المقدمة
الأدب للشعب
الأدب الملوكي والأدب الشعبي
الأدب الملوكي والأدب الشعبي أيضا
الأدب العربي القديم لا يلهمنا
تراثنا الإقطاعي في المجتمع والأدب
النزعة الانفرادية في الأدب العربي
أبو نواس والصحة الاجتماعية
غاية الأدب ... الإنسانية وليس الجمال
هكذا أفهم الأدب في مصر
الأدب دين والأدباء كهنته
نزعتان في الأدب والفلسفة
التشاؤم والتفاؤل في الأدب
قصة
الحركة الرومانتية الزاحفة
أدب الاعتراف
حياة الأديب جزء من أدبه
لي أسلوبي الخاص
عشرة كتب في الأدب
القصة المصرية
نحتاج إلى كتاب شهداء
مهرجان سباب وكلمة أديب
المقدمة
الأدب للشعب
الأدب الملوكي والأدب الشعبي
الأدب الملوكي والأدب الشعبي أيضا
الأدب العربي القديم لا يلهمنا
تراثنا الإقطاعي في المجتمع والأدب
النزعة الانفرادية في الأدب العربي
أبو نواس والصحة الاجتماعية
غاية الأدب ... الإنسانية وليس الجمال
هكذا أفهم الأدب في مصر
الأدب دين والأدباء كهنته
نزعتان في الأدب والفلسفة
التشاؤم والتفاؤل في الأدب
قصة
الحركة الرومانتية الزاحفة
أدب الاعتراف
حياة الأديب جزء من أدبه
لي أسلوبي الخاص
عشرة كتب في الأدب
القصة المصرية
نحتاج إلى كتاب شهداء
مهرجان سباب وكلمة أديب
الأدب للشعب
الأدب للشعب
تأليف
سلامة موسى
المقدمة
قبل عشرين سنة - أي في سنة 1934 - ألفت كتابا عن «الأدب الإنجليزي الحديث» أخرجته المطبعة العصرية بالقاهرة، هدفت منه إلى شرح النزعات الأدبية الإنجليزية، واستقطبت الأضواء فيه على عبارة «الأدب في خدمة المجتمع».
ولذلك استغربت كثيرا عندما كتبت مقالا قصيرا في «أخبار اليوم» في سنة 1952 بعنوان «الأدب للشعب» أن ثارت حولي زوبعة كأني قد دعوت إلى بدعة خبيثة، مع أن القارئ لكتابي الذي أشرت إليه لا يجد جديدا فيما دعوت إليه في هذا المقال، إلا إذا كان من أولئك الذين نشئوا على الأدب العربي القديم وحده ولم يعرفوا غيره.
وقد أوضحت في هذا الكتاب أن الأدباء الأوروبيين لا يكتبون في الخواء، وإنما يعالجون المشكلات الاجتماعية الإنسانية، وهم يكتبون للشعب بلغة الشعب، وقلت بالحرف في مقدمة هذا الكتاب:
هذا الكتاب هو عرض ونقد للأدب الإنجليزي في السنين الأربعين الماضية، ففي هذه المدة ظهر أدباء ثائرون على التقاليد ومجددون للأدب، وقد حاولت أن أبين للقارئ العربي المغزى في هذا التجديد، وعندي أن التجديد في الأدب هذه الأيام لا يعني شيئا آخر سوى التجديد في الحياة، وهذا هو ما نفهمه من المجددين الإنجليز الذين نعرضهم في الفصول التالية، فإن الأديب الإنجليزي يتصل بالحياة، ويتأثر بها، ويؤثر فيها، وهو ينتقد أسلوب العيش أكثر مما ينتقد أسلوب الكتابة، وهذا خلاف ما نجد في طبقة الأدباء التقليديين في مصر؛ حيث الاهتمام كبير بالأسلوب الكتابي في حين ليس هناك اهتمام أصلا بأسلوب العيش، فإن الأديب التقليدي يعنى مثلا بأسلوب الجاحظ الكتابي فيحتذيه، ولا يعنى بأسلوب الفلاح المصري في العيش فينقده ويطلب إصلاحه، وهو يكتب عن العرب وتاريخهم ومجدهم، ولا يكتب عن مصر ونكباتها الحاضرة، وما تعانيه من مظالم اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية؛ ولذلك فإن أدبه سلفي، وهو أدب الكتب الذي يجعله يعيش وهو في عزلة عن الوسط الذي يحيط به كأنه في برج عاجي، وهو هنا يشبه أدباء القرون الوسطى في أوروبا.
ولكن الأدب الأوروبي الحديث - وخاصة الأدب الإنجليزي - هو أدب الحياة، ينتقد المعايش والغايات ويجعلها موضوعه سواء في القصة أم المقالة، وهو لذلك يتصل بأنواع النشاط البشري كله، فللأديب رأيه في العلم والصناعة، والاقتصاد، والصحافة، بل في الأدباء الإنجليز - مثل برنارد شو - من ينتقد النظريات الطبية، ومنهم من يدعو إلى الإيمان بدين جديد.
والحق أن التجديد في الأدب يشبه التجديد في الفلسفة؛ فقد كانت الفلسفة القديمة تترفع عن درس الحياة الدنيا، وترصد نفسها لدرس كنه الأشياء، والفرق بين ما نعرفه عن الشيء وماهية هذا الشيء، وكانت تبحث الغيبيات؛ أي ما قبل الوجود وبعده، وهي في ذلك كله تبتعد عن الناس ومعايشهم، ولكن الفلسفة الجديدة تدعو إلى الكف عن البحث عن كنه الأشياء، وتقنع باستخدامها لمصلحة الإنسان.
وكذلك الحال في الأديب، فإنه كان يعتكف بين الكتب ويترفع عن نقد المعايش وغاية الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية، وكان يدأب في الاجترار، ويعيش في برجه العاجي، لا يغتذي مما حوله، ولكنه يغتذي بالمؤلفات القديمة. أما الآن فإن الأديب الجديد يكاد ينظر إلى الأدب القديم نظرة «بيكون» إلى العلوم القديمة، فهو يطلب التجربة والاختبار بنفس الروح الذي طلبهما به علماء النهضة؛ وذلك لأنه يشك في قيمة المقاييس القديمة، ثم هو يستخدم أدبه، كما يستخدم الفيلسوف الجديد فلسفته، لمصلحة الإنسان، فيبحث أساليب العيش والاجتماع، ولا يكاد يبالي أساليب الكتابة.
هذا هو ما كتبته في سنة 1934، وهذا المجلد الحاضر هو توسع واستيفاء للموضوع، وهنا أقف لحظة كي أرد على سؤال أحس أنه يتردد على ذهن القارئ، وهو: إذا كان الأديب يشتغل بالمجتمع والعيش والمظالم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فهل معنى هذا أن من يكتب في هذه الشئون يسمى أديبا؟
والجواب أن الأدب فن، وشرط الفنون جميعها، بل الشرط الأول فيها، هو الطرب، فيجب حين نقرأ الأدب أن نطرب، كما نطرب من الشعر أو الموسيقا، أو كما نطرب عند رؤية رسم عظيم أو تمثال رائع، نفهم ونطرب.
لقد ألف مثلا «أميل زولا» قصة عن الحب نجد فيها طربا، فهي أدب، هي فن.
وكان يمكنه أن يؤلف كتابا عن الحب يتناول فيه حقائقه بالشرح والإحصاء والرسم، وعندئذ كنا نجد كتابا علميا وليس أدبا؛ أي ليس فنا، كنا نجد فيه فهما فقط وليس طربا.
ولكن ما دام الأدب في خدمة المجتمع، فإنه يجب أن يندعم في مشكلات المجتمع، ويجب أن يرفع إحساسنا إلى طرب الحزن أو الفرح، أو الغضب أو المرح، أو القلق أو الاستطلاع، حتى يحملنا على التفكير، وحتى يحيل حياتنا الفردية إلى حياة اجتماعية تترفع على الهموم الشخصية الصغيرة وتضطلع بالهموم الإنسانية الكبرى.
وعندئذ لا نجد في الأدب طرب الكلمة فقط بل طرب الفكرة أيضا. •••
عندنا في مصر طبقة من الأدباء قد انغمست في دراسة الأدب العربي القديم وأخذت بقيمه ومقاييسه، وهي تعلم هذا الأدب في مدارسنا وجامعاتنا كما لو كان أسمى الآداب، بل كما لو كان الأدب الإعجازي المفرد الذي لا نستطيع أن نرتفع إليه.
ويجب أن نسلم قبل كل شيء بأن الأدب العربي القديم فن قد احتوى الشرط الأول للفنون وهو الطرب، ولكن فكرتنا العصرية عن الأدب تعلو على الطرب وإن لم تستغن عنه؛ إذ نحن نطلب من الأديب:
أن يكتب للشعب بلغة الشعب المستطاعة، وأن تكون شئون الشعب موضوعات دراسته واهتمامه.
وأن يكون له مقام المعلم المربي، وليس مقام المسلي المهرج.
وأن تكون له رسالة، كما لو كان نبيا يرشد ويعين الأهداف، ولا يكذب، فينافق ويخدع.
وأن تكون نظرته إنسانية شاملة.
وأن يزيد حياة القارئ حيوية، بالتوسع والتعمق والفهم للكون والدنيا والإنسان.
وأن يوجد حوله مناخا تستطيع الحريات أن تحيا فيه وتنمو وتنتصر.
وكل هذه معان لم يكن أدباء العرب يعرفونها، ولهم العذر الواضح هنا؛ لأنهم لم يكتبوا للشعب الذي يحتاج إلى أن يتعلم بلغته التي يفهمها، وإلى أن يجد الكاتب الملهم الذي يرسم له المستقبل، وإلى الحرية والإنسانية والفهم العميق للإنسان والكون. •••
ما هو الأدب العربي القديم؟
هو أدب كان يؤلفه الكتاب والشعراء لأجل الخلفاء والأمراء والفقهاء؛ لأن جميع هؤلاء كانوا «الدولة»، ولم يكن للشعب وجود في أذهان الكتاب، ولم يكن هناك قراء يمكن أن يعتمد عليهم في مكافأة المؤلفين.
وكان أدب الخلفاء والأمراء نوادر وقصصا وأشعارا تسلي وتذهب بالسأم، أي سأم البطالة ... بطالة المترفين.
وكان أدب الخلفاء أحيانا تواريخ تؤيد دولتهم وتثبت حقوقهم في تبوء الحكم.
وكان أدب الفقهاء شروحا وتعقيبات على الدين والمذاهب.
ولما ظهرت الدولة الفاطمية في مصر، وظهرت الدول المستقلة في المغرب والأندلس، وكثرت السياحات، ظهر أدب يكاد يكون شعبيا في قصص الرحلات، بل صار شعبيا خالصا في كتاب ألف ليلة وليلة مثلا.
ولكن الشعوب كانت لا تزال في التراب، فلم يرتفع هذا الأدب عن التراب.
وأولئك الذين يطلبون منا أن نكبر من شأن المتنبي أو أبي نواس ينسون أننا لا نخاطب الملوك والأثرياء ولا ننشد تسليتهم، وإنما نخاطب الشعب. وصحيح أنه نشأ بيننا شعراء، مثل علي الجارم وأحمد شوقي، قصروا حياتهم وأشعارهم - أو كادوا - على الملوك أو الأمراء، ولكننا لا نكبر من شأنهم لهذا السبب، بل نعيب عليهم مواقفهم، وأنهم لم يتكلموا بلسان الشعب ولم يدعوا إلى جمهورية أو ديمقراطية أو اشتراكية، ولم يوجدوا حولهم مناخ الحرية؛ حيث يستطيع الناس أن يتحدثوا ويكتبوا عن حقوق الإنسان.
ولست في هذا القول أعارض بأن يكون بيننا سلفيون وعصريون، بحيث يلتزم الأولون أحسن ما عند القدماء ويأخذ الآخرون بروح العصر الذي نعيش فيه، ولكن هذا الأحسن الذي عند القدماء لا يمكن أن يحتوي الأشعار اللوطية التي ألفها أبو نواس، ولا الأشعار البرازية التي ألفها ابن الرومي!
ثم هذا الالتزام للقدماء لا يعني بالطبع مدح فاروق أو عباس، وكذلك لا يعني تملق العامة وترويج الخرافات بينهم، ولا يعني كراهة التطور، ولا يعني أن يكون الأدب حلويات يتمززها القارئ؛ إذ هو في عصرنا قوت يغذو القارئ ويرفعه إلى الكفاح من أجل الخير.
ويجب أن نذكر أنه ما من ابتكار في الأدب إلا ويعود إلى خلاف للقدماء، وأولئك الذين يكبرون من شأن القدماء ينسون أنه كان لهؤلاء القدماء قدماء آخرون أيضا، أنكروهم وخالفوهم وشقوا أساليب جديدة في التعبير والتفكير. •••
عندما تخمد الحياة أو تهمد في الشعب، تهفو إلى الماضي، وتثير ذكرياته في اشتياق كما لو كان يشتاق إلى الموت؛ لأن في الماضي كثيرا من سمات الموت، بل هو موت، وهذا الماضي يشيع في نفوس أبنائه عقائد، في حين أن المستقبل يطالب بالمنطق والعقل والتزام الحقائق.
إن الانغماس في دراسة الماضي - إذا كان الدارس أديبا - ينقل إلينا أساليب التفكير والتعبير الماضيين، وهذا هو ما نرى مثلا في كثير من أدبائنا؛ فإنهم كانوا لا يرون عيبا في تسلط فاروق التركي على بلادنا، ألم يفعل ذلك الخلفاء والسلاطين؟ ولا يجدون من الدراسات سوى الدراسة القديمة لثقافة لا تمت إلى عصرنا، وهم لا يكادون يحسون أو يعقلون أن مصر الناهضة تعمل للانتقال من ثقافة الشرق القديمة إلى ثقافة الغرب العصرية، ثقافة الصناعة والعلم والديمقراطية والاشتراكية.
ما هو الأدب الرفيع الذي يجب أن نكتبه للشعب حتى يرتفع القارئ من اهتماماته الشخصية الصغيرة إلى هموم إنسانية عليا تزيد قلبه ذكاء وعقله إحساسا، فيعرف معاني الشرف والمروءة والخير والارتقاء والتطور، ويقف عندئذ على مستوى التاريخ؟
الأدب الرفيع هو التنقيب عن معنى الحياة ودلالتها، وهو البحث عن طبيعة الكون، وهو إقناع الإنسان بأن يكون إنسانيا، وهو ابتكار القيم الجديدة تأخذ مكان القيم القديمة وتزيد الدنيا والبشر جمالا وسعادة، أجل، وطعاما للجائعين.
وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، يجب ألا ننسى أن الأدب الرفيع، حتى الموسيقا، حتى الرقص، يهدف إلى الأخلاق العليا، أي يجب أن نحس ارتفاعا في النفس حين نسمع أغنية أو لحنا أو نرى رقصا، أما إذا أحسسنا الخسة والانحطاط، فإن الأغنية أو اللحن أو الرقص لن يعد أحدها من الفنون، وكذلك الشأن في أبي نواس، فإننا لا نستطيع أن نسمي أشعاره فنا جميلا؛ إذ كيف يكون اللواط جميلا؟!
ولكن يجب ألا ننسى أيضا أن الأخلاق العليا ليست هي الأخلاق العرفية التي يدعو إليها المجتمع؛ إذ قد يكون هذا المجتمع فاسدا، وإنما الأخلاق العليا هي التي يستنبطها الأديب أو الفنان بذكائه ومعارفه واختباراته، وديانته البشرية، ويدعو المجتمع إلى اعتناقها والتخلق بها.
ونهضة الأدب لا تعني شيئا آخر سوى نهضة الحياة، أي نهضة الإنسان والمجتمع، ينهض بالثورة، وينهض بالعلم، وينهض بالصناعة، وينهض بالثقافة، وينهض بالحرية، وينهض بالإنسانية.
والأدب الرفيع هو عندئذ أدب الأفكار.
وكتب الأدب العظيمة هي كتب مقدسة، (هل يمكن أن نسمي أشعار أبي نواس مقدسة؟)
بل إن الأديب الحق، الأمين، قد أصبح في نظر قرائه كاهنا أو إماما يربي الضمائر ويوجه الأخلاق كما يطرب النفوس ويمتع العقل والإحساس.
إننا نطالب الأديب في أيامنا بما كنا نطالب به الكاهن أو الإمام في القرون الماضية، نطالبه بأن يكون هو نفسه الصورة الأولى لأدبه وفنه، فنسأل عن اهتماماته وهمومه، ونتجسس - بعد أن يموت - على حياته، وهل كان صادقا، يكتب ما يحياه، ويحيي ما يكتبه؟ أم كاذبا، يجري على المثل السخيف القديم: أحسن الشعر أكذبه؟
بل إننا، بما ثقفنا من المعارف السيكولوجية، نعرف أنه حين يصدر الأديب كتابا للشعب فإنما يصدر نفسه، وأنه إذا كانت حياة الأديب رفيعة فإن أسلوب أفكاره وأسلوب عباراته يكون أيضا رفيعا، وأنه إذا كان يحب الشعب، فإنه يكتب له في بلاغه شعبية يتعب ويعرق في صقلها وتجميلها، وأنه لذلك يكتب في حب وحنان لا يعرف السباب أو البذاء.
والأديب الحق هو الذي يجمع بين العمق واليسر، فيكتب للشعب، مثل تولستوي، دون أن يبتذل الأدب فيحيله إلى أدب غوغاء ورعاع، (ومع ذلك يجب أن أصرح بأن الأدب العامي إذا كتب بإخلاص فإنه يرتفع على الأدب الفصيح البليغ إذا كتب للملوك والأمراء، وأنا أوثر لهذا السبب بيرم التونسي لأزجاله العامية، على أحمد شوقي وعلي الجارم لأشعارهما الملوكية).
وعلى هذا الأساس ألفت كتابي سنة 1934 عن «الأدب الإنجليزي الحديث»، وكنت أهدف، إضمارا، من تأليفه إلى المقارنة بين أدب المذاهب والمبادئ في إنجلترا، وأدب الأحزاب بل العصابات الملوكية والباشاوية في مصر.
وليس الأدب مع ذلك شيئا خالدا؛ إذ هو يتغير بتغير الظروف وحاجات الشعوب وسيكولوجية الأفراد، ولكن يخلد فيه مع كل ذلك شيء واحد هو نزعته الإنسانية.
وفي وقتنا الحاضر، في مصر والأقطار العربية، يجب أن يكون الأدب كفاحا نحارب به رواسب القرون المظلمة، وندعو فيه إلى حرية المرأة ومساواتها التامة في الحقوق والواجبات بالرجل، كما ندعو إلى الحضارة العصرية، أي حضارة أوروبا؛ إذ نحن على يقين بأنه إذا كانت الشمس تشرق من الشرق فإن النور يأتي إلينا من الغرب، وأن ندعو إلى العلم والصناعة لزيادة الثراء، وأن نحارب الغيبيات والخرافات التي أسن بها الشرق وتعفن حتى كاد يموت. وأخيرا يجب أن نتجه نحو الديمقراطية الاشتراكية، ثم، وعلى الدوام، نطلب الحرية، الحرية الروحية بالانطلاق من التقاليد والخرافات، والحرية السياسية بإيجاد حكومات شعبية عادلة.
النزعة الإنسانية هي الشيء الخالد في الأدب، إذا كان ثم خلود في هذا العالم.
ذلك أنه قد توجد ظروف تدعو الأديب إلى أن يحارب ملكا سافلا أو عقيدة فاسدة أو طبقة طاغية أو استعمارا أو استبدادا، فهو يستقطب الضوء على موضوع معين كي يبرزه ويحرك العقول والقلوب بشأنه، وقد يزول السبب الذي كتب وألف من أجله، فتزول قيمة ما كتب وألف؛ لأن الغاية قد تحققت، ولكن تبقى بعد كل هذا النزعة الإنسانية في الأديب؛ لأن حرفة الأديب وعنوانه وهدفه وموضوعه أنه إنساني.
لقد قال «هويتمان» الأديب الأمريكي هذه الكلمة الإنسانية العظمى: من أهان إنسانا فقد أهانني.
هي كلمة تصح أن تكون عنوانا وشعارا لكل أديب.
بل إننا حين نستقطب الضوء على موضوع معين، مثل مكافحة الرق، أو الاستبداد بالمرأة، أو الاستبداد بالفلاح، إنما ننبعث إلى كل ذلك بالنزعة الإنسانية.
وعلى هذا يجب أن يكون لكل أديب رسالة يؤديها للشعب، بل للعالم، عن وجوده وجهوده، بحيث تنسق جميعها وتسير نحو الهدف الإنساني.
وإني هنا أود أن أسأل أدباء مصر: ما هي رسالتكم التي خدمتم بها الإنسانية في الموضوع الذي عالجتموه في مؤلفاتكم؟
أحب أن أسأل توفيق الحكيم: ما هي رسالتك الأدبية في مصر، وهل نستطيع أن نفهم هذه الرسالة مثلا من «أهل الكهف»؟
وأحب أن أسأل عباس محمود العقاد: لقد ألفت نحو خمسين أو ستين كتابا، فما هي رسالتك الإنسانية فيها؟
وأحب أن أسأل طه حسين مثل هذا السؤال ...
إني أستطيع أن أؤلف كتابا عن رسالتي التي تنتظمها مؤلفاتي، وأن أوضح أنها رسالة الإنسانية والحرية والمساواة والحضارة والعلم، فهل هذا في مستطاع كتابنا الذين ذكرتهم؟
لقد عشنا في مجتمع مصري لابسته ظروف سياسية استعمارية واستبدادية، والكاتب الذي وقف بعيدا لا يكتب عن هذه الظروف لمصلحة الشعب، أو الذي كتب في مدح المستبدين والمستعمرين، لا يمكن أن يوصف بأنه كان أمينا للإنسانية وللمجتمع.
إن نهضة الأدب هي نهضة الحياة، ولن ينهض الأدب إلا إذا كان الأدباء أنفسهم ناهضين.
ووزن القيم الفنية لا يختلف عن وزن القيم الأخلاقية.
والشرط الأول في الأديب أن يكون إنسانيا، يعمل لنهضة الشعب، ولتغيير قيمه الأخلاقية بما يفضلها.
فما هو مكان أدبائنا من كل ذلك؟ ما رسالة كل منهم؟
لما تفاقمت حركة الإخوان المسلمين، وشرعت الحكومة تتعقبهم بالمحاكمات، كتبت هذه الكلمة التالية في الأخبار (سنة 1954) بعنوان «الأدب المرتبط »:
يستطيع الأدباء الذين كتبوا ودعوا إلى أن يكون الأدب في خدمة المجتمع والحياة والإنسانية أن يقولوا الآن: «ألم نقل لكم ...؟»
نعم يستطيعون ذلك ويجدون في الظروف القائمة وفي الثورة السوداء التي تعالجها الحكومة في هذه الأيام ما يبرر هذا السؤال.
إذ لو أن الأدب كان في خدمة المجتمع، يعالج مشكلاته، ويدعو إلى الإصلاح الاجتماعي، ويدافع عن حرية الضمير، ويطلب المساواة بين الرجل والمرأة، وينادي بالإنسانية بين أبناء البشر على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، ولو أن الأدباء كانوا على وجدان بمعنى الحضارة العصرية التي تعتمد على حقائق العلم وليس على التقاليد والعادات، ولو أنهم كانوا يعرفون عبارة «الأدب المرتبط» أي الذي يرتبط بالمجتمع فيحس الأديب أنه مسئول عن مجتمعه وأنه إمامه الذي يقوده ويرشده وينشد صلاحه وخيره، أقول لو أن أدباء مصر كانوا يربطون أدبهم بالمجتمع المصري لما وقعنا في هذه الكارثة التي نتخبط فيها هذه الأيام.
فهذه الثورة السوداء إنما يقوم بها شبان يقرءون الصحف والكتب، ولو أن الأدباء كانوا قد صوروا لهم الدنيا الجديدة، دنيا الخير والبر والصلاح، كما كان يجب أن يصوروها، ولو أنهم كانوا قد وجهوهم إلى النظر في بؤس بلادهم وفقر فقرائهم، ورسموا لهم خطط الإصلاح، واشتغلوا بهمومهم، وبعثوا اهتماماتهم إلى المستويات الإنسانية العالية، لكانوا - أي هؤلاء الشبان - قد وجدوا في آمال الخير التي ترسم لهم ما يغذو نفوسهم ويحملهم على الاتجاه السديد لخدمة مجتمعهم.
ولكن للأسف لم يجد الشبان هذا التوجيه، وإنما وجدوا مؤلفات للأدباء عن ابن الرومي وأبي نواس والمتنبي والمأمون وغير هؤلاء ممن لا يرتبطون بمجتمعنا العصري بأي ارتباط، ولا نستطيع أن نستخرج من حياتهم وأعمالهم العبرة الاجتماعية أو الإنسانية لحياتنا العصرية.
بل أزيد على هذا وأقول إن أدباءنا قد غذوا هذه الثورة السوداء بكثير من مؤلفاتهم ... وقد احتجت أنا والأستاذ التابعي إلى أن نهيب بهم في الأسبوع الماضي أن يقولوا كلمة في استهجان هذه الحركة المدمرة.
وقد كان سكوتهم مستغربا، ولكني لا أراه الآن، في ضوء مذهبهم في الأدب، مما يستغرب؛ إذ هم يعتقدون ويصرحون باعتقادهم بأن الأدب لا شأن له بمشكلات المجتمع.
أفيقوا يا أدباء مصر، وافهموا، وتعلموا، أن الأدب للحياة والإنسانية والمجتمع، وأنه ليس نكته بديعة أو بيتا رائعا، وإنما هو ارتقاء وتطور وكفاح لتعميم الخير والشرف والإخاء والحب.
هذا هو ما كتبته قبل شهور، والعجب أن هناك من يردون علي حين أنتقد شوقي أو غيره من الشعراء أو الأدباء بأنه لم يكن يبالي بالشعب، يردون علي بأن لهذا الشاعر أو غيره قصيدة يدعو فيها الأثرياء إلى الإحسان ...
لا، ليس هذا هو الأدب الشعبي.
ليس الأدب الشعبي، الإنساني، أن نؤلف القصائد أو القصص كي نبعث في الأثرياء العطف على الفقراء والتصدق عليهم، وإنما هو أن ننظر بالعين الفنية للمشكلات الإنسانية والاجتماعية، ولكن من موقف الشعب نفسه، أي من الموقف الإنساني، وليس من موقف الأثرياء، فلا نطلب التصدق، وإنما نكافح للعدل والمساواة.
اعتبر مثلا إحدى المشكلات الحاضرة؛ وهي المشكلة الجنسية بالفصل بين الجنسين، فإن شبابنا تعساء لا يحيون حياة الحب، ومع ذلك أين هو الكاتب الذي يدعو إلى مكافحة هذه التعاسة وإلى الدعوة بأن من حق شبابنا وفتياتنا أن يحبوا، وأن يختلطوا، وألا يتزوجوا إلا عن حب سابق؟
إننا نحتاج إلى عقول اجتماعية تقدر قيم الحنان والجمال والرقة والحب والاختلاط بين الجنسين؛ لأن هذا هو التمدن، بل هذا هو الإنسانية، والأديب العظيم هو قوة إنسانية وتمدينية للمجتمع الذي يعيش فيه. •••
ولكن هناك أيضا عشرات من المشكلات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعائلية، بل هناك مشكلات تتصل بموقف الإنسان في هذا الكون، لم يعالجها أديب مصري أو لم تتحيز المكانة العليا في أدبه، وذلك للتقاليد الأدبية السائدة؛ وهي أن الأدب للذة الذهنية، أو الترف الذهني، وأنه ليس للحياة، أو للإنسانية، أو للشعب، أو للمجتمع.
وهذه النظرة الاستهتارية للأدب هي التي حملت بعض أدبائنا على أن يؤيدوا أحمد زيور في تحطيم الدستور، وجمع أعضاء البرلمان في الصباح ثم طردهم في المساء، وهي التي حملت بعض الأدباء أيضا على تأييد محمد محمود في تعطيل الدستور ثلاث سنوات تقبل التجديد، وهي التي حملت آخرين على تأليف المجلدات التي تحوي القصائد في مدح فاروق أو نعته بأنه «فيلسوف».
هذا في السياسة، أما في الاقتصاد فإن أديبا واحدا في مصر لم يرتفع صوته بالدعوة إلى إنصاف العمال، الزراعيين والصناعيين، لا في مقال ولا في قصة، غيري، واتهمت واعتقلت بتهمة الشيوعية لهذا السبب، وإغفال الأدباء في مصر لموضوع العمال ينبني على أنهم إنما كانوا يتجهون نحو طبقة الباشوات والأثرياء والموظفين ويخاطبونها، ويلتفتون إلى اهتماماتها، دون طبقة العمال، كان الأدب لا يعنى بعشرين مليون مصري من 21 مليونا.
ثم اعتبر العائلة، إن في مصر كثيرين يكرهونني؛ لأنني أتناول موضوعات الزواج والطلاق والحب واليتم والفقر والتسكع بين الأطفال؛ اعتقادا بأني إنما أفعل ذلك لكراهتي للتقاليد، كأن تقاليدنا، في الفقر وفوضى العائلة، وتسكع أبنائنا بسبب الطلاق وتعدد الأزواج، يجب أن تعيش.
وهذه موضوعات قاطعها دعاة الأدب «للترف الذهني» ولمدح الملوك.
ثم اعتبر مجتمعنا الذي وصفته بأنه «مجتمع غير اجتماعي» أي أنه مجتمع انفصالي، على تناقض التعبير في الكلمتين، هذا المجتمع لم يجد من أقلام هؤلاء الأدباء من يعنى به ويطالب بتغييره؛ لأنهم يخشون العامة التي ربما تتهمهم بالثورة على التقاليد المحترمة.
إن الأدب «المرتبط» أو الأدب «الملتزم» يحتم علينا أن نتناول المشكلات الاجتماعية؛ لأن الأديب مسئول، ومسئوليته أمام المجتمع والإنسانية، فيجب أن يقف على الدوام ضد الحرب، والاستعمار، وضد الاستغلال، وضد احتقار المرأة، وضد التفاوت بين الجنسين في الحقوق المدنية والدستورية والاقتصادية، كما عليه أن يدعو إلى إنصاف العمال وإلى دعوة الحب بين الجنسين.
هذا إذا كان مسئولا، أما إذا لم يكن مسئولا، فليؤلف القصائد عن فاروق ويصفه بأنه «فيلسوف»، وليقل إن أبا نواس أديب عظيم، وليؤيد المستبدين في إلغائهم للدستور كي يحكم فؤاد أو فاروق بلا برلمان، ولتذهب الأمة إلى التراب. •••
أعظم ما يمتاز أو يتسم به الأديب العصري في أوروبا وأمريكا هو أن أدبه ينقل إلينا اعترافاته واختباراته، فهو يكتب في مؤلفاته ترجمة أو تراجم حياته من وجهاتها المختلفة، وهو ينقل إلى القارئ إحساسه ووجدانه، وعلى قدر إخلاصه في هذا النقل، وعلى قدر تفسيره الذكي لما يحس وما يجد، يلقى منا التقدير والحب والاحترام.
ذلك لأننا نجد في اعترافاته صورة لما نحس وما نكابد، ولكن صورته قد كتبت أو رسمت بذكاء وثقافة وفن لا يرتفع إليها القارئ الذي يجد فيها الطرب الذي هو أول شروط الفن.
وكثيرا ما أحزن عندما أجد طالب الأدب في مصر يتحدث عن الأسلوب كأنه شيء يعلم، ولذلك يتعب نفسه في قراءة الجاحظ أو المتنبي كي يأخذ بأسلوبهما، مع أن أسلوب الكتابة هو صورة لأخلاق الكاتب، فإذا وجدت الكتابة السلسة فثق أنها برهان على أخلاق الكاتب السلسة، وكذلك يجب ألا ننسى أن الأفكار تعين المعاني، ولذلك فإن الأسلوب التافه برهان على الأفكار التافهة.
وكثيرا ما أجد الأسلوب المطهم مع المعاني الجوفاء، فأفهم من ذلك أن الكاتب قد استعار الكلمات والعبارات، وكان هذا اهتمامه الأول، أما الموضوع فجاء في المكان الثاني من اهتمامه، فهو سترة مطهمة فوق شخص ليست له شخصية، وكثيرا ما ينخدع الشباب القراء بهذه السترة لزهرة ألوانها، ولا يكادون يلتفتون إلى ركاكة نسيجها.
والحق أننا نحس الأسلوب العظيم في الكاتب إذا كان له هدف عظيم يستولي على أفكاره، وإذا كان له كفاح عظيم يحيله إلى جندي.
بل إني أعتقد أن الهدف والكفاح يحيلان الكاتب المتوسط إلى نابغة، والكاتب النابغة إلى عبقري.
إذن ما هو النابغة؟ وما هو العبقري؟
إننا لا شك نميز بينهما، فإن الفرق بينهما يكاد يكون بيولوجيا، ولكننا نستطيع أن نقول إن كلا منهما إنما يصل إلى مكانته العليا؛ لأنه قد درس شئون الإنسانية والحياة والمجتمع واختلط في مشكلاتها، فرأى - لوفرة ما اختلط ودرس - ما لا يراه غيره؛ ولذلك أصبحت لكلماته معنى النور ودلالة الإرشاد.
ولأن الشعب الذي يقرؤه يجد صدى عنده لجميع ما يعالجه من شئون فإنه يحبه، وعندئذ يروج اسمه في قلوب الناس الذين يجدون فيه الإحساس الإنساني والحب للخير والدعوة إلى الشرف.
لقد قلت إن الشرط الأول لكل فن هو الطرب، ولكني هنا أحب أن أصحح وأقول إن الشرط الأول لكل فنان هو الرجولة، يجب أن نجد في كتاب الأدب الذي نقرأه رجلا كما نجد أديبا.
ومن هنا قيمة الترجمة الذاتية للأديب، نطالبه فيها بأن يذكر لنا حياته عارية بل مسلوخة، حتى نعرف ما هي قيمة اعترافاته، أي أدبه.
وصحيح أن الأديب المخلص يجعل أدبه كله اعترافات، ولكنه هنا لا يتمالك أن يمزج الخيال بالعقل، وأن يتسامى، وأن يتجنب بعض ما لا يحب من الأحداث والحوادث، ولكنه حين يكتب تاريخ حياته ويخلص ولا يبالي اللوم أو النقد، ينقل إلينا صورة فذة من حياة بشرية هي نفسها من أكبر الأحداث العالمية.
يجب أن نطالب كل أديب بأن يكتب تاريخ حياته، وأن يبرر لنا مواقفه في السياسة، والاجتماع، والمشكلات الإنسانية، أو يعتذر عما ارتكب بشأنها من جرائم ويوضح لنا وجوه اعتذاره، وعليه أن يبين لنا رسالته في الفن أو الأدب.
وأعود فأقول إن لكل أدب رسالة، حتى الموسيقا لها رسالة. والأديب الذي يقول إنه ليست له رسالة، ليس له الحق في أن يكتب.
وقد قلت إن الأديب يجب أن يطربنا، ولكنه يجب أيضا أن يغيرنا، أجل، يغيرنا برسالته. •••
ما هي الحضارة المصرية القادمة التي يجب علينا - نحن الكتاب - أن ندعو إليها ونهيئ لها؟
إننا نحيا مترددين بين القيم القديمة وبين القيم الجديدة، فأيتهما القيم الفضلى التي تربي الشخصية السامية والمجتمع الفاضل، والتي تدعو إلى ثراء المال والذهن والسعادة والحب؟
هل هي الأخلاق القديمة أم الأخلاق الجديدة؟
إن عندنا كتابا يكتبون كما لو كان مجتمعنا هو المجتمع النهائي الذي وصل إلى قمة الارتقاء، فلا يجوز لنا أن نفتش عن معايبه، ولا أن نناقش عاداته وتقاليده، وكأن ما نحيا فيه من عادات وتقاليد يجب أن يبقى بلا تغيير إلى مائة سنة، بل إلى ألف سنة قادمة، يتزوج سلائلنا في سنة 2955 كما نتزوج الآن، ويطلقون كما نطلق الآن، ويفهمون من معاني الأخلاق كما نفهم الآن، بلا تطور.
ما هي البذور التي نزرعها الآن كي تنمو في المستقبل ؟
أين بذور الحرية التي نزرعها؟
كيف نتحرر من الطغاة المستبدين، وكيف نتحرر من التقاليد التي تخنق التطور؟
لما جاء نابليون مصر ألف مجلسا استشاريا من شيوخ الأزهر، وحدث أن طلب إليهم تعيين بعض الكبار من الموظفين، مثل «حكمدار» القاهرة، ورئيس الحسبة الذي كان يشرف على الأسواق والأسعار، ورئيس القضاة، فرفض هؤلاء الشيوخ تعيين هؤلاء من المصريين وأصروا على أن يعينوا من الأتراك!
إننا نفهم من الاستبداد أنه استعباد الأمير أو الملك للشعب فقط، ولكن الرق كان في قلوب هؤلاء الشيوخ الذين رفضوا أن يكونوا أصحاب بلادهم، وآثروا الأتراك على أنفسهم في هذه المناصب.
هذا الرق لا يزال في قلوبنا نحن أيضا، هو رق التقاليد التي تخنق تطورنا، ورسالة الأديب أن يكافح هذا الرق في النفس المصرية. •••
لقد كتبت هذا الكتاب وجمعت فصوله في مناخ اجتماعي أدبي يرى القارئ بعض تفاصيله في الفصل الأخير، وإني أعمل وأكافح كي يتغير هذا المناخ، وسيتغير، لا بمجهودي أنا وحدي، بل بمجهود هؤلاء الشبان الجدد الذين رأوا النور وتحرروا من استبداد التقاليد وعملوا لتطور الفكر في مصر.
وقد أجزت لنفسي نشر قصة بعنوان «بين الكتمان والبوح»، وهي تمثل موقفا من مواقفي في الأدب يتسق وأبحاث هذا الكتاب.
سلامة موسى
الأدب للشعب
هناك كلمات تجري على ألسنتنا أو أقلامنا تحمل دلالات جديدة لم تكن تعرفها الأمم القديمة، مثل: الشعب، الحرية، المساواة، الشخصية، الديمقراطية، حق الانتخاب، التعليم بالمجان ... إلخ.
