إن هنالك طريقة يستخدمونها في مصانع الصلب، التي يصنعون فيها ألواحا من المعدن يراد لها أن تكون مستوية السطح استواء تاما، وتلك الطريقة هي أن يصبوا عنايتهم كلها على لوح واحد يصوغونه صياغة نموذجية من حيث استواء السطح، ليتخذوه بعد ذلك معيارا لغيره، وذلك بأن يطلى ذلك اللوح النموذجي بطلاء ملون، فإذا أرادوا التيقن من استواء غيره وضعوا هذا الأخير فوق النموذج، فإذا وجد أن الطلاء قد شمل السطح كله؛ كان مستويا، أما إذا وجد أن الطلاء قد أصاب مواضع دون أخرى؛ كان السطح غير مستو استواء كاملا، وهكذا يكون الدور الذي تؤديه الصورة المثلى بالقياس إلى سائر الحالات المفردة التي يراد لها أن تجيء على غرار تلك الصورة.
ونعود إلى سؤالنا الأول: ما الذي يجعل الإنسان إنسانا؟ فها هنا كما هو الحال في شتى أنواع الكائنات نبحث عن صورة مثلى للإنسان ليقاس عليها سائر الأفراد. وبادئ ذي بدء علينا أن نطرح من الوجود الإنساني تلك الجوانب التي يشترك فيها الإنسان وغيره من الكائنات الحية، فهو يشترك مع النبات والحيوان في عمليتي النمو بالاغتذاء، ثم التكاثر، نعم هي جوانب ضرورية لوجوده، لكن الذي يميزه من حيث هو إنسان شيء آخر يضاف إلى تلك الجوانب، فماذا عساها أن تكون؟ إن لكل كائن كماله الذي يلائم طبيعته؛ فكمال السمكة الذي تستطيع به السبح في الماء والتقاط غذائها منه، غير كمال الطير الذي يمكنه من الطيران في الهواء، ومن بناء أعشاشها حيث تبينها، وهذا وذاك يختلفان في صورة الكمال عما يكون للأسد والقط وهكذا، ولا يشذ الإنسان عن غيره في ذلك، فماذا عساها أن تكون صورة الكمال المنشودة في الإنسان، والتي إذا ما وقعنا على عناصرها المكونة لها، نكون قد وقعنا على المعيار الذي تقاس به إنسانية الإنسان، ثم يكون هو نفسه المعيار الذي تقاس به درجات التفاوت بين إنسان وإنسان؛ فليس الناس سواء كلهم في الجانب الإنساني منهم، حتى لقد قيل إن واحدا قد يساوي ألفا من الآخرين؟
وفي ذلك يقول مسكويه، الذي هو أقدر من كتب في فلسفة الأخلاق من أسلافنا (توفي 421ه/1029م) وذلك في كتابه «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق»: إن للإنسان قوتين، إحداهما قوة عالمة، والأخرى قوة عاملة، فبالأولى يفكر الإنسان فيما يستدعي التدبر العقلي من شئون حياته، وبالأخرى يعمل لتنفيذ ما كان رسمه لنفسه بفكره، ولما كان لكل قوة كمالها الخاص بها، كان للإنسان وجهان من الكمال يسيران، فكمال في دقة التفكير وتسامي أهدافه، وكمال آخر في إتقان التنفيذ عند التطبيق، فعندما قال من قال عن الناس: إن واحدا منهم كالألف، فلا بد أن يكون ذلك الواحد الممتاز إما قادرا بفكره أن يبلغ ما يتطلب بلوغه ألفا من الآخرين، وإما قادرا بفعله أن يؤدي ما يحتاج أداؤه إلى ألف ممن عداه، وإما أن يكون امتيازه بالنسبة إلى الآخرين شاملا للجانبين معا: الفكر والفعل.
