دونها، أن الصورة الإنجليزية والصورة المتمثلة في ترجمتها العربية، تتلاقيان حتما في عناصر مشتركة، هي في هذه الحالة المعينة: الحصان ، وأحمد، وجميل ، لكنهما مختلفتان في طريقة التعبير عن وقع الجمال في نفس الرائي، كما تختلفان كذلك في تصور العلاقة بين الحصان وصاحبه، وهي علاقة عبرت عنها اللغة العربية بما يشير إلى مجرد «التجاور» في مكان واحد، كل هذا والأمر هنا هو أمر ترجمة من اللغة الأولى إلى اللغة الثانية، ترجمة شهدنا لها بالدقة، فما معنى هذه المقارنة بين الصورتين؟ معناها أن الثقافتين المختلفتين، إنما تختلفان في الموقف «النفسي» تجاه الوقائع، لكنهما لا تختلفان في الوقائع ذاتها؛ فالعربي والإنجليزي معا - في الموقف الذي نحن بصدده الآن - لا يسع أيا منهما إلا أن يقر بوجود حصان وصاحبه، فإذا هما افترضا معا أن الحصان «جميل» أراد كل منهما أن يعبر عن ذلك الجمال المفترض، اختلف أحدهما عن الآخر في طريقة التعبير من جهة، وفي المضمون النفسي الذي يريد أن يعبر عنه من جهة أخرى، وذلك هو نفسه الموقف الذي نراه ماثلا أمامنا، إذا ما أجرينا المقارنة بين ثقافتين بأكملهما، لا بين جملتين وردت إحداهما في كتاب إنجليزي يطالعه أطفال صغار، وأوردنا الأخرى في ترجمة عربية لها، فإذا نحن تأملنا الجسم الضخم الذي نسميه «ثقافة عربية»، والجسم الضخم الآخر الذي نسميه «ثقافة إنجليزية» وجدنا مشاركة محتومة في «وقائع»؛ لأن الوقائع تفرض نفسها على الناس فرضا؛ فالأرض أرض، والسماء سماء، والبحر بحر، وهذا أرنب وتلك ذبابة، وإذا أراد رجلان من رجال «العلم»، أحدهما عربي والآخر إنجليزي، أن يبحثا في صخر الأرض، أو في أفلاك السماء، أو في ملوحة البحر، أو في التركيب العضوي للأرنب والذبابة، كان الاتفاق بينهما كاملا في تحديد «الموضوع»، ثم انحصر التفاوت بينهما بعد ذلك في القدرة العلمية عند البحث في تفصيلات ذلك الموضوع، وأما إذا ما كان الأمر أمر وقفة «نفسية» تجاه موضوع ما من موضوعات الواقع فعندئذ يكون الاختلاف - كبر ذلك الاختلاف أو صغر - فالكلب «نجس» عند العربي ويجب الحذر من ملامسته، مع أنه عند الإنجليزي فرد من أفراد الأسرة التي ينتمي إليها، والذبابة عند العربي شيء قد يستهان به ، لكنها عند الإنجليزي خطر مخيف.
अज्ञात पृष्ठ
وننقل هذا القول نفسه إلى مستوى «العلم» - و«العلم» في هذه الحالة هو علم النفس - فيصبح كما يلي: أننا إذا حللنا الحياة الإنسانية إلى أصغر وحداتها، وجدنا تلك الوحدة الأولية طريقا مؤلفا من ثلاث حلقات، اثنتان منها ظاهرتان لمن شاء أن يرى، والثالثة مطوية في جوف الإنسان، فأولى الحلقات هي أن يتلقى الإنسان من العالم الذي حوله «مؤثرات» تقع على حواسه المختلفة، من بصر أو سمع أو غيرهما من أعضاء الحس، كأن تتلقى العين ضوءا أو أن تتلقى الأذن صوتا، وهكذا، والحلقة الثانية هي أن تفعل تلك المؤثرات فعلها في مكنونات الكيان العضوي، مما قد يسهل تحليله وتحديده أو يتعذر، والذي يهمنا في سياق حديثنا هذا، هو أن هنالك مجموعة ضخمة ومعقدة ومتشابكة من عناصر تكمن في بواطننا؛ منها الغرائز، ومنها المشاعر، ومنها ذكريات عما قد تعلمناه ونشأنا عليه، ومنها اعتقادات وعقائد آمنا بها حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من نفوسنا، ومنها «قيم» بثت فينا منذ كنا رضعا على حجور أمهاتنا، تراكمت فأصبحت في توجيهنا مثل الدفة في السفينة، وهي هي نفسها التي نجملها كلها في كائن موحد ونطلق عليه اسم «الضمير». هذه المكنونات كلها التي تكمن طي نفوسنا هي التي تتلقى المؤثرات الآتية إلينا من العالم المحيط بنا، فتتأثر على نحو ما، يختلف باختلاف الأفراد في الأسرة الواحدة، أو في الشعب الواحد، ثم تختلف بين الشعب الواحد المعين وسائر الشعوب، وأخيرا تجيء الحلقة الثالثة، وهي النمط السلوكي الذي ينتج عن الطريقة التي تأثرنا بها في الحلقة الثانية؛ فقد يرى شخصان شيئا ما (وهذه هي الحلقة الأولى) فيتأثر كل منهما بما يراه على نحو متفق مع مكنونه النفسي (وهذه هي الحلقة الثانية)، وأخيرا يسلك كل منهما وفق ما يوجهه إليه ذلك التأثر الباطني (وهذه هي الحلقة الثالثة). وخذ مثلا لذلك زعيما يهيب بأمته أن تثور على ما يحيق بها من استعباد أو استبداد وظلم، فيتلقى صيحته مواطنوه، كما يتلقاها المستعبد لهؤلاء المواطنين، فيكون الأثر الداخلي عند المواطنين تمجيدا لصيحة زعيمهم واستجابة لها، في حين يكون الأثر للصيحة نفسها عند من استعبد واستبد وظلم، فزعا ونفورا، فإذا ما انتقل الفريقان من مرحلة التأثر الداخلي إلى مرحلة السلوك الخارجي رأينا «ثورة» من الفريق الأول - فريق المواطنين - ورأينا «مقاومة للثورة» عند الفريق الثاني - فريق المتسلطين استعبادا واستبدادا وظلما - وهكذا نرى المؤثر الواحد المعين، يلتقي بنوعين من مكنون النفس، فيخرج نمطان مختلفان للسلوك. وقد يكون من الضروري هنا، أن يعلم القارئ بأن رد الحياة الإنسانية بكل تعقيداتها، إلى وحدات ثلاثية الحلقات، مسألة لا يجمع عليها كل علماء النفس المحدثين والمعاصرين؛ إذ قد يردها فريق منهم إلى وحدات ثنائية الحلقات، بحيث لا يكون هناك إلا «مؤثر» يقع على حواس الإنسان من خارج. و«استجابة» سلوكية تنبني عليه، فهذا الرأي يسقط من حسابه ما هو مكنون في الكيان العضوي، وعذرهم في ذلك هو إصرارهم على أن يصبح علم النفس «علما» كأي علم آخر يبحث في ظاهرة تخضع للمشاهدة والحساب فهم لا يريدون أن ينكروا أن للنفس مكنونها، لكنهم لا يريدون أن يقيموا عليه «علما» لأنه خاف مجهول؛ شأنهم في ذلك شأن عالم في الفيزياء أو الكيمياء، يرصد ما «يظهر» ويستخرج قوانينه، مسقطا من حسابه ما يخفى سواء عليه أكان ذلك الخافي موجودا أم كان معدوما، فأمره موكول إلى غير «العلم» من مجالات الاهتمام.
وعلى هذا الأساس العلمي في تحليل الحياة الإنسانية إلى وحداتها البسيطة، ننتقل بحديثنا إلى «الثقافات» وكيف تختص كل ثقافة بما يميزها، ثم كيف هي في الوقت نفسه تتفاعل مع ثقافات أخرى مما قد تلتقي به في حرب أو في سلم؛ ففي الحلقة الأولى من الحلقات الثلاث (إذا أخذنا بثلاثية الحلقات في الوحدات البسيطة) وأعني بالحلقة الأولى ما أسلفناه، وهو أنها مرحلة «إدراكية» يتلقى فيها الكائن الحي - إنسان وغير إنسان - مؤثرات بيئته المحيطة به، وهنا لا بد أن تختلف مجموعة المؤثرات في ساكن الصحراء عنها في ساكن الأرض المخضرة بزرعها، وأن تختلف مجموعة المؤثرات في ساكن السهل عنها في ساكن الجبل ، وفيمن تتصل حياته بالبحر عمن تتصل حياته باليابس. هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشعوب أو الأفراد الذين يحيون في بيئة واحدة من حيث الظروف الطبيعية، يعودون فيختلفون فيما بينهم في هذه الحلقة الأولى - أعني مرحلة استقبال الإنسان للمؤثرات الخارجية - اختلافا تعليميا وتربويا، بمعنى أن تنشأ جماعة منهم على نمط من التعليم والتربية يفتح أعينهم وآذانهم وسائر حواسهم لما يجري حولهم، فيدركون منه ما لا تدركه جماعة أخرى تحيط بها الظروف الطبيعية نفسها، لكنها لم تجد تربية وتعليما يعملان على دقة الإدراك واتساع أفقه وعمق أغواره، مع أن المرئي هو نفسه المرئي عند الجماعة الأولى، والمسموع هو المسموع، فينتهي الأمر بالجماعتين إلى اختلاف ثقافي بعيد المدى، برغم تجانس المؤثرات الطبيعية التي تؤثر بها عوامل البيئة في كل منهما؛ ففي الجماعة الأولى نجد المعرفة الواعية قد غزرت وتنوعت، حتى لينتقل بها أصحابها إلى ارتقاء على مستوى العلوم المختلفة، وما يترتب على تلك العلوم من نتائج في دنيا العمل والتطبيق. وأما الجماعة الثانية فتصدمها المؤثرات نفسها، لكنها تكون كماء المطر ينزل على صخرة صماء فينحدر على سطحها دون أن تستجيب له الصخرة بنبتة خضراء. وتكون العلة في ذلك الجدب في الجماعة الثانية افتقارها إلى تربية وتعليم.
تلك - إذن - هي الحلقة الأولى من الحلقات الثلاث، وما قد تحدثه من تباين ثقافي بين الأفراد وبين الشعوب، وهو تباين تستطيع - كما ترى - أن تقول عنه إنه مما يمكن التغلب عليه إذا أردنا له أن يزول؛ لأنه تباين لم ينشأ عن ضرورة حتمية بقدر ما نشأ عن عوامل متغيرة، فإذا لاحظنا - مثلا - أن حياة الثقافة العربية الآن - التي هي حياتنا، نحياها كل يوم في ساعات العمل وفي ساعات الفراغ، أقول إننا إذا لاحظنا أن حياة الثقافة العربية قد بلغت من الفقر حدا لا يجوز لها معه أن تطمع في أن تكون ذات أثر في توجيه التيارات الفكرية في العالم، فلا هي تملك الأثر الفعال في سياسة ولا في اقتصاد ولا في عقيدة ، فالسياسة توضع هناك في مخابئ الشياطين، ولا ندري نحن إلا أن نجد الكوارث قد حلت توقعنا في حبائلها وقوع الأشل العاجز، والاقتصاد يضطرب بموجه صعودا وهبوطا هناك في أوكار الأبالسة، فما نحن إلا وقد رأينا العالم قد انقسم إلى شمال غني بموارد الجنوب بعد أن يخضعها للعلم والصناعة، وإلى جنوب باع موارده بثمن بخس واشترى صناعات الشمال بثمن مرتفع، ولم يعد يملك سوى أن يمد إلى أبالسة الشمال أكف الضراعة يطلب العون والقرض والصدقات، وفي دنيا العقائد ترانا وقد اتسعت في حياتنا فجوات واسعة وعميقة بين «إيمان» نصوغه لفظا و«عمل» لا يكاد يمت إلى ذلك الإيمان بسبب من الأسباب، أقول مرة أخرى: إننا إذا لاحظنا أن حياتنا الثقافية العربية قد بلغت هذا الحد من الضحالة والعوز، فليس يعني ذلك - ما دمنا عند الحلقة الأولى التي هي مرحلة الانطباع بما حولنا من مؤثرات - أننا أمام عقبة يستحيل علينا اقتحامها، بل الأمر فيها على غير ذلك؛ لأن نقص الإدراك نقيصة تعالجها في جيل واحد تربية سليمة وتعليم منتج، وليس في إصلاح المرحلة الإدراكية أو في تغييرها من حال الفقر إلى حال الغنى، ومن حالة الغموض إلى حالة الدقة، ليس في أي شيء من ذلك التغيير ما يمس شخصيتنا العربية بحيث نخشى أن يظهر من أولي أمرنا من يعارضه ويقاومه.
فإذا انتقلنا بأنظارنا إلى الحلقة الثانية، حيث مكنونات البواطن التي أسلفنا ذكرها، فها هنا نجد العقبة العصية التي تستدعي النظر الهادئ المتأمل؛ إذ ها هنا يكمن المصدر الحقيقي لما تتنوع به الثقافات المختلفة بين أفراد الشعب الواحد أولا، ثم بين شعب وسائر الشعوب ثانيا، فالمؤثرات التي ينطبع بها الإنسان آتية إليه من خارجه، لا قيمة لها في ذاتها معزولة عن وقوعها في ذلك المضمون الحشوي الذي يكمن في جوانح صدورنا. إن حدثا واحدا معينا قد يضحك إنسانا ويبكي إنسانا آخر، فالحدث هو نفسه الحدث عند كليهما، لكن كوامن النفس في أحدهما ليست هي كوامن النفس في الآخر. ضع لهبا من نار على ورقة تشتعل ، لكن ضع ذلك اللهب على ماء ينطفئ. وفي ذلك المضمون الحشوي تتشكل الرؤية الثقافية في الفرد الواحد، وفي مجموع الشعب، فإذا كان لأحد أن يغير من نفسه، أو من شعبه، رؤيته الثقافية، ليستبدل بالضعف قوة، وبالجهل علما، وبالفقر غنى، وبالمرض النفسي صحة وعافية، فقليل من ذلك ما يعتمد على مرحلة الإدراك الأولى، بالقياس إلى الكثير الصعب الذي لا بد من عمله لتغيير المضمون الحشوي الذي أشرنا إليه، والذي أشار إليه فلاسفة أقدمون - مثل أفلاطون وفرانسيس بيكون - بأنه بمنزلة كهف قعد فيه ساكنه بحيث أدار ظهره لفتحة الخروج، واتجه ببصره نحو الجدار الداخلي، فلا يعرف عن الدنيا الخارجية شيئا إلا ظلالا يراها تتحرك على الجدران منعكسة عن المارة في الطريق العام، مضافا إليها مخزون نفسه، ومع ذلك فالوهم يخيل له أنه يعرف عن الدنيا حقائقها.
ولكن متى وكيف يلجأ «العاقل» إلى تغيير مضمونه الحشوي هذا الذي بفعله تتشكل رؤية الإنسان؟ إن الجواب عن هذا السؤال مرهون بالحلقة الثالثة، التي هي مرحلة السلوك؛ فسلوك الإنسان - كما قلنا - هو محصلة تنشأ مما وقع عليه من مؤثرات خارجية، بعد أن تتلقاها مخزونات الباطن فتوجه فعلها بحسب ما يتفق مع عناصرها، وعندئذ تقتضي منا الحكمة أن نرقب سلوكنا هذا، الذي وجهته مخزونات نفوسنا، ليرى إلى أي النهايات ينتهي بنا؟ هو ينتهي بنا إلى ضعف أم إلى قوة؟ إلى مرض أم إلى عافية؟ إلى رفاهية أم إلى شظف العيش؟ فإن وجدناه سلوكا تتعثر به خطواتنا، وتنتكس به حياتنا، وجبت علينا عندئذ مراجعة نفوسنا وما قد انطوت عليه من مخزونات الأفكار التي قد تكون باطلة، والعواطف التي قد تكون مضللة والرغبات التي قد تكون مؤدية بنا إلى دمار، كان علينا أن نغير من طرائق التربية والتعليم، لنصوغ أبناءنا صياغة جديدة تبرأ مما أصبنا به نحن من معوقات.
على أننا إذ نرقب سلوكنا لنرى إلى أي النهايات ينتهي بنا، فلسنا نريد أن تكون المنفعة وحدها مدار الحكم بالنجاح والفشل، بل المدار هو مقومات «الشخصية» التي نريدها لأنفسنا، ومن تلك المقومات ما قد يتطلب منا النصيحة وليس النفع في صورته المادية من كسب أكثر وجاه أقوى، وها هنا تأتي نماذج البطولات في تاريخنا لتجعل منها هاديا يهدينا إلى ما ينبغي أن يتوافر لنا من عناصر الشخصية العربية المنشودة.
إنها هي الحلقة الوسطى التي تتطلب منا طول النظر وحسن التدبير؛ لأنها هي التي تتجمع فيها الدوافع الحركية نحو سلوك يتلاءم مع طبيعتها. إنه لا يكفي أن نملأ الذاكرة بمعارف ومعلومات لا ينجم عنها عاطفة دافعة نحو الهدف الذي نريده، والمهم هو أن نحرص على شحن المعرفة بالانفعال لها، كما هي الحال مع القصائد وهي في شدة حرارتها. ماذا يجدي أن تملأ وسائل الإعلام دنيانا صياحا بأغان وطنية إذا جاءت تلك الأغاني مثيرة للضحك من تفاهة معانيها؟ إنها على الأرجح تحدث عند المتلقي تأثيرا عكسيا لمجرد شعوره بأنه لا مؤلفها ولا ملحنها ولا مؤديها بالغناء صادق مع نفسه وهو يفعل ما يفعله. إن هناك جماعات من الناس لا تجد لها تاريخا فتصيد لنفسها أسطورة تحيا بها وتعرف كيف تجعلها أسطورة تحرك الناس إلى القوة، ونحن نحمل وراء ظهورنا تاريخا حقيقيا شهده الزمان وشهد له، وهو تاريخ لو تقسمه أهل الكوكب الأرضي جميعا لكفاهم دافعا شريفا نحو هدف شريف، ومع ذلك لم نستطع نحن أصحابه أن نستوحيه سداد العمل لنحقق القوة التي نعتصم بها من الهوى والهوان.
إنها هي الحلقة الوسطى التي تستحق منا كل العناية في تربيتنا لأبنائنا وبناتنا؛ ففيها ترسخ العقائد صحيحة أو مغلوطة مهوشة، وفيها تكمن «الإرادة» قوية أو ضعيفة، وفيها تنبت الميول والرغبات والأهواء والحب والكراهية والرضا والسخط والقلق والطمأنينة، وسائر تلك القوى الدافعة لصاحبها أو المانعة، الصاعدة بحاملها نحو الذرى أو الهابطة به إلى الحضيض، فإذا هي انحرفت انحرف صاحبها وإذا هي استقامت استقام، إنها هي الحلقة الثانية التي يتغير مخزونها فيتغير سلوكنا، وهي هي الحلقة التي لا يغير الله ما بنا من تخاذل وتفكك وتسيب ولا مبالاة، إلا إذا بدأنا نحن البشر فغيرناها بصلاح التربية وحسن التعليم ورشاد الإعلام.
وثقافة الفرد أو ثقافة الشعب في مجموعه، لم تخلق للزينة والزخرف والمباهاة والتفاخر، وإنما خلقت لتكون أداة فعل حقيقي على أرض الواقع وتحت سمائه، فعلا يمهد السبيل نحو الصحة والقوة والعزة والعلم والإبداع. إننا إذا رأينا أمتنا العربية قد وهنت عراها، وإذا وجدنا الأفراد في كل قطر واحد قد أعوزتهم أعز خصائص العربي كما هو مرسوم الملامح في ديننا وفي شعرنا وأدبنا وفي كثير جدا من ميادين الحياة، فذلك لأن الحلقة الثانية من خريطة حياتنا قد شاهت بما امتلأت به من عوامل الأنانية والطغيان والانحراف. ليس المهم في الحياة الثقافية أن نقول: هذه ثقافتنا وتلك ثقافة الغرباء. وإنما المهم هو أن نقول هذا عنصر ضعيف في بنائنا الثقافي لا يؤدي بنا إلى عزة، فلنستبدل به ذلك العنصر لأنه أفعل أثرا.
أرأيت إلى مدرس اللغة الإنجليزية الذي حدثتك عنه في أول هذا الحديث؟
अज्ञात पृष्ठ
أرأيت كيف وقف بنا ونحن صغار في سن العاشرة أو ما دونها، أمام جملة إنجليزية بسيطة يريد لها أكمل ترجمة عربية ممكنة؟ ولقد أنار أمامنا الطريق؛ فالوقائع هي الوقائع لا سبيل إلى تبديلها، بل ولا حاجة بنا إلى ذلك التبديل، فهي وقائع لمن يصوغها بالإنجليزية كما هي وقائع كذلك لمن يصوغها بالعربية، وأما الروابط الجمالية التي ربطت تلك الوقائع في عبارة واحدة وتعبير واحد، فلكل لغة وجدان أصحابها وما يتحقق به ذلك الوجدان.
وهكذا قل في البناء الثقافي كله، نثقف به فردا، أو شعبا، أو أمة قوامها عدة شعوب، فلا تنكر للواقع، ثم يجيء المبدعون للثقافة فيخدمون أمتهم في وجدانها الخاص.
أين نضع المبادئ؟
تعالوا نبدأ طريقنا معا من بدايته؟ فقد رددنا في حديثنا السابق حياة الإنسان بكل تعقيداتها وتفصيلاتها، إلى وحداتها البسيطة، على غرار ما يحلل الفيزيائي أو الكيميائي قطعة من مادة ليردها إلى عناصرها الأولية، فبغير هذا التحليل لما نريد فهمه يستحيل علينا ذلك الفهم إذا أردناه على الوجه الأكمل، فوجدنا أبسط الوحدات التي تتركب من تجمعاتها وتركيباتها حياة الإنسان كما نراها في أنفسنا وفي سوانا من الناس، مؤلفة من ثلاث حلقات؛ أولاها حلقة المعرفة التي ندرك بها ما ندركه مما يحيط بنا، أو مما نحسه في أنفسنا وهي معرفة نحصلها من المؤثرات التي تتلقاها حواسنا ضوءا أو صوتا أو لمسا أو ما تصادف أن يكون؟ وثانيتها حلقة قوامها ذلك المحتوى المعقد الذي يكمن في باطن الإنسان، بعضه فطري كالغرائز والانفعالات وبعضه الآخر مكتسب كالعواطف التي تؤسس على انفعالات وكالعقائد التي يتلقاها الفرد من مجتمعه وكالأفكار التي تبدأ أفكارا ثم ترسخ مع الزمن في نفس حاملها حتى ليحسبها جزءا لا يتجزأ من فطرته. هذه العناصر وأمثالها هي التي تتكون منها الحلقة الثانية وهي التي تتلقى ما تنقله إليها الحواس من مؤثرات جاءتها من مصادرها الخارجية أو الداخلية، تتلقاها الحلقة الثانية بكل ما شحنت به من مخزونات العواطف والغرائز وما إليها، لتصبغها بصبغتها هي، وتشكلها على الصورة التي تهواها هي. ولما كان المخزون الباطني يختلف في تفصيلاته من فرد إلى فرد، ثم من شعب إلى شعب، كانت المؤثرات التي جاءتنا من العالم الخارجي، معرضة لكل ضروب التشكيل والتلوين التي تضطلع به مكونات النفس؛ فلا يكفي أن يتأثر شخصان بمؤثر واحد معين لنضمن أن تجيء حياتهما على صورة واحدة؛ لأن ذلك المؤثر سيدخل عند كل منهما في مصنع داخلي مختلف، والله أعلم على أية صورة يخرج ذلك المؤثر من المصنع الداخلي عند كل منهما؛ ومن هنا كانت خطورة هذه الحلقة الثانية - كما أسلفنا في حديثنا السابق - لأنها هي «النفس» التي قد تكون أمارة بالسوء مرة، أو تكون لوامة مرة، أو تنالها رحمة الله فتكون مطمئنة مرة ثالثة، وعلى أساس ما ينتجه ذلك المصنع الداخلي لصاحبه تجيء الحلقة الثالثة - التي هي السلوك الظاهر - الذي يؤدي به سالكه ما يؤديه من عمل - أو من كف عن العمل - مما يقع فيما يشاهده منه الآخرون.
