القدوة الحسنى1
الآثار القديمة1
آثار الجمال وجمال الآثار1
ربيع الحياة1
جني القطن1
أول العام1
الرجل السعيد1
الرجل الصريح1
زهر الربيع1
الصداقة1
سلطة الأمة1
في سبيل الارتقاء1
الحرية1
تضامننا1
مصريتنا1
المصرية1
آمالنا1
التقليد1
سر تطور الأمم1
الحرية الشخصية1
خبز السجون1
من أجل ذلك نطلب الدستور1
حقوق الأمة1
الكفاءة الاقتصادية1
النظام الاقتصادي1
وفاة فتحي زغلول باشا1
وداع الوزارة1
تأبين أحمد فتحي زغلول باشا1
الحرب1
القدوة الحسنى1
الآثار القديمة1
آثار الجمال وجمال الآثار1
ربيع الحياة1
جني القطن1
أول العام1
الرجل السعيد1
الرجل الصريح1
زهر الربيع1
الصداقة1
سلطة الأمة1
في سبيل الارتقاء1
الحرية1
تضامننا1
مصريتنا1
المصرية1
آمالنا1
التقليد1
سر تطور الأمم1
الحرية الشخصية1
خبز السجون1
من أجل ذلك نطلب الدستور1
حقوق الأمة1
الكفاءة الاقتصادية1
النظام الاقتصادي1
وفاة فتحي زغلول باشا1
وداع الوزارة1
تأبين أحمد فتحي زغلول باشا1
الحرب1
تأملات
تأملات
في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع
تأليف
أحمد لطفي السيد
مقدمة
بقلم إسماعيل مظهر
من مميزات العبقرية الصحيحة، وأعني بها العبقرية الأثينة، لا العبقرية الاصطناعية التي تتولد بكسب المعارف أو الفنون، أن تسبق بأثانتها العصر الذي تنشأ فيه، فإذا كانت العبقرية في إهاب شاعر سبق العصر بأخيلته وسبحاته الشعرية، وإذا كانت في إهاب فنان سبق العصر بما يبدع من الظلال والألوان والتعبيرات التي يفرغها فيما يخرج منه صورة أو تمثال، وإذا كانت في إهاب مفكر، سبق عصره بالتفرد في الحس بما سوف تتمخض عنه النظامات وأوجه التقدم التي تسير فيها خطا الجماعات، بحيث يرى واقعا بالفعل، ما يلوح لغيره من الناس أنه مستحيل الوقوع، أما إذا كانت في إهاب فيلسوف فإنها ترحل به عن عالم الناس إلى عالم هو له وحده، فتخرج آثاره على اكتمال الفكرة فيها تغالب نزع الموت في يد الجماهير، ولا تربي وتؤتي أكلها حتى يكتمل الوعي الجماعي فيدرك ما فيها من جمال أو حق أو صدق. وأستاذنا الكبير صاحب هذه التأملات عبقري أثين بطبعه، ظهرت أصاله عبقريته في كل أطوار حياته العامة، فظهرت في أسلوبه، كما ظهرت في نواحي تفكيره، وفي اتساق فكرته، ورتابة منطقه، ووضوح غاياته، وجلاء مراميه. ففيما نشرنا له من «المنتخاب» قبل عشر سنوات وما نشرنا منها في هذا العام، وما ننشر اليوم في «تأملات» دليل باسم واضح القسمات على أنه سبق عصره بمراحل بعيدة المدى قصية الغايات.
ففي العصر الذي ارتسمت فيه السياسة المصرية في أحضان فرنسا وتركيا، نستنجد الأولى ونستعديها على إنجلترا مستغلين ما بينهما من حزازات ومنافسة ونتعلق بخيط العنكبوت من علاقتنا بالعثمانيين مستغلين سيادتهم الاسمية على مصر، نادى بالاستقلال، محببا بذلك الفكرة الوطنية الصميمة التي قامت عليها الحركة العرابية. وإني لأذكر أن أستاذنا ذكر في مقال له أن مصر تطلب «الاستقلال التام» فاستعدى عليه السيد علي يوسف صاحب المؤيد ورئيس حزب الإصلاح - وهو إذ ذاك حزب السراي - النيابة لتجره إلى موقف الاتهام؛ ذلك بأن الاستقلال التام في ذلك العصر، كان جريمة تستحق الجزاء.
قال بحرية المرأة في عصر أظلمت فيه جوانب الحرية، ودعا الطلبة إلى الاشتغال بالسياسة في عصر كان فصل الطالب من معهده أهون على أصحاب السلطة من قلامة ظفر، وطالب بالدستور وبشر بحرية الفرد وأنحى على تدخل الحكومة في شئون الأفراد؛ لأن ذلك وجه من الاشتراكية التي لا تلائم الطور الذي كانت تجتازه مصر في ذلك العصر، وآمن بالتطور في زمان دعا فيه بعض الزعماء إلى الطفرة، فكأنه بعبقريته الأصيلة قد أدرك أكثر ما خفي على أهل عصره من مستقبل هذه الأمة، ولا نزال حتى اليوم نستقرئ فيما كتب، تنقل الأمة المصرية في مدارج فكراته التي ساورته منذ أكثر من أربعين سنة.
ليس عندي من تعليل لهذا وللكثير بما فاضت به صفحات «المنتخاب» و«التأملات» إلا أن أستاذنا، مد الله في عمره، عبقري أصيل العبقرية، فظهر إثر ذلك صادقا في أسلوبه وتفكيره ومنطقه، وأقول على الجملة: إنه عاش حياته صادقا مع نفسه، فصدق مع الناس، وأيدته في صدقه حوادث هذا الزمان.
القدوة الحسنى1
الأستاذ عبد العزيز بك فهمي
1
قد يجد المرء ذو الطعم على نفسه غضاضة أن يعلن عن صديقه فضائله لشخصيته أو محامده العامة؛ لأن هذا يمسه عن قرب وينعكس لمعانه عليه على كل حال، فأوشك بالكاتب عن ذاته أو صديقه أن يبتسم له القارئ فيقول: مادح نفسه يقرئك السلام.
غير أن للواجب مآزق تلجئ إليها ضرورة القيام به، وعلي الصحفي أن لا يدع صغيرة ولا كبيرة من الحوادث النافعة في التنبيه على خلق كريم أو الدالة على مشاعر عاليات ليتم للناس القدوة الحسنة، وليكون آية للأعقاب يهتدون بها وتسكن أنفسهم إلى إيثار المنافع العمومية على المنافع الشخصية عليها جميعا، حتى على الصحة وهي أنفس متاع في الحياة، بهذه المثابة يجب علينا الحرص في مسألة الأستاذ عبد العزيز، تلك المسألة التي اشتغل بها الرأي العام نحو أسبوع.
يسرنا كما يسر صديقنا عبد العزيز بك وكل مصري محب لبلاده، أن يكون الرأي العام في بلادنا يقظا ملتفتا لجميع الحوادث مقدرا رجاله الأمناء قدرهم يطالبهم مطالبة رب الدين أن آتوا بلادكم حقها عليكم وافنوا في خدمة الجمعية التي ولدتكم والتي عليكم اعتمادها في تحقيق الآمال، ويعجبنا أن يكون للناس على خدمة الأمة من الدالة ما يبيح لهم المداخلة في شئونهم التي هي أشبه بالشئون الخاصة منها بالأعمال العمومية، اللهم لك الحمد والمنة على أن جعلتنا نسمع بآذاننا ونرى بأعيننا أن يقف الرأي العام لعبد العزيز بك موقف الذي يعتقد أن هذا الرجل الحر ليس له التصرف في نفسه وملكاته، بل هي وقف على خدمة الأمة فيما تشاء الأمة، غبطة تسيل لها الدموع الباردة فرحا بأن زمن الهدم قد تولى - لا رده الله - وقد جاء بدله زمان بناء الرجال.
ليست المسألة في ذاتها من المسائل السياسية الكبرى ولا من العقد الاجتماعية حتى كنت أتوقع أن تردنا من كل ناحية كتب الاستفهام عما تم فيها، بل كتب الاعتراض علينا في أننا لم نتبين رأينا في المسألة كما نصدع به في كل مسألة سواها، ليست المسألة كذلك ولكنها بسيطة في حد ذاتها لم يعقدها إلا مركز الأستاذ عبد العزيز وثقة الأمة في نائبها المحترم، طلبت إليه الحكومة أن يقبل القضاء في محكمة الاستئناف، وإني شاهد رؤية وسماع على أن الحكومة لم يكن لها في ذلك إلا قصد حسن وخدمة للقضاء. أشهد بذلك، ولكني أشهد معه بأننا في الجمعية التشريعية في غاية الحاجة إلى عبد العزيز بك وزملائه كبار العقول أشداء القلوب الذين يفرطون في كل شيء إلا في حق الأمة مهما صغر قدره وقلت قيمته ، وعلى هذا الاعتبار جرى الرأي العام في تقدير المسألة حتى قال لي يوما كبير الحريين لمناسبة هذه المسألة: تلك جناية على الجمعية تبوء أنت بشطر من المسئولية عليها! وإذا كان هذا هو رأي سعد باشا، فما عسى أن يكون رأي الباقين وماذا عساك تسأل عما ورد علينا من الاحتجاجات من قبل الشبيبة المتعلمة في القاهرة ومن أعماق القرى والكفور.
إن عبد العزيز بك بتواضعه المشهور، لعله لم يقدر ضرورة بقائه في الجمعية بالقياس الذي قدره به جميع أعضائها والرأي العام، إنه رجل قانون طلب إليه خدمة القانون بمحكمة الاستئناف، فكان حاله كالجندي طلب منه أن يخدم سلاحه محل جندي آخر في ميدان الجهاد، فما يأخذه زهو الشهرة عن الخدمة الهادئة بين جدران قاعات الجلسات ولا يظنه عاملا لإقامة الحق، أقل منه شرفا حين يعمل لتأييد الحق والعدل بصورة أخرى في الجمعية التشريعية، وأنا ضمين بأن هذا الرجل العالم لم تتجل أمامه تلك الخيالات اللماعة حين يظفر بالوزارة أو حين يسمع صوته الصريح لتحقيق ما يراه لمصلحة البلاد، شغل بشغل وخدمة للحق هنا وهناك، خدمة للأمة في الحالين، فما يكون من التفضيل في نظره إلا اعتبارات شخصية، وليس لديه من طمع إلا العفاف بالكفاف، فلا مفضل إلا ما يتفق مع مزاجه ويتمشى مع حال صحته، ولقد علم أصحابه أن طبيبه قال غير مرة بعدم استمراره في الجمعية التشريعية وهو الدكتور طلعت بك، قالها وقوله حجة، فكان ذلك هو المرجح عند الأستاذ عبد العزيز وأخصائه، فلما رأى أن الأمة التي أنابته تحرص على نيابته، وأصحابه في المجلس يحرصون على الاحتفاظ به بينهم، قال : وصحتي أيضا فداء.
فليعش هذا المثل الصالح، ولتسلم له صحته، وليبق له فداؤه، فإنه قد ضرب لنا مثلا في التضحية كما ضرب لنا صاحب العطوفة شيخ ساستنا على الإطلاق مصطفى فهمي باشا، مثلا للتضحية والاحتفاظ بالكرامة والاستقلال، وما الأمة إلا أمثلة مضروبة من النبلاء، واقتداء صالح من جانب الأبناء، بذلك تتم التقاليد، وعلى هذا تبنى قوة الشعوب.
فنحن نهنئ صديقنا بثقة الأمة وهي أكبر ما يتمنى الرجل من سعادات الحياة، ونهنئ الأمة بأن فيها من أبنائها من يصلحون في أخلاقهم العامة وكفاءتهم، ليكونوا طلائع الرقي المنتظر والفلاح القريب.
2
وقفت السيدة بهية هانم برهان على الجمعية الخيرية الإسلامية للتعليم سرايها الفسيحة الجميلة بشارع درب الجماميز لتكون معهدا علميا.
وأجرت عليها من ريع وقفها ستمائة جنيه سنويا خلافا لريع البيوت والحوانيت الملحقة بالسراي مما يبلغ ريعه مائتي جنيه في العام.
وقفت كل ذلك وقفا نهائيا خاليا من الشروط العشرة، وقفت كل ذلك وقفا منجزا لا معلقا على انقضاء الذرية ولا على أية حادثة مستقبلة، بل السراي والريع صارا من الآن للجمعية الخيرية.
فما أجدر هذا العمل الصالح بأن يكون للأغنياء والموسرين القدوة الحسنى من وضع الشيء في محله، ودليلا على الإحسان في الإحسان.
إنما الصدقات للفقراء والمساكين حق على الأغنياء والموسرين، كانت ولا تزال، وكذلك تبقى جارية ما دامت في الإنسان عاطفة الحنان إلى الضعيف وإلى الفقير، وما دام الشوق إلى منفعة الوطن يدفع الناس إلى التضحيات المالية وغير المالية، غير أن الصدقة تعظم بكبر قيمتها ومقدار الحاجة إليها وعلى نسبة ما تنتج من الخير العام للأمة، ومن هذا النوع مبرة الأميرة الكبيرة فاطمة هانم أفندي والمحسنة الخالدة الذكر السيدة بهية هانم برهان فإنهما عرفتا كيف يقرضان الله قرضا حسنا؛ ليضاعفه لهما أضعافا مضاعفة، وعلى أي نوع تقدمان لمصر أكبر ما يمكن من المنافع.
برهنت الجمعية الخيرية الإسلامية بالعمل المتواصل في السكون والعزلة عن كل جلبة وضوضاء على أنها أمتن الجمعيات الخيرية نظاما وأكبرهن ثقة وأوسعهن إدارة للتعليم، إنها أخذت على عاتقها تعليم الفقراء منذ قبضت الحكومة يدها على تعليمهم وقبل أن يوجد في البلاد جمعيات أخرى تهتم بأمر الفقير، وقبل أن يكون لمجالس المديريات عناية بأمر التعليم، في مدارس الجمعية الخيرية أكثر من ستة آلاف تلميذ يتعلمون، بعضهم على نفقة أوليائهم، ومن ليس له ولي قادر على تعليمه، فوليه الجمعية تعلمه على نفقتها، ذلك عملها في التعليم، وأما إعانة الفقراء ورعايتهم بالصدقة الخفية والرعاية الصامتة غير المتبوعة بالمن فذلك يعرفه الذين حضرتهم معونة الجمعية في وقت الضيق، والذين جاءتهم رسلها تخلصهم من حيرة الموقف من حيث لا يحتسبون.
لا شك في أن الاعتبارات هي التي حركت عواطف السيدة بهية هانم الشريفة إلى توسيط الجمعية في إيصال برها للفقراء والمساكين، فاختصتها بهذه الهبة العظمى التي لا نسمع بمثلها في بلادنا، وما أجمل أثر البر في نفس فاعله وفي نفس المسدى إليه، ولو رأيت وفد الجمعية الخيرية الإسلامية يتقدمه دولة رئيسها الأمير الجليل حسين كامل باشا ووراءهم أبناء الجمعية الفقراء يحيون باسم الإنسانية تلك السيدة المحسنة في شخص وكيلها الرجل النبيل أمين بك يحيى، وينشد التلاميذ نشيدهم لتمجيد هذا العمل الصالح، لوددت أن تكون لك كنوز الأرض تهبها لتعليم الفقراء، ولانفعلت نفسك بأن في الكرم بسالة تأخذ النفوس بأكبر مما تأخذها بسالة أبطال الحروب وأن له جلالا فوق جلال القدرة والسلطان!
أجل ليس الكرم أو إنفاق المال على حبه لتعليم اليتامى والمساكين ومواساة الفقراء إلا نزولا عن مقومات حفظ الذات وتضحية لا تقل في شيء عن الضحايا التي يقدمها الأبطال لخير الإنسانية.
أحسنت أيتها السيدة المحسنة وليدم برك بالفقراء، القدوة الحسنة للنساء وللرجال جميعا.
الآثار القديمة1
على الرغم من الضعف الذي وقعت فيه مصرنا، فمن المحقق أن المصري تأخذه هزة الارتياح ويلعب به شعور العزة أمام عظمة المصريين القدماء، ويكون حظه من شعور الفخر أكبر من ذلك، لو أنه عالم بالحوادث المصرية المكتوبة على حيطان المعابد والمحاريب ووجهات القبور، أو قارئ ترجمة تلك النقوش في أشعار المسيو ماسبيرو ومارييت ونافيل ومحاضرات كمال بك ، إذ يعلم أن مصر كانت من العزة في ذلك الزمن الغابر على قدر أن الملك كان له نحو اثني عشر رجلا من الأمراء وغيرهم يقومون بأمر التشريفات، يصل إليه سفراء الممالك الأخرى راكعين ساجدين، يرغمون أنوفهم بالتراب، ويجأرون له بالدعاء، يقطع أصواتهم خوف الملك وجلالته. وأن الملك لم يكن كل شيء في مصر بل كان لأمراء الأمة ووزرائها في كثير من الأحيان أثر عظيم في الإصلاح وفي الحكم، وأن المصريين لم يكونوا - على ما يصفهم عامة الأجانب - مخلدين إلى السكينة كارهين السياحة والتنقل قانعين من الرزق بما تحت متناول اليد، بل كانوا أمة جد واستعمار تجري في استعمارها على أحدث الطرق الأوروبية الآن، إذ يخرج المرسلون من مصر إلى الأقطار المختلفة في إفريقية يجوسون خلالها حاملين إلى أهلها العطر ذا الرائحة النفاذة والأقمشة الزاهية الألوان وغير ذلك مما يحمله الأوروبيون في هذا العصر إلى سكان تلك الأقطار الشاسعة في أفريقية.