ودلالة هذه الكلمات أن «الشعب» قد برز إلى الوجدان السياسي والاجتماعي؛ فقد كان الحكم في الأمم القديمة تتولاه طبقة صغيرة حول الملك أو الإمبراطور، وكان الثراء مقصورا أيضا على طبقة صغيرة، وكان الشأن كذلك في التعليم والثقافة.
ومن هنا أيضا اقتصار الأدب القديم على طبقة خاصة، ثم اشتغال الأديب بشئون هذه الطبقة دون الشعب، لذلك نحن نقرأ كتب الأدب العربي القديم، فلا نجد أية عناية بالصانع أو التاجر أو الزارع أو المرأة؛ لأن كل هؤلاء كانوا أميين لم يتعلموا، ولذلك نجد أن المؤلفين كانوا يعنون بقصص الملوك والأمراء ، وبما يجب عليهم من الواجبات السياسية للرعية، كما نجد آلاف النصائح والوصايا والحكم، من الملك سليمان إلى أردشير إلى الإسكندر إلى معاوية، وجميعها في شأن الحكم والحرب والولاية والجود والعفو، وهذه كلها وأمثالها شئون كانت تهتم بها طبقة صغيرة حاكمة.
أما الشعب، الباعة والتجار والزارعون والخدم والبناءون والنجارون، كل هؤلاء لم يكونوا قد ارتفعوا بعد إلى وجدان الأدباء، فلم يحس هؤلاء بهم.
ولذلك أيضا نجد أن الأدباء القدماء كانوا يكتبون لأدباء مثلهم، ثم تكون مناقشة ما يكتبون في مجالس الأمراء والملوك وأئمة الدين؛ لأن أئمة الدين كانوا من الحاكمين والولاة، وكانت الحكومات كلها دينية.
ولذلك أيضا نجد أن الأدب القديم كان على الدوام أسلوبيا تقليديا، ولم يك ابتكاريا مستقبليا، وعبارة «قال فلان» ثم عبارة «السلف الصالح» كلتاهما تدل على أن الأديب العربي القديم كان ينشد الحكمة خلفه وليس أمامه، وكان يكتب للخاصة، بل أخص الخاصة، التي تعلمت مثله ودرست ثقافته ونزعت نزعته.
وأخص الخاصة هذه كانت تلتفت إلى الماضي؛ لأن حقوقها التاريخية كانت تستند إلى هذا الماضي وإلى احترام عاداته ولغته، فجذبت إليها الأدباء الذين يؤيدون سلطانها.
وعندما نقرأ «البيان والتبيين» للجاحظ، أو أشعار المتنبي، أو «الكامل» للمبرد، نحس أننا إزاء أدباء، إما يعيشون في بلاط أحد الأمراء، وإما يستندون في حياتهم الذهنية إلى تقاليد لغوية وأدبية ودينية وسياسية تمت إلى بلاط أحد الأمراء.
أما الشعب فلا يحسون أي وجدان له.
ولكن هذا القول لا يمكن أن يذهب على إطلاقه؛ ففي فترات من تاريخ الأمم العربية انتشرت التجارة، بل انتشر شيء من الصناعة، وخاصة في مصر والعراق، فظهر كتاب «ألف ليلة وليلة» وهو كتاب للشعب يكبر من شأن التاجر «السندباد» ويزود قراءه الفقراء بأحلام الجائع، أي وصف حياة الأثرياء والملوك والأمراء، ولكن هذه النزعة لم ترتق إلى النضج؛ لأن عوامل القوة لم تتوافر للشعب. •••
ولكن الشعوب العربية في أيامنا عرفت أعظم كلمة من كلمات القرن العشرين، كلمة «الديمقراطية»، ومع أن بعض الساسة في مصر قد عبثوا بها، فإن عبثهم سيذهب زبدا وجفاء وتمكث هي في الأرض، وقد مكروا بها، والتاريخ مكر بهم، والعاقبة للشعب.
الديمقراطية، الشعب، المساواة، والتعليم العام ... كلمات ميمونة، وإلى هذه الكلمات الميمونة عاد التاجر إلى الظهور، وأوشكنا أن نعرف مقام الصناعة، وظهرت الصحف فأخصبت حياة الشعب، وصار النجار، والكمساري، والبقال، والتلميذ، بل أحيانا الزارع، هذا الرجعي العريق في رجعيته ووخامته، أصبح كل هؤلاء يقرءون، وتنفسح أذهانهم في آفاق متراحبة من السياسة والأدب والاجتماع، وزودتهم الصحف بكل ذلك، ولكن على مستوى منخفض.
وتعلم الصحفيون لغة جديدة يكتبون بها ليست هي لغة أردشير: «الذي أوصى ابنه فقال ...».
وإنما هي لغة الشعب. •••
يقول الفرنسيون، ويحسنون عندما يقولون: «ما ليس واضحا ليس فرنسيا»؛ لأن الوضوح هو المنطق، والكاتب الواضح هو الكاتب الفاهم، وعندما يفهم الكاتب يفهم القارئ، وعندئذ يكون التجاوب ويكون الاختمار الذهني.
وكان فولتير يقول عن نفسه كلمة أحب أن أقولها عن نفسي، وأفخر بها: «لست عميقا، ولكني على الدوام واضح.»
لغة الشعب، لغة الصحافة، يجب أن تكون لغة الوضوح، وعلينا - نحن الكتاب - أن نهدف إلى بلاغة شعبية جديدة، فننزل إلى الشعب قبل أن نرفعه إلينا، بل إننا لن نستطيع أن نرفعه إلينا إلا إذا نزلنا إليه، يجب أن نهدم الحاجز الذي يفصل بين الشعب وبين الأدب باتخاذ الأسلوب الميسر والكلمة المألوفة، ويجب أن ننأى به عن «أردشير» ونحدثه عن «أينشتين» وعن إلغاء الفقر والجهل والمرض، وعن حق الشبان في السعادة وحق المرأة في الإنسانية.
ويجب أن نؤلف المقالة والقصة والكتاب للشعب، ونعرض على شبابنا الآداب والفنون التي تخصب حياتهم وترفعهم من الاهتمامات الشخصية الوضيعة إلى المشكلات الاجتماعية والبشرية، حتى يحيوا الحياة التاريخية، وحتى يحس كل منهم أنه بطل له رسالة وله شرف.
رسالة وشرف، أي شيء في الدنيا أعظم من هذا؟ •••
هو وجدان جديد ذلك الذي حفز رجال الثورة إلى الاحتفال بنقل رفات «الجندي المجهول» إلى ميدان الحرية؛ حيث دفن في المكان الذي كان مخصصا لإقامة تمثال للملك الأسبق فؤاد.
أصبح الشعب في وجدان الحاكمين، في ضميرهم، أما قبل ذلك فكان الملك يحتل قلوب الحاكمين وعقولهم، وكان كل شيء.
ولهذا التغير في الوجدان السياسي الاجتماعي قيمة رمزية كبيرة للأدب، ذلك أن الجندي يمثل الشعب في كثرته، بل سواده، ولما كانت الثورة تعتمد على الشعب، فإنها يجب أن تشيد بالجندي كما تشيد بالضابط، بل بالجندي أكثر من الضابط.
لقد ارتفع الشعب عند رجال الثورة إلى مقام جديد، ودخل في وجدانهم، ولذلك تذكروا الجندي المجهول.
هل كان يمكن لفاروق أن يتذكر هذا الجندي المجهول؟
الجواب: لا؛ لأنه لم يكن يعتمد على الشعب، وكان إحساسه ينأى عن إحساس الشعب.
وكذلك لم يكن الشعب في وجدان الأدب القديم، بل لا يزال بعيدا عن وجدان كثير من أدبائنا الكبار.
أما الأدب الجديد فينبع من إحساسات الشعب، وبكلمة أخرى نقول: إن هم الأدب الجديد واهتمامه هو الإنسان؛ أي الإنسان في ثرائه وفاقته، وسروره وحزنه، وانتصاره وهزيمته، ومعرفته وجهله، وفي جميع مشكلاته الحاضرة والمستقبلة. •••
إن القارئ للمتنبي لتدهشه قوته الخارقة في استنباط المعاني وتوليدها، بحيث يحس أنه لو وزعت هذه القوة على عشرين شاعرا لأجاد كل منهم ولصار له اسم في التاريخ.
وقريب من هذا شوقي، ولكننا نحس أن كليهما غريب عنا، بل إنني أحس بأني أقرب إلى المتنبي مني إلى شوقي؛ لأني أجد في الأول صورة الكفاح بين العرب والرومان في عشرات من قصائده الرائعة، أي أن له قيمة تاريخية عندي أبصر بها حركة التاريخ، ولكنه مع ذلك ينأى عني حين أجد أنه لم يعرف «الجندي المجهول»، فإنه حين يصف معركة إنما يجعل بؤرة القصيدة أميره «سيف الدولة» الذي ربما لم يشترك بشخصه في معركة واحدة، أما الجنود الذين كانوا يؤسرون ويقتلون فلم يكن يذكرهم، وصحيح أني أعذره في ذلك؛ لأن الشعب لم يكن قد ارتفع إلى وجدانه، ولكني مع عذري له هنا، بل لعذري له هذا، أجده غريبا عني.
أما بعد هذا، فهو وشوقي سواء في نظم الأكاذيب التي كان أولهما يمدح بها سيف الدولة والثاني الخديوي عباس.
والأدباء الجدد في مصر قد أصبحوا - بقوة ما تسلل إلى قلوبهم من الثقافة العصرية - يحسون أن الشعب هو الجندي المجهول الذي يجب عليهم أن يرفعوه إلى المستوى الفني والاهتمام الذهني في القصة والشعر والرسم والنحت، ويكتبوا عن حياته ويرسموا أهدافه، وما فيه من عبقرية أو إنسانية، وليس معنى كلمة «الشعب» أولئك البائسين فقط كما هو الوهم العام، فإن الموظف والطبيب والصحفي والمحامي والقاضي، كل هؤلاء عاملون يعملون برءوسهم كما يعمل الصانع بيده في مصنعه أو الفلاح في مزرعته، ومنهم المخترع، كما أن منهم العبقري في حبه أو في صلاحه، والمكافح في فلسفته أو في إنسانيته. •••
وهنا نحتاج إلى كلمات جديدة تعين لنا المعاني الجديدة في هذا الموضوع.
إن الأدباء الجدد يطلبون أدبا عضويا يرتبط بالمجتمع ويؤدي فيه وظيفة حيوية، بحيث يساعد على أن تسير الحياة الاجتماعية وفق الشرف والإنسانية والخير، ومكافحة الشرور، شرور الاستبداد والاستعمار والفاقة والمرض والخبث والدعارة.
والأدب هنا عضوي، من حيث إنه يؤدي في الجسم الاجتماعي خدمة معينة، كما تؤدي اليد أو القدم خدمة معينة للجسم البشري.
وبمعنى آخر ليس هو أدب الترف أو التسلية الذي يمكن الاستغناء عنه، أي ليس هو أدب البلاغة، كما فهمنا معنى هذه الكلمة في كتب البلاغة العربية، فهو لا يبالي تلك النبرات والنغمات إلا بمقدار ما يستطيع أن يؤدي بها خدمته، أي عضويته، في النشاط الاجتماعي، فالبلاغة هنا وسيلة وليست هدفا.
للأدب العضوي موضوع وهدف، أما الأدب البلاغي فليس له موضوع أو هدف. (هل كان لشوقي موضوع أو هدف؟)
إني أفهم أنه كان لبيرون، وشيلي، وأندريه جيد، وأناطول فرانس، وبرنارد شو، وه.ج. ولز، ومكسيم جوركي، وثورو، موضوعات وأهداف.
ولكني حين أقرأ هذه الصفحات التي تبلغ ثلاثة آلاف أو أكثر من كتاب الأغاني لا أجد موضوعا أو هدفا، وإنما أجد حلويات لا تغذو الذهن الناضج، ولكنها تروح وتسلي بالنبرة والنغمة والنكتة النادرة؛ ذلك لأن المؤلف كان يكتب للأمراء والأثرياء والملوك، وكان يحس أنه يخدمهم ويسليهم ويقدم لهم ترفا.
أما الأديب العصري فيحس أنه يخدم، ولكن خدمته قيادة وإرشاد ونور، وجد يؤلم، وطرب يرفع نحو الشهامة والنبل.
الأدب العضوي هو محاولة أو محاولات لا تنقطع لزيادة الوجدان حتى يجد القارئ نفسه بعد ذهول، وحتى يتعقل بعد استرسال في عادته الذهنية، أو بعد استسلام لمكانه الاجتماعي، وهو أيضا محاولة لزيادة الإحساس، حتى يزول التبلد الذي يطغى بقوة الجهل على كثير من أبناء الشعب، ولذلك يحاول الأديب أن يجلو مشكلة اجتماعية غامضة أو يكشف عن شقاء إنساني خفي قد لا يدريه الأشقياء أنفسهم الذين يعانون هذا الشقاء، أو هو يتناول العادات الاجتماعية أو الذهنية السيئة بالنقد والتوضيح حتى يكف الناس عنها.
أما الأدب البلاغي فهو لعبة للتسلية، ألسنا نقرأ الأغاني والحريري ونوادر الكتب الأربعة التي أوصى بقراءتها القيرواني ونحن نتلمظ بكلماتها الحلوة ... ثم لا يترك هذا الأدب شيئا في نفوسنا، فلا طرب، ولا ألم، ولا برنامج ولا كفاح، ولا ثورة في الروح ولا عزيمة للتغيير؟
الأديب الجديد، الأديب العضوي، هو الذي يدرس الحياة، ويحاول أن يجد نظرة جديدة لشئونها أعمق وأوسع من النظرة المألوفة.
الأدب الجديد هو أدب أولئك الذين كبروا ونضجوا في الذهن والنفس، فلم يعد يغريهم كلام منغم ونكات بارعة بلا هدف من نظمها إلا التسلية، وهم يحسون مسئولية إنسانية وضميرا عالميا؛ ولذلك ليس الأدب عندهم اهتماما فقط، بل هو هم يتأكلهم ويعتصر منهم أعمق الأفكار وأحر الإحساسات، وهم مكافحون رأوا رؤيا التطور للخير والشرف؛ ولذلك هم دائبون في مطاردة الحيوان الذي يحرض على الأنانية والقبح والثراء الجنوني والمباراة الوحشية والنهم الجنسي.
هم أعداء فاروق، والمركبات الفاروقية الاجتماعية والسيكولوجية، من الاستبداد إلى الدنس إلى الثراء إلى القسوة إلى الجهل إلى الحيوانية. •••
الموضوع والهدف يعينان الأسلوب.
ذكرت هذا وأنا أقرأ النقد الحق الذي تقدم به الدكتور طه حسين حين قال إن الأدباء الجدد لم يعودوا يعنون بجمال العبارة ولا بالتأليف الفني.
وهذا حق من وجهة نظره؛ لأنه يعتقد أن الأدب ترف.
لقد نال تشرشل جائزة نوبل في الأدب، وأنا أعرف تاريخ هذا الرجل الذي لم يحي قط حياة أدبية ، ولم يهدف قط إلى سلام، ولم يدع دعوة الإنسانية ... إذ هو إمبراطوري.
ولكن لأنه إمبراطوري يقول بسيادة الإنجليز على غيرهم من البشر، ويشيد بالحرب والاستعمار، أجرى قلمه بأسلوب إمبراطوري كله قعقعة وجلبة ورصانة ورشاقة، كأنه المتنبي في النثر، وهو بليغ، فصيح بحيث لا يستطيع رجل الشعب من الإنجليز أن يفهمه.
ذلك لأن تشرشل ليس من الشعب، وهو لا يكتب للشعب.
تشرشل هو ابن اللورد تشرشل.
هو باشا إنجليزي يكتب للباشوات الإنجليز وأبنائهم؛ لأن هؤلاء هم بيئته ومجتمعه، ولغتهم هي لغة كتبه التي نال بها جائزة نوبل، وفي هذه اللمحة إلى تشرشل ما يبعث على التفكير.
ذلك أن الكاتب الذي امتلأت نفسه بهموم الشعب، والذي يهدف إلى قراء من الشعب، يجب أن يكتب بلغة الشعب، لغة ديمقراطية، ليست بالعامية طبعا؛ لأن العامية لا تكفي للتعبير، ولكن بلغة ميسرة تشفي على العامية، يستطيع جمهور الشعب أن يفهمها.
إنه لا يكتب لباشوات أو لوردات قد ورثوا تراث البلاغة مع الضيعة والقصر والسيارة والذهبية.
لا، إنه يكتب للنجار والطبيب والفلاح والبقال والمهندس وغيرهم ممن يعملون وينتجون، وهو يعالج همومهم واهتماماتهم فيضطر إلى أن يكتب بلغتهم.
ومع ذلك هل منا من ينكر قيمة الترف؟
لا، ولكني حين أتحدث عن غذاء للشعب لا تخطر ببالي الشكولاتة؛ لأن اهتمامي عندئذ هو توفير الفول المدمس واللحم والخبز!
وبعد أن تتوافر هذه الضروريات، نشرع في الحديث عن الشكولاتة وأطعمة الترف الأخرى.
هل الأدب الملوكي شكولاتة؟! •••
لقد تكرر الحديث بشأن الأدب وتشتت، ولذلك نحتاج إلى تلخيص العناصر البارزة فيه فيما يلي:
الأدب طعام يغذو الشعب، وليس حلوى يستطرفها الأمراء والأثرياء والكسالى والمنهوكون.
وهو كفاح إيجابي يقوم به الأديب كي يبعث التفكير والعمل؛ أي أنه ليس ترفا للذة والاسترواح، والأديب المصري يجب لذلك أن يخوض غمار الأدب بروح الكفاح.
وهو حركة انتهاضية إيجابية نحو المستقبل، وهو ولاء للإنسان وليس ولاء للتقاليد، وهو أكبر من الصنعة، هو بناء الشاهقة التي تصدم السحاب، وهو هندسة المدينة المثلى، أي ليس هو صنع الفسيفساء والمشربية ، ومعنى هذا أنه بناء للشخصية الإنسانية، وليس نصائح الملوك على المائدة.
والأدب للشعب كله وليس لطبقة منه، أي للإنسانية.
ثم هو حياة يحياها الأديب، تحوي التعاسة والسعادة والتضحيات والانتصارات، ثم رؤياه في فنه، ثم التحقيق.
ولكن الأدب في مصر يجب أن يضطلع بضع سنوات بمحاربة القرون المظلمة وهدم الأسوار التي تعوق حرية الفكر وبناء الشخصية، هذه الأسوار التي كانت الحكومات الماضية، بل كذلك المجتمعات الماضية، تحرص على استبقائها وحمايتها؛ لأنها تؤيد ألوانا من الرجعية تحتاج إليها لاستبقاء نظمها الإقطاعية، أي يجب على الأديب أن يهدم دون أن ينسى البناء.
الأدب الملوكي والأدب الشعبي
أثار الدكتور طه حسين هذه الأيام الأخيرة (1954) غبارا بشأن الأدب كما يكتبه الكتاب وكما يقبل عليه القراء، فتنقصه وأزرى به، واتهم الكتاب بأنهم يهدفون إلى الرخيص السهل؛ إيثارا للكثرة غير المثقفة من القراء، ثم دعا إلى الأدب العالي أو الغالي على ما فيه من صعوبة؛ لأنه هو الأدب الحق، وما عداه مزيف.
وفي هذا الكلام كثير من الغبار والضباب يستحق أن نجلوه.
وأول ما نجلو هنا أن نميز بين الأدب الملوكي أو الفاروقي، وبين أدب الشعب أو الدهماء؛ لأن هذا التمييز هو بؤرة النقاش من حيث لا يدري بعض المناقشين.
وإذن ليست المشكلة هي مشكلة الصعوبة أو السهولة، وإنما هي مشكلة الأدب الملوكي والأدب الديمقراطي، وهل يجب أن يكتب الكتاب للخاصة أو للكافة؟ وهل يجب أن يعالج الأدب بهارج الخاصة وامتيازاتها في الغرام والسلطة واللؤلؤ، أم يعالج مشكلات العامة في الحب والسياسة وحكمة العيش وشرف الإنسان وحرية الضمير؟
لقد كان الأدباء القدماء، في الغرب والشرق، يؤلفون القصة أو الدرامة أو يرسمون الرسوم أو ينحتون التماثيل فيكون موضوع الفن الذي يمارسونه ملكا أو أميرا أو بطلا يقعقع بالسيف على المسرح، وهذا هو ما نرى في أدب شكسبير، أو قصص «الأغاني» العربية، أو تماثيل أو قصص الإغريق وأشعارهم وتماثيلهم.
هذا هو ما نرى في الأغلب، وقل أن نجد للعامة من يمثلهم في هذه التماثيل أو القصص أو الأشعار، إلا إذا كان الكاتب من العامة التي لم تتعلم مثل مؤلفي «ألف ليلة وليلة».
وكانت هذه الحال طبيعية؛ لأن الشعب، عند الرومان والعرب القدماء، بل كذلك إلى حد ما عند الإغريق، لم يكن موجودا، ونعني أنه لم يكن في وجدان الأدباء والفنانين؛ لأن النظام الاجتماعي كان نظام السادة الإقطاعيين تقريبا، وكان الشعب بمثابة العبيد، بل إني أشك في أن كلمة «الشعب» قد ذكرت في أي كتاب من كتب الأدب العربي القديم بمعناها العصري؛ ذلك لأن كتب الأدب العربي هي كتب الملوك والأمراء، وهذه الأجزاء العشرون أو أكثر من الأغاني هي قصص السادة ملوكا وأمراء، ومن كان يرتفع إلى مستواهم من رجال الدين والحرب والسياسة، ولست هنا أنسى قيس ولبنى وأمثالهما، ولكن هذه القصص لا تبلغ جزءا من مائة من صفحات الأغاني.
ونستطيع أن نقول لهذا السبب إن الأدب القديم كان ملوكيا، يحافظ على التقاليد، ويؤيد مذهب الدولة، ويكره الثورة، بل لا يعرفها؛ ولذلك يحدثنا مؤلف الأغاني عن القصور والخمور والمغنيات والموائد المطهمة والفروسية الحربية، أما الشعب فلا وجود له عنده.
بل ماذا أقول؟ إن في الأغاني شخصية واحدة، شخصية عظيم من عظماء العرب، يدعى علي بن أحمد، حاول أن يحرر العبيد ويرفعهم إلى مقام البشر، ولكن مؤلف الأغاني، الذي كان يجهل الأهداف الإنسانية والروح الديمقراطي، كان يصفه بكلمات: الخبيث والفاسق والكافر واللعين.
اعتبر هذا أيها القارئ، رجل عربي يدعى علي بن أحمد، هتف به الشرف، فحمي قلبه وارتفع روحه، وصلى وركع للإنسانية، فوجد الإنسان يباع بالدرهم والدينار، ويوضع في السوق، ويفحص عن أسنانه، وتدس الأيدي بين أفخاذه، ويجر لسانه، ثم يضربه البائع بالعصا فينطلق وهو عريان يعدو للامتحان، ثم يقدر ثمنه، فيباع ويسلم سلعة للمشتري.
رأى علي بن أحمد هذا الهوان، فقال: هذا لن يكون. ثم جمع العبيد في البصرة، وثار على الخليفة العباسي يريد تغيير المجتمع، ولكن الخليفة هزمه بجيوشه الأجنبية التركية.
مثل هذا العظيم، هذا الإنسان الكمالي، هذا الرائد للحرية، لم يجد من أديب «الأغاني» سوى أنه: خبيث وفاسق وكافر ولعين!
لقد قال سارتر - على ما أذكر - إن صناعة الأديب هي الحرية. فماذا كان يقول عن علي بن أحمد وعن مؤلف الأغاني؟ إنني واثق أن أدباءنا الذين ينعون على أدبنا الحاضر الارتخاص والسهولة إنما يطلبون أدبا كذلك الذي يملأ صفحات الأغاني، وهم كما يحبون كلمات الأغاني يحبون أيضا أفكار مؤلفها؛ لأن الكلمات أفكار.
لم يكن مستغربا أن يفسد كل شيء في عهد فاروق، وأن يفسد الأدب أيضا مع ما فسد.
وأعني بكلمة «فاروق» ما تحمله هذه الكلمة من قيم رمزية للاستعمار البريطاني والاستبداد الملوكي والفساد الأدبي في أيامه وقبل أيامه.
لم يكن عجيبا أن يؤلف علي الجارم القصائد في مدح فاروق، ولعله دخل المجمع اللغوي وقبل عضوا فيه بسبب هذه القصائد!
ولم يكن عجيبا أن يكون الشاعر الأول في مصر - أحمد شوقي - شاعر الملوك، حتى فخر وباهى بأنه قد نشأ وربي على أعتاب إسماعيل، ثم بعد ذلك، أو قبل ذلك، لم يخجل من تأليف قصيدة يطعن فيها البطل المصري عرابي ويتهمه بالخيانة، مع أن شوقي لم يكن جديرا بأن ينفض الغبار عن حذاء عرابي.
وقد ألفت قصائد قبل بضع سنوات عن الجمل الذي فر من المجزر، ثم استجار بفاروق في قصر عابدين ... ألفها «أدباء»!
يا للعار! يا للخجل من هذا الأدب «الصعب» والأدب الملوكي!
والله لو ألف أدباء الشعب قصائدهم وقصصهم ومقالاتهم بلغة العامة، وكسروا ألف قاعدة من قواعد النحو، لكانوا أشرف من أحمد شوقي وعلي الجارم ومن سار خلفهما أو حذاءهما من الكتاب الملوكيين.
أجل والله، لقد قرأت باللغة العامية كلمات تشع بالإحساس النبيل، وتنطق بالحكمة البليغة لحسين شفيق المصري وأبي بثينة وبيرم التونسي، وأحببتهم بقدر ما كرهت هذا الذي سب رمز الشرف الوطني أحمد عرابي.
أدب الملوك والأمراء والباشوات هو هذا الأدب الذي يدعو إليه الدكتور طه حسين.
أذكر أني كنت أتحدث إلى أحمد شوقي عن كليوباطرة، وأن أنتقد مديحه لها في قصته المسرحية، فقال إنها ملكة مصرية رأى أن يزكي شرفها، فقلت: إنها بغي أجنبية! فدهش لكلامي، وأحسست الهوة التي تفصل بيني وبينه.
وقبل شهر كنت في دندرة وزرت معبدها، فرأيت صورة هذه البغي مع ابنها الذي كان ثمرة زنا قيصر بها، فلعنتهما، ولعنت شوقي، وبصقت في الهواء.
أجل، إن شوقي كان يمدح عباس أو فؤاد أو فاروق كما كان يمدح كليوباطرة اللعينة، ولم يفكر قط في مكان الشعب المصري مع كل هؤلاء.
أدب الملوك يحتاج إلى أن يكتب بلغة الخاصة؛ لأن أخص الخاصة هو الملك.
وأدب الملوك يحتاج إلى أن تكتب عن التاريخ القديم؛ لأنك بهذا الموضوع تفر من الواقع الحاضر وتسلي وتسامر، وكلمة «السمر» فرعونية للحديث مع الملوك والأمراء وتسليتهم ...
وأدب الملوك هو أن تلعن دعاة الثورة وتدعو إلى التقاليد؛ لأن التقاليد لا تتفق مع الثورات.
وأدب الملوك هو أن تلعن دعاة الأفكار الجديدة؛ لأنهم يقلقون الشعب في استقراره، وهو استقرار الفقر والجهل والجوع.
التاريخ القديم، والتقاليد، والعقائد، تؤيد النظام الملوكي، فأيما كاتب يخرج عليها إنما يخرج على العرش، وهو لذلك يجب أن يطارد.
فمن دعا إلى القبعة يعد عدوا.
ومن دعا إلى التيسير في اللغة للوصول إلى العامة يعد عدوا.
ومن دعا إلى أن يرتبط الأدب بالمجتمع ويبحث مشكلاته يعد عدوا.
ومن دعا إلى تطور يعد عدوا!
وكل هذا معقول عند الملوك ومن التف حولهم.
لقد ألف «الأديب» مصطفى صادق الرافعي جمعية لمحاربة الدعاة إلى القبعة. وما يسميه أدبا، ويؤلف فيه، إنما كان جهلا نشيطا ورجعية مكافحة، ولم نكن نجد في هذا الأدب فكرة واحدة من تلك الفكرات الحوامل التي تلد وتثمر الخير للشعب. •••
وأرجو ألا يلتبس موقفي عند القارئ، فإني لا أعادي القدماء، والثقافة القديمة هي تراث بشري عظيم لا يهمله إلا مغفل، بل أنا لا أكاد أقرأ كتابا عربيا إلا إذا كان مؤلفه من القدماء!
ولكن يجب أن نميز بين قديم وقديم؛ ذلك أن هناك قدماء قد يفصل بيننا وبينهم ألف سنة أو ثلاثة آلاف سنة، ولكنهم قدماء معاصرون؛ أي يشتغلون بهمومنا البشرية أو الاجتماعية العصرية.
وهل أنسى فضل هذا العظيم «إخناتون» وبيني وبينه أكثر من ثلاثة آلاف سنة، حين دعا إلى السلم الذي ما زلنا ننشده إلى الآن؟! وأية دعوة أحم إلى القلب، وألصق بالذهن، وأسمى في الشرف، من دعوته، في عالمنا الحاضر الذي يقف على شفا البركان؟
وهل أنسى هذا الإمام العظيم «ابن حزم» حين يدعو إلى الحب ويجعله أساسا للسعادة، ويحض الناس على أن يحبوا، وينص على أننا لا نستطيع أن نحب غير امرأة واحدة، وأن ينشدوا العفة والشرف مع من يحبون؟ وبيني وبين ابن حزم ألف سنة.
وهل أنسى هذا العظيم الآخر «ابن رشد» وبيني وبينه أيضا ألف سنة، حين يعزو تخلف الشعوب إلى أن المرأة قد ضرب عليها في البيت فلا تخرج ولا تختلط بالمجتمع، لا تشتغل بشئون الرجال ولا ترتزق بكدها ولا تملأ وظائف الدولة؟
هؤلاء وعشرات، بل مئات غيرهم، هم القدماء المعاصرون الذين يعيشون في عصرنا ويتحدثون إلينا حديث الضمير والعقل والشرف، ويحاولون تنبيهنا إلى القيم الإنسانية التي نسيناها أو كدنا.
لا، ليست العبرة في الأدب أو الفن بالقديم أو الجديد، وإنما العبرة بقيمة هذا الفنان أو الأديب، قيمته الإنسانية أو الاجتماعية التي يحم إلينا ونحم إليه بها، فنتبادل وإياه الفكرة في حنان وانشغال إنسانيين.
وكذلك ليست العبرة في الأدب أن يكون سهلا أو صعبا؛ لأن الكاتب الفذ هو الذي يجمع بين اليسر والعمق.
قولوا لنا: هل مؤلفات تولستوي صعبة أم سهلة؟ وهل هي بليغة أم مبتذلة؟ ثم ماذا كان يقول تولستوي لو أننا ترجمنا له كتابا مما يسمى في مصر «كتب البلاغة» وقلنا له ونحن نهديه إليه: تعلم هذه القواعد حتى تجيد الكتابة البليغة والتأليف المجدي؟
ألا ترون أيها الناس أنكم في أدب ملوكي وبلاغة ملوكية، وأن الشعب يطلب بلاغة شعبية ديمقراطية؟
يجب أن يموت هذا الأدب الملوكي، أدب المجاز والاستعارة والتورية والبهارج والمحسنات، هذا الأدب الذي ينأى عن إحساس العصر ووجدان الشعب، ويخلو من الأهداف الإنسانية، ويجب أن يكون للأدب دستور جديد، بحيث يحترم الشعب، الشعب أولا، والشعب أخيرا، والإنسانية في كل زمان ومكان.
الأدب الملوكي والأدب الشعبي أيضا
أرسل إلي كثيرون من القراء ينتقدون أو يعلقون على بعض ما جاء في مقالي السابق تحت هذا العنوان، وبعض من القراء كانوا مسرفين في إطرائهم وإعجابهم، حتى إنهم لم يقنعوا بالبريد فاختاروا التلغراف.
وهؤلاء المعجبون سأهملهم في هذا المقال، وحسبهم مني الشكر، أما المنتقدون فإني سأتناولهم بالتعليق والتوضيح اللذين أرجو أن يكون فيهما ما ينير ويوجه.
فمن هؤلاء أ.ب. الذي يسأل: «وما دخل الشرف ومقارنته بالقوة البلاغية والتمكن العلمي؟!»
ثم هو يعيب علي سكوتي على القصائد التي ألفت عن الجمل الذي فر من المجزر واستغاث بالعدو السابق فاروق، ويقول: «وسكوتك عن هذه القصائد وقتذاك يعتبر رضاء عنها، وهي ليست ضعيفة في ألفاظها ومعانيها حتى تقول في شأنها: يا للعار! يا للخجل!»
ومن الناقدين أيضا ع.ع. فإنه يلومني على استعمال كلمة الملوكي بدلا من الملكي؛ لأنها «أكثر مقابلة لكلمة الشعبي!»
وهو يقول أيضا: «وهب شوقي والجارم ممعنين في النفاق ... فما شأن هذا بالأدب؟!»
ثم يذكرني أخيرا بالمثل القائل: «اذكروا محاسن موتاكم.»
ولا يخرج سائر الناقدين الذين تكرموا بإرسال انتقاداتهم إلي عن طراز ما ذكرت.
وأخيرا قرأت للأستاذ عباس خضر مقالا قال فيه إني أبغض إلى القراء الصعوبة في الأدب وأطلب السهولة، وإنني أحب أن يقتل أدب المجاز والاستعارة والتورية، وسألني: لماذا لا أؤلف باللغة العامية؟! ثم زعم أخيرا أن شوقي كان شعبيا حين ألف قصيدة عن البلاد وقال فيها:
عبادك رب قد جاعوا بمصر
أنيلا سقت فيهم أم سرابا؟
حنانك واهد للحسنى تجارا
بها ملكوا المرافق والرقابا
ورقق للفقير بها قلوبا
محجرة وأكبادا صلابا
أمن أكل اليتيم له عقاب
ومن أكل الفقير فلا عقابا؟
وهذا الذي نقلت من الناقدين يدل على أنهم يفهمون من الأدب غير ما أفهم، وأن تصوري للأديب غير تصورهم، أو هو أكبر وأسمى من تصورهم، فإن أحدهم يسألني: ما دخل الشرف في الأدب؟!
وجوابي أنه إذا غاب الشرف عن الأدب فقد غاب كل شيء.
ثم هو لا يرى بأسا في نظم الشعر عن الجمل ما دامت القصائد ليست ضعيفة في ألفاظها أو معانيها، وبكلمة أخرى يريد أن يكرر علينا قوله إن الأدب لا شأن له بالشرف أو بالهدف.
وحتى إذا كان شوقي والجارم منافقين، فما شأن هذا بالأدب؟! ثم هو يطالبني بأن أذكر محاسن الموتى، مع أنهما لو كانا قد ماتا حقا في قلوبنا وعقولنا، لما وجدنا ما ينتقد عليهما، ألسنا نقرأهما إلى الآن؟! وألم يسكتا الشعب المصري الحاضر بما كتباه؟!
أما الأستاذ عباس خضر فيقول إني أطلب السهولة، وكأنه نسي أني قلت إن الكاتب الفذ هو الذي يجمع بين اليسر والعمق مثل تولستوي.
ثم هو ينقل هذه الأبيات ويزعم أن شوقي قد صار شعبيا بها، مع أنها تنطق بتعالي شوقي الذي ينشدها من فوق السحاب: غني، قوي، يحسن على الفقراء الضعفاء، وما هذا بالأدب الشعبي، إنما الأدب الشعبي هو أن نحس إحساس الشعب ونكافح كفاحه، ونتكلم بلغته، ونصرخ صراخه، ولا نلقي عليه كلمات كما نلقي للجائع لقيمات الصدقة. •••
من أحسن ما اقترحه الدكتور طه حسين قبل نحو عشرين سنة أننا يجب أن ننقل إلى لغتنا ترجمة أدبية لأحد الكتاب الأوروبيين، وهذا اقتراح جميل، وأنا أؤيده حتى ولو كنا نجهل هذا الكاتب الذي سنقرأ ترجمته والانتقادات التي وجهت إليه.
لنقرأ تراجم تولستوي، أو جوتيه، أو أندريه جيد، أو برنارد شو، ونعني تلك التراجم التي تشرح لنا التكشفات الأدبية في أحد هؤلاء الأدباء، وكيف كانت تتصل حياته المعاشية والثقافية بهذه التكشفات، وما هو وقع الحوادث فيها.
نحتاج إلى أن نقرأ هذه التراجم ولو لم نكن قد قرأنا شيئا لهؤلاء الأدباء أنفسهم المترجم لهم؛ وذلك كي نقف على الأوزان والقيم التي يوزن ويقوم بها الأديب وأدبه، وعندئذ نعرف أن هناك وحدة بينهما، وأن ما نجد من طرز أو اتجاهات أو أهداف في أدب ما إنما هو ثمرة الحياة والعيش وأثر المجتمع في الأديب نفسه.
ونحن نجهل هذا التصور للأدب والأديب في اللغة العربية؛ ولذلك قصارى ما نجد انتقاد للكلمة أو القاعدة في تأليف الكلام.
الأوروبيون ينظرون إلى أدب الكاتب كما ينظر أحدنا إلى المبنى الكامل، بكل ما يحتويه من حدائق وطبقات وموقع، وما يدل عليه من فلسفة المهندس الذي وضع تصميمه وأشرف على تشييده، ولكن الناقدين عندنا يقفون عند إحدى اللبنات ويقولون: هذه رخوة أو في غير موضعها.
النقد في أوروبا هو نقد المبنى الكامل، ونقدنا في مصر هو نقد اللبنات: نقد الفاعل والمستثنى والطباق والجناس والمجاز.
ولست أقول بإهمال هذه الأشياء، ولكن المهندس العظيم يتركها للبنائين.
ذلك أن الأدب فن وصنعة: الفن للمهندس المشرف الذي يصنع التصميم، والصنعة للبناء الذي يضم لبنة على لبنة.
