ذكر طبقات مشاهير الدمشقيين من أهل القرن الرابع عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
(1)
طاهر أفندي بن عمر بن مصطفى الآمدي، الشهير بالمفتي 1.
من أجل أعيان فقهاء الشام وأوحدها في التفنن بالفروع والأصول والمعقول والمنقول.
Shafi 5
ولد سنة (1215) ونشأ مجتهدا في تحصيل العلوم، فقرأ على أبيه علامة عصره، وعلى الشيخ سعيد الحلبي ولازمه كثيرا، ثم بعد وفاته لازم ابنه الشيخ عبد الله الحلبي، وأم بالحنفية بعد أبيه في الجامع الأموي، وكانت له حجرة في المرادية يقيم بها للقراءة والإقراء، وكان من أمناء الفتوى مدة حسين أفندي المرادي، وابنه علي أفندي، ولما عزل نفسه عن الإفتاء علي أفندي المذكور لرؤيا هالته، وكان المرجع في الشام الشيخ عبد الله الحلبي فتذاكر مع والي الشام وقتئذ في نصب طاهر أفندي المترجم مفتيا فعينه، وورد المنشور من باب المشيخة له بها، وقام بأعبائها، وكتب على الفتاوى، وأتخذ أولا المدرسة الجقمقية دارا للفتوى وصار يجلس بها. وكان له دار ملاصقة لباب الجامع الأموي من ناحية النوفرة، ثم في سنة (1273) وقع حائط الجامع من ناحيتها فهدمت، فأنهى والي الشام وقتئذ لدار السلطنة بذلك فوردت إرادة سنية بإعطاء خمسين ألف قرش للمفتي المذكور لشراء دار له فأعطي ذلك واشترى دارا في زقاق الشيخ عمود داخل باب الجابية وعمرها عمارة حسنة وأما داره الأولى الملاصقة للجامع فجعل بعضها زاوية وبعضها أدخل للمشهد، ووقتئذ وسع المشهد وبني داخله على هذه الكيفية.
وكان في حائطه قديما كوة يقال إن رأس الحسين عليه السلام وضع بها. وكان وراءها مربع من الدار المذكورة، فأدخلت للمشهد وجعل لها محراب وجعل المحل الذي يقال إن رأسه الشريف وضع فيه على هيئة قبر، وصار يقال له مشهد الحسين من حينئذ.
Shafi 6
وأقول: لم يتعرض لذلك الحافظ ابن عساكر أصلا، مع أني سبرت «تاريخه» أجمع، نعم الفجوة الأولى من هذا المشهد كانت تسمى مشهد زين العابدين لكونه لما قدم دمشق كان يصلي فيه كما سلف ذكره 1 في التابعين الذين نزلوا دمشق، ولم يزل المفتي المذكور على طريقته المثلى إلى أن وقعت حادثة النصارى سنة (1277) الآتي إن شاء الله تعالى تفصيلها 2، ففيها لما قدم فؤاد باشا من دار السلطنة مفتشا على هذه القضية أمر بإجلاء أعيانها عن دمشق، ومنهم المفتي المذكور، فأجلي مع الشيخ عبد الله الحلبي، وعمر أفندي الغزي، وأحمد أفندي حسيبي، إلى الماغوصة، فأقاموا بها مدة، ثم نقلوا منها إلى صاقص ومنها إلى إزمير ومنها إلى الآستانة، واسترحموا العفو عنهم بعد أمور يطول شرحها، ثم إن المفتي المذكور بعد ذلك تقلد القضاء في حمص لما كانت مركز المتصرفية، ولما نقل المركز إلى حماة نقل إليها، واستمر متوليا القضاء بها سبع سنين ثم سافر إلى الآستانة وعين قاضيا في معمورة العزيز، ثم أتم مدته وقصد الآستانة وعين قاضيا في جهة طرابلس الغرب، ثم أناخ ركابه بوطنه دمشق، ثم وجهت عليه بها نيابة المحكمة الكبرى، فلم يزل عليها إلى أن توفي في (16) ربيع الثاني سنة (1301) وشهدت الصلاة عليه في جامع بني أمية ودفنه في باب الصغير، ولي منه إجازة عامة بما يجوز له روايته رحمه الله تعالى.
ووالده الشيخ عمر 1 ممن هاجر من ديار بكر إلى دمشق واتخذها دار إقامة وقدم بابنه المذكور وعمره نحو سبع سنين، وأبقى بعض أولاده في وطنه الأصلي، ووجهت عليه إمامة الحنفية بجامع بني أمية، وقرأ عليه جملة من الفضلاء في المعقول إلى أن توفي سنة (1263) رحمه الله تعالى.