ولم تكن أغراض المصريين من فن السياحة قاصرة على الربح التجاري، بل كان أولئك السياح يكسبون بلادهم نفس الفوائد التي جنتها إنكلترا من وراء الشركة التجارية الإنكليزية في بلاد الهند قبل فتحها، وسياحات سيسل رود، وما كسبته فرنسا من بعثاتها في الكونغو والسودان، إذ كان السياح المصريون يدعون الناس لاستماع أخبار مصر والمصريين ودينهم ولغتهم ويبينون عظمة ملكهم وثروة بلادهم حتى يصوروا مصر في أذهان القبائل بصورها القوية القاهرة التي لا يعجزها تحقيق شيء مما تريد، فإذا رجع أولئك المرسلون إلى مصر وصفوا تلك البلاد وأفاضوا للحكومة بكل ما وصلوا إليه من المعلومات فتسير الجنود المصرية على أثر ذلك تفتح البلاد النائية التي صار فتحها بفضل معلومات السياح أمرا هينا، ولقد كان المصريون أسمح الأمم في استعمارهم؛ لأنهم كانوا يسيرون فيه على مذهب اللامركزية يحفظون على الأمة المغلوبة دينها وعاداتها وشكل حكومتها، ويتركونها حرة في بلادها مقابل الاعتراف بالسيادة المصرية، وكما أن مصر تحمي المستعمرة من الاعتداء الأجنبي، كذلك كان يجب على المستعمرة المصرية أن تتعهد بدفع خراج سنوي، وأن تنصر مصر في حربها مع أية دولة أخرى.
لا شك في أن علم المصري بهذه الحقائق المسطورة في نحو القرن الخامس والثلاثين قبل الميلاد، يخرج من نفسه القنوط من ارتقاء مصر، ويجعل آراء الذين يظنون بمصر عدم الاستعداد الطبيعي للاستقلال والسيادة من السخافة بمكان، فإن ما جاز عليه الكون في الماضي، غير ممتنع عليه أن يكون، ولا شك في أن المصريين حتى المتعلمين قليلو الاهتمام بالعلم بمصر القديمة إلى حد حرمنا لذة هذا الاغتباط بما كنا عليه، ولذة التشبث بالعمل إلى استعجال القدر ليذهب بهذا الحاضر التعيس، وليعيد مصرنا إلى الماضي القديم.
أخبرني أحد أصدقائي قال: سافرت في الشتاء إلى الصعيد لزيارة الآثار القديمة والاستراحة من عناء العمل، فلاحظ علي سائح ألماني أن العجب يأخذ مني مأخذا كبيرا عند رؤية الآثار المصرية، فسألني إذا كانت هذه هي المرة الأولى لزيارتي إياها؟ فقلت: نعم، فضحك وقهقه، فسألته عما إذا كان زار هذه المعاهد من قبل؟ قال: زرتها سبعا وعشرين مرة، وهذه الثامنة والعشرون، وعلي أن أجيء كل عام في المستقبل أيضا، فضحكت منه أنا نوبتي، وقلت له: فهمت أنك كنت في المرة الأولى مستطلعا مستفيدا فأتممت في المرة الثانية ما نقصك في الأولى من الاستفادة، ثم أعوزك الوقت لإتمام قصدك فجئت الثالثة وفيها مقنع لمستطلع وقضاء لبغية النفس من تكرير النظر للجميل، فما رأيت أعجب من تسويغي زيارة الآثار إلى هذا اليوم إلا إكثارك من رؤية الشيء الواحد، واستزادتك من ذلك على غير جدوى، قال: أؤكد لك أنني كلما زرت هذه الآثار شعرت بالرضى بل باللذة التي كنت أشعر بها في كل مرة سابقة وما رجعت مرة إلا بفوائد جديدة لم أكن لأحصل عليها من قبل.
هذا حديث له أثر ثابت في فهم هذا الاهتمام الذي يعرفه الألمان والفرنسيون والإنجليز والأميركان في زيارة آثار مصر واستنطاقها عن أخبار العالم الأول، ليضيفوا بذلك صفحة أو صفحات إلى أسفار التاريخ القديم ولينتفعوا بذلك في معرفة قوانين النشوء والارتقاء التي صارت عليه العلوم والفنون والصنائع من نحو سبعين قرنا، وليبحثوا في جوانب العالم عن الحلقات المفقودة من سلسلة الظواهر الاجتماعية والحركات البسيكولوجية التي تطورت بها الأمم حتى صارت إلى ما هي عليه الآن، فإن الذي يجهل ماضي العالم حقيق به أن لا يصح حكمه على حاضره ولا على مستقبله، ومن لا يعرف تطورات الإنسان، لا يستطيع أن يضع له قوانين السلوك في الحياة.
كتب إلي أحد أصدقائي نزيل الأقصر اليوم:
أكتب إليك بعد أن زرت معظم الآثار التي خلفها لنا أجدادنا، زيارة داخلني منها الزهو وتضاعف بها حبي لمصر وطني، ولكن الحب لم يصف من شوائب الحزن؛ لماذا لا تدرس في مصر الإيجيتولوجية كما تدرس بإنجلترا.
هذا الكتاب أيضا تدل عبارته على شعور كل مصري متعلم يقف أمام الآثار المصرية لا يعرف منها إلا ما يعرفه العامي، يعرف من الأثر أنه عظيم متقن دال على أبهة الملك الذي يخبر عنه، هذا كل ما نعرف من آثار بلادنا.
لا أطلب أن يكون كل رجل منا يطاول شامپوليون في دقة ملاحظته وقوى استكشافه، أو يباري ماسپيرو في إحاطته بالآثار المصرية، أو يكاثر كمال بك في معلوماته الأثرية، ولكن المطلوب هو محاضرة مستمرة ودرس دائم في الجامعة المصرية أو غيرها من دور العلم يسهل السبيل على أبناء مصر أن يعرفوا ماضيهم لا على الوجه العلمي الدقيق، ولكن على الوجه الذي يعرفه السياح الأوروبيون من آثار وتاريخ أجدادنا الأقدمين.
ليست أمتنا في هذا الحاضر ذات وجود مستقل عن أمتنا الماضية، ولكن الأمة كل واحد غير منقسم وغير قابل للتجزئة، إنها أمة قد خلق جسمها الاجتماعي من يوم أن استقلت بهذا الوطن المحدود، وكانت ذات نظام اجتماعي معروف، فصارت تنتقل في حياتها من الصحة إلى المرض، ومن المرض إلى الصحة؛ حتى صارت إلى ما هي عليه اليوم، فبعيد على المصريين الذين يريدون ارتقاء بلادهم أن ينجحوا في تحقيق إرادتهم هذه إلا إذا عرفوا حقيقة أمتهم، وحقيقتها هي مجموع ماضيها وحاضرها، فليست معرفة الآثار القديمة فرعونية وعربية - ولو إلماما - قاصرا نفعها على اغتباط النفس برؤية الآثار الجميلة وتحصيل شعور العزة بذكرى ماضي مصر المجيد، بل هناك نفع أعم أثرا وهو الوصول من معرفة الماضي إلى معالجة الحال حتى يتبدل به مستقبل سعيد.
عسى أن يقع ما نقول من مشاعر الشبيبة موقع القبول؛ فيقبلوا على وسائل العلم بمصر القديمة، وعسى أن يجيب علماء الآثار القديمة الفرعونية والعربية نداءنا فينفعوا الناس بمحاضرتهم وخير الناس أنفعهم للناس.
آثار الجمال وجمال الآثار1
لا أظن أنه يوجد إنسان صحيح لا يشعر في نفسه بتأثير الجمال أو لا تتحرك عواطفه حركة لذيذة أو مقبولة توجب الرضا برؤية الجميل، ولقد تختلف أذواق الأفراد والأمم اختلافا قليلا في تحديد جمال الأشخاص والأشياء تبعا لتربية الخاصة النفسية التي تتعرف الجمال، فكلما كانت هذه الخاصة التي نسميها الذوق مصفاة من شوائب الخشونة بحكم التركيب الجسماني والوراثة ودرس الفنون الجميلة، كانت النفس أكثر إحساسا بالجميل وأدق حكما في الجمال، ومهما كان رأي جماعة الزهاد في الدنيا الذين لا يقيمون وزنا للذائذ الإنسانية ولا يحفلون بالصور الجميلة.
وجماعة الفانين في كسب الأموال الذين يجدون ما عدا ذلك في الحياة من سقط المتاع، فإن إجماع بني آدم أصحاء الأجسام والعقول، واقع على نفوسنا هي أيضا كأبداننا محتاجة إلى الغذاء، ومن أطيب غذائها الجمال، فإن مشاهدته حيث كان تلقي في نفس الإنسان سكونا يلطف آثار حركات المشاغل وينوع حال المشاعر فيحميها من الكلل والسآمة ويعيد قوتها سيرتها الأولى، فإذا كان الجمال على هذا القدر من تغذية الروح الإنسانية، كان تعرفه بمرانة النفس على رؤيته حيثما كان، من الأمور الضرورية للعيشة المدنية والتربية الإنسانية، لا أنه - كما يزعمون - أمر كمالي صرف يتشبث به أهل البطالة وأتباع الهوى وخفاف الهموم.
زعم باطل وإغراق في اعتبار الحياة حمأة آلام يتمرغ فيها الأحياء لا يذوقون فيها من طعوم اللذة إلا تنقلا من ألم قديم إلى ألم جديد! إذ ليس ذلك ما يشعر به عامتنا نحن الأحياء.
نحن لا نعرف ماهية الجمال، ولا يهمنا الآن البحث عن ذلك ما دامت تشعر به أنفسنا من غير تعريف منطقي، يقولون: إن الجمال هو عبارة عن مظهر أسرار الكمال في هذا العالم المادي، أو إنه مرآة حسن التأليف بين الصور والألوان، ويقولون غير ذلك.
ولست أظن أنه يهمنا كثيرا أن نسبح فيما وراء الطبيعة لنرجع بتعريف للجمال، وهو هو بعينه ذلك الذي نشعر به في أنفسنا عند رؤية ما نسميه الجميل، سواء كان هذا الجميل مخلوقا حيا أو جامدا أو فعلا من الأفعال التي تهز عواطفنا، أو معنى من المعاني التي تقع من النفس موقع الجميل بالحس، وإذا كنا حاصلين على معنى الجميل بالفعل داخل نفوسنا فخير من تلمس حدوده فيما وراء معلوماتنا، أن نستمتع بآثاره إذ الواقع أن الجمال معنى من المعاني القدسية التي لا تزال محجبة عن أبصارنا الكليلة، مصونة عن التدهور في هاوية أبحاثنا الوضعية، رفيعة عن إدراكنا المحدود، ومع ذلك فإن آثاره مادية نراها بأعيننا في الصور الحية وفي التماثيل الجميلة، ونسمعها في أصوات الموسيقى، ونشعر بها روحا تفيض على مشاعرنا رضى بمشهد الأعمال العظيمة أو بسماع أخبارها، ذلك الأثر السعيد أثر الجمال، هو الذي يجب علينا أن ننمي مقداره في أنفسنا؛ لنحصل بها على أكثر ما نستطيع من العيشة الراضية.
إن تربية الحس الصادق الذي يتعرف الجمال ويتأثر منه، ليست على ما نظن خاضعة لقوانين معينة؛ لأنها هي تربية الذوق، والذوق شيء ليس في الكتب، على أن نبوغ مصور التماثيل أو رسام الألواح أو صانع التحف أو الموسيقي ليس نتيجة لازمة للعلم بأصول معينة بل هو إلهام من الله وفيض من الفيوض، أو كما يقولون: استعداد خاص قد تفسده قوانين العلم، وينميه في نفس العبقري خروجه في صناعته عن حدود المألوف.
أجل! إن أرباب الفنون الجميلة في كل زمان لم يقيدوا حريتهم عمدا بأقيسة فنية، ولكنهم كانوا دائما خاضعين لانفعالاتهم الذاتية المتولدة عن عقائدهم ومشاعرهم ومشاعر أهل زمانهم وحاجات البيئات التي نشأوا فيها؛ ولذلك كانت آثار الفنون الجميلة في كل عصر من العصور مؤتلفة غاية الائتلاف مع عقائد ذلك العصر ومشاعره وحاجاته واصطلاح الجمال فيه، فترى من السهل على كل ذي إلمام بالتاريخ والآثار أن يعرف الأثر الذي تقع عينه عليه، في أي العصور صنع، ومن أي البلاد هو، فإن هذه الآثار الصامتة تحدث الذي يعرف أن يسمعها، تحدثه بأهل زمانها صادقة، كما قيل: إن أصدق الكتب هو ما كتب بالحجارة.
ليس الحس الصادق الدقيق في معرفة الجمال محلا لتربية معينة ذات أوضاع متفق عليها، كذلك لا يعرف التاريخ أن أمة من الأمم - مهما كانت آثار فنونها الجميلة ذات شخصية مستقلة عن غيرها - قطعت النسب بين فنونها الجميلة وغيرها، ونبغت فيها، بل التاريخ يدل على أن الفنون الجميلة الفرعونية، إنما كان أصلها من أثيوبيا دخلت عند المصريين، فأخذت طابع عقائدهم الخاصة ومشاعرهم وحاجاتهم فتغيرت عن أصلها وصارت ذات شخصية مستقلة، فلما أخذها اليونان عنهم تغير شكلها تبعا لعقائد اليونان ومشاعرهم أيضا، فلما أخذها عنهم الرومان تغيرت تغييرا جديدا، وإن كان هؤلاء لم يتفوقوا فيها على أساتذتهم اليونانيين، وهكذا أخذت الفنون الجميلة العربية من غيرها وكانت في بدئها خليطا ثم أفاضت عليها الروح العربية الإسلامية جمالها الخاص فأصبحت ذات شخصية مستقلة عن غيرها مميزة عما عداها، سواء كان ذلك في الأنغام الموسيقية أو في تحف الآثار والصناعة الفنية والرسم والتماثيل، وإن كانت الصور والتماثيل قليلة في الفنون الجميلة العربية، إلا أن الذي وجد منها في بعض الآثار كالحمراء بغرناطة، والقصر في إشبيلية، وفي دار المستنصر وغيره من بعض الملوك والخلفاء، قد دل أهل الفن على أن الرسم والتصوير في الإسلام لهما طابع خاص.
على هذا الاعتبار يمكننا أن نقول: إن الحس الصادق الذي يتعرف الجمال من الآثار لا يجوز أن يهمل أمره ويترك للصدفة الصرفة، اعتمادا على أن الذوق ليس في الكتب، بل يجب أن تمرن النفس على رؤية الجميل من الصور والألواح والمصنوعات وسماع الجميل من الغناء حتى يرق شعورها وتحصل لها هذه اللذة التي تأتي من معرفة الجمال وتقديره، فإنها لا تعدلها في صفائها وعلو مكانتها لذة أخرى، لذة ضرورية للفرد نافعة للمجموع.
وأقرب ما يكون هذا المران العملي في زيارة دار الآثار المصرية، ودار الآثار العربية، وزيارة العمارات الأثرية الفرعونية والعربية؛ كالهياكل، والمعابد، والمساجد القديمة، ثم زيارتها في كل فرصة تمكن من ذلك.
يجد الإنسان آثار الجمال في الطبيعة، فإنه إذا صفت نفسه واتسع أفق بصره، وعلت مرتبة إدراكه، يرى الجمال في الطبيعة حيثما أدار عينيه ، يرى في الرياض جمالا، وفي البحر الفسيح جمالا، بل يرى في الطبيعة الجدوب والجبل الأقرع والصحراء الجرداء جمالا من نوع خاص، كما يرى الجمال في بعض الإنسان وبعض الحيوان. غير أن للجمال في نفوس الناس قيدا خاصا يقيدون به معناه العام، وهو جمال الخلقة في بني الإنسان على الخصوص، فإذا أقبلت على أحد الشبان تلقي عليه بغتة هذا السؤال: هل تحب الجمال! تكيف هذا السؤال العام في ذهنه بصورة امرأة حسناء، وكان جوابه عنه مقيدا عنده بهذه الصورة، إلا إذا ألفت ذهنه إلى معنى الجمال على إطلاقه. ذلك أمر مفهوم لا نعنى باستقصاء مصدره في النفس، ولكننا يجب علينا أن نطاوع هذا الاصطلاح العام بعض الشيء في تربية الذوق، ومن غير الممكن أن يوفق المرء إلى رؤية امرأة مثل (زهرة روفائيل) في الجمال، بل قد يكون بين جسم المرأة الحية الجميلة وبين روحها، فوارق واضحة تنقص مقدار جمالها إلى ما دون المرأة العادية، وكذلك الرجل.