ومن هنا يجب أن يرتفع انتقادنا للأديب إلى حياته التي لا يمكن أن تنفصل من أدبه؛ لأن ما يأخذ به من قيم وأوزان في مجتمعه ودنياه وعيشه، ينتقل إلى ما يؤلف من الأدب، وقد سبق لي أن قلت - لهذا السبب - إن أحسن مؤلفات طه حسين هو حياته؛ إذ ليس هناك كتاب ألفه هذا الأديب المصري، الذي يكتب للخاصة، يبلغ في القيمة الإنسانية ما تبلغه حياته، هذه الحياة العجيبة التي تبدأ في الطفولة العرجاء؛ حيث الظلام واستهزاء الأفراد، والوسط الريفي الراكد، والبداية السيئة في التعليم، ثم الاختلاط بأوساط أخرى في القاهرة، ثم الاحتكاكات الجديدة التي تثير استطلاعه، فيشك، ثم يبحث، ثم يوقن.
ثم ينزع عمامته ويلبس قبعته، وينسلخ من الشرق إلى الغرب، يترك عاصمة أفريقيا ويرحل إلى عاصمة أوروبا، أي يترك القرون الوسطى إلى القرن العشرين، ويعود إلينا، ويكافح، ويتقي ما نرجمه به من أحجار في تجلد وكفاح؛ لأنه واثق من قوته، ثم تحمله الثقة والمثابرة إلى أن يكون وزيرا للدولة.
أية قصة في الأدب أعجب من هذه القصة؟! ولماذا لا نؤلف عنه مسرحية يرى فيها الشباب مثالا للكفاح الشريف؟!
إن بعض الناقدين قد بعثوا إلي برسالتهم يسألونني: ما شأن الشرف في الأدب؟! وماذا يمنع أن يكون الأديب عظيما حتى حين ينافق؟!
وجوابي أن هذا غير ممكن، ولو كان طه حسين منافقا، وارتضى لنفسه حياة غير شريفة، لما كان أديبا عظيما.
أدب طه حسين هو حياته ومؤلفاته معا ... وأحب أن أقول عن نفسي هذا أيضا.
وهذا هو الشأن في جميع الأدباء الذين جعلوا الأدب ضرورة اجتماعية في أوروبا، بل أيضا في مصر.
لا نستطيع أن نفصل أدب تولستوي الذي نقرؤه في قصصه من حياته التي تحدى بها مظالم القيصر ومساوئ الفقر، بل هو حين كان يصنع الأحذية بيديه للفلاحين كان أديبا لا يختلف في اتجاهه وأسلوبه عما كان يفعل حين كان يتناول القلم لكتابة القصة أو للحملة على شكسبير، وكذلك الشأن في فكتور هيجو، فإني حين أقرؤه أحس الشجاعة والشهامة اللتين واجه بهما الطاغية نابليون الصغير، وهذا إحساسي أيضا حين أقرأ أندريه جيد أو برنارد شو، كلاهما يحيا حياته في أدبه، ويحيا أدبه في حياته.
فلا تقولوا لي أيها الناقدون: ما شأن حياة شوقي وأخلاقه في فنه وأشعاره؟! لأن لها كل الشأن.
إنها جزء، بل الجزء الأكبر والأعم، من مؤلفاته، أليس الواقع أن كلا منا يؤلف نفسه، ويكون شخصيته، ويعين أهدافه، قبل أن يؤلف كتابا؟ بل أليس الكتاب هو ثمرة الشخصية؟
ولقد فخر شوقي في إحدى مقدماته بأنه عربي يوناني تركي شركسي قوقازي! وأنا بعيد كل البعد عن أية دعوى عنصرية، بل لا أفهمها، ولكن شوقي حين كتب هذه الكلمات، وسجل على نفسه أنه غير مصري، كان يعرف ويحس ويوقن أننا - نحن المصريين - كنا مدوسين، على رءوسنا وحل، وفي قلوبنا يأس، وكان مصطفى كامل يحاول أن يرفع عنا هذا اليأس بقوله: لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا.
فكان يجب على شوقي أن ينسى أنه أجنبي في دمه، ولكنه لم ينس، لماذا؟
الجواب: أنه لم يبال أن يكون مصريا.
ثم هو سب عرابي أكبر شخصية في تاريخنا في الألف سنة الماضية، وكره منه قوله للخائن توفيق: «لسنا عبيدا.»
ومدح الفاسقة كليوباطرة، وقال عن العدو السابق فاروق:
فاروق يا ابن خير أب
وأرفع اسم في العرب
ليس على الأديب أن يبالي كثيرا الجناس والطباق؛ لأن صناعته الأصلية هي الحرية والكرامة والإنسانية والشرف، وقد كان توفيق، مثل من جاءوا بعده، يطارد كل هذه الصفات في مصر؛ ولذلك لا يمكن أن يمدح هؤلاء شاعر أو أديب، ثم يزعم بعد ذلك أنه شريف، وقد مدحهم شوقي وغيرهم من المنافقين. •••
كنا منذ 1882 نكابد الاستعمار البريطاني والاستبداد المصري، أي كنا نكابد أثقالا كأنها الجبال، وكان الشعب في التراب، مغموسا في الطين، تأكل الديدان أفراده وهم يمشون موتى كأنهم أحياء.
وأيما أديب لم يثر على الاستعمار والاستبداد، وأيما أديب لم يحس النار تأكل أحشاءه، بل أكاد أقول: أيما أديب لم يفقد وجدانه وينسى الحذر ويزج به في السجن وهو يكافح ظلام الإنجليز ونذالة الخديويين والملوك في مصر؛ لا يمكن أن يوصف بالشرف.
ذلك أن أدبنا كان يجب منذ 1882 أن يكون شعبيا ثوريا، يكافح بالفكرة والكلمة هؤلاء المستعمرين والمستبدين، وكان يجب أن يكون على الدوام مع الشعب، يقف مع الفلاح الذي يحمل الفأس، والحوذي الذي يسوق فرسيه، والصانع الذي يصوغ الأثاث، والطالب الذي يعجز عن أداء المصروفات، والموظف الذي يعمل طول النهار لقاء جنيهات لا تكفي طعام أولاده. •••
ليس الأدب أن نصف كأسا من الخمر في بيت من الشعر، ونقارن هذا الوصف بأبيات أخرى قيلت في هذا المعنى، وليس الأدب أن نصف القصور وأبهة العروش، ولم يكن من الأدب أن نصف فاروق بالحكمة والسداد، وليس الأدب أن نقول: هنا جناس، وهنا طباق.
ولقد عشت حياتي وأنا أفهم أن الأدب كفاح؛ ولذلك كنت أحس المسافة الشاسعة التي تفصل بيني وبين بعض الأدباء المعاصرين في مصر، كانوا أدباء الجناس والمجاز، وكنت أديب البرنامج والهدف والحياة، وكانوا يستلهمون الماضي، وكنت أستلهم المستقبل.
لقد كنت - وما زلت - أكتب لأولئك الشبان، والموظفين، والمحامين، والكناسين، والأطباء، والحلاقين، وعمال المصانع المتنبهين، والنساء الجديدات العاملات، وجميع أولئك الأشراف الذين لا يعيشون سدى ولا يكسبون قوتهم بالباطل، وإنما يتعبون ويكدون كي ينتجوا سلعة أو يؤدوا خدمة، هؤلاء هم قرائي الذين أغذوهم بالفكرة والنظرة والنبرة، وأعين لهم السلوك والهدف، وأقدم لهم الغذاء الذي يبني، وليس تلك الحلويات التي ترفه عنهم السأم بالأبيات والجمل المزيزة يتلمظون بها في خواء النفس ورخاوة العقل.
والآن دعوني أبكي ...
كنت في يوم 23 فبراير من السنة الماضية (1952) أمشي في أحد الشوارع في باريس، وإذا بشاب لم يكد يخرج عن سن الصبا يقترب مني وهو يعدو ثم يناولني ورقة، أخذتها وجعلت أقرؤها.
ولشد ما صعقت عندما قرأت فيها أن رابطة الطلبة في باريس تعلن سخطها على الاستعمار البريطاني في مصر بمناسبة الصدام الذي وقع بين الطلبة المصريين والجنود الإنجليز يوم 23 من فبراير من عام 1946.
قرأت وأحسست دوارا، فارتميت على كرسي في مقهى قريب، وجعلت أتأمل وأتنهد.
نحن في مصر نضرب بالسياط، ونقتل بنار البنادق، ثم نحرم حتى الاحتجاج، وهؤلاء الطلبة يحتجون من أجلنا!
لقد وصل صوت كفاحنا وأنين عذابنا، كفاح الشعب وأنينه، وليس كفاح الأدباء وأنينهم، إلى باريس، وصار الطلبة والشباب يرددون صداه وينبهون الضمير الفرنسي عنه، أما نحن في القاهرة فنلتزم الصمت، ثم يتغنى شعراؤنا بالجمل الذي فر من المجزر وصار يقطع شارعا بعد شارع حتى دخل قصر عابدين ولجأ إلى عدل الفاجر فاروق حتى لا يذبح!
الأدب العربي القديم لا يلهمنا
أسوأ ما أعاني ليس السباب أو الخبث، وإنما هو الجهل، أعني الجهل بقيمة الثقافة العصرية، والعلم، والحضارة الأوروبية، وهذا الجهل يصدمني أحيانا كما لو كان حجرا يشق رأسي، فأحس دوارا لا أعرف معه كيف أنطق أو أكتب.
ذلك أن في مصر طائفة تعتمد على أنها تعلمت الأدب، وحذقت أصوله، وأن لها الحق في أن تعين وتقرر ما هو الحسن وما هو السيئ فيه، ومعتمد هذه الطائفة هو الأدب العربي القديم الذي ينأى عن القيم والأوزان الإنسانية العصرية؛ إذ هو أدب الترف الذهني كما يقول الدكتور طه حسين وكما يفهم هو عن معنى الأدب عامة، وهو أدب التسلية للملوك والأمراء، وهو أدب اللذة الجنسية، السوية والشاذة، وهو أدب المنازعات الحربية أو المناقشات الدينية.
هو كل ذلك، ولكنه ليس أدب الشعب الذي يكافح من أجل الحرية والاستقلال، وليس أدب الإنسانية الذي يحمل همومها ويعبر عنها بالقصة والشعر والمقال، بل كذلك ليس هو الأدب الذي يدعونا إلى احترام المرأة وحبها.
ونحن حين نأخذ بهذه المعاني نجد هذه الطائفة التي أشرنا إليها - أي التي لا تعرف غير الأدب العربي القديم - تنهض لمكافحتنا، وهي تكافحنا بالأساليب القديمة، وهي أننا متعصبون، نكره العرب، أي «شعوبيون»، أو نكره الدين، أي ملحدون، والتهمتان كلتاهما تعودان إلى القرنين الثاني والثالث للهجرة، كأن هذه الأسلحة القديمة لم تتغير، وكأننا في القرن العشرين ما زلنا نهتم بالمعارك القديمة ونستعمل الأسلحة القديمة، وكأن معاني الإنسانية، والحرية، والاستقلال، والتطور، ورشد المرأة، وحقوق العيش ... كل هذه لا قيمة لها.
لقد اتهمني الدكتور طه حسين بالشعوبية أو كاد، وكأنه نسي كفاحي لأجل الشعب ضد فاروق الفاسق، هذا الفاروق الذي وقف الدكتور طه حسين نفسه في حرم الجامعة، ومن منبرها، يخاطبه بالصوت العالي بقوله: «يا صاحب مصر»!
واتهمني عباس محمود العقاد بأني لست عربيا، وهو يعني أني قبطي؛ حتى يستنتج القارئ المسلم ما يشاء، مع أنه هو - وهو التركي النوبي - وصف فاروق بأنه فيلسوف، بل أعظم الفلاسفة!
كان العقاد وطه حسين يصفان فاروق بهذه الأوصاف، حين كنت أنا في السجن أنتظر المحاكمة بتهمة قلب نظام الحكم ... أي إيجاد جمهورية بدلا من الملوكية المتعفنة!
وكلاهما - طه حسين وعباس العقاد - يكبران من شأن الأدب العربي القديم، وكلاهما ألف عنه مع الإعجاب، ولست أعارض في هذا، وإنما موقفي من هذا الأدب أنه لا يلهمنا، أي لا يلهم الكاتب، كما أنه لا يرشد القارئ إلى الحياة السامية، أي إلى العظمة، بل إني أعتقد أنه لولا انغماس العقاد وطه حسين في الأدب العربي القديم لما خاطب طه حسين فاروق بكلمتي: «يا صاحب مصر» ولما وصفه العقاد بأنه فيلسوف؛ ذلك لأن الأدب العربي القديم هو - إلى حد بعيد - أدب الملوك، وقد استلهمه العقاد وطه حسين في وصف الملك السابق فاروق، ولو أن هذا الأدب كان أدب الشعب، أدب الإنسانية، أدب المجتمع، أدب العامة، أدب التفاؤل، لما نطق أحدهما بما نطق من كلمات المديح الكاذب لفاروق.
والآن أنتقل إلى كاتب آخر أحب أن أقطع من أدبه قطاعات تدل القارئ على النزعات التي يستلهمها الأديب حين تقتصر دراسته على الأدب العربي القديم دون الأخذ بالقيم العصرية، ودون الانغماس في المشاكل الاجتماعية والإنسانية الحاضرة.
هذا الأديب هو مصطفى صادق الرافعي، ولن أفعل أكثر من أن أنقل إلى القارئ فقرات من مؤلفاته نقلتها السيدة الأديبة نعمات أحمد فؤاد ونشرتها في كتاب بعنوان «في أدب الرافعي»، وهي لم تر الرافعي في حياتها؛ لأنه مات قبل أن تبلغ سن الإيناع في الأدب، ولذلك لا يمكن أن تتهم بشبهة الخصومة الشخصية كما يمكن أن أتهم أنا؛ لأني كنت على معارضة دائمة لما يكتب، حتى إنه كتب مقالا عني بعنوان «سلامة موسى عدو العروبة والإسلام»، وقد تعبت مع هذا الرجل كثيرا، فإنه كان جهلا مكافحا، يكتب الهذر ولا يطيق أن نقول له إنه هذر.
لو أن الرافعي كان قد درس الآداب الأوروبية، فضلا عن الآداب العالمية، لعرف شيئا آخر، فيه من السمو وشرف الغاية وصلاح العيش وحب الحياة، غير ما عرف من الأدب العربي، ولكن جهله حمله على القناعة بأدب العرب، ثم حمله على العنت وسب جميع الذين يعرفون غير هذا الأدب.
وإليك بعض المقتبسات من مؤلفاته، وقد اعتمدت فيها على كتاب السيدة نعمات أحمد فؤاد في كتابها الذي أشرت إليه: «في أدب الرافعي».
فالرافعي يؤمن بالعين ويكتب بمناسبة نجاح ابنه:
لقد نجح سامي، ولكن أخاه تخلف، فالحمد لله أن رد عنا أعين الناس وسمومها.
ويكتب عن نجاح كتابه:
أنا في غاية السأم الآن، أنفر من كل شيء، ولعل نظرات الناس قد أصابتنا بعد ظهور الكتاب الجديد، وما لقي من التنويه والإقبال.
هذا أديب يكتب كي يرشد الناس في شئون الحياة، وهو مع ذلك يؤمن بالعين والحسد ... وهو يتحدث عن شعور المرأة وعن الحضارة الأوروبية فيقول:
أنا ناقم أشد النقمة على مبدأ هذه الصحيفة، فأي سفور يريدون؟ أخزاهم الله!
أنا لا أهتم للعلم ولا للغنى ولا للجاه في شخص من الأشخاص، بل الأخلاق قبل كل شيء، ودعاة السفور لا تلائمني أخلاقهم ولو كان فيهم مائة كاتب ومائة شاعر ...
إن كل المجددين رجعوا الآن عن رأيهم في المدنية الأوروبية، وأقروا أنها مدنية زائفة، وأنحوا عليها.
وانظر إلى مقدار تجمله في وصف أديبين:
لقد كانت المقالة الماضية صاعقة على لطفي السيد أظهرت خباياه ونواياه (كذا) وأبانت لهم أنه فيلسوف سوفسطائي، وستكون الثانية التي تنشر غدا إن شاء الله، وقد فرغت منه بهاتين المقالتين، وسأحاول الانتهاء من طه أيضا بمقالتين.
أنا في هذه الأيام أقرأ كتاب زهر الآداب الذي طبعه الدكتور زكي مبارك ويباهي في مقدمته بتصحيحه وما لقيه في سبيل التصحيح، فإذا فيه غلطات تدل على جهل هذا الدكتور، وأنه في النهاية من الغباوة، والخلاصة: أهي ماشية!
وهو يصف كتاب «السحاب الأحمر» بقوله:
فيقوم موضوعه على سبب واحد، حول فلسفة البغض، وطيش الحب، ولؤم المرأة!
أية لغة هذه؟ هل المرأة الحبيبة، الأم، الزوجة، الإنسانة، لئيمة؟!
والآن استعمل كل خلية من خلايا مخك كي تفهم ما يعني هنا:
رجل وقع من بين لا، وليت، وهيهات، ولات، بين التمني بأسلوبين والبعد عما يتمنى بأسلوبين أيضا، فأحب ليتعذب، وتعذب ليتصل بمعنى نفسه، واتصل بنفسه لينفذ منها إلى طرف من معنى الألوهية، وإن أردت الاختصار قلت لك: إنه أحب ليتأله!
واتعب أيها القارئ وحاول، واعرق كثيرا؛ كي تفهم معاني هذه الكلمات التالية:
هي يمين حلف الدهر بها ليكذبن كذبة بيضاء ومغشاة، يغر بريقها ويلتمع ماؤها لمع السراب، فتبصر فيها الروح معنى الري لتلتهب منها بالظمأ القاتل يفيضها على رمل ذهبي صبغته الشمس، وأنا ... أنا كلمة قد استوى ظاهرها وباطنها، فإما أن تصدق كلها، وإما أن تكذب كلها، كلمة ليس فيها جزء محبوب وجزء مكروه، فلا تحمل أبدا معنيين.
وتأمل فهمه لمعاني الحب في قوله:
وهذا الحب حاسة في الروح، فهو - ولا ريب - يستثقل كل ما ينافره من الطبائع طبائع هؤلاء الذين لا يترفقون للعيش بأيديهم وأرجلهم وأبدانهم وقلوبهم وأنفسهم، فيثيرون في كل سبيل غبار الحيوانية على كل قلب روحاني، فلا يكونون عليه إلا ألما ومضضا وشدة من الشدة، وكثيرا ما يخيل إلي فيمن حولي ممن أخالطهم اضطرارا، أنهم ثعالب أطلع عليهم برائحة الأسد الضاري!
ونزيدك أيها القارئ من معانيه في الحب: ... وسرى طيفها في نيتي (ولعله يقصد في خاطري) مسرى الزلزلة الراجفة في بقعتها من أرضها، تشق في الأرض والصخر والجبل ما يشق المقراض في سرفة من الحرير بل أسرع وأقطع وأمضى، ولو حدثت بعد الذي فعل طيفها أن مدفعا من المدافع ألقى ظله على الأرض فانفجرت من ظله القنابل تخرب وتدمر وتأتي على ما تناله والمدفع ذاته قار ساكت لقلت: عسى ولعله، وأمر قريب، ولعل المدفع كان امرأة! ... وأصبحت أرى الحب كأنه طريقة يفقد بها الإنسان روحه قبل الموت، فيعود كأنه غمرة من الجحيم وهو قار في نسيم الدنيا.
ليس لي والله من شدة حبي إياها إلا أن أبغضها وأتجهمها بالكلام النافر الغليظ وأقول لها ... نعم أقول لها، ثم أقول لها: قبح الله الحب إن كان مثل وجدي بك، لا يؤتي الحياة جمالها إلا ليسلبها حريتها واستقرارها معا! وأقول لها، ثم أقول لها: لقد أوقعتني من حبك وهجرك بين الشر والذي هو شر منه.
وهذه الكلمات التالية عن المرأة أعتقد أن الشاب الذي يقول بها هو شر على الأمة من أية كارثة تحل بها:
قيل لحية سامة: أكان يسرك لو خلقت امرأة؟! قالت: فأنا امرأة غير أن سمي في الناب وسمها في لسانها!
كيف كان الرافعي يدرس الأدب؟
إننا نجد هناك نصيحة كتبها إلى صديق له يقول فيها بالحرف: ... ثم عليك بحفظ الكثير من ألفاظ كتاب نجمة الرائد لليازجي والألفاظ الكتابية للهمذاني.
إن المجاز هو حلية كل لغة وخاصة العربية، ولا أعد الكاتب كاتبا حتى يبرع فيه، وهذا الذي جعلني أكثر منه مع أنه متعب جدا، ولكنني أرمي إلى تربية ملكات القراء وإعطائهم أمثلة من التصور إلى آخر ما تعرفه.
لقد أتعبت القارئ في تلاوة هذه المقتبسات، ولكني قصدت إلى أن أوضح أن الأدب العربي القديم الذي كان يعتمد عليه الرافعي لا يكفي لتخريج الأديب الملهم الذي يستطيع أن يطرب ويرشد معا، وأن الأديب العصري هو الأديب الإنساني المكافح الذي يطابق بينه وبين الأهداف الإنسانية.
ولست أشك في أن الرافعي مثال مسرف في الاقتصار على الأدب العربي القديم وجهل الآداب العالمية، ولكن هذا الأدب العربي القديم هو علة المناقشات المترددة التي تنشأ من وقت لآخر، حين نجد «أديبا» يحمل على أديب آخر؛ لأنه غير مؤمن، أو لأنه شعوبي، أو لأنه شيوعي، أو لأنه لا يفهم الأدب ... إلخ، هذه التهم التي تعود إلى الجهل، ثم العناد في الجهل بالإصرار عليه.
وأخيرا أقول إننا يجب أن ندرس الآداب العربية، ولكن لا نقتدي بها في أهدافها وأساليبها، وإنما لنعرف منها تاريخنا الثقافي.
تراثنا الإقطاعي في المجتمع والأدب
أود لو أرى كتابا يؤلف في اللغة العربية عن المجتمع الروماني القديم بلغته، وعاداته، وقوانينه، ونظمه، كما نراها اليوم، أو نرى رواسبها في المجتمع المصري الحاضر.
ذلك لأني كثيرا ما أعثر على مخلفات رومانية قد تحجرت في نظمنا الاجتماعية، بل أحيانا في خرافاتنا وأساطيرنا.
إن مثل هذا الكتاب ينفعنا كثيرا في تبريد عواطفنا التاريخية، وأيضا في تنوير عقولنا وتحريرها من سجن التقاليد وقيود الماضي، وعندئذ يزول عنا ذلك العائق السيكلوجي الذي يفصل بيننا وبين المستقبل.
اعتبر هذه الكلمات: فدان، عقار، ميراث.
فإن هذه الكلمات الثلاث التي ينهض عليها نظامنا الاجتماعي هي كلمات رومانية، بل إن كلمة فدان تعود إلى الجذر الذي اشتقت منه أوروبا كلمة «فيوداليتيه» أي النظام الإقطاعي.
وأستطيع أن أذكر نحو عشرين كلمة أخرى يعتقد بعضنا أنها عربية أصيلة، مع أنها رومانية، إقطاعية، لها دلالاتها المحورية في مجتمعنا.
وحسبي أن أقول هنا إن خلاصة ما أرجو أن أستنتجه هو أن مجتمعنا، الذي نجحت الثورة في تغيير الكثير منه، كان إلى حد بعيد مجتمعا رومانيا متحجرا، وأننا يجب أن نسير مع منطق الثورة في تغييره حتى يصير مجتمعا ديمقراطيا.
والإقطاعية في أوروبا هي النظام الروماني القديم كما هي تراث التقاليد الكنسية، ومجتمعنا هو مجتمع إقطاعي في نظام العائلة وعلاقة الآباء والأبناء والزوجات، كما هو مجتمع إقطاعي في الأخلاق العامة.
بل هو مجتمع إقطاعي في كثير من آثاره الأدبية. •••
ونحن في الوقت الحاضر نواجه أعظم أزماتنا الاجتماعية، وهي أزمة الانتقال من الحياة الإقطاعية إلى الحياة الديمقراطية، وما نعاني من فوضى في العائلة والأخلاق هو ثمرة هذا الانتقال.
وتعدد مشكلاتنا يوهم اختلافها في الأصل، أو أنها لا يتصل بعضها ببعض، ولكن المتأمل المفكر يستطيع أن يجد النقطة البؤرية لجميع هذه المشكلات، والنقطة البؤرية الوحيدة هنا هي أن نظامنا الإقطاعي القديم في نظرته للعائلة، ومركز المرأة، والأخلاق الأبوية، والنظرة الاجتماعية، كل هذا يعود إلى مشكلة واحدة، هي أن آراءنا الإقطاعية القديمة، التي ورثنا معظمها عن الدولة الرومانية الملعونة، لم تعد تصلح للحياة العصرية، وأن متاعبنا وأرزاءنا واصطداماتنا تنبع من هذا الكفاح الذي نكافحه نحو حياة ديمقراطية جديدة نتخلص بها من الحياة الإقطاعية القديمة.
النظرة الإقطاعية للعائلة هي النظرة الأبوية، أو ما يسميه الأوروبيون البطريركية؛ أي أن الأب هو كل شيء، هو المسيطر، هو المتسلط، هو صورة مزيفة لذلك الأب الروماني القديم الذي كان له الحق في الحكم على ابنه بالإعدام.
العائلة الأبوية التي تلغى فيها شخصية الزوجة، والتي يقبل فيها الأبناء أيدي الآباء، والتي يستطيع الأب فيها أن يقف كل أو بعض ما يملك على أحدهم دون الآخرين منها. هذه العائلة التي لا يزال يمثلها أكمل التمثيل ذلك الأب الريفي الذي يأكل وحده، والذي يوضع أمامه كل ما طهي من طعام لجميع أفراد العائلة، يأكل منه ويدع منه ما يشاء ... هذا الأب هو أب إقطاعي، نرى صورته مشعثة، أو ناقصة، أو مصغرة في كثير من الآباء الذين يعيشون حتى في المدن.
وهذا الأب هو الذي لا يطيق الحديث عن حقوق المرأة في الانتخاب أو الترشيح للنيابة، وهو لا يطيق أن يسمع عن تلك الفتاة التي تستحم في البحر، أو التي تحترف الهندسة وتسافر وحدها إلى أوروبا، أو التي تصر على أن تكون لها العصمة في الزواج، أو التي تقعد في الشرفة بوجهها المكشوف تتأمل المارة، بل هو أحيانا لا ينكر أن المرأة الأمية خير من المرأة المتعلمة!
وهذا الأب هو الذي يقيد أبناءه بقيود أخلاقية، يطاوعونه على الأخذ بها أمامه، فإذا خلوا إلى أنفسهم ضحكوا وسخروا وخالفوا ...
إننا نحزن ونسخر في وقت معا حين نقرأ عن أب في الصعيد قد قتل ابنته لأنها تحدثت إلى أحد الشبان، أو لأنها رفضت أن تتزوج من شاب قد عينه لها أبوها وأحبت شابا آخر! ولكن هذا الأب الذي كان يحيا في مديريات الوجه البحري، وفي مدننا، والذي يصر على استبقاء سلطته الرومانية القديمة، لا يختلف من ذلك الصعيدي إلا في الدرجة فقط، كلاهما يعتقد أنه سيد العائلة، وقبطانها، وسلطانها.
وما يحدث من مآس تظلم العقل إنما ينشأ من هذه الحال، أي استبقاء الأخلاق الريفية الزراعية لمجتمع جديد نشأ على الأفكار المدنية الصناعية الزراعية.
إن الأخلاق السائدة هي أخلاق السادة، كما سبق أن قال نيتشه.
والأخلاق السائدة في مصر، أو معظم مصر، هي أخلاق العمدة، هي أخلاق أنأى ما تكون عن الديمقراطية.
لقد أدخلنا في مصر الرأسمالية التجارية والصناعية والمدنية، ولكن أخلاقنا لا تزال إقطاعية، أو هي كذلك في الأغلب.
ولست أستهين بما سوف نعاني في الانتقال، فإن كثيرا مما يرتكبه شبابنا من الجرائم يعود إلى أن الأخلاق القديمة، أو بأحرى الفضائل الإقطاعية الريفية القديمة، قد تزعزعت في نفوسهم وفقدت مكانتها، أو كادت، في حين أن الأخلاق الجديدة - أخلاق المدينة والمصنع والمتجر - لم تثبت ولم تمد جذورها ولم ترسخ، ولذلك هم في فوضى أخلاقية بشعة تهوي بهم أحيانا إلى مهاوي الجريمة.
ويجب أن نعترف بأنه كان في الأخلاق الإقطاعية مقدار كبير من الفضائل، وبأن تركها دون الاعتصام بميزان أخلاقي جديد للفضائل هو فوضى مخيفة.
ولكن أملنا أن يأخذ الجديد مكان القديم بأسرع ما يستطاع.
والآن أحب أن أجلو التباسا بشأن الأدب؛ ذلك لأن هذا الالتباس يتصل بموضوعنا هذا، وهو أننا قد ورثنا في الأدب تراثا إقطاعيا لا يختلف عن تراثنا الإقطاعي في مجتمعنا.
ولماذا يختلف؟
أليس الأدب هو صورة المجتمع، وهو الذي تتبلور فيه نزعات المجتمع؟ اعتبر هاتين الظاهرتين المتناقضتين: (1)
الظاهرة الأولى أنه قد طبع ونشر لأبي نواس، وعنه، نحو ستة أو سبعة كتب أستطيع أن أسميها، كلها مؤلفات إقطاعية غايتها اللذة العابرة بالنكتة الإيقاعية والمعنى الانبساطي والخيال المخمور والشهوة الشاذة؛ فقد كان أبو نواس يعيش في مجتمع إقطاعي يأكل من موائده ويأخذ بميزانه الأخلاقي وينشد قيمه، ومؤلفونا، الذين أحيوا ذكراه بمؤلفاتهم العصرية، لا يختلفون عنه في الروح الإقطاعي والوسط الإقطاعي اللذين انبعثوا بهما إلى هذا التأليف. يؤلفون بلغة أبي نواس ويهدفون إلى استقطار معاني الأدب بإملائه، ليست لهم رسالة، كما لم يكن له رسالة اجتماعية أو إنسانية، وهم يفهمون الأدب على أنه لذة ومتعة لا أكثر. (2)
وثم ظاهرة ثانية نرى مثالا لها في هذا الشاب الجديد الدكتور يوسف إدريس الذي يقول في مجموعة جديدة من قصصه إنه يرتفع - أجل يرتفع - في كتابة القصة من لغة المعاجم المجمدة إلى لغة العامة، لغة الشعب المتدفقة.
نقيضان لا شك في ذلك.
واعتقادي أن هذا التناقض برهان على تناقض اجتماعي عميق بين مجتمعنا الإقطاعي القديم ومجتمعنا الرأسمالي الجديد، وهو - أي هذا التناقض - يزداد وضوحا في تناسق كل من الأسلوبين والاتجاهين.
فإن بعض أدبائنا، الذين يحبون أبا نواس ويؤلفون عنه، يسيرون في نزعتهم الإقطاعية متناسقين، فيكرهون مثلا أن تنال المرأة حقوقها الإنسانية والاجتماعية، ويكرهون لغة الشعب، ويكرهون المبادئ العصرية الاجتماعية، ويكرهون هذه البدع الجديدة عند القائلين بأنه يجب أن يكون للأدب رسالة اجتماعية أو أن يكون في خدمة الشعب، أو أن يكون كفاحيا ينشد الحرية أو المساواة ... إلخ.
لا، إنهم لا يريدون أن يكون الأدب في خدمة الشعب، وإنما يجب أن يكون في خدمة الخاصة.
إننا نعيش في عصر القلق والتردد بين حياتين وأسلوبين؛ ذلك لأننا ننتقل من القيم الإقطاعية الريفية في نظام العائلة، والأخلاق العامة، وفلسفة الحياة، وأسلوب العيش، إلى القيم المدنية الصناعية في كل هذه الأشياء ، ومع أننا نهفو إلى ماضينا الإقطاعي، ونحب أن نستبقي عاداتنا العاطفية والذهنية القديمة، فإننا نرنو إلى مستقبلنا الصناعي وننشد أهدافه وننزل مضطرين على قوانين العلم وحقائقه، والعلم هو لغة الصناعة؛ وذلك لأننا مقتنعون بأننا لن نحقق الرخاء لبلادنا، والاستقلال والقوة لوطننا، والفهم للحياة، إلا بالعلم.
وآلامنا الحاضرة وتناقضاتنا الحاضرة، هي آلام المخاض للمجتمع الجديد الذي نرجو أن يولد قريبا، وسيولد هذا المجتمع بالانتقال من الزراعة إلى الصناعة.
والعلم بطبيعته ارتقائي، شعاره الاكتشاف والاختراع إلى التغير، والتغير لا يعني شيئا آخر سوى الارتقاء، وقد كانت أوروبا جامدة راكدة إلى القرن الخامس عشر، حين نهضت وأخذت بأصول العلم، فتزعزعت أخلاقها للانتقال من ركود الزراعة إلى حركة الصناعة، وبقي هذا التزعزع إلى أن استقرت على الرضا بالتطور، أي الرضا بالتغير، ولكنها لم تستقر كل الاستقرار؛ إذ هي في تطور.
وحين أقارن بين البيئة الزراعية في مصر وأخلاقها الإقطاعية الموروثة في نظام العائلة والمجتمع، وحين لا يكون هناك تصادم بين هذه البيئة وبين ما جد علينا من ظروف الصناعة والعلم والفكر العصري ونظام الجمهورية ونظام النقابة ... إلخ؛ أقول إني أجد بيئتنا الزراعية هذه أكثر استقرارا في أخلاقها من البيئات الأوروبية، ولكنه استقرار الركود والأسن، والبعد عن التطور والارتقاء، وخير لنا أن نقلق، ونناقش أحوالنا، ونسأل عن مستقبلنا، ونتعب ونحزن، من أن نستسلم لهذا الركود المريض.
إننا نجد قلقا في العائلة المصرية بشأن الحياة الزوجية والطلاق والزواج وطاعة الأبناء.
ونجد قلقا في الشبان والفتيان الذين ننكر عليهم حقهم في الحياة مع أننا نحمده في الكتب، وأحيانا نجد إنكارا للأخلاق القديمة، وترددا بشأن الأخلاق الجديدة، يؤديان إلى الجريمة في كثير من الشبان.
بل إن كثيرا مما نصفه في المناقشات الأدبية بأنه «معركة» إنما يرجع إلى هذا التناقض الذي سرى إلى هذه المناقشات، للانتقال من القيم الإقطاعية في الأدب إلى القيم العصرية التي اصطبغت بالكثير من ألوان الوسط الصناعي العلمي الارتقائي، وقد لا يبرر وسطنا المصري الجديد كل هذا التصادم، ولكن وسطنا هذا قد أصبح في أيامنا ، من حيث الفكر والرأي والفلسفة، أوروبيا بقوة ما نقرأ ونرى ونلابس من هذه الحضارة العلمية الغالية الغامرة، فنحن نأخذ بقيمها راضين أو كارهين، وننقل هذه القيم إلى الأدب.
والواقع الذي لا ينكر أننا نجد في الأدب العربي الحاضر طائفتين، إحداهما تلك التي تلتزم القيم القديمة، ولا تكاد تختلف من أدباء العرب القدامى، من أن الأدب لذة ومتعة وترف ذهني، وأنه للخاصة الممتازة، وأنه يجب أن يمتاز بلغة الخاصة وإحساسات أو تأنقات الخاصة، وليس شك أن هذه الطائفة تمثل العقلية الإقطاعية الريفية، أو تمثل على الأقل رواسبها المنحدرة إلينا من القرون الماضية، والذي ألاحظه أن هذه الطائفة صادقة الإيمان بمذهبها، كما نجد في تناسق عقيدتها الأدبية هذه مع عقائدها الأخرى الاجتماعية؛ لأن جميع الأدباء في هذه الطائفة يكرهون اللغة الشعبية في الأدب، كما يكرهون مساواة المرأة بالرجل في الحقوق الدستورية والمدنية، كما يكرهون ما يمكن أن نسميه «الأسلوب الديمقراطي»، وهم يهفون على الدوام إلى الماضي يكتبون عنه ويقرءون عنه.
ثم هناك الطائفة الثانية: طائفة القيم العصرية التي تنبع من الوسط الصناعي المدني والقيم العلمية، وهي تنضم إلى سواد الشعب في الأدب، وتقول إنه - أي الأدب - للشعب، فيجب أن يكتب بلغته، وأن يكون كفاحيا في مذهبه؛ لأن الشعب يكافح من أجل حقه في الحياة الكريمة، وأن مشكلة المرأة هي رمز لجميع المشكلات الاجتماعية، ولذلك يجب أن تكون مساواتها بالرجل بؤرة الكفاح، وهي تنتهي من هذا الموقف إلى أن الأدب يجب أن يكون إنسانيا في نزعته، اشتراكيا في برنامجه، وأن ديمقراطية الدولة يجب أن تنطوي على ديمقراطية المجتمع والمصنع والمزرعة والبيت والأدب.
وبالطبع ليس هناك فاصل يفصل فصلا تاما بين الطائفتين، فإنهما تتداخلان هنا وهناك، كما أن آراءنا في فترة انتقالنا الحاضرة تتداخل، فإن الأب المسيطر القديم يسلم بشيء من الحقوق العصرية للأبناء، كما أن الزوج الذي لا يزال يقول بالحجاب الاجتماعي للمرأة قد سلم بإلغاء الحجاب المادي.
نحن في فترة انتقال، في تطور، في قلق وتردد، يشمل أو يصيب المجتمع والعائلة والأخلاق والأدب، وهذا حسن؛ لأنه برهان الحياة.
النزعة الانفرادية في الأدب العربي
في ديسمبر من 1954 نقلت مجلة الثورة حديثا للأستاذ أحمد لطفي السيد عن الأدب العربي جاء فيه قوله: «أرى أن يكون نشر كتب الأدب القديمة في نطاق محدود، وبعد فحص دقيق؛ ذلك أن كثيرا منها لا يخلو من إسفاف يترك أثرا في أخلاق شبابنا ... ودواوين الشعراء مليئة بالمدح الكاذب والتضليل المكشوف، والأدب غير الرفيع، ولا أحب لشبابنا أن يقتفوا أثر هؤلاء الشعراء ذوي الأسماء الطنانة، على حين أن الواحد منهم لا يساوي عشرة قروش!