ولكل حلقة من تلك الحلقات الثلاث ضوابطها التي تختص بها، فإذا كانت مهمة الحلقة الأولى هي أن تزود صاحبها بمعرفة يعرفها عن عالمه المحيط به، كي يتصرف على أساس ما يعرفه، فإن ضوابط تلك الحلقة المعرفية تدور كلها حول أن تكون المعرفة التي تنقلها إلى صاحبها معرفة صحيحة لئلا يضل الطريق في سلوكه الذي سيرتبه على ما قد عرف، فلا بد للعين أن تكون دقيقة الإبصار، فإن لم تكن استعانت بالمناظير، فإن لم تسعفها المناظير لجأ الإنسان في هذه الحالة العاجزة إلى مبصر يعينه. ولا بد للأذن أن تكون جيدة السمع، وهكذا قل في سائر الحواس. على أن الحواس لو سلمت كلها من العطب، ينبغي أن يكون وراءها إرادة متعمدة من الإنسان المسئول تلزمه بالأمانة في نقل المعرفة التي تلقاها، وبالصبر على المشاق إذا كان طريقه إلى المعرفة عن طريق حواسه فيه ما يشق عليه. وهكذا تقوم بحكم الضرورة ضوابط كثيرة ملزمة للإنسان في الحلقة المعرفية الأولى، ليضمن لمعرفته أكبر قدر من الصواب. ولقد أمكن استقطاب مجموعة القيم الضابطة للمعرفة تحت عنوان واحد، أو قل تحت قيمة واحدة، هي قيمة «الحق».
فإذا انتقلنا إلى الحلقة الثانية، تلك الحلقة المعتمة بضبابها، المحيرة بعنادها، المربكة بخصوبتها وتراثها، المالكة لزمام صاحبها وكأنه مطية لها، ألجمتها لتتحكم في تسييره في أي اتجاه شاءت هي له أن يسير. ومع كل هذه الطبيعة المتمردة العاصية في الحلقة الثانية، فلها ضوابطها، وإن تكن الضوابط هذه المرة شديدة المرونة في معانيها ومقاصدها حتى لكأنها لا ضوابط. لقد كانت ضوابط «الحق» في الحلقة الأولى مما يمكن تحديده تحديدا فاصلا وحاسما، وحسبك أن تعلم بأنها هي هي نفسها القواعد التي يتناولها بالبحث «علم المنطق» الذي أمكنه أن يبلغ دقة رياضية لا تفلت منها شعرة، في صياغته للقواعد التي تسير عليها الحركة العقلية الاستدلالية لتجيء النتيجة العلمية آخر الأمر يقينا لا يحتمل الشك، وذلك في العلوم المتقدمة في تطبيق المنهج العلمي وكعلوم الطبيعة، أو تجيء تلك النتيجة على درجة عالية من احتمال الصدق، وذلك في العلوم الإنسانية التي لم تبلغ بعد دقة العلوم الطبيعية وإن تكن سائرة على الطريق نحو أن تبلغ تلك الغاية.
كان ذلك هو شأن المعايير الضابطة في الحلقة المعرفية الأولى، حتى إذا ما انتقلنا إلى المرحلة «الوجدانية» الثانية، التي تتلقى المعرفة المحصلة لتلجمها وتتحكم في تشكيلها وتلوينها ثم في توجهها الوجهة التي نريدها لها، وجدنا الضوابط هنا - كما قلنا - مرنة عائمة. ولقد استقطبت ضوابط هذه الحلقة تحت اسم واحد، أو تحت «قيمة» كبرى واحدة هي قيمة الجمال، ولا أنبئك كم ألف مرة تكرر ذكر «الجمال» على لسان هذا الكاتب، منذ عرف في صباه الباكر أن القيم الكبرى، التي تنطوي تحتها جميع القيم الإنسانية هي ثلاث؛ الحق والجمال والخير. ولا بد أن تكون أنت كذلك أيها القارئ قد أجريت لسانك بهذه الأسماء الثلاثة دون أن يستوقفك هذا الاسم الغامض المبهم «جمال» مزعوما له أنه يجمع في معناه مجموعة الضوابط التي يظن أنها ترسم طريق السير الصحيح لمكونات الحلقة الثانية التي هي حلقة وسطى بين حلقة «المعرفة» في طرف أول، وحلقة «العمل» في طرف أخير.
كان هذا الكاتب لعشرات السنين يمر على اسم «الجمال» - من حيث هو اسم على إحدى القيم الثلاث الكبرى - مرور الكرام كما يقال، لا يحاسبه ولا يحاسب نفسه، ولا يراجعه أو يراجع نفسه متسائلا: بأي معنى يراد منا أن نفهم «الجمال» على أنه اسم شامل لضوابط مكونات النفس من غرائز وعواطف وانفعالات وعقائد وأفكار بثت في مخزون النفس بغير تحديد ولا توضيح إلى آخر هذه الأسرة العجيبة من عناصر ذلك المخزون الخبيء في صدورنا والذي يريد أن يكون صاحب الحق المطلق في أن يقول لصاحبه «نعم» و«لا» تجاه ما يصادفه من مواقف تريد منه أن يتصرف على هذا الوجه أو ذاك، فلفظ «الجمال» معروف وشائع على كل لسان؛ ومن هنا يجيء معظم الخطر في إساءة الفهم حين يراد لما يسمى ب «الجمال» أن يكون هو الضابط الذي نرجع إليه في ترشيد «النفس» بمكوناتها التي أشرنا إليها؛ فلقد ألف الناس أن يستخدموا صفة «الجمال» ليصفوا بها غادة حسناء، أو زهرة أو بستانا أو شفق الشمس عند غروبها ، فكيف تمكن هذا المدار الذي تدور في فلكه تلك الاستعمالات وما يماثلها، أن يكون هو المقصود حين يراد ل «الجمال» أن يكون المعيار المرجعي الضابط ل «النفس» وما انطوت عليه من مكونات ذكرنا لك بعضها؟
وكانت اللحظة التي أوقفت هذا الكاتب موقف الحذر إزاء هذه الكلمة ومعناها - وذلك في مجال الفكر الفلسفي أو النقدي وليس في مجال الحياة اليومية العابرة - أقول إن اللحظة التي أوقفت هذا الكاتب موقف الحذر في فهم مصطلح «الجمال» هي تلك اللحظة التي كان يراجع فيها بطاقات الكتب في مكتبة الجامعة، باحثا عن كتاب بعينه للصوفي المعروف «ابن عربي»، وإذا به يقع بين البطاقات على بطاقة لكتاب له عنوانه «الجمال والجلال» فأخذته الدهشة والفرحة معا؛ لأن المشتغلين بالفكر الفلسفي لم يعرفوا أن الفكر العربي قد اشتمل فيما اشتمل، على نظرية خاصة ب «الجمال» كالتي نجد أمثلة لها عند فلاسفة الغرب، وعند المحدثين منهم بصفة خاصة؛ لأن تنظير «الجمال» لم تكتمل صورته على الوجه الذي أصبح معروفا عند أصحاب الفكر الفلسفي، إلا على يدي «بندتو كروتشه» الفيلسوف الإيطالي الحديث الذي ربما عرفه الناس من معارضته لموسوليني معارضة أنزلت به الأذى، أكثر مما عرفوه ذا فلسفة خاصة في فكرة «الجمال» أو في غيرها.
لهذا أخذت هذا الكاتب دهشة وفرحة عندما علم أن لابن عربي كتابا عن «الجمال والجلال». وقبل أن أمضي في الحديث أود للقارئ أن يعرف لمحة سريعة عن الفرق بين «الجمال» و«الجلال» في المصطلح الفلسفي. وربما كان أقرب طريق لبيان الفرق أن نسوق أمثلة فيها المقارنة بين المعنيين، فإذا كان مفهوما لنا أن نصف بالجمال «غادة حسناء، وزهرة وبستانا»، فإن الذي يوصف بالجلال «من حيث هو مصطلح فلسفي في هذا المجال» البحر، والصحراء، والجبل، والمبنى الضخم ذو الأعمدة الشامخة وما إلى ذلك؛ فبينما تثير موضوعات الجمال مشاعر الرقة والتناسق، فإن ما تثيره موضوعات «الجلال» هو الشعور بالعظمة والقوة واللانهاية.
अज्ञात पृष्ठ
ونعود إلى ابن عربي في كتابه «الجمال والجلال»؛ فقد استخرجه هذا الكاتب من خزانته فوجده كتابا صغيرا، بحيث يمكن قراءته في بضع ساعات، فانكب عليه ليقرأ، وإذا بالمعنى المقصود عند المؤلف هو مما لا يطرأ على بال الباحث في يومنا ف «الجمال» الذي يتحدث عنه ابن عربي، هو مجموعة الآيات الكريمة التي تبشر المؤمنين برحمة الله وعفوه وغفرانه وحسن ثوابه. و«الجلال» عنده هو مجموعة الآيات الكريمة التي تتوعد الكافرين بجهنم وسعيرها. على أن ابن عربي يبين لنا كيف تجيء آيات الجمال وآيات الجلال في الكتاب الكريم متعاقبتين فواحدة من هذه تتبعها واحدة من تلك.
وهكذا عاد هذا الكاتب إلى حيرته بالنسبة إلى معنى «الجمال» كما يريده المصطلح السائد. وهو مصطلح - كما ذكرنا - يشير إلى الجمال - بين جوانب أخرى - من حيث هو قيمة ضابطة للحلقة الوسطى، التي هي مكمن الجانب الوجداني من الإنسان، فبأي معنى نفهم هذا المصطلح في هذا السياق؟ وعلى أي أساس يتم انضباط الحياة الوجدانية وترشيدها؟ هنا قد يساعدنا أن نذكر استخدامات مختلفة في لغتنا لكلمة «جمال» وما يشتق منها؛ فمن هذه الاستعمالات للكلمة يجوز أن ينبثق معناها المقصود حين تجيء اسما يسمى «قيمة من القيم الكبرى الثلاث الضابطة لحياة الإنسان الفكرية والعملية على السواء. وهي الحق والجمال والخير.» فنحن نعزي من أصابته كارثة بقولنا: صبرا جميلا. ونذكر بين فضائل السلوك «عرفان الجميل»، ونقول إن فلانا يجامل فلانا. ونقول إنه «يجمل» بنا أن نفعل كذا. ألا ينبثق لنا من هذه الاستعمالات المتباينة معنى «الرحمة» و«العون» وتخفيف العبء عن المكروث؟ وكلها معان تتفق مع اتجاه ابن عربي في تناوله ل «الجمال» في الكتيب الذي أشرنا إليه. وإذا كان هذا هو المقصود، فأظن أن شيئا من الفهم الصحيح لمعيار الجمال من حيث هو إحدى القيم الكبرى الثلاث؛ إذ يناط به ترشيد الحياة الوجدانية عند الإنسان إلى طريق مستقيم، فإذا نظرنا على ضوء هذا المعنى إلى مختلف العناصر التي منها يتألف مضمون الحلقة الثانية، وهي التي جعلناها مرحلة وسطى في الحياة الإنسانية بين «المعرفة» من ناحية والإجراء السلوكي لما قد عرفناه من ناحية أخرى، أقول إننا إذا نظرنا إلى عناصر تلك الحلقة الوسطى ووجدناها تتباين في غرائز، وانفعالات، وعواطف واعتقادات فيما يجب وما يجوز وما يمتنع، وجدنا معنى مفهوما في ترشيد هذه المتباينات كلها بضوابط «التسامح» أو «العفو» أو الرحمة أو المواساة أو غير ذلك من الصفات التي تجري مجراها. وإذن فذلك هو معنى «الجمال» حين يكون معيارا بين معايير ثلاثة أجمع كل ذي شأن على أنها هي الضوابط التي منها وفي إطارها ينشأ الإنسان في أكمل صورة إنسانية ممكنة.
ولعلك تستطيع الآن أن ترى كيف تتفاوت درجة الدقة في تحديد المعنى بين قيمة «الحق» في مجال المعرفة والعلم، وقيمة الجمال في مجال الجانب الوجداني من حياة الإنسان؛ فبينما نجد معايير الصدق العلمي على درجة من الدقة مكنت المشتغلين بالعلوم من الاتفاق على ما هو صحيح مقبول وما هو خطأ مرفوض، نرى مثل هذا الاتفاق في المجال الوجداني متعذرا في كثير جدا من الحالات، فهذا يحب ما يكرهه ذاك، وما تستريح له النفس عند زيد يكون هو نفسه مصدر القلق عند خالد؛ إذ ما دام المعيار الضابط في هذا المجال، هو - كما ذكرنا - الجمال بمعان تدور حول طمأنينة النفس، فهو معيار مبهم الحدود؛ ومن هنا كان الرأي عند هذا الكاتب، هو أن نجعل مثلنا الأعلى في تربية أبنائنا وبناتنا، أن يقوى الجانب العقلي العلمي المعرفي منهم، وأن يخفت صوت الوجدان الذي هو قلب الحلقة الثانية في تحليلنا الذي قدمناه للحياة الإنسانية.
وبقيت الحلقة الثالثة التي هي مرحلة «التنفيذ» لما قد أدركناه أولا في الحلقة الأولى، وما شكلناه على هوانا ثانيا في المرحلة الثانية. ومرحلة التنفيذ هذه هي مرحلة السلوك، مرحلة الفعل، مرحلة «الأخلاق»؛ فكلمة «الأخلاق» ينصب معناها مباشرة على مجال السلوك؛ ولهذا كانت القيمة الكبرى هنا، وأعني المعيار الذي يقاس إليه نصيب الفعل المعين من الأخلاقية هو «الخير» فكل الفضائل إنما عدت فضائل لكونها مؤدية آخر الأمر إلى ما فيه الخير للإنسان فردا أو جماعة، وقد لا يظهر ذلك بصورة سريعة ومباشرة، بل قد لا يجيء هذا الخير لفاعل الفضيلة في حياته الدنيا، فيكون جزاؤه الحسن في الحياة الآخرة.
وهنا في مجال الأخلاق ترد «المبادئ» التي جعلناها هدفنا من هذا الحديث؛ لأن فهمها فهما صحيحا ركن أساسي في استقامة الحياة الثقافية كلها وبصفة خاصة حين تتفاعل الثقافات بعضها مع بعض أخذا وعطاء؛ لأن أحدا لا يجادل في أن مثل هذا التفاعل أمر لا مفر منه، فالناس من ثقافات مختلفة يلتقون بعضا ببعض، ولا مناص عندئذ من أن يأخذ بعضهم عن بعض، أرادوا ذلك عن عمد وتدبير أم لم يريدوه، فإذا ما جاءت مرحلة التقويم النظري لرجال الفكر في بلد معين، إذ يحاولون النظر فيما أخذه مواطنوهم عن شعوب أخرى من صور الفكر والأدب والحياة العملية ليروا مقدار ما أصابوا فيما أخذوه عن الغرباء ومقدار ما أخطئوا فعندئذ يكون مناط الحكم بالقبول أو بالرفض هو المساس ب «مبادئهم» الأخلاقية الأصيلة التي تعد من أقوى ركائز الشخصية القومية لشعب من الشعوب، فما الذي نعنيه بكلمة «مبادئ»؟ وهل يجوز أو لا يجوز لجماعة من الناس أن تغير هذا المبدأ أو ذاك من مبادئها الأصيلة، وإذا كان ذلك جائزا فمتى يجوز؟
إن كلمة «مبدأ» تدل بذاتها على معناها دلالة واضحة مباشرة مستقيمة، لا نلجأ فيها إلى تشبيه أو مجاز؛ فالمبدأ هو النقطة أو الفكرة التي نبدأ منها السير في عملية التفكير، وذلك لأن العملية الفكرية مستحيلة بغير فكرة ما توضع افتراضا على أنها صحيحة، ومن تلك الفكرة المسلم بها يستدل العقل ما يستدله من نتائج، وتكون تلك النتائج صحيحة على أساس الفكرة التي بدأنا منها خطواتنا الاستدلالية. ولقد سبق لهذا الكاتب في مناسبات كثيرة أن حدد المعنى المقصود بكلمة «عقل»؛ لأنها كلمة بالغة الأهمية في حياة الفكر، تتردد على الألسنة دون أن يكون معناها الدقيق حاضرا عند من يستخدمها، فكثيرا ما نقع في خطأ وخلط؛ فللإنسان بحكم طبيعته أكثر من وسيلة إدراكية يدرك بها صحة الأفكار أو بطلانها، وأجدى تلك الوسائل هي وسيلة الإدراك العقلي، وهي الوسيلة الخاصة بالتفكير العلمي أيا كان الموضوع المطروح للبحث العلمي. إذن فمن المهم أن نعرف ماذا يميز هذا النمط الإدراكي المعين الذي يكون العقل وسيلته. ونعيد ما ذكرناه في مناسبات كثيرة سابقة وهو أن الفاصل الذي يميز «العقل» عن سائر وسائل الإدراك هو أنه حركة انتقالية من مقدمة إلى نتيجة تترتب عليها؛ أي إنه يدرك الحقيقة التي يدركها بطريق غير مباشر؛ إذ لا بد له أن يتخذ وسيطا يوصله إلى الحقيقة المراد الوصول إليها، والوسيط هو المقدمة التي ينتقل منها إلى نتيجتها. لكن قارن هذا الطريق العقلي بالطريق الإيماني في رؤية الحق، تجد الفرق واضحا؛ فبينما يريد العقل وسيطا يتكئ عليه لينفذ منه إلى حقيقة ما ترى الإيمان يلمع بالحقيقة لمعا مباشرا بلا وسيط من مقدمة أو مقدمات.
فقيام «مبدأ» - إذن - ضروري للعملية الفكرية أيا كانت، فإذا كان المجال مجال علم رياضي، رأيت عند بداية الطريق حقائق تؤخذ مأخذ التسليم بغير برهان لا لأنه يستحيل على عالم الرياضة أن يبدأ من سواها، بل لأنه لا بد له من شيء يبدأ منه ليستدل، وبراعة العالم النابغ في علم الرياضة، هو أنه - حين يختار ما يبدأ منه سيره الرياضي - يعرف كيف يختار البداية التي تنتج نتائج نافعة في دنيا التطبيق. وفي العلوم الطبيعية كذلك لا بد من فكرة أو أفكار توضع في البدء على سبيل الاقتراح؛ أي على سبيل افتراض أنها صحيحة، لنستدل منها ما يمكن استدلاله من قوانين علمية، ثم يكون لسلامة التطبيق على دنيا الواقع الحكم الفصل في قبول ما كنا قد وضعناه موضع الاقتراح أو الافتراض. كل ذلك معروف وواضح بالنسبة إلى بدايات السير العقلي وطريقة ذلك السير. حتى إذا ما انتقلنا إلى مجال القيم الأخلاقية، رأينا فجأة أن كلمة «مبدأ» قد تعلق بها شيء من التقديس لم يكن لها في مجالات العلوم مع أن الموقف واحد في الحالتين؛ ففي مجال الأخلاق، إذا أردنا أن نحكم على فعل ما بالقبول أو بالرفض، ترانا نرتد به إلى قاعدة عامة لنرى إذا كان أو لم يكن مستدلا منها؛ فهناك - مثلا - مبدأ عام ينهى عن السرقة، فإذا حدث أن اقترف شخص ما فعل السرقة، حكمنا على فعلته باللاأخلاقية، استنادا إلى المبدأ العام، فمن أين جاء الفرق بين مبدأ يبدأ منه عالم في الرياضة أو في علم طبيعي، ليستدل منه، ومبدأ وضعته الأخلاق ليستدل منه ما يجوز فعله وما لا يجوز؟ لماذا هو أمر مشروع للعالم في أي مجال علمي أن يتخذ لنفسه نقطة بدء أخرى إذا ثبت له أن النقطة التي كان بدأ منها أول مرة لم توصله إلى نتائج مفيدة في التطبيق ثم نحرم مثل هذا التبديل على مجال الفكر الأخلاقي؟ فقد يحدث بالفعل أن مبدأ خلقيا معينا كان نافعا في صورة من صور الحياة ولم يعد ينفع في صورة أخرى استحدثتها الحياة في ظل حضارة جديدة. ومع ذلك فهنالك عرف عام بين الناس بأن المبدأ الأخلاقي يجب أن يظل مبدأ أخلاقيا مهما كانت نتائجه من نفع أو ضرر. ونحن نسأل هنا عن الفرق الذي يبيح لعالم الرياضة أو عالم الطبيعة أن يغير مبادئه ولا يبيح ذلك لعالم الأخلاق. إن الإجابة على هذا السؤال - في رأي هذا الكاتب - ستضع أيدينا على فارق بعيد المغزى بين الثقافة العربية في جانب من أهم جوانبها وبين ثقافة الغرب في عصره العلمي الصناعي الراهن.
الفارق الجوهري بين «المبدأ» في مجال العلوم والمبدأ في مجال الأخلاق - فيما يرى هذا الكاتب - هو أن المبدأ في الحالة الأولى ليس مطلوبا لذاته بقدر ما هو مطلوب للنتائج التي تتولد عنه؛ أي إنه وسيلة توصلنا إلى غاية وليس هو نفسه الغاية التي نريد الوصل إليها. كالطبيب وهو يشخص مرض المريض، لا يستهدف التشخيص لذاته، وإلا لاكتفى به وترك مريضه كما وجده، بل هو يقوم بهذا التشخيص ليكون بين يديه بمثابة نقطة البدء التي يستنتج منها خطوات العلاج المؤدي إلى الغاية المقصودة، والتي هي شفاء المريض من علته، وأما المبدأ في عالم الأخلاق فهو إلى جانب كونه نقطة بدء فهو كذلك يشير إلى الغاية المراد الوصول إليها، فإذا كان المبدأ - مثلا - التمسك بالحق والصبر على ما يحيط بذلك التمسك من مشاق، فهو أيضا المنتهى؛ لأن غاية الغايات هنا هي أن ينشأ مجتمع قائم على حق لا يشوبه باطل.
تلك واحدة مما يفرق بين «المبدأ» في مجال العلوم، والمبدأ في مجال الأخلاق. وأما الثانية فهي أن معظم المبادئ الخلقية جاءت إلى الناس وحيا من رسالات السماء، وليست من صنع البشر، وأكثر ما يسع رجال الفكر أن يصنعوه إزاء تلك المبادئ هو أن يحللوها استخراجا لمضامينها، وإذا كانت هنالك طائفة أخرى من مبادئ الأخلاق قد انبثقت للإنسان من واقع حياته العملية، كأن نقول - مثلا - إننا نأخذ بمبدأ مجانية التعليم لجميع المواطنين، وإعمالا لفكرة المساواة، إذن يكون أمامنا مجموعتان من المبادئ الخلقية؛ مجموعة نزلت وحيا، لا يتم الإيمان بالعقيدة الدينية إلا إذا شمل الإيمان بها، ومجموعة أخرى نشأت من واقع الحياة الإنسانية فيصبح من حق الإنسان أن يغيرها إذا تغيرت صورة حياته العملية.
ذلك هو الموقف بالنسبة إلى مبادئ الأخلاق - في رأي هذا الكاتب - وهو موقف يوضح لماذا يمتنع على الإنسان أن يغير مبدأ أخلاقيا إذا ما كان بين المجموعة الموحى بها في رسالة الدين، حتى لو ظن أنه مبدأ لا يوصل الإنسان إلى حياة مزدهرة؛ لأن التبعة الأخلاقية في هذه الحالة تمتد حتى تجاوز الحياة الدنيا إلى عالم الخلد. لكن مثل هذا الموقف لا يلتئم مع الحياة العلمية الصناعية الراهنة في جميع حالاتها؛ ومن هنا نشأت عند رجال الفكر في الغرب فكرة أخرى، مؤداها أن نعامل مبادئ الأخلاق بمثل ما نعامل الفروض في مجالات البحث العلمي؛ أي أن يظل المبدأ قائما ومعمولا به طالما هو الوسيلة الناجحة في تحقيق الأهداف المنشودة، أما إذا تبين عن مبدأ منها أنه عائق في طريق النجاح استبدلنا به سواه مما عساه يوصلنا إلى غاياتنا كما نفعل في مجال البحث العلمي سواء بسواء.
अज्ञात पृष्ठ
كان السؤال الذي طرحناه في هذا الصدد يسأل لماذا يباح للباحث العلمي أن يغير فروضه - التي هي بمثابة نقاط البدء في منهج البحث العلمي - إذا ثبت له أنها فروض لا تؤدي إلى النتائج المطلوبة، ولا يباح مثل ذلك التغيير بالنسبة إلى مبادئ الأخلاق إذا ثبت أنها معوقات في طريق السير الناجح المثمر؟ ولقد قدمنا عن هذا السؤال جوابنا فوضحنا الفوارق بين الحالتين.