أما ذلك التمثال الصامت، فإنه لا يلوح عليه من الآثار المعنوية إلا ما أراد المصور أن يجعله مثلا أعلى للمعاني التي تشف عنها أوضاع الجسم، على أنه من كثير الوقوع أن المرء لا يقصر النظر إلى الأجسام الحية المتحركة على مشاهدة الجمال المجرد، بل قد يشارك معنى الجمال في ذهن الرائي معان شتى تشوش على النفس استطلاع الجمال، وليس الأمر كذلك في رؤية الألواح والتماثيل الجميلة، فإن النظر إليها يكون دائما خاليا عن كل ما يزحم معنى الجمال في خيال الرائي، ولهذا الاعتبار نكاد نقول: إن خير نموذج لتربية الذوق في إدراك آثار الجمال هو استدامة النظر إلى جمال الآثار، وربما كان هذا النموذج هو النموذج الذي اتخذه الناس من قبل عند التشبث بتعلم الفنون الجميلة؛ لأنه لو كانت الطبيعة كفيلة بتقديم نماذج الجمال لاكتفت كل أمة بما لديها من النماذج الطبيعية من غير أن تستعير نماذج الفنون الجميلة من غيرها كما ذكرنا.
لا شك في أن الأمة الأولى أخذت نماذجها عن الطبيعة، ولكن من خلفها من الأمم قد رأى الأخذ عنها أقرب من الأخذ عن نماذج الطبيعة، فإذا كان شباننا المتعلمون يجعلون من بعض همهم زيارة دور الآثار واستقصاء ترقي التصوير والصناعة الفنية فيها من عصر إلى عصر، واعتادوا على ذلك حصلوا لذة لا يحصلها الذين يصرفون وقت الفراغ في غير لذة بريئة، بل في سكون وسآمة، واستفاد منهم المستعد في صحة حكمه عن الأشياء، وزاد علمه بمصر وحبه لها وتقديره تقديرا صحيحا مجدها في المدينتين الفرعونية والعربية، واحترام قومه ونفسه بالتبع، إذ الواقع يشهد أننا لا نعلم من قيمة وطننا ومجده ما يعلمه السائحون، فإذا نحن تتبعنا آثار الجمال وعنينا بجمال الآثار، حصلنا على بزور جديدة تنفعنا في تمصير المدنية الغربية الحالية؛ لأن أذواقنا تكون بعدئذ خليطا مما تعلمناه من المبادئ الغربية، وما كسبته مشاعرنا من التربية الغربية، ومن ذوق مصري ونزعات مصرية مصدرها مشاعر جنسنا الوراثية مضافا إليها المشاعر المصرية التي تتكيف في نفوسنا تكيفا مصريا حقيقيا بالإيغال في تعريف الآثار المصرية فرعونية وعربية.
لا شك في أن آثارنا جميلة ورؤيتها تبعث في النفس الرضى الذي يحصل برؤية الجميل، وخير الفوائد ما وجد منه المستفيد رضى ولذة، فلا يغلو الذي يقول: إن الوقت الضائع هو ذلك الوقت الذي يصرفه أبناؤنا وبناتنا المتروضون في غير مواضع الآثار.
لئن قام عذر علمائنا الأثريين في أنهم لا يظهرون حبهم لنشر معلوماتهم الأثرية بالمحاضرات، فما هو عذر الشبان في هجر دور الآثار التي إن لم يجدوا من يعلمهم فيها، ويوضح لهم جمالها، ولم يستطيعوا أن يستفيدوا مما كتبه العلماء في وصفها وسنها، فلا أقل من أن يدركوا جمالها ويحصلوا لذة رؤية الجميل، إنه لا تتم وطنية المرء إلا إذا عرف أمته قديمها وحديثها، فإن من جهل قديمها فهو مدع في حبها؛ لأن من جهل شيئا عاداه.
ربيع الحياة1
رأيت صباح اليوم أزهار الربيع على أكمل ما تكون، إما في أكمامها وآثار الصحة بادية عليها، وإما زاهية قد مزقت أكمامها وأسفرت من حجابها بين بين، لا هن سوافر خالعات العذار، ولا هن متخذات ستورا من الأكمام والأفنان، أسفرن فكلهن قرة للعين، ولذة للشم، ومبعث لحركات العواطف، لا أعرف عن طريق اليقين الوجه في جمال هذه الزهور، ولكنها في الواقع جميلة، كذلك لا أعرف الصلة الخفية بين رؤية الأزهار وشمها، وبين آيات الحب، جلت حكمة الله أن تتناولها عقولنا، ولكن الاستقراء دل على أن هذا النوع الإنساني منذ نشأ إلى اليوم، يتعشق الزهر ولا يطيب له مجلس لهو إلا إذا كان للزهر فيه المقام الأول منثورا ومنظوما، صحبا أو أشتاتا، بل كلنا يود أن يكون له بستان من زهر، ومن لم يجد هرع وقت فراغه إلى الحدائق العمومية، ومن لم يجد من الفلاحين أعجبه كثيرا أن يقيم وقت أنسه على قرب من زهر الفول، ومن لم يجد اتخذ له صورة بستان أو خيال بستان من الزهر في آنية للفخار يضع فيها القرنفل والورد في شبابيك داره، بل أصبح من القضايا البديهية أن الدلالة الوضعية على رقي أمة عنايتها بالزهر واستمتاعها به، وما هذا الاستقراء التام إلا جاعل نسبا ثابتا بين الزهر وبين الأنس ومسارح العواطف وحركات القلوب.
لقد يسمج التعليل المنطقي في موضوع كهذا خفيف بطبعه لا يحتمل ثقل المنطق ورصانة التدليل، ولكني أستأذن القارئ أن أستدل بهذا الاستقراء على أن الزهر من دواعي التقريب بين القلوب وبين عوامل الائتلاف بين الجنسين، وقد كان دائما مفتاحا تستفتح به هدايا الوداد، بل اتخذت ألوانه المتنوعة وأنواعه المتعددة علامات على المشاعر المختلفة التي لها علاقة بذلك المعنى المعروف بآثاره المجهول بكنهه، وهو الحب.
وإذا كان الزهر من دواعي الحب ، وكان الحب داعية حفظ النوع، وكان الربيع خير الفصول في وفرة زهره وجماله، فهل يستطاع الأمل بأن هذا الربيع يدعو الغلاة المماطلين من أبنائنا وبناتنا إلى فك (الاعتصاب) الذي لزمهم أو لزموه هذه السنين الأخيرة على أكبر واجب حيوي! فينزل كل منهم عن المثل الأعلى في خياله إلى ما دونه من الأمثلة، ولا يتشدد في التمسك بالاعتبارات الإضافية كفقر الزوج أو مركز أبيها في الحكومة ... إلخ، وأن يتساهلوا بعض الشيء ولو في بعض الشروط المعقولة عندهم غير المقبولة عندنا نحن الآباء، لا بحجة العقل ولا الدين، ولكن بحكم العادة الطويلة.
هل يستطاع الأمل بأن هؤلاء المماطلين المتعصبين يخففون عنا كابوس الخوف من قلة النسل في الفرقة المتعلمة من الطبقة الوسطى؟ إنهم لو ذاقوا تلك السعاة الزوجية وشملهم سلام العيشة العائلية وشعروا بلذة عواطف الأبوة، لما احتاجوا إلى إلحافنا في المسألة، ولندموا على ما ضيعوا من ربيع الحياة.
جني القطن1
لا أجمل من العمل إلا جني ثمراته، وما أسعد صباح الجنائين! يتنادون فيجتمعون، ويتفقد بعضهم بعضا ثم يسيرون، يمشون في طلعة الشمس جماعات جماعات مستبشرين رجالا ونساء فتيانا وفتيات صبيانا وصبيات، يأخذون معهم مواشيهم تأكل تحت أعينهم من حشيش الأرض أو من خف الذرة المجاورة لمزرعة القطن، تتبعهم كلابهم أيضا، فتكاد العائلة لا تخلف في البيت إلا من تصلح لهم الطعام، ترى الأطفال وقد خفت من الفرح جسومهم الصغيرة فهي تنط من هنا إلى هنا، وتثب وتلتفت، يضحكون من لا شيء، يغنون طربين بأنهم تركوا المألوف من تفرق العائلة بكرة النهار كل إلى عمله بعيدا عن الآخر، كبار العائلة إلى المزارع، ونساؤها إلى الأعمال المنزلية، وصغارها بعضهم يذهب إلى المكتب وبعضهم يسرح بالماشية، تنسخ هذه العادة يوم جني القطن، إذ يذهب جميع أفراد العائلة بجملتهم إلى المزرعة، يتسابقون في الجني، ويتبارى فتياتهم في الغناء، وتنافسهم في إجادة النكت الجميلة يضحك منها الجميع.
إن هذا المنظر الجميل لأولئك الرفقات المستبشرة، لا تدع محلا للشك في أن جني القطن هو موسم سعادة الزارعين .
يمشي رب العائلة إلى الغيط أمام عائلته وقلبه مملوء بالرجاء، يرجو أن تكون ثمرة عمله السنوي وفيرة يؤدي المال ويدفع الإيجار ويبقى له من ثمن القطن ما يفي بنفقاته، وكان هذا السرور الداخلي يطبع على وجهه سيما الرضا ويفيض على أخلاقه سعة الصدر، ينظر إلى أهله وذويه نظرات المودة حتى إذا أراد حثهم على العمل لا يكون صيغة الزجر إلا صيغة تلطف وتشجيع ، إذ يدعو لهم بالعافية فيقول (عوافي).
شغل المزارع كله صامت أو قليل الجلبة بطيء الحركات له مسحة من الوقار وعليه أمارات الصبر وسكون الحزن، إلا جني القطن، فإنه كثير الحركة متوالي الجيئات والروحات خفيف الحمل يتخلله طيب الغناء وعذوبة اللحن حينا، وحديث الجنائين بعضهم لبعض حينا آخر، يتجلى فيه الفرح بالجماعة، وإن للجماعة لروحا عامة تفيض على أفرادها حتى إذا مررت بهم من على الطريق، وليس لك في القطن فتيل ولا من ثمنه مليم أفاضوا عليك من فرحهم فشاركتهم فيما هم فيه، ولست أعرف منظرا أروح للنفس من منظر الراضين.
إن لم يكن القطن جميلا عند أهل المعرفة بالجمال، فإن جنيه من أجمل ما يكون، ومع ذلك فهو جميل، إنه نافع وكثيرا ما يكون الشعور بالجمال غير خالص من دواعي المنفعة، كثيرا ما يكون الجميل هو النافع، بل ذهب بعض المتعرفين جمال الأشياء إلى أن أصله في النفس المنفعة لا غيرها، على أن مزرعة القطن المحصورة في ذلك الإطار من التيل القائم عليها قيام السياج على البستان، ليست إلا لوحة من ألوان الطبيعة الجميلة عند القلوب التي تقدر الجمال، لو أن الجمال معروف الأوضاع ومحل للدليل والبرهان، لقلت كيف لا يكون جميلا مجموع تلك الشجيرات مشتبكات على مسافات متساوية سيقانها حمر وأوراقها صفر وخضر ومدهامة وعلى غصونها المترنحة، أبراج القطن الأبيض ... إلخ.
ولكن الجميل هو ما ترضى به النفس وتحبه كذلك، إن شئته روضا فهو كذلك، وإن شئته غلة فهو كل ثروة البلاد، جنيه الظاهرة الاقتصادية الكبرى في مصر، وإلى حاصلها تنسب الشدة والرخاء طول العام، يظن الثقاة من المزارعين أن حاصل هذا العام لا يصل بحال سبعة الملايين، وقد كان في العام الماضي وشيك الثمانية؛ لهذا التقدير ولتقديرات أمريكا، يقولون: إن القطن سيزيد ثمنه زيادة تعوض بعض الخسارة في كميته، ولست أظن هذه التقديرات العابثة محجبة عن أدمغة أرباب المزارع، إنهم يدركونها وهم وسط أولادهم في الجني فتثقل رؤوسهم، فيطرقون بعض الشيء، وكأني برب المزرعة استخفت من حواليه أصوات ذويه الجنائين حين يرهقهم حر الشمس في الظهيرة يكثر تفكيره في تقدير حاصل زراعته، وتتمثل أمامه شخوص الدائنين الملحفين في الطلب فيطرق، ولكنه لا يلبث أن تحجب الشمس غمامة فيمسح الأولاد جباههم بأردانهم، ويعودون إلى غنائهم فينبهوه ويشاطرهم ما هم فيه من الغبطة، وكأني به يقول وهو يطرد عنه هم الوفاء: خلنا نأخذ بطرف من سرور الحياة ولهوها فسرورها قليل وندع الهم إلى ساعة الوزن وتصفية الحساب.
أول العام1
بالناس في الجديد من الزمان رغبة وإليه شوق، نفرح بالعام الجديد والشهر الجديد، كأن حاضرنا يثقل علينا حمله، نرغب في الفرار منه إلى غيره؛ أو لأن النفوس شيقة إلى معرفة ما يكنه المستقبل في الصحائف المطوية وراء حجب الغيب، في ظرف الزمان نستبطئ الحاضر ونستعجل المستقبل، والذي نرجو أن يحقق فيها كل امرئ آماله وأمانيه، وما أول العام إلا باب هذه المسافة الزمنية؛ لذلك كان استقباله عندنا عيدا من الأعياد.
يا عجبا من الإنسان! هو يحب الحياة ويفرح بانقضاء الزمن وما هو إلا انقضاء الحياة، ولقد جرب ثم جرب أن المستقبل إن حقق له لذة منتظرة، فقد رماه أيضا بألم جديد، وإن أسدى نعمة فقد أتبعها بنقمة، وإن جاء بحسنة فما يلبث أن يصيب بالسيئة، وما هذا المستقبل المنتظر إلا أشبه ما يكون بالماضي بل هو شر منه؛ لأنه زمن الهرم وموطن الضعف والمانع من قدرة التنعم بنعيم الحياة، من الصعب أن ندرك ذلك السر الخفي الذي يجعل المرء يستعجل المستقبل فيما يتعلق بحياته الفردية ويشتغل به إلى حد الانصراف عن كل الحاضر، ما دام المستقبل هو فناء الحياة، نعم تنقضي حياة الفرد وهو يرجو من المستقبل أن يعوض عليه ما فاته فهو لا يفتأ يرجو، والدهر لا يفتأ يخيب ذلك الرجاء.
ولكن الإنسان إذا قصرت حياته عن تحقيق آماله الشخصية فإن الأمم طويلة الأعمار إذا أدركها الهرم لا مانع يمنعها من استعادة شبابها وقوتها، فلا جرم أن ننتظر من المستقبل أن تتحقق فيه آمالنا العامة، وأطماعنا القومية، ويجني شعبنا ثمار ما غرسه آباؤنا، وما يغرس الجيل الحاضر من المبادئ القومية، ونستعجل الأعوام المستقبلة تجيء بالسعادة التي يرجوها المصريون.
أهلا بأول العام مهما نشر لنا عامه من مطوي الحوادث، فإنه يجدد لنا ذكرى جده الأول يوم هجرة نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم ، ذلك اليوم الذي سن فيه النبي للناس كافة أن الحق أحق أن يتبع، وأن المرء يجب عليه أن يضحي في الدفاع عن الحق ما استطاع من الضحايا ولو كلفه هجرة وطنه وأهله، والسلب مما هو فيه من نعمة الطمأنينة والراحة، بل لو كلفه تعريض حياته إلى أشد الأخطار، ذلك اليوم الذي قلب وجه العام، وبدل الشرك توحيدا، والضلال هدى، والظلام نورا، والظلم عدلا، وتفاضل الناس بالأنساب والأموال مساواة، يوم الإخاء والمساواة، يوم الديمقراطية الصحيحة، يوم تقرير سلطة الأمة في شئونها الدنيوية، والدين لله الواحد القهار.
لكل قوم عيد، وهذا عيد الأبرار الذين يقولون بالإخاء والمساواة، ويجرون وراء تحقيق سلطة الأمة، ويسيرون على المبادئ القويمة التي جاء بها الدين الحنيف لخير الأفراد والشعوب.
الرجل السعيد1
لم تك بي حاجة إلى مصباح ديوجين لأبحث عن الرجل الطيب، ولكن بنا حاجة إلى نور الأرض والسماء لنتعرف الرجل السعيد.