إن أدب العصر العباسي مثلا تشيع فيه كلمة «أنا» ويشيع فيه المدح الكاذب، على حين أن الروح السائدة الآن، أو التي يجب أن تسود الشباب، هي «الأمة» بدلا من «أنا» ...».
وضرب الأستاذ أحمد لطفي السيد مثلا على سوء الرأي المتفشي في بعض هذه الكتب بما ذكره «القلقشندي» في «صبح الأعشى» من الشروط التي يجب أن تتوافر في «الوزير»؛ إذ قال، فيما قال: «يجب أن يكون الوزير دقيق الحس بحيث يسبق الأمير إلى غايته.» «أتريدون دليلا أبلغ من هذا على فساد هذه الآراء ودعوتها السافرة إلى النفاق والوصولية؟!
وشعر أبي نواس، وابن أبي ربيعة وغيرهما، يجب أن نجنب الشباب الاطلاع عليه حتى لا يحاولوا ترسم خطاهم في المجون.»
وقريب من هذا الرأي ما قاله أيضا «ابن رشد» عن الشعر العربي. •••
ونزعة «أنا» الغالبة في الشعر العربي هي نزعة انفرادية، وهي تبرز - كما ننتظر - في البارزين في هذا الأدب، مثل المتنبي وأبي نواس.
ويجب أن نقف هنا ونتلبث في تأمل العاهة الجنسية التي اشتهرت عن أبي نواس، فإنها من صميم الانفرادية.
إذ ما هو الرجل الانفرادي؟
هو بلا شك ذلك الذي يجعل شعاره في الدنيا: «أنا وحدي، لا أبالي المجتمع، ولا أفكر إلا في لذاتي وشهواتي واستمتاعاتي».
وهو حين ينتهي إلى ذلك يجد أن الاتجاه الجنسي الشاذ لا يخرج عن منطق حياته ونزعته واتجاهه، وليس شيء في الدنيا هو أمعن في الانفرادية مثل الاشتهاء الجنسي الشاذ؛ ذلك أن هذا الاتصال الشاذ هو عدوان.
وهو قريب في معناه، ويكاد يكون قريبا في إحساسه، من «السادية» التي تنتسب إلى المركيز دوساد، وأخلاقنا العامة تتبلور في اتجاهاتنا وأساليبنا الجنسية.
هذا المركيز دوساد هو رجل فرنسي عاش في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وكان يعذب المرأة التي يتصل بها ويجد في هذا التعذيب لذته، وهذا التعذيب للمرأة هو في صميمه إسراف في النزعة الانفرادية؛ إذ معناه: أنا وحدي، لا شريك لي في اللذة الجنسية.
وكلاهما - أبو نواس والمركيز دوساد - انفرادي النزعة إلى حد العدوان، أحدهما يتجه عدوانه نحو الصبيان، والآخر نحو النساء، وكلاهما بالطبع مسرف، بعيد عن الاعتدال إلى حد الإجرام في نزعته الانفرادية.
ولكن الانفرادية ليست على الدوام مسرفة، فإننا نجدها في المتنبي الذي لا يتعب من كلمات: أني وأنا ... إلخ، ولكن دون أن يعرف عنه أي شذوذ جنسي مثل دوساد أو أبي نواس.
والذي أحب أن أصل إليه هو أن هناك ذهنا اجتماعيا وذهنا انفراديا، وأنه تغلب على المجتمع العربي في السياسة والأدب تلك النزعة الانفرادية دون النزعة الاجتماعية.
وأحب أن أنبه هنا أن كل إنسان يحتاج إلى قسط من النزعة الانفرادية؛ إذ هي الحافز الشخصي الذي يحمل صاحبه على الارتقاء والتوسع والتعمق في الحياة، وهذه النزعة ضرورية أيضا؛ إذ هي التي ترتفع بالفرد إلى الوجدان الشعبي أو الإنساني.
النزعة الانفرادية هي نظام المباراة في الاقتصاد، هذا النظام الذي انتهى في إسرافه بالاستعمار وعذاب الأمم الخاضعة له.
والنزعة الاجتماعية هي نظام التضامن الذي ينتهي بالاشتراكية، وقد رأينا من آثاره قوانين الكفالة الاجتماعية في إنجلترا أو غيرها؛ حيث يعوض المعطل عن عطله ويعاون المريض بالعلاج المجاني ويغذى الصغار في المدرسة وتعطى الحامل قبل ولادتها وبعد ولادتها بشهر أجرتها كاملة ... إلخ.
وداعية النزعة الانفرادية في إنجلترا هو «هربرت سبنسر» الذي كان يقول إن الدولة يجب ألا تكلف تعليم الشعب، وقصارى واجباتها تعميم الأمن، أما الشعب فعليه أن يعلم نفسه.
وداعية النزعة الاجتماعية هو «روبرت أوين» مؤسس جمعيات التعاون التي عمت أقطار العالم المتمدن، وهو واضع كلمة الاشتراكية الأوروبية.
والنزعتان واضحتان في السياسة والأدب، فإن تشرشل - زعيم اليمينيين من المحافظين - يمثل النزعة الانفرادية في السياسة الإنجليزية، في حين أن بيفان - زعيم اليساريين في حزب العمال - يمثل، إلى حد ما، النزعة الاجتماعية.
وهاتان النزعتان تتضحان في الأدب العربي العصري، فإن مما لا شك فيه أن الانفراديين يحبون أبا نواس والمتنبي ويكرهون أشد ما يكرهون أي اتجاه اشتراكي للارتقاء بالعمال، ولكن هناك أيضا أولئك الذين ينزعون النزعة الاجتماعية، وهم لا يطيقون أبا نواس أو المركيز دوساد أو النزعة الانفرادية في المتنبي، وهم في الغالب اشتراكيون.
ونحن ندعو في أيامنا إلى أن يكون الأدب للحياة، أي للشعب، أي للمجتمع، أي للإنسانية، وأن تكون للأديب رسالة يؤديها كما يؤدي النبي رسالته، وكل هذه المعاني بعيدة عن شعراء العرب مع استثناء المعري؛ ولذلك لا يمكن الأديب المصري العصري أن يستلهم الأدب العربي القديم.
أبو نواس والصحة الاجتماعية
نحن نظلم بلا شك أبا نواس حين نزن أدبه بالموازين العصرية، ولكن ما دامت أشعاره تطبع وتقرأ في عصرنا، وقد يقرؤها شبابنا وفتياتنا، فإن من حقنا أن نزنه بالموازين العصرية.
ومن حقنا أن نسأل أول ما نسأل: هل يعد أبو نواس أديبا مسئولا؟
واعتقادي، على الرغم من الكثيرين الذين يخالفونني، أن الأديب يجب أن يكون مسئولا، وأن يحس هذه المسئولية في كل ما يكتب، شأنه في ذلك شأن أي إنسان آخر.
يحس أنه مسئول عن معاني الشرف والخير والحب أمام المجتمع وأمام الإنسانية.
ولكن الذي أجده أني أستطيع أن أقرأ أبا نواس وأنا منفرد في مكتبي، ولا أجيز لنفسي أن أتحدث عن أشعاره مع شاب أو فتاة، بل لا أحب أن يقرأ شاب أو فتاة هذه الأشعار إلا إذا كان أحدهما يدرسها باعتبارها تاريخا وليست فنا، أي أنه يريد استخراج العبرة السيكلوجية أو الاجتماعية منها.
ولست أعني بقولي هذا أن يمنع طبع هذه الأشعار أو هذه النوادر التي تقص علينا حياته، وإن كنت ألاحظ أن الرقيب الحكومي قد حذف عددا كبيرا من الأبيات اشمأز من معانيها وأحس أنه يجب ألا يقرأها شاب أو فتاة، وهو في ذلك معذور؛ لأنه مسئول؛ لأننا لا نحب أن يترنم شبابنا بأبيات لها حلاوة الإيقاع بشأن معان جنسية فاسقة.
ذلك لأن الكلمة فكرة، والفكرة عاطفة، والعاطفة عمل.
ولم يكن أبو نواس يحس أية مسئولية اجتماعية أو إنسانية، ولذلك استهتر. •••
أظنه برنارد شو الذي قال إن الفنون، مثل الأخلاق، جزء من الصحة الاجتماعية.
وهذا كلام صادق؛ لأن الفنان المسئول يلتزم الأخلاق السامية، بل هو يرسم أخلاقا تسمو على ما يجد في الأمة ويدعو بها إلى الخير والشرف.
فهل يمكن أن نقول إن أشعار أبي نواس تخدم الصحة الاجتماعية؟ لا، إنما هي تخدم المرض الاجتماعي، وتحبب الفسق والفحش إلى الناس.
وهي - لأنها أشعار - توحي الفسق والفحش لما فيها من إيحاء الإيقاع؛ إذ هي أغان يترنم بها قارئها، وينبعث بالإحساسات الفاسدة التي تعبر عنها نحو الإجرام.
وعبقرية أبي نواس لا ينكرها أديب ناشئ فضلا عن أديب ناضج، ولكنها عبقرية الصنعة فقط، أما عبقرية الفن الذي يهدف إلى الحياة، ويرى رؤيا الحياة، ويرسم الأخلاق السامية، ويحس المسئولية الإنسانية ... فلا شيء منها عند أبي نواس، وإني حين أقرؤه أجد في معانيه بريقا هو بريق العفن ينمو على النتن، أو أزهار سامة يجب أن نقي الشباب منها. وأدبه هو أدب العاهة الجنسية، أدب الفحش الذي يشمئز منه الرجل الصالح النظيف على الرغم مما فيه من التماعات وومضات.
ولذلك أقول إن دلالة أبي نواس عندي ليست فنية أو أدبية، وإنما هي اجتماعية سيكلوجية. •••
الدلالة الاجتماعية أن أبا نواس كان يعيش في مجتمع انفصالي قد فصل بين الجنسين ففسدت غريزته الجنسية، وبدلا من أن يلتفت الشاب إلى الجنس الآخر ويتجه إليه، صار يلتفت إلى جنسه ويتجه إليه.
قد يقال إن هذا الفساد يوجد أيضا عند الأمم التي يختلط فيها الجنسان، وهذا صحيح، ولكن هناك فرقا عظيما بين أمة يتخصص فيها أذكى شعرائها لتأليف نحو ألفي صفحة من الأشعار في الفحش والشذوذ ، وبين أمة يؤلف فيها شاعر من شعرائها قصة أو بيتا من الشعر في هذه المعاني ينشر في السر.
والمرض النفسي هو، في النهاية، رجع أو استجابة لوسط اجتماعي معين، قد أوجد حرجا أو ضغطا أو توترا لا يطاق، فصار المرض بمثابة العلاج لهذه الأحوال، وهو علاج سيئ بالطبع.
ولا يمكن أن يكون الإنسان سويا سليما إلا إذا نشأ وتربى وعاش طيلة عمره في مجتمع مختلط، من المهد إلى اللحد، بحيث لا تغيب صورة المرأة عن ذهن الرجل ولا تغيب صورة الرجل عن ذهن المرأة.
أما إذا انفصل الاثنان، فإن الفساد ينشأ ويفكر كل منهما في جنسه دون الجنس الآخر، وهذا ما نسميه «شذوذا»، وهذه كلمة صحفية، غير علمية، نتفادى بها من كلمات أخرى فاحشة نشمئز من ذكرها.
وهذا الوسط الذي عاش فيه أبو نواس، هذا المجتمع الذي انفصل فيه الجنسان، ما زلنا نجد مثله في كثير من الأمم، بل أستطيع أن أقول إن هناك من القوانين التي سنت عندنا ما يزيد هذا الانفصال في المجتمع، ويزيد، لطبع هذا الشذوذ النواسي.
ولا يمكن أن ننتظر من شاب يبقى إلى سن الثلاثين وهو لا يشترك مع امرأة في زمالة أو عمل أو رفقة، أن يكون سليما؛ إذ لا بد أن يقع في الشذوذ، وهو: (1)
شذوذ العادة السرية التي تفتت كيانه، وقد تسلمه إلى النورستينيا. (2)
شذوذ الالتفات لجنسه الذي ربما ينتهي به إلى السجن. (3)
شذوذ الكظم الذي قد ينتهي به إلى المارستان. •••
ما كنت لألتفت إلى أبي نواس لولا أني أريد استخراج العبرة من مجتمعنا، فإن هذا الرجل أرصد حياته، وذكاء عقله، ورؤيا نفسه لتأليف القصائد عن عاهة جنسية نشمئز منها، وهذه ظاهرة عجيبة، ليس في الأدب فقط، بل في الطبيعة البشرية.
والعبرة هي أن مجتمعنا لا يختلف عن المجتمع الذي عاش فيه أبو نواس إلا في الدرجة، وأن ما نهدف إليه من الصحة الاجتماعية لأبناء الشعب لا يمكن أن يتحقق ما دمنا أو - بالأحرى - ما دام بعضنا يقول بالانفصال.
وصحيح أن العلاج الأمثل، العلاج الذي يقينا تلك الانحرافات التي وقع فيها أبو نواس، هو الزواج المبكر، ولكن ظروفنا الاقتصادية في كثير من الحالات لا تساعدنا على ذلك.
وعجيب حقا أننا كنا قبل نحو قرن نتزوج مبكرين حوالي العشرين أو قبلها، وكان الأوروبيون والأمريكيون يتأخرون في الزواج إلى ما بعد الثلاثين، أما الآن فقد انعكست الحال: نحن نتأخر وهم يبكرون.
وعلة ذلك أن الفتيات الأوروبيات يعملن ويكسبن مثل الشبان.
يعملون جميعهم حتى وهم طلبة وطالبات.
وإذن يمكنهم أن يتزوجوا في العشرين أو قبل ذلك؛ لأن الزوج لا يرهق بنفقات زوجة عاطلة؛ إذ هي تكسب مثله.
ونستطيع أن نصل نحن إلى مثل هذه الحال، ولكنها لا تزال بعيدة؛ لأن الماضي ما زال ينشب أظفاره في حاضرنا! •••
إن المجتمعات الأوروبية ليست سيئة كما يتوهم أولئك الذين لم يعيشوا فيها ويختلطوا بأفرادها.
وصحيح أن لهذه المجتمعات عادات تخالف مألوفنا، ولكن هل مألوفنا حسن على الدوام؟
إن اللحن الجديد يبدو نشازا حتى نتعوده فنسيغه.
وكذلك الشأن في العادات الجديدة.
لقد عرفنا الرقص المصري واشمأززنا منه، وقلنا إنه فحش يجب أن نترفع عنه، ولكن الرقص الأوروبي ليس كذلك؛ إذ هو فن جميل.
ولو أن أبا نواس كان يعيش في مجتمع مختلط، يرى وجه المرأة ولا يفارقه شخصها في البيت والسوق والمتجر والمصنع والمجلس، لما زاغت بصيرته الجنسية إلى الانحراف الذي وقع فيه؛ لأنه عندما كان يصبو إلى حب، كان لا يجد في خياله غير المرأة، ولكن لأنه حرم المرأة، صار خياله صبيانيا.
إن شبابنا يعانون الكثير، بل الكثير جدا، من التوترات السياسية والاجتماعية والثقافية والحرفية، فلا أقل من أن نخفف عنهم هذه التوترات الجنسية إما بالتيسير لهم في الزواج المبكر، وإما بأي طريق آخر.
وكل شيء يهون في جنب هذه العاهة النفسية التي كان يعانيها أبو نواس واستقطر منها أشعاره، وهي التي نرجو ألا نراها في شبابنا.
إن النقد السديد للأدب هو النقد الاجتماعي؛ أي يجب أن نسأل عن قيمة الأديب: ما هي خدمته للشرف أو للإنسانية؟
وأبو نواس يخلو من الشرف والإنسانية.
غاية الأدب ... الإنسانية وليس الجمال
الرأي القديم، بل العقيدة القديمة، أن هدف الأدب هو الجمال: جمال البيت من الشعر، وجمال القصة، وجمال الجملة، بل كان هذا أيضا هدف الفنون الأخرى، فكان الرسام يعنى بأن يتخيل لنا صورة جميلة للطبيعة أو للمرأة، حتى إنه كان يسرف في التوسل إلى هذا الهدف بأن يزور فيرسم لنا صورة جميلة لملك دميم، كما كان الشاعر يصف الأمير أو الملك بالشجاعة أو الحلم أو العفاف، وهو يدري من أخلاقه نقيض ذلك؛ وذلك لأنه كان يعتقد أنه يجب أن يخرج شيئا جميلا ولو كان مزورا مموها.
كان الأدب يهدف إلى الجمال، وكان الأديب يخلص، أو يزور في هذا الهدف، وكثيرا ما نسمع أن القيم الأدبية خالدة لا تتغير، وأن الجمال من هذه القيم الخالدة، وهذا غرور عند الأدباء لا يقوله السياسي أو الاجتماعي عن نفسه، ولو قاله لما صدقه أحد؛ إذ أين القيم الخالدة في السياسي أو الاجتماعي؟
وكيف يكون خلود في إحدى القيم مع تطور؟ أليس التطور، أي التغير إلى أعلى، هو القانون العام للموجودات أحياء أم غير أحياء؟
لقد دارت هذه الأفكار برأسي وأنا أقرأ كلمة عن الأديب المجري «جورج لوكاتش» ينكر فيها أن الجمال غاية الأدب، وقد جرأني هذا الكاتب على أن أدلي برأي في هذا الموضوع. •••
إن قيم الأدب، مثل سائر القيم، تتغير كلما تغيرت الظروف، وإذا كان الجمال يتسلط على الأديب، ويشغل ذهنه، حتى ليتوهم أنه خالد، فإن هناك ما هو «أخلد» منه، وهو الإنسانية.
وصحيح أنه ليس هناك أديب يستطيع أن يقول إنه لا يحب الجمال أو لا ينشده في جميع ما صغر وما كبر من نشاطه، ولكن الأديب الذي يحس وجدان عصره، ويدرس مشكلاته الإنسانية والاجتماعية، لا يتمالك الإحساس بأن الأدب تعبير عن الضمير الإنساني، وإذن موضوعه، أو موضوعاته، هي مشكلات هذا الضمير: كيف يميز بين الخير والشر، والعدل والظلم، والإنسانية والبهيمية؟ وكيف يكافح الشر والظلم والبهيمية؟
وهو يسترشد في كل ذلك بما تكون له من فلسفة بشأن الإنسان ومجتمعه، ولا يمكن أن يكون هناك أديب ناضج بلا فلسفة.
والأديب الحق في أيامنا هو ذلك الذي ينغمس في السياسة والاجتماع والاقتصاد والعلم، ونظم الحكم ونظم العدل، ووسائل الثراء الذي يحقق للشعب رفاهية، وليس ترفا، وأسباب الفقر التي تحدث الجريمة والفضيحة والمذلة، بل كذلك يدرس شئون التعليم وحرية الدراسة، ويضع الحقائق فوق العقائد.
إن جميع هذه الشئون إنسانية، ولا يمكن أديبا أن يؤثر المجلة المرصعة أو البيت الرقيق على شأن إنساني يتصل بالحقوق الأصيلة عن الحرية أو المساواة أو العدل، ولو فعل لوجب أن نعرض عنه، أو نأخذ منه ونحن على يقين، بلا خداع، بأننا نأكل الحلوى الوقتية المرفهة وليس الطعام الذي يغذو الحياة وينميها ويكبرها.
وفي ظروف الاستقرار أو الركود أو الطمأنينة، يفشو أدب الترف واللذة، وكثيرا - بل ربما على الدوام - يكون مؤلفو هذا الأدب أنفسهم من المترفين الذين استقروا وارتضوا حالهم الاجتماعية السائدة، فكرهوا التغيير، وقنعوا بلذة مستقرهم ونسوا الإنسانية.
ولا عبرة بأن يقال إنهم عاشوا في عصر مضطرب وكان يجب أن ينعكس اضطراب عصرهم في أدبهم؛ ذلك أنهم في الأغلب نشئوا على نية الكفاح، فكافحوا فترة من شبابهم، ثم سئموا، أو تعبوا، أو وجدوا أن المكافأة عن الكفاح لا تغري، فتركوا معسكر الشعب إلى معسكر السادة، وأصبحوا يقولون إن غاية الأدب هي الجمال ... كلام المترفين ... كما كان مترفو عصر النهضة في أوروبا يطلبون من الرسام صورة امرأة جميلة لها صدر ناهد وعينان ناطقتان.
ومع هذا يجب أن نسلم بأن هناك أدباء نشئوا على نية الكفاح وثبتوا عليها، ثم لما سعدوا لم يتغيروا، ولم ينقلهم هذا الثراء - نفسيا وفنيا - إلى «الترف الذهني»، وهناك من لم يسعدوا بالثراء أو الهناء، فثبتوا أيضا راضين بالاضطهاد والسجن إيثارا لصفوف الشعب الجائع على صفوف السادة المترفين.
وليس العالم في فترة تاريخه الحاضرة في استقرار، فإنا نعيش في وسط يحوي من الحضارات والثقافات والأهداف الاجتماعية، بل يحوي من ألوان الاستعمار والاستغلال والرجعية في الشرق والغرب، ما يحمل كل إنسان إنساني على أن يتعرف مكانه من هذا الاضطراب أو هذه الفوضى ويعينه، وعلى أن «يجتهد» حتى يميز بين الحسن والسيئ، ثم عليه بعد ذلك أن يعرف جبهته وهدفه ومعسكره، فيدافع عن موقفه، ويجهد للوصول إلى هدفه.
على كل إنسان أن يفعل ذلك إذا استطاع، والأديب أولى الناس بأن يفعل ذلك؛ إذ هو يرى أكثر ويفهم أكثر.
نحن في فترة من التاريخ يطالبنا الأدب فيها بأن نكون كفاحيين، وألا نجعل الجمال يستغرق بعض اهتمامنا فضلا عن كل اهتمامنا.
لقد مرت بحياتي القصيرة أحداث لا أنساها؛ منها حربان قتل فيهما نحو ثلاثين مليون شاب لكل منهم أم وأب، وربما زوجة أو حبيبة كانت تنتظر الزواج منه، ودمرت بيوت، وجرح ملايين من الشباب والنساء والرجال، ومنها مجاعة قتلت في الهند نحو ثلاثة ملايين هندي، ومنها كوليرا دخلت بلادنا فقتلت آلاف الحفاة الجائعين، ومنها استعمار دموي في أفريقيا الشمالية وأفريقيا الشرقية، ومنها كنوز من البترول أخرجتها الأرض في هذا الشرق العربي، ولكن الإنسان العربي، في هذا الشرق العربي، لا يزال جائعا حافيا، ومنها بهيمية ملوكية تسلطت على أرضنا، وتمرغت، بكل ما فيها من فساد، على مقدساتنا، ومنها برلمان جمع عند الظهر ثم طرد أعضاؤه في مساء اليوم نفسه، كأنهم مجموعة من الكلاب، ومنها، ومنها.
فهل يجوز لأديب أن يقول إزاء هذه الأحوال إن هدفه من أدبه هو الجمال، وإنه لا شأن له بهذه الأحداث؟
هل يجوز له أن يقول: انظروا لقد صنعت ورصعت هذه الجملة، ونظمت هذا البيت البديع. ثم يترك هذه الكوارث كأنها جرت في عصر غير عصره؟! هل له الحق في أن يعيش في البرج العاجي، بينما الأمة تعيش في البدرومات؟!
بالطبع لا، لا يمكن أديبا أن يقف على الحياد هنا؛ إذ عليه أن يكون إنسانيا، والإنسانية تقتضيه الكفاح.
ولكن ماذا نقول في أدباء لم يقنعوا حتى بالحياد، بل انضموا إلى معسكر السادة، بل الطغاة من السادة، وارتضوا البهيمية الملوكية يمدحونها ويرفعونها إلى السموات؟
هل ينساهم التاريخ، أم يبدي رأيه فيهم ؟ هل يقول إن غرامهم بالجمال كان أعظم وأطغى من غرامهم بالإنسانية؟
في ظروف مصر الحاضرة، ومنذ أكثر من ستين أو سبعين سنة، لم يكن مفر للأديب المصري أو العربي من أن يكون سياسيا؛ لأن السياسة هي مقدار الخبز الذي يقرر للفقير، وهي الدواء للمريض، وهي الحرية لجميع أبناء الشعب، وهي حرية المرأة على الخصوص، وهي حق التعلم، وفوق كل هذا ينطوي درس السياسة والاشتباك في مركباتها على حق الاستقلال.
إن تاريخ أدبائنا في مصر هو مأساة إنسانية قبل أن يكون مأساة أدبية، وحسبي أن أذكر خمسة أو ستة من هؤلاء الأدباء.
ولست أذكر شوقي الذي طعن في وطنية عرابي ونظم الأشعار في سبه، ثم قصر قلمه - أو كاد - على مدح الخديوي عباس، ولكني أذكر أولئك الذين جاءوا بعده وأوهموا الجمهور أنهم يحسنون الأدب.
وأولهم محمد حسين هيكل الذي أيد عدلي في تحطيمه لوحدة الأمة بقيادة سعد الذي كان شعار هذه الوحدة، ثم بعد ذلك أيد زيور الذي جمع البرلمان في الظهر ثم حله في مساء اليوم نفسه وطرد الأعضاء، ثم أيد محمد محمود في تعطيل البرلمان ثلاث سنوات تقبل التجديد.
لقد بدأ هيكل حياته الأدبية بالتأليف عن داعية الرومانتية في فرنسا؛ أي داعية الشعبية «روسو»، ثم انتهى بمكافحة الديمقراطية في مصر ... هذا أديب.
وأديب آخر هو إبراهيم عبد القادر المازني؛ فقد اشترك مع الدكتور طه حسين في تحرير جريدة يومية تخدم زيور في مكافحة الشعب، زيور هذا الذي جمع البرلمان في الظهر ثم حله في المساء، بلا أدنى إحساس بقيمة الشعب المصري الذي كان يمثله هؤلاء الأعضاء.
لقد كان الشعب المصر يكافح في جبهتين: الأولى: هي هؤلاء الملوك الأتراك من سلالة محمد علي، والثانية: هي جبهة الاستعمار البريطاني. وكثيرا ما كانت هاتان الجبهتان تتحدان ضد الشعب، وفي أيام زيور كان الاتحاد بينهما وثيقا؛ لأن زيور جاء عقب مقتل السردار البريطاني في السودان كي يؤدب الأمة المصرية التي تلجأ إلى العنف في مقاومة الاستعمار، ووجد فؤاد - الملك وقتئذ - أنه يمكنه أن يستغل هذه الفرصة؛ أي فرصة الغضب الاستعماري البريطاني، بأن يحطم الحياة النيابية، وحطمها.
وكان طه حسين والمازني القلمين الفصيحين في الدعوة إلى هذا التحطيم، فهل ينسى التاريخ هذا؟
هل ينسى التاريخ أن أديبين مصريين ارتضيا جمع البرلمان المصري في الصباح ثم طرد أعضائه في المساء؟!
ثم بعد ذلك نجد علي الجارم، وهو عجيبة في مأساة الأدب المصري في القرن العشرين، فإنه ألف المجلدات في مدح تمثال النجاسة فاروق، وقد طبعتها له مطبعة المعارف أجمل الطبع وأتقنه، حتى يجد الرواج الذي لا يستحقه، ولا يتسع المجال هنا لنشر إحدى قصائده، ولكن أكتفي بذكر قصة قذرة تدل على العقل القذر والقلب القذر ونصيب علي الجارم منهما.
ذلك أن إحدى الصحف كانت قد ذكرت، كذبا ونفاقا، أن جملا قد أرسل للمجزر للذبح، فانتفض من سكين الجزار، وفر من المجزر، ثم ما زال يعدو في الشوارع حتى وصل إلى عابدين - قصر فاروق - وهناك كانت استغاثته حتى لا يذبح! وأغاثه فاروق فلم يذبح!
وكتب هذا الهذر والسخف في بعض جرائد مصر، يا لها من فضيحة! ولكن علي الجارم انتهز هذه الفضيحة، فألف عنها قصيدة يشيد فيها بعدل فاروق، كان منها هذه الأبيات:
عابدين كعبة مصر ركنها حرم
للخائفين إذا خطب بهم نزلا
تهوي إليها وفود الأرض ضارعة
ترجو بها الأمن أو تزجي بها الأملا
أمر وعاه بنو الإنسان وحدهم
فمن بربك قل لي أخبر الجملا؟
هل يمكن إنسانا أن يعبث بعقله، ويلعب بحياة الشعب المصري، بالإنسانية، إلى هذا الحد! إلى حد أن يوصف ملكه بهذا الكذب؟
لقد عاش «ملك مصر» هذا خمس عشرة سنة وهو يتولى العرش، ويفسق، ويسرق، ويفسد، ولكنه بدلا من أن يجد الأديب الحر الذي يقول له: قف. وجد من يصفه بأنه من أصحاب المعجزات!
ووجد الدكتور طه حسين، الذي خاطبه أمام الطلبة، شباب الشعب ومعقد آماله، فيقول له في صوت عال: يا صاحب مصر.
ووجد عباس محمود العقاد، الذي يقول فيه:
إنني لم أسعد من قبل بفرصة كهذه الفرصة الواسعة؛ لاستجلاء طلعة المليك عن كثب والإصغاء إلى جلالته على انفراد في جو لا مثيل له بين أجواء اللقاء والحديث؛ لأنه جو الملك والديمقراطية ممثلين في شخصه الكريم أجمل تمثيل، مجتمعين في سماعه وكلماته وإرشاداته أحسن اجتماع.
لقد سمعت في هذا الحديث الواحد كلام فيلسوف، وكلام وطني غيور، وكلام محدث ظريف، وطاف بخاطري ذكر الإيمان وذكر الوطن ...
ثم يؤلف قصيدة، عقب عودة النقراشي من مجلس الأمن، يقول في مطلعها:
أقام الحقوق ووفى الذمم
ونادى فلباه نادي الأمم
ثم ينتقل إلى مدح فاروق فيقول:
وما اتخذت غير فاروقها
عمادا يحاط وركنا يؤم
ولا عرفت مثله في العلا
صديقا يشاركها في القسم
فدته البلاد وفدى البلا
د بعالي التراث وغالي القيم
مليك يلوذ به عرشه
وكم ملك بالعروش اعتصم
وذو علم تستظل الملو
ك بأعلامها ويظل العلم
وراع رعيته عزه
إذا عز بالصخر باني الهرم
أبى الملك إلا كما شاءه
منيع الجوار رفيع الدعم
إلخ، إلخ ...
إن الأدباء هم كهنة الشعب وأئمته ووعاظه العصريون، وهم الذين يرسمون الخطط، ويعينون الأذواق، ويفتحون المستقبل، ويسمون إلى أرقى المستويات في الفكر والعمل، فماذا نقول في هؤلاء «الأدباء» وتاريخهم في الحياة السياسية والاجتماعية في مصر؟
إني حين أتأملهم أحس أني ظلمت شوقي؛ فإنه قد نشأ على أعتاب القصور لا يعرف الشعب إلا أنه «رعية»، ولا يفهم أكثر من أن الدنيا للملوك والأمراء، أما هؤلاء فما عذرهم؟! •••
لا، لم تكن الإنسانية غاية الأدب من الأدباء الكبار في مصر طوال النصف الأول من القرن العشرين، ولكن مع ذلك ظهر أدباء الشباب الجدد الذين ألفوا القصة، ودرسوا المذاهب، وشرعوا يبعثون حركة رومانتية بدأت تؤتي ثمارها.
هكذا أفهم الأدب في مصر
عندما ننقد الأدب في مصر، وأيضا في سائر الأقطار العربية، يجب ألا ننسى هذا العائق السيكلوجي الذي يحول دون الإجادة، وهذا العائق هو تلك العادات الذهنية والعاطفية التي ورثناها عن مجتمع شرقي استبدادي يرأسه ملك أو أمير، وتندغم فيه الدولة في الدين، ويجري نظامه على الأسلوب الإقطاعي الزراعي.
أسلوب السيد الثري حوله الخدم الفقراء أو المحرومون.
وأسلوب رب العائلة الذي يسيطر على الزوجة والأبناء.
وأسلوب الزراعة التي تحيل صاحب الأرض إلى ملك صغير.
هذا النظام ورثناه بما فيه من أخلاق تساوقه وتؤيده، وهي أخلاق أنأى ما تكون عن الديمقراطية.
وفاجأنا العصر الجديد باحتلال الأوروبيين لبلادنا، وبانتشار المدارس التي وصلت بيننا وبين الثقافة الأوروبية العصرية، فأخذنا بقيم جديدة في الحياة والأخلاق، ولكن لأننا لم نأخذ بأساس هذه القيم وهو الصناعة، فإنها - أي هذه القيم الجديدة - لم تثبت في مجتمعنا ولم تعمه كله.
ولذلك أصبحنا جميعا في حرب باردة، المجتمع في حرب بين موروث عاداته وعواطفه الشرقية، وبين مستجد عاداته وعواطفه الأوروبية، يتردد بين الحجاب والسفور للمرأة، وبين الحقائق العلمية والعقائد التاريخية، وبين الأخلاق الزراعية الاستبدادية والأخلاق الصناعية الديمقراطية.
وهذه الحرب الباردة تجري بتفاصيلها المتعددة في كل فرد حيث يجدها في نفسه وذهنه.
وهي أيضا تجري في صدر كل أديب أو كاتب؛ إذ يجد قيمتين وميزانين؛ فهو يتردد، ولا يعرف تلك الغلواء التي ينزع إليها المؤمن بعقيدة مفردة؛ لأن له عقيدتين تجعلانه فاترا متشككا.
ولذلك فهو لا يحسن التأليف؛ إذ لا يمكن الإحسان مع الفتور والتشكك.
ويجب ألا ننسى موقفنا هذا، وهو موقف الاعتذار عن الإحسان - أي الإجادة والإتقان - حين ننتقد الأدب، وسوف يتغير هذا الموقف حين تتفشى الصناعة بيننا وتأخذ مكان الزراعة، أو على الأقل تتكافأ معها في الانتهاج والارتزاق، وعندئذ تتفشى في مجتمعنا الأخلاق الديمقراطية التي تنشأ من الوسط الصناعي وما يلابسه من عادات وعواطف جديدة.
ولكن ليس معنى هذا أن ننتظر تفشي الأخلاق الجديدة في مجتمعنا حتى نجعل أدبنا عصريا له قيم وأوزان عصرية؛ إذ يجب أن ندخل - نحن الكتاب والأدباء - في هذا العصر الجديد، ونغير العادات الذهنية والعواطف الأدبية الشرقية الموروثة في مجتمعنا إلى عادات وعواطف عصرية؛ حتى يساير تطورنا الاجتماعي الأدبي تطورنا الاقتصادي الصناعي، بل لا بأس من أن يسبق إذا كان هذا ممكنا. •••
كيف أفهم الأدب؟
أفهمه على أنه معالجة الإنسان في جملته؛ أي في كليته.
فإن الهندسة فن يعالج المباني، والكيمياء فن يعالج المواد، والطب فن يعالج الأمراض.
ولكن الأدب فن يعالج الإنسان جملة لا تفصيلا؛ فهو يزن الموقف الفلسفي والموقف الجنسي والموقف الاجتماعي وسائر المواقف البشرية للفرد، بحيث أنتهي من هذه المعالجة إلى أن أعرف قيمة هذا الفرد في المجتمع وفي الدنيا وفي الكون، وأنتهي إلى أن أقارن موقفي - أنا القارئ - بموقف هذا الفرد سواء أكان هو موضوع قصة أو مقال أو ترجمة لحياة إنسان.
وأفهم الفرق بين الأدب القديم والأدب العصري على أن الأول استمتاعي، أقرؤه كي ألتذ وأنا ملك أو أمير أو إقطاعي؛ أي أقرأ أبا نواس للذة ولا أجد في ذلك ما يصدم ضميري الأدبي، ولكن الأدب العصري لم يعد أدب الملوك أو الأمراء أو الإقطاعيين، وإنما هو أدب الملايين من الشعوب، وهو إذن أدب الشعب، أدب الكفاح لتعميم الخير والمساواة بين الجنسين، وتحقيق العاطفة الإنسانية بنظام اشتراكي ومقاومة الظلم والاستبداد والحرمان.
أدب أبي نواس، الذي ألف عنه وله نحو ثمانية أو عشرة مجلدات في السنوات العشر الأخيرة، هو أدب فاروق وحاشيته، أدب اللذة والنكتة والكلمة الرائعة، مع المعنى الدنس أو المعنى الزري، فنضحك أو نتغامز، في إحساس الفسق.
ولكن الأدب العصري هو أدب الكفاح الذي يثير غضبنا على الظلم، ظلم الحاكمين وظلم التقاليد؛ أي أنه يدعونا إلى التحرير، وإلى الاعتماد على الحقائق الجديدة دون العقائد القديمة.
الأدب العصري يطالبنا بألا نجعل مراسينا الاجتماعية وفق التقاليد في الألف السنة الماضية، وإنما وفق ما نستعد له من نظم في الألف السنة القادمة.
الأدب القديم ورد نتشممه، ولذة عابرة، ومزاح وترف ذهني، ولكن الأدب الجديد هم وقلق، ودراسة، وبرنامج الحياة، وتوسع في الوجدان، وارتقاء لشخصي ومجتمعي، وزيادة في الفهم والإنسانية.
وإذن، من هو الأديب العظيم الذي يجب أن نقرأ مؤلفاته؟
هو الأديب الذي يدل؛ أي أن له دلالة.
وأعظم ما يجعله يدل أن تكون له رسالة اجتماعية أو إنسانية.
ذلك أنه لن تكون له رسالة إلا إذا كان قد درس الإنسان في جملته.
بل إن رسالة الأديب هي الفرق الأساسي الذي يفصل بين الأدباء القدامى والأدباء العصريين، وليس هذا في أدباء العرب وحدهم، بل أيضا في أدباء أوروبا.
كان الأديب القديم يكتب ويؤلف كي يزيد استمتاع القارئ ولذته، ولكن الأديب العصري يكتب ويؤلف كي يزيد الفهم للحياة، ويزيد التوسع الذهني، ويزيد الوجدان، كأننا نزداد وجودا بقراءته.
كان الأديب مهرجا، أو يقارب المهرج، يضحك ويسلي.
ولكن الأديب العصري كاهن، يكتب بإلهام ليعين القيم ويهدف إلى المستقبل ويحس أن له رسالة.