فإذا كان هذا الكاتب العربي يبحث في حقيقة موقفه بين الثقافتين فها هو ذا يبرز أين يتفق وأين يختلف. لقد أسلفنا في هذا الحديث وفي الحديث الذي سبقه أساسا علميا لحقيقة الحياة الإنسانية، وهو أساس يبين لنا الوحدات الأولية البسيطة التي تبنى عليها تلك الحياة وكل وحدة منها مؤلفة من ثلاث حلقات؛ معرفة بالواقع ومضمون مختلط العناصر مخبوء في بواطن الإنسان ثم سلوك عملي قائم على تلك المعرفة الأولى بعد أن شكلتها ولونتها العناصر الباطنية، فأين في هذه الحلقات الثلاث تقع مبادئ الأخلاق؟ الجواب عند أعلام من مفكري الغرب - فيما نتصور - هو أنها تقع في الحلقة المعرفية الواقعية الأولى ولذلك فهي قابلة للتغيير كلما تغيرت تلك المعرفة، وأما الجواب عند هذا الكاتب العربي فهو أن تلك المبادئ مجموعتان؛ مجموعة منها جاءت مع الوحي الديني فتكون بهذا جزءا من العقيدة؛ وبالتالي فموقعها هو الحلقة النفسية الثانية، ومجموعة أخرى ولدتها خبرة الإنسان في حياته العملية، وإذن فمصدرها معرفة بشرية، وبذلك يكون مكانها هو الحلقة المعرفية الأولى، وبهذه النظرة الحذرة يستطيع صاحبنا العربي أن يجمع بين الثقافتين في وقفة واحدة فيغير من هيكل حياته ما يمكن أن يتغير لحاقا بموكب العصر ويصون الثوابت لينجو بحياته من التحلل والدمار.
العروبة موقف
1
لم يكد هذا الكاتب يجاوز عامه العشرين، حتى انغمس إلى قمة رأسه في بحر الحياة الثقافية كما يصطحب موجها من حوله. وكان من أبرز القضايا التي شغلت الأقلام في مصر عندئذ، انتماء المصري لأي عهد من تاريخه الطويل يعود؟ وفي تلك المعركة القلمية الساخنة، كان الصوت العالي الذي يملأ الأسماع هو القائلين بوجوب انتماء المصري من حيث الأساس، إلى العصر الفرعوني؛ ففضلا عن كون هذا الانتماء حقيقة تاريخية لا يجوز لها أن توضع بين الناس موضع «الرأي» الذي يقبله فريق ويرفضه فريق، فهو انتماء فيه من المجد ما يرتفع به عن مضمار التنافس مع سواه؛ فمن ذا الذي «يبيع سمسما مقشورا بسمسم غير مقشور»؟ «كما قال ابن المقفع» على أن أولئك الأعلام الذين دعوا يومئذ إلى الانتماء الفرعوني للمصري، لم يريدوا - بالطبع - لتلك الدعوة المصرية أن تشمل الجانب الديني.
فهل كان في وسع ذلك الشاب أن يخرج من المعمعة بشيء غير الذي جرت به أقدر الأقلام؟ وهكذا كان، وهكذا دامت به الحال فترة من الزمن لم تقل عن عقدين، لكنه خلال تلك الفترة كان يتحول من مرحلة الانفعال إلى مرحلة العقل، فلم يعد أمره مقصورا على أن يتلقى ما يكتبه له سواه، بل أضاف إلى ذلك جانبا آخر يشارك به في الرأي يكتبه لمن يقرأ، وهو تحول من شأنه أن يصطحب شعورا بالتبعة العقلية يبثه في ضمير الكاتب؛ فأنت إذ تقرأ ما كتبه آخرون، فقد تقبل في صمت وقد ترفض في صمت فلا يؤرق ضميرك شيء. أما إذا كتبت ليقرأ آخرون، فها هنا تحس عند كل عبارة تخطها وازع الضمير يراجعك ويحاسبك، فتأخذ في نوع من إمعان فكرك فيما تريد أن تقدمه لقارئك، وتتساءل عند كل كلمة: ترى أهي الكلمة التي تؤتمن على حمل المعنى المراد نقله إلى الناس؟ وحصيلة هذه النقلة من موقف قارئ غير مسئول عما قرأ، إلى موقف كاتب مسئول أمام ضميره عن صدق ما يكتبه ودقة معناه، أقول إن حصيلة ذلك هي إطالة النظر في الفكرة قبل عرضها، لا سيما إذا كان لها من الخطورة ما لفكرة «الانتماء» من خطورة.
أصحيح ما دعا إليه أعلامنا في مصر خلال العشرينات - ولا أقول «العشرينيات» - وما بعدها بقليل، من أن مسألة الانتماء المصري هي مسألة تضع المصري بين ضدين، فهو إما إلى هذا الضد منهما وإما إلى ذلك؛ أي إنه إما يرتد بانتمائه إلى أصوله الفرعونية القديمة وإما أن يقف من ماضيه عند ولادة تاريخه العربي؟ اللهم لا ؛ فذلك لا يختلف كثيرا عن شجرة تسأل نفسها: أترجع أصولها إلى الجذور أم إلى الجذع والفروع؟ ومنذ تبين لهذا الكاتب أن الأمر هو من الوضوح بحيث لا يحتمل مجرد السؤال، لم يعد يساوره شك. على أن ذلك اليقين القاطع، لا ينفي أن يتطلب موضوع الانتماء تحليلات كثيرة توضح ما غمض منه. وهكذا فعلت في مناسبات سابقة، وهكذا أفعل الآن؛ فلقد قرأت منذ قريب لأكثر من كاتب يعيدون النغمة القديمة على أوتار جديدة، كأن يقولوا إننا إذا تحدثنا عن «التراث» فلا يكون المقصود هو ثقافة الصحراء، بل المقصود هو ما أبدعه الوادي المزروع منذ فجر التاريخ. والذين يقولون ذلك فإنما يقولونه بلغة الصحراء، يقولونه وكأن الأمر أمر اختيار بين ضدين؛ فإما هذا الضد وإما ذلك الضد، ولا يرون الحقيقة الجغرافية الناصعة وهي أن الوطن العربي الكبير إنما هو صحراء واحدة فسيحة الأرجاء تمتد من المحيط إلى الخليج - كما نقول - وتتخللها «واحات» بعضها كبير وبعضها صغير، ووادي النيل هو واحة كبرى في صحراء الوطن العربي، فإذا كانت حياة الزراعة فيه قد غرست في أهله نزعات تتفق وحياة المزارع، فكذلك الصحراء المحيطة بهم قد تركت بدورها نزعات بدوية؛ ومن هنا وجب الحذر عند التعميم؛ فأخلاق المصري نسيج متألف الخيوط بين زراعة وبداوة. وإذا لم يكن الأمر كذلك لما رأينا الفلاح المصري في القرى يستمع أحسن ما يستمع إليه في أوقات فراغه «قبل عصر التليفزيون» إلى قصة عنترة وقصة أبي زيد الهلالي وكلتاهما تعكس فروسية البدو. إن الوطن العربي هو ذلك الامتداد الصحراوي العظيم، الذي زركشت حوافيه وأواسطه ببقاع خضراء تكبر هنا وتصغر هناك، وليست مصر استثناء يشذ عن هذه الصورة. وإذا أفلتت منا هذه الحقيقة الأساسية أفلت منا بالتالي مصباح كاشف ينير لنا الطريق إلى فهم صحيح لجوهر «الثقافة العربية».
إن الشبه جد قريب بين الروائي الموهوب في اهتدائه إلى المحور المركزي الذي تدور حوله الشخصية التي يريد تصويرها في روايته وبين رجل الثقافة في بحثه عن المحور الأساسي الذي تدور حوله ثقافة شعب معين ؛ ففي كلتا الحالتين يجد الباحث أمامه تفصيلات لا حصر لها؛ فحياة الفرد الواحد وأكثر منها حياة الشعب الواحد، أو الأمة الواحدة، خضم هائل من الأحداث التي قد تبدو للوهلة الأولى متفرقات مبعثرة لا سبيل إلى جمعها في كيان عضوي واحد. إلا أن الأديب الروائي الموهوب أو مؤرخ الثقافات المتمرس يستطيع أن يخترق تلك الكثرة من أحداث الحياة العملية وأوضاعها ليصل عند القاع إلى ذلك الينبوع المستتر، الذي منه انبعثت تلك الكثرة من أحداث الحياة. وإذا وقع الأديب الروائي، أو مؤرخ الثقافة المعينة، على ذلك الينبوع الخبيء كان بمثابة من وقع على المفتاح الذي تنفتح به الأبواب المغلقة، وعندئذ يظهر الفرد المراد تصويره في رواية الأديب، ويظهر جوهر الحياة الثقافية التي يراد تصورها وتصويرها.
فإذا صح ما زعمناه من «صحراوية» في أساس الوطن العربي بأكمله - ممتدا من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي - كان لنا بذلك «مفتاح» الفهم لما نحن بصدده، وهو «الثقافة العربية» لا فرق في ذلك بين قديمها وحديثها. وهذا يتضمن - بالطبع - اعترافا مسبقا منا، بأن هنالك واقعا حقيقيا اسمه «الثقافة العربية» وأن التاريخ قد امتد بهذا الواقع الحقيقي منذ العصر الفلاني في الماضي وإلى يومنا هذا. أما إذا زعم لنا زاعم بأن مثل هذا الشيء لا وجود له في التاريخ، أو أنه كان موجودا في الماضي ولم يعد له اليوم وجود، فإنه يصبح من العبث أن نمضي مع مثل هذا الزاعم المنكر في الحديث.
الغرض الذي نبدأ به حديثنا - إذن - هو أن شيئا اسمه «الثقافة العربية وثقافة مصر جزء منها» كان موجودا وما زال موجودا، وكل ما يطلب منا إزاءه هو أن نقدم «المفتاح» الذي نفتح به مغاليقه لنراه رؤية العين، والمفتاح الذي يقدمه كاتب هذه السطور هو «صحراوية» الثقافة العربية. وأول خطوة نخطوها بعد هذه البداية المقترحة هي أن نأخذ في البحث عما توحيه الصحراء لساكنها عن الكون وعن الإنسان وحياته وعما وراء الكون والإنسان. إذا أحسسنا أن التفسير لا يتم إلا إذا آمنا بأن هنالك «وراء» غير منظور فهل نقول قولا عجبا إذا قلنا إن أول ما توحي به الصحراء لساكنيها هو فكرة اللانهاية؟ إن بصر الرائي أينما توجه، وجد امتدادا لا يعرف أين ينتهي، ولا كيف ينتهي، فإذا ما أقبل الليل واتجه البصر إلى السماء شهد أرتال النجوم التي تفوق العد والإحصاء، فبأي المعاني تنطبع نفس الصحراوي وقلبه وعقله، وهو يشهد تلك اللامتناهيات مكانا وزمانا يوما بعد يوم وعاما بعد عام، إذا هي لم تنطبع بفكرة اللانهائي الذي يسرح فيه الخيال، ويغوص في أغواره الفكر المتأمل ليبدع ذلك الخيال وهذا الفكر ما يبدعانه من معان يسوقها المفكر ويصوغها الشاعر ويهتدي بها الفنان؟
अज्ञात पृष्ठ
وهنا قد يستوقفني قارئ ليصرخ في وجهي قائلا: على رسلك يا أخانا؛ فقد شطحت بنا شطحا يضل ولا يهدي. إن قوله هذا إذا صح على ساكن الصحراء فكيف يصح على ساكن الوادي الأخضر؟ إننا حتى لو أخذنا بما قدمته إلينا من أن الوديان المزروعة وفي مقدمتها وادي النيل إن هي إلا واحات كبرى في الجسم الصحراوي العظيم، فهذا لا ينفي عن الواحة أنها واحة خضراء تختلف في طبيعتها وفيما توحي به إلى ساكنها، عن الصحراء ورمالها. ومثل هذا القائل يشبه من يجتزئ بقعة من رقعة أرض لينكر عليها صلاتها بما يجاورها؛ فكأن ساكن البيت الذي يطل على بحر أو على صحراء لا يتأثر بهواء البحر أو برمال الصحراء. إن الخط الرفيع الذي يفصل وادي مصر عن صحرائها هو نفسه الذي أظهر للمصري شدة الصلة بين الحياة الدنيا وحياة الخلد. لقد رأى المصري كيف يمكن أن يضع إحدى قدميه في أرضه المزروعة، وأن يضع الأخرى على أرض الصحراء؛ ليعلم علم اليقين أن النقلة من دار الحياة العابرة إلى دار الحياة السرمدية مداها خطوة قصيرة، فكان للمصري ما كان في حياته الثقافية، من دين ومن أدب وفن، مما أقامه على تلك العروة الوثقى التي تصل الدارين.
ومن هذا الانطباع الأول عن «اللامتناهي» تولدت عند «الصحراوي» نتائج تشكلت بها وجهة النظر العربية كان من أهمها وأعمقها أثرا ، فكرة العربي عن ديمومة «المبادئ» وثباتها. وأهم تلك المبادئ الثابتة الدائمة التي لا يجوز لها أن تتغير مهما تغيرت ظروف التاريخ، مبادئ الأخلاق. وهنا تجب علينا وقفة شارحة؛ فالإنسان في حياته العملية لا بد له من قواعد عامة يستعين بها على معرفة الطرق المأمونة للسلوك، لا فرق في ذلك بين إنسان العصر الحجري وإنسان الكمبيوتر والصعود إلى القمر، وتلك القواعد العامة الهادية إلى صور السلوك المأمونة من سوء العواقب هي ما يسمونها ب «مبادئ الأخلاق»، وما دام أمرها كذلك فإن الدنيا لم تعرف مجتمعا بشريا بغير أخلاق، لكن اختلاف جماعة من الناس عن جماعة، فيما يختص بوجهة النظر إلى تلك القواعد الأخلاقية يمكنهم في تصور كل منهما لحقيقة تلك القواعد ماذا تكون، وفي مصدرها الذي جاءت منه. أما هذا المصدر فقد تتصوره جماعة بأنه ما دلت عليه الخبرة البشرية فيما مضى من التمييز بين سلوك يضر وسلوك ينفع، وعن طريق هذه الخبرة تجمعت مجموعة من الصور السلوكية التي ثبت نفعها وسلامتها من سوء النتائج، فكانت هذه المجموعة هي «مبادئ الأخلاق». وهكذا كان للجماعات المختلفة وجهات نظر مختلفة عن المصدر الذي نبعث منه تلك المبادئ، يهمنا منها وجهة النظر «الصحراوية» - أو قل «العربية» - وهي أن مصدر تلك المبادئ الأخلاقية إنما هي ذلك «اللامتناهي» الذي رسخت صورته في القلوب، ثم تأيدت تلك الصور وازدادت رسوخا عندما نزل بها وحي من رب العالمين إلى الأنبياء والرسل لينشروها في الناس، حتى أصبحت الصور السلوكية المطلوبة لا تستند في صوابها على نفعها. نعم إنها بالفعل نافعة، لكن الذي يجعلها «مبادئ» هو أن نزل بها وحي من الله سبحانه وتعالى. وإنه لتنتج لنا نتيجة بالغة الأهمية عن هذا الموقف، وهي أن «مبادئ الأخلاق» لا تتبدل ولا تزول، في حين أن من اقتصر على جانب المنفعة في رؤيته للأخلاق مستعد لاستبدال مبدأ بمبدأ آخر إذا أثبتت له خبرة الحياة أن الصورة السلوكية القائمة لم تعد تصلح، فالعربي - إذن - متميز بجانبين؛ فهو أولا يجعل مصدر الأخلاق وحيا، وهو ثانيا يجعل مبادئها ثابتة لا تتحول ولا تتبدل. حتى إذا خيل للإنسان أن مبدأ معينا منها لم يعد يؤدي بالناس إلى منفعة ظاهرة، قال العربي إن الله أعلم من الإنسان بما ينفع وما يضر. وغني عن البيان أن نشير إلى الملاءمة الوثيقة عند العربي بين انطباعه باللانهائي من الكون الذي يحيط به، وبين ما يهديه إليه الوحي الديني من وجوب المبادئ الأخلاقية وجوبا لا يتغير بتغير الأحداث.
وعند هذه النقطة نختصر حديثنا في «المصري» موغلين به فيما قبل الفتح العربي الإسلامي، فماذا نجد في تاريخه الأسبق عن الرؤية الأخلاقية؟ أنراه من الجماعة التي أقامت مبادئها الأخلاقية على خبرة الحياة الماضية في هذه الدنيا؟ أم نراه من الجماعة التي تستمد رؤيتها الأخلاقية من انطباعها باللامتناهي، ومن اعتقادها - بالتالي - في خلود الحياة الآخرة؟ أظن أن الجواب واضح ليس فقط لمن «درس» التاريخ المصري القديم، بل هو واضح كذلك لمن «يحس» بروح ذلك التاريخ، فالعامل المصري القديم يعمل والفنان المصري القديم يبدع والمحارب المصري القديم يحارب، والوالد المصري القديم ينصح ولده، لا بما يتبدل خلال الحياة الدنيا من نفع أو ضرر، بل بما يرضي رب الخليقة يوم أن يكون حساب. وإننا لنرى على جدران المعابد المصرية القديمة صورة «الميزان» الذي سوف يوزن به الأعمال يوم الحساب، فها هي الرؤية «الصحراوية» للأخلاق لم يغير منها أن يكون في قلب الصحراء المصرية واد مزروع.
المثل الأعلى عند العربي - إذن - هو ثبات «المبادئ» التي على أساسها يحكم على سلوك الإنسان بالاستقامة أو الانحراف، وهو ثبات مستمد من الحقيقة الكونية كما ينطبع بها ساكن الصحراء، ثم جاءت الرسالات السماوية لتؤكده. وأود هنا أن أعيد القول مرة أخرى، دفعا للخلط الذي كثيرا ما يقع في ظنون الناس، بأن القيم الأخلاقية ذاتها لا يكاد يختلف عليها شعب مع شعب، لكن الاختلاف إنما يظهر عند عملية التنظير، فنسأل أولا عن مصدر القيم لنعلم من أين جاءت؟ وثانيا نسأل عن تلك القيم أيجوز لها أن تتغير مدلولاتها مع تغير الظروف؟ وموقف العربي في ذلك هو أن تلك القيم هي التي تحكم المتغيرات ولكنها لا تتغير معها، وأن مصدرها وحي السماء من ناحية، وما يتركه المشهد الكوني عند الإنسان من أثر ينطبع به.
ولعل سؤالا يعن للقارئ فيقول: كيف نزعم أن القيم الأخلاقية مشتركة بين سائر الجماعات الإنسانية - أو قل إنها تكاد تكون كذلك - ثم نقرر في الوقت نفسه بأن جماعة من الناس قد تقبل تغيير المبادئ الأخلاقية إذا استوجبت الظروف المتغيرة ذلك التغيير، وأن جماعة أخرى ترفض قابلية تلك المبادئ لمثل ذلك التغيير؟ والجواب الذي يزيل قسطا كبيرا من هذه المفارقة هو أن «أسماء» القيم الأخلاقية لا اختلاف عليها؛ فليس هنالك على وجه الأرض من يوصي - عن مبدأ - بالخيانة والقتل، والسرقة، والأنانية ... إلخ؛ فالكل مجمع على وجوب الأمانة، وحق الحياة وحق الملكية والتعاون ... إلخ. لكن هذه الأسماء - لحسن الحظ - ليست محددة المعاني تحديدا كالذي نجده في المصطلحات الرياضية، المثلث والمربع والدائرة. ولقد كانت هذه المسألة نفسها هي ما تعرض له سقراط؛ إذ جاء ليرفع في عالم الفكر لواء «ترييض» الأخلاق؛ أي أن تحدد مفاهيم الأخلاق على نحو ما تحدد مفاهيم الرياضة حتى لا يتعرض الناس لفوضى الفهم؛ وبالتالي يتعرضون لفوضى السلوك. وأحسب أن المسألة ما زالت تغري بالتعرض لها، وأما من الوجهة العملية فالضرورة تقضي بمرونة المعنى لأنه لا أمل في دقة رياضية لهذه الأسماء القيمية. خذ - مثلا - حق الملكية؛ فإذا أقررنا هذا الحق للإنسان فهل يجوز لرجل واحد - تبعا لذلك - أن يترك ليملك العالم إذا أوتي القدرة على ذلك، أو أن هناك إدراكا فطريا عند الإنسان يوجب وضع الحدود والقيود؟ وإذا أنكرنا حق الملكية على الأفراد - كما تتصور الشيوعية - فهل تصل بهذه الأفكار حدا يحرم الفرد من ملكية ثيابه؟ أو أن هنالك إدراكا فطريا عند الإنسان يوجب أن يترك للفرد حد أدنى من أشياء يتملكها؟ وهكذا قل في شتى القيم من حيث ثباتها وتغيرها، فلا الذي يؤمن بوجوب ثباتها «كما هي الحال بالنسبة إلى الرؤية العربية» يريد بذلك الثبات أن يؤخذ على إطلاقه كما نفعل مع مفاهيم الرياضة، ولا الذي لا يمانع في تغيير المبادئ الأخلاقية إذا تغيرت الظروف بحيث لم تعد تلك المبادئ صالحة لها، يريد بذلك أن تمحى «القيم» محوا، بل يريد أن تفهم على أسس تزيد من مرونتها حتى تتلاءم مع الأوضاع الحضارية المستحدثة.
ومثل هذا الثبات الذي تزيد فيه الدرجة أو تقل مع ظروف الواقع هو الذي نعنيه حين نجعله صورة مثلى أمام العربي. وإننا لنضغط هنا على عبارة «صورة مثلى» لأن القارئ قد ينظر إلى واقع الحياة العربية، فيرى حياة العربي - على وجه الإجمال - بعيدة بعدا شديدا من ذلك المثل الأعلى. لكن ثقافات الشعوب إنما تقاس بأهدافها، وليس بواقعها في مراحل ضعفها، كالرجل القوي تصيبه علة فتلزمه الفراش حتى يشفى، فلا تزول عنه صفة «القوة» تأسيسا على فترة مرضه.
ولا نريد أن نترك هذه الخاصة الخلقية من خواص الرؤية العربية دون أن نثبت حقيقة لغوية تلفت النظر عند من يمعن النظر في اللغة العربية؛ فعندئذ يجد في الأسماء الدالة على علاقات اجتماعية، بعدا خلقيا كامنا في صميم معناها، مما يدل على عمق النظرة الخلقية عند العربي؛ فكلمة «صديق» تقيم في صلب حروفها صفة «الصدق» كأنما يراد القول بأن «الصدق» شرط أساسي للصداقة، وكلمة «جار» تحمل في صلب مبناها أن «يجير» الجار جاره إذا استجار، وإلا بطل معناها، وكلمة «صهر» تحمل في معناها صفة «الانصهار» فإذا لم يكن هناك قابلية أن تنصهر الأسرتان عند الزواج - أعني أسرة الزوج وأسرة الزوجة - كان ذلك معناه امتناع التكافؤ، وكلمة «مرء» تقضي بحكم حروفها أن تكون «المروءة» صفة للإنسان، وكلمة «أمة» تشارك بحروفها كلمة «أم» مما يقضي أن تكون الروابط بين أبناء الأمة الواحدة هي نفسها روابط الرحم وهكذا وهكذا.