إذا كانت السعادة في أفراد الأمم البادية قليلي الحاجة والهموم، يلمع نورها في عيونهم الجميلة السليمة من أذى الإجهاد، ويترقرق ماؤها في جباههم الواضحة، وتتم خفة حركاتهم عن قلوب خفيفة من أوزار الحياة ونفوس طابت عن كثير من عرض الدنيا وشره المدنية، رضيت من مزايا الحياة بالحرية.
ونعم الحال تتقلب النفس على هواها في مراتب العزة وتأخذ من العيش بنصيب صفا من كدر الأحقاد وغصص المزاحمة المستمرة وخلا من الهموم العامة لأهل الحاضرة، إلا مما كان من غارة يقتضيها العيش أو لقاء عدو للدفاع عن الوطن.
وكلاهما قد يزول همه بانقضائه، لا كأهل المدينة سلمهم حرب وحربهم حرب، فهم في السلم من خوف الحرب في حرب شعواء، أدهى وأمر من الرمي والطعن والضرب، وهم من خوف الفقر ومن المزاحمة على حاجات الحياة وكمالياتها في حرب ، وهم من ثروتهم العلمية والفنية والمالية في فتنة مستطيرة الشرر، تقلق المليء والخالي، وتكد ضمير العظيم والحقير على السواء.
إذا كانت السعادة في أفراد الأمم البادية، فأخلق بها أن لا تكون في مدنيتنا، بعيد عن السعادة، وهي أمنية الحي، رضاء النفس وطمأنينة القلب ونور العين، أن نلقاها في حمأة الشهوات الذي تزحف فيه النفوس، وتتخبط في ملاطمه القوى والملكات، إلا الذين أخلصوا قلوبهم وتعرفوا الحياة بالعقل وبالمثل، فعرفوها عن قرب، يضربون فيها لأشخاصهم هونا ويعملون لسعادة غيرهم جما، ويكبر في صدورهم حب الإنسانية وتنمو في نفوسهم طبائع الخير، فتميت ما عداها من الميول، رضي الله عنهم ورضوا عن أنفسهم، وحققوا سعادتهم في هذه الدار، أولئك هم السعداء.
أين الرجل السعيد الراضي بحاله في هذه الحياة الدنيا؟ وقلب المرء بما أودع من الهموم الحقيرة والجليلة، لا يهدأ روعه ولا يكن هياجه إلا إذا أصاب أغراضه ووصل آماله وبلغ أمانيه وما هو ببالغها؛ وكلما انقضى منها سبب جاءه سبب جديد، إنه لا نهاية لأغراضه ونهاية حياته واقعة لا شبهة فيها، وإن حاول هو أن يؤجل هذا الواقع، وإنه على ذلك ينفطر قلبه حسرات على ما يفوته من مطلوب، وتذوب نفسه شعاعا على فقد محبوب، إن أصابه الخير يزهيه فيركب متن الكبرياء وهو بركوبها شقي، وإن أصابه ما يظنه الشر يتبرم بعدل الوجود ويتغير للجمعية ويركن إلى الخمول أو يجرع كأس الذلة وهو بذلك أيضا شقي، ولو أنصف الإنسان لاعتقد أنه لا قبل له بتغيير مجرى الحوادث، ولا طاقة له على حسن تقدير الخير والشر:
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
لو أنصف الإنسان لما جعل له من غرض في الحياة إلا القيام بما يعتقده الواجب، يخلص له النية والعمل جميعا، يعمل ثم يعمل، فإذا جاءت النتيجة على وفاق ما يقدر فليرض وليقنع من الرضا وليرضي نفسه على أن لا يخدعها النجاح كي لا تجمح وتتعسر عليه فيضيع من يده زمامها، وإن أكدى العمل وجاء بنتيجة عكسية، فليرض أيضا وليرضي نفسه على أن لا يخدعها الفشل، فتمل العمل وتقصر في أداء الواجب.
ألا إن السعيد هو من يعرف أن يرضى بحاله، فليست السعادة هي الثروة ولا الاستمتاع بها، وليست هي الجاه ولا آثاره، وليست هي الحب ولا لذاته، وليست هي العلم ولا نوره ولا منافعه، وليست هي الجهل ولا جموده وجرائره، وليست هي النباهة ولا كبرياؤها، وليست هي الخمول ولا انزواؤه وتعطيله، وليست هي الحكم، ولا في نظام الاستبداد ولا قدرته، وليست هي الجمال ولا شفاعته، وليست هي الظرف ولا خفته، وبعيد أن تكون هي العقل وحسابه، إن لم تكن هي الخيال وأوهامه، ليست السعادة شيئا من ذلك ولا هي كل ذلك بجمعه، بل السعادة ظن السعيد أنه سعيد.
جلت قدرة الله: إن لم نتعرف السعادة بين البؤساء فنحن لا نعرف لها أثرا بين الأغنياء، وإذا وجدناها من حظ الأغبياء فهيهات أن نجد فيها نصيبا كبيرا للأذكياء! نؤكد أن السعادة هي إحساس الموجودات وليست من الأعدام، ولكنها لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، لا يلقاها إلا من كان لا يعرف الهم، وهذا الصنف من الناس لا تنفعنا سعادته، كما لا يعز علينا شقاؤه، ولا يلقاها إلا رجل ذكي القلب راضى نفسه على الرضا، فرضيت غير كارهة، عرفت الحياة فلم تبالغ في تقديرها، وعلمت قيمة الواجب وقدرت على القيام به حق قيام، وأخذت الحوادث فاستقبلتها كما هي لا كما يجب أن تكون، ذلك هو السعيد الذي نرجو أن تكثر في العالم صورته، حتى لا تكون السعادة بالعلة أو بالجمود وعدم المبالاة، بل لتكون السعادة في العمل لخير الإنسان وبالعمل لرقي الإنسان.
الرجل الصريح1
إذا كنت تقابل الناس بأكثر من المعروف هشا وبشا وتلطفا وتسوم طبعك المزح الذي ليس من خلقك ليقول عنك الناس ما ألطفه وما أرق حاشيته، فإنك بذلك توشك أن تعد في ضمن المخادعين، وما أنت بالرجل الصريح.
إذا كتبت أو خطبت فأخفيت ما تعتقد لتظهر ما لا تعتقد مجاراة لرأي الناس، فما أبعدك عما يشخص الرجل الصريح.
إن الخداع درع خلقة تكاد لا تستر الخادع إلا ما دام الناس عميا، فإن أبصروا لا يلبث ستر الخداع أن يتمزق إربا ويتلاشى هباء عن الكذب عريان خجلا لا يستطيع بعدها أن يكون مطرحا للثقة ولا محلا للمعاملات.
كأني بالخداع لا يركب نفسا إلا نزلت عن شخصيتها، وضلت في تقدير ماهية المنفعة الشخصية، وجبنت عن احتمال المسئولية عن أعمالها، فضعفت أن تبرز في ميدان المعاملة الإنسانية إلا مقنعة بالزور مشتملة بثوب كثوب الثعبان من النفاق، فلولا رحمة من الله وعقل هاد إلى الصواب وتسامح من طيبات النفوس لهلك المخادع لساعته ضعفا عن الحياة وأسفا على ما فرط في حق نفسه وفي حق الصراحة الإنسانية.
الصراحة ضمير حي وعزة تحمي من المداجاة وشجاعة تكفي لاحتمال مسئولية ما ينكره الناس على الرجل الصريح.
ذكرت جريدة الأهرام أحد نوابنا فقالت: (... حلو الدفاع عذب العبارة شديد العارضة إلا أن له ضميرا حيا لا يخالفه ...) ذلك هو المثل الصريح للرجل الصريح.
كثرة الصرحاء في الأمة أمارة على عزتها، فمتى تكثر فينا صورة الرجل الصريح؟
زهر الربيع1
ليس كل الحياة شقاء للسعي إلى مال ينفق أو يدخر وإلى مباراة في رفعة المناصب، بل الحياة أيضا استمتاع بجمال الطبيعة، فكرة خفيفة الوزن تافهة القيمة عند أهل الوقار، أولئك الذين يرون ركض الدابة ينافي الوقار، ولعب الكرة يذهب بالوقار، ومعظم أسباب التربية البدنية لا يتفق على ما يجب للرجال من إطراق طويل وسكون عميق وجمود على المأثور عن السلف الصالح القريب، كأن الأمة يجب أن تكون كلها من أهل الرياضة والكشف، يضحون قوة البدن لصفاء الروح حتى تنزع بجهتها القدسية عن هذا العالم السفلي إلى الملكوت الأعلى، ولو أنهم أرادونا على احتباس النفس عن لهو الدنيا ولعبها إلى العمل للآخرة ونعيمها، لكان فيما يهدون إليه من التقليد مغنم.
ولكن الحال قد تبدلت إلى صرف النظر عن جمال الطبيعة ونعيم الحياة الإنسانية إلى أخس أطراف هذه الحياة: الحرص على الخدمة في الحكومة ، والحرص على فقد الحرية في كل شيء حتى في اللذات البريئة، حتى في الاشتغال بتربية ملكة الجمال، حتى في العناية بغرس الأشجار وتوليد الأزهار، الحرص على فقد الصراحة في كل شيء حتى في الأعمال الشخصية، تقف عن الظهور بتعرف الجمال حيث كان، وعن إعلان حب الجمال، وعن الظهور بحب الأزهار واستقبال الربيع بالتحية والارتياح، بديل ذلك استغراق في اللذات المخجلة بشرط أن تكون خفية حتى لا تجرح قدسية الوقار.
رب! كل ما خلقت تابع لقانون التطور حتى المعاني والأفكار، فالذين تجردوا من مزايا السلف الصالح في علم يفيد وجد ممتع وسيرة طابت ظواهرها وبواطنها قد اكتفوا من أسلافهم بتقليد شيء واحد لم يقدروا إلا عليه وهو صورة ظاهرة من الإطراق لا في التفكير والسكون، بل هو مظهر يقتضيه الوقار؟ فإذا تحركت النفس الإنسانية في هذا الجسم الوقور فإنما حركتها إلى الشهوات السافلة المنحطة دون الشهوات العالية من اغتباط حقيقي بجمال الطبيعة، وتقدير صحيح لما أودع في الفنون من كنوز الجمال، ذلك جيل ذهب بأهله، ولنا جيل ناهض يجب أن يؤلف بين علمه وبين نزعات نفسه، ويضيف إلى تثقيف عقله تهذيب مشاعره، ويطرح جانبا كثيرا مما ورثناه من ماضينا القريب، فيعمل للمزاحمة العالمية ليكسب قسطه تحت السماء من مال يسد الحاجة وقوة تحمي الوطن ولذة بجمال الطبيعة تعين على فهم الحياة، فيعنى بمظاهر الجمال كما يعنى بزراعة القطن؛ لأن الحياة ليست شقاء خالصا بل هي يومان: يوم للشقاء ويوم للنعيم، ويأخذ بنصيب من الالتفات للظواهر الطبيعية كما يحرص على الاستفادة من الظواهر الاجتماعية والحوادث الاقتصادية.
ها نحن أولاء أمام الربيع، أزهاره تنسم أنفاسها، وتأخذ بأبصارنا ألوانها، وتحرك جدتها عواطف الحنان في قلوبنا كأنها بعض أبنائنا إن مرآها ورياها ينقلان نفوسنا من عالم الشقاء إلى عالم النعيم، ومن أرض الحقيقة الواقعة إلى سماء الخيال الجميل، لا أظن هذا الانتقال وهميا لا وجود له، كلا إنه صحيح واقع فإننا نشعر بوجوده في قلوبنا ونرى آثاره على وجوهنا، إن خيال اللذة البريئة موجود وأثره سعد، ولعله هو نعيم الحياة، فأهلا ومرحبا بأزهار الربيع.
ليس جديدا علينا بني الإنسان أن نعلن مشاعر الاغتباط، ونسدي عبارات الإعجاب إلى الربيع وجماله، فقد كان ذلك في كل زمان موضوع وصف شعرائنا، والمحرك الأول لعواطف المحبة في صدورنا، وكأن الزهر رسول المودة وهدية الحب بين الأنفس الحساسة التي بينها وبين الجمال نسب متين.
كنا ولا نزال نبتهل إلى الربيع وننسب بالطبيعة؛ فهل لها أذن تسمع تغنينا بجمالها؟ أم هي صماء صادرة عن قوات أزلية سائرة إلى مصير مرسوم لا تلقي نظرة على سكانها المفتونين بزخرفها الفانين في حبها، وهم في الحقيقة ضحايا عدوانها، ليكن كل ذلك، ولكن ذلك غير مانع لنا من أن نستوفي قسطنا من الحياة على أكمل ما نستطيع، نبلو مرها ونطعم حلوها، ننسى آلامنا فيها بما يسحرنا من جمال أزهار الربيع.
علموا أبناءكم حب الجمال، ونموا في نفوسهم ملكته، ليعلموا أن الحياة ليست جحيم الهموم، ولكن فيها لمحات من النعيم، إن حب الجمال يرفع النفس إلى لذائذ أطهر طبعا وأسعد أثرا وأبقى في العواطف نتيجة من كل ما عداه من لذائذ الحياة، وإن أبسط موضوع لتعرف الجمال والمران به أزهار الربيع.
الصداقة1
حدثني صديق ذكي القلب ينتفع بكل الحوادث ويعتبر بكل المشاهدات قال: ركبت الترام إلى جانب السواق فحضرتني طائفة من الأفكار ترجع كلها إلى حال هذا العامل وما يعاني من سفر مستمر خلو مما نجد نحن في أسفارنا من التعزية ببلوغ الغرض، وما يحمل من مسئولية كبيرة مستمرة إذ هو مسئول عن سلامة الراكبي ترامه، مسئول عن المصادمات ، مسئول حتى عن الأطفال المتعسفين يمر أحدهم أمام الترام ليغتبط بخفته في العدو وليهزأ بسرعة الكهرباء، أو يتصدى للتعلق به سائرا من على اليمين حيث يتاح له النزول من غير خطر أو على الشمال إذا زلقت رجله، فهو وشيك أن يلقى بين ترامين، قال: حادثت السائق حيث لا خطر من محادثته وسألته ماذا يجد من عمله وهو يذوق لذة المسئولية التي يحملها والخدمة التي يؤديها؛ فأجاب ببساطة خاصة بالأفندية من درجته ومستوى تربيته: إن عمله شاق ممل، ولكنه يخفف عليه كثيرا هذا الملل أن يقابله سواق آخر من أصحابه يتبادلان في هذه الفرصة الضيقة عبارات التحية لا يتمانها حتى يبعد كلاهما بحيث لا يسمع صوت الآخر، تسلية ضئيلة! ولكنها مع ذلك مثيرة في النفس إكبار الصداقة وإنها من الشروط الأصلية للحياة.
لم ينفرد صاحبنا السواق بالمسئولية بل كلنا في المسئولية سواق ترام يحتمل مسئولية عمله ونتائج أعمال غيره أيضا، وكلنا معذب لا بد له من تعزية تخفف عليه حمل الحياة، والظاهر أن أكثر التعزيات خيرا وأطولها عمرا وأطهرها طبيعة هي الصداقة.
يرد على الخاطر في هذا المقام معنى قلما فات امرأ استعماله: (لا لا، كلنا أصدقاء). يقولها الواحد لصديقه إذا عرض عليه الاشتراك في عمل مالي أو نحو ذلك من الأعمال التي مغبتها عادة الاختلاف على المنافع وتبدل الصفاء كثيرا بين المتعاملين! مهما قيلت هذه الجملة في مقام الاعتذار، ومهما ابتذل استعمالها فصار يتناول علاقات غير الأصدقاء في الحقيقة، إلا أنها مع ذلك لشيوعها في الناس تعتبر من جانبهم إجماعا على أن الصداقة فوق كل المنافع وأغلى ثمنا من أن يشتري بها الرجل كائنا ما كان من الأعراض الإنسانية.
ما هي حياتنا إن لم تكن في الواقع مجموعة من المشاعر المختلفة، بها وحدها نحيا ومن أجل الجمع بينها والحصول على لذتها نتعب وننصب وفيها نحيا ونموت! وما أظن ما في الإنسان من قوى مادية وعقلية إلا خدما لتشبيع مشاعره النفسية: ألا ترانا ننظر إلى ما في الدنيا بنظارات تأخذ ألوانها من صفاء نفوسنا وكدورتها، فالمغتبط بما هو فيه يرى الحياة وردية - كما يقال - ولو كان في فقر الأنبياء أو في غيابات السجون! أما الذي يظن أن تقطعت به أسباب الفوز ولازمته خيبة الرجاء في مقاصده أو في أصدقائه، أو من هو لأي سبب تكدرت مشاعره، فلا يرى ما هو فيه من نعم الحياة إلا جحيما مقيما، إنها مشاعرنا النفسية هي التي عليها العمدة في جعلنا سعداء أو أشقياء ، فليس بعجيب على الإنسان أن يجعل للصداقة وهي أظهر المشاعر الإنسانية هذه القيمة ويفضل الشعور بها والاغتباط بلذتها على كل شيء.