وبالطبع هناك استثناءات، فإن المعري والجاحظ وابن حزم وأمثالهم لم يهرجوا، وأنا أسميهم لذلك قدماء معاصرين.
وإذا شئت أيها القارئ أن تنقد، وتعرف القيمة والوزن لأحد الأدباء في مصر أو أقطار الشرق العربي، فاسأل هذا السؤال:
ما هي الرسالة الاجتماعية أو الإنسانية التي يدعونا إليها هذا المؤلف؟ وهل هو يزيد استمتاعنا ولذتنا (فهو إذن قديم) أم هل يزيد فهمنا للحياة، ويطالبنا بكفاح من أجل الخير والشرف والمساواة والعدالة الاجتماعية؟ وبكلمة أخرى: ما هي دلالته؟ هذا محك ... هذا امتحان! •••
ومحك آخر، أو امتحان آخر، أن تسأل: ما هي القيمة التمدينية في هذا الكاتب؟
هل هو يزيد إحساسنا الإنساني، بحيث نتعلم منه ونتربى من مؤلفاته، فنكبر من شأن الإنسان، وننكر التعصب اللوني والتعصب المذهبي والتعصب الديني، ونحترم الإنسان لأنه إنسان قبل كل شيء.
أيها القارئ، من هو المؤلف المصري أو العربي الذي زاد إحساس الإنسانية عندك وحملك بمؤلفاته على أن تأخذ بالأسلوب المتمدن في سلوكك وأخلاقك؟
إن الكاتب العظيم هو الذي يغيرنا، بحيث نحس عقب قراءة كتابه أننا لم نعد كما كنا قبل قراءته، وأننا تغيرنا إلى أعلى.
والكاتب العظيم هو الذي يعتنق مذهب الحرية، ولكنه لا يقتصر على الدعوة إلى التحرر من الحاكمين المستبدين فقط، وإنما يدعو أيضا إلى التحرر من التقاليد المستبدة.
وإذن من هو هذا الكاتب؟
أعظم ما يغير الدنيا في عصرنا، ويغير الفرد والمجتمع، هو العلم، العلم هو النعمة والنقمة في عصرنا.
والمؤلف الذي يحمل هموم الإنسانية في صدره لا يمكنه أن يهمل العلم، أو بالأحرى العلوم التي توجه إلى السداد في الحياة بتنظيم الاقتصاد والكيمياء والطبيعيات والميكانيكيات والبيولوجية والسيكلوجية لخدمة الإنسان.
فمن هو الكاتب أو الأديب الذي خدمك في هذه الناحية؟
إني لا أقرأ كتابا في نقد الأدب في أوروبا إلا وهو يخص داروين وفرويد بفصول، ويوضح أثرهما في التوجيه الذهني والنفسي، وكلاهما عالم.
هل أوضح لك أحد هذا التوجيه في مصر؟ •••
لقد أوجدت أنا عبارة «الفقر والجهل والمرض» وأسميتها الثالوث المدنس.
وهل يمكن أن يجيز أديب مصري أو عربي لنفسه أن يكتب وهو يجهل هذا الثالوث؟
وإذن فيم يكتب، وأي موضوع آخر أحرى أن يشغله إذا كان إنسانا؟
إن الداء القديم المقيم الذي يتوطن أقطار الشرق العربي هو الفقر، وهو الذي بعثني إلى الدعوة إلى الصناعة كي تثري الشعوب العربية، وليس الجهل والمرض، ثم الذل والهوان، سوى منتجات الفقر.
وإذن أقول: إن ذلك الأديب الذي لا يعرف علل الفقر والمرض والجهل لا يجهل الاقتصاد فقط وإنما يجهل الأدب.
وهذا الجهل هو الذي يحمله على أن يكتب عن أبي نواس وابن الرومي بدلا من أن يكتب عن الصناعة، والنقابات، وجمعيات التعاون، وعن الحب، والارتقاء، والشخصية، والحرية.
الأدب عنده لذة واستمتاع، وليس كفاحا وقلقا.
إن الأدب هو دراسة الإنسان في جملته.
وهذه العبارة تعني أن ندرس الإنسان في اقتصاده وأمراضه وثقافته واتجاهاته الذهنية والعاطفية وأهدافه المستقبلية.
والأدب العظيم ليس الذي يمتعك بنكتة من أبي نواس، وإنما هو الذي يبسط أمامك الثقافة؛ كي تدرس المواقف البشرية وتستخلص منها رسالة إنسانية تمحو الفقر والجهل والمرض، وتزيد الإنسان إنسانية، وتحيلنا إلى متمدنين لا نتساب ولا نهاتر ولا نمكر، ولا نؤلب العامة والغوغاء على المفكرين الأحرار. •••
ما هو أعظم ما يؤلفه المؤلف في الأدب؟
هو حياته، كيف عاش؟ كيف ارتزق؟ ما هي الأحزاب السياسية التي انضم إليها؟ ما هي الثقافة التي أثث بها ذهنه؟ ما هي علاقته بمجتمعه؟ هل سعى لخيره أم لضرره؟
بل ما هو كفاحه في هذه الحياة؟
أيها القارئ، ادرس الكتاب الأول الذي ألفه المؤلف، وهو حياته، بل طالبه بذلك، حتى يخرج كتابا يبين فيه المبررات التي حملته على أن يسلك سلوكا معينا في السياسة أو الاجتماع أو الاستعمار أو غير ذلك.
إن الكاتب الذي يقف موقف الإرشاد والتوجيه يجب عليه أن يبسط لنا حياته ويوضح لنا أخطاءه ويبين أعذاره، كما عليه أن يدلنا على الأثر الذي تركته ثقافته في شخصه وكانت عاملا في تكوين شخصيته؛ وذلك كي نقرأ حياته فنتربى بقدوته.
إن حياة الأديب جزء من مؤلفاته، بل هي أعظمها.
هكذا أفهم الأدب كما يجب أن يكون في مصر. •••
وأخيرا قد يسألني القارئ: إذا كان هذا هو الأدب، فما الفرق بين المقال الأدبي والمقال الاجتماعي؟
الفرق أن الأدب فن، وأساس الفنون جميعها هو الطرب، فأبيات الشعر إذا لم تطربنا فليست شعرا، وإذا لم نطرب من القصة فليست أدبا، واللحن الموسيقي مثل المبنى العظيم، أو التمثال الرائع، كل هذه يجب أن تطربنا.
ولكن اللحن وحده، في الغناء مثلا، لا يكفي لأن يجعل من الغناء فنا؛ إذ يجب أن نتذوق المعاني الرائعة في الغناء مع اللحن، وكذلك الطرب وحده في أشعار أبي نواس لا يجعل منها فنا؛ لأن معانيها زرية.
يجب في الأدب أن نصل إلى الطرب، عن طريق الجهاد الروحي والجد الرفيع للسمو بالإنسانية.
الأدب دين والأدباء كهنته
لكل أمة خصائصها التي تستوعب نشاط أبنائها، والشباب والطلبة هم أعظم من يمثلون هذه الخصائص، ففي إنجلترا نجد العناية الكبرى بالرياضة ومبارياتها، وأحيانا تستوعب أخبارها أكثر من صفحتين في الجرائد اليومية، ولكننا لا نجد في فرنسا مثل هذه العناية بالرياضة، وإنما نجد في مكانها عناية بالأدب.
والمدارس الفرنسية الثانوية هي في صميمها كليات للأدب الفرنسي؛ ذلك أن الطالب يدرس اللغة دراسة وافية، ويدرس أدباء فرنسا القدامى والمحدثين بالروح الوطني والذوق الفني، وبعيد أن تجد طالبا يخطئ في لغته حين يتكلم، فضلا عن الخطأ في الكتابة.
وفي باريس هذه الأيام حركة أدبية تندغم فيها السياسة والدين والفلسفة، هي الحركة الوجودية التي يتزعمها بول سارتر.
ولهذه الحركة عبرة ، بل عبر كثيرة، فإن وصولها إلى الجماهير، بل إلى العامة، برهان على ارتفاع المستوى الثقافي بين الشعب؛ ذلك أن لها أنصارا وخصوما من الشعب، وهي سياسة من حيث أنها تخاصم المذهب الاشتراكي الماركسي، وهي دينية من حيث أنها تلغي الغيبيات التي يرتكز عليها الدين، ثم هي أيضا تأخذ مكان الدين في تعيين الأخلاق والقيم الإنسانية، ثم هي فلسفية، أو هذا ما تزعمه، من حيث أنها تعالج المشكلات التي يعالجها الفلاسفة، كالمبدأ أو الميعاد، والمصير، والأسلوب، والكائن البشري بين كونه وبين خلاصه، أو بين نشأته وبين نضجه.
ولست هنا أقدح أو أمدح هذه الوجودية، ولكني أستخلص منها هذه العبر التي ذكرت، وأحب أن أؤكد أن أعظم هذه العبر هي أن الأدباء يقومون في فرنسا منذ بداية هذا القرن مقام الكنيسة والكهنة، والشعب يسترشد بأناطول فرانس، وأندريه جيد، وهنري باربوس، وبول سارتر، كما كان يسترشد أسلافه بكهنة الكنيسة وقديسيها.
وهذا طراز آخر من الأدب لم نعرفه نحن في تاريخنا الأدبي، إلا إذا عزونا إلى المعري هذه النزعة، أو هذا الموقف، حين أخذ على نفسه الاضطلاع بتعيين الأخلاق ورسم القيم، وقد فعل ذلك في حذر وتردد، وأحيانا في مراوغة وتهارب، وقد كان المعري بشريا ينكر الغيبيات.
أما أدباء فرنسا فيضطلعون بهذه التبعات دون خوف، وهم يوجهون أدبهم هذه الوجهة منذ بداية القرن العشرين، وكثيرا ما أقرأ لأحد الناقدين نقدا موجها إليهم فلا أدري هل هو ينتقد ديانتهم أم سياستهم أم فلسفتهم أم أخلاقهم أم فنهم؟
والواقع أنه ينتقد، أو هو يحاول أن يستوعب في نقده كل هذا، وقد سبقت هذه النزعة الأدبية الاستيعابية للحياة محاولات ابتدائية من «بلزاك» و«فكتور هيجو» و«زولا».
فإن بلزاك الذي يعد أعظم القصصيين في القرن التاسع عشر قد استطاع أن يجعل القصة مسرحا للنقد الاجتماعي، وهو نقد دقيق وبصير معا، ولكنه لم يكن على وجدان الأدب الفرنسي الحديث، بأن الأديب يجب أن يكون على إيمان وكفاح، كما نجد في هنري باربوس مثلا، ثم جاء بعد بلزاك فكتور هيجو، فكان مكافحا في السياسة يدعو إلى الجمهورية كما كان في «البؤساء» بصيرا بالخفايا الاجتماعية والشقاء البشري.
ثم جاء أميل زولا الذي نهج نهجا جديدا في «الطبيعة»؛ أي نقل الحقائق البشرية كما هي بلا تزويق أو مداراة، وشرح الطبيعة البشرية عارية مكشوفة، وقد وجد في أيامه أنصارا يحبون الصدق ولو آلم، كما وجد خصوما يكرهون الحقائق لبشاعتها.
وهذه البذرة التي زرعها أميل زولا، وهي التزام الحقائق وتحري الصدق دون القناعات المخفية، هذه البذرة هي التي نبتت في القرن العشرين وجعلت الأدباء الفرنسيين يجابهون المجتمع ويكشفون عن حقائقه في استقلال الرأي وثبات القصد.
ووافق ذلك تقهقر الكنيسة، وفي فرنسا تقاليد - منذ الثورة الكبرى - ضد الكنيسة، وقد انتهت هذه التقاليد إلى فصل الدين من الدولة في أوائل القرن الحاضر، وسار التعليم مدنيا بحتا، حتى إن أمثلة النحو والصرف في الكتب الابتدائية كان يعنى مؤلفوها فيها بحذف الكلمات التي تدل على معنى كنسي أو ديني.
وزاد في تقهقر الكنيسة أن الروح المادي تفشى وساد العقول، ولذلك ما ندهش له نحن في مصر لم يعد له من الخطورة ما يدعو إلى أقل الاستغراب، فضلا عن الدهشة، في فرنسا، فإن بول سارتر مثلا يجعل الإلحاد أساس فلسفته، دون مبالاة للرأي العام.
وليس بين الأدباء من هو أحب إلى القلوب من «أناطول فرانس»، ومع ذلك لا يخلو كتاب لهذا الأديب من زندقة، وهو على الرغم من استغراقه في كلمات الشعائر والعبارات الدينية، بل على الرغم من الإحساس الديني العجب الذي يتسم به، يعود على الكنيسة بالثورة ثالبا جاحدا، ولكنه يجحد بلا غضب؛ إذ هو يضحك على الدوام، ويضحك في حنان من خصومه.
ثم يجيء «أندريه جيد» وهو بشري الدين، يجحد الغيبيات والأساطير كلها، ويدعو الإنسان إلى أن يرتفع فوق نفسه وينشد الهدف الأعلى بعد الهدف العالي، ثم هو يكافح في السياسة، فيؤلف ضد الاستعمار وضد الاستغلال، وأحيانا يستهتر، ولكنه في استهتاره يحس بالتبعات الفنية حتى لتكاد تحكم عليه بأنه إنما يستهتر للتجربة الفنية فقط.
وفيما بين 1920 و1935 نجد كاتبا عاصفا هو «أنري باربوس» يكتب، ويعمل، إيمانا وكفاحا، وهو يلخص في أدبه، في فلسفته، في سياسته وديانته، كل هذه النزعات التي سبقته، ولكنه يمتاز عن جميع هؤلاء الذين سبقوه أنه مع الشعب، ولذلك كان صحفيا كما كان مؤلفا، وشيعته باريس عند وفاته في سنة 1936 كما لم تشيع كاتبا آخر منذ وفاة فكتور هيجو.
وأخيرا نجد «بول سارتر» الذي يمكن أن نعده خصما سياسيا لأنري باربوس، ولكنه فيما عدا السياسة يمتاز على كل من سبقوه من حيث أنه جعل الفلسفة موضوع المقهى والجريدة يناقشها العمال والطلبة كما يدرسها الأثرياء من النساء والرجال.
وليس شك أن هناك نزعات استهتارية في الأدب الفرنسي، كما نرى مثلا في مارسيل بروست أو بودلير، على اختلافهما، ولكن يجب أن نعترف أن هذا الأدب ينحو في مجمله نحو الجد والإحساس بالتبعات الاجتماعية، ومن هنا هذا الاحترام الذي يجده من الجمهور، وهو احترام يأخذ مكان الاحترام السابق للكنيسة.
وبكلمة أخرى نقول: إن الوجدان الأدبي في فرنسا، بل في الأقطار الأوروبية جميعها، يأخذ مكان الوجدان الديني، والمؤلف العظيم لا يكتب ليسري عن قارئه همومه، ويرفه عنه، بل هو يزيده هموما ويبعث فيه اهتمامات روحية، ويحمله تبعات اجتماعية جديدة، وهو هنا مثل الرسام الجديد؛ فقد كان الرسام القديم يرسم الصورة الجميلة للمرأة الجميلة، أما الرسام الجديد فإنه يعنى برسم المشكلات والأهداف، ولا يبالي أن يحزنك أو يبعث فيك الاشمئزاز، فأنت تنظر إلى الرسم لتدرس وتتألم، وليس لتتسلى وتسر.
وهكذا الشأن في الأدب، فإن رسالته العصرية دينية، ولكنها مع ذلك بشرية.
وهذه الجملة الأخيرة تحتاج إلى تفسير؛ ذلك أن الأديان الغيبية القديمة كانت تحملنا تبعات وتطالبنا بواجبات، ولكن القيم الأخلاقية والاجتماعية في هذه الأديان كانت قيم الآخرة ولم تكن قيم الدنيا، فكان علينا أن نكون صالحين نمارس الفضيلة، ونصلي، ونصوم، حتى نستمتع بالفردوس ولا نتعرض للعقوبة بعد الموت، فالقيم هنا أخروية، ولكن الأدب الفرنسي العصري، بل الأوروبي كله، يحملنا أيضا تبعات ويطالبنا بواجبات، القيم الأخلاقية والاجتماعية فيه هي قيم الدنيا فقط، فيجب أن نكون صالحين، وأن نمارس الفضيلة؛ كي نخدم المجتمع البشري ونرقى بشخصيتنا أخلاقا ومعارف، ونجعل من كوكبنا فردوسا نجد فيه السعادة والخير والشرف.
ومن هنا المبدأ الأول في «فلسفة» أو أدب بول سارتر، وهو الإلحاد، ومع أن هذا المؤلف يدعونا إلى التحرر من الديانات الغيبية، ومن المجتمع، فإنه يعترف بأننا في هذه الحالة، أي بعد التحرر، سنعيش في ظلماء عمياء بلا بوصلة وبلا نجوم، وعلينا عندئذ أن نشق طريقنا وحدنا دون أن ننتظر أية معونة، ودون أن نستند إلى أي سلطة سوى ضميرنا.
نزعتان في الأدب والفلسفة
يكابد العالم هذه الأيام ألوانا من الشقاق والخلاف في اتجاهات السياسة وعقائد الاجتماع ونزعات الأدب والفلسفة، تبعث على التحزب والتعصب، بل لعلها تبعث أيضا على الحرب.
والأديب، حين ينزع النزعة الفلسفية في أدبه، يكبر خطره وأثره؛ لأنه لا يؤلف هنا للخاصة من المفكرين الذين يتحملون العبارة المعقدة والمعنى الغامض، وإنما هو يكتب لسواد الشعب الذي يجد فيه الإيحاء والإغراء بما يؤلف من قصص أو ينظم من أشعار في أسلوب ميسر وكلمات عذبة ملهمة، وعندئذ ترسب آراؤه وأهواؤه في نفوس الشعب فتعود نزعات للخير أو نزعات للشر.
ولكن ما نظنه ابتكارا في الأديب إنما هو في النهاية ما تبلور في نفسه من المجتمع الذي يعيش فيه، حتى ولو كان ما يخرج به على المجتمع يناقض وجوده، أي وجود هذا المجتمع، ولا يعدو الأديب أن يكون موسيقيا أو مغنيا حتى ولو لم يعرف الموسيقا أو الغناء، فهو يتقبل ويتلقى من المجتمع الإحساسات والعواطف التي تتبلور في نفسه، فيخرجها فنا موضحا يعرفه المجتمع ويلتذه؛ لأنه يجد فيه التعبير عما كان في نفسه غامضا غير موضح.
ولهذا أعتقد أن أعظم ما سوف يدل على التغيير في مجتمعنا أن تتغير أغانيه وموسيقاه وأدبه.
وإني ذاكر هنا أديبين هما نقيضان، تبلورت في كل منهما نزعة حتى كادت تبلغ الجنون، بل بلغته في أحدهما الذي مات في المارستان، في حين أن الآخر قد انتابه الجنون في خفة فكان يشطح ثم يفيق.
أعني بهما «المركيز دوساد» الذي مات في سنة 1814، و«جان جاك روسو» الذي مات في سنة 1778.
كلاهما فرنسي، وكان كل منهما يعرف الآخر؛ فقد التقيا في سويسرا، وقد قرأ ثانيهما كل ما كتبه أولهما، ولا بد أن روسو قد عرف عن حياة دوساد الكثير الذي اشمأز منه، ولكنه لم يكترث للرد عليه.
ومع أن الهوة الزمنية التي تفصل بين الأدب الحديث وأدب هذين الاثنين كبيرة، فإن إيحاءهما لا يزال قويا عميقا، حتى لتكاد، حين تقرأ نيتشه أو سارتر مثلا، أن تحس بإلهام المركيز دوساد: أنا وحدي. أنا محور الكون. إني لأفخر بأنانيتي. مذهبي هو أن يسعى الإنسان منفردا.
وكذلك حين تقرأ لتولستوي أو أناطول فرانس تحس بإلهام جان جاك روسو: إنما دلالة وجودي أن أحيا للمجتمع، وأن أحب الأرض والناس، وأن أدعو للسلام والتعاون للإنسانية.
وإذا شئنا الإيجاز في كلمات قليلة قلنا: إن المركيز دوساد يؤمن بأن الطبيعة البشرية عدوانية، وأن أساسها الرغبة في التحطيم، وأن ما نسميه لذة إنما هو تحطيم وهدم، بل تعذيب.
ومن هنا سمى الشذوذ الجنسي، الذي يفسد الرجل السوي ويتخذ فساده نزعة إلى التعذيب، سمي السادية.
ولكن حين نقول إن نيتشه أو سارتر ينزعان إلى المركيز دوساد لا نعني بالطبع أنهما يسيران إلى آخر الشوط الذي قطعه، ولكننا نقصد إلى أن الاتجاه السادي عند المركيز دوساد ينبع من القول بأن أساس الود البشري هو الأنانية العدوانية ونشدان السعادة الفردية التي يجب ألا يخالطها أي اعتبار للمجتمع.
وجميع الوجوديين من أتباع سارتر يعترفون بأن نيتشه كان أحد الآباء الروحيين للمذهب الوجودي.
وما هي دعوة نيتشه؟
العجب في نيتشه أنه أناني؛ لأنه يريد أن يكون إيثاريا، وكأنه يقول: يجب على كل إنسان أن يحب نفسه فلا يعين ضعيفا؛ لأن مصلحة المجتمع في المستقبل إنما هي زوال الضعف، فلنترك الضعفاء يموتون وينقرضون؛ لأن انقراضهم يتيح للمجتمع أن يرقى ويزداد قوة بعد قوة!
وإذن أنت تحب نفسك وتؤثرها على غيرك على سبيل التضحية، بحيث تنكر إحساسات الحب والحنان والعطف وتأخذ بشيء من قوانين الغابة التي لا ترحم ضعيفا أو كسيرا أو جريحا.
هذا نيتشه، وقد قال أندريه جيد: يجب أن تموت البذرة كي تولد مرة أخرى.
ولكن ليس في هذه العبارة ما يمكن أن يحمل على أنه من إيحاء المركيز دوساد، وإن كانت تنحو منحاه؛ إذ هو يقول بأن الحياة تحتاج إلى التحطيم قبل أن تتجدد، ونحن نجد في سارتر دعوة عنيفة إلى الانفرادية تنكر الاتجاهات الاشتراكية وتقول بمسئولية الإنسان أمام نفسه وليس أمام مجتمعه، وقد نجد إنكارا لهذا القول في بعض كلماته، ولكن منحى فلسفته يؤدي إلى هذا الاستنتاج.
كانت آراء المركيز دوساد، ثم نيتشه، بمثابة من يقول: اعتمادي في هذه الدنيا على عقلي وليس على إحساسي، وقوتي وليس حناني، وكذلك - بدرجة أقل - الحال مع سارتر.
لقد عاش دوساد حياة مليئة بالرذيلة الجنسية «السادية»، وألف في ذلك القصص التي يعزف عنها العقل الاجتماعي السليم، ولكن إيحاء شره يمتد عبر القرن التاسع عشر ويثير من وقت لآخر هاجسا من أصوات الغابة، ثم هو يخلف آثارا تدق حتى لتكاد تخفى في صفحات الأدب والفن.
وحين نترك دوساد ونقصد إلى روسو نحس كما لو كنا قد خرجنا من قبو مظلم قد تأكلت الرطوبة جدرانه، كذلك القبو الذي سجن فيه هو أكثر من عشر سنوات، إلى الهواء المنعش والشمس الضاحية.
نحس في حياة روسو ومؤلفاته إحساسات الحب، أي الحب للمرأة، زوجة وأما، ونحب الدنيا والطبيعة، ونحب المساواة والإخاء، ونحب الشجر والزهر.
كان دوساد يفكر بعقله في قسوة المنطق، وهو على الدوام منطق الغابة.
وكان روسو يفكر بقلبه في رحمة الحنان وجمال الإنسانية.
ونستطيع أن نقول إن الفساد الذي وقع فيه دوساد هو فساد الحضارة المنحلة التي عاش فيها معظم حياته قبل الثورة الكبرى في 1789، كما نستطيع أن نقول إن الصفاء، والرقة، وحلاوة النفس، وجمال الإنسانية، هذه الصفات التي اتسم بها روسو في مؤلفاته، هي ثمرة حياته الساذجة وجهله، في أيام شبابه، ببهارج هذه الحضارة.
بل لقد كان أول مؤلفاته رسالة يقول فيها إن الإنسان سعيد أصلا، ولكن الحضارة تشقيه، وهو الذي أضاف إلى مبدأ الحرية للثورة مبدأي المساواة والإخاء.
بل، لقد أحب الفقر وأصر على أن يعيش فقيرا؛ لأنه وجد أن الثراء قيد يحول دون الحرية.
لم يقيد نفسه بعادات الأثرياء وتكاليف المتمدنين!
وهو، على الضد من الانفراديين، كان يدعو، أو بالأحرى نحن نفهم منه، أنه يقول بالاشتراكية المسيحية، ولكنه مع ذلك لم يكن معدودا من المؤمنين؛ فإن بعض مؤلفاته قد أحرق، كما طورد هو؛ لأنه اتهم بالكفر ...
وعجيب حقا أن يقال عنه إنه نقل الإحساس الديني من المسيحية إلى الطبيعة، وأن يؤلف كتابا عن التربية يقول فيه بمعاملة الأطفال بالحب بدلا من العصا، وأن تقول زوجته عقب وفاته: «وإذا لم يكن زوجي قديسا فلست أعرف من هو ذا القديس!» عجيب أن تتهم هذه الشخصية بالكفر ...
وهو يعد رائدا للأدب الحديث من حيث أسلوبه وأفكاره معا، فإنه يكتب في بساطة تكاد تكون سذاجة، وفي كتابه «الاعترافات» يكشف عن قلبه، ويقول كل شيء بلا عائق نفسي؛ ذلك لأنه يحب الناس ويأتمنهم على أسراره. •••
في عالمنا الحاضر - كما قلنا - نزعتان لكل منهما مركباتها.
الانفرادية، التي وصلت إلى الشطط عند المركيز دوساد، هي المباراة الحرة التي تقول بالموت للمهزوم، والتي يسرف دعاتها في شطط أيضا حين يتخذون شعارا: «الطبيعة حمراء بين الناب والمخلب.»
الانفرادية السادية هي التي عمل بها هتلر في سجونه مع كل من خالفه بالتعذيب.
والانفرادية - السادية - أيضا هي التي تبعث هذا الروح العدواني وتبصق على وجه الزنجي كأنه ليس إنسانا.
وهي التي تقول بأن العصا تربي الطفل، وأن المجرم يحتاج إلى التعذيب بالسجن الشاق.
وهي التي تقول، في فلسفتها أو غيبياتها، إن المرأة يجب أن تظل خادمة الرجل وليست زميلته.
هذه الانفرادية تعتمد على مذهب العدوان باعتباره أصيلا في الطبيعة، أليس تنازع البقاء من قوانين الطبيعة؟ وإذن لا مندوحة عن الحرب ونهب الشعوب وضرب المدن بالطائرات التي تقتل الشيخ والشاب والأم والطفل!
والانفرادية في الأدب هي مذهب الأدب للخاصة التي تسود العامة بتقاليدها وتراثها وميزاتها واحتكاراتها.
وهي مذهب المحافظين والإمبراطوريين.
وهي أشعار «كبلنج» شاعر الإمبراطورية الذي لا يتورع من أن ينصح للجنود الإنجليز أن يبقروا بطون الزنوج وأن يضربوا الهنود، وليس عجيبا أن يعجب تشرشل بأشعاره.
ونيتشه هو تلميذ دوساد، ولكن التلميذ هنا يفضل أستاذه، ويتوغل في المستقبل إلى أنانية فلسفية غايتها ارتقاء الإنسان كما توهمه. •••
هذا هو التراث الذي يمكن أن نعزوه إلى دوساد، أي أننا نجد في مجتمعنا مركبات سيكلوجية ومذهبية وسياسية لها منطق، حين نقرأ وندرس حياة دوساد.
ولكن لنا تراثا آخر من جان جاك روسو.
هو أن الطبيعة البشرية ليست عدوانية، وأن الحب يغمرنا، ونحن ننزع إلى التعاون والرغبة في مساعدة الضعيف أكثر مما ننزع إلى الأنانية والعدوان.
ثم نجد المركبات لهذا المذهب.
في الطبيعة تعاون كما أن فيها تنازعا، ولكن التعاون يغلب، وكلما ارتقت الأحياء ازداد اعتمادها على التعاون؛ فإن العائلة توجد في الطيور والرواضع، وهي أرقى الحيوانات، ولا تترك الأطفال عرضة لتنازع البقاء، كما هي الحال في الحيوانات الدنيا، وعند الإنسان مجتمع يكفل التعاون لأفراده فوق تعاون العائلة.
وروح روسو تتضح في مذاهب التربية الحديثة، وهي جميعها تقاطع العصا في تربية الأطفال وتعتمد على الحب.
وكذلك الشأن في معالجة الجريمة بالتعليم والرعاية، وليس بالعقوبة والتنكيل.
وكذلك الشأن في المرأة التي ترتفع بالتعاون إلى الزمالة للرجل.
وكذلك الشأن أيضا في دعوة المساواة بين الشعوب، سوداء وصفراء وبيضاء وسمراء، وهي دعوة البر والخير ومكافحة الحروب.
وأخيرا هي في الأدب، أسلوبا وهدفا، حركة شعبية سوائية إخائية إنسانية.
أيها القارئ، هل أنت انفرادي النزعة مع دوساد، أم تعاوني النزعة مع جان جاك روسو؟ ما هي فلسفتك الأدبية والاجتماعية؟
هل تقول بالتنازع أم بالتعاون بين الأفراد وبين الأمم في 1954؟
التشاؤم والتفاؤل في الأدب
هناك طرازان في التفكير، في السياسية والاجتماع، هما طراز المتفائلين وطراز المتشائمين، والأولون هم دعاة التغيير والارتقاء؛ لأنهم يقولون بأن المساوئ البشرية الحاضرة يمكن أن تعالج، والآخرون هم دعاة الجمود أو المحافظة أو التقاليد ؛ لأنهم يعتقدون أن الخير في الدنيا هو البقاء على الحاضر لا أكثر.
المتشائمون هم المحافظون الذين يحرصون على بقاء القديم القائم.
المتفائلون هم الاشتراكيون الذين يغيرون المجتمع ويحاولون الارتقاء.
وهذا التمييز يتجاوز الاجتماع والسياسة إلى الأدب.
اعتبر المحافظين في السياسة في أي قطر في العالم، فإنهم دعاة التمييز العنصري أو القومي؛ ولذلك يؤمنون بالاستعمار ويمارسونه: الأبيض أرقى من الأسود؛ ولذلك من الحق أن يستعمر الأول الثاني، ويستبد به، ويقتله، ويأخذ كنوز أرضه من زراعة أو مناجم.
وهذا التمييز العنصري يرافقه تمييز طبقي أيضا، فإن المحافظ الذي يستغل الأفريقيين والآسيويين خارج بلاده كذلك يستغل العمال داخل بلاده، ويقول بأنهم يجب ألا يطلبوا أن يكونوا أرقى من مستوى طبيعتهم، ومن هنا كراهته، بل بغضه، للاشتراكية التي تقول بالمساواة.
والاستعماري هو رجل التقاليد، تقاليد التاريخ في الغزو والاستعمار؛ ولذلك كان رديارد كبلنج شاعرهم، هذا الشاعر الذي لم يخجل من أن ينصح للجنود الإنجليز في المستعمرات ببقر بطون الزنوج.
وبؤرة الإيمان عند المحافظين هي التشاؤم الذي يقوم على أن الناس يولدون متفاوتين، يأكل بعضهم بعضا في تنازع البقاء كحيوانات الغابة.
وما دام هناك «تنازع بقاء» فإن التشاؤم يغمر النفس؛ لأن هذا التنازع يعني في النهاية أن البقاء لا يكون إلا بالأنانية التي تحمل صاحبها على أن يدوس غيره كي يتفوق.
وما دمنا متشائمين فإننا نؤمن بأن الشر يتغلب على الخير في الطبيعة الإنسانية.
وهذا الإيمان يحملنا على الشك والتوجس والأنانية، والقول بأن أخلاق الناس منحطة، وأننا يجب أن نقسو في العقوبات، كما يحملنا على القول بأن المرأة لا تؤمن، وأنها تخون في الظلام، وأنها غادرة في الحب، إلى آخر هذه الأقوال التي تدل على الشك والخوف عند قائليها حتى لينتهوا إلى الحكم بأن المرأة يجب أن تخضع للرجال كي لا تجد الفرصة لأن تخون أو تغدر.
والمتشائمون المحافظون لا يثقون بالشعب؛ لأنهم لا يؤمنون بالمساواة، ولذلك لا يؤمنون بالتعاون والارتقاء، وعلة جحدهم للمساواة تقوم في النهاية على أنهم يأخذون بالوراثة دون الوسط، ويحترمون التقاليد القديمة.
فالناس، بالوراثة، يولدون أكفاء للسيادة أو غير أكفاء.
وبالوراثة تتسلط الدول الاستعمارية على الأفريقيين والآسيويين وتستعبدهم، وتخطف منهم البترول والكوتشوك والقصدير والنحاس، أليست هذه الدول أرقى من هؤلاء الأفريقيين والآسيويين الذين ولدوا بكفاءات وراثية منحطة لا تؤهلهم لأن يملكوا بلادهم؟!
المحافظ في السياسة استعماري، يقول بتنازع البقاء، وبتسلط البيض على السود والسمر والحمر، وهو لا يثق بالخير في الطبيعة البشرية، ولذلك هو لا يؤمن أيضا بحقوق الدهماء من الشعب أو بحقوق المرأة، ولا يسلم بأن إصلاح المجتمع يتيح للطبيعة البشرية أن ترتقي حتى إذا كانت في الأصل متوحشة.
هو متشائم بالمستقبل، شعاره «الدنيا جيفة والناس حولها كلاب».
وإذن يجب على هذه الكلاب أن يقاتل بعضها بعضا.
المحافظون يدعون إلى الحرب. •••
أما المتفائلون فطراز آخر، فإنهم يدعون إلى التعاون، أي الاشتراكية، وليست التقاليد عندهم، وليست الوراثة البيولوجية نفسها، سوى كلمات يراد بها تجميد الشعب ومقاومة الحركات الارتقائية.
وهذا التجميد هو في النهاية إعاقة الإصلاح والإنهاض للطبقات العاملة حتى تبقى في شقائها وفقرها، بينا تبقى الطبقات العليا في ثرائها وامتيازها التقليديين.
المتفائل يؤمن بالوسط، وأنه أكبر أثرا في الارتقاء الشخصي من الوراثة، وهو لذلك يدعو إلى التعليم والتصنيع ونشر العلم ومساواة المرأة بالرجل وإلغاء الاستعمار والاستغلال، أي يدعو إلى الاشتراكية.
وكلمة «المساواة» الاجتماعية الاقتصادية تكاد تفقد معناها إذا سلمنا بالوراثة كأنها كل شيء؛ لأن حتمية الوراثة تعني في النهاية الإيمان بالقدر الذي لا يمكن إنسانا أن يغيره.
إننا لن نغير موروثنا المقدر لنا، هذا هو إيمان المتشائمين.
ولكن المتفائلين يقولون: إننا نتغير إلى أحسن، ونرتقي، إذا كان وسطنا راقيا يعلمنا ويهذبنا وينير عقولنا ويقوي صحتنا.
والمتفائل لذلك اشتراكي، ارتقائي، إنساني، يؤمن بالمساواة بين الشعوب، وبمساواة المرأة للرجل، وبالمستقبل الذي سينهض على العلم، ولا يسلم بأن الأسود دون الأبيض في الكفاءات؛ لأن كل ما هناك من فرق أن الأبيض وجد وسطا حسنا فارتقى به في حين وجد الأسود وسطا سيئا فانحط به. •••
وفي الأدب متشائمون ومتفائلون أيضا؛ أي محافظون واشتراكيون.
الأدب المحافظ ، الأدب المتشائم، هو أدب الجمود والتقاليد، وكراهة التغيير، وكراهة المرأة، والخوف من المستقبل، وهو الأدب الذي يجد المبررات للاستعمار وللتفاوت بين الطبقات.
والأدب الاشتراكي هو أدب التغير والتطور، والإيمان بالمستقبل، ومكافحة الفقر والجهل والمرض، ومكافحة الاستعمار والاستبداد.
هو أدب الشعب الذي يكتب بلغة الشعب.
ولننظر نظرة عاجلة في مسرحية «أهل الكهف» التي ألفها الأستاذ توفيق الحكيم كي نحكم: هل هي أدب متشائم أم أدب متفائل؟
فهذه المسرحية تنهض على أسطورة شاعت بين المسيحيين حوالي القرن الثالث، حين كان الرومان الوثنيون يضطهدونهم، وتتلخص في أن بعض المسيحيين فروا من الاضطهاد إلى كهف ناء واختبئوا فيه، ثم جاءت المعجزة، فإنهم كانوا ينوون قضاء ليلتهم، أو بعض الليالي، مختبئين، ثم يعودون إلى المدينة عندما تنحسر موجة الاضطهاد، ولكنهم ناموا نحو ثلاثمائة سنة وتسع سنوات، ثم استيقظوا وبعثوا أحدهم كي يشتري لهم طعاما من المدينة وهم جميعهم على توهم بأنهم لم يناموا غير ليلة واحدة، ولكن هذا المبعوث عاد يخبرهم بأن نقوده التي يحملها لشراء القوت لم تقبل؛ إذ إن هناك نقودا أخرى لها سكة أخرى، ثم يخرج الآخرون فيعرفون بعد عناء أنهم كانوا نياما، وأن النوم طال إلى نحو 50 أو 100 سنة، وأن الدنيا تغيرت، وهم لا يستطيعون أن يعيشوا في العصر الجديد؛ لأن ناس هذا العصر قد نشئوا على عادات وأفكار غير ما ألفوه في حياتهم، ولذلك آثروا الموت على الحياة، وعادوا إلى الكهف كي يموتوا.
وواضح أن القصة تشائمية، مع أن منطقها كان يدعو إلى التفاؤل، هنا مسيحيون تضطهدهم الوثنية، فيفرون إلى كهف للاختباء، ثم يستيقظون فيجدون أنهم قد حظوا بمعجزة؛ إذ ناموا نحو نصف قرن أو أكثر، ولكنهم بدلا من أن يفرحوا لأن الدنيا قد تغيرت وفق ما أرادوا، وأن الوثنية قد زالت وجاءت المسيحية - ديانتهم هم - مكانها، بدلا من أن يفرحوا بهذا الانتصار حزنوا لديانتهم، وآثروا الموت على الحياة؛ لأنهم وجدوا ناسا وعصرا غير ناسهم وعصرهم.
فأي سخف أكبر من هذا؟ هل ينتحر الإنسان؛ لأنه فقد ثروته وأصدقاءه ووسطه ؟!
أليس في انتصار الإيمان بالمسيحية على الإيمان بالوثنية ما يبرر بقاءه، بل فرحه؟ أليس في هذا الانتصار انتصار للشعب؟
ولكن الأستاذ توفيق الحكيم لم يذكر الشعب هنا، ولو ذكره لتفاءل له، وجعل القصة تنتهي بمهرجان الانتصار، انتصار الحياة، لم يذكر الشعب؛ لأنه ليس اشتراكيا متفائلا.
في هذه المسرحية لم يكن توفيق الحكيم إيجابيا؛ فإن رجاله لم يحلوا مشكلتهم إلا بالاعتكاف والانزواء، ثم الموت؛ أي ذلك الحل السلبي الذي يلجأ إليه العجزة الذين لا يفكرون، ثم هو آثر لهم الموت على الحياة، وكأنه قد صار داعية انتحار بدلا من أن يكون داعية حياة.
والنقد السليم للأدب هو النقد الاجتماعي، أي أن الناقد يسأل: ما هي قيمة هذا العمل الأدبي في المجتمع؟ هل هو يحض على الحياة والصحة والخير، أم يحض على الانتحار والمرض والشر؟
فهل دعا توفيق الحكيم في هذه المسرحية إلى الحياة؟
الجواب: لا، إنه دعا إلى الموت.
قصة
بين الكتمان والبوح
كان الأستاذ «س» يؤلف كتابا، وكان عنوان الفصل الذي كتبه في الصباح «الحب»، وصل إلى نقطة أحس فيها أن قلمه تجمد، وأن السلاسة التي كانت تجري فيها الكلمات قد تعقدت، وعاد يقرأ ما كتب:
يكاد الحب يكون غير طبيعي؛ لأن ما نجد في الطبيعة، في غير الإنسان، إنما هو الاشتهاء الجنسي فقط، أو حب الأم لأطفالها، ولكنها - أي الأم - تنسى هذا الحب عندما يكبر هؤلاء الأطفال.
أما حين نتحدث عن الحب بين البشر فإننا نتحدث عن سمة إنسانية، وصحيح أن هذه السمة قريبة من حب الأم لأطفالها بين الحيوان، ولكنها بالطبع أدوم؛ إذ هي تبقى طيلة الحياة، ولكنها، مثل حب الأم، بعيدة عن الاشتهاء الجنسي، بل يكاد يكون هناك تناقض بين الحب والاشتهاء، بحيث إذا زاد الأول نقص الثاني وإذا زاد الثاني نقص الأول، وما نجده من الجمع بينهما في الإنسان إنما هو فن وليس طبيعة.
ولذلك ليس من الخطأ أن نقول إن الحب هو فن من الفنون الجميلة لا يختلف عن الشعر والرسم والنحت، ففي جميع هذه الفنون نجد أن الفنان يستنبط المعاني ويفطن إلي اللمحات، ويحاول أن يجسم الومضات، وكذلك شأن المحب، فإنه يجد في حبيبه أو حبيبته من المعاني إلهاما، ومن الإحساس جمالا، وهو يرى الرؤى، ويحلم الأحلام عن هذه الشخصية التي يحبها، ولذلك كثيرا ما يكون الحب موضوع الشعر أو الرسم، بل هو أسمى الموضوعات لهذه الفنون؛ إذ هو يجمعها كلها للتعبير عن حالاته.
والذي يجعل الناس يلتبس عليهم الحب فيحسبونه اشتهاء جنسيا أنه يقع مدة الشباب، ولكن إذا تأملنا، وعرفنا أن الجمال - وهو موضوع الحب - إنما يبلغ ذروته في الشباب، فإننا نستطيع عندئذ أن نعلل هذا التطابق بين الشباب والحب؛ إذ هو في الأصل تطابق بين الجمال والحب.
وليس في الدنيا أجمل أو أطرب من الحب: شخصان يتحابان فيحس كل منهما أنه رفيق الروح ومختار القدر وشريك العيش، ومهما تراكمت المحن فإنها تهون عندما يعرف المحب أن هناك شخصا آخر على هذه الدنيا يشاركه في إحساسه ويفكر فيه ويرصد قلبه له.
ولذلك يجب أن ندرس الحب لشبابنا كما ندرس الرسم أو الشعر أو النحت، ونعين فصول هذه الدراسة في بحوث مختلفة تلتف موضوعاتها حول شخصين محبين، كيف يعيشان في جمال وارتقاء وتعاون، بحيث تسير حياتهما في إيقاع كما لو كانت رقصا أو لحنا حتى لا يموت الحب ...
وهنا وقف القلم، بل تجمد.
فإنه كان يريد أن يتناول الرقص وعلاقته بالحب، ولكنه تذكر جمهور القراء الذين يكتب لهم، إنهم شرقيون قد عرفوا الرقص الداعر، وهم ينفرون منه، ثم لم يعرفوا غيره، وتذكر الناقدين البذيئين؛ فقد نشر له كتاب حديث، ولكن الناشر أصر على نزع فصل منه عن الرقص.
وضع القلم وشرع يستعيد كظومه الأدبية والفنية، فإنه قد وقف كثيرا في المآزق حين كان ينزع به أدبه إلى الفكرة الجليلة فيكظمها؛ لأنه كان يحس أنها تصطدم بعادات المجتمع الذي يعيش فيه أو بشبهات الناقدين.
وسمع نفسه وهو يقول: شرق وغرب، إنه شرقي مثل سائر مواطنيه، ولكنه ثار على الشرق عندما أيقن أن عاداته تعوق ارتقاءه ، ودعا إلى أن يأخذ الشرقيون بعادات الغربيين كي يقووا مثلهم، ولكنه لم يجن من هذه الدعوة غير الكراهية والنفور، وأحس التناقض العميق بينه وبين المجتمع، وهو تناقض كاد يفصل ما بينه وبين مواطنيه؛ فإن أسلوب حياته، وأهدافه الثقافية والسياسية والروحية، تنأى عن عادات مجتمعه، إنه ليخالف سائر الكتاب؛ إذ هو وإن كان يكتب باللغة العربية، فإنه يفكر تفكيرا أوروبيا.
وكان أعظم ما يقطع كالسكين في كيانه النفسي أنه كان يضطر إلى التلفيق، أو - كما يقول غيره - «التوفيق»، فإنه هنا وقف لا يعرف كيف يكتب، كأن هاتفا اجتماعيا قد هتف به: «لا تكتب عن الرقص، دع هذا الموضوع، لا تقربه، أو قل بضع كلمات لا تغني ولا تتورط فيها»، ولكنه عجز أن يصالح نفسه على هذا التلفيق.
وكانت دراساته السيكلوجية قد غرست فيه الاقتناع بأن الكظم هو أساس التعب النفسي عامة، ثم الجنون والشذوذ، فقال: ولكن هذا الكظم الأدبي سيقتلني وسيقضي علي، لا أستطيع أن أكتب ما أريد، هذا هو السبب في أن كثيرين من المؤلفين يجنون، يريدون أن يقولوا ويبوحوا فلا يقدرون.
والواقع أنه كان منذ بداية الصيف، بحره وغباره وعرقه، يحس ضيقا لا يطيقه، وكانت الصعوبات الصغيرة تستحيل عنده في هذه الظروف إلى مشكلات كبيرة، حتى ضوضاء الشارع التي كان يحبها، ويجد في نداءات البياعين الجوالين ترانيم حلوة، قد أصبح لا يطيقها.
ومضت عليه مدة تقارب الشهر وهو عاجز عن التأليف، يكره رؤية مكتبته، أو تناول القلم، أو التفكير في كتابه.
لقد وقف عندما شرع يكتب عن علاقة الحب بالرقص، وكان الناشر ينتظر، ويسأل، ويلحف كل يوم لإتمام الكتاب.
ولكن بينه وبين إتمام الكتاب مدة كأنها غصة تخنقه.
وكان له صديق طبيب سيكلوجي يدعى الدكتور «ص» فاستعان به، ولم يمض ربع ساعة على طلبه بالتليفون حتى كان عنده.
وكان الأستاذ «س» في انهيار على سريره، وكانت توتراته واضحة، حتى إنه لم يحسن استقبال صديقه الدكتور «ص»، بل إنه أحس بعداء نحوه لم يفهم معناه، وقال له في خشونة: اسمع ، لا تقل لي «مركب أوديب»، ولا تذكر «شهوة الموت»، ولا تذكر «الكظم الجنسي»، ولا تسألني عن أحلامي؛ فإني لا أحلم، كل ما أشكوه أني عاجز عن الكتابة لا أعرف كيف أكتب.
وضحك الدكتور «ص»، وجعل يتجسس على طريقة فرويد، ويمازح، ويضاحك، وكانا صديقين قديمين، فلم يتمالك المؤلف المريض أن ضحك معه ... وقال الدكتور «ص» وهو يمزح: لعلك تحتاج إلى حب جديد ...
وبعد أن توالت زيارات الدكتور «ص» نصح له بأن يترك البيت إلى فندق بالإسكندرية، يقضي هناك نحو شهر لتأليف الكتاب.
فقال الأستاذ «س»: أي كتاب؟ أنا لا أستطيع أن أعود إلى التأليف، أنا مجمد! فقال الدكتور «ص»: أعتقد أنك تضع عنوانا لكتابك هذا «عقدتي» تشرح فيه موقفك من الثقافة العصرية في مصر؛ فأنت تعرف أنك لا تنساق فيها، وأنك تناقضها كما تناقض مجتمعك وتحاول أن تغيره، ومن حقك أن توضح الفروق التي تفصل بينك وبين المجتمع والثقافة السائدة فيه، فهنا بوح لك يفرج عنك كظومك، واعترافات ترتاح إليها نفسك، وشكاية تبثها، وأيضا هنا دفاع عن موقفك، وتنوير للقراء، فإن كل ما تعانيه أنك تكظم ولا تبوح، أنت في صراع بين أن تنطق وبين أن تصمت، وهو صراع قد شل قلمك وأوجد حبسة في ذهنك.
فأجاب: هذا والله هو ما يجب، ولكني غير قادر على أن أبوح، ومن هنا كظمي وعجزي.
فقال الدكتور «ص»: أنت تبالغ حين تعتقد أن الجمهور يكره آراءك، وظني أن جمهور قرائك الذين يعرفون إخلاصك سيقبلون كلماتك بنفس الإخلاص الذي تجد إلهامه أنت حين تكتب.
فقال الأستاذ «س»: تنقصني الشجاعة.
فقال الدكتور «ص»: هذا واجبك لنفسك كي تشفى من عقدتك، وإضرابك من مواجهة المشكلة لن يزيلها، وهذا واجبك للشعب الذي تخدمه كي يعرف الحقائق، وهو حر بعد ذلك في قبولها أو رفضها، وهو حين يرفض ينقلك من الشك إلى اليقين، وهنا راحة؛ لأن اليأس خير من الشك.
ونهض في فراشه، وكان مستلقيا، وأحس دبيب الانفراج يسري في قلبه، وقال: نعم، سأؤجل كتابي عن الحب، وسأشرع في نفض توتراتي جميعها، سأنفضها بغبارها، وسأقول: لماذا لا يمكنني، بل لا يمكن أي كاتب في مصر أن يؤلف كتابا حسنا؛ ذلك لأنه ليس حرا فيما يريد تأليفه، وليست الحكومة بقوانينها هي وحدها علة هذه الحال، بل المجتمع هو العلة الأصلية؛ لأنه بعاداته يعوق التفكير الحر والرأي الجديد، وسيكون كتابي هذا اعترافاتي التي يفيض بها قلبي.
ثم صمت، وقال: ليس المجتمع هو العائق، وإنما هم النقاد الجهلة؛ لأن الجمهور يعرف ويقدر الإخلاص في كتابه.
وجمع الأستاذ «س» حاجاته وسافر إلى الإسكندرية، وهناك في فندق ناء على الرمل شرع يستجم، ويستلقي على ظهره في السرير في حضانة ذهنية لمؤلفه الجديد.
وجعل يهب من وقت لآخر إلى المنضدة الصغيرة فيدون كلمات على ورقة، ثم يهب فيمزقها ويكتب غيرها، وكان بعض العناوين التي كتبها: «لماذا تفشل العائلة؟» و«نحن صغار فكيف نكبر وننضج؟» و«نحن أقدم من القدماء»، و«مصر بعد مائة سنة»، و«لا تخنقوا المفكرين المقلقين»، و«كلمة عن ابن حزم والحب».
وكتب نحو عشرين عنوانا، وشرع يؤلف كتابه في حماسة وسرعة لم يعهد مثلهما من قبل.
وظهر الكتاب، وكان مليئا بالاعترافات، وقرأه الجمهور في لهفة، وتقبله الناقدون في سباب وبذاء، وعرف المؤلف أن توتراته كانت من اعتقاده المخطئ عن الجمود الذي كان يصف به الجمهور.
وعاد في حماسة وانبساط إلى إتمام كتابه عن الحب، واستطاع أن يكمل الفصل الذي كان قد أحدث له العقدة والغصة.
وظهر كتاب «الحب» فأقبل عليه الجمهور الذي يقدر الصراحة والأمانة فيمن يخدمونه، وحمل عليه النقاد بالسباب والبذاء؛ لأنهم مثقلون بمركبات لغوية وأدبية وفنية تحول بينهم وبين التفكير العصري الناضج.
الحركة الرومانتية الزاحفة
لا يزال يعاني الأدب العربي الحديث مرضا أصيلا، هو أنه اتباعي وليس ابتداعيا، أو - بالتعبير الأوروبي - هو كلاسي وليس رومانتيا، ولكنه يوشك أن يشفى من هذا المرض.
الأدب الاتباعي، الكلاسي، هو ذلك الذي «يتبع» ولا يبتدع، فهو يأخذ بأساليب القدماء وينزل على قواعدهم اللغوية والنحوية، ويستعيد صورهم وطرزهم الأدبية، ويلتزم تقاليدهم في القيم الأخلاقية والفنية ، هو أدب خاص يؤلف للخاصة الناعمة أو الجامدة.
الأدب الابتداعي هو الأدب «يبتدع» ويقتحم، ولا يبالي أن يغير في القواعد والقيم والصور والطرز، وهو أدب عام يؤلف للعامة؛ أي للشعب، وهو لذلك أدب ثائر على الأوضاع القديمة التي كانت تنكر حقوق الشعب.
ولنبدأ من البداية، فيما بين 1750 و1850 نجد في أوروبا حركة بل حركات اجتماعية وسياسية وأدبية، وجميعها صور مختلفة لنزعة واحدة، هي النزعة الرومانتية.
وكلمة رومانتية تشتق عن أصل لاتيني، وتعني العامة، أي عامة الشعب الجهلاء الفقراء، وليس خاصته الذين تعلموا اللغة اللاتينية (الفصحى) وعاشوا في ثراء.
ونحن نجد في هذه المائة من السنين، التي تقع بين منتصف القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، أحداثا يحدث كل منها في ميدان يوهمنا البعد عن الآخر، ولكنه عند التأمل يتضح لنا أنه مرتبط به.
ففي الميدان السياسي نجد طرد الملوك الطغاة وتحطيم العروش وإيجاد النظم الجمهورية والبرلمانات الشعبية، بل نجد الأحزاب العصرية والحركات الشعبية، ففي هذه المدة مثلا ظهر «روبرت أوين» مخترع نظام التعاون وواضع كلمة الاشتراكية الأوروبية، كما نجد انهيار النظم الإقطاعية في أوروبا.
وفي الميدان الاجتماعي نجد المدينة تأخذ مكان القرية الإقطاعية، ونجد المصنع يجذب إليه العمال من الريف ويمسح من عقولهم العقلية الريفية الساذجة، بل يجذب أيضا الفتيات ويجعلهن يعتمدن على كسب أذرعهن فيفهمن معنى الاستقلال الشخصي، ثم معنى الحب، أي لا زواج بلا حب.
ثم في الميدان الأدبي نجد أنه بزوال الإقطاعيين والملوك والأمراء، وبزوال العقل الريفي الذي يلتزم التقاليد، وأيضا بظهور طبقة جديدة هي الطبقة المتوسطة القارئة، بزوال أولئك وظهور هؤلاء نجد النزعة الرومانتية والأدب.
أي الأدب للشعب، بلغة الشعب وهموم الشعب، مع الإكبار من شأن الحب، وظهور القصة، والحملات المنظمة على المظالم السياسية والاقتصادية، والاتجاه الاشتراكي، والجرأة على التقاليد والاستبدال فيها ... إلخ، ثم ظهر رومانتيون كثيرون يعبرون عن هذه النزعة، ولكن الكاتب الذي تبلورت فيه هذه النزعة هو «جان جاك روسو»؛ ولذلك تكفينا الإشارة إلى بعض كلماته وآرائه كي نعرف ماهية الرومانتية.
وأول ما نذكر أنه هو صاحب شعار الثورة الفرنسية: «الحرية والإخاء والمساواة»، وهي كلمات شعبية ترفض التسليم بإيجاد خاصة وعامة؛ إذ كيف تمكن المساواة والإخاء مع وجودهما؟
ثم هو داعية الحب على طريقة ابن حزم الأندلسي، وعاطفة الحب هي أحسن العواطف وأشرفها، وهي تضع القلب فوق العقل.
ومن أعظم سمات الحركة الرومانتية الاعتماد على الإحساس دون المنطق، أي إحساس القلب بدلا من منطق العقل، ولذلك يغمر الحب هذه الحركة كلها، ومن سماتها أيضا تعليل المساوئ البشرية بسوء النظام الاجتماعي، وأن الإنسان طيب بطبيعته سيئ بمجتمعه، ولذلك نزع روسو إلى الطيبة حتى قيل عنه إنه استطاع أن ينقل الإحساس المسيحي عن الكنيسة إلى الطبيعة التي وجد فيها حنانا وجمالا وعدلا لم يجد مثلها في المجتمعات المتمدنة.
وظهرت حركات اجتماعية كثيرة هي ثمرة هذا التفكير الرومانتى؛ فإن حركة الرواد، والتجوال في الريف، والاصطياف على الشواطئ، هي ثمرة رومانتية لأفكار روسو وغيره من طرازه، وكذلك إلغاء الضرب في المدارس، وتعذيب المسجونين، بل إلغاء التعذيب للمجانين، وأحيانا إلغاء عقوبات الإعدام، كل هذا بعض ثمرات الحركة الرومانتية.
بل الرأفة بالحيوان هي أيضا إحدى هذه الثمرات.
وأخيرا الحب للعامة؛ فإن العامة، الرعاع، الغوغاء، قد ارتفعوا إلى مقام الشعب عند الرومانتيين الذين تغنوا بسذاجتهم وجمال أقاويلهم وطهارة نفوسهم، وهذا ما ينتظر؛ لأنهم كانوا ثائرين على الخاصة في السياسة والأدب والاجتماع.
وحياة روسو رومانتية تحفل بكلمة «ضد» ...
هو ضد تقاليد الزواج التي كانت تحفل بالقيود.
هو ضد تقاليد المجتمع التي كانت تقر التفاوت العظيم بين الثراء الفاحش والفقر الفاحش.
وهو ضد تقاليد الأدب التي كانت تعتمد على أساليب القدماء وحفظ اللغة اللاتينية.
وهو ضد الحضارة التي زيفت الحقوق الإنسانية ومنحت الامتيازات للنبلاء.
وهو يؤثر أن نكون ابتداعيين ضالين من أن نكون اتباعيين راشدين، بل هو يعتقد أن كل ما سبقه من الحضارة والأخلاق والاجتماع كان مظالم منظمة، وأننا يجب أن نبدأ ونبتدع ونخترع، وأخيرا هو صاحب الأكذوبة العظمى «العقد الاجتماعي»، وهي أكذوبة باطلة، ولكنها تمخضت فولدت حقا للشعب، وهو ألا يحكم الشعب إلا بإرادته، وليس بإرادة الملوك.
ماذا عندنا من الحركة الرومانتية في مصر؟
لقد ظهرت الحركة الرومانتية في أوروبا بظهور الطبقة المتوسطة؛ أي بظهور طبقة تحس أنها كانت مظلومة بحكم اللوردات والكونتات؛ أي الباشوات الأوروبيين، وأن تاريخها الماضي هو تاريخ المظالم التي أوقعت بأفرادها، فلما حطمت النظم الإقطاعية كان من المنطق أن تحطم الثقافة الإقطاعية، وأن تكره التقاليد التي كانت تجعل أبناء الطبقة المتوسطة عبيدا للخاصة، وأن تكافح للمستقبل وتعتمد على لغة الشعب.
لغة روسو هي لغة الشعب.
وقد ظهرت في مصر طبقة متوسطة، وهي ليست كبيرة، ولكن أثرها واضح، فإنها هي التي حطمت عرش فاروق، وظهرت إلى جانبها، بل قبلها، حركة صناعية مبتدئة جذبت عمالنا الريفيين وآلافا من فتياتنا العاملات إلى المصانع وأكسبتهم عقلية جديدة.
وهؤلاء هم الشعب الجديد الذي يفكر في المستقبل.
وبخروج المرأة من الحجاب إلى السفور، ثم إلى العمل والكسب، ازداد الشعب إحساسا بالحريات السياسية والاجتماعية.
وظهرت القصة في الأدب المصري الحديث، والمتأمل للقصة المصرية العصرية يجد فيها قصة أبناء الطبقة المتوسطة، وقل أن تتجه نحو العمال، ولا تكاد تعرف الباشوات والبكوات.
إن الطبقة الجديدة، الطبقة المتوسطة في مصر، هي التي أوجدت القصة المصرية.
وقد تألم كتاب القصة؛ لأني لمتهم على التقصير في الإتقان الفني، ولكني أنتهز هذه الفرصة الآن لأن أقول إن لكتاب القصة أكبر الفضل.
لقد جعلوا الحب كلمة مألوفة وفكرة مألوفة في أمة كانت تقاطع الحب، وأكسبوا مصر بذلك سعادة جديدة، ووثبوا بنا إلى المستقبل الحر.
لقد كنا نتزوج قبلا بلا حب في نظمنا الإقطاعية الماضية، وكنا نسأل قبل الزواج عما تملك الفتاة أو ينتظر أن تملك من فدادين أبيها الإقطاعية!
أما الآن فإن شبابنا وفتياتنا يسألون عن الحب وينتظرونه، وهم بذلك يحيون الحياة الصالحة، حياة السعادة، وكثير من هذا التطور يعود الفضل فيه إلى تفشي قصص الحب بيننا.
والقصة هي حركة رومانتية ابتداعية ثائرة على تقاليدنا القديمة، وهي تنبع من إحساس الشعب (والطبقة المتوسطة منه) وليس من إحساس الخاصة.
وكما أن كلمة (رومانتية ) تعني العامية، فإن دعاة القصة في مصر قد دعوا أيضا إلى اللغة العامية، كأنهم يريدون أن يلتزموا حرفية الكلمة.
إن الرومانتية هي الفضيلة الذهنية الأولى لكل أدب جديد.
وليس شك أن أدبنا يخاطب الآن أبناء الطبقة المتوسطة؛ لأن العامة لم تتعلم، فليس عندنا منها مؤلفون، وإن يكن عندنا منها بعض القارئين، ولكن رويدا رويدا يتعلم الشعب، رويدا رويدا ينزل المؤلفون القصصيون إلى العامة، بل لقد نزلوا أو نزل عدد منهم.
إنهم مؤلفون عاميون؛ أي رومانتيون، قد أخذوا بحرفية الكلمة، أليست رومانتية تعني عامية؟
وهم مضطرون، بحكم نزعتهم الرومانتية، إلى أن يسيروا في أنحائها وإلى أمدائها البعيدة مع الشعب، وعلى الدوام مع الشعب، وهذا هو ما لم يعرفه قط الأدب القديم، كما لا يعرفه دعاة الأدب الاتباعي؛ إذ هم - في صميمهم - قدامى أيضا يدافعون عن القديم. •••
نحن نعالج في أيامنا هذه انتقالا اجتماعيا من المجتمع الإقطاعي إلى مجتمع الطبقة المتوسطة، مجتمع التجاريين والصناعيين والموظفين والمهنيين الأحرار (مثل الأطباء والمحامين والمعلمين ... إلخ)، والنساء العاملات.
وقد ألغينا العرش والباشوات والبكوات والإقطاعيين.
وفي الوقت نفسه اتجه الأدب نحو الشعب اتجاها رومانتيا - أي، كما قلنا، شعبيا - فظهرت القصة ودعت إلى الحب، وهذا أكبر خدمة قام بها نحو المجتمع المصري.
إن التحلل من القيود الاجتماعية الجامدة المتعسفة قد أحدث تحللا أيضا من القيود اللغوية والأدبية الجامدة المتعسفة.
ثم تفاعل الأدب الجديد مع المجتمع الجديد، الأدب يؤيد الثورة، والثورة تحفز الأدب إلى خدمة الشعب، وستقوى هذه النزعة في المستقبل كلما أحس الأدباء برسالتهم إزاء المجتمع.
وهي رسالة الخدمة للمجتمع، أي للإنسانية؛ إذ كيف نخدم الإنسانية إذا لم نخدم المجتمع، وأين نجدها؟
وهذا وضع جديد للأديب الذي لم يعد خادما يهرج ويسلي ويمدح ويقول النكتة؛ إذ هو الآن معلم ومرشد، هو إمام، هو نبي له رسالة.
أدب الاعتراف
حياة الكاتب خير مؤلفاته
ذلك أن الكاتب حين يؤلف قصة، أو يكتب مقالا، أو ينقد رأيا، أو يدعو إلى مذهب، إنما يصدر في كل ذلك - إذا أخلص - عن نفسه، وأبطال قصصه إنما هي تمثيل لبطولته هو، وفضائله ورذائله هو، وهو بالطبع يعمد إلى خياله كي يتعوض به مما كان ينقصه في حياته، أو هو يزيد وينقص في الحوادث كي يلائم بين ما يجب وبين مجرى القصة.
ولذلك قيل بحق إننا نترجم عن أنفسنا ونروي أحداث حياتنا في القصة الخيالية بأكثر صراحة مما نرويها في الترجمة الذاتية؛ ذلك لأن القصة، بما تنطوي عليه معانيها أمام القارئ والمؤلف معا، تعطينا من الحرية في القول ما لا تعطينا إياه الترجمة الذاتية، ولكن، ومع ذلك، نحن في حاجة إلى الترجمة الذاتية، وأدبنا العربي يحتاج إلى هذا الطراز من الاختبار الفني؛ إذ إن المؤلف، إذا كان على شيء من الجرأة يستطيع أن يقف عريانا أمام القراء، وإذا كان على حق في مواقفه الاجتماعية أو الإنسانية فإنه لا يبالي أن يعارض ويجابه خصومه ويبرز هذه المواقف العديدة التي وقفها في مجتمعه أو من أحداث العالم.
وما دامت الأحداث والمصادمات التي لقيها هي نفسها أيضا تلك التي لقيها القراء، فإنه، بالاعتراف، يزيد وجدان الدنيا لهم، وبذلك يزيد إحساسهم وذكاءهم وحملهم على النقد لأنفسهم وللمجتمع.
وحين تكون هناك ثورات أو انقلابات نحس الحاجة إلى الاستنارة بالوقوف على التفاصيل الخفية التي تغير بها الإحساس واتسع بها الوجدان، ومن هنا قيمة الاعترافات التي يدلي بها سياسي كابد الأحداث السياسية وكان على القمة يرى أكثر مما يرى غيره، ومن هنا شوقنا إلى قراءة ما يكتبه الساسة من ذكرياتهم، وقد لا يكون الكاتب هنا أديبا، ولكنه عندما يكون شجاعا ومخلصا يؤدي لنا باعترافاته خدمة عظمى في التنوير الاجتماعي كما قد يؤدي لنفسه توبة يتطهر بها من جرائمه التي ارتكبها عن عمد ووجدان أو عن سهو وغفلة.
وأكاد أقول إن حياة كل إنسان جديرة بأن تروى على حقائقها مهما يكن أسلوبها أو غايتها، فإن الرجل أو المرأة التي تحيا على هذه الدنيا سبعين أو ثمانين سنة جديران بأن يقصا علينا حياتهما في النجاح والخيبة، وأن يصفا لنا الأمل الأول واليأس الثاني ، وما لقيا من ارتباك وتوتر وانفراج، بل لعل الخائب هنا أقدر على تنويرنا من الناجح؛ لأنه، حين يقص علينا ظروف خيبته أو خيباته ويحلل أسبابها، إنما ينقل إلينا العوامل البانية والهادمة في تاريخ عصر أو في تاريخ إنسان، ولكن عبارة «يحلل أسبابها» تجعلني أقصر القدرة على الأديب أو المفكر أو العالم الاجتماعي أو الفيلسوف، ولكن هذا لا يعني أنه ليس هناك، حتى من العامة الذين لم يتعلموا، من لا يستطيع رواية الأحداث التي وقعت لهم في حياتهم، وقد ننتفع بجهلهم هذا حين نجد أثره في استصغار أو استكبار بعض الأحداث وفي معان من المعرفة أو من التعليم.
ولكن الأديب هو من يترجم بحياته؛ لأنه أقدر من غيره في التعبير، والقدرة على التعبير هي في النهاية قدرة على التحليل والتعليل والتأليف والبناء، وقد رأى أدباء مصر السواد والظلام في بلادهم، بل رأوا المظالم تترى، والنفاق والخسة والفسق تسير جميعها في ركاب مطهم، كما لو كانت فضائل عليا، بل لعلنا رأينا الجهل يكافأ كما لو كان نورا تحتاج إليه البلاد.
رأى الأدباء والساسة كل ذلك وأكثر منه، وعليهم لذلك دين يستحق الأداء للشعب؛ هو أن يعمدوا إلى أقلامهم ويرووا قصص هذا الظلام والسواد للعبرة والدلالة والمغزى.
والأديب المخلص لا يستطيع أن يخلص لقرائه إلا إذا أخلص لنفسه؛ لأنه بهذا الإخلاص لنفسه حالات من العيش والتفكير والأهداف والوسائل يؤمن بها ويمارسها، ولذلك يحاول أن يحمل غيره على الأخذ بها.
ولذلك خير ما يؤلف الأديب هو نفسه، هو شخصيته.
وحين نطالبه بالاعتراف إنما نطالبه بأن يرسم لنا هذه الشخصية، كيف صاغها؟ كيف اختار؟ كيف نجح أو لماذا خاب؟
أعتقد أن حياة جان جاك روسو التي وصفها لنا في كتابه «اعترافات» هي خير ما كتب في طراز الأدب هذا؛ فإنه تجرد من جميع الستائر التي كانت تستره ووقف عريانا يقول في صراحة: هذه هي رذائلي وكوارثي وخيباتي، وهذه هي فضائلي وحظوظي وإنجازاتي، ونحن نقبل عليه، ونصد عنه، في كثير مما يروي، ولكننا في النهاية نحبه ؛ لأنه أخلص للحياة، وعاش وفق ضميره، وجرؤ على أن يختار دون خوف من المجتمع الفاسد الذي كان يعيش فيه.
وقصة الحياة ليست، عند الأديب، رواية ما وقع له من حوادث ومصادمات أو حظوظ فقط، وإنما هي وقع كل ذلك في نفسه، أي، بكلمة أخرى، هي الإحساسات والرجوع والاستجابات التي تلقاها بها.
ولأن روسو كان مخلصا في رواية حياته، فإننا نرى فيه سيرة شخص هي سيرة أمة كاملة بما فيها من أهواء ومفاسد واتجاهات ومفاخر، ومع أنه قد مضى على تأليفه لهذه السيرة قرابة مائتي سنة فإننا ما زلنا نقرؤها ونقف عند سطورها نتأمل ذكاءه وجراءته، ونعجب بالاستقلال الروحي الذي نقله هذا المسيحي من الإنجيل إلى الطبيعة، وحين أحب، وحين بغض، وحين تعلم، وحين علم، وحين قال: أؤمن، وحين قال: لا أؤمن ...
ألسنا هنا نجد إنسانا؟
وإنسان آخر كتب ترجمته الذاتية، هو مكسيم جوركي.
فقد نشأ هذا الإنسان العظيم في بيئة منتنة تكفي لتخريج مائة مجرم؛ إذ كان أعضاء أسرته، وأعني الأسرة لا العائلة، أعني الأعمام والأخوال والآباء والجدود، كان أعضاء الأسرة هؤلاء أدنياء أخساء، يتسولون ويسرقون ويقتلون، ولم يكن بينهم غير جدته التي رأى فيها الخير فأحبها، وأحب الخير، وعاش للخير.
وعاش في طفولته وصباه في الظلام والسواد اللذين عشنا في مثلهما تحت طغيان أسرة محمد علي، وكانت أسرة رومانوف في روسيا لا تختلف خسة ودناءة عن أسرة محمد علي في مصر.
وقد توج فسادها راسبوتين، وكانت روسيا تعرف الجوع والعري كما عرفناهما، وكانت تعرف الجهل والدعارة والفقر يستغلها جميعها الأقوياء الطغاة كي يتفوقوا.
وتعلم مكسيم جوركي، أي علم نفسه.
علم نفسه في عدة جامعات: في المخبز يعجن ويخبز، وفي الباخرة يمتهن أقذر أعمالها، وفي المتجر والمصنع، وفي خدمة البيوت والمكاتب وتصعلك وتسكع.
أي إنه رأى الدنيا رؤية خطرة.
ذلك أنه كان على جرف الهاوية التي كان يمكن أن تجره إلى حبل المشنقة أو سيبيريا المؤبدة، ولكنها رفعته إلى قمة العبقرية؛ لأنه أحب الناس فاهتم بشئونهم وكتب عنهم.
وليست العبقرية شيئا آخر سوى هذا الحب، ثم هذا الاهتمام الذي يحملنا على الدرس والتفكير والبحث والتأليف، والكاتب الذي لا يهتم بالمجتمع الذي يعيش فيه لا يمكنه أن يحس ما فيه من فقر وبؤس وحرمان وجهل، ولذلك لا يمكنه أن يكتب عن هذا المجتمع، بل هو يفر منه إلى موضوعات أخرى لا تمس مجتمعه، وتذهب عندئذ طاقته الأدبية ضياعا وهباء في بحث موضوعات لا تمت إلى عصرنا بصلة، بل هو ينتهي بأن ينفصل ذهنيا وجسميا وماديا عن مجتمعه حتى ليقطن في حي لا يعرفه 999 في الألف من الشعب الذي ينتمي إليه.
لقد تفوق على المجتمع، وانفصل منه.
لقد اختار جان جاك روسو الفقر عن إرادة ووجدان حتى يبقى متصلا بالشعب، وكذلك فعل مكسيم جوركي، وكلاهما بذلك أكسبنا إحساسا جديدا، واستطلاعا جديدا، ونظرة ونبرة جديدتين، أي أعطانا كلاهما حياة جديدة.
إن الأديب يخلق طرازا جديدا من الحياة؛ لأنه، بما يؤلف، يغير النظرة والنبرة للدنيا.
ولست أنكر أني أكره أشياء في حياة كثيرين ممن ألفوا تراجم حيواتهم، ولكني أنكر كذلك أشياء كثيرة في الدنيا والحياة، وحين أطلب الإخلاص من المؤلف لا أعني أن يزوق نفسه ويبدو لي نظيفا طاهرا جميلا؛ فإن الإخلاص يقضي علينا بأن نروي ما رأينا وما كابدنا من قذر ونجاسة وقبح.
ولكن شرطا واحدا يبقى؛ هو الإخلاص الذي يزكينا.
إن أدبنا في مصر والأقطار العربية يحتاج إلى الترجمة الذاتية، يؤلفها الناضجون الذين اختبروا الحلو وكابدوا المر، وعرفوا كيف يميزون وينصحون.
حياة الأديب جزء من أدبه
إذا كان الأدب اختيارا للألفاظ وترتيبا للمعاني، فهو صنعة فقط.
أما إذا كان حياة يحياها الأديب، وكفاحا لتحقيق الإنسانية والشرف، فهو عندئذ فن.
وأعظم الفنون في العالم هو فن الحياة.
والفرق بين الصنعة والفن أن الأولى مهارة واختصاص، أما الثاني فتعميم واستيعاب.
اعتبر النجار أو المنجد الذي يصنع أثاثنا، فإن كل ما يعرفه أحدهما ويمهر فيه هو الصنعة، ولكن الذي يعين الأذواق في الأثاث هو الفنان؛ لأنه ينظر النظرة الاستيعابية لطائفة من المعاني العائلية والاجتماعية والذوقية حين يعين لنا الأثاث.
وكثير ممن يسمون أدباء في العصور الماضية لا يمكن أن يوصفوا إلا بأنهم كانوا يحسنون الصنعة، أما الفن، أي النظرة الاستيعابية للحياة، وفلسفة العيش ومعاني الحرية والولاء للبشر، وتقديس الفكر ومكافحة الظلم، كل هذا وأكثر منه، مما تعده في أيامنا من الهموم الأولى للأديب، فلم يكونوا يعرفونه إلا في الأقل أو النادر مثل المعري والجاحظ الأديبين الملهمين.
وعلة ذلك أن الأديب في العصور الماضية كان يكتب للملوك أو الأمراء أو الأثرياء، فكان يحس أنه خادمهم، وأن عليه أن يسليهم ويرفه عنهم، أو يرصد حياته لتأليف القصائد في مديحهم كذبا ونفاقا.
وقد نسأل هنا: ألم يكن المتنبي أديبا عظيما؟
وجوابي: لا، لم يكن أديبا عظيما؛ ذلك أنه أرصد حياته، وهي أغلى ما يملك، كي يؤلف القصائد في مدح الأمراء والأثرياء، وأعظم منه في الأدب ألف مرة المعري، الذي أصر على أن يحيا حياته كما يمليها عليه ضميره، ولذلك تشع جميع قصائده إشعاعات الحرية والشرف والإنسانية.
كان المتنبي، في صنعة الأدب، يتفوق على المعري ألف مرة.