هذا الذي أسلفناه عن الوقفة الأخلاقية عند العربي، والتي هي مستوحاة في المقام الأول من روح «الصحراء» في لا نهائيتها البادية وفي ثباتها النسبي، إنما يبين للقارئ جانبا واحدا من جوانب «العروبة» كما ينبغي أن تعيها؛ فالعروبة في جوهرها «موقف » من الكون ومن الحياة، يتميز مما عداه من مواقف تقفها الثقافات الأخرى. لسنا بذلك نريد أن نفاضل بين ثقافة، وثقافة، ولكننا نميز ثقافة عما عداها؛ فليست العروبة دالة على عرق معين، بل هي اسم يشار به إلى مركب ثقافي معين من شأنه أن يهيئ لمن يتشربه ويعيش تحت مظلته «موقفا» يستلهمه عند ردود الفعل، كلما صادفه على طريق الحياة العملية حدث مثير. وننتقل إلى جانب آخر من جوانب ذلك الموقف العربي، وهو «الذوق» الفني، وسنرى أن العربي قد استوحى من الصحراء قيمه الجمالية في دنيا الفن، على نحو ما استوحى قيمه الأخلاقية كما رأينا؛ فلا يزال «المفتاح» هو نفسه المفتاح، وأعني انطباع ساكن الصحراء باللانهائية وبالثبات النسبي، فكيف ترى أن يصاغ «الذوق» الفني نتيجة لهذا الانطباع؟ إن أول ما يقفز إلى الخاطر قفزا جوابا عن هذا السؤال هو أن يكون مدار الإبداع الفني «صورة مجردة» قبل أن تنصب العناية على تحليل الأفراد؛ ومن هنا جاء الأدب العربي القديم أبعد ما يكون الأدب عن فن الرواية أو فن المسرحية كما عرفهما الغرب، وعرفناه نحن حديثا عن الغرب، ولا عجب إن رفض العرب ترجمة الأدب اليوناني القديم بمسرحياته وملاحمه - عندما ترجموا كل ما عداه من فلسفة وعلم. لقد كان المرحوم توفيق الحكيم في مقدمته المستفيضة التي قدم بها مسرحية «أوديب» قد طرح هذا السؤال: لماذا لم ينتج العربي أدب المسرح؟ ثم حاول الجواب وعرض عدة إجابات ممكنة، لكنه نقدها جميعا ليستقر هو على ما ظنه الجواب الصحيح؛ وهو أن العربي بدوي يرتحل من منتجع للكلأ إلى منتجع، فلا تمكنه حياته تلك من القرار في مدينة ولا مسرح إلا حيث الحياة مستقرة في مكان. وحدث لكاتب هذه السطور أن قرأ تلك المقدمة عند ظهورها ونشر ردا عليها يذكر منه الآن أن الاستقرار في مدن قد توافر للعربي طوال العصر الإسلامي؛ في بغداد، ودمشق، والقاهرة وغيرها من العواصم الكبرى، فلماذا لم ينشأ المسرح عندما توافرت له الظروف المستقرة؟ وأما التعليل الصحيح في ظن كاتب هذه السطور فهو أن العربي - عن مبدأ - يتعلق بالكلي المجرد أكثر جدا مما يتعلق ب «الأفراد» والمسرح، «وكذلك الرواية» بضاعتها أفراد من الناس يتفاعلون فتظهر لكل منهم شخصيته المتفردة بخصائصها خلال ذلك التفاعل.
ولا شك أن معظم الطاقة الفنية عند العرب الأولين، قد انصب على الشعر. إذن فلنمعن النظر إلى فن الشعر العربي لنلمح أخص خصائص الإبداع عند الفنان العربي، فأما من حيث الشكل فأول ما يستوقف السمع - بالطبع - تكرارا نمطيا لتفعيلات بينها مع تكرار قافية واحدة، فما الذي أوحى للعربي بهذه الصورة في إبداعه؟ أوحى بها إليه ما قد انطبع به من الواقع الكوني الذي يحيط به، وأعني طبيعة الصحراء في لا نهائيتها البادية، وفي ثباتها الظاهر. إن القصيدة العربية تعرف كيف تبدأ ولا تعرف كيف تنتهي، تماما كما يدير الإنسان بصره في أرض الصحراء وفي سمائها؛ فليس هنالك الجبل الذي يصد سرحة البصر ولا الجدار الذي يحبسها. إن تلك السرحة تبدأ جولانها من نقطة معينة ولا يوقفها إلا ضرورات الشاعر نفسه، كأن يمل السير أو أن يضعف دون المضي فيه، أو أن الزمن يعاجله، إلى القارئ الذي يكرر قافية القصيدة بيتا منها بعد بيت عندما يصل إلى القافية الأخيرة في البيت الأخير، لا يحس عندئذ بأن انتهاء رحلته قد فرضتها الضرورة، بل يحس إحساس من وقف أثناء رحلته ليستريح ثم يستأنف الحركة إذا وجد ما يسعفه. ألست ترى في هذه الحقيقة الفنية في الشعر العربي - إذا كنت قد أصبت في تصويرها - انعكاسا لطبيعة الصحراء عند من يدير البصر في فسيح آفاقها.
أتظن أن الشاعر العربي إذا وصف ناقته أو جواده، وإذا تغزل في عبلة أو في ليلى، كان يريد حقا أن يصف الكائن المفرد المعين الذي يعنيه؟ لا، ليس هذا ما يظنه هذا الكاتب على الأقل، بل إن الشاعر العربي في كل حالاته تلك إنما يصف ما يراه المثل الأعلى للجواد أو للناقة أو للمرأة؛ لأنه في عمق أعماقه متعلق بالمثال المجرد، لا بالمثل الجزئي مما يرى على الأرض؛ وذلك استلهاما لديمومة الحقيقة الصحراوية التي تحيط به، فهو مؤمن في حياته الفنية، كما هو مؤمن في حياته الدينية بأن «كل من عليها فان ويبقى وجه ربك» فلماذا يحصر فنه الشعري - وغير الشعري - في زيد كما يحيا أو في عمرو كما يعيش؟ إنه يتكئ على هذا الفرد أو ذاك، على هذا الطلل أو ذاك، على هذه الواقعة الجزئية أو تلك لينفذ منها إلى ما هو أقرب إلى المثال الأفلاطوني في الموضوع الذي يعالجه. تلك هي «العروبة» في خصائصها، والعربي هو من تجسدت فيه تلك الخصائص.
अज्ञात पृष्ठ
2
ختمنا حديثنا السابق بلمحة سريعة عن الشعر العربي، وكيف تجيء نمطية أوزانه وقوافيه انعكاسا لروح الصحراء كما ينطبع بها ساكنوها، وذلك من حيث الشكل. وأما المحتوى الوجداني فهو كذلك يأتي وكأنه الصدى للانهائية والدوام، اللذين يراهما ويحسهما ساكن الصحراء في الحقيقة الكونية التي تحيط به، فالفلاة اليوم هي الفلاة بالأمس، وكثبان الرمال هي الكثبان، ونجوم السماء والشمس والقمر، هي النجوم والشمس والقمر، كل شيء مسطور أمام العين في وضوح؛ فقلما تغيم السماء لتحجب الرؤية، وقلما يشبع الهواء برطوبة تتغير بها ملامح الأشياء؛ ومن هنا كان تعلق الشاعر بالمثال لا بالمثل؛ فالكائن الجزئي المفرد، كهذا الجواد، وهذه الناقة، وهذه الحسناء، لا يقف الشاعر عند فرديتها وخصوصيتها، بل ينفذ منها إلى ما يكون عليه مثلها الأعلى كما يتصوره خياله؛ فالأفراد يجيئون ويذهبون، يولدون ويموتون، وأما المثال الكامن وراءها فثابت دائم لا يتحول ولا يزول، فقد أصاب من قال عن إيوان كسرى الذي وصفه البحتري في قصيدته السينية، قد بقي على الدهر من حيث هو شعر في ديوان، لكنه سرعان ما زال من حيث هو قصر وإيوان. ربما قيل هذا عن كل شعر وكل فن، في المقارنة بالأشياء التي دار حولها ذلك الشعر وهذا الفن، لكنه في ظن هذا الكاتب، يتمثل في الشعر العربي أكثر مما يتمثل في سواه، وذلك للسبب الذي ذكرناه، وهو أن الشاعر العربي - عن مبدأ وفطرة - يتجه بخياله نحو «المثال» خلال «المثل»، وتلك هي خصيصة من خصائص العروبة؛ فهكذا توحي الصحراء لأبنائها، والصحراء هي مسرح العربي أينما كان، فيما تمتد به الرقعة بين المحيط الأطلسي والخليج العربي.
ولم تقتصر هذه الخاصة العربية على الشعر، بل جاوزته لتشمل ضروب الفن رسما وزخرفة. وانظر إلى الرسوم على السجاد، أو حيثما جاءت، تجد الفنان يكتفي مما يصوره - طائرا، أو غزالة أو شجرة - بالخطوط الهيكلية التي تحدد الإطار، وقلما يعنى بتفصيلة من تفصيلات الجسم، وذلك لأنه يحاول أن يستصفي من الشيء «فكرته» أو «روحه»؛ لأنها هي التي يكتب لها الدوام، فكأن الفنان العربي قد أراد أن يرسم «النوع» وليس فردا من أفراده، و«النوع» ذو ثبات ودوام، وأما أفراده فإلى زوال. ولنلحظ في هذه المناسبة، أن ذلك هو الفرق دائما بين دنيا الكائنات الجزئية كما تقع على حواسنا، وعالم «الأفكار» كما يرتسم في رءوس العلماء؛ فالعلماء يحيون مع جمهور الناس في دنيا الأشياء، يبيعونها ويشترونها، ويأكلونها ويلبسونها، ويرونها بالأعين ويمسونها بالأيدي، لكنهم - دون جمهور الناس - يستخلصون من تلك الأشياء ما قد جسدته من أفكار، ليجعلوا هذه الأفكار بعد ذلك موضوع اهتمامهم، يخرجون منها القوانين العلمية التي بفضلها يمكن للإنسان بعد ذلك أن يرتد إلى دنيا الأشياء فيلجمها ويسخرها لخدمة أهدافه.
وشيء كهذا يحدث أيضا في الإبداع الفني؛ فالفنان - مهما يكن وسيطه الفني صوتا أو لونا أو كلمة - هو أيضا يعيش مع جمهور الناس في دنيا الأشياء، لكنه - دون جمهور الناس - يستخلص من تلك الأشياء سرها الذي هو جوهر حقيقتها، ثم يعود فيجسد ذلك السر فيما يبدعه من ألوان الفن. وإنه لفي مقدور المدرب المتمرس، أن يسمع معزوفة موسيقية، فيقول: هذه موسيقى عربية، أو أن يرى صورة فنية فيقول: هذا فن عربي، أو أيا ما كان انتماؤه، وكذلك قل في سائر الفنون، لماذا؟ لأن الفنان الأصيل يتشرب حياة أمته حتى لكأنها تجري في دمائه، ثم تلهمه الموهبة الفنية شكلا ما، ليبث فيه ما كان قد تشربه وتمثله. وهكذا يكون الفرق بين الحياة وهي «معاشة» والحياة وهي مقامة في مبدعات الفن والأدب. ولكم عجب هذا الكاتب من رجال نضعهم في حياتنا الثقافية في مكان الريادة، يخلطون بين هذين الظرفين؛ الحياة كما يعيشها الناس من جهة، والحياة كما يعرضها الإبداع الفني والأدب من جهة أخرى. ويظهر هذا الخلط أكثر ما يظهر عندما يدور الحديث حول «الثقافة» ومعناها، وعندئذ قد يصادفك من يقول - وكأنه قد اكتشف قارة جديدة - إن الثقافة هي مجموع ما يعيش به الناس من طعام، وثياب، ومسكن، وطريقة حكم وطريقة بناء الأسرة، وعقيدة دينية إلى آخر هذه المكونات التي تتجسد في حياة الناس العملية، أما الفنون والآداب والفكر فأمور قد تهم قلة قليلة، لكنها في عزلة عن الحقيقة المعاشة. والذي يفوت هؤلاء - هو كما ترى - الفرق بين الجانبين؛ فهذه هي حياة كما يعيشها الناس من جهة وبين هؤلاء الناس أصحاب موهبة في فن أو أدب، ثم تلك هي - من جهة ثانية - انعكاسات الحياة المعاشة في مبدعات لا تشبه في ظاهرها ما هو معاش بالفعل، لكنها تخليص لسرها وجوهر حقيقتها. ويعتقد هذا الكاتب أننا لو أدركنا في وضوح ذلك الفرق بين الطرفين لتقلصت إلى حد كبير دعوى الدعاة إلى «ثقافة جماهيرية» إذ ماذا يكون معناها، اللهم إلا في دنيا الكلمة؟ افرض أن بين أيدينا مجموعة مما أبدعه كبار رجال الفن والأدب عندنا؛ قطعة موسيقية لعبد الوهاب، ورواية لنجيب محفوظ، ولوحات لصلاح طاهر ... فقل لي بالله كيف أبسط هذه المبدعات لتصبح ثقافة جماهيرية؟ إن كل ما يطلب منا عندئذ هو أن نبين للجماهير كيف ترى حياتها التي تحياها مكثفة ومبلورة في تلك المعزوفة، أو الرواية أو اللوحة.
ولم يشذ الفنان العربي عن دستور أي فنان وكل فنان، فكان أن استخلص في فنه روح الحياة العربية، فإذا أردنا - إذن - أن نرى «العروبة» في جوهرها وصميمها، فلنمعن الفكر في مبدعات الفن العربي، وسوف تمثل أمامنا عندئذ صفة تميز العربي في رؤيته للكون والحياة، فإذا كان العربي قد انطبع من محيطه الكوني بفكرة اللامتناهي والثابت والدائم، فماذا يكون الفن الذي يوضح هذه الرؤية ، إذا لم يكن هو الفن الذي يستخدم أسلوب «التجريد» إلى أقصى درجاته، وأقصى درجاته هي الأشكال الهندسية من مثلثات ومربعات ودوائر وما إليها؟ وهكذا كان، فالزخارف الفنية في الفن العربي سواء أكانت على جدران المساجد والمساكن، أم كانت نقوشا على خزف أو خشب، أو نحاس تقام في معظمها على أسس هندسية، فنعيد هنا ما قلناه عن تصاوير الطيور والغزلان والنبات عند الفنان العربي، أنه قد استهدف «الفكرة» الكامنة في الشيء ولم يستهدف جسده المادي، أو هو بعبارة أخرى قد بحث عن الثابت وراء المتغير وبحث عن الدائم الذي يسقط من حسابه ما يزول ويفنى. وتلك هي «العروبة»، وذلك هو موقفها من الحياة وأحداثها.
إن رؤية العربي لحقائق الوجود من حوله، تجنح به نحو التجريد الذي أشرنا إليه، تجريدا يزيل به القشور العارضة في سبيل الوصول إلى اللب والصميم، وهو تجريد قد يبلغ به - كما رأينا - حد التجريد الهندسي في إبداعه الفني؟ وإن شيئا يوحي بتلك النزعة الهندسية، يستوقف أسماعنا في العبارة العربية البليغة؛ فها هنا يجد قارئ الأدب العربي نفسه وكأنهما هو إزاء أنغام من معزوفة موسيقية أحكم بناؤها حتى لينسى أنه أمام «كلمات» من اللغة جاءت لتحمل إليه مضمونا ذا «معنى». ولقد يساء استخدام هذا الجانب المنغوم في تركيب العبارة العربية إساءة تجعل الكاتب يرص نغمات تطرب السمع وتخلو من المعنى. لكننا نتحدث هنا عن البلاغة العربية على أيدي أربابها الذين يعرفون كيف يرسلون جواهر المعاني على أجنحة النغم. وما أكثر ما يختلط الأمر بين الحالتين عند العاجزين فتجري أقلامهم بلفظ منغوم ثم لا معنى! وقد يحدث الخلط عند آخرين على صورة أخرى حين يخدعهم وهم بأنه إذا أراد الكاتب «معنى» فلن يحمل له ذلك المعنى إلا لفظ منفر قبيح. بيد أن الفرق بين الحالتين؛ حالة اللفظ المنغوم المثقل بالمعنى، وحالة اللفظ المنغوم الأجوف، هو كالفرق بين إنسان قوي فتي، وإنسان هزيل كسيح؛ فهما متساويان في ظاهر الأعضاء، وأما «الحياة» الكامنة في تلك الأعضاء فشتان ما بين صحة ومرض .
تلك ملاحظة عابرة حتى لا نخلط في الظاهرة الواحدة بين قوة وضعف. ونعود إلى ما كنا بصدد الحديث عنه، وهو أن المزاج الفني عند العربي يميل به إلى التجريد، وعلة ذلك أن الفكرة أو الصورة المجردة أبقى على الدهر من المفردات الجزئية العينية. والتجريد بدوره إذا ما بلغ حده الأقصى، أو ما يدنو به من حده الأقصى، كان في صورة رياضية أو ما يشبهها. وإن هذا الكاتب ليزعم بأن بلاغة العبارة العربية كثيرا جدا ما تقتضي ضربا من النظم الموسيقي، - سواء أكان ذلك النظم المنغوم ظاهرا أم مستترا - وأذكر في هذا السياق يوما بعيدا بعيدا كنت فيه مع صديق نقرأ صفحة من كتاب للدكتور طه حسين، «وقد نسيت ما هو»، فلفت سمعنا نغم في العبارات المتتابعة كالموج الهادئ، فأعدنا القراءة وكأنما نطقت شفاهنا في لحظة واحدة فرحة، لنقول إنها أسطر سبكت كل كلماتها في التفعيلات من عروض الشعر العربي. ولم يكن الكاتب - بالطبع - قد قصد عامدا أن يجري كلماته في تلك التفعيلات، ولكن القلم البليغ يسيل بسبائك اللفظ كما تسيل الأوتار بأنغامها.
وقد ترجح عند الأديب العربي أو الفنان العربي، تلك النزعة «الهندسية» حتى لتجاوز حدودها فيطغى القالب على حشوه، كما هي الحال (في رأي هذا الكاتب) في أدب «المقامات» وكما هي الحال أيضا في كتاب «الفصول والغايات» لأبي العلاء المعري. على أن «المقامات» والفصول والغايات فيها قوة زادت عن حدها حتى أصبحت كعضلات المصارعين أو حملة الأثقال في عالم الرياضة البدنية. لكن تضخم النزعة الهندسية في الكتابة الأدبية قد يجيء على صورة المريض بالورم أو بالبدانة المترهلة، كما قد حدث عند أصحاب النثر المسجوع في فترات الركاكة والضعف.
ونزوع العربي نحو التجريد في فكرة وأدبه وفنه، قد أدى به إلى ميل شديد نحو تكثيف المعنى الكبير في أقصر عبارة ممكنة. ومن هذا التكثيف نشأت عنده الأقوال الحكمية التي يسهل حفظها ويكثر دورانها على الألسنة في أحاديث الناس العابرة. والشعر العربي مليء بالأبيات التي تحمل الحكمة منظومة، فتزداد سهولة حفظها وكثرة دورانها فضلا عن جمال لفظها. وقد يضاف هنا - إذا أردنا تعليل هذه الظاهرة - أقول قد يضاف إلى نزعة التجريد الهندسي كثرة التجوال في حياة العربي قبل أن يستقر في مدن، كأنما أراد أن يضع خبرته في أقراص صغيرة ليسهل حملها في ترحاله المتصل. ولقد قرأت لابن جني في كتابه «الخصائص» تعليقا يلفت النظر يقول فيه إن آيات القرآن الكريم إذا وجهت الخطاب إلى العرب أوجزت العبارة في لفظ قليل، وأما إذا وجهت الخطاب إلى بني إسرائيل، فهي تطيل. وإذا صح هذا التعليق، كان مؤيدا لما ذكرناه عن المزاج العربي في صياغته لفكره وأدبه وفنه.
اللغة هي نفوس أصحابها وقلوبهم، وعقولهم جميعا، هي مرآة حياتهم في ظاهرها وفي باطنها معا. إنه لولا اللغة لاندرج الإنسان مع الحيوان الأعجم في عالم البكم. وإذا لم تكن للإنسان لغته فماذا يكشف عن حقيقته حيا ناطقا عاقلا عالما شاعرا؟ إنها هي حياة الفرد موصولا بسائر الأفراد في يومه، وهي حياته موصولا بأسلافه في تاريخ واحد، وهي حياته موصولا بأبنائه وأبناء أبنائه إلى ما شاء الله للأمة أن يمتد بها تاريخ. إلا أن الكون ليصبح كله كتلة حين الصمت لولا كلمتان؛ كلمة الله جل وعلا، وكلمة الإنسان. إن الكلمة إذ تشرف وتسمو تصنع القديس والعالم والشاعر والفيلسوف، وهي إذ تسفل بفحشها تصنع الفجار. لقد بدأت الإنسانية بآدم عليه السلام، وبدأ آدم بأسماء الكائنات علمه إياها ربه ليملك بها زمام مسمياتها؛ فالعلم بالاسم هو في الأساس علم بطبيعة مسماه. وإذا عرف الإنسان طبيعة شيء فقد عرف كيف يتحكم فيه ويسخره؛ ومن هنا كانت للغة البشرية قوتها وسلطانها.
अज्ञात पृष्ठ
والحديث عن اللغة وصلتها بأصحابها روحا وعقلا وقلبا ووجودا وعدما، حديث يطول، فماذا - إذن - يمكن أن يخرج الناطق بالعربية عن عروبته؟ إن اللغة العربية - كأية لغة أخرى ولا سيما اللغات التي صحبتها حضارات - ليست عند من يحيونها علما وفكرا وأدبا، مجرد أصوات تلغو بها الألسنة والشفاه نسمعها كما نسمع خشخشة الحصى أو كما نسمع زقزقة العصافير، بل هي أنفس وقلوب وعقول تحولت باللغة من باطن إلى ظاهر، فإذا قرأت علما فأنت إنما تطالع «عقلا» توقد في دماغ صاحبه، وقد سلك نفسه في لغة لتراه. وإذا قرأت شعرا، فإنما هذا الذي تقرؤه هو «قلب» الشاعر وقد وضع نبضاته في كلمات لتسمعها. وماذا تكون «العروبة» إذا لم تكن ضروبا من فكر ومن وجدان تجلت بعد خفائها في صدور أصحابها، تجلت في رموز لغوية خلقت لتحملها ولتعرضها على الأبصار والأسماع؟ وفي اللغة العربية - عند تحليلها - صفات تفرعت عن جذع واحد، وهي ما توحي به الصحراء لساكنيها، ليس فقط في اشتقاق أسرة كبيرة من المفردات تشتق كلها من أصل ثلاثي واحد. تماما كما تتكون في المجتمع الصحراوي عشائر وقبائل تلتقي كلها عند جد واحد، بل إن الأثر الصحراوي في اللغة العربية ليظهر كذلك فيما قد أسلفنا ذكره من نزوع نحو هندسة في بناء الجملة، عندما يرتفع الكلام إلى ذروة الفن الأدبي يشف لنا آخر الأمر عن إيقاع يتضمن شيئا يشبه الأشكال الهندسية، أو المعادلات الرياضية، شأن العربي في نزوعه نحو «التجريد» استلهاما للامتناهي الصحراوي الذي يحيط به ما امتد به البصر إلى أبعد الآفاق. أفيجوز بعد هذا لكاتب أو شاعر أن يتنصل من أصول صحراوية هي ماثلة في كل ما قد أجرى به القلم؟
إن كاتب هذه الكلمات ليشعر بما يشعر به كل مصري واع بمصريته، وعيه في الوقت نفسه بعروبته؛ فهو لا يريد لمصريته أن تمحى بعروبته، كما لا يريد لعروبته أن تتنافى مع مصريته. على أنه في هذا الذي يريده لا يرضى لنفسه أن تؤخذ الأحكام قسرا واعتباطا ويلتزم أمام عقله بأن يبحث عن الأسس القوية التي يستند إليها حين يزعم أن عروبة المصري ليست شيئا طارئا جاء إليه مع الفتح العربي في أوائل القرن السابع الميلادي، اللهم إلا اسم العروبة، وأما الجوهر فهو هو الجوهر الذي بنيت عليه ثقافات الرقعة الجغرافية التي هي الوطن العربي الكبير حيث تمتد الصحراء - بكل ما فيها من أقاليم اخضرت بزرعها - فأوحت طبيعة ذلك الامتداد الصحراوي بما أوحت به من رؤية عامة، هي التي أنتجت لغات المنطقة كلها بأصول مشتركة أو متشابهة، كما أنتجت نمطا عاما مشتركا أو متشابها في البنية الاجتماعية وفي الفكر وفي الأدب وفي الفن جميعا. وإن هذا الكاتب ليود - قبل أن يستطرد به الحديث - أن يذكر القارئ بحقيقة عن نفسه ذكرها في حديثه السابق، وهي أنه لبث عقدين من الزمن - أو قل ما يقرب من ثلاثة عقود - متأثرا بما كان قد قرأه شابا لأعلام الفكر في مصر، بأن المصري إذا أراد عودة إلى أصوله الثقافية وجب عليه أن يرتد إلى العصر الفرعوني - وليس إلى الأصل العربي، وكأن الفكرتين متناقضتان - لكنه أعني هذا الكاتب يحمد الله حمدا كثيرا أن أشرقت عليه الحقيقة فيما بعد ناصعة الوضوح، وهي ألا تناقض من حيث الأساس، بين الوقفة الثقافية التي وقفها المصري القديم، والوقفة التي وقفها بعد ذلك في أي عصر من عصور تاريخه، مع تحفظ ضروري وهو أن ثبات الإطار الواحد المعين، لا ينفي أن ينخرط في هذا الإطار الثابت مضمونات حضارية مختلفة.