***
Shafi 7
(2)
السيد محمود أفندي الحمزاوي بن محمد نسيب بن حسين بن يحيى بن حسن بن
عبد الكريم، المعروف كأسلافه بابن حمزة الحسيني الحنفي الدمشقي 1.
علامة الأعلام، وفهامة الأنام، ونخبة الأئمة الفخام، وفخر الموالي العظام، ومرجع الخاص والعام، عمدة المفتين، وقدوة المحققين، الذي طنت حصاة فضله واشتهر في الآفاق كمال علمه ونبله، فهو الحبر الذي فاق بصفاته الأوائل، والبحر المشتمل على جواهر الفضائل.
Shafi 8
ولد بدمشق سنة (1236) ودخل المدرسة سنة (1248) واجتهد في تحصيل العلوم، فأخذ عن العلامة الشيخ سعيد الحلبي، والمحدث الكبير الشيخ عبد الرحمن الكزبري، والقدوة الشيخ حامد العطار، والمتفنن الشيخ حسن الشطي، والمحقق الشيخ عمر الآمدي، والمدقق الشيخ منلا بكر الكردي، وغيرهم ممن ذكرهم في «ثبته» المسمى ب «عنوان الأسانيد» ثم تعاطى النيابات الشرعية في دمشق وغيرها سنة (1260) وسافر إلى دار السلطنة وأناطولي سنة (1268) بعد أن انتظم في سلك الموالي سنة (1266) وتدرج في الرتب العلمية إلى رتبة إسلامبول مع ما يتبع ذلك من النياشين الرسمية، مثنى وثلاث ورباع مجيدية وعثمانية، ولم تر قط عليه لكنها في الصندوق لديه، وتولى إفتاء الشام سنة (1284) بإنهاء والي الشام وقتئذ محمد راشد باشا فاشتغل بتحرير المسائل الفقهية بجد واجتهاد، ودقق وحقق، واشتهرت تحقيقاته البديعة، حتى كانت تتوارد عليه المسائل المعضلة من كل فج، ووقع بينه وبين جمعية المجلة في دار السعادة مناقشات كلية، وكانوا يرجعون إليه فيما أشكل من المسائل، ومع علو كعبه في العلوم العقلية والنقلية كان له الباع الطويل والتفنن في كمالات وصنائع شتى، منها ما اشتهر عنه من أمر الكتابة الكثيرة على القطع الصغيرة، فكان يكتب سورة الإخلاص على حبة من حبوب الأرز، وبعضهم يبالغ عنه بأكثر من ذلك.
وبالجملة ففضله أشهر من أن يذكر وأما مؤلفاته فهي تناهز الأربعين منها «درر الأسرار» وهو التفسير الجليل بالحروف المهملة، و«دليل الكمل إلى الكلم المهمل» و«الفتاوى المنظومة» في مجلد، و«الفتاوى الحمزاوية الكبرى» و«نظم الجامع الصغير» للإمام محمد 1 في نحو ثلاثة آلاف بيت من بحر البسيط، و«نظم مرقاة الأصول» من البحر المذكور، وشرح «بديعية» والده شرحا لطيفا سماه «كشف القناع».