يسرف الناس في استعمال لفظ الصديق مقولا على الزملاء والمعارف بل ومعارف المعارف، وما أرادوا بذلك امتهان الصداقة وابتذال أمرها، فإنهم منذ طفولة الإنسانية إلى الآن، ينشدون الخل الوفي ويقولون بامتناعه بوصف أنه المثل الأعلى للصديق، ولكنهم يريدون أن يشرفوا طبائع علاقاتهم بعضهم ببعض إذ يعطونها لون الصداقة أو لفظ الصداقة، ولو سئلت ما الصديق لما زدت على أنه ذلك الإنسان بعينه الذي تشعر في نفسك بالفرح عند لقائه والشوق للجلوس إليه والإفاضة له بكل ما لديك، تعطيه مفتاح عقلك وقلبك آمنا ليرى فيهما كل شيء. يوحشك بعده ويؤنسك قربه وتجد من نفسك باعثا قويا وحاجة لا يسدها إلا لقاؤه.
ولقد نجد في الأمثلة الصديقين يكون كلاهما للآخر على ما وصفنا، فلا يقع بينهما، إلا أصبحا لا كالمعارف بل كالأعداء، وهذا صحيح مشاهد، ولكنه لا يطعن على معنى الصداقة في شيء، بل هو يدل على أن الصداقة كبقية المشاعر النفسية مختلفة الكم والبقاء باختلاف الاستعداد، فمن الناس من يحب إلى الشوق بل إلى الهيام بل إلى الموت، ومنهم من يحب حبا لا يتعدى المتعارف في القدر ولا يتعدى أياما أو أسابيع في البقاء، ومهما كان من الصعب التفريق التام بين عاطفة الصداقة وعاطفة الحب تفريقا منطقيا ووضعيا، إلا أننا مع ذلك نشعر في نفوسنا بتخالف بين الإحساسين وتباين في الكيف بين موضوعيهما، فالنفس التي لا يمكنها استعدادها إلا من السير في الحياة على مقتضى المصادفة الصرفة، تنتقل في صداقتها كما تنتقل في إذاوق المودة، قل أن ننعم بهذه الصداقة وإن كان من الصعب علينا أن نظن أنه توجد نفس لم تذق لذة الصداقة قليلا أو كثيرا تبعا لمبادئ التربية وفطرة الاستعداد.
ما أشمل الرضا للنفس تجلس إلى نفس صديقة مجلسا ليس للتكلف في الأوضاع المادية ولا المشاعر المعنوية فيه أثر! روحان اتفقتا في المشاعر وتم بينهما التفاهم في كثير من أمهات المبادئ العلمية والكليات العقلية، لذة يعرفها الذي يعرف لذة الأحلام، فكثيرا ما تجرد النفس من ذاتها في العزلة خيالا تفضي إليه بما فيها وتبدي له ما خفي في طيات أعماقها من المقاصد، وما رسب فيها من الآلام، فإذا وفقت إلى الصديق الموفق كانت هذه المفاجأة الحلمية اللذيذة أشهى متاعا وأقوى لذة من لذة الهواجس الفردية ومسارح الأحلام.
وما الصداقة بقاصرة في آثارها على هذه اللذة، لذة الحديث العذب والبعد مسوقة عن عذاب الحياة اليومية وأثقال التكلف في أوضاع الأعمال، بل كثيرا ما كان صديقك مرآتك ترى فيها عيوبك وفضائلك جميعا، بل طالما كانت الصداقة وتشيع الأصدقاء مصدرا للتفوق والنبوغ. نفعت الصداقة الروح بتخليصها من سآمة الوحدة وألم الوحشة، ولكنها نفعت العلم والأدب أيضا في كثير من الأحيان.
إحساس تلك هي الحاجة إليه، من حقه أن يتعهد أمره في النفس لينمو فيها، فلا يغيرك لصديقك خطأ وقع فيه، فما الكمال بمدرك في هذا العالم، بل يجب أن تكون معاملة الصديقين مبنية على حسن الاعتقاد وقاعدة التسامح.
سلطة الأمة1
لا يزال عندنا كثير من الناس المسئولين عن مصر بحكم مراكزهم من العلم والمعرفة أو من الحياة والمال من إذا حادثته في سياسة البلد تقبض وجهه وأعرض عن حديثك بنظره، كأنما جئت تلقي تحت نظره ميزانية الإفلاس تنطق له بأن ما على مصر أكثر مما لها. يقول لك الأمة ضعيفة لا سلطة لها، والأخلاق متحللة، والاحتلال لا يعمل شيئا لترقيتها، فكل جهد ضائع وكل عمل غير نافع. يقول لك ذلك وزفراته يلحق بعضها بعضا دلالة على أن نفسه تذهب على وطنه حسرات، ومع الأسف أن هؤلاء اليائسين هم بفضل مراكزهم قدوة للكثير من الشبان ينقلون إليهم هذا المعنى، معنى اليأس الذي يبعد عليه أن يأتي بنفع البلاد ... على أن الحس يثبت لنا كل يوم بالأمثلة أن المرء من طبعه أن لا يقنط من أمر محبوب لديه، بل النفس مائلة للاعتقاد بوقوع ما تحب دائما حتى من غير دليل.
وترى الخصم أمام القضاة لا ييأس من كسب قضيته ولو كان مبطلا عالما بباطله، وترى الموظف لا يقنط من الرقي مهما قامت لديه الأدلة على عدم كفاءته وتصميم رؤسائه على عدم ترقيته، والتاجر الذي كثرت عنده البضاعة ونزلت عليه السوق، لا يقنط من ارتفاعها ثانية أي من الربح المنتظر مهما دلت المقدمات على نقيض ذلك حتى يقع في الإفلاس، ذلك بأن الإنسان من دأبه الرجاء، وإنه لحب الخير لشديد، فما أعجب من شيء عجبي لرجل يحب خير وطنه كما يحب الخير لنفسه أو أشد، ومع ذلك سرعان ما يتسرب إليه القنوط من نجاحه لأول صدمة أو لظهور عرض من الأعراض الزائلة غير مناسب لوسائل الارتقاء.
أستغفر الله من أن أقول إن في وطنية أولئك اليائسين دخلا أو في قولهم زورا، ولكن الذي أراه أن ما هم فيه من اليأس ليس نهائيا، ولكنه متقطع يطوف عليهم كلما ظهرت بوادر الفشل، ويذهب عنهم كلما ظهرت طلائع النجاح، فتسميته يأسا فيها تسامح، وأولى بهذه الحال أن تعد ضربا من التردد الذي ينتج دائما عن عدم فهم وسائل الرقي فهما صحيحا، ومن الخطأ في تقدير مركزنا تقديرا تاما، لا يدخل إليه الشك من أي مكان.
إن الحكم على حال مصر الحاضرة حكما صحيحا، وفهم وسائلها للتقدم فهما تاما والعمل لتقويتها عملا متواصلا، يجعل المصري لا يبالغ في نتائج بادرة من بوادر الفشل ولا ينخدع بطليعة من طلائع النجاح، بل يستمر سائرا في عمله الهادي المتين يأخذ من أسباب الفشل درسا نافعا يتقي به أمثالها في المستقبل من غير ضجر ولا فزع، ويستفيد من طلائع النجاح سرورا كامنا وقوة تشجعه على مضاعفة خطاه الثابتة إلى الأمام.
الحكم على حال مصر يتوقف على الحكم على الاحتلال وعلى سلطة الأمة ولست أجد سببا لليأس من قبل الاحتلال الإنكليزي ولا من اليوم القريب الذي تتحقق فيه سلطة الأمة.
حكمنا على الاحتلال الإنكليزي إنما هو كما نحكم على نازلة من السماء لا نستطيع رفعها، ولكننا نستطيع أن نحولها إلى مصلحتنا ونتقي أضرارها كلها أو بعضها، حتى ينقضي أجلها وتمحي آثارها، ولقد صرح الاحتلال بأنه يرمي إلى الغرض الذي نرمي إليه نحن من تقوية مصر حتى تقدر على حماية نفسها، والمصالح الإنكليزية فيها من أن تعبث بها يد قوية. فما علينا إلا أن نطالبه كل يوم بأن يقوم بما افترضه على نفسه وأن يسلك السبل التي توصل إلى هذا الغرض المشترك، وعلينا نحن من جانبنا أن نكون أسرع منه إلى سلوك تلك السبل وأنشط إلى وضع المقدمات، والعمل إلى النتائج، ونبالغ في ذلك حتى نسبقه إلى الإصلاح نحن بأنفسنا؛ لأننا على صدق هذا الوعد نحن المنتفعون أولا وبالذات، لأن الإنكليز لهم غير الهند، وليس لنا إلا مصرنا.
من المعوقات لنا عن السير إلى الأمام أن نتجاهل وجود الإنكليز في بلادنا وهم موجودون بالحس، وننكر سلطتهم بالفعل جريا وراء قواعد القانون الدولي فنغير القواعد كل يوم، وسلطتهم الفعلية هي المرجح في كل مسائلنا المصرية الداخلية منها والخارجية في يدهم كثير من الوسائل لرقينا، فإعراضنا عن هذه الوسائل لا يفسر إلا بأننا نزهد في نتيجتها وهي القوة والاستقلال، ولو لم نكن جربنا هذا الإعراض لكنا معذورين، ولكننا جربناه فكانت النتيجة ما رأيناه، فليس إلا أن نشتغل من جانبنا لمصلحتنا، ونحملهم - والحالة الدولية الخارجية كما ترى - على أن يسيروا معنا لتحقيق وعودهم ولنسهل عليهم الواجب الذي ادعوا أنهم يحملونه على عاتقهم، لو فهمنا ذلك فهما صحيحا وطالبنا بإلحاح أن يشركونا في التشريع وفي إدارة البلاد على القدر الذي تسمح به الظروف الآن، لاستعملنا وقتنا في مصلحتنا دائما ولما تركنا حاضرا معطلا من العمل والمستقبل ليس بيدنا ولا بيدهم ولكنه بيد الله.
لو سلكنا هذا الطريق ونجحنا فيه لحققنا مقدارا من سلطة الأمة نستخدمه هو نفسه بالعمل للحصول على ما يبقى منها بالزمان.
فأما كون الأمة ضعيفة والروابط الاجتماعية متحللة وسلطة الأمة معدومة فهذا قول سطحي صرف.
لا أستطيع أن أصدق أن أمة كأمتنا جامعة بين الاستعداد الاجتماعي والاستعداد العلمي تفقد قوميتها أو سلطتها متى وقعت في أعراض المرض والضعف بل الواقع يشهد أن أمة كهذه يستحيل أن تحكم عن رغم إرادتها أو تغلب على حريتها إلا إذا كان لرضاها من ذلك نصيب عظيم، وإن سلطة الأمة موجودة بالفعل إن لم تكن معترفا بها بالقانون، موجهة إلى غير طريقها الطبيعي؛ لأن الأحكام الماضية قد وجهتها إلى الرضى بالاستبداد قاعدة للحكم، كما وجهت غيرهم من الأمم العربية إلى ذلك، فليس همنا إيجاد سلطة الأمة من العدم وأستغفر الله - ولكن همنا هو تحويل السلطة الحالية التي تصرفها الأمة تصريفا غير طبيعي في خدمة غيرها إلى الوجهة العليا وجهة الحرية السياسية، وجهة خدمة نفسها واحتمال مسئولية شؤونها، ولا طريق لذلك إلا التعليم والتربية أن نوغل فيهما إلى حد يجعل الاعتقاد عاما بأن السعي في تحقيق سلطة الأمة هو أول الواجبات الوطنية على الوطنيين.
إذا كان الاحتلال الإنكليزي يستحيل أن يدوم إلى الأبد، وإذا كانت سلطة الأمة لا تلبث أن توجه بالتربية والتعليم إلى وجهها العالي النافع؛ وإذا كان عمر الأمة يعد بالأجيال لا بالسنين، فمن قصر النظر وضيق الصدر وقلة التفكير أن ننظر إلى المستقبل بنظارة سوداء أو أن تأخذنا الخفة بالشطط فنتخطى المقدمات إلى النتيجة جهلا بطبائع الوجود، بل الواجب علينا أن نتكاتف جميعا على انتشال الأمة من مراقد الضعف، وأن نغرس اليوم معتقدين أن ما نفعله اليوم نلقاه غدا، وأن نصبر على مبادئنا لا ننتظر أن نجنيها قبل أن تأخذ نماءها الطبيعي وتنتج ثمرها المطلوب.
في سبيل الارتقاء1
يكاد يكون من المضحك أو من المحزن أننا حتى اليوم لا نزال نبحث في وسائل انتقالنا من الحال الأولية - حال الضعف والجهل - إلى حال من القوة والعلم، متناسبة مع مقتضيات الزمن الحاضر، وكان من اللازم أن نكون قد فرغنا من القواعد العمومية من عشرات من السنين وصرفنا كل همنا في تطبيقها على الجزئيات اليومية، ولكننا مع الأسف لا تزال أكثريتنا بين يائس من الإصلاح جهلا بطرائقه، وبين عارف طريق الإصلاح، ولكنه يراه طويل المسافة بعيد النتيجة فينكب عنه إلى طريق خيالي صرف ، طريق التحمس وتنبيه شعور العامة تنبيها لا يجدون من قوتهم له منفذا، ولا من الظروف الحاضرة له مساعدا، فينقلب أمرهم من التنبه الاصطناعي إلى اليأس من كل شيء؛ لأن تنبيه شعور الإنسان تنبيها يوميا مستمرا إلى سوء حالهم مع عدم الانتفاع بهذا التنبه في الأعمال المشروعة الهادئة، إنما يكون في ظروف الاضطراب، وفي حال الاعتقاد بأن طريق الرقي هو استعمال القوة اعتسافا، وهذا طريق خطر السلوك عقيم النتيجة.
نحن لا نعرف في بلادنا أحدا معينا يعتقد أن سبيل ارتقائنا هو غير السلام، فإن الأقلام في مصر مجمعة على أن السلام هو الطريق الوحيد حتى أشدها تحمسا، وأدخلها في باب الطيش والتغرير، ولكن بعض الكتاب من الشبان أو غير المسئولين عن شيء في مصر قد دأبوا على أن يضربوا الأمثال في كتاباتهم بالحركات الأجنبية لا على القدر اللازم الكافي في العبرة والتبصرة، ولكنهم يكيلون منها كل يوم حتى بلغ من بعضهم عدم التبصر أن يبرر عمل الغادرين من غير أن يحسب النتائج التي تترتب على تبريره هذا والمثل السيئ الذي يضربه للشبان، فيقع من حيث لا يشعر في المذهب السيئ من مذهب الذين يظنون أن مصر ترقى بغير السلام.
أعترف أن مذهب التطور والارتقاء مذهب لا تأخذ طرائقه بالأبصار ولا تخلب الألباب، وإن كانت نتائجه باهرة لمن يستطيع العمل من غير جلبة، والصبر اللازم لانتظار نتائج العمل. والواقع أن الارتقاء لا يكون إلا بالتعليم والتربية، فأي مظهر يسحر أنظار الجمهور من مظهر معلم كفء في مدرسته يصلح عقول الأحداث ويهذب طبائعهم ويحول ميولهم إلى حب الخير، والجري في مجرى الحق والعدل؟ فما هو إلا جيل واحد - لا يعد لحظة في حياة الأمة - حتى يتبدل الوطن بساكنيه متحللي الروابط، رجالا قادرين بعقولهم وأخلاقهم وقوتهم على إعلاء شأنه والتشبث بإسعاده نتيجة باهرة، ولكن طريقتها منزوية عن العيون لا تبلغها حواس العوام ولا تحفل بها، بل لا تساوي عندهم في طريق الوطنية والعمل للوطن أصغر القيم، بل لا تساوي في الوطنية أن يجرجروا بأيديهم عربة كاتب يكتب لهم ما يرضيهم لا ما ينفعهم، أو تقليد من يخرج من السجن في جنحة قذف وسام شرف وفخار، أعترف بذلك ولكني لا أعترف من جهة أخرى أن العوام هم الذين نأخذ عنهم سبل تقدم البلاد، فحسبنا ما نألمه إلى اليوم من الطباع التي نقلها لنا العوام بحبهم الظلم وتجافيهم طرائق التربية والتعليم، يفرحون بالتحمس الفارغ، ويفرقون من جرائه، حتى إذا فشل قائدهم أصبحوا عليه أنصارا يحرجون مركزه ويسيئون إليه، ويولونه بعد الاحترام احتقارا وبعد النصرة خذلانا.