إنه لا جدال في أن لكل فرد من الناس هويته التي يجب أن يتحقق لها شرطان ليظل ذلك الفرد هو ما هو على مدى سنوات عمره، مهما تغيرت أحداث حياته وتطوراتها، وإذا لم يكن الأمر كذلك - كما هي الحال مع بعض الأمراض النفسية - وجب أن يعرض الأمر على طبيب مختص. وما يقال عن الفرد الواحد من الناس، يقال مثله على الأمم والشعوب؛ فالأمة المعينة - أو الشعب المعين - لم يكن ليصبح ذا تاريخ إلا إذا ظل الشعب على ثبات في هويته - أو ظلت الأمة المعينة على ذلك الثبات - برغم تكاثر الأحداث وتقلبات العصور. وأما الشرطان اللذان يجب أن يتوافرا للهوية لكي تثبت على وحدانيتها فهما: أولا أن تتألف من كثرة عناصرها وحدة تجعل منها كيانا عضويا موحدا في كل لحظة أو في كل فترة من تاريخها، بمعنى أن يكون لها هدف موحد تتجه إليه بمختلف أعضائها ومختلف مناشطها؛ فالهدف الواحد من شأنه أن يستقطب كثرة الأفراد وكثرة العناصر وكثرة المواهب وكثرة الأعمال بحيث يجعل تلك الكثرة العددية نسيجا متصلا. وأما الشرط الثاني فهو استمرارية تلك الوحدة اللحظية على طول الزمن. وما أكثر ما كتبه الفلاسفة في هذين الشرطين؛ شرط الوحدة اللحظية وشرط الاستمرارية والصمود، عندما تناولوا مشكلة الهوية! ولعلها من أعقد المشكلات التي تستعصي على التعريف والتحديد. وإني لأستغفر الله إن كنت أجاوز الحدود المشروعة حين أشير هنا إلى الآيتين الكريمتين الخاصتين بالذات الإلهية وهما
قل هو الله أحد * الله الصمد
ففيهما تتوافر الصفتان اللازمتان لوحدانية الذات؛ فالأحدية تعني اتساق الصفات الإلهية المتمثل بعضها في أسماء الله الحسنى. ولقد كان مما تناوله المفكرون الإسلاميون منذ القرن الثاني الهجري فصاعدا، التوفيق بين كثرة الصفات الإلهية ووحدانية الذات. وأقل ما يقال في هذا السبيل هو أن يكون بين مجموعة الصفات - على اختلافها - تآلف يوحدها في ذات واحدة. على أن يضاف إلى ذلك التوحد «صمود» يجعله توحدا من الأزل إلى الأبد، وذلك كله إنما يتحقق بالنسبة إلى الذات الإلهية على صورة مطلقة لا استثناء فيها، لكنه كذلك مطلوب له أن يتحقق على صورة نسبية ومحدودة في الذات الإنسانية، فردا كان أم كان شعبا أو جماعة يراد لها أن تكون موحدة الكيان.
وهكذا ننظر إلى الشعب المصري في إطاره التاريخي، فنراه من أكثر شعوب الأرض تحقيقا للشرطين اللذين يكفلان للهوية قيامها؛ فقد كان موحد الروح في كل فترة من فترات تاريخه، ثم كان على صمود في وحدته تلك عبر العصور المتعاقبة. ونقول ذلك استنادا إلى آثاره التي تدل على تعاون؛ فأعماله الخالدة من الصنف الذي لا تنجزه يد واحدة. ومع ذلك ففي أمثال هذه التعميمات الواسعة يكفينا رجحان الصواب إذا امتنع اليقين، وأرجح الظن أنه عندما جاء الإسلام إلى مصر فأسلمت، وجاءت العربية فتعرب لسانها، لم يكن انتقالها من القديم إلى الجديد صدمة نفسية ثقافية، بقدر ما كان انتقالا سهلا ميسرا؛ إذ جاءت العقيدة الدينية إلى شعب متدين تدينا مبرأ من الوثنية منذ آلاف السنين ، وكانت اللغة الوافدة من الأسرة اللغوية نفسها التي تسود هذه المنطقة الجغرافية جميعا، مع اختلافات نوعية بين لغة منها ولغة؛ فاللغة المصرية القديمة (ولا أعني الكتابة - الهيروغليفية) قائمة على الأسس التي تقوم عليها اللغات المجاورة (كما قرأت في نتائج الأبحاث العلمية التي اضطلع بها نفر من علماء «المصريات الفرعونية»). إذن فمن الناحية الدينية كان المصري منذ قديم مؤمنا باليوم الآخر وما فيه من حساب، وكانت الأسس الأخلاقية التي يحيا حياته على هداها والتي يحاسب يوم القيامة على ميزانها، هي الأسس التي تتعلق بها المثل العليا. وأما من الناحية اللغوية، التي لها أبلغ الأثر في صياغة العقل والوجدان معا فالتشابه بين القديم والحديث أشد من أن يغض عنه النظر، فإذا قلنا إن «عروبة» المصري إنما أخذت اسمها هذا منذ كانت فيها «عربية» فلا بد أن نضيف إلى هذا القول استدراكا يؤكد أن «مضمون» العروبة الثقافي كان مصريا منذ عرف التاريخ مصر؛ فحضارتها كانت في المقام الأول حضارة دين وأخلاق وفن، تدور جميعا حول فكرة الحياة الآخرة.
على أن ثبات الهوية لحاملها - فردا كان أم شعبا - وهو الثبات الذي نزعمه للمصري، قبل الفتح العربي وبعده، في امتداد واحد متصل، أقول إن ثبات الهوية هذا لا ينفي أن يكون ثباتا في ركائز البناء. وأما ما يقام على هذه الركائز من مضمون حضاري، فلا بد له أن يتغير مع تغير الحضارات، وإلا فلو جمد المضمون مع الركائز على صورة واحدة فلن يكون بمنجاة من فناء كالفناء الذي محيت به فصائل الديناصور. وقد كان لهذا الحيوان القديم من الضخامة ما ينافس به ضخامة الهرم الأكبر زال بسبب تلك الضخامة نفسها، التي لم تعرف كيف تصطنع خفة الحركة عندما جاء عصر جديد يقتضي الحركة الخفيفة السريعة، فذبل المسكين في مربضه وذوى وأصبح في ذمة التاريخ، تاريخ الحيوان.
3
أراد الله لهذه الرقعة المباركة من الأرض، التي أصبحت في عصرنا الراهن يشار إليها باسم «الشرق الأوسط»، أن تكون مهبط الوحي الديني لكل ما عرفه الإنسان من ديانات ينزل وحيها من السماء على نبي أو رسول، ولا بد أن يكون لذلك معناه ومغزاه. وربما كان ذلك كذلك لأنه لبث حينا من الدهر معمورا وحده بحضارات أو ما يشبه البدايات الأولى لقيام الحضارات، أو ربما كان ذلك لأنه - كما أسلفنا القول في أحاديثنا السابقة - رقعة من الأرض نشأت فيها وديان خصبة اخضرت بزرعها وعمرت بأهلها في وسط صحراوي فسيح الأرجاء، يوحي لسكانه بفكرة اللامتناهي الثابت الدائم، مما هيأ هؤلاء لتقبل الوحي الديني من إله واحد أحد صمد لا تحده حدود. وأيا ما كان التعليل، فهذه حقيقة تاريخية نقبلها ونقيم عليها النتائج، وهي أن أبناء هذه الأرض المباركة «تدينوا» بدين منذ فجر التاريخ، لم يكن عن وحي إلى نبي أو رسول حينا، وكان وحيا إلى نبي أو رسول حينا آخر، لكنه كان في كلتا الحالتين يقيم بنيانه على أسس من «الأخلاق» لينضبط بها سلوك الإنسان في هذه الحياة الدنيا، تمهيدا لمحاسبته يوم الحساب في الحياة الآخرة.
فلئن كان عصر الناس هذا قد جعل «العلم» أساسا للبناء الحضاري، ثم تأتي بعده سائر فروع الحياة الثقافية من دين وأدب وفن، وكأنما أتت تلك الفروع كالتوابع لتخدم العلم وتنتسب إليه، فإن الحضارات السابقة، وفي مقدمتها ما ظهر منها في إقليمنا - إقليم الشرق الأوسط - قد جعلت «الدين» (وإذا قلنا «الدين» فقد قلنا «قواعد الأخلاق») أساسا للبناء الحضاري، ويأتي «العلم» بعد ذلك ليؤدي دوره في ذلك البناء، فلما جاء الإسلام، آخر الديانات التي نزلت على نبي ورسول، جعل العلم جزءا من الدين، ولم يعد في الأمر بينهما تابعا ومتبوعا؛ فجزء من دين الإسلام لا يتجزأ، أن يكون المؤمن ذا علم بما حوله من ظواهر الكون، ما أسعفته في ذلك قدراته. ومثل هذا العلم الذي يستهدف عبادة الله سبحانه وتعالى بمعرفة خلقه معرفة تمكن صاحبها من الإلمام - بقدر المستطاع - بمعجزات هذا الخلق. وانظر إلى آيات القرآن الكريم عن «القراءة» كيف تتابع فيها نوعان من «القراءة» التي أصبحت فرضا مفروضا على المسلم وفق قدرته في ذلك؛ فأولى القراءتين قراءة «المخلوق » كما خلقه خالقه سبحانه وتعالى، وليبدأ الإنسان بدراسة نفسه مخلوقا من مخلوقات الله، ليرى معجزة الخلق متمثلا في الإنسان يخلق من علق، فيصبح هو ذلك الإنسان العالم العامل العابد، الكاتب الفنان الصانع الزارع، منشئ الحضارات التي تعمر كوكب الأرض. وأما ثانية القراءتين فهي أيضا عن الإنسان، لكنها هذه المرة متجهة إلى موروث فيما كتب الأولون، يضاف إليه ما أنتجه أبناء الحاضر، ليتلقى أبناء الغد عن ماضيهم كله ما يتلقونه ليضيفوا بدورهم ما يضيفونه من «علم» بالوجود؛ تقول الآيات الكريمة:
अज्ञात पृष्ठ
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق (هذه هي أولى القراءتين)
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم (وهذه هي القراءة الثانية)، وكلتا القراءتين عملية عقلية علمية؛ فعلم بخلق الله للإنسان أولا، وعلم بما خطه قلم الإنسان ثانيا. لكنهما إلى جانب كونهما «علما» يقتضي من صاحبه إعمال العقل فهما في الوقت نفسه «دين» يوجب على المتدين به واجبا مفروضا. ونكتفي بهذا المثل مما يمكن استخراجه من الكتاب الكريم، أدلة نتبين منها طبيعة «الرؤية» الإسلامية لحياة الإنسان، مما يوضح لنا جانبا من أهم الجوانب التي يتألف منه حقيقة «العروبة» وجوهرها.
لقد كان «العربي» (وأعني ساكن هذه الرقعة الفسيحة من الأرض الصحراوية الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، بما يتناثر فيها من أرض خضراء بزرعها، قد تكبر حتى تكون وديانا لأنهار جاءتها من خارج حدودها، وقد تصغر حتى تكون واحة صغيرة) أقول إن أهل هذا الامتداد الجغرافي الواحد، قد أظهروا خلال تاريخهم الثقافي الطويل، قدرة لا تقاس إليهم فيها شعوب أخرى كثيرة، على دمج الدين والعلم في موقف واحد وظهر ذلك بصفة خاصة في ظل الإسلام؛ لأنه دين نص نصوصا مباشرة على وجوب إعمال المسلم لعقله، في تدبر خلق الله من حوله. وقد يجدر بنا في هذا الموضع من سياق الحديث، أن نشير إلى حقيقة ثقافية شهدها التاريخ، وكانت لها آثارها في مجرى الأحداث، وهي ذلك التباين الحاد في وجهة النظر العامة بين اليونان القديمة وجارتها فارس (وهي اليوم «إيران») مما أدى إلى حروب بينهما، ومدار ذلك التباين هو غلبة التفكير العقلي ووضوح أحكامه في اليونان، وغلبة الرؤية الصوفية المغلفة بضباب الغموض على الفرس. وأرجح الظن أنه عندما خرج الإسكندر الأكبر بجيشه من اليونان، مستهدفا أن يجمع العالم المعروف له تحت لواء ثقافي واحد، كان المقصود بذلك أساسا هو أن يطوع جارته فارس للرؤية «العقلية». وربما كان التقسيم الجزافي الغامض، الذي يقسم به العالم إلى «شرق» و«غرب» بحيث يتضمن هذا التقسيم أن تكون كلمة «شرق» هنا دالة على ثقافة تغلب عليها العاطفة الذاتية، وأن تكون كلمة «غرب» دالة على ثقافة من نوع آخر إذ تغلب عليها دقة التفكير العقلي وموضوعيته ووضوحه، أقول إنه ربما كان هذا التقسيم راجعا في الأصل إلى ما كان بين يونان وفارس من تباين ثقافي أدى إلى ما أدى إليه من خلاف بلغ حد القتال، ثم جاء «الغرب» الحديث والمعاصر ليظل على ذلك الرأي في تصنيف الشعوب وثقافتها، مع تفرقته بين ما هو «أقصى» في بلدان الشرق وما هو «أوسط» و«أدنى»، متجاهلا الموقف العربي وطبيعته التي جاءت لتدمج الطرفين في صيغة واحدة، ولكن لماذا نعجب من أهل «الغرب» في تمسكهم بهذا التقسيم الثقافي، إذا كان العرب أنفسهم يتبنون هذا التقسيم ويتحمسون له، وعلى أساسه يقبلون فكرة ويرفضون أخرى، وبذلك تضيع منهم حقائق الأمور، بما فيها حقيقة أنفسهم؟
وحقيقة العربي في موقفه، كما يشهد بذلك تاريخه، هو أنه شرق وغرب معا، فلا هو إلى عاطفة صرف، ولا هو إلى عقل صرف. ولنا أن نتعقب ما أنتجه أعلامنا الأقدمون لنتبين في وضوح أن النظرة الفعلية، وما يتبعها من «علم» في شتى الميادين كانت هي الغالبة، لكنها كانت «مبطنة» بالوجدان (إذا صح هذا التعبير) ففضلا عن نبوغ أفراد منهم في مجال العلم وحده، ونبوغ أفراد آخرين في مجال التصوف وحده، فإن اندماج الجانبين في ناتج واحد أمر مألوف بينهم، فإذا كانت اليونان القديمة قد تميزت بالتفكير العقلي الصرف متمثلا في علومهم وفلسفتهم، فقد ترجم العرب عن اليونان معظم تلك العلوم والفلسفة، مما يدل على قدرة العربي على تمثل المحصول العقلي وهو في أعلى ذروته. ولا أظن أن شيئا يذكر من تلك العلوم والفلسفة قد ترجمته الهند أو الصين رغم ما كانتا عليه من حضارة، مما يدل على قابلية العربي للنظر العقلي المجرد. وفي الوقت نفسه قام العرب الأولون بنقل التصوف عن أعلامه من فرس وهنود، مما يبين أن العربي في طبيعته استعداد لمثل هذه الوقفة. على أن ما يهمنا هنا في المقام الأول، ليس هو أن تقوى الطبيعة العربية على تقبل هذا الجانب العقلي وحده متمثلا في أفراد، وعلى تقبل ذلك الجانب الصوفي وحده متمثلا في أفراد آخرين، بل الذي يهمنا في سياق حديثنا هذا هو أن نرى الجانبين معا مجتمعين في كل عربي، بدرجات تتفاوت مقاديرها، وتلك هي إحدى السمات الهامة، التي تتميز بها «العروبة» من حيث هي «موقف» ثقافي فريد، لا هو «شرق» ولا هو «غرب» ولكنها عروبة العربي.
هكذا جاءت للعربي، أو إن شئت فقل جاءت للشرق أوسطي، قاعدته الأولى التي ارتكز عليها لينطلق في أجوائه الثقافية من أرضه وسمائه؛ فأرضه منبسط صحراوي لا تحده حدود البصر، اللهم إلا وديانا شقتها أنهار نبعت من مصادر خارج الحدود، وأما سماؤه فصافية معظم الزمن، فجال فيها النظر ليرى عالما آخر لا تحيط بحدوده عين. مع هذه اللامتناهيات تحت قدميه وفوق رأسه، نزلت ديانات وحيا من الله سبحانه وتعالى على أنبياء ورسل تعاقبوا دهرا بعد دهر مدى قرون طوال، تنادي الإنسان أن آمن بإله واحد أحد خلق السموات والأرض وما بينهما، فتكونت عند ساكن هذه الرقعة المباركة من الأرض، خبرة وعقيدة؛ خبرة مما يرى، وعقيدة مما أوحي إلى الأنبياء والرسل، ومؤداهما معا هو أن يضع بين يديه تلك «المبادئ» الكبرى، التي هي خبرة نفسية وديانة روحية في آن معا، ومن تلك المبادئ المطلقة له أن يشتق ما استطاع أن يستنبطه لنفسه من نتائج وقوانين، تكون هي قواعد سلوكية من جانبها الأخلاقي ، كما تكون هي علومه العقلية التي يستضيء بها طريقه إلى معرفة ظواهر الكون معرفة صحيحة.
وبرع العربي في هذا الموقف الاستنباطي، الذي ينتزع النتائج من مبادئها، لكنه على مر الزمن، حفظ شيئا ونسي شيئا، وكان الذي حفظه جيدا هو أن يجيد قراءة ما خطه قلم، ليستخرج من كلماته وعباراته ما يتولد عنها مما كان كائنا في جوفها، وأما الذي نسيه - على الأعم الأغلب - فهو قراءة «الأشياء» قراءة مباشرة. و«الأشياء»، أو الظواهر، هي خلق الله عز وجل، أمره الدين أن يقرأها ليستخرج سرها المكنون ما وسعه ذلك. ومن الجانب الأول الذي حفظه العربي وبرع فيه تكونت معارفه وعلومه في معظم الحالات، إلا جانبا صغيرا قرئت فيه «الأشياء» فكان أن ظهر للعرب علماء الفلك، والكيمياء، والضوء، والطب. وأما الجزء الأكبر من علوم الطبيعة فقد تولاها الغرب وحده بعد نهضته من عصوره الوسطى، وأخذ العربي ينقلها عنه إلى يومنا هذا. وإننا إذ نذكر هذا، فإنما نذكره لنتذكر به أن هدفنا ليس هو الإشادة العمياء بالعربي وموقفه، بل هو مجرد الوصف لما هو واقع، لنؤيد صحيحه، ونصحح أوجه النقص فيه.
وما دمنا قد ذكرنا «الواقع» وحقيقته، فها هنا سؤال يطرح نفسه عن نصيب هذا الواقع والاهتمام به من موقف العربي. وإنه لسؤال له خطورته ويتطلب الروية في الجواب، وذلك لأن نضج العقل، الذي نطلق عليه عادة في حياتنا العملية اسم «سن الرشد» وهي السن التي إذا بلغها شاب، أصبحت له حقوق في المجتمع الذي يعيش فيه، وأصبحت عليه واجبات، فترفع عنه الوصاية، ويكون حر الإرادة في تصريف شئونه، ويكتسب حق الانتخاب، ومن جهة أخرى يحق عليه التجنيد والدفاع عن وطنه وهكذا. كل هذه الحقوق والواجبات تنشأ عند سن «الرشد» على افتراض مضمر، هو أن الإنسان عند تلك السن يكون قد خرج من مرحلة المراهقة الحالمة، ودخل مرحلة النضج العقلي، الذي يتميز أول ما يتميز، بانضباط العلاقة بين الإنسان والواقع، فيرى الحقائق الواقعة كما هي واقعة، لا يتوهم فيها ما ليس فيها، ولا يغض النظر عن جانب من جوانبها، ليستطيع بعد ذلك أن يقبلها عن علم بها، أو أن يعدلها على أساس علمه بها.
لكن أفراد الناس، وكذلك الشعوب، يتفاوتون في القدرة على إدراك الواقع على حقيقته؛ وبالتالي فهم يتفاوتون في القدرة على تغييره إذا وجب عليه أن يتغير. وفي هذا السياق يأتي سؤالنا: ما نصيب «الواقع» ودقة إدراكه من «الرؤية» العربية التي منها تتألف «العروبة» ومعناها؟
قد يتساءل القارئ همسا لنفسه: وهل شهدت الدنيا إنسانا، بل هل شهدت كائنا حيا على إطلاق من نبات أو حيوان، فضلا عن الإنسان، قد تجاهل «الواقع» الذي يحتويه، فمن هذا الواقع يأكل الكائن الحي طعامه، ويشرب ماءه، ويعد مأواه الذي يعتصم به، وسائر شئون حياته صغيرها وكبيرها؟ فمن أين يجيء السؤال - إذن - عن علاقة العربي بواقعه الذي يعيش فيه؟ وهنا يكون المتسائل قد فاته إدراك فارق هام بين فوارق عديدة تميز الإنسان دون سائر الأحياء، وهو فارق «الخيال» الذي قد يعلو في مرتبته فيصبح وسيلة إبداع للعالم والأديب والفنان؛ إذ هو عندئذ خيال يضم الأجزاء المتفرقة لتصبح بناء واحدا؛ نظرية علمية، أو قصيدة من الشعر، أو معزوفة موسيقية، وهكذا، ولكنه كذلك قد يهبط في مرتبته ليصبح أخلاطا من تهاويم لا تبني شيئا؛ وبالتالي تكون أوهاما وهلوسة لا تعني شيئا، إلا أن تضل صاحبها عن سواء سبيله؛ لأنها تصرفه عن واقع الأشياء فلا يراها كما هي واقعة. وإن الأفراد ليتفاوتون، كما تتفاوت الشعوب بوجه عام، في النشأة والتربية والاستعداد الفطري، تفاوتا يؤدي بهم إلى تفاوت في القدرة على التعامل مع وقائع الأشياء على حقائقها، حتى لقد رأى عالم النفس «وليم جيمس» أن أفراد الناس يمكن قسمتهم قسمين من حيث الرؤية العامة لدنياهم، والتصرف في حياتهم العملية على أساس هذه الرؤية، ويطلق على أحد القسمين عبارة «أصحاب الأدمغة الصلبة»، كما يطلق على القسم الآخر عبارة «أصحاب الأدمغة اللينة»، وهو يدرج تحت القسم الأول رجال العلوم الرياضية والطبيعية، ورجال الأعمال على اختلافهم، وقادة الجيوش وهكذا، وكلهم يلتزم حدود الواقع أمام أبصارهم وتحت أيديهم، حتى وهم يحاولون تغييره ليصبح واقعا آخر؛ إذ كيف تغير شيئا إذا كنت ساهيا عن حقيقته الراهنة؟ وأما تحت القسم الثاني فهو يدرج المتصوفة، والشعراء، ورجال الأدب والفن بصفة عامة، لأنهم بحكم مزاجهم المجبول في فطرتهم، يهربون من خشونة الواقع وقسوته وغلظته، ويقيمون بما يبدعونه واقعا جديدا، ينتزعونه من خيالهم انتزاعا ليعيشوا فيه.
فليس الأمر - إذن - من قبيل اللغو أن نسأل عن العربي ما موقفه من «الواقع»؟ وليس من شك في أن الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال تهدينا إلى التصور الصحيح لما أسميناه ب «العروبة». على أن الرأي الصحيح في هذا - فيما يبدو لهذا الكاتب - ليس قريب المنال، مما يتطلب منا شيئا من الروية والتدبر؛ فالعربي - من جهة - «شاعر» في المقام الأول، ولكنه - من جهة أخرى - مضطر بحكم بيئته الصحراوية المتجانسة تجانسا شديدا، أن يدقق النظر ليقع بصره على ما يميز جزءا من جزء، وإلا فالأرجح أن يضل الطريق إذا ما انتقل من مكان إلى مكان. إنه يلحظ معالم الأرض، كما يلحظ مواقع النجوم، ويركز انتباهه فيما يتميز به الحيوان، والطير، واتجاه الريح، وغير ذلك من مكونات بيئته. ولك في هذا الصدد أن تراجع ذاكرتك فيما تحفظه من شعر الأقدمين، لترى كم ترد في سياقه لقطات حسية دقيقة التصوير لما يراه العربي وما يسمعه.
अज्ञात पृष्ठ
ومع هذا كله فالحقيقة الكبرى في طبيعة العربي هو أنه - كما قلنا - «شاعر» في المقام الأول. لقد عرض الجاحظ في الصفحات الأولى من المجلد الأول من موسوعته عن «الحيوان»، مقارنة سريعة بين أربعة شعوب من ذوي الثقافات، ليحدد الصفة الغالبة على كل منها، وهي ثقافات الهند، وفارس، واليونان، والعرب. وجاءت هذه المقارنة بمناسبة تعليقه الجيد على ما كان قائما عندئذ في «دار الحكمة» بمدينة بغداد، من ترجمة عن اليونانية علوما وفلسفة إلى اللغة العربية. وهنا قال ما معناه إنه إذا كان اليونان قد تميزوا ب «الكتاب» (أي بالمؤلفات في العلم) فالعرب قد تميزوا بالشعر، ولهذا فقد يسهل على العربي أن ينقل عن اليوناني فلسفته وعلمه ، وأما اليوناني، أو غير اليوناني، فمحال عليه أن يترجم الشعر العربي إلى لغته، وبذلك يستطيع العربي أن يضم إلى حصيلته فكر الآخرين، وأما هؤلاء الأخرون فلن يتاح لهم قط أن يعرفوا من هو العربي؛ لأن جوهر العربي شعره، والشعر مكتوب عليه ألا يجاوز حدود وطنه.
