2
فتح القرن العشرون أبوابه على أفكار ضخمة غزيرة الثراء، أفرزتها عقول الجبابرة من أبناء القرن الماضي، ولكن القرن الماضي لم ينعم ولم يشق بالعيش في ظلال أفكاره، وترك لخلفائه من أبناء هذا القرن العشرين، أن يحللوها ويبسطوها ويطوروها، لتخرج بهم آخر الأمر من حياة ذهب عهدها، إلى حياة جديدة في عهد جديد. وكانت هذه هي سنة الحياة الفكرية على امتداد تاريخها؛ فرجال الفكر يفرزون فكرهم الرامي إلى التطوير والتعديل، ثم يذهبون مع ذهاب جيلهم دون أن يتسع لهم الوقت فيروا ثمرات فكرهم، وقد سارت بأرجلها على الأرض أو طارت بأجنحتها في السماء؛ لأن هذه الثمار الحية التي تتفتق عنها الأفكار، إنما هي مقسومة للجيل اللاحق أو الأجيال اللاحقة. وهكذا كان الأمر حين ورثنا نحن أبناء هذا القرن العشرين، عن القرن الماضي، وكان علينا نحن أن نستولد تلك الأفكار نتائجها لنحيا بها ولها. ولقد أسلفنا لك القول في حديثنا الماضي، بأن تلك الأفكار الضخمة القوية الغنية بما انطوت عليه من غزارة الفحوى، وإن تكن قد اختلفت ميادينها، إلا أنها جميعا أوشكت أن تدور معا على مدار واحد، هو أن الحقيقة الكونية في مجموعها، وأن كل كائن حي مفرد من كائناتها، جوهره «الحركة» وليس «السكون»، وأن كل شيء تنبع له حركته التي يتغير بها ويتطور من داخله، وليس كل التغير ناشئا عن فعل العوامل الخارجية.
وكان من الطبيعي أن تتولد عن هذا التحول رؤية علمية جديدة، ترى الأشياء نامية متطورة متغيرة، بعد أن كانت الفكرة العلمية قائمة على افتراض الثبات والسكون والدوام على حالة واحدة، فلا يتحرك ساكن إلا بعامل خارجي يحركه، ولا يسكن متحرك إلا بعامل خارجي يوقف حركته. وكان السؤال إذا ما رأى الناس متحركا أن يسألوا: ما الذي بث فيه الحركة، فأصبح السؤال إذا ما رأى الناس ساكنا أن يسألوا ما الذي جمد فيه حركته؟ واختصارا كان الثبات الساكن هو الأساس المفترض، فأصبح التغير المتحرك هو ذلك الأساس. ولا عجب أن ترى ذلك كله قد انعكس في فلسفات «التطور» التي شغلت كثيرين من فلاسفة القرن الماضي والقرن الحالي على السواء.
ومع هذا التغير في الرؤية العلمية، من السكونية إلى الحركية، أضيفت للعلم قوة منهجية تتمثل في استخدامه للأجهزة في بحوثه استخداما على نطاق واسع، حيث أصبحت هذه الظاهرة معلما من أبرز معالم عصرنا، وهي ظاهرة التكنولوجيا أو «التقنيات». وقد أسلفنا لك في حديثنا الماضي أن المعنى الأساسي لهذه الكلمة كان يشير إلى منهج البحث، ولكنه اتسع مع الأيام ليضيف جانبا آخر، وهو الشائع اليوم بين الناس، وذلك هو أن يطلق هذا الاسم نفسه على المصنوعات التي تنتج عن استخدام ذلك المنهج، وبعبارة قصيرة نقول إن التعبير الصحيح بادئ الأمر، هو قولهم، العلم بالتكنولوجيا، ثم غلب على الناس اليوم أن يقولوا «العلم والتكنولوجيا» كأن العلم شيء يسبق، والتكنولوجيا شيء آخر يتبعه في الظهور.