طريق التربية والتعليم هو الموصل الوحيد، ولكنه - كما يقولون - لا براق الرداء ولا حاضر النتيجة، فإنه كما لا يفرح به العوام جهلا بنتائجه، ومن جهل شيئا عاداه، كذلك لا تتفق مشاعر الشبيبة الغضة على اتخاذه والإيمان به؛ لأن انتظار نتائجه يخالف مزاج الشباب. وأخص صفات الشباب العجلة، وأخص ميوله الظهور بالقوة والبأس من غير أن يحسب مقدار قوته، والشباب من كرمه وطيب قلبه يحب التضحية يأتيها بغاية السهولة من غير نظر ولا تدبر، فهو بذلك يستسهل الصعب، بل قد يبغي المستحيل؛ لذلك كان الشباب الغض أنفع الأطوار الإنسانية في المخاطرة، ولكنه بقلة تجربته وعدم اعتياده على حساب النتائج، لا بد له ممن يحسب عنه، ويبين له الطريق المنتج من الطريق العقيم.
كلنا يحب وطنه، وربما كان الرجل أعمق حبا من الشباب، وكلنا يحب سعادته بسعادة وطنه، وربما كان الكهل أشد حبا للسعادة؛ لأنه أشد حبا للحياة، ولكن من الذي يستطيع أن يثبت لنا أنه يوجد لإسعاد وطننا طريق آخر غير طريق التربية والتعليم، أي من ذا الذي يستطيع إقناعنا بل إقناع نفسه هو، بأن استعمال القوة ولو بمظهرها الأدنى ينفعنا ولا يضرنا، أو أن عندنا قوة تستعمل!
لا أحد، ولكن أنصار الحركات - كما قال بعض المحامين الإنجليز - هم غير المسئولين عنها من العجزة والنساء، وغير المفكرين في العاقبة الطامعين في الرقي السريع، وهم شبان الضباط، على ذلك نكرر النصيحة مع اعتقادنا بأن الأقلام والألسن في مصر مجمعة على أن سلوك العسف مهلكة للأفراد وللأوطان - بأن طريقنا هو التربية والتعليم.
قد يقال: رأينا كثيرا من المتعلمين يتمرغون في مراقع الطباع العامية لا يهتمون بكرامتهم ولا يقيمون وزنا للفضائل الاجتماعية، إذ كلفهم الحق فتيلا عافوه واجتنبوه، وإذا حملهم العدل كلفة عادوه، فكيف يكون طريقنا الوحيد هو التربية والتعليم؟
قد يكون ذلك حاصلا في بلادنا وفي غير بلادنا مع فرق كبير في النسبة بالضرورة، ولكن هذا لا يطعن على نظرية الارتقاء بالتربية والتعليم في شيء، فإن العيب إما أن يكون من الاستعداد؛ ولا شبهة في أن مستوى الاستعداد الأمي يرقى بالتربية والتعليم جيلا عن جيل، وإما أن يكون العيب من طريقة التربية والتعليم نفسها، فلا نتكلف إلا إصلاحها وتوجيهها إلى غرضنا منهما، وعلى كل حال، فإننا إذا جعلنا التربية والتعليم غرضنا ووجهنا إليهما العناية التي ننفقها عن سعة في غيرهما مما لا فائدة فيه قدرنا ولا شك على خدمة أنفسنا وسلكنا سبيلنا إلى الارتقاء.
الحرية1
لو كنا نعيش بالخبز والماء، لكانت عيشتنا راضية وفوق الراضية، ولكن غذاءنا الحقيقي الذي به نحيا ومن أجله نحب الحياة ليس هو إشباع البطون الجائعة، بل هو غذاء طبيعي أيضا كالخبز والماء، لكنه كان دائما أرفع درجة وأصبح اليوم أعز مطلبا وأغلى ثمنا، هو إرضاء العقول والقلوب، وعقولنا وقلوبنا لا ترضى إلا بالحرية.
إنا إذا طلبنا الحرية لا نطلب بها شيئا كثيرا، إنما نطلب الغذاء الضروري لحياتنا، نطلب أن لا نموت، ولا يوجد مخلوق أقنع من الذي لا يطلب إلا الحياة ووسائل الحياة، كما أنه لا أحد أقل كرما من ذلك الذي يضن على الموجود الحي بأن يستوفي قسطه من الحياة.
لست أعجب من الذي يستهين بحياة الرجل فيستعجل عليه القدر المحتوم، ولكني أعجب من الذي يبالغ في الرحمة بالإنسان يستحييه شبعان ريان يفهق جيبه بالنقود معطل الحرية، قد ضرب بين عقله وبين الأشياء والمعاني بحجاب، فلا يتناولها، وحيل بين مشاعره وبين موضوعات غذائها فلا تتحرك بل تموت، أعجب من الذي يظن الحياة شيئا والحرية شيئا آخر، ولا يريد أن يقتنع بأن الحرية هو المقوم الأول للحياة ولا حياة إلا بالحرية.
أجل! إن المرء يحفظ حرية الفكر وحرية المشاعر أي يحفظ حرية الطبيعة حتى في غيابة السجن، يحفظها في كل حال هو عليها ما دامت روحه في جسده، إنه خلق حرا، حر الإرادة، حر الاختيار بين الفعل والترك، حرا في كل شيء حتى في أن يعيش وفي أن يموت، غير أن هذه الحرية الطبيعية لا فائدة منها إذا تعطلت من آثارها، فالذي سجن والذي منع الكلام، والذي منع الكتابة، كل أولئك يحفظون حريتهم في نفوسهم، ولكنهم فقدوا الانتفاع بها أي فقدوا بذلك الحرية المدنية.
كذلك الذين تركوا أحرارا كما خلقهم الله، أحرارا يقولون ويكتبون ما يشاءون ويعملون بالمعروف ما يشتهون، ولكنهم ليس لهم في إدارة جمعيتهم إرادة محترمة، أولئك لهم الحرية الطبيعية والحرية المدنية، وهم محرومون من الحرية السياسية.
لا نريد بذلك أن نتصدى للتعريفات الاصطلاحية لأنواع الحرية، ولكن جرنا إليه عرضا التدليل على أن الحرية المعطلة عن الاستعمال هي في حكم المفقودة، وأن الحرية الطبيعية الملازمة للإنسان لا يصح أن تسمى حرية، إلا إذا كان ميسرا له استعمالها، أرأيت أن المرء يرى الطريق بعينيه المعصوبتين، ويأكل ويشرب ويبطش بيديه المكتوفتين، لكن العين المعصوبة واليد الموثوقة كلتاهما في حكم المعدومة، إنما يكون المرء حرا بمقدار ما لديه من وسائل استعمال هذه الحرية، وإنما يكون حيا بمقدار ما جاز له من الاستمتاع بالحرية. فالحرية الناقصة حياة ناقصة، وفقدان الحرية هو الموت؛ لأن الحرية هي معنى الحياة.
طبعنا على حب الكمال في حياتنا ومعاداة كل العوارض التي تعرض لنا في طريق المثل الأعلى للمعيشة المستكملة وسائل الحرية وآثارها، ولا خيرة لنا فيما طبعنا عليه، وسواء كان هذا الشوق الطبيعي إلى حياة الحرية مصدر سعادة أو مصدر شقاء، فإنه على كال حال نار تأجج بين ضلوع الحي لا تبرد أو تصل به إلى المرغوب، أجل إن المثل الأعلى ليس نقطة ثابتة ولا غرضا محدود المسافة يمكن بلوغه، بل كلما بلغناه انتقل شبحه أمامنا إلى نقطة أخرى على أبعد مرمى النظر لسنا بالغيه ولا منصرفين عن التشبث بإدراكه، بل يسوقنا إليه حاجة لا قبل لنا بالصبر عن قضائها ولو كلفتنا أن نركب متن التعسف.
لذلك لا يزال يستغلق علينا فهم الأباطيل القديمة التي كانت الغطرسة الجنسية تأخذ بها الكتاب ليسقطوا في هاوية التناقض.
يقولون: إن بعض الناس خلق للسيادة أبدا وبعضهم خلق للعبودية أبدا، ولا نزال نرى هذا الخطأ يتردد في آراء الساسة المستعمرين في هذا الزمان على صورة أقل شناعة، وبعبارة أكثر ائتلافا مع مدنيتنا الحديثة؛ يضعون أصابعهم في أعينهم إذ تكون النتيجة المنطقية النهائية لهذه المقدمات الصادقة هي هذه الجزئية: (بعض الإنسان لا إنسان).
كذبت فلسفتهم وصدق الذي يشعر به كل إنسان منا من الميل إلى الرقي في كل شيء وإلى الحرية قبل كل شيء، صدق هذا الأثر الذي نجده في طليق الأسر أو السجن يوم إطلاقه، وفي محاولة المعقول أن ينشط من عقاله، صدق ذلك الألم الذي يجده ذو الفكرة العلمية من حبس حريته عن التصريح بها فتظل تجول في نفسه، ويغلي في نفسه حب إبدائها في صدره يقلق خاطره ويكد ضميره ويحتوي على كل مشاعره، حتى يفضل الموت في إرضاء هذا الحب على الحياة في كتمانه، وكم عالم استحب الموت على الحياة في سبيل حبه لحرية اقتناعه العلمي، فمنهم من قتل، ومنهم من حرق، ومنهم من حبس أو عذب، وجلهم من تلك الأمم التي يقولون إنها خلقت لغير السيادة، فإذا وجدت عبدا لم يؤثر الحرية على العبودية، ولم يطب نفسا بالعتق من الرق، فذلك مثل من أمثلة التشويه النادر في بني الإنسان وليس قاعدة يصح الأخذ بها، وحسبنا أن نرى الأدلة الحسية قائمة على أن حفظ الوجود الذاتي المجرد عنه آثار الحرية ليس أعز على نفس الإنسان من الاحتفاظ باحترام حريته، وأن الذي يراجع ماضي العالم لا يجد أمة من الأمم المخلوقة للعبودية - كما يزعمون - إلا قاتلت عن حريتها، وإذا كان أصدق المعلومات هي تلك المعلومات التي تقدمها لنا المشاهدة الواقعة، وما دامت هذه المشاهدات تدلنا على ما ذكرنا بعض أمثلته، فالإنسان - على الرغم من فلسفة الاستعماريين - حر بطبعه ميال إلى الحرية، ميال إلى الترقي فيها إلى المثل الأعلى، وأنه لا تفاوت بين أفراد الإنسان إلا في تقدير هذا المثل الأعلى وفي سهولة الوسائل الموصلة إليه.
الحرية طبيعية، وميل الناس إلى تحصيلها طبيعي بالضرورة، يشتد ويظهر مع القوة الحيوية ويضعف وتخمد آثاره مع الضعف، فكما أن القوي لا يموت جوعا كذلك لا يصبر على الحياة البعيدة عن المثل الأعلى للحرية، ولقد أصبحنا في بلادنا ندرك الحرية بمثلها الأصلي الذي يتألف مع شرف الإنسان في هذا الزمان، فقد أصبحنا نمتعض من كل فكرة ومن كل قانون ومن كل عمل يمس الحرية الشخصية أو يعطل استعمال الحرية المدنية في غير الحدود المتفق عليها في أعلى البلاد مدنية، وأصبحنا كذلك نرى أن الحكومة المعقولة الوحيدة المطابقة لشرف الأمة هي حكومة الدستور، ومنا من لا يخشى أن يصرح بأن استقلال الأمة هو الطلبة الكبرى التي يجب أن توجه إليها قوى الشعب بأسره، فلم يبق علينا للتدرج في مراقي الحرية والتقرب من مثلها الأعلى المتفق عليه بيننا، إلا الوسائل المنتجة، فإن إرادة الأمر شيء والقدرة عليه شيء آخر.
أما القوة فإن طبيعتها تختلف في كل زمان ومكان تبعا لطبيعة عيشة الأمة واعتقاداتها الدينية وعاداتها وأخلاقها، ونتيجتها تختلف دائما باختلاف طبيعة الوسائل التي يمكن استخدامها، وعندنا أن أول مظهر للقوة هي القوى المعنوية قوة الحرية العلمية، فإن الآراء العلمية ليس من شأنها أن تجد من القوة القاهرة خصوصا في الأزمان الحاضرة معارضة تذكر، فإذا استخدم المتعلمون إرادتهم في إظهار حريتهم العلمية، كان لهم من ذلك مرانة تنفعهم في تربية أخلاق الشعب وتعويده على حرية الرأي والصبر على الأذى الذي ينتج دائما عن حرية الرأي، سواء أكان ذلك من الحكام أم من المحكومين.
إن الذين يبخلون علينا بالقرب من المثل الأعلى من حريتنا التي أتانا الله إياها من فضله، يجدون من أمثلة تقصيرنا في إظهار حرية الرأي في العلم وفي السياسة ما يحتجون به في إرادتنا على البقاء على ما نحن عليه، فإذا أحسوا من حريتنا في الآراء العلمية الإرادية قوة لا يقف أمامها استهزاء الجهلاء ولا غضب الكبراء ولا استدرار المنافع الخسيسة، لا يجدون مندوحة من التخلية بيننا وبين طريقنا إلى المثل الأعلى لحريتنا، ومن قصر النظر أن يظن أن هذه القوة المعنوية قوة التمسك بالحرية والتماسك على نصرتها غير كافية في تقريبنا من مثلها الأعلى. أقول وأؤكد أنها هي وحدها كافية في إنالتنا طلبتنا، فلنرض نفوسنا على الاستمساك بها ولننتظر النتيجة.
إن تقدمنا في نيل قسطنا الطبيعي من الحرية يستحيل أن يوجد ولو كانت في أيدينا أكبر معدات القوة الوحشية، وكان عددنا أضعاف ما نحن عليه - إذا كنا لا نتخلص من وصمة عبادة الآراء والأفكار من غير تمحيض اعتمادا على مكانة قائلها، وإذا كنا لا نقطع بأيدينا تلك السلاسل التي قيدت عقولنا والأوهام التي أفسدت علينا الاستفادة من المبادئ الجديدة - أننا إذا جربنا أن نرفع منار الحرية في الميدان الذي لنا فيه حرية العمل وليس لنا فيه مزاحم ولا شريك كان ذلك فاتحة خير لإظهار شيء من القوة الضرورية لظهور الحرية وتأييدها.
تضامننا1
إذا كان العلم بقواعد جمعيتنا موجودا بالفعل بين أيدينا وتحت نظرنا، فمن إضاعة الوقت أن نطلبه عند غيرنا، وإذا كانت أساليب بيانه على أطراف ألسنتنا، فمن التعسف أن نبحث في الكتب لنعثر عليها، فإن العلم الصحيح ما جاء من طريق المشاهدة، وخير البيان ما كان مألوفا عند جميع الطبقات.
لا شبهة عند أحد منا في معنى كوننا أمة متميزة عما عداها بمشخصات خاصة بنا، قد لا يشركنا فيها غيرنا من جميع الأمم، لنا لون خاص وميول خاصة ولغة واحدة شاملة، ودين للأكثرية واحد وكيفيات في تأدية أعمالنا ودم يكاد يكون واحدا يجري في عروقنا، ووطننا محدود الجهات بحدود طبيعية يفصلنا عند غيرنا، لا بحدود وهمية كما هو الأمر في بعض الممالك، ولكن بحدود طبيعية تكاد تجعلنا في معزل عمن عدانا، لنا تاريخ قديم وطويل ذو مراتب وأقدار اتصلت سلاسله بحلقات متينة، فأصبحت سلسلة واحدة أولها قبل التاريخ وآخرها هذه الحلقة التي نقطعها، دائرتها في عصرنا هذا وفي سنتنا هذه، فنحن بذلك فراعنة مصر ونحن عرب مصر ونحن مماليك مصر وأتراكها، ونحن المصريون، فما نحن تحت حكم العائلة الخديوية إلا نحن، نحن بأنفسنا تحت حكم العائلة الأولى الفرعونية أو تحت حكم من قبلها أيضا بشيء من التطور الزمني قضى به التغيير العالمي المستمر، حافظين لكثير مما ورثناه من آبائنا الأقربين والأبعدين.
كل هذه المشخصات القومية المادية والمعنوية الوراثية والكسبية، من شأنها أن تجعل بيننا رابطة الجنسية أقوى منها في أكثر الأمم، وأنها لكذلك لولا ما يراه النزر اليسير من حب الانتساب إلى العرب دون الفراعنة أو الفراعنة دون العرب أو الترك دون الشركس أو الشركس دون العرب من غير أن يعرفوا أن العوامل الموضعية - عوامل الإقليم والقرابة والنسب والاشتراك في المنافع - قد أخرجت من أهل مصر عجينة واحدة هي أم هؤلاء المصريين على السواء، الأبيض منهم والقمحي والأشقر والأسمر، كل أولئك أبناء مصر، سعادتها لهم وشقاؤها على رؤوسهم، منافعها إلى جيوبهم، وهمومها على مناكبهم؛ لأنهم جميعا هم المصريون.
صيغتنا في هذا التضامن القومي صيغة عامة لا يوجد لسان مصري لم تجر عليه سورتها، تعرفها طبقاتنا وهي من أمثالنا الأمية الشائعة فإننا نقول: «أنا وأخوي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب».