ويريد كاتب هذه السطور - بكل التواضع الذي تحتمله فطرة البشر - أن يضيف تصحيحا لهذا الذي قاله مسكويه، فالعقل بفكره في ناحية، ثم التنفيذ والتطبيق من ناحية أخرى، مهما افترضنا فيهما من درجة الكمال، لا يكفيان؛ لأن العقل بعلمه وفكره قد يخطط شيئا، لو أنه انتقل مباشرة إلى دنيا التنفيذ والتطبيق لأهلك الإنسانية جمعاء، ومصداق ذلك وارد فيما نسمعه اليوم من العلماء والخبراء على القوى النووية وما تستطيع أن تفنيه في مثل اللمح بالبصر، لا بد من ضوابط فيما بين الطرفين، وماذا تكون تلك الضوابط إلا الأمر الديني بما يشتمل عليه من قيم الأخلاق؟ فللعقل أن يفكر ما وسع قدراته أن يفكر، لكن الإنسان الكامل بما يكون مزودا به من قيم خلقية يقف رقيبا قبل البدء في مرحلة التنفيذ والتطبيق، ليحدد مجال الفعل بحيث تضمن لنا أن ما قد ارتآه العقل بقوة ذكائه، سيكون في صالح الإنسانية إذا ما تحول إلى عمل، وليس ذلك ما هو حادث بيننا اليوم؛ إذ تركنا العقل ينطلق بفاعليته الجبارة في مجال الكشف العلمي، ثم جاء الإنسان ليستغل تلك النتائج العلمية في الحروب وغيرها من ضروب التنافس دون أن يردعه الضمير الخلقي نحو سلامة البشر إلا قليلا، وأصبح العنف هو القاعدة في التعامل بين الفئات المتقاتلة، فيصيب في طريقه الشيطاني ألوف الأبرياء بعد ألوفهم، مما دعا كثيرين من رجال الفكر في الغرب إلى اتهام الحضارة القائمة بأنها حضارة عرجاء تسير على رجل واحدة، هي جانب العلم الذي يقفز قفزات الجبابرة بلا قيود، وأما الرجل الثانية التي غابت فأصيبت الحضارة لغيابها بالعرج فهي جانب الرادع الخلقي، فالعلم وحده قوة محايدة، لا شأن لها بالجانب الوجداني من الإنسان، وإذن فلا لوم على علم وعلماء فيما ينكشف للإنسان من أسرار الكون، وإنما اللوم واقع على قصور التربية الدينية وما تحمله في طيها من حاسة خلقية، فلو أن هذه الحاسة بثت في أنفس الناس لكان في ذلك صمام أمن يكفل للإنسانية ألا يصيبها من نتائج العلوم الإنسانية إلا حسناتها.
ونعود إلى الإطار الثنائي الذي قدمه مسكويه لنتصور على ضوئه كيف يجب للإنسان أن يكون، وهو إطار - كما أسلفنا - ذو طرفين: علم يحصل عليه العقل بفكره، وعمل يتمثل في عالم التطبيق، فنقول إن الإطار بهذه الصورة المفترقة تنقصه ضوابط الأخلاق التي تحصر نتائج العلوم عند تطبيقها فيما هو نافع للإنسان مأخوذة كلها وكأنها أسرة واحدة كبيرة، ومثل هذه الضوابط الخلقية يكفلها الدين، وهنا ينشأ أمامنا سؤال يريد الجواب المضيء، وهو: ما هي الصفات الأساسية التي تشتمل عليها تلك الضوابط؟ ولعله من المفيد أن نأخذ جوانب من قائمة «الفضائل» الأساسية الأربع، التي ذكرها بالتحليل والتفصيل «مسكويه»، في كتابه الذي أشرنا إليه فيما سبق، وهو كتاب «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق»، وتلك الفضائل الرئيسية الأربع كان أخذها مسكويه بدوره من الفيلسوف اليوناني «أفلاطون» تراها مفصلة بإسهاب في الأربعة الفصول الأولى. محاورة «الجمهورية» وتلك الفضائل الأربع هي: الحكمة والشجاعة، والعفة، والعدل، ولماذا كانت هكذا؟ إنها جاءت نتيجة مباشرة لتحليل الإنسان إلى ثلاثة مقومات؛ فهو ذو عقل، وهو ذو وجدان، وهو ذو حاجات تتصل بالجسد، ولكل مقوم من هذه المقومات شكيمة توقفها عند الحد الملائم حتى لا تجاوز حدودها، فأما العقل فشكيمته أن يلتزم حدود «الحكمة»، وأحب أن ألفت النظر هنا إلى شيء في عبقرية اللغة العربية حين استخدمت كلمتي «عقل» و«حكمة»، فالعقل - لغة - معناه القيد، ونقول فلان معتقل، أي أنه مقيد الحركة، وأما «الحكمة» فهي مأخوذة من أن يكون الإنسان بعقله «محكوما» بحدود معينة، والقيود التي هي متضمنة في كلمتي «عقل» و«حكمة» إنما تشمل فيما تشمله أن تكون الأهداف من عملية التفكير أهدافا شريفة وصالحة.