وفتحت أبواب القرن العشرين، فيما فتحت عليه، على هذا الضرب الجديد من العلم الذي يقام على أجهزة، وينتج بدوره أجهزة، وكانت لهذه الحداثة العلمية حسناتها وسيئاتها، كان لها خيرها وشرها، وفي طليعة خيراتها - كما بينا في الحديث السابق - ما كسبته للإنسان من حرية يتحرر بها من قيود الطبيعة المادية، بعد أن طال العهد بالإنسان عبدا لها، فمن ذا الذي استطاع من بني الإنسان، منذ دب إنسان على الأرض بقدميه، أن يغوص في أغوار البحر كما غاص إنسان اليوم، أو أن يطير في أطباق السماء كما طار، أو أن يسرع في انتقاله على اليابسة كما أسرع؟ من ذا استطاع في كل من شهدهم التاريخ، أن يخترق الجدران بضروب الأشعة ليرى ما وراءها ويسمع؟ فطبيب اليوم يكشف في جسم مريضه عن كل خبيء مستور في القلب والرئتين والمعدة والأمعاء، دون أن ينخدش خدش في جسم المريض. ومن ذا الذي استطاع من أطباء الأمس القريب والبعيد، أن يستبدل في الإنسان المريض بقلبه التالف قلبا صحيحا، وبكليته الفاسدة كلية سليمة؟ من الذي أرغم جفاف الصحراء أن ينتج الغلال والخضر والزهور كما أرغمه إنسان اليوم، ثم من ذا الذي جرؤ أن يصنع ما يشبه العقل الإنساني في جهاز كما جرؤ إنسان اليوم؟!
ولن نستطرد أكثر من هذا في ذكر ضروب من سيطرة الإنسان على تمرد المادة وعنادها بفضل العلم الجديد وتقنياته، لكي نقلب صفحته الأخرى التي ملئت بقيود وأغلال قيدت الإنسان وغلته بسبب العلم الجديد وتقنياته. وقد ذكرنا في حديثنا الماضي أمثلة لذلك فيها الكفاية، إلا أن إنسان العصر لم يقف عاجزا أمام هذه العلوم، ينعم بخيرها ويشقى بشرها وهو في حيرة من أمره، بل هو يحاول أن يجد لسموم حضارته الجديدة، لعلمها التقني الجديد، ترياقها، فإذا كان العلم الجديد بما يفرضه على طبيعة الإنسان من ضوابط وقيود، قد سلبه تلقائيته الفطرية، بمثل ما أضاف له حرية إزاء الظواهر الطبيعية التي لم يكن له إزاءها حول ولا قوة، فقد شاع في نفسه شعور بالضيق للتلقائية الحرة التي ضاعت، أكثر مما شاع فيها من رضى وطمأنينة بالحرية المكسوبة، التي أمدته بشيء من السيادة على عناصر الطبيعة التي تحيط به؛ ومن ثم راح ينشئ لنفسه أدبا جديدا، وفنا جديدا، روعي فيهما أن تكون النبرة الذاتية الخاصة بالمبدع، أعلى صوتا وأبرز ظهورا من الجانب الذي يشير إلى وقائع الكون الخارجي وقوانينها، راجيا بذلك أن يعتدل له الميزان بين داخل وخارج، أو بين ذات وموضوع.
فرأينا في الأدب الجديد صورا اغترفها الأديب المبدع من ذات نفسه اغترافا، حتى ليكاد المتلقي أن يتعذر عليه الفهم؛ إذ الفهم ميسور حين تكون الإشارة إلى «واقع» مشترك بين المبدع من جهة والمتلقي لثمرة إبداعه من جهة أخرى. أما حين تنعدم، أو تكاد تنعدم تلك الحلقة الوسطى، فها هنا يتعذر جدا في كثير من الأحيان أن يجد المتلقي ما يفهمه حق الفهم فيما يطالعه من شعر أو رواية أو مسرحية من الأدب الجديد، اللهم إلا أن يتولى ذلك دارس متمكن، يستطيع أن يرجع إلى مراجع المكتبة الأدبية، ليتعقب الغوامض إلى أصولها عساها تضيء له ما قد غمض عليه واستعصى. وهذا هو ما رأيناه في الأدب الأوروبي الجديد عقب الحرب العالمية الأولى، بل وإن مبدعي الأدب عندئذ لم يجعلوا أمرهم سرا على الناس، وأعلن بعضهم صراحة بأنه قد تعمد الغموض إلا على القادرين. وأما العامة من جمهور القراء - إذا جاز هذا القول - فلم يكونوا عندهم بذوي خطر يحسب له حساب، وإلا فكيف أمكن أن تصل بهم الغفلة وسهولة الانقياد حدا يستسلمون معه للساسة الذين تغريهم حرفة السياسة وحماقتها أن يبثوا الفرقة بين الإنسان والإنسان، ويشعلوا الحروب نارا لا تبقي ولا تذر. وإذا لم يكن أمر المبدعين للأدب في العشرات الأولى من هذا القرن هو كذلك «في الغرب» فلمن - إذن - كتب «جيمس جويس» روايته «يولسينر» عصية الفهم إلا على الدارسين، ولمن كتب «أزراباوند» شعره الذي ملأه بمفردات من لغات مختلفة يكاد يستحيل على قارئ فوق متوسط القراء أن يقرأ ليفهم، إلا إذا قرأ وهو في مكتبة جامعية تعددت فيها قواميس اللغات، لا يستثنى منها اللغة الصينية واليابانية.