وإذا كان ذلك كذلك، إذن فقد انفتح أمامنا طريق الإجابة عن السؤال الذي طرحناه لنعلم شيئا عن العلاقة بين العربي و«الواقع»، فما علينا سوى أن نسأل: ماذا تؤدي إليه طبيعة الشعر في هذا الصدد؟ إن الشعر ليفقد جوهره إذا غابت عنه قوة الخيال، والخيال المقصود هنا هو ذلك النوع الذي يعلو بصاحبه إلى درجة يستطيع عندها أن يؤلف بين خبرات استقاها الشاعر متفرقات من حياته العملية؛ إذ هو يرسل البصر في جنبات الكون ليرى، وينصت بأذنيه ليسمع، ومن حصيد المرئي والمسموع، وما كان قد أضيف إليه من حالات وتحولات في وجدان الشاعر، يبني في خيال الشاعر بيتا جديدا هو بيت الشاعر، أو أبياته التي تؤلف قصيدة الشاعر. وفي إقامة الشاعر لعالمه الخاص، من لبنات مستمدة من الحياة كما وقعت وكما تقع، يستحل مجاوزة القوانين الطبيعية التي تحكم الأشياء في عالم الواقع، ليضع لها هو ما يسنه لها من قوانين، وبذلك يجيء العالم الشعري الذي أقامه الشاعر، عالما جديدا كل الجدة، لا شأن للواقع به، اللهم إلا موازاة بين العالمين، يبحث عنها الناقد ليستخرجها من الخفاء إلى العلن. إن الصخر في دنيا الواقع لا ينطق، لكن الشاعر يستحل أن ينطقه بما أراد له وكيفما أراد، والشجر لا يعزف موسيقى على أوتار، لكن الشاعر يحل له أن يجعل الشجرة عازفة للنغم على أوتارها. إن البرق والرعد يحدثان بقوانين تعرفها العلوم، وليس لهما «نفس» تغضب وتثور، ولكن الشاعر من حقه إذا أراد، أن يتصورهما ثورة غاضبة، وأن يتصور المطر بكاء أو طلقات من الرصاص في حومة القتال، كما شاء. وهكذا، فالفاصل الحاد الحاسم بين «العلم» و«الشعر» هو أن العلم لا يرى من الواقع إلا ظواهره البادية للحواس، ليستخرج قوانينه التي تحكم سلوكه؛ فالصخر صخر، والشجر شجر، والرعد والبرق والمطر رعد وبرق ومطر، ولكل شيء مسالك مفروضة عليه، ومهمة العلم استخراج القوانين التي تنظم تلك المسالك. وأما الشعر (والفن بكل أنواعه) فليس ذلك شأنه، وإنما شأنه أن يخلع المشاعر الإنسانية على كل شيء في الطبيعة وكأنها قد أصبحت أناسا مع الناس.
ونحن نقول عن العربي إنه في المقام الأول شاعر، أو له رؤية الشاعر، فإذا كانت تلك هي حقيقة أمره، إذن فعلاقته بالواقع هي أن يحصد منه لقطات حسية يشاهدها متفرقة، فيحفظها في وعيه ليستهديها خلال حياته العملية، ومن هذه اللقطات الحسية ذاتها يبني الشاعر العربي ما يبنيه من بيوت الخيال، ومعنى ذلك هو أن علاقة العربي بالواقع هي تلك اللقطات الحسية المتناثرة، ينتفع بها في حياته العملية. وأما «الرؤية»، العامة للحياة، أو «وجهة النظر» التي يتوجه بها إلى الوجود الكوني، أو «الموقف» الذي يقفه إزاء ما يحيط به فهي أقرب إلى طبيعة الشعر، فيراه وكأنه يحيا بين جدران ما يشعر هو به، حتى يجوز أن تصطخب الدنيا الخارجية بما تصطخب به من أحداث، ومن أفكار، وهو هناك في موقفه، يستدفئ النظرة الشاعرة، حتى وإن قرأ وعرف ما قد صخبت به الدنيا من تقلبات.
لقد ذكرنا فيما أسلفناه، أن هذه الأحاديث لم تكتب للإشادة بالعروبة في موقفها أيا كان ذلك الموقف وما يقتضيه، ولكنها كتبت وصفا موضوعيا لما يظنه كاتبها أنه وصف أمين. ومع ذلك فهو اجتهاد فردي قد يخطئ وقد يصيب، فإذا صدق ما أوردناه عن طبيعة الشاعر في العروبة وموقفها، كان حتما على العربي أن يغير من موقفه بعض الشيء، بالإضافة لا بالحذف، فلنبق على «الشاعر» الكامن في قلوبنا، حتى لا نفوت على أنفسنا سمة من أبرز سماتنا ومن أجملها، على أن نضيف في تنشئة أجيالنا الجديدة نظرة «العلم» كلما اقتضى الموقف التزام الواقع في حدوده وقوانينه الصارمة. وانظر إن شئت إلى الحياة العربية في تاريخها الحديث، لترى كم دهمتها المفاجآت، التي لم تكن في الحقيقة مفاجئة، بل لبثت كل واحدة منها تغزل خيوطها وتنسج مؤامراتها أعواما طوالا، ونحن عنها غافلون، أو كالغافلين؛ لأننا ربما عرفنا شيئا عما يدبر لنا في سواد الليل، لكننا نسهو ونغضي لانشغالنا بما بناه لنا الخيال في رءوسنا. حتى إذا ما أصبح علينا صباح فجأتنا المفاجأة التي لم تكن قد ولدت منذ لحظة، بل ظلت هناك تبيض وتفرخ في صدور مدبريها أو في جحورهم، لتباغتنا وكأنها بنت لحظتها.
وكما رأينا في وقفة العربي «الشاعر» دفئا جميلا تشوبه غفوة يسهو بها عن مواجهة الواقع برؤية علمية كلما اقتضى الأمر ذلك، حماية لنفسه، وتقريرا لذاته في دنيا التنافس والعدوان التي كتب علينا ولنا أن تكون دنيانا، فكذلك نلحظ مثل هذه الشائبة في سمة أخرى من سمات «العروبة»، فليس ثمة من شك فيما يعرف به العربي من بناء اجتماعي - قبيلة، أو أسرة، أو أمة تضم القبائل والأسرة - يكفل للفرد أن يجد مكانا في جماعته، وهو مكان يعطيه حقوقا ويفرض عليه واجبات، وإننا لنفقد الشيء الكثير إذا فقدنا مثل هذا الانتماء الأسري الحميم، لكننا كذلك نفقد كثيرا جدا من طاقتنا الحيوية إذا بولغ في طغيان النظام الأسري أو القبلي أو الوطني والقومي على الفرد، بحيث تقيد حريته بأكثر من القيود التي تفرضها ضرورة الاجتماع، وتحدد قدراته المبدعة إذا كان من أصحاب المواهب، أكثر مما تحتمه ضرورة الحياة الاجتماعية من حدود.
وهكذا ترى أن «العروبة» موقف مركب من عناصر اشتقت بعض أصولها مما توحيه الصحراء إلى ساكنيها، من رؤية عامة تتعلق باللامتناهي أكثر مما تشغلها العابرات الزائلات، وبالثابت أكثر مما تتعلق بالمتغير، وبالمجرد أكثر مما يلهيها المتعين. ومن هذا الموقف تهيأت شعوب المنطقة بقلوبها لتقبل الديانات المنزلة وحيا إلى الأنبياء والرسل (وجميعها نزل في هذه المنطقة)؛ ومن ثم أصبحت عقيدة التوحيد مدارا للوقفة العربية، حتى فعلت فعلها في تشكيل النمط الثقافي العربي - الذي هو أساس «العروبة» وجوهرها - فالأدب (والشعر منه بصفة خاصة) يكثف الحكمة المستخلصة من الحياة الجارية، والفن ينزع نحو التجريد الذي يرتفع حتى يبلغ أن يكون أشكالا هندسية وما يتركب منها، والبناء الاجتماعي يتبلور في النظام الأسري أو القبلي الذي يجعل مثله الأعلى تكاملا وتعاونا ووحدة بناء. ولئن كان الواقع العربي الحديث قد انحرف عن تلك الرؤية العربية المتميزة، فقد جاء انحرافه هذا في اتجاهين؛ أحدهما نكسة أفرزتها الأوضاع السياسية الحديثة، محليا وعالميا، وإذن فهو انحراف لا بد لنا من تقويمه. وأما ثانيهما فانحراف نحو الأفضل والأكمل، وذلك في المواضع التي اضطررنا فيها إلى تعديل ما هو تقليدي في ثقافتنا من شأنه أن يعرقل النمو، فأحللنا مكانه عناصر قوة مما أنتجته حضارة هذا العصر وثقافته، وإذن فمثل هذا الانحراف جدير بالمؤازرة والتأييد.
هذا هو عصرنا
1
ليس العصر من العصور عددا من السنين يكبر حينا ليمتد بضعة قرون، ويصغر حينا ليكفيه قرن واحد أو بعض قرن، وإنما «العصر» المعين هو «فكرة» أساسية تسود الحياة، وتصبح محورا تدور حوله مسالك الناس ومناشطهم، حتى إذا ما تطورت تلك المسالك والمناشط، بحيث لم تعد «فكرة» العصر تكفيها ينبوعا تنبثق منه المبادئ والقواعد ومواصفات الحياة العملية، أخذت «فكرة جديدة» في الظهور والانتشار والرسوخ، حتى تصبح بدورها محورا تدور حوله رحى الحياة، وعندئذ ينظر الناس فإذا هم في عصر جديد، فإذا حدث لفرد من الناس أو لفئة منهم، أن تخلفت في رءوسهم فكرة عصر مضى، ثم نشطوا على أساسها وسلكوا فالأرجح ألا تسعفهم فكرتهم القديمة تلك بما يتطلبه العصر القائم من صور الحياة، فيصبحون - بالضرورة - كالغرباء في قومهم، حتى لتلتفت إليهم الأنظار دهشة، وذلك على أفضل الفروض، أو تلتفت إليهم ساخرة - وذلك على الأعم الأغلب - ولا ينفع المتخلف عن «فكرة» عصره أن يقارن للناس بين الفكرتين؛ أي بين العصرين، ليبين لهم كم كانت الأولى طيبة فاضلة خيرة أصيلة؛ لأن الحكم في مثل هذه المقارنة، مرهون بالنتائج التي تعود على الناس من ضروب العلم، والقوة، والثراء وغير ذلك مما يرفع «كيف» الحياة في مجمل نواحيها وأطرافها. والأرجح - كما قلت - هو أن تكون الفكرة الجديدة أصلح لذلك الارتفاع الكيفي المنشود، من «الفكرة» التي ذهبت وذهب عصرها معها. وها هي ذي قصة «أهل الكهف» للذين غيبهم نومهم نحو ثلاثة قرون عن تيار التغير فأصبحوا في قومهم غرباء، إلى الحد الذي أحرجهم ودفع بهم إلى العودة حيث كانوا، إيثارا للموت على حياة المنبوذ في أرضه.
ولا بد لل «فكرة» الجديدة التي يتولد عنها عصر جديد، أن تبلغ من الغزارة حدا من شأنه أن يفسح المجال لأفكار فرعية تنبثق منها ولفروع من تلك الفروع حتى تظلل الحياة على تشعبها وتعقدها وكثرة الأفراد والجماعات التي تستظل بظلها، فإذا أخذنا الفترة التي امتدت بالغرب من عصوره الوسطى إلى اليوم - وهي نحو أربعة قرون - على أنها عصر جديد واحد أعقب ما يطلق عليه في تاريخهم اسم «العصور الوسطى» كانت «الفكرة الجديدة» التي ميزته عن سابقه، هي أن يضيفوا إلى قراءة الكتب الموروثة عن أسلافهم (وأقول: أن يضيفوا ولا أقول: أن يحلوا محلها) قراءة ظواهر الطبيعة قراءة مباشرة، لعلهم يخرجون بما يخرجون به من قوانين العلم الطبيعي التي من شأنها أن تزيد من قدرة الإنسان على تسخير الطبيعة لخدمته، وأعظم ما ينتج له عن ذلك التسخير هو التحرر من قيود هي أقسى ما يتعرض له الإنسان من قيود، وأعني القيود التي تفرضها طبائع الأشياء على الإنسان قبل أن يعرف كيف يلجمها فيمسك بأعنتها ويسيرها كيفما أراد لها أن تسير. ولك أن تلقي بلمحة خاطفة إلى ما قد حققه الإنسان لنفسه من سيادة بمعرفته لقوانين الضوء والصوت والكهرباء والجاذبية ... إلخ.
अज्ञात पृष्ठ
لكن تلك القرون الأربعة التي يمكن ضمها معا تحت فكرة واحدة جديدة هي فكرة قراءة الطبيعة قراءة مباشرة يمكن كذلك أن تتفرع بين أيدينا إلى عصور فرعية، يمتد كل عصر منها قرنا واحدا على التقريب، ولكل من تلك الفروع خصائصه المميزة التي تجعل منه عصرا قائما بذاته. وعلى هذا الأساس ننظر الآن إلى عصرنا الفرعي الذي نعيش فيه، وأعني هذا القرن العشرين، فما هي «الفكرة» الجديدة التي باتت محور الرحى، وميزت هذا القرن عن سابقه. وأرجو من القارئ ألا ينسى أننا نتحدث الآن عن «الغرب» المتمثل في أوروبا وأمريكا الشمالية؛ لأن حضارة العصر من صنعه، ثم سارت معه على الطريق بعض أقطار الشرق الأقصى كاليابان، وأما بقية العالم فقد كفاها أن تأخذ ولا تعطي. وأعود بعد ذلك فأسأل: ماذا كانت «الفكرة» الفرعية الجديدة التي عملت على أن يكون القرن العشرون وحدة حضارية قائمة بذاتها؟
ولكي نجيب عن ذلك أريدك أن تقف معي لحظة عند مفترق القرنين؛ التاسع عشر والعشرين، لندير أبصارنا، في مجال العلوم متسائلين: هل حدث فيها من جديد؟ وعندئذ سيجيئنا الجواب واضحا نعم. فإذا كان العصر بمعناه الواسع الذي يشمل كل ما أعقب العصور الوسطى قد عرف بخروج العلماء من محابسهم ليجوبوا الأرض والبحر وأفلاك السماء، كاشفين عن كل مستور غطاءه ما أسعفتهم قدراتهم في هذا السبيل، ومع الكشف يقرءون صحائف الكون فيعلمون ظواهره. أقول إنه إذا كان العصر الحديث بمعناه الذي امتد أربعة قرون، قد كان مداره «قراءة» الطبيعة قراءة مباشرة، بعد أن كان شغل العلماء الشاغل قبل ذلك هو أن ينكبوا داخل الجدران يقرءون صحف السابقين، فإن «العصر» بمعناه الأضيق الذي يقتصر على القرن العشرين وحده، لا يزال استمرارا للاتجاه نفسه، إلا أن قراءته للطبيعة مختلفة الأساس عما كانت عليه. وقد تسأل أليس كتاب الطبيعة هو هو نفسه الكتاب الذي قرأه جاليليو ونيوتن؟ فنجيب نعم هو هو الكتاب، لكن الذي اختلف في القرن العشرين، هو الزاوية التي ينظر منها إلى المادة المقروءة. وأحب في هذه المناسبة أن ألفت نظر القارئ إلى نقطة مهمة في دنيا العلم هي أن الظاهرة المعروضة للبحث، ولنفرض مثلا أنها ظاهرة الضوء، لا تبوح بسرها طواعية، بل إن العالم الباحث هو الذي يقدح ذهنه ليهتدي إلى طريقة تجعل الظاهرة تفصح عن قوانينها؛ فعلماء «الضوء» قد ابتكروا من عندهم فكرة هي أن يحاولوا قراءة ظاهرة «الضوء» بطريقة «هندسية» أي كما تقرأ أشكال الهندسة من خطوط وزوايا. إنهم لا يرون هذه الخطوط والزوايا في «الضوء» بادئ ذي بدء، بل يرونه كما تراه أنت وكما أراه أنا حين ننظر إلى ضوء الشمس أو ضوء المصباح، ولكنهم - أعني علماء الضوء - افترضوا من عندهم أن سر قوانين الضوء قد ينكشف لهم إذا هم نظروا إلى الظاهرة من هذه الزاوية الهندسية. وقد كان أن دبروا التجارب التي يحصلون بها على خيط رفيع من الضوء يشبه الخط المستقيم، ويسقطونه على مرآة، فرأوه ينعكس على سطحها بزاوية قاسوها فوجودها مساوية لزاوية سقوط الضوء على سطح المرآة. إذن فها هو ذا قانون علمي عن ظاهرة الضوء، وهكذا.
ونعود إلى حديثنا عن عصرنا بالمعنى الضيق الذي يحصر العصر في القرن العشرين فنقول إنه استمرار للثلاثة القرون السابقة في الاتجاه بالجهد العلمي نحو قراءة الطبيعة قراءة مباشرة، إلا أن القراءة اختلفت أبجديتها عما كانت؛ فبعد أن كان أساسها عند نيوتن وغيره من علماء الفترة السابقة هو أن أي شيء يبقى على حاله، عاجزا عن أن يغير شيئا من وضعه، حتى يأتيه عامل خارجي فيغيره، فالجسم المتحرك في اتجاه ما يظل متحركا في هذا الاتجاه لا ينحرف عنه إلا إذا صدمه جسم آخر فيتغير، لا يتغير إلا بفعل عامل خارجي، هو الأساس الذي نقرأ عليه ظواهر الطبيعة في مسالكها. جاء هذا القرن العشرون ليغير أساس القراءة، فيجعل التغير نتيجة اعتمال داخلي في الشيء المتغير، بالإضافة إلى ما قد يكون هنالك من مؤثرات خارجية، ولماذا غير العلماء أساس القراءة؟ إنهم فعلوا ذلك حين رأوا أن الفرض السابق قد ترك مشكلات بغير حل، فكان لا بد من بحث عن رؤية جديدة تفسر كل ما هنالك من ظواهر، فمثلا كان قانون الجاذبية عند نيوتن مقبولا في الأجسام التي تقع في خبرة الإنسان، لكنه لم يكن يصدق على طرفين؛ الأجسام ذات الأبعاد الفلكية البعيدة كالضوء الآتي من مصادر نائية يبعد ملايين السنين الضوئية، وكذلك لم يكن يصدق على المكان اللامتناهي في الصغر، كحركات الإلكترونات داخل الذرة؛ فالإلكترون يقفز من فلك إلى فلك آخر غير مقيد بقانون الجاذبية عند نيوتن. وهكذا كانت هنالك مشكلات لا تحلها الرؤية النيوتونية التي كانت لها السيادة نحو قرنين، وكان محورها أن المكان مطلق وأن الزمان مطلق، وأن قوانين المادة في حركتها حتمية الحدوث.
وجاء عصرنا ليرى غير ذلك، فيقرأ ظواهر الكون على أساس «النسبية»، لا على أساس أن حقائق الكون مطلقة، بمعنى أن كتلة أي شيء تتغير بتغير سرعته، وأن أطوال الأشياء تتغير بتغير اتجاه حركتها، وتفصيلات كثيرة في هذا الصدد يعرفها العلماء المختصون، لكن الذي يهمنا نحن ممن لا يعلمون إلا أقل من القليل عن تفصيلات العلوم الطبيعية وقوانينها، هو أن التغير قد شمل طبيعة القانون العلمي نفسه؛ فبعد أن كان يقينا رياضيا محتوما، أصبح عملية إحصائية تنتهي بنا إلى درجة عالية من «الاحتمال»، وذلك لأن الظاهرة الطبيعية لم نعد ننظر إليها على أنها محددة تحديدا قاطعا، بل هي في حقيقتها الموضوعية مذبذبة، ولذلك فمقاييس أطوالها وأحجامها وسرعاتها ... إلخ، تتغير قليلا في كل مرة، ويقتضي الأمر أن تؤخذ تلك المقاييس عدة مرات ليستخرج متوسطها، فضلا عن أن أجهزة القياس نفسها تزداد دقة كلما تقدم العلم، بل إن «تعريف» تقدم العلم هو ازدياد الدقة في أجهزته، ومع زيادة الدقة في الجهاز تتغير أرقام المقاييس.
كان الفكر العلمي إبان القرن الماضي قد أخذ يتراكم في توكيده للرؤية الجديدة التي تجعل تغير الأشياء - والأحياء منها بوجه خاص - مرهونا باعتمال كيانها الداخلي؛ أي إن التغير لم يعد مقصورا على العوامل الخارجية وحدها. وجاءت أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن بذروة ذلك التراكم في نظرية النسبية عند أينشتين، فماذا يكون وقع ذلك كله على «الإنسان» حين يتأمل حقيقة وجوده وصورة العلاقات التي تربطه بالآخرين؟ قد يدهشك أن نلقي هذا السؤال عقب اللمحة الخاطفة التي قدمناها عن تغير الرؤية عند علماء الطبيعة عما كانت عليه رؤية العلماء في القرون السابقة، ودع عنك رؤية ما قبل هذا وذاك من عصورهم الوسطى، لكن علم العلماء في أي عصر لا يخاطب الخلاء، بل إنه علم يتبعه تطبيق، والتطبيق لا يكون إلا في دنيا الناس؛ فمحال أن يكون لعلم العصر المعين اتجاه وأن يكون لأهل العصر اتجاه مضاد، كل ما في الأمر هو أن تغير النظرة العلمية يسبق تغير الحياة العملية، ريثما ينتقل التغير من النظرة إلى التطبيق. على أن الأرجح أن يكون علم العلماء قد سبقه بفترة قد تطول يسودها مناخ عام ينسج خيوطه السابقون لعصورهم من رجال الفكر والأدب والفن. وهذا هو بالفعل ما قد حدث في حالتنا هذه؛ فقد ظهر من الفلاسفة والمفكرين ورجال الأدب والفن، ابتداء من رومانسية العشرات الأولى من القرن الماضي، التي تبدت في كبار الشعراء والروائيين وفي فلسفة هيجل المثالية، ثم في فلسفة شوبنهاور ونيتشه التي تجعل أولوية الحياة في إرادتها قبل أن تكون في تعلقها، وكلها اتجاهات تحول محور الارتكاز في تطور الحياة من تأثير العوامل الخارجية إلى اعتمال الدوافع الداخلية. وانعكس الاتجاه نفسه في أواسط القرن الماضي على مفكرين من أمثال ماركس وفرويد. وربما كان الشذوذ الوحيد هو نظرية «دارون» في التطور وكان ظهورها في أواسط القرن الماضي أيضا؛ فهي وإن سايرت عصرها في توجيه الاهتمام نحو فكرة التطور، إلا أنها جعلت تطور الكائنات الحية نتيجة عوامل البيئة الخارجية، التي ترغم الكائن الحي على أن يتكيف لبيئته وإلا كان مصيره سرعة الفناء، وهو اتجاه جاء عصرنا ليعلن نقيضه - وهو أن حياة الكائن الحي من الداخل هي التي بفاعليتها تملي على البيئة شروطها وذلك بأن تغيرها لتجعلها أصلح لبقائها.
إلا أن العصر الواحد لا بد أن يسوده آخر الأمر صوت واحد، وإلا فلا هو «عصر» ولا هو يحيا كما تريد له الحياة السوية أن يحيا، فإذا كان العلم والفكر والفن والأدب قد عملت كلها خلال القرن الماضي وأوائل هذا القرن على أن تجعل الطبيعة تتحرك من داخلها - حتى ما هو مادي منها - فهل يمكن أن يأتي إنسان القرن العشرين ليترك نفسه فريسة عوامل خارجية تشكله كما أرادت؟ تسعده أو تشقيه كما تشاء؟ على أن زوال رؤية عامة لتأخذ مكانها رؤية جديدة، تنتشر حتى تصبح هي الرأي العام بين الجماهير، لا بد له من رجة كبرى تهز أوضاعا بالية فتهدمها لتقام أوضاع جديدة. وكانت هذه الرجة هي التي تمثلت في حربين عالميتين، وفي سلسلة من الثورات توسطتهما أو أعقبتهما مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وبينها ثورة مصر 1919م، وثورتها 1952م؛ أولاهما عقب الحرب العالمية الأولى والثانية عقب الحرب العالمية الثانية، وثورات أخرى رأيناها بعد ذلك بقليل في بعض أقطار العالم العربي وفي كثير من بلدان القارتين الآسيوية والأفريقية، فماذا أرادت كل هذه الثورات لشعوبها؟ الجواب في ضوء ما ذكرناه هو أنها أرادت لحياة الإنسان فردا أو شعبا أن يكون له ما لسائر كائنات الأرض والسماء من إرادة تغيير نفسها بنفسها.