Shafi 9
ومن مؤلفاته [أيضا] 2: «غنية الطالب بشرح رسالة الصديق لعلي بن أبي طالب» وكتاب «القواعد الفقهية» و«ترجيح البينات» وغير ذلك. وقد اقتبست معظم ما ذكرت من رسالته التي ترجم بها نفسه بالطلب الحثيث من كمال بك أحد كبراء الأدباء وفضلاء دار السلطنة العلية وذكر في تلك الرسالة بعض محاسن أخلاقه رحمه الله تعالى، فقال: أما أخلاقه فمنها أن عنده مطالعة الكتاب مقدمة على منادمة الأحباب، يكره كثرة المخالطة ويأنف المشاططة والمغالطة، لا يحب الدخول فيما لا يعنيه ويكره أكل لحم أخيه، يفر إلى الجبال كيلا يحضر مجامع الرجال ويرجح راحة البال على كثرة المال متكاسل في سعي الأقدام إلى منازل الأنام، عنده منة الرجال أثقل من الجبال، يتمثل بقول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: لنقل الصخر من قلل الجبال أحب إلي من منن الرجال، متباعد عن قيل وقال، ومختار للوحدة على كل حال، يميل إلى السكوت كميله إلى ضروري القوت، ثم قال مخطابا للكمال المذكور:
كيف تهدى نقائصي للكمال ... هل تساوى قبائح بالجمال
ليس إلا امتثال أمرك أدى ... لارتكابي لديك سوء خصالي
وقال أيضا:
يا ذا الكمال الذي شاعت فضائله ... في كل قطر فلا يخفى كبدر سما
لا تعتمد خبر الأحباب متثقا ... إذ حسنوا الظن بي واستسمنوا الورما
ما كل فرد كمالا في الرجال ولا ... كل الحدائق في الدنيا غدت إرما
إن رمت ترجمتي مني فخذ خبري ... أنا السراب على بعد لأهل ظما
Shafi 10
ولم يزل ناشرا ألوية العلم والفضل إلى أن توفي ليلة الاثنين تاسع محرم الحرام سنة (1305) وحضرت الصلاة عليه بجامع بني أمية ودفنه في مقبرة باب الفراديس وكان الجمع متوافرا ولي منه إجازة عامة بجميع مروياته أجاز لي ذلك مرتين مرة في ذي الحجة سنة (1300) ذهبت لداره صحبة خال والدي الفقيه الكامل الشيخ حسن جبينة الشهير بالدسوقي 1 فناولني إجازته التي جمعها في أربعة أوراق وأعدها للمستجيزين فنسختها ثم ختمها، وشافهني بما يجوز له، ومرة في غرة محرم سنة (1302) ذهبت لداره أيضا صحبة الفاضل المذكور وطلبنا منه أن يسمعنا حديث الرحمة المسلسل بالأولية فأسمعنا إياه وأجاز لنا أيضا ما يجوز له روايته، جزاه الله خير الجزاء وأناله ما يتمناه يوم الجزاء آمين.
***
Shafi 11
(3)
محمد سعيد أفندي بن محمد أمين بن محمد سعيد بن علي بن أحمد
المعروف بالأسطواني
الحنفي الدمشقي 1،
قاضي دمشق الشام وأحد أعيانها ورؤسائها العظام.
Shafi 12
ولد سنة (1237) بدمشق ونشأ بها على طلب العلوم وأخذ عن فضلائها وابتدأ في العلوم العربية وبالوسائل إلى العلوم الشرعية عند الشيخ هاشم التاجي، والشيخ عبد الله الحلبي، والشيخ حسن الشطي، وحضر عند شيخ الشيوخ المحدث الشهير الشيخ عبد الرحمن بن محمد الكزبري، وأجازه بما حواه ثبت والده المذكور. وأخذ عن العلامة الشيخ سعيد الحلبي، والإمام الشيخ حامد العطار، والشيخ عبد الرحمن الطيبي، وأجازوه جميعا بمروياتهم. ولم يزل مقبلا على الاشتغال والأخذ عن كمل الرجال حتى فاق واشتهر، وتفنن ومهر، واستفاد وأفاد، وبلغ المراد، وولي خطابة الجامع الأموي سنة (1256) فخطب سنين عديدة. وفي سنة (1258) قصد الديار الحجازية واستجاز من فضلاء هاتيك الأباطح الذكية، فأخذ عن العالم الزاهد الشهير الشيخ محمد بن أحمد العطوشي، وأجازه بإسناد عال جدا. وأخذ عن العلامة الشيخ يوسف الصاوي المالكي في المدينة