وأطلق أيديهم وأقلامهم وألسنتهم فى كل أمور المسلمين، فلم يقصروا فى إسداء النصح له أو البذل والعطاء للناس، أو غوث العجزة والمحتاجين، وأخبارهم معروفة، وفى النهاية جفاهم وتغير عليهم بمقولة الأعداء، وعاقبهم دون ذنب أو جرم، واستولى على كل أموالهم وأملاكهم وأنزل بهم أشد العقوبات، وقتلهم؛ والسبب فى تغير هارون: أن هارون كان يحب جعفر بن يحيى حبا شديدا، وكان لهارون أخت تسمى العباسة، وكان أيضا يحبها ويكلف بها كلفا شديدا، وحينما كانت تجلس فى المجلس كان يأمر فيسدلوا الستائر، وكان جعفر يجلس على جانب وعلى الجانب الآخر كانت تجلس العباسة حتى يراهما هارون، وانصرم الوقت ومضى الزمان على هذا الحال. ومل هارون وتضايق، فقال لجعفر: أزوجك أختى بشرط ألا تتحدث معها أو تقترب منها، فوافق جعفر على هذا الشرط، وكانت العباسة سيدة جميلة وكان جعفر أيضا غاية فى الجمال، ولما كانا يجلسان فى مجلس واحد وكلاهما حلال للآخر فقد نفد صبرهما، فاحتالا سرا واجتمعا، وأولدها جعفر ولدا أخفته، فعلمت زبيدة فأخبرت هارون أن للعباسة ابنا من جعفر أرسلته إلى مكة، فأرسل هارون شخصا أتاه بالخبر، وحينما انتشر الأمر وذاع تغير هارون على جعفر، ووجد الأعداء منفذا للإثارة والتحريض وقالة السوء، فأخذوا أمام هارون يسيئون القول عن جعفر والبرامكة واستمروا على هذا حتى غيروا قلب هارون كله، فقتلهم جميعا وأبادهم ولم يبق لهم على أثر فى الدنيا، وحينما صاروا جميعا فى حكم العدم اختلت أمور المملكة، ولم يكن هناك من يستطيع إصلاحها أو تدبير أمورها، ونقص دخل بيت المال، وندم هارون على فعلته، ولكن لم تكن هناك فائدة فقد خرج الأمر من اليد، وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيار أميرا على سمرقند، ولم يدفع ما طلبوه من أموال العشور والخراج، وشق عصا الطاعة فأمر هارون هرثمة بن أعين- الذى كان أميرا على خراسان- بحرب رافع فأبعد رافع هرثمة عن باب سمرقند ولم يمتثل، وحينما وصل الخبر إلى هارون أخذه الغضب وأعد جيشا، وكان قد وصل إلى نواحى خراسان. وحينما وصل إلى كرمانشاه أرسل المأمون على رأس عشرة آلاف فارس إلى مرو ولحقه بعد شهر واحد، ومات حينما وصل إلى طوس. وكان قد ذهب إلى الحج قبل وفاته وأخذ البيعة لأبنائه الثلاثة: الأمين والمأمون والمؤتمن من الحجاج الذين أتوا من كل أطراف الدنيا، فقد جعل ولاية العهد فى أبنائه الثلاثة، وقسم الولايات: فالعراق واليمن والحجاز وبعض أجزاء الشام لمحمد الأمين، وخراسان وما وراء النهر والهند والسند والنيمروز وكابل وزابلستان لعبد الله المأمون، وجزءا من الشام والمغرب وآذربيجان وبحر الروم والزنج والحبش للمؤتمن، وكتب المنشورات على هذا النحو، وأشهد الحجاب، ووضع منشورا فى الكعبة، وأعطى نسخة منه لكل ابن.
الأمين 14
وهو أبو عبد الله محمد بن هارون الرشيد. وحينما توفى الرشيد فى طوس قال للفضل بن الربيع وصالح: هذا المال الذى أتيت به إلى خراسان سلموه كاملا إلى المأمون فقد وضعت من أجله أموالا كثيرة، ولكنهما خانا ولم ينفذا وصيته، وقادا جيشا، وحملا الخزائن ودخلا بغداد، وقدما ذلك الجيش وتلك الخزائن إلى محمد الأمين، وأخذوا البيعة من الجند، فأكرمهم الأمين وأثاب الجيش وأعطى الجند حق البيعة، وحرم المأمون من أموال وخزائن والده. وأرسل المأمون شخصا إلى هرثمة ليصالح رافعا ورجع من سمرقند. ونشر المأمون العدل فى خراسان واستن سننا حسنة، وأقام فى مرو فى قصر جميل يليق بالملك وكان يحضر كل يوم فى المسجد الجامع ليفض المظالم وعين العلماء والفقهاء، وكان يستمع إلى المتظلمين وينصفهم، ومنح الناس خراج عام.
Shafi 128