لكن شيئا يلفت أنظارنا فيما تميزت به العناصر المختلفة التي أخذت في الظهور منذ أواخر القرن الماضي، والتي اتجهت منذ ظهورها تتضافر عنصرا مع عنصر لينتهي أمرها إلى أن ينسج بعضها مع بعض في حياة هي الحياة التي يحياها العالم الآن، وذلك هو أن تلك العناصر المستحدثة كانت تنطوي على ضدين في وقت واحد؛ إذ تنطوي على ما من شأنه أن يزيد من حرية الإنسان مما يقيده في انطلاقة فكره ونشاطه، ثم ينطوي في الوقت نفسه على ما يزيد قيوده قيودا من نوع جديد. وأول ما نذكره في هذا الصدد هو ما أخذ يظهر منذ أواخر القرن الماضي وطفق منذ ظهوره وإلى يومنا هذا يثب وثبات سريعة جبارة حتى لقد أوشك أن يطوي الحياة الإنسانية بكل أطرافها تحت جناحيه وأعني به «العلم التكنولوجي». وهنا أود للقارئ أن يمعن النظر في قولنا «العلم التكنولوجي» ليلم بما تعنيه على وجه الدقة حتى لا تنقلب عليه العادة التي لا بد أن تكون قد تجمدت فيه من كثرة تكرار هذه العبارة أو ما يقرب منها مأخوذة عن غير فهم صحيح؛ فأولا: لا ينبغي لنا أن نتجاهل حقيقة هامة هي أن هذا الطراز الجديد من «العلم» يختلف اختلافا بعيدا عن صور «العلم» التي سبقت فيما سبق من مراحل التاريخ، وأساس الاختلاف هو استخدام الأجهزة في عملية البحث العلمي بصفة أساسية. ولم يكن العلم في تاريخه كله قد عرف قبل ذلك استخدام أجهزة تساعد على دقة البحث إلا بدرجة لا تكاد تستحق الذكر. وحتى ذلك القليل من الأجهزة الذي كان إنما كان على درجة من البساطة شديدة لا تقاس بما نألفه اليوم في أجهزة العلم من دقة بعيدة المدى. وثانيا: يحسن بنا أن نكون على وعي يقظ بأن معنى كلمة تكنولوجيا في هذا السياق ليس كما أصبح شائعا في الناس الآلات التي تنتج آخر الأمر ليستخدمها الناس في حياتهم من مصانع وأدوات للحياة اليومية كالسيارات وأسلحة القتال والثلاجات وغيرها؛ فهذه كلها ثمرات نتجت عن العلم التكنولوجي؛ فكلمة تكنولوجيا عندما استعملت لأول مرة في المجال العلمي إنما قصد بها منهج البحث العلمي عن طريق استخدام أجهزة تساعد على دقة النتائج. وإذا جاز لنا أن نصف عصرنا بأنه عصر التكنولوجيا؛ فذلك لأن الأجهزة العلمية قد كثرت وتنوعت وازدادت دقة حتى أصبحت ملمحا بارزا من ملامح العصر، ولم يكن العصر الواحد من العصور السابقة يعرف في ميادينه العلمية إلا عددا قليلا وبسيطا من أجهزة البحث العلمي بحيث لم يكن من حقه أن يصف نفسه بهذه الصفة. وثالثا: أن الأجهزة العلمية قد أخذت تتطور بسرعة شديدة حتى لتتعاقب الأجيال في كل نوع منها تعاقبا سرعان ما ينسخ جديدها قديمها مما يعمل على تغير وجه الحياة تغيرا يفوق شطحات الأحلام. وكان لهذا التغير السريع أثره العميق في بنية المجتمع؛ إذ أصبحت الخبرة الأكثر في أيدي الشباب بعد أن كانت على مدى التاريخ في أيدي الشيوخ.
وأخذت الآلات الناتجة عن العلم التكنولوجي من الكثرة والكفاءة بحيث وصلت إلى بيت الريفي في قراه وكفوره ونجوعه. ولأول مرة في تاريخ الإنسان يمد «العلم» أطرافه بما ينتج عنه إلى أبعد بعيد من حياة الناس اليومية. لقد كان العلم فيما مضى يشغل جماعة العلماء فيجيء ويمضي دون أن يشعر بمجيئه ومضيه إلا أقل من القليل بين أفراد يعدون على الأصابع، ولو أن تلك الآلات التي أنتجها العلم وجهازه كانت ضعيفة الأثر في الجانب الكيفي من حياة الإنسان لما حق لنا أن نطيل عنها الحديث، ولكنها جاءت لتزيد من حرية الإنسان بما لم تستطع أن تحققه كل القرون الماضية مجتمعة، فخذ معنى «الحرية» من أي جانب شئت تجدها قد زادت بفضل أجهزة العلم وما نتج عنها من آلات وأدوات زيادة تلفت النظر. ألم يكن الإنسان إلى عهد قريب يحمل الأثقال على ظهره وكتفيه كأنه دابة من دواب الحيوان؟ بل إنه لا يزال كذلك في كثير من بلدان العالم المتخلف؟ فجاءت الآلة لتحمل عنه هذه الأثقال. وانظر إلى العمارة تبنى في بلادنا وإلى العمارة تبنى في بلد تقدمت آلاته؛ فالإنسان عندنا لا يزال يحمل الحجارة والرمل وكل ما تتطلبه عملية البناء، والإنسان في البلد المتقدم لم يعد يحمل شيئا. تلك إذن حرية بدنية انتقل منها إلى حرية «عقلية». وانظر كم يستعين الإنسان في بلد متقدم بالجهاز والآلة على معرفة ما لم يكن ليعرفه أحد من قبل إذا اعتمد على حواسه وحدها وعلى قوته الذهنية وحدها. وبديهي أن حرية العقل مقرونة بسعة المعرفة؛ إذ ماذا تجدي كلمة حرية في مجال التفكير إذا لم يكن في حوزة الإنسان معرفة بطبائع الأشياء التي يريد أن يكون «حرا» في استخدامها؟ الحق أننا نقول لغوا إذا مضينا في ذكر ما قد بات جزءا لا يتجزأ من حياة الإنسان المعاصر. وكل ما في الأمر من اختلاف بين إنسان هنا وإنسان هناك هو اختلاف في درجة الحرية البدنية والعقلية؛ فكلما ازداد استخدام الأجهزة والآلات ازدادت معه الحرية، وكلما قل قلت، ولكن هل جاءتنا تكنولوجيا بما جاءت به من حرية البدن والعقل منحة خالصة من الشوائب والأضداد؟ كلا، كلا فحياة الإنسان لا تعطيه النعمة إلا إذا اقتصت منه الثمن باهظا كأنها المرابي اليهودي في مسرحية «تاجر البندقية» قد أعطى ليسترد مقابل ما أعطاه لحما ودما من جسد من نعم بعطائه. وهكذا أنعمت علينا تكنولوجيا العصر بحرية لم يكن أسلافنا ليحلموا بجزء منها، لكنها أعطت بشمالها ما اقتصت أضعافه بيمينها، قيودا على قيود لم يكن ليشقى بها أسلافنا؛ فالعامل في مصنع حديث ينتج الكثرة الغزيرة، أما هو في شخصه فقد سلبه ذلك المصنع نفسه فرديته وحريته وجعله لا يزيد إلا قليلا على أي مسمار أو ترس من مسامير الآلات وتروسها. إنه يعمل من الصباح إلى غروب الشمس دون أن يعلم ماذا صنع، ولماذا؟ لأنه مكلف بجزء يسير لا معنى له عنده يكرره ويكرره آلاف المرات دون أن يدري كيف بدأت السيرة وإلى أية غاية تنتهي، فأصيب العامل بما نقرأ عنه من ويلات الحياة الصناعية؛ قلق وتمزق واغتراب وملل ويأس وضيعة إيمان بقيمته وقيمة حياته.
وانظر إلى أمثلة من الأجهزة التي تنتجها مصانع التكنولوجيا مما له صلة بحياة الإنسان الخاصة كالراديو والتليفزيون تجد إلى جانب فوائدها العظيمة في طريق المعرفة والتنوير وفي التسوية بين عباد الله غنيهم وفقيرهم في قضاء أوقات الفراغ؛ فجميعهم على السواء يشاهدون ويسمعون ما يشهده الجميع ويسمعونه، ولكن اقلب صفحة هذه النعمة لترى النقمة كامنة في ظهرها؛ فأولا كان حتما محتوما بطبيعة الحال أن تراعى أغلبية الجمهور فيما تعرضه هذه الأدوات؛ ومن ثم وجب تبسيط المعرفة وتسطيحها. ووجب كذلك تفتيتها وجبات مجزأة بحيث لا يزيد عرض الموضوع الواحد على أكثر من بضع دقائق. ومن هذه الأشياء المبتورة أصبحت تتكون ثقافة من يتثقف، ومع ذلك فلا تقاس هذه البلوى بالنكبة الكبرى التي تلحق بحرية الإنسان، فتأمل كم أعطتنا من حرية العقل بما قدمته لنا من معارف وكم سلبت من حرياتنا حين حتمت على المستقبل أن يبلع المر، ولا تناقش. وتبلغ النكبة أقصاها عندما يهبط على الشعب مستبد، وعندئذ فلا يسمع المتلقي إلا كلمة واحدة هي كلمته. ولا غرابة أن نجد زعيم الانقلاب حيثما وقع انقلاب يسرع أول ما يسرع إلى دار الإذاعة، فإذا سيطر عليها فقد قطع معظم الطريق إلى ذروته. ولا نقول شيئا عن ويلات الحروب الحديثة بما أمدها به العلم الحديث وتقنياته، فذلك مكرور معاد ومعلوم للكبار وللصغار.
وللحديث بقية نستكمل بها صورة عصرنا وأين يقع العربي منه وأين يقع هو من قلب العربي وعقله.
अज्ञात पृष्ठ
2
فتح القرن العشرون أبوابه على أفكار ضخمة غزيرة الثراء، أفرزتها عقول الجبابرة من أبناء القرن الماضي، ولكن القرن الماضي لم ينعم ولم يشق بالعيش في ظلال أفكاره، وترك لخلفائه من أبناء هذا القرن العشرين، أن يحللوها ويبسطوها ويطوروها، لتخرج بهم آخر الأمر من حياة ذهب عهدها، إلى حياة جديدة في عهد جديد. وكانت هذه هي سنة الحياة الفكرية على امتداد تاريخها؛ فرجال الفكر يفرزون فكرهم الرامي إلى التطوير والتعديل، ثم يذهبون مع ذهاب جيلهم دون أن يتسع لهم الوقت فيروا ثمرات فكرهم، وقد سارت بأرجلها على الأرض أو طارت بأجنحتها في السماء؛ لأن هذه الثمار الحية التي تتفتق عنها الأفكار، إنما هي مقسومة للجيل اللاحق أو الأجيال اللاحقة. وهكذا كان الأمر حين ورثنا نحن أبناء هذا القرن العشرين، عن القرن الماضي، وكان علينا نحن أن نستولد تلك الأفكار نتائجها لنحيا بها ولها. ولقد أسلفنا لك القول في حديثنا الماضي، بأن تلك الأفكار الضخمة القوية الغنية بما انطوت عليه من غزارة الفحوى، وإن تكن قد اختلفت ميادينها، إلا أنها جميعا أوشكت أن تدور معا على مدار واحد، هو أن الحقيقة الكونية في مجموعها، وأن كل كائن حي مفرد من كائناتها، جوهره «الحركة» وليس «السكون»، وأن كل شيء تنبع له حركته التي يتغير بها ويتطور من داخله، وليس كل التغير ناشئا عن فعل العوامل الخارجية.
وكان من الطبيعي أن تتولد عن هذا التحول رؤية علمية جديدة، ترى الأشياء نامية متطورة متغيرة، بعد أن كانت الفكرة العلمية قائمة على افتراض الثبات والسكون والدوام على حالة واحدة، فلا يتحرك ساكن إلا بعامل خارجي يحركه، ولا يسكن متحرك إلا بعامل خارجي يوقف حركته. وكان السؤال إذا ما رأى الناس متحركا أن يسألوا: ما الذي بث فيه الحركة، فأصبح السؤال إذا ما رأى الناس ساكنا أن يسألوا ما الذي جمد فيه حركته؟ واختصارا كان الثبات الساكن هو الأساس المفترض، فأصبح التغير المتحرك هو ذلك الأساس. ولا عجب أن ترى ذلك كله قد انعكس في فلسفات «التطور» التي شغلت كثيرين من فلاسفة القرن الماضي والقرن الحالي على السواء.
ومع هذا التغير في الرؤية العلمية، من السكونية إلى الحركية، أضيفت للعلم قوة منهجية تتمثل في استخدامه للأجهزة في بحوثه استخداما على نطاق واسع، حيث أصبحت هذه الظاهرة معلما من أبرز معالم عصرنا، وهي ظاهرة التكنولوجيا أو «التقنيات». وقد أسلفنا لك في حديثنا الماضي أن المعنى الأساسي لهذه الكلمة كان يشير إلى منهج البحث، ولكنه اتسع مع الأيام ليضيف جانبا آخر، وهو الشائع اليوم بين الناس، وذلك هو أن يطلق هذا الاسم نفسه على المصنوعات التي تنتج عن استخدام ذلك المنهج، وبعبارة قصيرة نقول إن التعبير الصحيح بادئ الأمر، هو قولهم، العلم بالتكنولوجيا، ثم غلب على الناس اليوم أن يقولوا «العلم والتكنولوجيا» كأن العلم شيء يسبق، والتكنولوجيا شيء آخر يتبعه في الظهور.
وفتحت أبواب القرن العشرين، فيما فتحت عليه، على هذا الضرب الجديد من العلم الذي يقام على أجهزة، وينتج بدوره أجهزة، وكانت لهذه الحداثة العلمية حسناتها وسيئاتها، كان لها خيرها وشرها، وفي طليعة خيراتها - كما بينا في الحديث السابق - ما كسبته للإنسان من حرية يتحرر بها من قيود الطبيعة المادية، بعد أن طال العهد بالإنسان عبدا لها، فمن ذا الذي استطاع من بني الإنسان، منذ دب إنسان على الأرض بقدميه، أن يغوص في أغوار البحر كما غاص إنسان اليوم، أو أن يطير في أطباق السماء كما طار، أو أن يسرع في انتقاله على اليابسة كما أسرع؟ من ذا استطاع في كل من شهدهم التاريخ، أن يخترق الجدران بضروب الأشعة ليرى ما وراءها ويسمع؟ فطبيب اليوم يكشف في جسم مريضه عن كل خبيء مستور في القلب والرئتين والمعدة والأمعاء، دون أن ينخدش خدش في جسم المريض. ومن ذا الذي استطاع من أطباء الأمس القريب والبعيد، أن يستبدل في الإنسان المريض بقلبه التالف قلبا صحيحا، وبكليته الفاسدة كلية سليمة؟ من الذي أرغم جفاف الصحراء أن ينتج الغلال والخضر والزهور كما أرغمه إنسان اليوم، ثم من ذا الذي جرؤ أن يصنع ما يشبه العقل الإنساني في جهاز كما جرؤ إنسان اليوم؟!
ولن نستطرد أكثر من هذا في ذكر ضروب من سيطرة الإنسان على تمرد المادة وعنادها بفضل العلم الجديد وتقنياته، لكي نقلب صفحته الأخرى التي ملئت بقيود وأغلال قيدت الإنسان وغلته بسبب العلم الجديد وتقنياته. وقد ذكرنا في حديثنا الماضي أمثلة لذلك فيها الكفاية، إلا أن إنسان العصر لم يقف عاجزا أمام هذه العلوم، ينعم بخيرها ويشقى بشرها وهو في حيرة من أمره، بل هو يحاول أن يجد لسموم حضارته الجديدة، لعلمها التقني الجديد، ترياقها، فإذا كان العلم الجديد بما يفرضه على طبيعة الإنسان من ضوابط وقيود، قد سلبه تلقائيته الفطرية، بمثل ما أضاف له حرية إزاء الظواهر الطبيعية التي لم يكن له إزاءها حول ولا قوة، فقد شاع في نفسه شعور بالضيق للتلقائية الحرة التي ضاعت، أكثر مما شاع فيها من رضى وطمأنينة بالحرية المكسوبة، التي أمدته بشيء من السيادة على عناصر الطبيعة التي تحيط به؛ ومن ثم راح ينشئ لنفسه أدبا جديدا، وفنا جديدا، روعي فيهما أن تكون النبرة الذاتية الخاصة بالمبدع، أعلى صوتا وأبرز ظهورا من الجانب الذي يشير إلى وقائع الكون الخارجي وقوانينها، راجيا بذلك أن يعتدل له الميزان بين داخل وخارج، أو بين ذات وموضوع.
فرأينا في الأدب الجديد صورا اغترفها الأديب المبدع من ذات نفسه اغترافا، حتى ليكاد المتلقي أن يتعذر عليه الفهم؛ إذ الفهم ميسور حين تكون الإشارة إلى «واقع» مشترك بين المبدع من جهة والمتلقي لثمرة إبداعه من جهة أخرى. أما حين تنعدم، أو تكاد تنعدم تلك الحلقة الوسطى، فها هنا يتعذر جدا في كثير من الأحيان أن يجد المتلقي ما يفهمه حق الفهم فيما يطالعه من شعر أو رواية أو مسرحية من الأدب الجديد، اللهم إلا أن يتولى ذلك دارس متمكن، يستطيع أن يرجع إلى مراجع المكتبة الأدبية، ليتعقب الغوامض إلى أصولها عساها تضيء له ما قد غمض عليه واستعصى. وهذا هو ما رأيناه في الأدب الأوروبي الجديد عقب الحرب العالمية الأولى، بل وإن مبدعي الأدب عندئذ لم يجعلوا أمرهم سرا على الناس، وأعلن بعضهم صراحة بأنه قد تعمد الغموض إلا على القادرين. وأما العامة من جمهور القراء - إذا جاز هذا القول - فلم يكونوا عندهم بذوي خطر يحسب له حساب، وإلا فكيف أمكن أن تصل بهم الغفلة وسهولة الانقياد حدا يستسلمون معه للساسة الذين تغريهم حرفة السياسة وحماقتها أن يبثوا الفرقة بين الإنسان والإنسان، ويشعلوا الحروب نارا لا تبقي ولا تذر. وإذا لم يكن أمر المبدعين للأدب في العشرات الأولى من هذا القرن هو كذلك «في الغرب» فلمن - إذن - كتب «جيمس جويس» روايته «يولسينر» عصية الفهم إلا على الدارسين، ولمن كتب «أزراباوند» شعره الذي ملأه بمفردات من لغات مختلفة يكاد يستحيل على قارئ فوق متوسط القراء أن يقرأ ليفهم، إلا إذا قرأ وهو في مكتبة جامعية تعددت فيها قواميس اللغات، لا يستثنى منها اللغة الصينية واليابانية.
كان ذلك ضربا من ضروب الألغاز في أدب هذا القرن في عشرات أعوامه الأولى. وكان بعض التعليل لتلك الظاهرة هو أن مبدع الأدب قد أراد أن يطلق لنفسه العنان إقرارا وتثبيتا لوجودها، فيشعر بحريته الشخصية وقد ردت إليه بعد الذي فقدته في عالم العلم والصناعة، بما في ذلك العالم من ضوابط وضواغط! لكن ذلك لم يكن هو الضرب الوحيد فيما لجأ إليه مبدعو الأدب في هذا الصدد، بل لجأ نفر كبير منهم عن عمد وتدبير، إلى مركبات لغوية لا تفهم بالطريقة المألوفة لفهم المقروء، قائلين في ذلك إنهم لا يعرضون على الناس «فكرا» واضح الحدود حتى يطالبهم القراء بالفهم المحدد الصريح؛ لأن ذلك أمر متروك لل «علم» في ميادينه، وأما الأدب فتصاغ عبارته ل «توحي»، فإذا أفلحت في الإيحاء للقارئ بالحالة النفسية المطلوب إشاعتها في النفوس، فقد أفلح الأدب في أداء رسالته.
وربما كان اتجاه الفن الجديد إلى التمرد على «عملية» عصرنا وما قد طغت به على روح الإنسان المتطلعة بطبيعتها، الحرة في تلقائيتها وفي تفردها ، أقول إنه ربما كان التمرد على نمطية العلم والصناعة في عصرنا، أوضح ظهورا في الفن منه في أي مجال آخر؛ فكلنا يلحظ كم تحلل الفنان التشكيلي الجديد من الروابط التي تربط مبدعاته بصور الأشياء كما تقع في الخارج، وطفق ذلك الفنان يبتكر لحريته تلك أسلوبا جديدا في كل يوم؛ فهو اليوم «تجريدي» وكان بالأمس «تكعيبيا» أو «سرياليا»، وسوف يكون غدا مزيجا من هذا وذاك. إنه لا يريد أن يكون مسئولا في إبداعه الفني إلا عن طريقة استخدامه للألوان والخطوط والفراغ والملاء في مسطح لوحته؛ فهو - كما شاع القول - ينتج «موسيقى للعين» كما ينشئ الموسيقار موسيقى للأذن، فهل يجوز لسامع المعزوفة أن يسأل الموسيقار: أين المقابل الموضوعي لمعزوفتك في الطبيعة التي تحيط بنا؟! فإذا كان هذا السؤال غير وارد في دنيا الأنغام، فيجب كذلك ألا يرد في دنيا الألوان والخطوط. ووراء هذه الحرية الذاتية في الإبداع الفني، يكمن الدافع الأساسي، وهو أن تقنين العلم والصناعة في عصرنا قد أزهق روح الإنسان وأرهقها، فانتقم لنفسه بإسرافه في الركون إلى ذات نفسه فيما يقوله شعرا وما يعزفه موسيقى وما يرسمه ألوانا وخطوطا، لا سلطان عليه في ذلك إلا قواعد الفن ذاته.
وهنا نعرج بالحديث إلى الأدب العربي وإلى الفن العربي كما نراهما الآن، لنلحظ فيهما ملامح مما قد جرى في الغرب ردا لفعل العلم والصناعة هناك، فلا يسعنا إلا التساؤل في شيء من العجب: لأي المؤثرات في حياتنا العربية يستجيب رجال الأدب والفن عندنا؟ إن العربي لم يشارك العالم الحديث في علمه وفي صناعته بأكثر من أنه يشتري مؤلفاته العلمية ليتعلم العلوم الحديثة، ويشتري مصنوعاته الجديدة لينعم بها، فلا هو عانى في ساحة العلوم إبداعا، ولا هو قد مارس حياة الصانع وهو يبتكر في صناعته أشكالا جديدة، فما الذي ضغط على نفس العربي حتى ضاقت ودفعته دفعا إلى التمرد في دنيا الإبداع الأدبي والفني، إنقاذا لتلقائيتها الطبيعية التي أفقدتها إياها معاناة العلم في انضباطه، ومكابدات الصناعات في دقتها؟ بل إن العربي في الحربين العالميتين الأولى والثانية لم يشارك محاربا في ساحات القتال، وإنما كان موقفه موقف المتفرج، كلا، بل كان موقفه موقف من وقف ينتظر حكم القضاء فيه؛ إذ إن تلك الحروب إنما وقعت بين ضباع يقتتلون على فريسة، وبين الفرائس المقتتل عليها كانت الفريسة العربية!