ولكن المعري كان يتفوق على المتنبي في فن الأدب مائة ألف مرة.
كان الأمير سيف الدولة موضوع المتنبي.
وكان البشر، الإنسانية، الشرف، الحرية، مكافحة الظلم، الإحساس الذكي نحو الشعب، موضوعات المعري.
ولو أن المتنبي والمعري كان يعيشان في عصرنا لكان الأول شاعر فاروق بلا حياء، ولكان الثاني داعية الإنسانية، يحارب الاستعمار ويكافح الاستبداد ويؤمن بالديمقراطية ويحطم الخرافات ويلقى الاضطهادات.
لقد كانت حياة المعري أدبا، وقد أوشك على أن يفقدها لإصراره على الحرية، وهذا هو الشأن في الأديب العصري.
فإن حياته هي مؤلفه الأول في الأدب.
وقد وصلنا في هذا القرن العشرين إلى مواقف بشرية جديدة برزت فيها الشعوب، فزاد الوجدان البشري عند الأديب، وصار يربأ بنفسه أن يكون خادما لملك أو أمير أو وزير، يسليه ويرفه عنه، أو يملقه ويثني عليه؛ ذلك لأن المشكلات البشرية الجديدة، السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية، قد ألهمته تبعات ثقيلة جديدة، فهو يجد نفسه كالمعري، ولكن في فهم أكبر ووجدان أعمق، مع الشعب، وأدبه هو أدب الكفاح الشعبي.
ولذلك فإن حياته أيضا هي حياة الكفاح، هي أدب.
لقد ألف أميل زولا عشرات القصص الرائعة، ولكن أروع ما ألفه هو حياته حين هب يناهض الظلم ويكافح الإجرام.
وألف فكتور هيجو عشرات ومئات القصائد، ولكن خير ما ألف هو حياته التي أرصدها لمكافحة الطاغية نابليون الثالث.
ومن هنا هذه الظاهرة الجديدة؛ وهي الترجمة الذاتية؛ فإن الأديب الذي وقف في صف الشعب، وأحس إحساسه، ووجد وجدانه، وكافح كفاحه، يؤلف كتابا عن تاريخ حياته؛ لأنه يجد فيها رمزا للمشكلات العديدة التي حاول أن يحملها، وهو حين يكتب تاريخ حياته إنما يرمي من ذلك إلى بعث الحوافز للشباب، وزيادة وجدانهم وإشعال شرارة المستقبل في نفوسهم، حتى يؤلف كل منهم حياته أحسن التأليف وأروعه.
إني أجد أن كثيرا من الالتباسات التي تنشأ بيني وبين من لا يروقهم نقدي أنهم يتحدثون عن الصنعة ويعجبون بها حين أتحدث أنا عن الفن؛ ولذلك يبرزون بيتا أو أبياتا من الشعر ويتحدونني بها من حيث جمالها أو حلاوتها، في حين أنا أنظر إلى الشاعر كله، حياته وعمله، وأقدر مكانته ودلالته منهما في الأدب.
ألم يفطن هؤلاء إلى أننا اخترعنا كلمة «فن» كي نعبر بها عن معنى لم يعرفه القدامى؟
لقد كان هؤلاء يصفون الشاعر بجودة الصنعة، ولكن هذا الوصف لم يعد يرضينا؛ لأننا نجد أن هذه الجودة تنصب على الكلمات والمعاني في البيت أو البيتين، أما الشاعر ومذهبه، وما له من نظرة ونبرة في الحياة، فلم يكن عندهم أي اهتمام بهما.
بل لقد وصلت إلي خطابات بهذا المعنى: ما قيمة حياة الشاعر في أدبه أو شعره؟
وردي الساذج هو: ما قيمة أي شيء في الدنيا، أي شيء إطلاقا، إذا لم تكن هذه القيمة مقدرة بمقاييس الحياة؟ إذ هل لنا مقاييس أخرى؟
لما بلغ «جيته» سن الثلاثين تأمل في ماضيه ثم فكر في مستقبله وكتب هذه الكلمات التالية:
إن الرغبة في أن أبني هرم وجودي، بعد أن أرسيت أساسه، وأن أرتفع به إلى أعلى ما أستطيع في الفضاء، هذه الرغبة تستولي على سائر رغباتي ولا تكاد تخلي عني، ولذلك لا أجرؤ على التأخير؛ فقد تقدمت بي السن، وليس بعيدا أن يفاجئني الموت وأنا في غمرة عملي دون أن أتم البناء لبرج بابل، وعلى كل فإني إذا مت فإن الناس سيذكرون التخطيطات الجريئة للبناء، وإذا لم أمت فإني - بمشيئة الله - سأتم البناء.
هذه الكلمات التي كتبها جيته هي إحدى محاولاته العديدة لتجديد حياته التي وصفها بأنها هرم، ثم بأنها برج بابل، بل هو لم يعبأ بأن يموت قبل أن يتم الهرم أو البرج؛ لأنه أحس أن الناس سوف يعجبون به؛ لأنه وضع «التخطيطات» أو كما نقول «التصميمات» للبناء.
ونحس ونحن نقرأ تاريخ حياته أنه تناول هذه الحياة كما لو كانت عجينة يجبلها من وقت لآخر في أشكالها المختلفة، فكان يفر من أصدقائه كي يتوفر على الدرس إلى بيت في الخلاء، بل لقد فر إلى إيطاليا، وكان يؤلف القصائد، ويدرس في الوقت نفسه تشريح الحيوان والإنسان، ويقارن بين النباتات، ويجمع الأحجار الدفينة كي يعرف تاريخها الجيولوجي، وإلى هذا النشاط كان يؤدي أعمالا وزارية وإدارية وجامعية ومسرحية.
أراد جيته وهو في الثلاثين أن يرتقي، وأن يخرج من أسر الشهوات التي استبدت به وقتا ما إلى منطق العقل، فوضع لحياته القادمة برنامجا، حتى لا يعيش جزافا أو سدى، ومنذ تلك السن وحياته مليئة بالنشاط، يختبر ويدرس، ويستمتع ويسيح، ويحب ويخدم، ويقرأ ويؤلف إلى أن بلغ الثالثة والثمانين.
وجمهور القراء يعرفون أن جيته أديب وشاعر، ولكنه هو كان يعرف أن حياته أغلى وأثمن من أن يستوعبها الأدب فقط، ولذلك كتب يقول في شيخوخته:
لقد عرف عني، منذ نصف قرن في بلادي وخارج بلادي، أني شاعر، وليس هناك من ينكر علي هذه الهبة، ولكن ليس من المعروف عامة، كما ليس هناك من قدروا، أني اهتممت بجد وعناية مدة سنين عديدة بظواهر الطبيعة المادية والفسيولوجية، وأني أكببت على دراستها في مثابرة كانت تمليها علي حماستي، حتى إني عندما أخرجت رسالتي عن تطور النباتات، قبل أربعين سنة، اهتم بها العلميون في سويسرا وفرنسا ولم يبد منهم ما يدل على الدهشة من أن شاعرا قد ند عن طريقه واستطاع أن يهبط على اكتشاف خطير، وقد كتبت تاريخ دراساتي كي أنقض هذا الرأي الشائع عني، وهو أني شاعر فقط، وكي أوضح أني أرصدت جزءا كبيرا من حياتي لدراسة التاريخ الطبيعي الذي أغرمت به.
وهو يقول أيضا:
إن من يعرفون السحر الذي نحسه عندما نكشف عن أسرار الطبيعة لا يستغربون خروجي من الدائرة التي بقيت إلى الآن داخل نطاقها، وأني ألقيت بنفسي في طرب وحب في دائرة جديدة، ولست أخشى لوما من أولئك الذين يجدونني متناقضا؛ لأني تركت التأمل في القلب البشري، بالشعر، إلى التأمل في الطبيعة، بالعلم؛ إذ لا بد من التسليم بأن هناك علاقة حسية بين جميع الأشياء، وأن العقل المستطلع السائل لا يرضى بأن يحرم البحث فيما يمكن بحثه.
ومع أن جيته وجد من عيره بالاتجاه نحو العلوم إلى جانب اختصاصه بالآداب، فإنه لم يعبأ بهذا التعيير، بل لم يبال بقول «هيردر» عنه إنه يشغل نفسه بدراسة الخضروات والأحجار.
ذلك أن الهم الأول عند جيته كان ارتقاءه، وقد انتهى إلى أن هذا الارتقاء يجب أن يكون استيعابيا، يحوي كل شيء مستطاع من خبرة إلى دراسة، ومن أدب إلى علم، ومن هنا قوله: شخصيتي أكبر من فني.
بل إنه لم يتكبر على أن يقول إنه أخطأ، وإنه ألف مؤلفات سيئة يخجل منها، وكان من هذه المؤلفات قصته العاطفية المشهورة «آلام فرتر»، واعترافه بالخطأ هو إرادة جديدة للرقي.
وهنا يقول عنه المترجم بحياته هنري لويس: «لما عاد إلى فيمار تولاه الحزن؛ لأنه وجد كثيرا من الخطابات بشأن قصته «آلام فرتر»؛ وذلك لأنه عرف أنه قد ترجم العواطف المسرفة أو الكاذبة إلى أشعار، ولم يكن هناك ما هو أبغض إلى طبيعته السليمة من هذه الإحساسات التي جعلته يخجل من قصته هذه، بل إنه شرع يكافح هذا المذهب الفرتري.»
وهناك من القصص ما هو مخاطي خاثر، ينزع بقارئه إلى الضعف والميوعة، مثل أحزان أو آلام فرتر، ومن هنا استنكار مؤلفها لها.
ويستطيع القارئ لحياة جيته أن يستخرج منها العشرات من العبر، أولها وأعظمها عزيمة الارتقاء التي لا تهن، فإنه كان سريعا إلى تغيير دراساته، كما كان مكبا على الاختبارات التي يستمتع بها أو ينتفع، وشعاره في كل ذلك: الارتقاء.
والعبرة الثانية أنه فطن إلى أن الحياة كل يستوعب، وليست جزءا تتخصص فيه؛ ولذلك هو لا يبالي أن يعيره «هردر» بأنه ترك الأدب كي يدرس الخضروات والأحجار؛ لأنه وجد في العلم قيمة لم يجدها هيردر.
والعبرة الثالثة هي النضج؛ فإنه عندما رأى أن قصته آلام فرتر تجعل الشباب يحلمون ويهيمون في العواطف الكاذبة، سارع إلى الدعوة ضد ما ألفه وإلى أن العقل يجب أن يسود العاطفة.
والعبرة الرابعة أنه كان ينظر إلى الدنيا، بل حياته، النظرة الموضوعية، حتى لنجده في سن الثلاثين يضع التخطيطات لما سماه «هرم حياتي».
وفي كل هذا ما يجب علينا أن نعرفه ونحتذيه.
أي يجب أن نكبر فلا نترك حياتنا لغوا بلا دلالة، ويجب أن نقف من وقت لآخر تلك الوقفة التي وقفها جيته، يتأمل ماضيه ويستطلع مستقبله ثم يضع البرنامج.
وأخيرا يجب أن نستوعب الدنيا، بل الكون كله، في عقولنا حتى ننضج، وأن تكون لنا على الدوام إرادة الرقي التي كانت الميزة الأولى في حياة جيته.
لي أسلوبي الخاص
الأسلوب خاصة اجتماعية في الأكثر، وهو خاصة شخصية في الأقل، ولكن هذا الأقل هو الذي يميز بين كاتب وآخر.
ذلك أن زي الكتابة لا يختلف عن زي اللباس، فنحن نلبس كما يطالبنا المجتمع على وجه عام، ولكن لكل منا طابعه الخاص، وحريته في اختيار اللون والنسيج والقياس، وإن يكن كل هذا في الحدود الاجتماعية.
ثم المجتمع يشمل طوائف وطبقات تنتسب كل منها إلى صناعة أو حرفة، وهي، بهذا الانتساب، يشترك أفرادها في زي معين من اللباس، وكذلك في زي معين من اللغة أو أسلوب الكلام.
ومن السهل جدا أن نميز بين أسلوب التعبير عند العمال الذين يعملون في المصانع، وكذلك من السهل أن نميز بين أسلوب المحامين وبين أسلوب المهندسين.
وعندما نقول إن لكل طائفة أو طبقة أسلوبها الخاص في التعبير، إنما نقول إن لكل منها نظرة اجتماعية خاصة وعواطف وأفكارا خاصة واهتمامات خاصة.
وقد يقال إن الكتاب طائفة، وإنها يجب لذلك أن يكون لها أسلوب خاص ينبع من صناعتها، وهي الكتابة.
وهي إلى حد ما كذلك، ولكن الأسلوب الخاص هنا يتعين بحدود أخرى غير الانتساب إلى طائفة الكتابة؛ ذلك أن الكاتب ينتمي إلى طبقة معينة من الشعب دون الطبقات الأخرى، فهو يستلهم هذه الطبقة، فيحس إحساسها ويأخذ بعواطفها ويهدف إلى أهدافها، ويتأثر أسلوبه بكل ذلك.
وقد يكون هذا الانتساب بالفكرة والعاطفة وليس بالصناعة والحرفة، كالكاتب ينشأ في طبقة متوسطة أو ثرية ممتازة، ثم ينضوي إلى لواء الشعب، لا لأنه هو قد عاش عيشة الفقر التي يعيشها الشعب، ولكن لأنه نشأ على مركبات عائلية أو اجتماعية حملته على التأمل ثم على كراهة الظلم، فهو متمرد في عائلته ثم متمرد في مجتمعه.
اعتبر الطفل يكون أصغر إخوته، كلهم أقوى منه، وكلهم يسبه أو يضربه، أو اعتبر هذا الطفل يجد أبا قاسيا أو أخا أكبر متوحشا، فهو ثائر منذ طفولته، فإذا كبر نقل هذه الثورة العائلية إلى مجتمعه، فإذا وجد الفقراء المظلومين انضم إليهم وكافح معهم ملكا فاسقا أو وزيرا ماكرا أو حزبا محتالا.
فهو يطلب الحريات والحقوق للفقراء والمضطهدين؛ لأنه هو كان قد اضطهد في طفولته، ولذلك طابق بين إحساسه وإحساسهم.
ثم لعله هو، زيادة على ما لقي من عائلته، ينتمي إلى طائفة محرومة الحقوق، فإن تمرده هنا يزيد اشتعالا، وعندئذ تنبعث نفسه نحو النور أينما وجده، فهو ليس عدو الملك الظالم أو الوزير الفاجر أو الحزب الماكر فقط، وإنما هو أيضا عدو القرون الماضية التي حملت الظلم إلى عصره حتى قاساه، ولذلك هو يكافح الرجعية الراسبة كما يكافح الظلم المتوثب.
وهو إذا كان كاتبا وجد القدرة على التعبير والوسيلة إليه، وعندئذ يعود التفريج الشخصي عنده تفريجا عاما عن المضطهدين والمسحوقين.
وليس من الضروري، كما قلت، أن يكون الكاتب قد عاش واختبر بنفسه بعض الاضطهادات حتى يحتضن الحريات والحقوق من أجل الشعب كله؛ لأننا يمكن أن نعيش بأفكارنا وعواطفنا لوطأة ما يحيط بنا في غيرنا.
ولكني أعتقد مع ذلك أنه لا بد من ناخس قديم في الطفولة يغرس التمرد في التربة العائلية الأولى، ثم يجد هذا التمرد الغذاء في اضطهادات شعبية تنتقل إليها عواطف الطفولة من هذا الناخس القديم، أي لا بد من مرض أو جرح، حتى إذا صارت الكتابة حرفة، صارت الحقوق والحريات الشعبية منهجا وهدفا للكاتب. •••
ولا أزعم أني استنفدت التحليل للبواعث التي تعين للكاتب أسلوبه وهدفه، ولكني أردت الإيماء إليها فقط، ويمكن القارئ أن يتوسع فيما لا أجد الفرصة للتوسع فيه من تأمل حياة الكتاب والأدباء وأثر ذلك فيما كتبوا.
وأنا لا أعرف مكاني في مصر بين الكتاب، ولكني أعرف اهتماماتي التي عينت أسلوبي.
فقد كان أول ما كتبت في حياتي مقال في المقتطف في سنة 1909 وأنا حوالي العشرين عن «نيتشه»، وهو أعظم ثائر متمرد على أكبر السلطات وأعظمها.
ثم ألفت كتيبا عن «الاشتراكية»، وهي بلا شك تحيز وانتساب إلى الشعب، وكان هذا في 1912.
ثم أخرجت مجلة «المستقبل» في 1914 فكان معظم مقالاتها عن نيتشه وعن الاشتراكية.
وفي 1925 عيرني كاتب رأسمالي بقوله «سلامة موسى المراحيضي»؛ لأني دعوت إلى سن قانون لإيجاد مراحيض في منازل الفلاحين، ولم تكن ملايين الفلاحين في وجدانه، ولكنهم كانوا في وجداني.
وعندما كنت أحرر مجلة الشئون الاجتماعية وضعت عبارة «الفقر والجهل والمرض»، فسارت مثلا بين الكتاب، وهذه العبارة تدل على أن الشعب يتحيز أعماقي النفسية.
ثم كذلك دعوتي إلى الصناعة منذ أكثر من ربع قرن، وقد أصبحت أحس من تكرارها أنها تشبه الهوس، وهي بلا شك دعوة شعبية بعثني عليها اهتمامي الدائم بمكافحة الفقر ونشر التمدن.
وأخيرا لم يكن اهتمامي بنظرية التطور سوى الرغبة في بعث الاهتمام بالمستقبل، والأخذ بالتطور دون الجمود، وهذا بالطبع اهتمام شعبي .
بل إن درسي للزراعة في مصر لم يكن باعثه علميا وإنما كان اجتماعيا، ولذلك فهمت، قبل أن يفهم غيري من الكتاب، علاقة القطن ومشروعات الري بأمراض الفلاحين، وكتبت مقالا في هذا الموضوع في مجلة الشئون الاجتماعية وقعه وزير سابق بعد أن ضرب على اسمي؛ لأنه استحسنه ورأى أن يعزى إليه.
بل إن هبوطي على كلمة «ثقافة» وتعميمها على أقلام الكتاب، إنما قصدت منه الشعب وليس خريجي الجامعات المتخصصين؛ لأن الثقافة تعميم وليست تخصيصا، وهي لذلك للشعب، وجميع مؤلفاتي للشعب أيضا.
وقد عطلت لي نحو خمس عشرة جريدة ومجلة؛ لأني كنت في زعم الحاكمين أسرف في التحيز للشعب؛ فقد حققت النيابة معي مثلا في قولي: «إن في مصر من يعيشون بألف جنيه في اليوم، وفيهم من يعيشون بثلاثة قروش وأحيانا لا يجدونها.»
وكل هذا يدل على أن الشعب كان على الدوام همي واهتمامي.
ولذلك أسلوبي في الكتابة هو الأسلوب الشعبي.
فأنا حين أكتب لا أتعالى، بل أتساوى، وأذكر أن أحد الصحفيين عقد معي حديثا وكان من أسئلته: ما هو السبيل إلى التفوق؟
فقلت له: يجب ألا يكون هناك سبيل لذلك؛ لأننا يجب أن ننشد المساواة وليس التفوق.
إن الأسلوب، في الجزء الخاص منه، هو الناحية المزاجية، أو الأخلاقية، أو النفسية للكاتب.
أذكر أن أحد الكتاب وصف أسلوبي بالتبذل، وهذا الكاتب نفسه (عباس محمود العقاد) قد أخبر قراءه - وهنا الدلالة - بأني أسكن في حي وطني من الأحياء الفقيرة بالقاهرة!
لقد انخفضت مكانة الشعب حتى صار من يكتب له، أو يسكن في أحيائه، يعد متبذلا ... «غير متفوق».
ولذلك أعتقد أنه عندما يتبوأ الشعب مكانه، ويبرز إلى وجدان الكتاب حتى يحترموه ويهتموا باهتماماته، عندئذ سيكتبون له، أي بالأسلوب الشعبي، ولكن كثيرا منهم الآن يتعالون عليه، فلا يسكنون في أحيائه ولا يكتبون له.
واعتقادي لهذا السبب، أن أسلوبي هو أسلوب المستقبل في مصر، بل في الأقطار العربية الأخرى، حين ترتفع الشعوب فيها إلى وجدان كتابها.
إننا نمدح الأسلوب الديمقراطي في نظام الحكم، وفي نظام العائلة ، وفي نظام التعليم، وفي نظام المجتمع، ولكننا ما زلنا نتعلق بالأسلوب الأرستقراطي في الكتابة، وليس لهذا من سبب سوى أن الكتاب لا يزالون بعيدين، بنفوسهم، عن الشعب، وهم لذلك «لا يتبذلون».
أليس الأسلوب الشعبي هو الأسلوب الديمقراطي؟
ولست أعني بقولي هذا أننا نكتب للشعب بلغته «العامية» وإنما أعني أن نكتب له بلغة شعبية فنية، ولا يمكن هذا إلا بأن نهتم باهتماماته، ومتى فعلنا هذا فإننا نقترب منه، ونحس إحساسه، ونجد أن أسلوبنا شعبي في عامته.
شعبي في عامته ولكنه نفسي في خاصته؛ لأن الأسلوب الأمثل هو أسلوب النفس عند الكاتب.
وعندئذ يختلف الكتاب حتى حين يكون أسلوبهم شعبيا.
فهذا كاتب صريح مواجه، فسنجد عندئذ الصراحة والمواجهة في أسلوبه.
وهذا كاتب متأنق مختار، فسنجد التأنق والاختيار في أسلوبه.
وهذا كاتب إنساني حساس، فسنجد الإنسانية وذكاء الإحساس في أسلوبه.
وكل هذا إلى جنب أن أسلوبه شعبي.
ذلك لأن الشخصية، التي تنبع من النفس، ستبقى على الدوام الطابع الذي يميز بين كاتب وآخر، حتى ولو كان كلاهما شعبيا في أسلوبه.
وأخيرا أقول: إن الكاتب الأمثل يمكن أن يكون بعضه فيلسوفا، أو عالما، أو بعضه أديبا، ولكن معظمه يجب أن يكون على الدوام إنسانا، ولذلك يجب أن يكون أسلوبه على الدوام شعبيا. •••
خلاصة القول أن الأسلوب هو ثمرة العقل والقلب، أي الأفكار والعواطف، والعقائد والاتجاهات، التي تنزع بالكاتب من حيث لا يدري إلى اختيار أسلوبه في الكتابة.
ولذلك نستطيع أن نقول إن تشرشل يكتب بأسلوب إمبراطوري، ونستطيع أن نعلل الشبه العظيم بينه وبين ملنر، وكرومر، وجيبون المؤرخ؛ لأنهم كانوا جميعهم، مثله، إمبراطوريين.
أسلوب مليء بالقوة والمتانة وإحكام الجملة ورصانة العبارة، كأن الكاتب محارب يسود الدنيا أو يحاول السيادة عليها.
وهذا بخلاف ما نجد في تولستوي أو دستوفسكي أو رينان، وجميعهم تأثروا بشخصية المسيح، حتى لقد قال دستوفسكي: «لو أن المسيح كان في جانب وكانت الحقيقة في جانب آخر، لآثرت أن أكون في جانب المسيح على أن أكون في جانب الحقيقة.»
وهذا بالطبع إسراف، ولكن العبرة التي أقصد إليها أنهم جميعا، لهذا الإحساس، كتبوا في أسلوب متشابه كله وداعة ورقة ورحمة وبساطة.
ولو أن أحدهم كان قد تغير من الإيمان بالمسيحية إلى الكفر بها لكان قد تغير أسلوبه أيضا.
وأخيرا أقول إن الأسلوب لا يعلم، وإذا وجد كاتب يقلد كاتبا آخر وينجح في هذه المحاولة، فإنما مرجع ذلك أنه آمن بأفكاره وعواطفه وأخذ بعقائده واتجاهاته، أي أن نفسه قد استحالت؛ لأنها استشبعت بنفس ذلك الكاتب وأخذت بأسلوبه.
عشرة كتب في الأدب
قبل أكثر من عشر سنوات ألفت كتابا بعنوان «تربية سلامة موسى» وصفت فيه دراسات شكسبير بأنها «لهو فني».
وكان قصدي من هذا التعريف أني تسليت به، ولكني لم أجد فيه ما يخصب حياتي أو يربيني أو يغيرني، وإن كان فيه الكثير مما يطرب ويلذ ويعجب.
ولكن هناك أدباء عالميين، نحس بعد قراءة مؤلفاتهم أننا قد تغيرنا، بل هم أحيانا يزيدون عندنا إحساس النمو والإخصاب، كأن وجداننا قد زاد، وآفاقنا قد تراحبت، وكأن حياتنا قد صارت أحيا مما كانت.
وهذه كتب عشرة في الأدب ما زلت أذكرها؛ لأن كلا منها كان بمثابة العلم الذي غير طريق حياتي، واعتقادي أن هذه الكتب جديرة بأن تحدث ثورة في قلوب القراء العرب وعقولهم إذا نقلت إلى اللغة العربية، ولست أنسى هنا أن أشيد بأدباء بيروت ودمشق الذين ترجموا أو شرعوا في ترجمة بعضها.
وأول هذه الكتب درامة، أحب أن أسميها مأساة المرأة، ألفها هنري أبسن بعنوان «لعبة البيت»؛ فقد كان أثرها في نفسي قبل نحو خمسين سنة ساحرا، بل لا يزال كذلك، وكثيرون قد قرءوا هذه الدرامة، ولكن الظروف التي رأيتها فيها ممثلة على المسرح، ثم حين قرأتها وتأملت معانيها ومراميها، كانت تختلف من ظروف الوقت الحاضر.
ذلك أننا كنا، حوالي 1910، نحيا حياة الحجاب المظلمة؛ فلم يكن أحدنا يقعد إلى فتاة، فضلا عن أن يصادقها، وكانت عندما تزور سيدة صديقة لها، كانت هذه الصديقة تحتاط وتحذر من أن يرى زوجها أو ابنها هذه الزائرة.
كنا في حجاب دامس ، كنا نحيا فرادى بلا مجتمع.
وخرجت من هذا الظلام إلى أوروبا فوجدت المرأة السافرة الحرة، وكان سفورها دهشة لي، لا أتعب من استطلاع حدوده والمقارنة بين المرأة الأوروبية وبين المرأة المصرية، ثم أعقب هذه الدهشة تفكير عميق في معنى الوجود البشري وفلسفة الحياة.
فقد أحالني هنريك أبسن إلى فيلسوف.
هذه المرأة الأوروبية التي كنت أزعم أنها حرة، ليست كذلك؛ إذ هي «لعبة البيت»، يتزوجها الرجل، ويزينها، ويلهو بها، كالزوج الشرقي، مع فرق في الدرجة فقط، وسفورها ليس كبير القيمة؛ لأنها حرمت الاختبارات والاقتحامات في الدنيا، وهي لذلك تحيا محمية مصونة، وهذه الحماية، وهذه الصيانة، تنتهيان بفرض الجهل عليها وإنكار حقوقها الإنسانية.
والقصة تنتهي بخروج الزوجة كي تشرع في تربية شخصيتها.
وما أكتبه إلى الآن عن المرأة في مصر قد ألهمني معظمه هنريك أبسن، وخلاصة ما أبغيه أن نرفع المرأة من الأنثوية إلى الإنسانية. •••
والكتاب الثاني الذي أخصب حياتي وديني وأدبي هو «حياة المسيح»، عرفته وأنا في المراهقة، حين يتطلع الذهن إلى التفريج عن الكظم الجنسي بالبحث عن الآداب والفنون، وقرأت هذا الكتاب باللغة العربية موجزا بقلم العظيم فرح أنطون، ثم عدت فقرأته بالفرنسية.
وكشف لي فرح أنطون بهذا الكتاب أدبا جديدا لم أكن أعرفه في اللغة العربية، بل لا أزال إلى الآن، بعد خمسين سنة، أفتقده فلا أجده، هو أدب الإحساس الذكي الذي نجده على أعلاه في دستوفسكي، كما هو أدب الإنسانية. بل إن رينان، مؤلف هذا الكتاب، قد ربط بين الأدب والدين، وغرس في نفسي الغرس الأول، وهو أن الثقافة البشرية، بعلومها وآدابها وفنونها، هي الدين، بل هي من صميم الدين. •••
ثم «الإنسان والسبرمان» هذا الكتاب العلمي الذي ألفه الأديب برنارد شو، وهو علمي في الخيال وليس في التخطيط.
ونحن نقرأ هذه الأيام قصصا علمية توافر محصولها عقب الاكتشافات الذرية، ولكن أهدافها في الأغلب لهو علمي، مثل اللهو الفني الذي نجده في شكسبير، أما برنارد شو فقد فتح لنا في هذه الدرامة العالية نوافذ نطل منها على المستقبل البشري بعد آلاف وملايين السنين، حين يتطور الإنسان إلى ما هو فوق الإنسان: إلى السبرمان.
هو درامة عن التطور، وعن مصداق كلمة نيتشه: «الإنسان جسر تعبر عليه الطبيعة من القرد إلى السبرمان.»
وظني أن هذه الدرامة يمكن أن تغير العقول الشرقية العتيقة المستسلمة وتحيلها إلى عقول عصرية متسائلة، بل هي أشبه الأشياء بالسائل المعقم الذي يقتل، يمحو العادات المتعفنة التي تحول دون الاجتراء على التفكير البكر، هذا التفكير البكر الذي نجده في إخناتون حين رفض الإيمان بعقائد أسلافه، وعقائد السذج من العامة، والمكرة من الكهنة، وأعلن بأنه يؤمن بإله واحد لا يشاركه آخر.
إننا في حاجة إلى الاجتراء، وهذه الدرامة تجرئنا. •••
وكتاب آخر يمكن أن نترجمه، بل قد ترجم بعضه في بيروت، هو قصة «الإخوة كارامازوف» للمؤلف الروسي دستوفسكي.
وهو أعظم قصة كتبها أديب، وهي قصة الإحساس الذكي، والديانة الإنسانية، واستقطار السعادة من الألم، والنظرة الإخائية للبشر، والحب للطبيعة والإنسان.
ولكن وصفي لها بهذه الكلمات هو أتفه وصف؛ لأن الواقع أننا نعجز عن وصف الفن الرائع، وقصارى ما نقول عنه أننا لم نعرف شيئا أسمى منه؛ إذ نقف معجبين ذاهلين نتنهد ونتأمل.
هو قصة تجري حوادثها بين أشخاص عقلاء ومرضى أو مجانين، نجد فيها الإجرام والفلسفة، والعقل والبلاهة، والقداسة التي تعود إلى النجاسة.
ماذا أقول؟
هل يمكن إنسانا أن يرتفع إلى القمم الإنسانية حتى يتقدس إلا بعد أن يكون قد هوى إلى حضيض الحيوانية حتى تدنس؟!
خلاصة ما أقول أن هذه القصة هي أعظم ما قرأت في حياتي، ولكني أعجز عن تعليل هذه العظمة. •••
و«اعترافات» جان جاك روسو من الكتب التي كان يجب أن تترجم إلى لغتنا قبل 100 أو 150 سنة، ولو أن هذا كان قد تم، لكان فهمنا للأدب غير ما نفهم في هذه السنين.
إننا نسمع في أيامنا من أدبائنا الناهضين أن الأدب للحياة، وأنه اختبارات شخصية ينقلها المؤلف من حياته، أو من خياله المنتزع من حياته، ويرسم منها صورة تنير أو تثير، فتزيد بصيرتنا بالدنيا والعيش أو تحفزنا إلى التغيير في القيم الأخلاقية.
وكل هذا أفكار وكلمات كان يفهمها جان جاك روسو، باعث الحركة الرومانسية أو الرومانتية في أوروبا، وهذه الكلمة تعني العامية.
أدب روسو هو أدب الشعب، بلغة الشعب التي هذبها الفن.
لقد تغيرت أوروبا بأفكار هذا الأديب، ونستطيع أن نعزو جميع الثورات التي حدثت في القارة الأوروبية إلى مؤلفاته التي تتلخص في كلمات معدودة، هي: الطبيعة حسنة والإنسان طيب، ولكنهما يفسدان بالحكومة السيئة والمجتمع السيئ.
ما أحوج الأمم العربية إلى هذه الخمائر! •••
الاعترافات هي بدعة ابتدعها جان جاك روسو حين وقف عاريا يقول للناس: هأنذا بكل ما في نفسي من نقائص وفضائل.
وقد ظهرت مئات من الكتب الاعترافية بعد ذلك توثقت بها الصلة بين الأدب والحياة، وأصبح بها الكتاب وسيلة للتجاوب بين الاجتماع والأدب، والإنسانية والفن.
ومن الكتب الخالدة في الاعترافات كتاب مكسيم جوركي الذي وضعه في ثلاثة مجلدات: طفولتي، في العالم، جامعاتي.
وهو لم يدخل قط جامعة، ولكن الدنيا كانت جامعته، بل جامعاته التي تعلم فيها، وهو أكثر صراحة من جان جاك روسو حين يعترف؛ فقد خرج هذا الأديب الروسي من الطين والوحل، وما زال ينظف نفسه ويطهرها حتى وصل إلى قمة الإنسانية.
وحسبي أن أقول إننا حين نقرؤه نحب الإنسان، أي الإنسانية التي تعلو على تقاليد التاريخ والاختلافات المذهبية أو العنصرية.
جوركي إنسان يدعو إلى ديانة الإنسانية، مثل دستوفسكي وتولستوي.
والقارئ العربي الذي يجهل هذا الكتاب إنما يجهل دنيا عظيمة من الشرف والخير والكفاح والجمال. •••
ومؤلف آخر يجب أن نعرف جميع مؤلفاته، وكل كلمة كتبها؛ هو تولستوي، ومع ذلك أنا لم أتأثر بمؤلفات هذا الأديب العظيم قدر ما تأثرت بحياته، حياة الكفاح الروحي، كي يفهم معنى الحياة ومعنى الموت، وكي يوفق بين أسلوب عيشه وأسلوب تفكيره؛ ذلك أنه استنبط لنفسه ديانة خاصة هي مزيج من فلسفة الإنجيل وفلسفة جاك روسو، وقد طردته الكنيسة الروسية لاجترائه على أن يفكر ويستنبط بدلا من أن يعتقد ويستسلم.
وحاول أن ينقل أفكاره أو فلسفته إلى أسلوب عيشه في البيت والمجتمع، فاصطدم بزوجته، وبقي على خلاف معها، خلاف فلسفي، حتى فر منها، ومات بعد بضعة أيام في مكان ناء عن بيته.
ولم يحل مشكلة الحياة والموت، وهل يمكن أن تحل؟!
إن قصص تولستوي، من حيث الفن، تنزل على القمم في الأدب، ولكن حياته قصة، بل علياءة، تسمو على كل ما كتب.
ونحن حين نقرؤه نتحمل همومه، ونحزن معه، وهذا حسن؛ لأننا نجد في هذه الهموم والأحزان تربية، والأدب الحق ليس حلويات نتمصص عصيرها ونتمزز طعمها، وإنما هو هم وكفاح من أجل الفهم أو الخير أو السلام أو الشرف. •••
ومؤلف آخر حبيب إلى قلبي هو أناطول فرانس.
وهو صديق وأنيس، أحس وأنا أقرؤه كأني أتغامز معه على الشهوات المشتركة بين عقلينا، وهو من أبناء القرن العشرين لا شك في ذلك، يكره الألغاز التي يضعها البله والمغفلون ويتحدون بها العقلاء كي يحلوها لهم.
وهو كاتب ممتاز، بذكاء فرنسي، يتهكم أكثر مما يضحك، ولكن تهكمه يحمى أحيانا حتى ليشوي به العادات والعقائد المتعفنة، ولكن هذا الساخر الضاحك يذوب حنانا عندما يذكر الفقراء والمغلوبين.
هو عدو الاستعمار والاستغلال كما هو عدو الكبرياء الشامخة التي تحيا على الغش والمكر، وهو يكافح الجهلة والمغفلين ويمزق أوهامهم بذكائه الذي يقطع كالسكين، ولو سئلت: ما هي مميزات أناطول فرانس؟ لقلت إن له ميزة وحيدة هي أنه داعية الذكاء.
ولذلك نحن ننتفع كثيرا بترجمة مؤلفاته: «جزيرة البنغوين»، و«ثورة الملائكة»، و«الآلهة عطشى».
وما أحوج المغرورين في الأقطار العربية، أولئك الذين يزعمون أنهم يفهمون، إلى أن يقرءوا هذه المؤلفات وغيرها حتى يتعلموا الفهم، والفهم فقط. •••
هؤلاء ثمانية من الأدباء الذين انتفعت بهم في تربيتي وتكوين شخصيتي الأدبية، والذين أعتقد أنه يجب أن تترجم مؤلفاتهم، كاملة بلا تلخيص، إلى لغتنا، وأسوأ شيء في الأدب هو التلخيص.
وثم اثنان آخران ليسا معدودين من الأدباء، مع أنهما في صميم الأدب، من حيث أن الأدب هو الحياة، بل هو الكفاح من أجل الحياة الفاضلة، ولم يكافح أحد مثلهما، وقد حاباني القدر حين جعلني أحيا في هذه الدنيا وأعاصرهما.
هما: غاندي، ونهرو.
حياة غاندي بقلمه هي كتاب مقدس آخر.
وحياة نهرو أيضا هي كتاب مقدس آخر.
حياتهما اعترافات، لها قوة اعترافات روسو أو جوركي.
وأحسن ما أحب فيهما أنهما كانا يحاربان الاستعمار، وقد نجحا في محوه من الهند، ولكنهما مع ذلك لم يجبنا عن محاربة التقاليد والديانات الرجعية في بلادهما.
وكل منهما «مسفسط» من حيث أنه قد اختبر ودرس مركبات المدنية، وعرف نوازع الشر، ووقف على الأسرار التي تختبئ في الظلام، ولكنه مع ذلك يؤثر السذاجة في العيش والرضا باللقمة الجافية مع الفكرة العالية.
إنها لجريمة في حق العرب أن تبقى مؤلفاتهما بعيدة عن الشعب، بل عن العامة. •••
لقد مضى علي أكثر من نصف قرن وأنا أقرأ المئات من المؤلفين الأدباء، ولكن هؤلاء المؤلفين العشرة هم الذين أصطفيهم الآن لأن تنقل مؤلفاتهم إلى لغتنا؛ لأني وجدت فيهم التربية والإخصاب، زيادة على ما وجدت من اللذة والإعجاب.