المنورة. واستجاز من الإمام العارف بالله تعالى صاحب الكرامات الشهيرة الشيخ حسين سليم الدجاني مفتي يافا فأجازه بمروياته ومصنفاته. واستجاز بالمراسلة من العلامة الشهير في الآفاق الشيخ إبراهيم الباجوري. وأخذ الطريقة الأحمدية عن المرشد الكامل الشهير الشيخ إبراهيم الرشيد فلقنه الذكر وألبسه الخرقة، وتلقن الذكر أيضا ولبس الخرقة من الإمام العالم العابد الحسيب النسيب فضل باشا بن الغوث علي بن محمد بن سهل مولى الدويلة وأجازه بما يجوز له روايته عن مشايخه، منهم العارف الجليل عبد الله بن حسين بن طاهر العلوي وأسانيده معروفة في مؤلفاته الشهيرة. وللمترجم إجازات عن مشايخ آخرين غير ما ذكر. وكان حسن الأخلاق، كريم السجايا، واسع الصدر، لطيف المزايا، متكلما بالصدق، قوالا بالحق، لا يبالي في إجراء الحقوق ورفع المظالم، محبوبا للولاة والحكام، مهابا مقبولا للخاص والعام. وانتخب للمعضلات ومهمات الأمور، فتعين في المجلس الكبير في الشام سنة (1279) ولم يزل موظفا به إلى أن حدث ترتيب جديد مبني على تأليف مجلسين كبيرين يدعى أحدهما مجلس إدارة الولاية الكبير والثاني يدعى مجلس دعاوى الولاية الكبير، فعين عضوا في المجلس الثاني وذلك سنة (1282) ثم في سنة (1283) عين نائبا لمحكمة الباب ورئيسا لمجلس الدعاوى ثم في سنة (1284) وجهت عليه رتبة إزمير، وعين نائبا إلى طرابلس الشام ثم استعفى منها بعد سنة وشهرين ورجع إلى دمشق، ثم في (15) ربيع الأول سنة (1286) وجه عليه قضاء دمشق فباشر في خدمة الشريعة المطهرة على الوجه الأتقى متمسكا في فصل القضايا بالعروة الوثقى ثم أعفي منها ولازم الإقراء والإفادة وانتفع به كثير من الطلاب. وكان حسن التقرير، فصيح اللسان، حسن الضبط، له اعتقاد حسن في الصلحاء ومحبة الفقراء وإكرام للغرباء، مشحونة مجالسه بالمذاكرة العلمية والمساجلة الأدبية. وله تعليقات على «الأشباه والنظائر» 1 والطحطاوي 2 وابن عابدين 3 ولم يزل على حالته الحسنى إلى أن توفي في (19) شعبان سنة (1305) وصلى عليه شيخنا العلامة الشيخ سليم العطار في داره بوصية منه. وكان أوصى أيضا أن لا يفعل في جنازته شيء من المبتدعات فنقل كما أوصى، ودفن في سفح قاسيون في تربة نبي الله ذي الكفل عليه الصلاة والسلام.
***
Shafi 14
(4)
الشيخ حسن بن أحمد آغا بن عبد القادر آغا الشهير بجبينة 1
الحلبي الأصل.
Shafi 15
سبط العلامة الشيخ السيد محمد الدسوقي المتقدم ذكره، وخال والدي، الشافعي الخلوتي الفاضل الشهير والفقيه النحرير. كان إماما بارعا مشاركا في عدة فنون، له استحضار حسن للفروع الفقهية وتضلع من مسائله وأبحاثه. ولد بدمشق سنة (1241) وسرى سيرة آل والدته السادة الدسوقيين في أخذ العلوم والطريق عن الأجلاء الأعلام، فقرأ على الشيخ هاشم التاجي بعض كتب في النحو والفرائض، وعلى الشيخ محمد بن عبد الله الخاني حصة من الفقه الشافعي، وكذا عند الشيخ أحمد البغال. وحضر في النحو أيضا عند الشيخ عبد الرحمن بايزيد، ولازم الملازمة التامة، ليلا ونهارا، دروس سيدي وجدي العلامة الشيخ قاسم الشهير بالحلاق، فقرأ عليه معظم كتب الفقه والحديث وغيره، وأعاد له دروسه بين العشائين في جامع السنانية قبل سيدي الوالد، ثم بعد وفاة سيدي الجد المنوه به لازم شيخنا، فريد عصره، الشيخ سليم العطار، فسمع منه مجالس من «الإحياء» و«البيضاوي» و«القسطلاني» و«نوادر الأصول» وغير