على أن الشعر والرواية والمسرح، إذا جاء أدبها رفيع المستوى كتلك الآيات التي خلدت على طول الزمان، تحتم أن ينطوي كل ناتج منها على مضمون فكري، مضمر في ثناياه كالدر في أصدافه، وتكون مهمة الناقد الأدبي في هذه الحالة هي إخراج ذلك الدر الفكري المستتر، إلى علانية تراها الأبصار.
فعالم «الفكر» الذي هو عالم «القيم» بصفة أساسية؛ قد يعرض الفكرة المعينة في عناصرها العارية المجردة، وعندئذ تكون فلسفة، والفلسفة تقع مع العلم في امتداد واحد، نصف منه يكمل النصف الآخر، وشرح ذلك يطول وكذلك قد يعرض الفكرة في صورة من صور الأدب، كما فعل سارتر حين جسد بعض أفكاره في مسرحياته.
فلكل قطعة من الأدب الرفيع فكرتها، ولكل فكرة وسائل تتجسد بها في أدب رفيع.
القسم الثاني
إنسانية الإنسان
الفصل الرابع عشر
إنسانية الإنسان
ما الذي يجعل الإنسان إنسانا؟ سؤال يطرح نفسه على من يتوق إلى بلوغ ما يدنو به إلى الكمال؛ وذلك لأن لكل شيء في هذه الدنيا وظيفة يؤديها، وإنه ليحقق من كماله بمقدار ما يحسن أداءه لوظيفته التي خلق من أجلها، على أن ذلك الأداء إنما يجود أقصى جودته عندما يصدر فعله عن طبع لا تكلف فيه، وإذا أردت مثلا لذلك فانظر إلى الشمس كيف ترسل ضياءها، والوردة كيف تنشر أريجها، وإلى الطائر كيف يغرد.
وعلى هذا النحو يكون الإنسان الكامل، تجيء أفعاله انعكاسا لطبعه، فإذا ألقينا على أنفسنا السؤال الذي بدأنا به هذا الحديث، وهو ما الذي يجعل الإنسان إنسانا؟ كان ذلك بمثابة سؤال عن حقيقة النفس الإنسانية ما هي؛ لأن درجة الكمال في أفعالنا تتفاوت بتفاوت تصويرها للنفس وهي في حالة كمالها، ولكي نزيد هذا القول وضوحا، أقول: افرض أن أمامك ورقة رسمت عليها عدة دوائر، وأن هذه الدوائر لم ترسم على درجة متساوية من الدقة، ثم أردت أن ترتبها بحسب درجة الدقة في كل دائرة منها، فماذا أنت صانع؟ ما هو المعيار الذي تستخدمه في ترتيب تلك الدوائر؟ أليس معيارك في ذلك هو «تعريف» الدائرة كما يحدده علماء الرياضة؟ أي إن للدوائر صورة مثلى يستطيع الرياضي حسابها ومعرفة أبعادها؟ وعلى تلك الصورة المثلى تقاس الدوائر المرسومة أمامك على الورق، فالأكمل منها هو الأقرب إلى النموذج الرياضي، أعني أنه هو الأقرب إلى «تعريف» الدائرة.
وهذا المثل يوضح لنا القاعدة التي يجب أن تتبع كلما أردنا أن نعرف - بين أفراد نوع معين - أيها يكون أكمل من سواه، فالأكمل هو ما يكون أقرب إلى الصورة المثلى كما يتصورها العقل بالنسبة إلى النوع المعين الذي نكون بصدد الحكم على أفراده بما في ذلك الإنسان نفسه، فإذا سألنا عن مجموعة معينة من الناس، نريد أن نعرف ترتيب أفرادها في درجات كمالهم، كان لا بد لمن يريد الجواب الصحيح أن يكون على علم بحقيقة النفس وما يراد لها أن تكون عليه عندما تكون في صورتها المثلى، وعندئذ يسهل قياس المسافة التي يبعد بها أفراد تلك المجموعة ، أو التي يقتربون بها من ذلك النموذج.
अज्ञात पृष्ठ