ومن قبل ابن العميد وابن عباد كانت المساجد تمتلئ بالناس بعد العصر في رمضان، وكان الواعظون والقصاص يلهون الناس عن متاعب الصوم بفضل ما ينثرون عليهم من العظات والأقاصيص، ولو راجعنا التاريخ لحدثنا عن شواهد ذلك من أخبار المساجد في البصرة والكوفة وبغداد.
ولا تزال هذه السنة متبعة في الديار المصرية، ورحمة الله على الشيخ محمد غريب الذي كان يلهينا ويشجينا بشرح الأحاديث في مسجد سنتريس، ورحمة الله على الشيخ الرفاعي الذي كان يأتي بالعجب وهو يلقي العظات بعد العصر في مسجد سيدنا الحسين.
وكان لعلماء القاهرة سنة مرضية، فقد كان منهم من يذهب إلى المسجد بعد السحور ثم يحدث الناس إلى صلاة الصبح، ولهم في ذلك نوادر يضيق عن سردها هذا الحديث.
ولا أستطيع أن أزعم أني قادر على وصف ما يقع في بغداد من الأسمار والأحاديث في ليالي رمضان، فإني لم أشهد فيها شيئا من هذا النوع، ولا أزال بفضل انقطاعي للدرس وانعزالي عن الناس كالشاعر الذي يقول:
يا أيها السائل عن منزلي
نزلت في الخان على نفسي
آكل من خبزي ومن كسرتي
حتى لقد أوجعني ضرسي
فاسمحوا لي أن أحدثكم عما يقع من ذلك في البلاد التي يرويها النيل، وأكاد أجزم بأن جميع الناس في القرى المصرية يقطعون أمسياتهم في تبادل الزيارات، ولهم في ذلك طرائق لطيفة تتمثل في الوفود التي تنتقل من بيت إلى بيت ومن دوار إلى دوار، والدوار في بلادنا هو المضافة الكبيرة التي يسمر فيها الأهل والأقربون ويتلقون فيها الضيفان.
أما القاهرة فلها أحوال، فقد كانت إلى نهاية الجيل الماضي تعرف التزاور في البيوت، ثم قلت هذه العادة الحسنة رويدا رويدا حتى كادت تتقلص، ولم يبق فيمن أعرف من ينتظر الناس بمنزله في ليالي رمضان إلا العدد القليل.
Shafi da ba'a sani ba