ولذلك استغربت كثيرا عندما كتبت مقالا قصيرا في «أخبار اليوم» في سنة 1952 بعنوان «الأدب للشعب» أن ثارت حولي زوبعة كأني قد دعوت إلى بدعة خبيثة، مع أن القارئ لكتابي الذي أشرت إليه لا يجد جديدا فيما دعوت إليه في هذا المقال، إلا إذا كان من أولئك الذين نشئوا على الأدب العربي القديم وحده ولم يعرفوا غيره.
وقد أوضحت في هذا الكتاب أن الأدباء الأوروبيين لا يكتبون في الخواء، وإنما يعالجون المشكلات الاجتماعية الإنسانية، وهم يكتبون للشعب بلغة الشعب، وقلت بالحرف في مقدمة هذا الكتاب:
هذا الكتاب هو عرض ونقد للأدب الإنجليزي في السنين الأربعين الماضية، ففي هذه المدة ظهر أدباء ثائرون على التقاليد ومجددون للأدب، وقد حاولت أن أبين للقارئ العربي المغزى في هذا التجديد، وعندي أن التجديد في الأدب هذه الأيام لا يعني شيئا آخر سوى التجديد في الحياة، وهذا هو ما نفهمه من المجددين الإنجليز الذين نعرضهم في الفصول التالية، فإن الأديب الإنجليزي يتصل بالحياة، ويتأثر بها، ويؤثر فيها، وهو ينتقد أسلوب العيش أكثر مما ينتقد أسلوب الكتابة، وهذا خلاف ما نجد في طبقة الأدباء التقليديين في مصر؛ حيث الاهتمام كبير بالأسلوب الكتابي في حين ليس هناك اهتمام أصلا بأسلوب العيش، فإن الأديب التقليدي يعنى مثلا بأسلوب الجاحظ الكتابي فيحتذيه، ولا يعنى بأسلوب الفلاح المصري في العيش فينقده ويطلب إصلاحه، وهو يكتب عن العرب وتاريخهم ومجدهم، ولا يكتب عن مصر ونكباتها الحاضرة، وما تعانيه من مظالم اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية؛ ولذلك فإن أدبه سلفي، وهو أدب الكتب الذي يجعله يعيش وهو في عزلة عن الوسط الذي يحيط به كأنه في برج عاجي، وهو هنا يشبه أدباء القرون الوسطى في أوروبا.
ولكن الأدب الأوروبي الحديث - وخاصة الأدب الإنجليزي - هو أدب الحياة، ينتقد المعايش والغايات ويجعلها موضوعه سواء في القصة أم المقالة، وهو لذلك يتصل بأنواع النشاط البشري كله، فللأديب رأيه في العلم والصناعة، والاقتصاد، والصحافة، بل في الأدباء الإنجليز - مثل برنارد شو - من ينتقد النظريات الطبية، ومنهم من يدعو إلى الإيمان بدين جديد.
والحق أن التجديد في الأدب يشبه التجديد في الفلسفة؛ فقد كانت الفلسفة القديمة تترفع عن درس الحياة الدنيا، وترصد نفسها لدرس كنه الأشياء، والفرق بين ما نعرفه عن الشيء وماهية هذا الشيء، وكانت تبحث الغيبيات؛ أي ما قبل الوجود وبعده، وهي في ذلك كله تبتعد عن الناس ومعايشهم، ولكن الفلسفة الجديدة تدعو إلى الكف عن البحث عن كنه الأشياء، وتقنع باستخدامها لمصلحة الإنسان.
وكذلك الحال في الأديب، فإنه كان يعتكف بين الكتب ويترفع عن نقد المعايش وغاية الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية، وكان يدأب في الاجترار، ويعيش في برجه العاجي، لا يغتذي مما حوله، ولكنه يغتذي بالمؤلفات القديمة. أما الآن فإن الأديب الجديد يكاد ينظر إلى الأدب القديم نظرة «بيكون» إلى العلوم القديمة، فهو يطلب التجربة والاختبار بنفس الروح الذي طلبهما به علماء النهضة؛ وذلك لأنه يشك في قيمة المقاييس القديمة، ثم هو يستخدم أدبه، كما يستخدم الفيلسوف الجديد فلسفته، لمصلحة الإنسان، فيبحث أساليب العيش والاجتماع، ولا يكاد يبالي أساليب الكتابة.
هذا هو ما كتبته في سنة 1934، وهذا المجلد الحاضر هو توسع واستيفاء للموضوع، وهنا أقف لحظة كي أرد على سؤال أحس أنه يتردد على ذهن القارئ، وهو: إذا كان الأديب يشتغل بالمجتمع والعيش والمظالم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فهل معنى هذا أن من يكتب في هذه الشئون يسمى أديبا؟
والجواب أن الأدب فن، وشرط الفنون جميعها، بل الشرط الأول فيها، هو الطرب، فيجب حين نقرأ الأدب أن نطرب، كما نطرب من الشعر أو الموسيقا، أو كما نطرب عند رؤية رسم عظيم أو تمثال رائع، نفهم ونطرب.
لقد ألف مثلا «أميل زولا» قصة عن الحب نجد فيها طربا، فهي أدب، هي فن.
وكان يمكنه أن يؤلف كتابا عن الحب يتناول فيه حقائقه بالشرح والإحصاء والرسم، وعندئذ كنا نجد كتابا علميا وليس أدبا؛ أي ليس فنا، كنا نجد فيه فهما فقط وليس طربا.
अज्ञात पृष्ठ