وإذا كانت فضيلة الحياة العقلية (أو العلمية) هي أن تتصف بالحكمة حتى لا تطيش سهامها، ففضيلة الجانب الوجداني من الإنسان هي الشجاعة، فشجاعة الشجاع تكفل له ألا يخاف شيئا في سبيل الحق، وما أكثر ما تكون حماية الحق والدفاع عنه في وجه الباطل ثقيلة الأعباء، لا يقوى على حملها إلا الأقوياء بشجاعتهم وبصبرهم على المكاره التي يرجح أن يجدوها في طريقهم إلى الدفاع عن الحق، ولا عجب أن نجد «الحق» و«الصبر» مقترنين في الآيات الكريمة:
والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ، وبقي الجانب الثالث من مقومات الإنسان وهو جانب الحاجات الجسدية التي لا بد منها لإقامة الحياة، وهذه فضيلتها «العفة» التي تكتفي بإشباع الحاجة الجسدية على قدر ما هو ضروري للجسد بغير إفراط.
تلك هي مقومات ثلاثة، لكل مقوم منها فضيلته، لكن هنالك فضيلة لا تتصل بمقوم معين، ألا وهي «العدالة»، وإنها لتتحقق للإنسان إذا ما تحققت له الفضائل الثلاث السابقة، أي إنها «محصلة» تنتج من تلقاء نفسها، عندما يكون الإنسان «حكيما» «شجاعا» «عفيفا»، فعندئذ يصبح «عادلا» أعني متعادل الجوانب متزن الصفات. وجدير بنا في هذا الموضع أن نتذكر أن «العدل» اسم من أسماء الله الحسنى، فالله - سبحانه وتعالى - «عدل»، ويقول الشارحون إن المعنى المقصود هو أنه - تعالى - يوازن الكون توازنا لا يجعله يهدم بعضه بعضا.
الحكمة، والشجاعة، والعفة ، والعدالة، هي الصفات الرئيسية الأربع تكفل لصاحبها أن يستخدم حصيلة التفكير العقلي العلمي استخداما يعود على الإنسانية بأكبر نفع ممكن ، وألا يصيبها من جرائه إلا أقل ضرر ممكن، ولنلاحظ أن هذه الصفات الأربع أساسية بمعنى أن سائر الفضائل تتفرع منها، فإذا قلنا إننا نريد أن نضيف تصميما على الصورة التي رسمها مسكويه للإنسان الكامل، وأن هذه الإضافة تتوسط الطريق بين العلم في ناحية والعمل به في ناحية أخرى، وهي تتوسط الطريق بينهما لتأخذ العلم بالوجه الذي ينفع ولا يضر، قبل أن تتسلمه أيد غاشمة تطبقه بعين عشواء.
بدأنا حديثنا هذا بأن ألقينا على أنفسنا سؤالا عن إنسانية الإنسان في أي صورة من صور الحياة نجدها إذ سألنا: ما الذي يجعل الإنسان إنسانا؟ ثم سرنا في طريق البحث عن الجواب، منعطفين به هنا وهناك حتى بلغنا الهدف، فالإنسان إنسان بعقله، وبوجدانه، وبجسده، شريطة أن يلتزم كل من هذه الجوانب حدود فضيلته، وهي الحكمة للعقل، والشجاعة للقلب، والعفة للبدن، فإذا تحققت كان الإنسان وهو في أسمى درجاته، إنسانا يتسم بالعدالة التي هي وضع كل قوة من قواه في موضعها المناسب، وإن ذلك لينطبق على حياة الإنسان في صورتيها: الإنسان منفردا، والإنسان مجتمعا.
अज्ञात पृष्ठ