ذلك. واستجاز من مشاهير فضلاء عصره دمشقيين وغيرهم، وجمع ذلك في «ثبت» فممن أجازه بجميع مروياته سيدي الجد المتقدم ذكره، والعلامة الشيخ إبراهيم الباجوري، والشيخ إبراهيم السقا، والشيخ أحمد [بن] زيني دحلان مفتي مكة المكرمة، والعارف بالله تعالى الأمير عبد القادر الحسني الجزائري، والمولى محمود أفندي الحمزاوي مفتي دمشق، وشيخنا المحدث الشيخ سليم العطار، وغيرهم ممن يطول المقام بذكرهم. ولما وظف سيدي الجد إماما بجامع السنانية صار المترجم إماما بجامع حسان مكان سيدي الجد وأقرأ به وفي جامع السنانية دروسا خاصة وعامة وانتفع به كثير من المتفقهة الشافعية، وكنت حضرت عليه حصة من «شرح الحضرمية» وسمعت منه «الشمائل» و«الأربعين النووية» وغيرها وأجاز لي إجازة عامة، وقد انتفعت بصحبته كثيرا جزاه الله خيرا، وكان رحمه الله عالما لطيفا وفاضلا ظريفا، متواضع النفس، سخي الكف، له لطف طبع ومنادمة مقبولة واطلاع على أخبار المتقدمين، وله رسالة في الأخلاق التي ينبغي للإنسان أن يكون عليها أخذها من الآيات والأحاديث الشريفة، وله شعر متوسط مقبول منه قوله في شروط السيران:
يا أيها الجمع على السيران .... فأجمعوا دراهم الإخوان
وبعد سيروا بالسرور والهنا .... وأرسلوا أكلا لنا يشبعنا
وهيئوا هذا الذي ذكرته .... ونوع حلو ليس يخفى نعته
واصطحبوا صوتا جميلا حسنا .... ومن يكون مطربا يضحكنا
وأبعدوا عمن إلينا يرقب .... وإن تشاؤا في الرياض فالعبوا
وانتخبوا لنا مكانا معتبر ..... وأجلسونا حول زهر ونهر
لنجتلي ثلاثة تجلي الحزن .... الماء والخضرة والشكل الحسن
وقال في غلام اسمه الرشا على لسان من يحبه:
إن فؤادي والحشا .... لم يقبلا إلا الرشا
Shafi 16
نظمت فيك ما أشا .... فقل حبيبي ما تشا ولم يزل على سيرة حميدة وطريقة سديدة إلى أن أصابه مرض الاستسقاء بقي معه نحو سنتين وفيه توفي يوم الثلاثاء قبيل العصر في (12) محرم سنة (1306) وحضر مشهده جملة من علماء العصر، منهم العلامة الشيخ سليم العطار، وحضر الصلاة عليه أيضا بجامع السنانية وأم الوالد الماجد بالصلاة عليه إماما، ودفن في مقبرة الباب الصغير في جوار مقام سيدنا بلال رضي الله عنه.
* وجبينة: بضم الجيم أوله وفتح الموحدة بعده ثم ياء تحتية ساكنة لعلها تصغير جبنة لقب لعائلة فخيمة في حلب الشهباء، وكان جده عبد القادر آغا قدم منها إلى الشام، وكان تاجرا كبيرا، واتصل ابنه أحمد آغا والد المترجم ببنت العلامة السيد الشيخ محمد الدسوقي الحسيني رحمهم الله تعالى .
***
Shafi 17
(5)
الشيخ محمد بن مصطفى الطنطاوي الأزهري الشافعي الحسيني 1 نزيل دمشق.
علامة عصره ووحيد دهره. اجتمع فيه من العلوم ما لم يجتمع في غيره، واستخرج من بحار المعارف نفائس الدرر بدقيق فكره.
ولد كما أخبرني ولده صديقنا الشيخ عبد القادر حفظه الله تعالى بعد سنة (1230) بقليل في بلده، وحفظ القرآن المجيد وهو ابن سبع سنين، وأقبل على طلب العلم، وأخذ عن أفاضل تلك الديار. ثم قدم إلى دمشق سنة (1255) مع أخيه، وكان من الجنود المصرية فأقام بها خمس سنين، وفي خلالها حضر مجالس من دروس بعض فضلاء دمشق وقتئذ. وكان مر على حلب وأخذ بها عن العلامة الشيخ أحمد الزمانيني، ثم رحل إلى مصر، واشتغل في الجامع الأزهر بإتمام المادة على فحول علمائه، كالعلامة الشيخ إبراهيم الباجوري، والشيخ إبراهيم السقا، والشيخ محمد الخضري، وغيرهم.