القصة المصرية
يتفشى بيننا هذه الأيام نوعان من المؤلفات، لكليهما دلالة على تطور في المجتمع المصري.
فأما النوع الأول، الذي أذكره عبورا كي أتركه، فهو المؤلفات السيكلوجية التي تبحث هموم الشبان ومتاعبهم النفسية وأشواقهم وأحزانهم؛ فإن هذه المؤلفات تدل على أن قيم الأخلاق المدنية تغزونا، وأننا قد تركنا القيم الريفية، أي أننا قد أخذنا باستقلال النفس، فلا استسلام ولا تواكل.
وهمومنا الجديدة هي استقلالنا الجديد، استقلال النفس المصرية.
وأنا أذكر هذا للتقرير وليس للمدح.
وأما النوع الثاني من المؤلفات التي تتفشى في مجتمعنا فهو القصص، وتفشيها أيضا يدل على أننا نعيش في مجتمع جديد لم نكن نعرفه فيما بين 1900 و1920، أي أننا عرفناه بعد النهضة السياسية حين شرعنا نستقل نفسا وشعبا.
ويمكن لذلك أن نربط بين تفشي المؤلفات السيكلوجية والمؤلفات القصصية؛ لأنها جميعا تعود إلى إحساس بالاستقلال ومحاولة لبناء الشخصية ورغبة في الاستطلاع والارتقاء.
فلم يكن من الممكن مثلا أن نكتب القصة قبل 1919؛ لأن القصة تحتاج، أول ما تحتاج، إلى شخصية، ولم يكن الوسط الريفي الذي أجبرنا الإنجليز على أن نعيش فيه كي نتخصص في زراعة القطن، والذي أخذنا بقيمه حتى حين كنا نعيش في المدينة، لم يكن يتيح لنا أن نصف شخصية مصرية، ثم كان الفصل بين المرأة والرجل، أي الفتاة والشاب، تاما أو كالتام، فلم يكن ثم مجال لأن نصف لقاء يؤدي إلى حب إلا إذا كان لقاء الاختلاس الكريه الذي يعزف عنه الكاتب النظيف.
ولكن بعد 1919 ظهرت الشخصيات، وظهر السفور، فظهرت القصة.
وكانت في الأغلب قصة غرامية، ثم تفشى التعليم الثانوي والجامعي وأحب الشبان أن يقرءوا ما يلهون به فوجدوا في هذه القصة ما اشتهوا، ولا أستطيع أن أقول إن المؤلفين قد أخرجوا قصصا عالية، ولكنهم حاولوا، وكانوا رائدين، وحسبهم هذا الفضل.
وأحجم الكتاب القدامى عن التأليف في القصة؛ لأنهم كانوا قد اعتادوا المقالة وثبتوا عليها، ثم كانوا أيضا على غير وجدان بالتطور الاجتماعي للشباب المصري فلم ينتبهوا إلى قيمة القصة، ومن سوء حظنا أن كثيرا من الكتاب القدامى غير متطورين.
وإلى الآن لا تزال القصة، أو بالأحرى الأقصوصة الغرامية، هي السلعة العامة في سوق الأدب القصصي، وأنا لا أنتقص قيمة القصة الغرامية؛ لأن المؤلف العظيم يستطيع أن يرتفع بها إلى أسمى المعاني وأجملها في الحب الذي هو حق الشباب وسعادته، ولكن ما يجب أن ننتقص هو الحب الغادر الذي ترتب مؤامرته في الظلام.
وأكبر ما آخذه على كثير من كتاب القصص أنها تخلو من النزعة الإنسانية، فإن الولاء للبشر هو مذهب الأديب، فإذا كفر به فقد كفر بالآداب والفنون جميعا.
ولا تزال القصة السيكلوجية نادرة، ولكن المحاولات الأولى التي ظهرت من بعض كتابنا تبشر بالخير، ونعني بالقصة السيكلوجية هذا التفطن للبواعث، وهذا الانسلال إلى المركبات الاجتماعية التي تنتهي بإيجاد شخصية ما وتكشف عما يبني ويهدم من الأخلاق، وتسبر الأعماق في الحب والزواج والارتقاء، وتقف القارئ على نزعات النفس أو تشوفات الذهن.
وأخيرا هناك القصة الاجتماعية، وهي بلا شك سيكلوجية أيضا، ولكنها تبحث المجتمع أكثر مما تبحث الفرد، وهي عند الشاب الناضج تأخذ مكان القصة الغرامية؛ لأنها تحليل وتأليف ونقد وعرض، كما أنها تتناول السياسة والاقتصاد، والعائلة والحرفة، والفقر والثراء، واعتداءات الاستعمار وحركات التحرير، والحرية والتقاليد، والسلطة والاستقلال.
وأخيرا هناك القصة العلمية التي لم تعرف إلى الآن في مصر، مع أن هذه القوة الجديدة هي أخطر ما رآه الإنسان في تاريخه الماضي والحاضر؛ إذ هي قوة التدمير والفناء كما هي قوة البناء والإنتاج.
ونحن نحتاج إلى القصة العلمية كي يلوك قراؤنا موضوعاتها ويأخذوا بنزعاتها ويشربوا روحها، ولكن مع النزعة الإنسانية السلمية التي نهدف منها إلى إيجاد مجتمع علمي ينهض على النظافة والصحة ومهارة اليد وذكاء العقل وتنظيم الحرية وتوفير الرخاء، وما أجمل أن تؤلف لنا قصة عن الممكنات في استخدام الذرة في المواصلات، أو اختراع بروتين جديد يجعلنا نعيش مائتي سنة أو يكفي ضعفي سكان هذا العالم، أو غذاء جديد يزيد الذكاء.
أما إذا كانت القصة العلمية ستصف لنا الطيار «الشجاع» الذي يلقي قنابله على الأطفال والنساء، فإنها تكون عندئذ شرا وإجراما.
لقد كانت القصة القديمة تؤلف للهو وتحوي امرأة لعوبا لها صدر ولها ظهر ونحو ذلك، ولكن القصة العصرية يجب أن تعلو على ذلك، وأن يكون موضوعها مشكلة سيكلوجية أو اجتماعية أو فلسفية أو علمية يعرضها المؤلف كي يثير بها ذكاء القارئ ويزيد بها إنسانيته ويخدم بها الرقي البشرى العام.
أجد أحيانا في أدبائنا الجدد، كتاب القصص، سخطا ومضضا لأنهم يعتقدون أنهم مبخوسون، وأن أدب الديباجة بالأسلوب الرصين وبديع الاستعارة، لا يزال يجد التقدير دون أدبهم الجديد.
ولكنهم واهمون؛ لأن هذا التقدير إنما يأتي من «السلطات» كما كانت الحال في العهود الماضية حين كان عند وزارة المعارف أدباء «مسجلون» تشترك في مؤلفاتهم أو تشترك في مجلاتهم بالألوف، ثم تطرح هذه المؤلفات والمجلات على الرفوف ميتة مكدسة لا يفض غلاف أحدها سنة أو سنتين.
والأدب الجديد لم يكن يجد الرواج عند «السلطات» ولكنه وجده عند الجمهور، ومن هنا الثقة بأن المستقبل له، واليقين بأن النصر من نصيبه.
أدباؤنا الجدد، الذين يؤلفون القصة ويعتصرون إحساساتها من قلوبهم، والذين يعلمون الشعب كيف يحيا الحياة الفنية، وكيف يزداد وجدانا في الآفاق الإنسانية، والذين يترفعون عن أن يؤلفوا للهو والعبث، هؤلاء الأدباء هم قادة الأذهان وبناة الطرز الذوقية لمستقبل شعبنا.
ومهما لقوا من بخس «السلطات»، ومهما حرموا المكافآت التي تذهب إلى أدباء «الديباجة»، فإنهم سيجدون الرواج من الشعب.
والشعب هو كل شيء أولا وآخرا، ولا عبرة بما يصفه به أدباء الديباجة، وما يزعمونه، من أن ما يكتبونه للخاصة أو خاصة الخاصة. •••
ولكن من أكبر ما يؤخذ على كثير من كتاب القصص أنها تخلو من النزعة الإنسانية.
ولا أعتقد أني أحتاج إلى أن أشرح النزعة الإنسانية في الأدب، ولكن عندنا كثيرين ممن يزعمون أنهم أدباء كبار، وكل تقاليدهم من الأدب مدائح المتنبي لسيف الدولة، وقبائح ابن الرومي الجنسية والبرازية، وخمريات أبي نواس ولوطياته، ونحو ذلك، ولهؤلاء أقول: إن الإنسانية في الأدب تعني مكافحة الظلم والجهل والفقر، والأديب الذي يتخذ هذا المذهب الإنساني تعود حياته نفسها أدبا؛ لأنه مكافح.
وفي عصرنا الحاضر تتمثل هذه النزعة الإنسانية في المذهب الاشتراكي الذي يحاول دعاته إنصاف المظلومين وإغناء الفقراء ومساواة الجنسين ومحو التعصبات العدوانية، سواء أكانت دينية أم عنصرية أم طبقية، واستخدام العلم لإشعاع النور في الأذهان، والرفاهية في المدن والقرى، وتحطيم القيود التي تحد من الحريات، سواء أكانت قيود الخرافات أم قيود الحكومات، الإنسانية في الأدب هي مزاج نفسي، وأيما أديب خلا منها يعود تافها أو شريرا.
وعندنا، مع الأسف العميق، كثير من الأشرار والتافهين في الأدب، أولئك الذين أيدوا الظلم ودافعوا عن الظلام، وطالبوا بتقييد الحريات، وعارضوا المساواة بين الجنسين، واحتقروا الشعب ووصفوه بأنه رعاع وغوغاء.
هؤلاء الأدباء قد بصقوا على وجه الإنسان وجحدوا الولاء للبشر وكفروا بالقيم العالية في الأخلاق، وهذه القيم العالية في الأخلاق هي في النهاية، القيم العالية في الآداب والفنون.
نحتاج إلى كتاب شهداء
قبل نحو عام تقريبا كتبت مقالا بهذا العنوان وسلمته لإحدى المجلات، فرده إلي رئيس التحرير وهو يقول: إن الجمهور لا يتحمل كل هذا الذي قلته. وتناولت المقال منه ووضعته على الرف في أسف وحزن.
وقد تذكرت هذا المقال في الأسبوع الماضي وأنا أقرأ ما يكتبه القائمقام أنور السادات بعنوان «نحو بعث جديد»، فإنه فكر وتجرأ، فكتب كلمات من نور كان لا بد أن يسمعها الجمهور المصري من رجل مخلص أمين، ورأيت أنا عندئذ أن أنبش عن مقالي المطروح، فإن أنور السادات بمقالاته الرائعة قد أتاح لي الفرصة لأن أنشره على القراء.
وقبل ذلك أنقل بعض ما قال هو، وهو إذا لم يكن تلخيصا لما كتبه، فإنه على الأقل يعين معالم الطريق في تفكيره الإصلاحي الذي أعتقد أنه كان يجب أن يكون تفكير الأدباء والكتاب قبله، وهو ما أهملوه؛ لأنهم انقادوا بالعامة بدلا من أن يقودوها، قال:
وأنا لا أنسى حادثا وقع أمام عيني ذات يوم هنا في مصر ... فقد رأيت شابا متعلما ينتمي إلى إحدى الهيئات المعروفة في إحدى المناسبات، وكانت هناك سيدة فاضلة في المكان، صافحناها جميعا - نحن الرجال - وكان زوجها طبعا معنا ... وعندما مدت السيدة الفاضلة يدها إلى ذلك الشاب لتصافحه ارتد إلى الوراء مذعورا كأن إنسانا يهاجمه ليقتله، ورفض أن يصافح السيدة.
وسألناه لماذا؟! والحيرة تستبد بنا، ففهمنا منه أن الذين يوجهونه في الحياة ويخضع لهم في نشاطه وفي أفكاره قد أكدوا له أن محمدا الرسول «المناضل الحر» لم يضع يده في يد امرأة.
ومن خلال هذا الحادث البسيط العابر يمكننا أن نفهم مدى ما يتمتع به تجار الدين في بلادنا من وعي وإيمان بالتطور الإنساني، وبرسالة أقوى الثوار وسيد الأحرار محمد؛ فهم بدلا من أن يقولوا لهذا الشاب إن محمدا قد دعا إلى العمل وبناء المجتمع وتخليص البشرية من الجهل والجمود والاستغلال ونشر العمران والحضارة في جميع الأقطار، يحدثونه عن وضع يد الرجل في يد المرأة وكيف يصبح هذا جريمة! وكيف أن منع هذه الجريمة هو الهدف الذي نزلت من أجله رسالة الإسلام!
الكهانة إذن في بلاد المسلمين تريد أن تعطل نصف المجتمع ...
لحساب من؟!
هل يفعلون ذلك لحساب النهضة والبعث والحرية والعدل والحق؟!
أم لحساب التطور الإنساني ومصالح الأفراد والجماعات؟!
لا هذا ولا ذاك!
فتعطيل نصف المجتمع معناه تأخر هذا المجتمع وتخلفه عن اللحاق بموكب المدنية والعلم والتقدم، وهذا إذا تم فسيكون قطعا لحساب أعداء البشرية ... لحساب الرجعية ... لحساب المشعوذين!
ويقول:
استعمر الغرب إذن الشرق - كما قلت - بعد أن نهض وأصبح يملك الحضارة!
وتعاون معه تجار الدين، وسارت الكهانة في ركابه تمنع عن الشعوب الإسلامية الأفكار الجديدة، والعلم الجديد، والفن الجديد، تمنع عنا الثقافة، وتعاون الغرب في إقامة ذلك الستار الحديدي بيننا وبينه لكي لا تقفز الحضارة إلينا!
وعشنا في كنف الغرب ...
والكهانة ماضية في التأكيد لنا أن المدنية زيف ورجس عظيم ... والعلم من صنع الشيطان!
والاستعمار لا يجد أبرع من هذه الدعوة في مواصلة استعبادنا، وفي نفس الوقت يتقدم هو إلى الأمام ... إلى أقصى قمم المدنية والعمران!
المدنية زيف ... الحضارة شر ... التقدم خروج على مشيئة رب العباد ... هذه هي دعوة الكهانة في بلاد المسلمين!
أكتفي بما نقلت عن السيد أنور السادات، والحق أن هذه الكلمات قد زادتني إيمانا بأننا في نهضتنا نسير مع الأحرار المخلصين الذين ينظرون إلى وطننا ليس نظرة الأمانة والإخلاص فقط، بل نظرة الذكاء والفهم أيضا.
وبعد هذا الذي نقلته سيجد القارئ مقالي تافها ضعيفا، ولكن عليه أن يذكر تحرجي، بل عليه أن يذكر أن هذا المقال على ضعفه قد رفض نشره ممن كانوا يتحرجون أكثر مني، وإليك نص المقال:
على أثر الحوادث المؤسفة التي حدثت في السودان عند افتتاح البرلمان نشرت كلمة قلت فيها إننا نحن والسودانيين، بل جميع أبناء الشعوب العربية، نحتاج إلى كتاب شهداء من الصحفيين والأدباء والمؤلفين والشعراء.
وذلك لأنه اتضح من هذه الحوادث المؤسفة في السودان، وكذلك من الحوادث التي حدثت في مصر في الثلاثين سنة الماضية، أن الشعوب العربية كانت تضلل بدلا من أن ترشد، وأن الزعماء والقادة الذين يستحقون النصيحة، بل أحيانا العقوبة، كان يتملقهم الكتاب ويؤلف الشعراء في مديحهم القصائد الطوال، وكأنهم بذلك يؤيدون العار ويصمدون له .
ثم هناك رجعيون كانوا يعطلون ارتقاءنا، ويصمون المفكر المخلص بأنه كافر أو إباحي أو خائن، مع أنهم كانوا يعرفون في أعماق سرائرهم أنهم يفترون، ولكنهم كانوا يتملقون العامة والغوغاء بدلا من أن يقودوها.
ومثال ذلك أننا كلما دعونا إلى إصلاح العائلة، أو تقييد الزواج، أو تقييد الطلاق، أو مساواة المرأة بالرجل، أو تعليمها حتى تستطيع الاستقلال والكسب، أو التسليم بحقوقها الدستورية ناخبة للبرلمان ومرشحة للعضوية فيه، أو نحو ذلك، هب في وجوهنا هؤلاء الرجعيون يتهموننا بالكفر ومخالفة التقاليد.
وقد استطاعوا تضليل العامة، ونجحوا في هذا التضليل.
لقد وصل إلي، قبل أسابيع، خطاب من كاتب في الزقازيق يقول لي فيه إن ما أسميه رجعية وأحاربه في مقالاتي إنما هو الدين.
من الذي ضلل هذا المسكين سوى الرجعيين في مصر؟! بل من الذي ضلل السودانيين سوى الرجعيين في السودان؟! إن الرجعيين هم الذين هبوا يريدون تحطيم الحياة البرلمانية البازغة في بلادهم!
نحن نحتاج إلى أدباء وكتاب وصحفيين ومؤلفين شهداء، لا يرفضون تملق القادة والزعماء فقط، بل يرفضون أيضا تملق العامة والغوغاء ويصرون على أن يقولوا الحق ويكافحوا الرجعية، لا بأس من أن يتعرضوا لسخط العامة والغوغاء، فإن قادة الجيش هبوا في يوم 23 من يوليو في سنة 1952 ثائرين على الكبار من الرجعيين من فاروق فنازلا، وكانت رءوسهم على أكفهم، وكان يمكن أن يشنقوا أو يضربوا بالنار لو أنهم كانوا قد أخفقوا.
والمعنى أنهم كانوا مستشهدين.
فلماذا لا يكون عندنا كتاب شهداء يستهدفون لغضب العامة الغوغاء ويقولون لهم: إنكم تعيشون في أسر تقاليد خرافية، تؤخركم وتحطم مجتمعكم، وتفسد عليكم مستقبلكم، ولن يبلغ استشهادهم على كل حال درجة الإعدام.
ليس هناك من ينكر أنه يجب على السياسي والأديب والكاتب والصحفي والموظف أن يكونوا جميعهم شعبيين، بمعنى أن يكون الشعب هو الهدف لنشاطهم يعملون لخدمته وترقيته.
ونعني هنا الشعب لا العامة ولا الغوغاء.
وما دمنا قد وضعنا هذا الهدف، فإن كل مفكر قد وقف على حركة التاريخ العصري، وعرف التطورات الاجتماعية للأمم العصرية ، يحس أنه يجب أن يقود الشعب وألا ينقاد بالعامة والغوغاء.
ونحن هذه الأيام نلعن الساسة الذين أقحمونا في حرب فلسطين في سنة 1948 بلا استعداد، وعرفنا أن أعضاء البرلمان الذين كانوا على دراية بالنقص في أسلحتنا وأعتدتنا سلموا مع ذلك وقبلوا هذه الحرب؛ لأنهم انقادوا للعامة والغوغاء وأحجموا عن المعارضة خشية أن يتهموا بالخيانة للوطن أو للدين.
وكلنا الآن يأسف على ذلك؛ لأن السياسي يجب أن يقود ولا ينقاد.
ولكن هذا الأسف نفسه يجب أن نأسفه أيضا على أولئك الأدباء والكتاب الذين لا يتصدون للخرافات التي توصف بأنها تقاليد، والتي تؤخر أمتنا وتعوقها عن التطور؛ لأن الأديب الذي يخلص لوطنه، مثل السياسي الذي يخلص لوطنه، يجب أن يقود الشعب ولا ينقاد بالعامة والغوغاء، يجب أن يتحداهم ويصلحهم ويرقيهم ويحملهم على التطور.
إني لا أمدح نفسي حين أقول إني استهدفت لسخط العامة والغوغاء حين ألفت كتابي «نظرية التطور وأصل الإنسان»، وكتابي هذا هو سلاح لتحطيم الخرافات، وكان هذا في سنة 1925، وفي 1954 كتبت جملة مقالات قلت فيها إن المجتمع الانفصالي، الذي يفصل بين الجنسين، يؤدي إلى العاهة النواسية، وجابهت العامة والغوغاء بكلامي هذا، وهو كلام أعتقد أنه حق. وقبل سنوات، عندما استفحلت الحركات الدينية وتدخل زعماؤها في السياسة كتبت في الدعوة إلى فصل الدين من الدولة، وقلت إن ميدان الدين هو الحرام والحلال، أما ميدان السياسة فهو الخطأ والصواب. وكنت في هذا القول متحديا مجابها أيضا للعامة، ومن مدة قريبة كتبت جملة مقالات قلت فيها إن الأدب العربي القديم لا يساعد على تخريج الأديب العصري، وكنت في هذا أيضا متحديا مجابها للعامة والغوغاء من الكتاب التافهين كبارا وصغارا.
وأكرر القول بأني لا أتمدح بهذا الكلام، ولكني أحس أن كثيرا من الأدباء والكتاب والصحفيين قد تملقوا، ولا يزالون يتملقون، العامة والغوغاء، فوق تملقهم السابق للقادة والساسة وعلى رأسهم البغي فاروق، مع أننا في حاجة إلى من يربون العامة والغوغاء ويحملونهم على أن يدخلوا في العصر الجديد.
عصر العلم بدلا من الخرافات.
وعصر المساواة بين الجنسين بدلا من الحجاب المنزلي أو الاجتماعي.
وعصر الاستبشار بالمستقبل بدلا من الاعتماد على التقاليد والتقيد بالماضي.
وعصر الزواج على أساس الحب والاعتراف بحق الشبان والفتيات في الحب.
وعصر الصناعة والآلات بدلا من الزراعة والإقطاع.
وعصر الاشتراكية بدلا من الانفرادية.
وعصر الأدب المرتبط بالمجتمع الهادف إلى الإنسانية، بدلا من الأدب الذي يحيا في الهواء والخواء، أو يأسن في البرج العاجي، أو ينشد اللذات للملوك والأمراء أو للعامة والغوغاء.
إننا - نحن الكتاب - سنلاقي السخط من العامة والغوغاء عندما ندعو هذه الدعوات، ولكن لكل حرفة مسئولياتها، ومسئوليتنا هنا أن نربي العامة والغوغاء، ولا نتملقها ونسير خلفها فنضللها ونؤخرها.
مهرجان سباب وكلمة أديب
بعض الفصول في هذا الكتاب أثارت حولي غبارا عندما نشرت في «أخبار اليوم»؛ ولذلك أعتقد أن من حق القارئ أن يقف على مداه، وقد يحب أن يتعرف إلى أسبابه.
وعندي أن أسبابه، بل السبب الوحيد، هو أني مخالف معارض لجميع التيارات الأدبية في مصر باستثناء هذه الطبقة الجديدة الناهضة من الأدباء، التي حاولت ولا تزال تحاول ربط الأدب بالمجتمع، والتي تهدف منه إلى أهداف إنسانية، بل تحاول أن تجعل للأديب رسالة.
ففي عدد أغسطس من 1954 من مجلة «الرسالة الجديدة» يجد القارئ بضع صفحات كتبت عني جاء فيها:
في العدد الماضي من الرسالة، قال الأستاذ سلامة موسى: «إنه لا يوجد بين أدباء مصر، أديب واحد يستحق أن يحمل التاريخ آثاره إلى الأجيال القادمة! ولم أجد من أدبائنا من يستحق أن يقرأ له أولادنا وأحفادنا بعد عشرة أعوام!»
وكان ذلك في الحديث الذي دار بينه وبين سكرتير تحرير «الرسالة الجديدة»، وقد أثار هذا الحديث ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية.
وقد سئل الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد عن رأيه فيما ذهب إليه سلامة موسى، فقال: إني لا أستطيع أن أبدي رأيي في غير رأي، وما قاله سلامة موسى ليس تعبيرا عن رأي، لكنه تعبير عن حقد وضغينة وشعور بالفشل والتقهقر.
وكل ما يهدف إليه سلامة موسى من حملاته على الأدب العربي هو تشويه للأدب العربي عامة ، ورميه بالقصور والجهل وانحلال مجتمعه.
والذنب الأكبر للأدب العربي عند سلامة موسى هو أن هذا الأدب عربي، وسلامة موسى ليس بعربي!
وقيل للأستاذ الكبير العقاد: أين مكان سلامة موسى بين أدباء العصر الحديث وعلمائه؟ فضحك وقال: «إن الأدباء يحسبون سلامة موسى على العلماء، والعلماء يحسبونه على الأدباء، والواقع أنه ليس أديبا، ولا عالما، ولكنه قارئ لبعض العلم، وبعض الأدب، في بعض الأوقات، وما يفهمه أتفه مما لا يفهمه!»
وقال الأستاذ الفنان توفيق الحكيم: إن سلامة موسى يتصدى للحكم على قضايا لا يملك أسباب التصدي لها، ويخيل لي أنه قد انقطع عن القراءة منذ ربع جيل على الأقل؛ فإني كلما قرأت له لمحت أثر تفكير القرن التاسع عشر في اتجاهات فكره، والتفاتات ذهنه ... إنه لا يزال يقيم في فلسفته - إن كانت له فلسفة - على الاعتراف بالمادة، وإنكار الروح، ويحسب أن هذا أقصى ما وصل إليه الفكر الحديث!
كان أينشتين يقول: إن الكون في إطار، والله خارج هذا الإطار ... وقد قرأت له أخيرا كلاما عن الله جنح فيه إلى الاعتراف بالله، وتحدث عنه في حذر وتهيب وخشية.
وما قرأته لسلامة موسى منذ ثلاثين عاما، لا يختلف عما أقرؤه له اليوم نزعة، وأسلوبا، واتجاها حادا إلى إنكار كل شيء، والاستخفاف بكل شيء!
لست أدري لماذا يقيمون وزنا لحكم سلامة موسى على ما سيحمل التاريخ من آثار أدبائنا إلى الأجيال القادمة، وسلامة موسى على ما أظن ليس هو التاريخ، وليس هو الأدباء، وليس هو الأجيال القادمة!
وقيل لكامل الشناوي: ما رأيك فيما قال سلامة موسى عن أدباء مصر؟ فقال: إن سلامة موسى لم يدرس آثار هؤلاء الأدباء، ولم يقرأ لهم حتى يستطيع أن يصدر حكما سليما، وما ذكره ليس رأيا وإنما هو كلام عام، وسلامة موسى أولع في السنوات الأخيرة بالتعرض لموضوعات يستحيل عليه أن يفهمها فهما صحيحا، مثل: «الغزالي» و«المعرى» و«شوقي» و«أبي نواس» و«المتنبي» ... وهو يحاول جهده في الكتابة عنهم، والقارئ ليس في حاجة إلى كثير من الفطنة لكي يدرك أن ما يكتبه سلامة موسى عن الأدب العربي؛ قديمه وحديثه، شعرائه وكتابه، يدل على أنه لا يعرف عن هذا الأدب إلا عناوين كتبه، وأسماء أدبائه!
وقد حمل منذ أشهر على شوقي الشاعر، واتهمه بالمروق، والخيانة، والتآمر على الشعب! واتضح أنه لم يقرأ لشوقي إلا مطالع قصائده في مدح الخديوي عباس!
وعندما بدأ سلامة موسى حملته على شوقي والشعب العربي والمجتمع الإسلامي، تحدثت مع الأستاذ الدكتور طه حسين في ذلك فقال: «إن جريمة شوقي في نظر سلامة موسى في هذه القصائد التي تغنيها أم كلثوم ... أي قصائد شوقي في مدح الرسول!»
وأنا لست أعتقد ذلك؛ فإن سلامة موسى لا يتعصب لشيء ولا هو ضد شيء، وكل ما هنالك أنه حاقد موهوب! وهو حريص على إظهار مواهبه في كل ما يكتب! في السياسة أو الأدب أو الاجتماع، وهو يحقد على الأموات أكثر مما يحقد على الأحياء، وحقده على الضعيف أشد من حقده على القوي، ولست أتجنى عليه، ولكنني أقول الحقيقة، ومن يطالع كتاباته كلها بلا استثناء، يأخذه الإعجاب من قدرته على نفث حقده في كل لفظ وكل معنى؛ فليس صحيحا أن سلامة موسى يتعصب ضد الأدب العربي، أو ضد المجتمع الإسلامي!
وقيل لكامل الشناوي: ما رأيك في أسلوب سلامة موسى؟ فقال: «إن سلامة موسى يعبر بسهولة عن آراء غيره، ولو كانت له آراء ذاتية، لاستطاع أن يعبر عنها بسهولة أيضا!»
وقال: «إن سلامة موسى يعرف الموسيقى، ويشعر بالعلم، ولو أنه شعر بالموسيقى وعرف العلم لكان كاتبا عظيما!»
وجاء في مجلة «الثورة» في يناير سنة 1955 هذه الكلمات التالية على لسان المحرر تحت عنوان «بلاليص وجرادل»:
روى لي الأستاذ الأديب حبيب الزحلاوي أن الأستاذ سلامة موسى قد وضع دعاء لإحدى الطوائف باللغة العامية، ومن هذا الدعاء:
يا ألله نحن بلاليص فارغة، املأنا بنعمتك السماوية!
يا ألله أنت الوابور واحنا العربات، جرجرنا لساحة الملكوت.
يا رب أنت الحنفية واحنا الجرادل.
هذا هو ما قاله عني توفيق الحكيم، وطه حسين، وعباس العقاد ، وكامل الشناوي، وحبيب الزحلاوي.
وردي عليهم أمام القراء هو هذا الكتاب، وإن لم أقصد الرد عليهم بالذات؛ لأن كل ما قصدت إليه هو شرح الأدب كما أفهمه.
ولكني أرى من حقي، بل من حق القراء علي، بعد هذا المهرجان من السباب والبغض أن أنقل كلمة أديب معروف، هو الدكتور إبراهيم ناجي، وذلك قبل وفاته بنحو شهرين في سنة 1953؛ فقد ألقى حديثا عني في جمعية الشبان المسيحية بالقاهرة لم أحضره، فتكرم بأن أرسله إلي، وهو لا يزال عندي بخطه، قال:
أنا ما أقف الليلة لأمتدح سلامة موسى، فإننا تعودنا ألا يمتدح أحدنا الآخر، بل بالعكس كان أشهى شيء إلينا أن ينقد الواحد منا عمل الآخر نقدا نزيها صريحا، إني لو صورت سلامة موسى على حقيقته - وأعتقد أني أستطيع - فكأني أصور رجلا يدور حول نفسه، يبحث عن شيئين: الأول عن عيب فيما صنع، لعله يستطيع تلافيه في المستقبل.
والثاني الذي يبحث عنه، عن ناقد مخلص يستطيع أن يستزيد منه علما ومعرفة.
بل أكاد أتخيله، بعدما يفرغ من عمل قضى فيه الليالي الطوال دارسا باحثا منقبا، أتخيله كذلك المثال الذي جاء تمثاله آية، وأخذ الجائزة الكبرى في المعرض، لقد شوهد ذلك المثال يبكي، يبكي لا من الفرح ولكن من القهر، وهو يدور بعينيه في جوانب التمثال، فلما سئل عن بكائه قال: «لأني أبحث عن عيب فلا أجد ...»!
وأتخيل سلامة موسى كذلك بعد أن يفرغ من عمل فني استنفد جهده وأقض مضجعه وأخذ من نور بصره ... أتخيله كذلك الكاتب الإغريقي الذي يعلم أن محاولة الكمال من المحال، فيصيح يائسا، يائسا من العمر ألا يتسع لتمام الكمال في أي عمل مهما كان صغيرا: «لم يعد من المجهود إلا سبيل من اثنين: إما أن أحرق ما صنعت، وإما أن ألقي به للسوق.»
هذا هو سلامة موسى في صورة مجملة، أما التفاصيل فتذكرني بتفاصيل «ه.ج. ولز» قطعة قطعة، حتى لقد قلت حين علمت أن سلامة موسى في بدء حياته تتلمذ على عالم من علماء إنجلترا، وكان يلازمه ملازمة الظل ، إن هذا العالم ليس إلا ولز.
ولز بدأ حياته عالما في البيولوجية، وهكذا فعل سلامة.
ولز أخذ يبني الكوارث على أسباب اقتصادية، كما يتضح لنا من كتاب «سعادة البشر ومالهم ورخاؤهم»، وسلامة موسى هو أول مصري تكلم عن أهمية الأرقام الاقتصادية في تاريخ مصر والمصريين.
أجل يا سادتي، لقد كنت أقرأ له بعض الأحايين مقالات عن القطن المصري، أو العامل المصري، والتعطل المصري، فيعتريني دوار، يعتريني شيء كمن عاش في حلم فأفاق على حقيقته، فأقتطع المقال، وقد خيل إلي أن عليه أثر العرق والتعب والدموع، أقتطع المقال وأحتفظ به كما أحتفظ بقصيدة جميلة سأعود إليها مرة واثنتين.
وكان ولز مدرسا في حقبة من عمره، وسلامة موسى يمارس التدريس والتعليم، لا في المدارس، بل في الحياة.
هنا في هذه الجمعية الموقرة كنت أستمع إليه محاضرا ومعلما، وهو في ارتجاله كان أروع مما هو في مقالاته المحضرة؛ لأن ارتجاله يغرف من مخ موسوعي، أما مقالاته المحضرة، فرغم جودتها، كانت تتحدد بالموضوع الذي أراد أن يتحدث عنه.
هذا الأسلوب التعليمي هو أروع ما في سلامة موسى الرجل، هذه الرسالة التي وجد نفسه ملزما بها هي الخاصة الظاهرة في حياته وأسلوبه.
إن هذا الأسلوب الذي يعلمك، بغير أن يتعالم عليك، هو الصفة الكبيرة التي تجعل سلامة في جانب، وكل الكتاب في جانب آخر.
ولعل هذه النزعة التعليمية، هذه «الرسالة»، هي التي طبعت سلامة موسى بطابعه الذي تعرفونه، فأولا قد كلفته الرسالة ما تكلف الرسالة، وما كلفت من قديم أهلها والقائمين بها.
أولا:
كلفته أن يضحي، فضحى بكل شيء، إن الرسالة في صميمها ضرب من الهواية القاتلة، الهواية التي تجعلك تحتمل الآلام، تجعلك تحتمل كل شيء إلا أن تتحول عن تأديتها، وقد كلفته أن يندمج في غمار الذين يحمل إليهم الرسالة، ولا عيب في هؤلاء الذين يحملها إليهم إلا أنهم، كغيرهم، يجدون التبديل صعبا والتغيير قاسيا، فيشيرون إلى صاحب الرسالة. «من هذا الشخص الغريب الذي يتكلم كلاما غريبا؟!»
كلفته أن يكون صريحا ، وأن يكون صارما في الحق، وأن يقول ما يعتقد، وكلفته فوق كل ذلك أن يعادي بغير أن يعرف كيف يعادي.
وثانيا:
كلفته أن يذيعها وأن يكتب عنها، وأن يتحدث، وأن يؤلف، وأن يسمعها للناس بأية الطرق، فلهذا سار يكتب في مجلات يعرف سلامة وتعرفون أنتم أن أصحابها لا يرقون إلى فهم سلامة، فإذا أنت آخذت سلامة، أجابك في هدوئه المعتاد: ورقة واحدة يقرؤها شخص واحد تشعرني أني قمت بواجبي.
وما هي هذه الرسالة التي تقلق جوانب سلامة موسى وتحيك في صدره؟
هذه الرسالة هي: التغيير في الأسلوب القديم، أسلوب التفكير، أسلوب الكتابة، أسلوب الحياة.
أما عن أسلوب التفكير فهو قد علم الكتاب أن ينهجوا النهج العلمي من حيث الدقة ومن حيث الإحاطة ومن حيث البساطة.
هذه البساطة في التفكير والعرض معجزة لا يمكن أن تقلد بسهولة، يحكى أن أحد وزراء الصين أراد أن يمتحن الرسامين في رسم أبو جلنبو، فلما جاءوه بالصور الملونة والمزركشة رفضها، حتى جاءه رسام متواضع بصورة مكونة من ثلاثة خيوط، فأعطاه الجائزة قائلا إن هذه البساطة هي أعمق شيء، وأصعب شيء.
ولقد يجوز أن نصف هذه البساطة بالسهل الممتنع، ولكن الذي يجيء به سلامة أكثر من السهل الممتنع، وأعمق وأدخل في باب الإعجاز.
وأما عن الأسلوب الأدبي فقد اتهم ظلما بأنه لا يجيد اللغة حتى صار يؤلف الكتب في كيفية دراسة اللغة العربية، وحتى صار يخترع الألفاظ اختراعا ويضعها للاصطلاحات الجديدة أحسن وضع وأعجبه.
ولقد سمعت ذات يوم في إحدى الجرائد التي يحرر بها، والتي لا يمكن أن يقرأ فيها شيء يستحق القراءة - غير مقالاته هو - أنهم يتهمونه بعدم إتقان اللغة العربية، وأنهم يعيدون كتابة مقالاته، فذهبت لرئيس التحرير وخاصمته وقطعت صلتي بالجريدة، وإن استمر هو يكتب بها؛ لأنه يؤثر أن يستمر في تأدية الرسالة مهما كلفته التأدية.
أما أسلوب الحياة، فهو أول من جاء بهذا التعبير العجيب: «إن الإنسان عليه أن يمارس حياته.»
والواقع أن سلامة مارس حياته كما مارسها سقراط من قديم.
وأكاد أتخيله في الأزمنة الطاحنة التي يجتازها بهدوئه الممتاز يتذوق كأسا مريرة، ولكنها عذبة لنفسه مستساغة في يقينه.
إن شوقي الشاعر يقول:
دعوا الأكاليل للتاريخ إن له
يدا تؤلفها درا ومخشلبا
ولكني أقول: إن الفراشات تتجمع حول المصباح، وسلامة موسى مصباح لا يرهقنا ضوءه ولا يعنينا ولا يحرق أيدينا، بل ينير السبل ويهذب العقول، فهنيئا لمصر سلامة الذي ما فتئ يتكلم عن مصر، وما فتئ يحدثنا عن الفراعنة، مقارنا الماضي بالحاضر، متوسما الأمل في المستقبل، ناقدا للأخطاء، غامزا للأصدقاء، وفيا لنفسه، وفيا لمبدئه، ثابتا راسخا، مد الله في عمره، وأبقاه للعلم والأدب والفن. والسلام.
अज्ञात पृष्ठ