ولد، رحمه الله، سنة (1245) (كما أخبرني من لفظه) في القيطنة وهي قرية اختطها جده الفاضل الجليل السيد المصطفى في إيالة وهران من أعمال الجزائر، وتربى في حجر والده إلى أن بلغ سن التمييز، فشرع في حفظ الكتاب العزيز، ثم تلقى الفنون على والده العلامة وغيره من الفضلاء، فقرأ النحو، والتوحيد، والأصول، والوضع، والمعاني، والبيان، والتفسير، على والده، وقرأ النحو أيضا على عمه السيد المصطفى بن محيي الدين. وقرأ الحديث «البخاري» و«مسلما» على عمه الأمير السيد عبد القادر قدس سره، ورسالة ابن أبي زيد عليه أيضا، وقرأ «الشمسية» أيضا على ابن عمة والده السيد مصطفى ابن التهامي. وقرأ «شرح الكبرى» للإمام السنوسي على السيد الحبيب ابن المصطفى ابن عمة والده، فبرع وحصل ملكة جيدة، وحضر مع عمه الأمير عبد القادر قدس سره من مواقعه الشهيرة في المغرب ثلاث وقائع كانت بين الأمير وسلطان مراكش، ثم حمل مع جملة العائلة الكريمة إلى فرنسا، ثم صار نابليون رئيس جمهورية فرنسا، واستولى على رؤسائها تمام الاستيلاء، استحسن أن يمتن على الأمير ويوفي له بالعهد الذي كان عاهدته فرنسا يوم تسليمه نفسه إليهم، فاقتضى له كمال السياسة أن يفرق بين الأمير وبين إخوته ويبعثهم إلى الجزائر ويجعلهم كالمراهين عند تسريحه، ثم ينظر ما ذا تتكلم به فرنسا في أنديتها ومحافلها. ثم بعد استقرارهم في البلدة المذكورة بثلاثة أشهر جاء هو إلى الأمير وأعطاه تسريحه بيده، وبعد أن سرحه بأيام قلائل اتفقت على جعله ملكا عليها، وكان المترجم مع والده وأعمامه لما سرحوا إلى مدينة عنابة من أعمال الجزائر أقاموا بها نحوا من خمس سنين، ثم أذنت لهم الدولة المذكورة باللحوق بالأمير إلى الشام، فحضروا دمشق سنة (1273) فقرأ المترجم بدمشق على فضلائها أيضا، منهم شيخنا الشيخ سليم العطار، حضره في مختصر السعد، وكذلك الشيخ محيي الدين الإدلبي، حضره فيه أيضا. وأخبرني من لفظه أنه استجاز من سيدي الجد، قدس سره، وأنه كان له حضور عنده في بعض دروسه، ثم في سنة (1277) بعثه الأمير وأصحبه جملة مكاتيب للأعيان بدار السعادة لكي تعين لجميع أقارب الأمير مرتبا، فأجابته لذلك، وعينت لجميع إخوة الأمير وأقاربه المرتبات الكافية، ومنها للمترجم ألفا وخمسمائة قرش شهريا. وفي سنة (1281) لحق بالأمير بعد سنة من سفره للحجاز حتى أدى الفريضة، وأطلعني على إجازة من السيد عبد الغني الدهلوي ثم المدني، وكان سمع منه في المدينة المنورة شيئا من «سنن الترمذي» فأجاز له ذلك وغيره إجازة عامة، واستجاز أيضا من الشيخ عبد الغني الميداني الدمشقي، بعد أن قرأ عليه «الشفا» وأقام المترجم بدمشق مدة، وقطن ناحية باب السريجة، ودرس بجامع العنابة هناك، وبنيت له في الجامع المذكور حجرة مرتفعة جنب مأذنته، فأقام بها يرشد ويعظ. وتلقى عنه الطريقة القادرية زمرة من أهالي تلك الناحية، وأقام الذكر ثمة بعد العشاء، واجتمع لديه مريدون حسن اعتقادهم فيه جدا. ثم تحسن لديه الإقامة في بيروت لموافقة هوائها له، فارتحل من دمشق إليها في سنة (1294) ومع ذلك كان يتردد ما بينها وبين دمشق، غير أن معظم إقامته كانت في الثغر، وغالب مجيئه لدمشق أواخر فصل الربيع إلى أواخر الصيف، هربا من شدة الحر وقتئذ في بيروت، وتصدى أول مقدمه إلى بيروت إلى الوعظ والتدريس العام في كتب القوم، فكان يبدي من باهر الإرشاد وفصاحة اللهجة ما يدهش الألباب، ثم اقتصر على الوعظ والإرشاد في بيته مراعاة لصحته، وكان يخبر عن ضرب لطيف من التعليم، كان والده يمرنه عليه أيام طلبه للعلم، وذلك أنه كان يتلقى عن والده الدرس ثم يأمره بمطالعته وحفظه وإلقائه عليه في اليوم الثاني من سماعه عليه، فكان يلقيه كما سمعه لتمام محفوظيته، ويجعله والده كأنه شيخه وهو تلميذه، وكان تلقى الذكر عن عمه الأمير قدس سره، وأجاز له بالأوراد القادرية، وتلقى أيضا عن السيد سلمان أفندي نقيب السادة الأشراف في بغداد. ومن سلالة القطب الجليل السيد عبد القادر الجيلاني، قدس سره، وذلك عند زيارته لهذه البلاد، وقد كان المترجم، رحمه الله، جليل القدر، مهابا، تكسو مجلسه الهيبة والوقار، كريم الطبع، حسن المسامرة، لطيف المعاشرة، ذا فكرة وقادة وحافظة عجيبة، مشهورا ببلاغة الإنشاء وجودة النظم، وكان غيورا على المنكرات والبدع 1، سليط اللسان على المبتدعين، ينهج في أحواله منهج السلف ويدعو إلى ذلك، وكان لا يرضى بأدنى بدعة مخالفة لما يعهده من السيرة الحميدة، ولذلك كان كثير الاحتجاب، لا يخرج إلا لبعض إخوانه أو لمنتزه يخلو به معهم، فلا يتردد إلى الكبراء ولا يزورهم ولا يجيب دعوتهم وإن كان يجلهم إذا صادف وجودهم في مجلس، ولم يحصل له الإجلال والشهرة الكبرى إلا في بيروت، حتى صار عند أهلها أول جليل بها، ولا يزوره أحد إلا ويذكر له ما يبلغه من المنكرات، فيستغرق مجلسه في ذمها ولعن فاعلها وتقبيحهم والدعاء عليهم، وتأخذه الحدة العمرية جدا، ويظهر من التألم ما لا مزيد عليه. واتفق أن أحد الوجهاء في بيروت صادفه في الطريق فأقبل عليه وقبل يده، وكان معه ابنه وعلى رأسه قبعة تشبه القبعة الفرنجية، فقال له: من هذا؟ فقال له: ابني، فقال له: أكفرتم بعد إيم?انكم الله أكبر، وصار يكرر عليه ذلك، فطفق يعتذر له ولا يزيده إلا إنكارا. وكان ينكر علي إدخال الساعات إلى الجوامع ويقول: إنها في دقها تشبه الناقوس، وأنكر مرة على إمام جامع إقراره على امرأة كانت تقعد عند بابه فتحفظ نعال المصلين وأمر بإخراجها. وله في النظر إلى دقائق الأحوال فكر عجيب، وربما يمرض من كثرة التألم على بعض المنكرات. ولما قدم دمشق مرة وشاهد في مرجتها ما استحدث من القهاوي على جانب بردى تألم وقال: متى كانت دمشق في هذا الحال، وصار يسترجع ويحوقل، وكان يسمي بيروت دار الكافرين ودمشق دار الفاسقين، ولما رحلت إلى بيروت صحبة عمه صفينا العلامة المفضال السيد أحمد الحسني سنة (1315) استقبلنا المترجم إلى محطة الحدث وأعد لنا أنفس عجلة 1، وعمل لنا دعوة عظيمة، وكنت أشاهد من سيرته وغيرته وهديه أحوالا عجيبة، وكان يضرب الأمثال بهدي سيدي الجد، ويترحم عليه كثيرا، وكان يذكر لإخوانه أنه لم ير من طبقة سيدي الجد مثله، بل إني ما رأيته أثنى على أحد كثنائه عليه، وقال: كذا فليكن العالم ورعا وتعففا وانزواء وعدم مزاحمة على مطلب دنيوي وصلاحا وشدة إتباع، يعني ذلك ما كان عليه سيدي الجد، وكان يروي له مناقب جمة، ورآه ليلة وفاة الجد برؤيا غريبة كان دائما يقصها ويعبرها بعلو مقامه. ولما أخبرني في بيروت أنه أخذ عن سيدي الجد أحببت أن يكتب لي إجازة فامتنع تواضعا، ثم ألححت فأبدع في تلك الإجازة. وأطلعته في إحدى رحلاته إلى دمشق على كتابي «الجواب السني» فقرظه تقريظا بديعا.
وأنشدني مرة:
ولقد سألت عن الكرام فقيل لي ... إن الكرام رهائن الأرماس
ذهب الأكارم جودهم ووجودهم ... وحديثهم إلا من القرطاس
Shafi 79