Shafi 18
ثم رجع إلى دمشق وقد أتقن كافة العلوم من صرف ونحو ومنطق وبيان ومعان وكلام وحديث وتفسير وفقه وهيئة وحساب وميقات وحكمة وغيرها، حتى صار آية في المعقول والمنقول باهرة، فطفق ينشر لواء العلوم، وكتب بخطه الجميل كتبا كثيرة، وانتفع به من الطلبة جم غفير. ولما قدم من مصر سكن أولا في ميدان الحصا، وأقرأ الدروس في حجرة بجامع صهيب سنين عديدة، وورد عليه هناك للاستفادة من لا يحصى. ثم في سنة ثمانين تقريبا نزل من الميدان وسكن في جوار الجامع الأموي دارا اشتراها له الأمير السيد عبد القادر الحسني الجزائري قدس سره، ولازم الإقراء في داره وتارة في حجرة له بمدرسة الباذرائية، وبين العشائين في الجامع الأموي في محراب المالكية، وصارت له عند حضرة الأمير المنوه به المكانة المكينة، حتى رتب له الأمير مدة حياته في كل شهر ألف قرش من ماله. وفي سنة (1287) طلب الأمير من شيخنا المترجم أن يسافر إلى مدينة قونية، وذلك لمقابلة نسخة «الفتوحات المكية» المطبوعة أول مرة بمصر على نسخة مؤلفها الشيخ محي الدين ابن عربي الموجودة بخطه في المدينة المذكورة، فقابل نسخته على نسخة مؤلفها مرتين في مقدار ثلاثة أشهر ، وصححها وضبطها، ووجد في المطبوعة تحريف وتقديم ونقص من محال متعددة وخصوصا من كتاب الصلاة. ولما قدم دمشق صححت على نسخته كثير من النسخ. وكان شيخنا المترجم مرجعا لحل مشكلات الفنون، قوالا بالصدق صداعا بالحق، لا يحابي في دينه أحدا، جسورا، متعففا جدا، وعين له أحد ولاة الشام بإرادة سلطانية معاشا من الخزينة فأبى أشد الإباء ولم يقبله. وكان فصيح العبارة، جيد التقرير والتحرير، يدقق في المقولات والفنقلات أشد التدقيق، وله في حساب الزيج ورسمه حل إشكالات وتوضيح معضلات، تشهد بسعة اطلاعه، ولما طرأ على حجر البسيط الذي وضعه علامة زمانه الشيخ علاء الدين علي بن إبراهيم الفلكي، الشهير بابن الشاطر المتوفى سنة (777) لمعرفة الأوقات في منارة العروس التي في الجامع الأموي قليل خلل لتقادم عهده، طلب متولي الجامع وغيره من العلماء إلى المترجم أن يصلح ما وقع فيه فأصلحه، فلما أرادوا وضعه في مكانه وقع الحجر وانشق شطرين فنسبوا ذلك إلى المترجم لحضور أحد تلامذته إذ ذاك فاضطر المترجم أن يبرئ نفسه وراح إلى داره يصرف حولين كاملين ليعمل بسيطا يحاكي به بسيط ابن الشاطر فعمله وخرج بسيطا أحسن من الأول وحسبه على الأفق الحقيقي وزاد فيه قوس الباقي للفجر وأنزل القديم، وجعل هذا مكانه في يوم مشهور مشهود غبطه عليه أجلاء الفضلاء، فجاء في غاية الضبط والإتقان، جزاه الله خير الجزاء وذلك سنة (1293).
وكان له شعر حسن ينظم أحيانا ما يبدو له، ولم يصرف نفيس وقته للاعتناء به، ومنه ما رد به على الزمخشري في قوله:
لجماعة سموا هواهم سنة ... وجماعة حمر لعمري مؤكفه
قد شبهوه بخلقه فتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفه
فقال شيخنا المترجم رحمه الله:
سميت دين الله يا هذا هوى ... فهويت في نار الجحيم المتلفه
وجعلت خير الناس حمرا بعد ما ... شهد الإله بفضلهم هذا سفه
وكذبت في دعواك أن قد شبهوا ... مولاهم بالخلق ذاتا أوصفه
من أين هذا جاءكم فتيقظوا ... أنتم إذا حمر لعمري موكفة
صادمتم قول النبي المصطفى ... سترون ما فيكم إذا من معرفة
Shafi 20
سنراه في الأخرى بعيني رأسنا ... إذ ذاك وعد الله ما لن يخلفه قلت ومن أراد تفصيل المنظومات في الرد على بيتي الزمخشري المذكورين فليرجع إلى «طبقات التاج السبكي» في ترجمة الجاربردي 1 فإنه يرى ما يبهجه. هذا وقد أحببت أن أحلي جيد ترجمة شيخنا المنوه به بذكر شذرة من فرائد فوائده الدالة على أنه تسنم من المعارف ذروتها ومن بدائع التحقيقات ربوتها، فأقول: من فوائده، رحمه الله، ما كتبه على «العزيزي في شرح الجامع الصغير» 2 عند حديث أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد إلخ، فإنه نقل عن العلقمي أن في هذا الحديث ردا على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي لا يتقدم ولا يتأخر، إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف إلخ. فكتب شيخنا المترجم رحمه الله ما نصه: قوله وفي هذا الحديث رد إلخ، أقول: قال حجة الإسلام الغزالي في «كتابه المنقذ من الضلال» الآفة الثانية نشأت من صديق للإسلام جاهل ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم منسوب إليهم، أي إلى الفلاسفة، فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها حتى أنكر قولهم في الخسوف والكسوف، وزعم أن ما قالوه فيهما على خلاف الشرع فإذا قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع فازداد للفلسفة حبا وللإسلام بغضا، ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى إلخ» 1 ليس في هذا ما يوجب إنكار علم الحساب المعرف لسير الشمس والقمر واجتماعهما أو مقابلتها على وجه مخصوص، وأما قوله عليه السلام: «لكن الله إذا تجلى لشيء خضع له» فليس توجد هذه الزيادة في الصحيح أصلا. اه.