अज्ञात पृष्ठ
أفيحل للشاعر العربي - أو الأديب العربي، أو الفنان العربي - أن تضيق له نفس وأن يضطرب له قلب بذات الصورة التي ضاقت بها نفس الشاعر في الغرب واضطرب قلبه؟ ومع ذلك فقد شاع فينا شعر جديد انصرف فيه الشاعر إلى ذات نفسه انصرافا تاما، وأخذ يغترف من تياره الشعوري الباطني ما ليس يفهم له معنى إلا صاحبه، أو ناقد متحذلق يدعي أنه يعلم؟ نعم لقد كان ما يريده الشاعر دائما - أيا كان مكانه وزمانه - لا ينكشف كله للقارئ، بل يظل بعض المعنى المقصود حبيسا في «بطن الشاعر» - كما كان العرب يقولون - لكن تبقى بين المعلوم والمجهول من معنى الشعر المعروض، نسبة معقولة؛ ومن هنا استطاع القارئون أو السامعون درجة من الفهم، حتى لو بعدت مسافة المكان وفترة الزمان، وإلا فكيف يتاح للعربي اليوم أن يفهم بدرجة كافية، شعرا أنشده أصحابه منذ خمسة عشر قرنا؟ لكن اقرأ لشاعر عربي جديد، أو استمع، تجدك أمام مركبات لفظية قد تردعك بشفافيتها، وإيحاءاتها، وهي في كل الحالات تشير إلى باطن أكثر جدا مما تشير إلى ظاهر. وسؤالنا المطروح هنا هو: ماذا دعا شاعرنا الجديد إلى هذه الضبابية الموحية وليس هناك في حياته العصرية إلا سلبية يتلقى بها علوم الغرباء ومصنوعاتهم؟! ربما جاءك الجواب بأن أزماتهم في الوطن العربي من نوع مختلف عن أزمات المبدعين في الغرب، لكنها أزمات على أية حال جاءت، فإذا كانوا في الغرب قد ضاقوا صدرا بضبط العلم ودقة العمل في المصانع، فنحن قد ضاقت صدورنا هنا بأفاعيل السياسة الخارجية، ومظالم السياسة الداخلية، فقد تزهق نفوسهم هناك معامل العلم ومصانع الإنتاج، وتزهق نفوسنا هنا معتقلات وصور مختلفة من الاضطهاد والتعذيب والانتقام وكم الأفواه، فضلا عن ضيق اقتصادي في العيش تتعذر معه الحرية لو أردناها، فأي عجب - إذن - أن ينكب الشاعر على ما قد طواه بين ضلوعه من هموم؟ وجوابنا على ذلك هو حيرة لا تعرف كيف تجيب، اللهم إلا «حدسا» نرى به ما لا نملك له برهان العقل، والذي نراه بذلك الحدس المبهم هو أنه ما دامت قد اختلفت همومنا نوعا عن همومهم؛ إذ اختلفت مصدرا وطبيعة، فقد كان المتوقع المرجح - إذا لم تتدخل سلبية المحاكاة العمياء - أن يجيء رد الفعل على صورة عربية فريدة في نوعها وطبيعتها. وهذا الذي نقوله الآن يصدق على الأدب صدقه على الفن بجميع أشكاله، ونسوق مثلا؛ فقد نشأ في الغرب أدب «العبث» أو ما أسميناه نحن عندئذ بأدب «اللامعقول»، وكان الدافع إليه هناك هو الدافع نفسه الذي بسطناه فيما سلف، وهو أن ظروف الحياة العصرية قد مزقت المجتمع الإنساني شعوبا وأفرادا، تمزقا نشأ عنه عدم التفاهم بين متكلم وسامع أو بين كاتب وقارئ؛ إذ انسدت قنوات التفاهم بين الطرفين؛ فما يقصده المتكلم لا يصل إلى قلب السامع، لاختلاف نظرته، فيجيب جوابا بعيدا عن سياق الحديث. وهكذا جاء هذا الأدب انعكاسا للحياة المعاصرة هناك، فأغرى أدبهم العبثي هذا بعض أدبائنا لينسجوا على منواله، وكان اعتراضنا عندئذ هو أن ما دفعت إليه ضرورات الحياة هناك ليس حتما أن يكون هو ما تدفع إليه الضرورة هنا، ففيم المحاكاة؟ إنهم هناك قد شبعوا إلى حد التخمة علما وصناعة، فضاقت صدورهم، وأما نحن فلم نعبر بعد عتبة الدخول إلى دنيا العلم والصناعة، اللهم إلا في صورة سلبية متلقية، ليس فيها عناء المبادرة والكشف والإبداع، فلماذا نفزع حنينا إلى العبث كما يفزعون؟
والمفارقة التي تلفت النظر حقا، هو أننا قد نسرع إلى الأخذ بكل بدعة جديدة تظهر في الغرب، إذا جاءت في ميادين الأدب والفن، لا نقف لنرى في تلك البدعة ما يمكن أن يلتئم منها بتيارنا الذوقي وما لا يمكن، في الوقت الذي نتردد ألف مرة إذا ما دعينا إلى الأخذ بالجانب المنهجي من الحياة العقلية العلمية عندهم ، حتى لقد انقضى على لقائنا الحديث مع الغرب نحو قرنين دون أن نفتح صدورنا وعقولنا للوقفة العقلية العلمية التي هي عماد الحضارة الحديثة؛ لأنها هي التي انتهت بهذه الحضارة إلى ما يميزها من علمية النظر حتى في المجالات التي لم يكن مألوفا من قبل أن تندرج في دائرة المنهج العلمي، وبصفة خاصة ما يختص منها بالإنسان وحياته الفردية والاجتماعية، فإذا كانت حياة الغرب في حضارته الجديدة تقوم على ركيزتين؛ إحداهما علم من النوع التكنولوجي الجديد، والأخرى فنون وآداب جديدة تسرف في الاغتراف من تيار الشعور الداخلي، لعل ذلك يعين الإنسان على تقرير ذاته أمام طوفان الآلات التي يتدفق بها العلم، والتي من شأنها أن تحوله ليكون عبدا لها بعد أن كان الظن أن يكون سيدها، أقول إنه إذا كانت حضارة الغرب الحديث تقوم على هاتين الركيزتين، فقد كان موقف العربي الحديث منهما هو أن يفتح ذراعيه في فرحة الطفل، ليستقبل كل جديد في ناحية الفن والأدب، وأن يعرض عن قبول الوقفة العقلية العلمية إلا في حدود ما يحفظه أثناء دراسته، حفظا لا يصاحبه قلب مطمئن مؤمن، مع أن منطق الحياة السوية يصرخ بأنه إذا كان الإنسان ليقبل أحد الجانبين دون الآخر لأي سبب من الأسباب، فالجانب المتصل بالذات الإنسانية وذوقها - وهو جانب الفنون والآداب - هو الذي لا يؤخذ عن الغرباء بل يترك لينبع وينمو داخل الحدود، وأما الجانب العقلي العلمي فهو مشترك بين الناس جميعا؛ فلا خير في أن يأخذه عربي عن يوناني أو عن هندي أو عن إنجليزي أو عمن شاء له الحظ من سائر الشعوب أن يكون له السبق في علم أو ما يترتب على علم؛ لأن ذلك كله وليد العقل، والعقل إنساني مشترك. ولا بد لنا أن نذكر هنا عن آبائنا العرب الأولين، حين فتحوا أبوابهم ونوافذهم على الحضارات القديمة المجاورة لهم، لينقلوا عنهم ما أرادوا نقله، لم يترددوا في نقل كل ما استطاعوا الحصول عليه من نواتج العقل البشري، كالعلوم والفلسفة، لكنهم أحجموا على نقل الأدب ؛ إذ لم يتصوروا إلا أن يكون الأدب نباتا محليا ينبت في وطنه الذي ينتمي إليه.
وربما تساءل قارئ هامسا لنفسه: لماذا يزعم لنا هذا الكاتب - كما رأيناه يزعم دائما - أن العربي الحديث قد تردد في قبول الجانب العقلي العلمي من حضارة الغرب الحديث، وها هي ذي جامعاتنا وسائر معاهدنا الدراسية، مكبة على ذلك العلم بشتى فروعه ومختلف درجاته؟ والجواب على ذلك هو أن نطلب من القارئ المتسائل أن يفرق بين «حفظ» ما نتلقاه من علوم الغرب، ثم ممارسة تلك المادة المحفوظة في حياتنا العملية ممارسة تنحبس في حدودها، وبين حالة أخرى يتشرب فيها منهج ذلك العلم ليستخدمه - أولا - في المشاركة الإيجابية في الكشف العلمي، و- ثانيا - ليحمل ذلك المنهج العلمي في صدره ميزانا يزن به الأفكار العامة، كلما نشأت عند الناس فكرة يقابلون بها مشكلة عرضت لهم في حياتهم.
لكن انظر حولك بعين نزيهة، وارقب شعور العربي كما يعبر عنه في مناسبات كثيرة، نحو «العلم» وحدود قدرته، ونحو «العقل» وعجزه، ولم يكن مثل هذا الحذر في تقدير الإنسان لقدراته ليثير القلق؛ لأنه حذر مطلوب حتى لا يسرف الإنسان في ذلك التقدير إسراف الطفل الغرير الذي يمد ذراعه ليمسك بالقمر، لولا أن العربي حين يسخر من منجزات العلم الحديث، ويهزأ بالعقل الإنساني وقدراته، إنما يفعل ذلك على ظن منه بأن مثل هذه الوقفة ترضي ضميره الديني، وبأنها وقفة تتضمن أن اعتزاز الإنسان بعقله، واعتداده بقدرته العلمية كما تشهد بها منجزاته الحديثة، فيه جرأة على رب العالمين، الذي هو العليم والذي هو القدير، وكأن أحدا من الناس على مدار الكوكب الأرضي جميعا، يسبق إلى وهمه في مثل هذا السياق، أنه خالق عقل نفسه، ولذلك فهو صاحب الفضل في كل ما ينتج عن ذلك العقل من علم ومنشآت ونظم، كلا، إن شيطانا وسوس للعربي منذ نهض في أوائل القرن الماضي وإلى يومنا، بأن العقل وقدرته رجس، فلا يجوز الاقتراب منهما بأكثر من أطراف الأنامل. وإن شئت أن تتبين ذلك، فقارن مقارنة متأنية بين معظم أوطان الجنس الأصفر - الصين - واليابان، وكوريا، وتايوان وغيرها - في الروح التي يأخذون بها الجانب العلمي والصناعي من الحضارة الحديثة، دون أن يكون في ذلك إهدار لذرة واحدة من قوميتهم، أقول: قارن تلك الروح بروح العربي إزاء هذا الجانب، ولو كان العربي في غنى عن العلم ومنجزاته لقلنا معه: كفى الله المؤمنين شر القتال. لكنه من أكثر أهل الأرض إقبالا على شراء تلك المنجزات. يذكرني ذلك بخبر سمعته من صديق، أعيده هنا لنضحك تخفيفا مما يثقل قلوبنا بالحسرة والأسى، على عربي أراد له الله سبحانه وتعالى أن تكون له الريادة، وأراد لنفسه التبعية، فيقول الخبر إن بلدا عربيا يقع على شاطئ بحر يكثر فيه السمك، لكن أهله لا يصيدونه لأنهم لا يأكلونه، وجاءت إلى أرضهم شركة أوروبية وأقامت مصنعا، فيصاد السمك ويقوم المصنع بتجهيزه وتعليبه، فأقبل الناس عندئذ على شرائه في صورته المصنعة! ولنتذكر أن الشركة الأوروبية قد استخدمت أهل البلد في عملية الصيد وقام مصنعها بالإعداد والتعليب! وفي هذا الخبر موازاة مع ما كنا بصدد الحديث فيه؛ فقد وهبنا خالقنا عز وجل «عقولا» لتنجز ما يتفق مع طبيعة العقل، وطبيعته فكر وعلم وزراعة وصناعة ... إلخ، فأهملنا عقولنا في أدمغتنا، عزوفا عن إعمالها فيما خلقت لتؤديه، فلما أنجز الغرب ما أنجزه بعلمه، اشتريناه!
لكل عصر فكرة تميزه، لا يشذ عن ذلك عصرنا، وفكرته - أساسا - هي أن يقرأ الطبيعة قراءة جديدة، لم يقرأها من قبل عصر آخر، وهي قراءة نتجت عنها للإنسان حسنات وسيئات؛ فمن العلوم الجديدة وتطبيقاتها نشأت حرية أوسع أفقا وأعمق غورا، حين تحرر الإنسان بفضلها من عوائق الطبيعة، لكن المصدر نفسه قد أدى إلى قيود من نوع جديد فرضت على الإنسان، كادت تفقده هويته وذاتيته، لولا فنون جديدة، وآداب جديدة وبعض النظم الجديدة، عملت كلها على إعادة التوازن، وهذا هو عصرنا بخيره وبشره. ولست أطالب العربي بأن يسبح في بحره عن صمم وعمى، بل أطالبه بأن يشارك بنصيب في الإمساك بعجلة القيادة، ليحمل مع غيره تبعات عصر هو يعيش فيه.
3
حوار غريب جرى بين هذا الكاتب ونفسه، عندما أمسك بالقلم ليكتب هذا الجزء الثالث من حديثه عن هذا العصر الذي هو عصرنا، فانقسمت نفسه قسمين؛ سائلا ومجيبا. وفيم الغرابة؟ أليست هذه هي طبيعة العملية الفكرية كلما وقعت لإنسان؟ ماذا تكون «الفكرة» - أية فكرة وكل فكرة بلا استثناء - إن لم تكن عند صاحبها جوابا عن سؤال دارت به نفسه وإن لم ينحدر بين شفتيه لفظا مسموعا؟ كل فكرة هي جواب عن سؤال فقد كان موضوع ما غامضا عند السؤال، وأصبح واضحا بدرجة ما عند الجواب، ولكن لا علينا، فماذا سألت النفس السائلة عند هذا الكاتب لحظة إمساكه بالقلم ليكتب، وبماذا أجابت النفس المجيبة؟
بدأت السائلة فقالت: مهلا! ألا تلحظ أن فترة الزمن التي تسميها «عصرنا» تكاد هي نفسها أن تكون فترة الأعوام التي امتدت بك على هذه الأرض؟
قالت المجيبة: إي والله إنهما ليكادان يتطابقان؛ فقد امتد بي العمر حتى أمسك بالقرن العشرين من طرفيه، أو هو أوشك على ذلك، ولكن ماذا تريدين بسؤالك؟
قالت السائلة: لقد طافت بي فكرة أردت عرضها، وهي أن أسألك: ألا يكون من الطريف ومن المفيد أن يجيء حديثك هذه المرة عن عصرنا حديثا عن صورة العصر مجسدة في خبرتك؟ فتحدث أيها الكاتب عن نفسك، تحدث عن عصرك من الزاوية التي رأيته منها.
अज्ञात पृष्ठ
قالت المجيبة: وهل تظنين أن أمامي طريقا غير هذا الطريق؟ ومن أين يغرف الكاتب مادة حديثة إذا لم يغترفها من تجاربه؟
وهنا بدأت أكتب لأضع حقيقة أولى بين يدي القارئ. وهي أني رجل قسمت له حياة هادئة أهدأ ما تكون الحياة، قضى معظمها (أم أقول «كلها») في بحر من كلمات قارئا حينا، كاتبا حينا، وكان ذلك منذ خرج من برعم الطفولة. إنه لم يواجه صور الحياة في زحمة الطريق، بل التقط ما التقطه منها حين وقعت عيناه عليها (وكانت له عندئذ عينان) مرسومة في كلمات، فكان كلما وقع على شيء منها بدت له الكلمات كأنها مصابيح يفهم على ضوئها ألغازا، مما شهده بالفعل في مسالك الناس، وما يكون «العصر» الذي نتحدث عنه، إلا أناسا وما سلكوا؟ ومن السلوك ما يبني ومنه ما يهدم، أو يذهب في الهواء هباء مع الهباء.
وصورة الحياة خلال هذا القرن العشرين، هي - كما انطبع بها صاحب هذه الكلمات - حروب وثورات تملأ النصف الأول من القرن، فكأنها الفئوس تهوي على البنيان العتيق لتهدمه. يتلوه ربع القرن، جاء كأنه الصدى لتلك الحروب والثورات لأنه شغل نفسه بأن يهيل البنيان المتهاوي ركاما من الأنقاض، ثم بدأت بعد ذلك بشائر رفع الأنقاض لتخلو الأرض لبنيان جديد يقام على فكر جديد. والأمل هو أن يتحقق هذا الحلم إبان القرن الحادي والعشرين، فأما أولى هذه المراحل الثلاث فهي التي شهدت حربين عالميتين؛ الأولى فيما بين 1914م و1918م، ولم تقع أنباؤها على مسمع هذا الكاتب إلا كما تقع أواخر الصدى، صوتا خافتا محيت حروفه ومعالمه، ففقد المعنى. وأما الثانية فكان صاحبنا ينتقل مع العمر بين الشباب والرجولة، ومع ذلك فلم يدرك أبعادها ومغزاها كل الإدراك، مع أنه قضى شطرا منها في إنجلترا دارسا، فشهد شررها من بعيد فعرف لمحة من ضراوتها، وهي حرب امتدت ما بين 1939م و1945م. ومع الحربين العالميتين، وقعت في الفترة التي نتحدث عنها، ثورات وحروب إقليمية كانت بالنسبة إلى الحربين العالميتين بمثابة الهوامش التي تورد تفصيلات توضح ما قد ورد في المتون، وذلك إذا رأينا في تلكما الحربين ما يشير إلى انقلاب حضاري وشيك الوقوع، تتغير فيه أوضاع العالم تغيرا ينقله من قديم إلى جديد. ومن الثورات نذكر ثورة روسيا سنة 1917م، وثورة مصر سنة 1919م، ومعها ثورة الهند، ومن الحروب الإقليمية نذكر الحرب الأهلية في إسبانيا في الثلاثينيات بين اليمين واليسار. وكان من أهم معالم تلك الفترة «فاشية» موسوليني في إيطاليا، و«نازية» هتلر في ألمانيا؛ مرحلة صخبت بدوي المدافع في ساحات القتال وبهتافات الحناجر في شوارع المدن، وبملايين الضحايا سالت دماؤهم لتشهد على غفلة الإنسان وهو يمسك بالزمن حتى لا تتحرك خطاه، ولتشهد في الوقت نفسه على طموح الإنسان، وهو يدفع الزمن دفعا لينقل قدميه سائرا بالناس إلى أمام.
ولقد أراد الله لهذا الكاتب أن يكون رفيق كتاب متعلما ومعلما، وصاحب فكر حر ناقد يبحث في وقائع الدنيا عن «أفكارها» التي تخفيها وراء ظاهرها، وحامل قلم يرصد ما قد اختلجت به نفسه من رؤى، فرأيناه خلال ما وعاه من تلك الحروب والثورات، قد استخلص لنفسه شيئا من لبابها كما يراها. وكان من ذلك اللباب الذي استخلصه، والذي وجد مصداقه فيما يحياه هو في شخصه وفيما يكابده في تلك الحياة من شد وجذب، أقول إنه كان قد رأى في اللباب الذي استخلصه مما حوله، ومما يحس ويعي أن هذا العصر بحروبه وثوراته قد جاء إلى الناس بأضداد لم يستطيعوا حتى هذا اليوم أن يوفقوا بينها لتستقيم بهم حياة وتستقر.
وفي مقدمة هذه الأضداد ما تطلبه العصر من حرية للإنسان الفرد، وما تطلبه في الوقت نفسه من سيطرة الجماعة على كل فرد من أفرادها، ومن تكون هذه الجماعة؟ إنها في معظم الحالات تكون متمثلة في إرادة حاكمها وفي لسانه، فما يريده هو يصبح بقدرة قادر ما تريده الجماعة كلها، وما ينطق به لسانه هو يكون بمشيئة الله ناطقا بما تريد الجماعة أن تقوله لو كان لها لسان. لقد كان صاحب هذه الكلمات شابا في فترات الثورات والحروب، كان قارئا دءوبا للكتاب العرب ولبعض الأعلام من كتاب الغرب، فكان أعمق الأثر فيما تركه هذا كله في نفسه، هو أن الأولوية الأولى في القيم الإنسانية، إنما تكون لحرية الفرد فكرا ونشاطا، مع ما يراعى في هذه الحرية الفردية من عدم العدوان على حريات الآخرين. وكيف يخرج بنتيجة غير هذه النتيجة، ما دام قد قرأ متفهما مترويا، ما كتبه أحمد لطفي السيد، وطه حسين والعقاد وهيكل وسلامة موسى وغيرهم من أعلام ذلك الجيل؟ ثم كيف يخرج بنتيجة غير هذه عن حرية الفرد من الناس فكرا وفعلا، بعد أن قرأ شيئا كثيرا بما كتبته الطليعة الفكرية في إنجلترا بصفة خاصة ممن أطلقوا على أنفسهم منذ أوائل القرن اسم «جماعة بلومزبري»؟ إن كل كاتب من أولئك وهؤلاء كان يترك قارئه وقد ارتسمت في ذهنه صورة للإنسان الذي يحترم إنسانيته فردا قوي الاعتداد بفرديته؛ لأنه مسئول وحده أمام ضميره، ومسئول وحده أمام الله سبحانه وتعالى عما نطق به لسانه وما قدمته يداه. أيقول يومئذ إذا سئل عن ضلالة اقترفها: لقد خطب الزعيم في الجمهور فقال:
بالحق أو بالباطل خرج صاحبنا مما قرأه لأعلام عصرنا، هنا وهناك، بأن للفرد الإنسان حقوقه التي تنبع له من فطرته التي فطره خالقه عليها ولا تمنح له هبة من أحد، وعلى رأس القائمة في تلك الحقوق الفطرية حق «الحرية» على أن تفهم عند الناس فهما مستنيرا؛ فهي دائما قوة تبني ويستحيل على طبيعتها أن تكون عامل هدم، إلا أن تهدم العوائق التي تصادفها على الطريق. لكن العصر نفسه الذي نادت بشائره بحرية الإنسان فردا مسئولا، قد حمل في أعطافه رسالة أخرى، فحواها أن يتكتل جمهور الناس في الجماعة المعينة ليجعلوا الحياة مشاركة متساوية بين الجميع، عاليهم مع سافلهم عند السفوح، أو سافلهم مع عاليهم عند الذرى. وكما كان محالا - من الوجهة العملية - أن تتحقق هذه المشاركة المتساوية إلا إذا أمسك بالزمام زعيم قوي القبضة صارخ الصوت، فلتكن هذه سنة الحياة الإنسانية؛ ومن هنا تولدت نظم سياسية في كثير جدا من بلدان العالم الثالث، التي ظفرت بحرياتها السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، ونتيجة لها كفرت بحرية الفرد مستقلا عن قومه. إذن فلا مجال لأحزاب تصطرع في الرأي، ولا موضع لجهود فردية يسير بها أصحابها ليحققوا نجاحا لأنفسهم في دنيا الاقتصاد، إلى آخر ما نعرفه في هذا السبيل.
ولا يدري صاحب هذه الكلمات كم من الناس هم الذين أحسوا بالتضاد بين الدعوتين اللتين جاء بهما عصرنا؛ دعوته إلى حرية الإنسان، ودعوته إلى حياة المشاركة المتساوية بين الناس ومشاركة تمحو الفوارق التي قد تفضل منهم إنسانا على إنسان. لكنه - أعني هذا الكاتب - قد أحس ذلك التضاد في كل نفس شهقت به رئتاه أو زفرت، فلو أنه كان ممن يحيون لأنفسهم فكرا لجاز له أن ينطوي على أفكاره التي قد تتولد له عما يجب وما يجوز وما يمتنع فلا يحس بفكره أحد؛ ومن ثم فلا يلحظ حدة التضاد الذي أشرنا إليه فيما يخص حق «الحرية» كما جاء عصرنا مبشرا به، لكنه - أعني هذا الكاتب - قد وضع لسانه في سن قلمه منذ زمن بعيد، منذ أن كان في عشرينيات عمره الأولى، أحس به القراء أو لم يحسوا فذلك لا ينفي شيئا من صدق هذا القول، لكن الذي أحس بما يكتبه منذ ذلك الزمان البعيد هي إدارة الحكومة التي لم يكن ليعلم أين تسكن ولا من يمثلها.
ولم يكن قط هذا الكاتب ممن تعلقت نفوسهم بالسياسة، إلا كما يتأثر كل عابر سبيل من المواطنين، حتى نتوقع لإدارة الحكم أن تمد بصرها وسمعها لترى وتسمع ما يكتبه شاب هو من غمار الشباب - نعم، إنه لا يتواضع إذ يقول هذا القول عن موقعه من الناس يومئذ - وإنما كان كل اهتمامه معلقا بمستويات الفكر التي تتصل بمواقع الحياة اتصالا وثيقا، ولكنها في الوقت نفسه تعلو عن أرض هذه الحياة العملية بضع درجات لتصل إلى مبادئها ومراميها، وما هو إلا وقد أطبق عليه سدنة الحكم ذات يوم، والشاب لم يزل في باكورة حياته الفكرية ليجروه إلى تحقيق إداري طال فيه السؤال وطال الجواب:
س:
ماذا تعني بقولك كذا وكيت؟
अज्ञात पृष्ठ