ما دام في الكون ركن للحياة يرى
ففي صحائفه للشعر ديوان
فتلك إذن هي أولى الخصائص، وأوسعها، مما نميز به بين الأدب في ناحية، والعلم في ناحية أخرى، فبينما العلم - كما أسلفت القول - «يطبعن» الأحياء ليجعلها عنده طيعة من الطبيعة، نرى الأدب - والشعر خاصة - «يؤنسن» الطبيعة حتى لكأن كل ما فيها إنس يخاطبهم ويخاطبونه.
وأول ما يتفرع لنا من تلك الخصيصة الشاملة، فارق هام بين ما هو علم وما هو أدب، فالعلم ينشد القوانين العامة للظاهرة التي يبحثها، فإذا كان موضوعه - مثلا - جانبا من جوانب النبات وكيف يمكن إنماؤه لينتج محصولا أوفر، فهو لا تهمه هذه الشجرة المعينة دون أخواتها، بل كل الشجر عنده سواء، ما دامت من نوع واحد، وفي ظروف واحدة؛ لأن المهم عنده هو استخراج القاعدة العامة المشتركة بين أفراد النوع المعين، ولذلك فهو خلال بحثه العلمي يسقط من حسابه كل المميزات الفردية التي تتميز بها كل شجرة على حدة ليستبقي ما هو مشترك وعام، وأما الأدب فهو على ضد ذلك تماما؛ إذ الأديب وهو يصور شخصية في رواية، أو في مسرحية، أو وهو يرسم موقفا معينا تتفاعل فيه عدة شخصيات، فهو إنما يبحث عن جانب التفرد الذي يجعل الشخص المعين فريدا بين سائر الأشخاص، أو الذي يجعل الموقف المعين متميزا، بما يبرز طبيعته دون سائر المواقف، وهكذا ترى أن الأدب - على عكس العلم - يسقط من حسابه ما هو مشترك وعام بين أفراد النوع الواحد، ليستبقي الجوانب التي تجعل من الفرد فردا فريدا، فبينما العلم يبحث عن الحقيقة العلمية في تعميمها وتجريدها، ترى الأدب يبحث عن اللحظات المشخصة المجسدة المتعينة المتميزة المتفردة.
وقد تصادفنا في الأدب حالات نقف أمامها حيارى: أهي تعميم كالذي يبحث عنه العلم؟ أم هي تفريد كالذي يصوره الأدب؟ ومن أهم الأمثلة على ذلك «الحكمة» حين ترد في بيت من الشعر أو في جملة من النثر الفني، فالحكمة بطبيعتها حكم عام، لكنها كذلك ضرب من الصياغة مما يندرج في الأدب، إلا أن الخاصية التي تجعل تعميم الحكم فيما هو «حكمة» لا ينفي عن القول طبيعته الأدبية ليدخله في زمرة القوانين العلمية؛ لأن الفرق هنا هو أن التعميم في الحكمة نابع من خبرة الأديب أو الشاعر، وليس هو نتيجة بحث موضوعي أجراه الباحث على أشياء خارج نفسه، فإذا قال زهير - مثلا - «رأيت المنايا خبط عشواء، من تصب تمته، ومن تخطئ يعمر فيهرم»، أو إذا قال المتنبي: «وإذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم»، فكل منهما إنما ينضح بحكمته من خبرته، وفي ذلك ما يبعد به عن منهج العلم في استخراج تعميماته.
وكذلك هناك حالات في الأدب، نصادف فيها أقوالا تحتوي على ما يصح أن يكون من الحقائق العلمية، لكنك هنا أيضا، إذا دققت النظر في أمثال تلك الحالات وجدتها قد كسيت بما يربطها بخبرة الإنسان الخاصة، فتتميز بهذا عن مثيلاتها من التعميمات العلمية، خذ مثلا لذلك هذا البيت من قصيدة أبي العلاء المعري المشهورة التي مطلعها: «غير مجد في ملتي واعتقادي، نوح باك ولا ترنم شاد»، وأعني ذلك البيت الذي يقول فيه: «خفف الوطء لا أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد»، فقد تقول: أليست حقيقة كون أجساد البشر تتحلل بعد موتها فتعود ترابا من تراب الأرض، حقيقة يمكن هي نفسها أن يقولها العلم؟ والجواب هو: نعم، لكن انظر إلى قوله في أول البيت: «خفف الوطء»، أي إن الشاعر يخاطبك قائلا لا تطأ الأرض بقدميك في ثقل وغلظة؛ لأنك إنما تدوس على ما كان ذات يوم أجسادا بشرية، فهذه اللفتة الإنسانية هي التي خلعت على الحقيقة التي تشبه حقائق العلم روح الشعر، أو انظر إلى بيت آخر في القصيدة نفسها، يقول فيه: «والذي حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد»، فها هنا كذلك قد تجد في البيت حقيقة هي نفسها مما يقوله العلم، وهي أن الكائنات الحية إذا كانت يخرج بعضها من بعض، فإن الخلية الحية الأولى، التي منها تسلسل سائر الخلايا - وبالتالي سائر الكائنات الحية - لا بد أنها قد استحدثت من جماد؛ إذ لم يكن سبقها إلا الجماد، لكن - مرة أخرى - انظر إلى أول البيت؛ إذ يقول فيه الشاعر ما يدلنا على «حيرة الإنسان» إزاء هذا اللغز الكوني العجيب، وهو أن تخرج خلية حية من جماد موات، فكذلك هنا جاءت تلك الإشارة إلى الإنسان ومشاعره لتخلع روح الشعر على حقيقة كان يمكن أن تندرج في زمرة الحقائق العلمية.