كان ذلك ضربا من ضروب الألغاز في أدب هذا القرن في عشرات أعوامه الأولى. وكان بعض التعليل لتلك الظاهرة هو أن مبدع الأدب قد أراد أن يطلق لنفسه العنان إقرارا وتثبيتا لوجودها، فيشعر بحريته الشخصية وقد ردت إليه بعد الذي فقدته في عالم العلم والصناعة، بما في ذلك العالم من ضوابط وضواغط! لكن ذلك لم يكن هو الضرب الوحيد فيما لجأ إليه مبدعو الأدب في هذا الصدد، بل لجأ نفر كبير منهم عن عمد وتدبير، إلى مركبات لغوية لا تفهم بالطريقة المألوفة لفهم المقروء، قائلين في ذلك إنهم لا يعرضون على الناس «فكرا» واضح الحدود حتى يطالبهم القراء بالفهم المحدد الصريح؛ لأن ذلك أمر متروك لل «علم» في ميادينه، وأما الأدب فتصاغ عبارته ل «توحي»، فإذا أفلحت في الإيحاء للقارئ بالحالة النفسية المطلوب إشاعتها في النفوس، فقد أفلح الأدب في أداء رسالته.
وربما كان اتجاه الفن الجديد إلى التمرد على «عملية» عصرنا وما قد طغت به على روح الإنسان المتطلعة بطبيعتها، الحرة في تلقائيتها وفي تفردها ، أقول إنه ربما كان التمرد على نمطية العلم والصناعة في عصرنا، أوضح ظهورا في الفن منه في أي مجال آخر؛ فكلنا يلحظ كم تحلل الفنان التشكيلي الجديد من الروابط التي تربط مبدعاته بصور الأشياء كما تقع في الخارج، وطفق ذلك الفنان يبتكر لحريته تلك أسلوبا جديدا في كل يوم؛ فهو اليوم «تجريدي» وكان بالأمس «تكعيبيا» أو «سرياليا»، وسوف يكون غدا مزيجا من هذا وذاك. إنه لا يريد أن يكون مسئولا في إبداعه الفني إلا عن طريقة استخدامه للألوان والخطوط والفراغ والملاء في مسطح لوحته؛ فهو - كما شاع القول - ينتج «موسيقى للعين» كما ينشئ الموسيقار موسيقى للأذن، فهل يجوز لسامع المعزوفة أن يسأل الموسيقار: أين المقابل الموضوعي لمعزوفتك في الطبيعة التي تحيط بنا؟! فإذا كان هذا السؤال غير وارد في دنيا الأنغام، فيجب كذلك ألا يرد في دنيا الألوان والخطوط. ووراء هذه الحرية الذاتية في الإبداع الفني، يكمن الدافع الأساسي، وهو أن تقنين العلم والصناعة في عصرنا قد أزهق روح الإنسان وأرهقها، فانتقم لنفسه بإسرافه في الركون إلى ذات نفسه فيما يقوله شعرا وما يعزفه موسيقى وما يرسمه ألوانا وخطوطا، لا سلطان عليه في ذلك إلا قواعد الفن ذاته.
وهنا نعرج بالحديث إلى الأدب العربي وإلى الفن العربي كما نراهما الآن، لنلحظ فيهما ملامح مما قد جرى في الغرب ردا لفعل العلم والصناعة هناك، فلا يسعنا إلا التساؤل في شيء من العجب: لأي المؤثرات في حياتنا العربية يستجيب رجال الأدب والفن عندنا؟ إن العربي لم يشارك العالم الحديث في علمه وفي صناعته بأكثر من أنه يشتري مؤلفاته العلمية ليتعلم العلوم الحديثة، ويشتري مصنوعاته الجديدة لينعم بها، فلا هو عانى في ساحة العلوم إبداعا، ولا هو قد مارس حياة الصانع وهو يبتكر في صناعته أشكالا جديدة، فما الذي ضغط على نفس العربي حتى ضاقت ودفعته دفعا إلى التمرد في دنيا الإبداع الأدبي والفني، إنقاذا لتلقائيتها الطبيعية التي أفقدتها إياها معاناة العلم في انضباطه، ومكابدات الصناعات في دقتها؟ بل إن العربي في الحربين العالميتين الأولى والثانية لم يشارك محاربا في ساحات القتال، وإنما كان موقفه موقف المتفرج، كلا، بل كان موقفه موقف من وقف ينتظر حكم القضاء فيه؛ إذ إن تلك الحروب إنما وقعت بين ضباع يقتتلون على فريسة، وبين الفرائس المقتتل عليها كانت الفريسة العربية!
अज्ञात पृष्ठ