تلك هي الصيغة التي تلوكها ألسنتنا في كل مجلس والتي أشبعناها فهما، فهي لا تحتاج إلى تفسير ولا إلى الألفاظ الضخمة غير المألوفة والمعاني المترامية الأطراف غير المحدودة في الأذهان، كمعاني المشابهات والفروق وحدود دوائرها، والتشبث بالتزامها وإلزام الناس بفهمها على الطريقة المدرسية، بل صيغتنا المعروفة القريبة تغني عن الصيغ البعيدة والعبارات العالية.
العائلة هي الوحدة في تأليف الأمة، والعائلة لا تقوم إلا بالعصبية، ومثل العصبية في العائلة الجنسية في الأمة، فالأخ الأقرب، الأخ في العائلة والذي يليه الأخ في القومية، فلا جرم أن يكون هذا المثل العائلي هو بعينه المثل القومي ، إذ لا نعرف أن تضامن الأخوين من أب واحد مؤسس إلا على المنافع المعنوية والمادية المشتركة بينهما والجاذبية التي ولدتها بينهما المشابهة في الصورة والزي والميول ووحدة التربية، وما تضامن الأخوين في المصرية إلا مؤسس على تلك الأسباب بعينها، وما الأسباب المتشابهة إلا منتجة نتائج متشابهات كذلك، وما هذه المشابهات إلا الجنسية أو العصبية القومية أو المصرية، فبعدا لمصري لا يحب المصري أكثر من جميع المخلوقات، أو لا يحترم المصري أكثر من غيره، أو لا يعتد بأن المصري هو أخوه الحقيقي بموضوع حنانه وشفقته ومحط خيره ومعقد رجائه ومحل مساعدته.
إن العمل لعصبيتنا الجنسية ضروري لنا؛ لأننا يستحيل علينا أن نعيش أفرادا، فالذي يذكر العصبية المصرية آناء الليل وأطراف النهار هو الحقيق وحده بشرف الانتساب إلى هذا البلد الشريف، والذي ينفع المصري، إنما ينفع نفسه في شخص أخيه.
قد يقال ما بالنا نطري العصبية الجنسية ونشوق إلى منافعها الباهرة ونجعلها أساسا ضروريا، للحياة في حين أن كثيرا من أساتذة التمدن الحديث أخذ يهدم بمعول العلم في أساس العصبيات الجنسية ويدعو إلى قطع سلاسل الفوارق بين الأمم المختلفة متوسعا في معنى الإخاء الإنساني، مجتازا حدود الأوطان ومعاني الأثرة الوطنية؟ نقول قد يكون ذلك إذا تم أليق بشرف الإنسان وأنفع لهذا العالم، ولكننا نحن المصريين ونحن أمة ناهضة تريد أن تعيش قبل كل شيء عيشة استقلال متواضعة لا مدعية أنها تقود العالم أجمع إلى منافعه. نقول ونحن كذلك لا نستطيع أن نبتدئ بتعاليمنا من الآخر، فإن ابتكار «الإنتيرناسيوناليزم» أو توحيد ميول الجنس البشري ومنافعه، هي بالفعل حلقة أخيرة لسلسلة رقي طويل في الأفكار والأعمال، ولكل أمة على قدرها رأي هاد.
لذلك نقرر بأن الذي يريد أن يطمئن في داره فليعمل لنماء روابط الجنسية المصرية، والذي يريد أن ينجح في الأعمال الحرة فليعمل لنماء الجنسية المصرية، والذي يريد أن يكون من الموظفين مسموعي الكلمة فليعمل لنماء الجنسية المصرية، والذي يريد استقلال مصر فليعمل لنماء الجنسية المصرية، ذلك هو أساس القوة والقوة ركن الحياة وشرط البقاء.
مصريتنا1
لو كان الإغريق حينما ملكهم الأتراك خرجوا من قوميتهم ونبذوا حفائظهم الجنسية واحتقروا الانتساب إلى بلادهم ونسوا أنهم اليونان، لبادت شخصيتهم ولماتت في نفوسهم أطماع الاستقلال ببلادهم ولاستحال عليهم أن يستردوا شرفها، ولكنهم على الرغم من ضعفهم قد احتفظوا بقوميتهم وتضامنهم ولم يخزوا أوطانهم بالانتساب إلى غيرها ففازوا بما كانوا يطلبون.
كذلك الطليان ضعفوا وتفرقوا ووقعوا تحت حكم النمسا وفرنسا فلم يستردوا استقلالهم ولم يستعيدوا مجدهم إلا باستمساكهم بقوميتهم وحبهم لبلادهم، فما سمع عن أحدهم أنه قال إنه فرنساوي ولو كان من أصل فرنساوي، ولا قال إنه نمساوي ولو كان من أصل نمساوي، بل كلهم ينتسب إلى إيطاليا ولو أنها ضعيفة مغلوبة على أمرها، ولولا تشبثهم بالانتساب إلى بلادهم لما تضامنوا في احتمال مصائبها ذلك التضامن الذي أدى بهم آخر الأمر إلى شرف الاستقلال، ثم إلى السمو إلى مصاف الدول العظمى الاستعمارية.
كذلك نحن المصريين نحب بلادنا ولا نقبل مطلقا أن ننتسب إلى وطن غير مصر، مهما كانت أصولنا حجازية أو بربرية أو تركية أو شركسية أو سورية أو رومية، أقمنا في مصر وطنا لنا وعقدنا معها عقد صدق ترزقنا من خيرها ونقوم على مصالحها ونفدي شرفها بأرواحنا، فما النزر اليسير الذي لا يزال يحب الانتساب إلى قوم غير المصريين أو إلى وطن غير مصر إلا ناكث عهده ومتاجر بشرفه، إذ من القواعد الأولية للعيشة الإنسانية أن «الغرم بالغنم» فالذي يعيش في مصر يجب أن يدفع ثمن هذه العيشة الراضية محبة لها وحنانا عليها، وأقل أقدار المحبة عدم عقوقها والانتساب إلى غيرها.
أرأيت أنه يحل للمرء أن يقطع نسبه لعائلته إذا وقعت في الضعف أو في الفقر ثم هو بعد ذلك يعتبر نفسه رجلا شريفا؟ وما قوم الرجل إلا عائلته الكبرى؟! أليس إقرار المصري بانتسابه إلى العربية أو التركية، لا يدل إلا على أنه يحتقر وطنه وقومه وما الذي يحتقر قومه إلا محتقر لنفسه.
على أن الانتساب إلى مصر لا يمكن أن يكون عارا، فإن مصر بلد طيب قد ولد التمدن مرتين وله من الثروة الطبيعية والشرف القديم ما يكفل له الرقي متى كرم أهلوه وكرمت عليهم نفوسهم وكبرت أطماعهم فاستردوا شرفه وسموا به إلى مجد آبائهم الأولين.
قوميتنا أولها أن نكرم أنفسنا ونكرم وطننا فلا ننتسب إلى وطن غيره ونخصه وحده بكل خيرنا وكل منافعنا ونحيطه وحده بكل غيرتنا، فما هو أصغر من أن يصبح من أعلى الممالك ولا أجدب من أن يصير من أغنى البقاع، فالذي يفرط في شرف مصر ويقول في المجالس: إنه منتسب إلى غيرها، يؤخر بمقدار مركزه في الجمعية المصرية سير التقدم المصري المطلوب ويكون بذلك جانيا على بلاده جانيا على نفسه.
وإنه ليسرنا أن هذا الفهم قد أصبح عاما في الأمة بعد أن اعتقد الناس أن رقي مصر لا يجيئها من الخارج بل هو نتيجة عمل أبنائها وأن الاتكال على غير المصريين في حل المسألة المصرية لمصلحة مصر ضرب من العبث، وليس العمل على هذه النظرية جديدا في مصر، فإن محمد علي باشا الكبير كانت أقواله المأثورة وأعماله المشهورة تدل بجملتها على أنه يلحظ فيها تطبيق نظرية القومية المصرية، وجرى على سننه خلفاؤه الأمراء وكثير من ذوات مصر وأعيانها وأخذ الجيل الجديد الحاضر يفضل البضاعة المصرية على غيرها بقدر الإمكان ويرغب في تمصير المدنية الأوروبية على قدر الإمكان، ويؤثر منفعة المصريين جهد المستطيع، كل ذلك يبشر بأن القومية المصرية ستستأثر في عهد قريب بقلوب المصريين، ولا يكون منهم إلا من يرى من الشرف العظيم الانتساب إلى هذا الوطن المحبوب .
المصرية1
سئل أحد علمائنا البلغاء فقيل له: ما المصري؟ فقال: المصري هو الذي لا يعرف له وطنا آخر غير مصر، أما الذي له وطنان يقيم في مصر ويتخذ له وطنا آخر على سبيل الاحتياط، فبعيد عليه أن يكون مصريا بمعنى الكلمة.
كان من السلف من يقول بأن أرض الإسلام وطن لكل المسلمين، وتلك قاعدة استعمارية ينفع التحدي بها كل أمة مستعمرة تطمع في توسيع أملاكها ونشر نفوذها كل يوم فيما حواليها من البلاد، تلك قاعدة تتمشى بغاية السهولة مع العنصر القوي الذي يفتح البلاد باسم الدين، ويحب أن تكون أفراده كاسبين جميع الحقوق الوطنية في أي قطر من الأقطار المفتوحة ليصل بذلك إلى توحيد العناصر المختلفة في البلاد المختلفة حتى لا تنقض أمة من الأمم المفتوحة عهدها ولا تتبرم بالسلطة العليا ولا تتطلع إلى الاستقلال بسيادتها على نفسها، أما الآن وقد أصبحت أقطار الشرق غرضا لاستعمار الغرب، وانقطع أمل هذه الأمم الشرقية في الاستعمار ووقفت أطماعهم عند حد المدافعة لا المهاجمة، والاحتفاظ بسلامة كل أمة في بلادها من أن تمحى جنسيتها ويفنى وجودها، فإن أكبر مطمع لكل أمة شرقية هو الاستقلال.
أما الآن والحال كذلك فقد أصبحت هذه القاعدة لا حق لها من البقاء؛ لأنها لا تتمشى مع الحال الراهنة للأمم الإسلامية وأطماعها، فلم يبق إلا أن يحل محل هذه القاعدة المذهب الوحيد المتفق مع أطماع كل أمة شرقية لها وطن محدود، وذلك المذهب هو مذهب الوطنية.
على هذا النظر، يجب أن نقرر أن المصريين هم أهل هذا القطر المصري الأصليون وكل عثماني أقام فيه على سبيل القرار واتخذه وطنا له دون غيره من الأوطان العثمانية الأخرى، وليس هذا المذهب جديدا، بل هو مذهب القانون المصري من زمن طويل.
هؤلاء المصريون من حقهم أن يكون لهم الانتفاع بمصر أولا وبالذات، وعليهم الواجبات القومية المكتوب منها في القوانين والمفروض بالعرف، عليهم أن تكون محبتهم لها خالصة من كل إشراك، وتفانيهم في خدمتها بعيدا عن أي اعتبار آخر، عليهم أن تدل أقوالهم وأعمالهم على أنهم لا دار لهم إلا مصر ولا عشيرة لهم إلا المصريون، أولئك هم المصريون، إلا الذين يظنون أن مصر مستغل وقتي يستغلونه، لهم غنمه وليس عليهم غرمه، أو الذين يتمثل الوطن في عقولهم بصورة تجارية لا يخالطها أثر من آثار العواطف القومية، أولئك يصعب على مصر أن تتخذهم أبناءها وتلقي على كواهلهم همها في الحاضر وأطماعها في الاستقبال.
لا يفهم مما أقول أننا ندعو إلى التفريق بين العناصر المؤلفة لكتلة السكان المصريين ، بل على ضد ذلك ندعو للجامعة المصرية كما دعونا لها من قبل، ندعو الذين يتبرمون بالجنسية المصرية التي كسبوها بالإقامة في مصر، أن لا يفروا بأحاديثهم وبأعمالهم من الانتساب إلى هذه الجنسية الشريفة، يقيمون بأجسامهم في مصر وعقولهم وقلوبهم تتجه غالبا خارج حدودها إلى الأوطان التي ضنت عليهم بخيرها ولفظتهم من أرضها، ندعوهم أنهم ما داموا مصريين أن يقطعوا ميولهم عما عدا مصر؛ لأن الوطنية - وهي حب الوطن - لا تقبل الشرك ولأن الرقي المصري محتاج لعقولهم الراجحة وسواعدهم القوية.
سيقولون: إننا بما نقرر لا نأتي بشيء جديد، ولكننا نذكر الأوليات الوطنية التي يجب أن نكون قد فرغنا من أمرها من زمان طويل، ونعم ونحن نقول ذلك مع القائلين، ولكن هذه الأوليات الوطنية لا تزال مع الأسف غير معمول بها، لدينا منها مثالا شائعا جدا يدل في عمومه على نقص إدراك الوطنية المصرية وانحطاط في المطامع المصرية، فلو رجع كثير منا إلى أنفسهم ونظروا في أعماق ضمائرهم وراجعوا ما يقولون في مجالسهم وتدبروا أعمالهم، لرأوا أن بعضنا لا يزال يحب الانتساب إلى بلاد العرب أو إلى سوريا أو إلى تركيا دون مصر، وهذا الميل يبين في القول ويتجسم في العمل، فمن ذا الذي يستطيع أن يسمي هذا الميل ونتائجه وفاء لمصر؟ ومن ذا الذي يستطيع من غير تسامح أن يسمي من يحبون غير مصر مصريين؟
مصريتنا تقضي علينا أن يكون وطننا هو قبلتنا لا نوجه وجهنا شطر غيره، ويسرنا أن هذه الحقيقة شائعة في الأكثرية المصرية؛ لأن هذا الشيوع سيوشك أن يعم جميع المصريين من غير استثناء.
آمالنا1
أملنا في المستقبل هو الخير، ويطمعنا في ذلك أن مصر هي أول ما سقط من دول الشرق وهي كذلك أول ما نهض إلى الأخذ بالتربية والتعاليم الحديثة، وتنفيذ النظامات البيروقراطية على طريقة أقرب إلى العدل والرفق، فأصبحت بذلك أغنى الأمم الشرقية ثروة وعلما وأشدها رابطة جنسية، وقد كانت ولا تزال أوغلها رسوخا في الصفات المدنية، كل ذلك يشجعنا على الاعتقاد بأننا سائرون إلى الأمام وأننا لا ينقصنا لحل مسألتنا المصرية حلا يتفق مع مصلحتنا من جميع الوجوه إلا العمل الجد والوقت الكافي.
لدينا كل وسائل العمل لمصلحتنا، فلا يعوزنا الذكاء ولا الوطنية ولا الاستعداد ولكن يعوزنا شيوع الاعتقاد بأن مصر لا يمكنها أن تتقدم إذا كانت تجبن عن الأخذ بمنفعتها وتتواكل في ذلك على أوهام وخيالات يسميها بعضهم الاتحاد العربي ويسميها آخرون الجامعة الإسلامية، فقد أعذرنا العقل وأبان لنا أن مصر لا تنجو من خطر التأخر والفوضى إلا بقواها الذاتية، وأعذرتنا الحوادث إذ أنذرتنا بأن الاتكال على غير المصريين في تحقيق آمال المصريين ضرب من اللعب بالمصالح، وحال من أحوال العجز والقنوط.
لم يأت لنا الماضي بمثل واحد يدلنا على أن أمة من أمم العالم ساعدت مصر وحمتها من المصائب التي كان يجرها عليها طمع الأقوياء في ثروتها وفي مركزها الجغرافي النادر المثال، كذلك لم يأت لنا الماضي - في غير مقتضيات الموازنة الأوربية - أن أمة تنظر من سماء قوتها إلى أمة ضعيفة تأخذها بها الرحمة فتطعمها وتسقيها وتدفع عنها مغارمها لوجه الله تعالى.
ولكن الذي نعرفه من الماضي أن العالم في حال حرب مستمرة يصلى نارها الأحياء على السواء والغلبة فيها للأقوى، والأسر ثم الرق للضعيف.
ومن الخطأ أن يكون مقياس الضعف والقوة في الأمة هو مقدار عدد النفوس أو الثروة، إنما مقياس عظمة الأمة هو صفاتها العامة الضرورية للنجاح في الزمان الذي تعيش فيه، كان عدد أهل أثينا في أوقات مجدها هو بعينه عددها عند سقوطها، ولم يتغير فيها إلا الصفات التي هي ملاك القوة في الأمم، ولسنا في حاجة إلى استحضار التاريخ القديم فإن الحاضر المشاهد في النسبة بين عدد النفوس في الأمم المستعمرة وبين عدد النفوس في مستعمراتها لا يدع للشك مجالا في أن الكثرة والثراء ليسا هما العلة الأولى في عظمة الأمة وقوتها، ولكن القوة والعظمة في عدد الرجال المهذبين أو الصفات السامية والعقول المنتجة.