أظن في هذا الذي ذكرناه للتفرقة بين طبيعة العلم وطبيعة الأدب، ما يكفي، وننتقل الآن إلى أشد الأقسام غموضا، وأصعبها تحديدا، وهو ما نطلق عليه اسم «الفكر» ونطلق على صاحبه اسم «المفكر»، فما هو ذاك؟
هنالك مجموعة من المعاني لها طابع متميز، تقع وسطا بين الطرفين المتضادين اللذين هما العلم في طرف والأدب في طرف آخر، وتلك المجموعة من المعاني التي أشير إليها، لا هي من العلم ولا يمكن أن تكون؛ لأنها تستعصي على التعريف الدقيق الذي يحدد معالمها وحدودها تحديدا قاطعا، كالذي تخضع له مصطلحات العلوم، ولا هي كذلك تنتمي إلى الأدب؛ لأنها على درجة من التعميم والتجريد، مما يتنافى مع طبيعة الأدب التي تأخذ نفسها بالتخصيص والتفريد، ومع ذلك فتلك المجموعة من المعاني لها في حياة الإنسان من الأهمية والخطورة ما يجعلها هي وحدها - دون طرفي الأدب والعلم - التي يمكن أن تثار الحروب بين الدول إذا هي اختلفت في شأن يمسها، كما قد تنشب المعارك القاتلة بين الأفراد إذا دب بينهم خلاف في مجالها، فمن هذه المجموعة - على سبيل المثال - هذه المعاني: الحق، العدل، الحرية، المساواة، التقدم، الخير، الثقافة ... إلى آخر هذا القبيل إذا كان لهذا القبيل آخر، ويمكن تجميع هذه المعاني تحت اسم واحد شائع بين الناس هو: «القيم»، والقيم لا حصر لعددها، لكنها تندرج تحت ثلاثة رءوس هي: الحق، والخير، والجمال، فأما «الحق» فمعيار تقاس به معلوماتنا وعلومنا من حيث الصواب والخطأ، وأما «الخير» فمعيار يقاس به السلوك الذي نتصرف به في تعامل الإنسان مع الإنسان، أو مع مختلف المواقف، من حيث المشروعية أو نفيها، وأما «الجمال» فيقصد به ذلك المعيار الذي يقاس به درجة السواء أو النشاز في الأشياء، طبيعية كانت أو من صنعة الإنسان.
وعلى الرغم من أنه يستحيل أن تستقيم حياة لإنسان، منفردا أو مجتمعا، إلا إذا كان يملك قدرا من المقاييس التي تميز له بين ما يجوز وما لا يجوز في جوانب حياته، فإنه لا سبيل إلى اتفاق الناس على تعريفات محددة لتلك المقاييس التي هي «القيم»، فكل واحدة منها كأنها البئر الغزيرة الماء، يستطيع كل من شاء أن يغترف منها أي معنى أراد، ومن هنا كانت أهميتها، ومن هنا كذلك كانت خطورتها، لماذا؟ لأنه ما من تغير في حياة الإنسان، إلا وهو آخر الأمر مرتكز على استبدال قيمة معيارية بقيمة أخرى، فإذا أراد كاتب أن يدعو إلى «التقدم» فربما وجد بين الناس من يزعم له بأن التقدم المطلوب إنما يتحقق بالرجوع إلى الزمن الماضي في أوضاعه وأحكامه، فمن الذي يستطيع أن يفض الخلاف بين رجلين، كلاهما يريد التقدم، إلا أن أحدهما يراه في الماضي ويراه الآخر في مستقبل لم يصنع بعد؟ وقل شيئا كهذا في كل قيمة من تلك القيم المهمة جدا، الضرورية جدا، الغامضة جدا في حدودها ... وفي هذا الميدان العسير يكون «الفكر» والمشتغل بالدعوة إلى تغيير الحياة نحو الأفضل هو الفكر.
على أن تلك القيم عندما يعالجها المفكر، ابتغاء أن يغير من حياة الناس عن طريق تغيير ما هو قائم منها مما يعرقل حركة الحضارة، ليقيم مكانها بديلا آخر يمكن أن يكون أقوى دفعا للموقف الحضاري، قد يلجأ إلى وضعها في مركب فيه بعض صفات التركيب الأدبي، وعندئذ تجيء كتابته جزءا من الأدب أو في هوامشه، وكذلك قد يلجأ في عرضها إلى الاتجاه المضاد، فيقربها من دقة العلم، وعندئذ تجيء كتابته مطبوعة بطابع فلسفي، فمن أعلام الأدب من جاء أدبه مثقلا بنقد القيم، حتى يختلط الأمر على الناس فيقول بعضهم عن شعره - إذا كان شاعرا - إنه فلسفة وليس شعرا، كما هي الحال مع أبي العلاء المعري، وكذلك من أعلام الفلسفة من جاءت فلسفته في قالب يشبه الأشكال الأدبية، فيختلط الأمر على الناس أيضا، قائلين إنه أدب أكثر من فلسفة، كما هي الحال في بعض المحاورات الأفلاطونية، وعلى أية حال فكثير جدا مما ينتج في هذا المجال، يمكن أن نسميه بأدب الأفكار؛ لأنه متميز من أدب الشعر والرواية والمسرح.
अज्ञात पृष्ठ