وقد بسط الكلام في هذا المقام في المقالة الثانية من كتاب «تهافت الفلاسفة». إذا علمت ذلك فاعلم أن قوله: إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف. وقوله: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع ولم يكن الأمر بالعتق والصدقة والذكر والصلاة معنى اه.
Shafi 22
مع كونه إنكار للبرهان القاطع كما قال حجة الإسلام، جوابه أن يقال: إن الله تعالى لما أراد خلق العالم على ما اقتضته حكمته من هذا الترتيب البديع المشتمل على سير هذه الكواكب، وعلم أن بعض عباده يعبد بعض هذه الكواكب لسابق الإرادة، رتب سير هذين الكوكبين على وجه يقتضي حصول الخسوف والكسوف مع إمكان ترتيبه على وجه لا يقتضي ذلك إعلاما لعبادهما أنهما لو كانا إلهين لما اعتراهما هذا النقص، فإذا رأينا الخسوف والكسوف اللذين أريد بهما التنبيه والإعلام لعبادهما فلم يتنبهوا، خفنا وقوع العذاب بهم فيعمنا ففزعنا إلى العبادة ليصرفه الله عنا، فقد ظهر عدم المنافاة بين ما جاء عن الصادق وما قرره أهل الهيئة من غير حاجة إلى إنكار ما يكاد أن يلحق بالبديهي فيكون الإنكار سببا لطعن الطاعن كما قال حجة الإسلام. قال شيخنا: وهذا شيء لم يسبقني أحد إليه فيما أعلم، فلله الحمد والمنة. وقول المناوي 2 في الجواب عن ذلك: وكونه تخويفا لا ينافي ما قرره علماء الهيئة في الكسوف لأن لله أفعالا على حسب العادة وأفعالا خارجة عنها وقدرته حاكمة على كل بسبب اه. قال شيخنا: كلام لم يفد شيئا من المطلوب وهو بعض كلام ابن دقيق العيد اه ولا يخفاك أن ما ذكره شيخنا إنما يظهر بجملة عبادهما المذكورين، وأما علماؤهم 1 فيعلمون أن الخسف ما عراهما ولحق ذاتهما فلا يتوجه ما ذكره بالنسبة إليهم فالمرجع لكلام الغزالي فقط، والله أعلم.
ومن غرره ما كتبه على العزيزي أيضا عند حديث «آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهداه إن علموا به، والواشمة والموشومة للحسن، ولاوي الصدقة والمرتد أعرابيا بعد الهجرة ملعونون على لسان محمد يوم القيامة» 2.
قال العزيزي: ملعونون، أي مطرودون، عن مواطن الأبرار لما اجترحوه من ارتكاب هذه الأفعال القبيحة التي هي من كبار الآصار. اه.
قال شيخنا المترجم رحمه الله تعالى: أنت خبير بأن هذا الجواب الذي أطبقوا عليه لا يليق بما أراده صلى الله عليه وسلم من بيان زيادة قبح هذه الذنوب وأشباهها مما رتب عليه اللعن ومبالغته صلى الله عليه وسلم ببيان أن اللعن من عند الله على لسانه وحينئذ فاللائق في نحو هذا الحديث أن يقال: المراد مستحقون للعن الحقيقي وهو الطرد من رحمة الله بسلب الإيمان منهم، ثم قد يعاملهم بما يستحقون وقد لا يعاملهم به فضلا منه وكرما.
Shafi 23
قال شيخنا: وهذا مما تفضل الله به على المسلمين ولم أره لغيري. ثم ذكر أن العزيزي نقل في حديث «أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام الخ» 1 أن من الأجوبة أنه يستحق ذلك وإلا فلا يلزم من الوعيد الوقوع ا. ه. فنعمت الموافقة. ومن فرائده ما كتبه على العزيزي أيضا عند حديث: «أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة» 2.
