Ta'ammulai
تأملات: في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع
Nau'ikan
وما السبب في ذلك إلا الخلاص من الاستبداد والاستعاضة عنه بحكومات الحرية، فقدنا بالاستبداد ينابيع السرور التي من شأنها أن تنفجر في النفس الإنسانية، وفقدنا به حرية العقل التي أتت للعالم بهذه المعجزات ثم تجيء بعد ذلك في القرن العشرين ونسمح لنفوسنا أن يرد على خاطرنا الرجوع إلى الاستبداد على أي وجه كان؟!
نسوق هذا القول لبيان أن الحكومة الاستبدادية لا تستطيع بحال من الأحوال أن تشعر بمشاعر الأمة لتقدر منافعها، ولذلك فإنها مهما كانت بعيدة عن الهوى لا يكون أمرها في التصرف إلا أنها تخلص من خطأ لتقع في خطأ مثله .
بعيد علينا أن نتهم حكومتنا بشهوة الاستبداد وتجاوز حدود القوانين لإظهار عدم احترامها للرأي العام، ولكنها تفعل ذلك اعتقادا منها - كجميع الحكومات الاستبدادية - بأنها انفردت بمعرفة منافعنا دوننا، وعلى هذا النحو جرت في إرسال الليمانية إلى السودان وفي منع الموكب الذي كان يريد الطواف في المدينة لمناسبة عيد الجلوس، ويلقي خطباؤه الخطب في الأحوال العامة، ولعل المنع كان مقرونا بالمجاملة في المعاملة أو بإحلال الإرشاد والنصيحة محل الأمر والإكراه، ولكنه على كل حال منع من التمتع بحقوق الأفراد، حتى الاجتماع والسير في الشوارع العامة وحرية الخطابة في جنينة الأزبكية، وذلك كله مجاوز لحدود القوانين.
ليس إرسال الليمانية ولا منع المظاهرة هو وحده الذي يخيفنا على حقوق الأمة، فإن هذه المجاوزة تكررت في هذا الصيف الماضي، فشرعت الحكومة القانون النظامي من غير أن تأخذ رأي مجلس الشورى مجاوزة لحق الأمة الثابت بالقانون القديم، ثم أخذت تصدر القوانين بعد صيرورة القانون النظامي واجب التنفيذ، فأنشأت نظارة الزراعة وأنشأت نظارة الأوقاف، كل ذلك من غير انتظار رأي الجمعية التشريعية، وذلك مجاوز أيضا للقانون النظامي فلا تكون المسألة إلا مجاوزة تتبعها محاوزة، قولوا ما شئتم من أن تلك المجاوزة في مصلحة الأمة ونحن مع أننا لا نعرف وجه هذه المصلحة، نؤكد أنه لا يوجد للأمة في الدنيا مصلحة تعادل مصلحتها من الحرية والمحافظة على حقوق الفرد وحقوق المجموع.
لذلك نرفع للحكومات النصيحة، ونكرر الالتماس بأن الأمة هي وحدها التي تعرف منافعها دون غيرها، وأنها مع ذلك لا ترى لنفسها منفعة ألزم لحياتها من الاحتفاظ بالحرية وسلامة حقوق الإنسان.
الكفاءة الاقتصادية1
ليست حاجتنا من إنماء الكفاءات الموصلة إلى الاستقلال قاصرة على إنماء الكفاءة الأخلاقية والكفاءة السياسية، بل لا بد لمطلبنا من الرقي إنماء الكفاءة الاقتصادية التي في توفرها عزة الأمم وفي فقدها الذل وسوء الحال.
منذ فتح للأمة طريق الاقتصاد؛ أي: منذ إلغاء الالتزامات، لم يثبت الفلاح المصري في أية طبقة من طبقاته الثلاث الفقيرة ومستورة الحال والغنية، أنه يحفل كثيرا بمبادئ الاقتصاد، أو أنه يحاسب نفسه حسابا عسيرا عندما تحضره شهوة المباراة في عدد الأفدنة أو في الإنفاق على عرس أو على مأتم أو على اكتتاب من اكتتابات الخير والشر، أو في الإدلاء بالمال إلى الحكام في غرض مشروع أو غير مشروع، إنه مبالغ في التفاؤل بالخير، فهو لا يحب أن يقيس حاصلات السنة الآتية على حاصلات السنة الماضية، ولا يحب أن يجعل قاعدة قياسه النظر الصحيح المرتكن إلى الحس، ويغفل عمدا أن يجعل لظرف السوء محلا من الملاحظة في تقديره، كان يتزوج كلما تيسر له ذلك، ولا يحفل بما سيفتح عليه تعدد الزوجات من النفقات، كأنه اتخذ عند الزمان عهدا أن يدور دائما لمصلحته، أو كأنما هو يصرف من تحت السجادة، فهو بذلك المثل الأعلى لمذهب المتفائلين، متفائل غال في التفاؤل إلى ما يكون أشبه بالغفلة منه بالاتكال على الله، الواجب عليه أن يقدر ويعمل ويتكل على الله، فهو لا يقدر وإن قدر يخطئ عمدا في التقدير ويعمل إلى درجة محدودة ويجعل الاتكال يقوم مقام التقدير والعمل جميعا؛ لأنه أقل كلفة وأسهل عذرا عندما يلوم نفسه أو يلومه غيره على ما فرط في واجب الاقتصاد.
تلك هي إحدى المشخصات التي قد يمتاز بها الفلاح المصري عن غيره من الفلاحين في البلاد الأخرى، يقولون: إن من أخص الرذائل في أهل الفلاحة الأنانية والبخل والحسد، والظاهر أن الفلاح المصري بريء من هذه الرذائل إلى نقائضها أي إلى فضيلة كرم النفس وكرم اليد وعدم النظر إلى ما في أيدي الناس من نعم الله، بل الظاهر أيضا أنه بالغ حتى أسرف على نفسه فظلمها بعدم المبالاة وظلم قومه أيضا فألقى البلاد تحت أعباء ثقيلة من الديون، لا فكاك لها منها إلا بعمل عظيم وزمن طويل.
ذلك الذي نسميه النقص في الشعور بمسئولية الحياة الجديدة التي دخلنا فيها، هو السبب الأول لهذه الضائقة الحائقة بالفلاحين، بل هو السبب الأول للنتائج السيئة التي يجعلها المتطيرون البائسون علامات الخراب، ولكن المعتدلين في النظر لا يرونها موجبة للقنوط بل موجبة لشدة الالتفات إلى إصلاح النظام الاقتصادي في مصر ونشر المبادئ الاقتصادية والأمثلة الاقتصادية، لنستطيع أن نستفيد في حياتنا المدنية الجديدة من الثروة المالية القدر المناسب لما نستفيده من الثروة الأخلاقية والفنية والعلمية.
Shafi da ba'a sani ba