ثم رجع إلى دمشق وقد أتقن كافة العلوم من صرف ونحو ومنطق وبيان ومعان وكلام وحديث وتفسير وفقه وهيئة وحساب وميقات وحكمة وغيرها، حتى صار آية في المعقول والمنقول باهرة، فطفق ينشر لواء العلوم، وكتب بخطه الجميل كتبا كثيرة، وانتفع به من الطلبة جم غفير. ولما قدم من مصر سكن أولا في ميدان الحصا، وأقرأ الدروس في حجرة بجامع صهيب سنين عديدة، وورد عليه هناك للاستفادة من لا يحصى. ثم في سنة ثمانين تقريبا نزل من الميدان وسكن في جوار الجامع الأموي دارا اشتراها له الأمير السيد عبد القادر الحسني الجزائري قدس سره، ولازم الإقراء في داره وتارة في حجرة له بمدرسة الباذرائية، وبين العشائين في الجامع الأموي في محراب المالكية، وصارت له عند حضرة الأمير المنوه به المكانة المكينة، حتى رتب له الأمير مدة حياته في كل شهر ألف قرش من ماله. وفي سنة (1287) طلب الأمير من شيخنا المترجم أن يسافر إلى مدينة قونية، وذلك لمقابلة نسخة «الفتوحات المكية» المطبوعة أول مرة بمصر على نسخة مؤلفها الشيخ محي الدين ابن عربي الموجودة بخطه في المدينة المذكورة، فقابل نسخته على نسخة مؤلفها مرتين في مقدار ثلاثة أشهر ، وصححها وضبطها، ووجد في المطبوعة تحريف وتقديم ونقص من محال متعددة وخصوصا من كتاب الصلاة. ولما قدم دمشق صححت على نسخته كثير من النسخ. وكان شيخنا المترجم مرجعا لحل مشكلات الفنون، قوالا بالصدق صداعا بالحق، لا يحابي في دينه أحدا، جسورا، متعففا جدا، وعين له أحد ولاة الشام بإرادة سلطانية معاشا من الخزينة فأبى أشد الإباء ولم يقبله. وكان فصيح العبارة، جيد التقرير والتحرير، يدقق في المقولات والفنقلات أشد التدقيق، وله في حساب الزيج ورسمه حل إشكالات وتوضيح معضلات، تشهد بسعة اطلاعه، ولما طرأ على حجر البسيط الذي وضعه علامة زمانه الشيخ علاء الدين علي بن إبراهيم الفلكي، الشهير بابن الشاطر المتوفى سنة (777) لمعرفة الأوقات في منارة العروس التي في الجامع الأموي قليل خلل لتقادم عهده، طلب متولي الجامع وغيره من العلماء إلى المترجم أن يصلح ما وقع فيه فأصلحه، فلما أرادوا وضعه في مكانه وقع الحجر وانشق شطرين فنسبوا ذلك إلى المترجم لحضور أحد تلامذته إذ ذاك فاضطر المترجم أن يبرئ نفسه وراح إلى داره يصرف حولين كاملين ليعمل بسيطا يحاكي به بسيط ابن الشاطر فعمله وخرج بسيطا أحسن من الأول وحسبه على الأفق الحقيقي وزاد فيه قوس الباقي للفجر وأنزل القديم، وجعل هذا مكانه في يوم مشهور مشهود غبطه عليه أجلاء الفضلاء، فجاء في غاية الضبط والإتقان، جزاه الله خير الجزاء وذلك سنة (1293).
وكان له شعر حسن ينظم أحيانا ما يبدو له، ولم يصرف نفيس وقته للاعتناء به، ومنه ما رد به على الزمخشري في قوله:
لجماعة سموا هواهم سنة ... وجماعة حمر لعمري مؤكفه
قد شبهوه بخلقه فتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفه
فقال شيخنا المترجم رحمه الله:
سميت دين الله يا هذا هوى ... فهويت في نار الجحيم المتلفه
وجعلت خير الناس حمرا بعد ما ... شهد الإله بفضلهم هذا سفه
وكذبت في دعواك أن قد شبهوا ... مولاهم بالخلق ذاتا أوصفه
من أين هذا جاءكم فتيقظوا ... أنتم إذا حمر لعمري موكفة
صادمتم قول النبي المصطفى ... سترون ما فيكم إذا من معرفة
Shafi 20