Shafi 24
قال العزيزي: هذا محمول على المستحل لذلك ولم يتب ويخلص التوبة أو هو من باب الزجر والتنفير ليكف الشخص عن هذا الفعل المذموم ا. ه قال شيخنا المترجم، نور الله مرقده، قوله: أو هو من باب الزجر الخ. هذا الجواب اتفق عليه العلماء خلفا عن سلف ولعمري إنه لا يرتضيه من عرف عظيم قدر المصطفى صلى الله عليه وسلم وكأنهم غفلوا عما يستلزمه هذا الجواب مما لا يرتضي أدنى عالم أن ينسب إليه وهو الإخبار بخلاف الواقع لأجل الزجر ولو كان هذا مراد السيد الأعظم لساغ لنا معشر علماء أمته أن نقول لا توبة للزاني مثلا للزجر والتنفير، كيف وذلك من أكبر الكبائر؟ نعم يصح هذا الجواب فيما كان من قبيل الإنشاء كقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وأصحاب السنن: «أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار» 3 ا. ه. أما ما كان من قبيل الحديث الذي هنا فلا يجاب عنه بهذا الجواب مع إبقائه على خبريته بل إما أن يصرف إلى الإنشاء بجعله للإشفاق وكأنه قال : لعل قاتل المؤمن لم يجعل الله له توبة، وحينئذ يسوغ دعوى إرادة الزجر والتنفير. وإما أن يجاب بجواب لائق بمقام السيد الأعظم مما يعرفه علماء أمته ممن يسوغ له الإقدام على تفسير كلام سيد الأنام، وإلا فيرفع الأمر إلى أهله إن كان ممن يخشى الله ويتقه ا. ه. قال شيخنا: وهو مما فتح الله به علي ولم أره لغيري. ومن تحفه ما كتبه على حديث «أبى الله أن يجعل للبلاء سلطانا على بدن عبده المؤمن» 1 ونصه الذي يظهر كما في هذا الحديث والله أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم، أن المراد المؤمن الكامل والبلاء الكامل وهو الذي لا يصحبه لطف أما الذي معه لطف من قوة يقين ومشاهدة ما في البلاء من النعم فلا يمتنع وقوعه بالكامل بل لا يخلو منه كامل، فاحرص على هذا التحقيق ينفعك في مواضع كثيرة فإنه مما من الله به على هذا العبد ولم يسبقني إليه أحد فيما أعلم فلله الحمد والمنة على نعمه. قلت: وما ذكره شيخنا هو ما يميل إليه القلب أكثر مما ذكره شراح «الجامع الصغير» بأن المراد سلاطة البلاء على الدوام أو المراد المؤمن غير 2 الكامل كما لا يخفى، ويقرب مما ذكره شيخنا قول الحفني: أي لم يجعل للسقم سلطانا على القلب، فلم يمنع من التعلق بالله تعالى، فيكون أطلق البدن وأراد الحال فيه، أو المراد بالبلاء المعاصي فإن بلاءها أشد ا. ه.
Shafi 25
ومن بدائعه ما كتبه على حديث: «إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به. . . الخ» 1 قال شيخنا: حيث احتيج للتأويل فالأوضح فيه أن يكون المعنى، فإذا أحببته ألهمته حبه إياي، فإن حب العبد ربه متأخر عن حب ربه له يحبهم ويحبونه 2 فكنى عن حبه لربه بقوله: «كنت سمعه. . . الخ» كما يقول المحب لمحبوبه: أنت عيني، أنت روحي، أنت قلبي . . . الخ، وحينئذ يغيب عن كل ما سواه بل وعن نفسه. وهذا المعنى الذي تفضل الله به علي يشمل جميع ما قالوه بل ويشمل ما عليه العارفون في هذا الحديث والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومن نفائسه ما كتبه على قول العزيزي في حديث «كل الناس يغدو فبائع نفسه. . .الخ» 3 الفاء تفصيلية ونصه الذي يظهر لي أن الفاء عاطفة على حد يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي وإن لم يتنبه له أحد من الشراح فيما أعلم ا. ه.
Shafi 26
ومن لآلئه ما قاله في قوله عليه السلام: «لا تفضلوا بين الأنبياء» 1 الذي يظهر لي أن المراد لا تفضلوا من عند أنفسكم حتى تسمعوا مني. قال: وهذا جواب في غاية الحسن لم أره لغيري وهو نافع في جميع ما كان من هذا الباب بلا كلفة ا. ه.
Shafi 27