لكل زمان ولكل مدنية خواص في الأخلاق والميول تكون هي علل النجاح، ولقد دلتنا الأمثلة اليومية على أن الأمة التي لا تسير في تيار عصرها بل تقف جامدة على قدميها لا ينتظرها العالم في سيره إلى الأمام، بل يتركها منقطعة لا تتجدد فيها قوى الحياة ولا تستطيع أن تأخذ بخواص النجاح في الزمن الجديد، فتقع فيما يشبه الفناء وذلك حظ الضعيف.
في أنفسنا قد رأينا أن كل ما وقعنا فيه من شر الذل وفقد الاستقلال من عدة قرون، إنما كان سببه تفريط المصريين في الاستمساك بالصفات التي كانت يومئذ ضرورية لبقائهم أحرارا. وها نحن أولاء أصبحنا بالتربية الجديدة والأفكار الجديدة نسمع في قلوبنا دبيب الطمع في استقلالنا ببلادنا وتأخذنا الغيرة من الشعوب التي شبت في هذا الزمان الحاضر ورفعت رأسها بين الأمم ولم تكن من الشعب المصري ولا قلامة ظفر، فمن الطبيعي أن يكون نهوضنا متناسبا مع أطماعنا وأن يكون أول ما يجب علينا أن نتحرى في أنفسنا صفات الضعف ننفيها عنها ونحل محلها صفات القوة أو أسباب الرقي.
إننا مهما كان مقدار حبنا للصفات التي ورثناها من الماضي، يستحيل علينا أن نظن أن علة تأخرنا هو شيء آخر غير تلك الصفات.
ومن المستحيل أن يكون الضعف والقوة كلاهما معلولا لسبب واحد في آن واحد باعتبار واحد. فرقينا أو قوتنا رهينة بنفي أسباب الضعف عنا مهما كانت هذه الأسباب أو تلك الصفات داخلة في مشخصاتنا وممتزجة بعاداتنا وأخلاقنا.
سيقولون: هل تريدوننا على أن ننزل عن أفكار آبائنا في تكييف المصالح المصرية، ونترك عاداتنا في حب الاتكال على غيرنا والتباهي بجيراننا واعتبارنا في نظر أنفسنا أقل الشعوب مما يجري على ألسنتنا في الأمثلة وفي المجالس، وما يظهر على حالنا من معاملة غيرنا، ونأخذ بصفات التمدين الجديد؛ هذا التمدين المادي تمدين المنافع والمبالغة في حب الكسب واستخدام العقل البشري والعلوم المختلفة في تحصيل اللذائذ الشخصية والأطماع الاستعمارية؟ إنكم تريدوننا على أن نتغير وفي التغيير نزول عن الشخصية وفناء للأمة؟
نعم، فإننا جربنا أفكار سلفنا الصالح في هذا الماضي القريب فما كانت النتيجة إلا ما نحن فيه، فلم يبق إلا أن ننزل عن الأفكار والصفات التي كانت سببا في تأخرنا ونأخذ في التغير والتطور حتى نستطيع المزاحمة في معترك هذه الحياة المدنية، أو بعبارة أخرى حتى يرجع إلينا ما فقدناه من صفات القوة أو من قوة الأخلاق محافظين دائما على عقائدنا الدينية الأولى التي كان عليها علماء الدين الأولون، قانعين من مشخصاتنا الحالية بما يكفل التمييز بيننا وبين الأمم الأخرى، تلك المشخصات التي لم يثبت لنا أنها كانت سببا في تأخيرنا، ولن تكون مثل لغتنا العربية وعاداتنا في حب الضيافة والمواساة وأريحية الجود وبقية الصفات التي امتزنا بها في حسن العشرة والعادات البريئة التي لها طابع يميزها عما عداها كعاداتنا في شهر الصوم وكيفية احتفالنا بالأعياد والموائد العلنية في المآتم والأفراح! إلخ إلخ.
ولكن الذي يجب علينا أن نساعد المدنية الحاضرة على نفيه عنا هو الصفات التي تولدت من نقص الاعتقاد بمصريتنا، أي بأن لنا وجودا خاصا ومنافع خاصة يجب علينا تحصيلها بصرف النظر عما إذا كان هذا السعي يأتلف مع أفكارنا القديمة أو يختلف عنها - وأن نتشبث بحقوق الشعب المصرية واحترامه فلا نسمح للخواص منا أن يسبوه بإظهار اليأس منه والقنوط من رقيه، ولا لعوامنا أن يجري على ألسنتهم تفضيل غيره عليه، وأن نحارب الجمود على الماضي في إمساك المرأة المصرية على اتباع المعروف في الماضي القريب، بل نسهل لها العمل هي أيضا لمصلحتها ومصلحة المجموع وأن نأخذ أسباب القوة عن التمدن الجديد، طائعين لا كارهين، والزمان وحده كفيل بأن يصبغ الواردات الأوروبية بصبغتنا المصرية، لا شيء من ذلك يأتي بالنتيجة التي يخاف عقلاؤنا منها، نتيجة أننا نفنى في غيرنا، نحن لا نفنى في غيرنا أبدا، ولكن قديمنا يفنى في حاضرنا وحاضرنا يفنى في مستقبلنا كما هي سنة التطور في الوجود.
أقدم كل هذه المقدمات لأقرر أن آمالنا من المستقبل شعب جديد، يكون أقدر منا بصفاته على تحقيق أطماعنا القوية.
وعلى هذا الجيل الحاضر أو الشعب الحاضر أن يسهل للجيل الآتي سبل القوة وأسباب التطور ليحقق صبغتنا القومية وهي مصر للمصريين.
التقليد1
تعالى بديع السموات والأرض، لا ترانا إلا مقلدين حتى في إبداعنا، في أزيائنا نبدع المودة على مثال قديم نأخذه كله أو نأخذه ممسوخا أو محسنا أو نأتي بها على طريق التلفيق بجمع المثل الواحد من مثلين قديمين أو من ثلاثة مع تحسين في الوضع أو تشويه فيه، وتلك طريقة إبداعنا في الأزياء.
في المأكل تنتقل ألوان الطعام وصنوف الآنية وطقوس الخدمة من بلد إلى بلد ومن مدينة إلى مدينة، يأخذها الخلف من السلف ويضيف إليها شيئا من مقتضيات عصره ويصبغها بصبغته فتأخذ طابعا جديدا يسمح للمقلد بأن يسميها باسم فيقولون المطبخ الشامي والمطبخ المصري والتركي والفرنساوي، إلخ إلخ ...
تلك طريقة الإبداع في المأكل.
في العادات العامة اليومية كيف نهض المرء من نومه، وماذا يصنع للاستعداد للعمل من تطهير البدن من أعراض النعاس وتطهير النفس بالتوجه إلى الله استفتاحا للحياة الجديدة في هذا اليوم الجديد، وكيف ومتى يذهب إلى عمله، ومتى يعود منه إلى راحة تفرق بين التعبين، وتحلي ما بين المرارتين، ومتى ينقضي وقت الراحة إلى العمل، في هذه العادات اليومية وفي العادات العامة الدورية - المواسم والأعياد - ماذا يلبس المرء وبماذا يتزين على الطريقة اللائقة بالطبقة التي هو جزء منها، وكيف يحيي غيره ومتى تكون التحية وكيف يشترك مع الجمهور في أداء الشعائر القومية، في كل هذه العادات اليومية والدورية نحن نقلد أسلافنا تقليدا مشكلا بأشكال زمام العصر الذي نعيش فيه، مشوبا بنتيجة تطور أفكارنا الحديثة، تلك طريقة الإبداع في العادات.
في لغتنا نأخذ بالتلقين الألفاظ المفردة وكثيرا من التراكيب، ثم تأتي الحاجات العصرية يتطور بها اللفظ في الدلالة على معناه بل تتغير رويدا رويدا وجوه الدلالة فيتكلم ويكتب بعضنا على مثال بعض بتغيير قليل اقتضته شخصية المتكلم أو الكاتب وقوة نفسه أو ضعفها، وما الإبداع في التعبير إلا تقليد قضت به طريقة التفكير في نفس العبقري شاعرا كان أو ناثرا أو خطيبا.
في العلوم والفنون والمعارف الإنسانية الواقع من أمرها أن تعلم؛ أي بتقليد وتفهم ، ثم تمثل المعلومات في نفس المتعلم فتختلط بملكاتها، فيأتي بها بعد ذلك كأنها له ومن عنده وفضلة إبداعه وما أصلها إلا التقليد.
في الأخلاق، فاضلها ورذيلها، الشأن فيها تقليد مثل صالح أو فاسد وقدوة حسنة أو سيئة، ثم تقليده حتى يصير إتيان الفضيلة أو الرذيلة عادة ثم يصير إتيان الفضيلة أو الرذيلة عادة ثم يصير خلقا ثابتا، وإني لا أنكر أن للوراثة في هذا الشأن وفي غيره عملا كثيرا ولكن الانتقال الوراثي كأنه ضرب من ضروب التقليد الإجباري في لبسنا ومأكلنا ومشربنا وحديثنا وعاداتنا ومعارفنا وأخلاقنا ومعاملاتنا، نجد معنى التقليد أصلا من الأصول الأولى، ولا نستطيع أن نفهم الإبداع أي الإيجاد من العدم، إلا مضافا إلى من تفردت عظمته بالقوة والإبداع، ولا شيء تحت الشمس بجديد، حتى المخترعات التي يبين عليها أنها باكورة لجنسها الأول كالطيران مثلا فإنها تقليد صرف لمثال موجود، لم يغفل الطيارون ذكر المثل الذي قلدوه، بل دونه مويليار وغيره من الذين كانوا يراقبون عن كثب ميخانيكية الطيران لدى الطيور المختلفة حتى وصلوا إلى نظرية فقلدوا منها مثالا بالطيارات التي نعرفها الآن.
إذا كان معنى التقليد متغلغلا هكذا في أعمالنا وأفكارنا ومشاعرنا وميولنا، مختلطا بها أصلا كبيرا من أصول التطور الإنساني كل همه الوصول إلى كماله الممكن، فكيف يمكن اعتبار هذا الأصل الإنساني رذيلة ومسبة ينتقص بها الناس بعضهم بعضا فيقولون فلان مقلد في قوة قولهم خسيس الهمة ذليل النفس تابع لا متبوع وفرع لا أصل وقياس على الناس لا فذ ولا شاذ.
الواقع أن التقليد معنى متفاوت الأقدار، فالاعتدال فيه فضيلة لازمة للرقي والإفراط في تناوله ضرر وسخرية، كالإفراط في غيره من المعاني، وإنهم ليظلمون معنى التقليد إذا أطلقوه على جزئه الرذيل دون جزئه الفاضل، وهو التقليد بعد التدبر وظهور المنفعة منه أو وجه الجمال فيه.
نحن في حالنا الحاضرة وحاجتنا في الأخذ عن التمدن الأوروبي حتى نجمع بين أسباب القوة اللازمة للمزاحمة في الحياة، يجب علينا أن لا نقتل فينا خاصة التقليد المفيد بجعله سبة ، بل على الضد من ذلك، نرانا في حاجة إلى ترويجه حتى نقلد الأمثلة الصالحة من كل نوع فيكثر فينا عددها، دعونا نقلد فعسى أن تبلغ الصورة ما بلغه مثلها الأول، ولا حق لنا في الخوف من أن تقليد غيرنا يقضي على ذاتيتنا؛ لأن التقليد الكامل غير موجود، ولأن كل واردات أوربا متى دخلت مصرنا كسبت صبغتنا وتكيفت بكيفياتنا اللغوية والدينية والأخلاقية، ولا يكون بعد ذلك إلا أن تكسب طابعنا وتصير ملكا تاما لنا، كما أن المدنية التي نقلها العرب عن الفرس واليونان قد أخذت طابعهم وصارت مدنية إسلامية، وما نقله اليونان عن المصريين صار أصلا للمدنية اليونانية مملوكا لها.
التقليد من أصول التطور، والتطور طبيعي لا نستطيع نحن أن نقف في طريقه فهو سيحصل بالفعل، مهما كان استقبالنا إياه استقبال حفاوة أو استقبال امتعاض ومغاضبة، فخير الذين يقفون في طريق تطورنا الاجتماعي أن يريحوا أنفسهم من عناء مصادمة الطبيعة ومن شر الخذلان، بل يجب عليهم أن يساعدوه على أن يأتي بنتيجته السعيدة في أقرب ما يمكن من الزمان.
سر تطور الأمم1
نعم هذه هي رياضتي! كذلك كان جواب هذا النابغة الكبير أحمد فتحي زغلول باشا، وقد دخلت عليه في بيته بهيليوبولس في يوم حر شديد فألقيته يضع شرح القانون المدني وإلى جانبه هذا الكتاب (سر تطور الأمم) وقد فرغ من تعريبه في بضعة أسابيع لازم بيته فيها لمرض أصابه فأشفقت عليه من هذا الشغل الشاق في ذلك الجو المحرق على ما نعهده عليه من رقة في الصحة وعمل دائم طول سنة العمل، وقلت له: أبهذا ترتاض يا سيدي الباشا؟ فأجاب: (نعم هذه هي رياضتي)، فما كانت رياضة في الصيف الماضي إلا أن أخرج لنا من ثمرة عمله وفكره وقلمه القدير كتابين اثنين: تفسير القانون، لم يظهر بعد، وتعريب (سر تطور الأمم) وهو الذي بين يدينا حين نكتب هذه السطور، فنعم الرجل! ونعم ما ينفق فيه وقته وصحته؛ لينفع قومه.
علم فتحي باشا منذ شبابه الفضي أن رقي الأمة لا يكون بالصدفة ؛ ولكنه جهاد غايته فتح معاقل العلم والتربية وحصول الأمة منها على مقادير تسمح لها بالمزاحمة في معترك الحياة العامة فجعل لا يخلي وقته من كتاب يعربه أو كتاب يضعه في الحقوق إذا فرغ من شغله اليومي، وما عهدناه فيه وانيا ولا عنه منصرفا، سواء أكان ذلك أيام يشتغل برئاسة النيابة أم يرأس مجلس القضاء أو كما هو الآن يدير الأعمال ويضع المشروعات في نظارة الحقانية، كذلك يملأ الرجل حياته، وكذلك يعرف كيف ينفع قومه.
يظهر أن فتحي باشا شغوف في المسائل الاجتماعية بأفكار الدكتور (جوستاف لوبون) على الأخص، وله الحق لأن أفكار هذا الكاتب الاجتماعي الكبير هي زبدة المعلومات الاجتماعية القديمة، ونتيجة المشاهدات الحديثة، لذلك كان أقرب الطرق لنقل القوانين الاجتماعية إلى مصر هو تعريب مؤلفاته ومؤلفات غيره من المعاصرين حتى نستطيع أن نعيش في جيلنا عوضا أن نسبح في المعلومات القديمة غير عاملين بنتائج تطورها من حال إلى حال، ألا ترى أننا أخذنا قواعد القانون الفرنساوي الحاضر، وجعلناها قانونا لنا من غير أن نبتدئ بمصدرها الأول وهو القانون الروماني، ولو أننا ندرس الآن الطبيعيات والرياضيات على قواعد اليونان القدماء لما كانت دراستنا لها تساوي شيئا من التعب الذي نصرفه فيها، نحن نأخذ المدنية الحاضرة لنتسلح بقوتها في المزاحمة على البقاء فلنأحذها على آخر طراز لها كما يأخذ فتحي باشا بالقوانين الاجتماعية على آخر تطور لها من قلم الدكتور جوستاف لوبون.
لسنا في مقام تقدير التعريب في هذا الكتاب فإن فتحي باشا معروف القدرة في الكتابة ومشهور الأمانة في النقل، وكتبه في أسواق العلم كاسبة المقام الأول عن استحقاق.
وأما موضوع الكتاب فهو البحث في مذهب المساواة بين الأفراد، وفي طباع الشعوب النفسية أو البسيكولوجية وفي ظهور أخلاق الأمم في عناصر مدنيتها، وفي تاريخ الأمم باعتبار أنه مشتق من أخلاقها، والبحث في أثر المبادئ في حياة الأمم، وتأثير المعتقدات الدينية في تطور المدنية، وشأن عظماء الرجال في تاريخ الأمم، ثم البحث في تحلل الخلق وسقوط الأمم. تلك هي موضوعات الكتاب ، ونحن من جهة أننا أمة ناهضة يفيدنا كثيرا أن نعرف نتائج بحث علماء الاجتماع في قواعد صعود الأمم وهبوطها وعلل قوتها وضعفها، فلا غنى لنا في حالنا هذه عن الاهتداء بهذه البحوث الاجتماعية في عملنا لمصلحة بلادنا، خصوصا إذا رأينا أن هذه القوانين لا يختلف تطبيقها في بلادنا ولا تختلف نتائجها عن أطماعنا.
وأنه ليسرنا أن نرى الكتب التي عربها فتحي باشا وعلى الأخص (روح الاجتماع) و(سر تقدم الإنكليز السكسونيين) قد تمثلت تمثلا حقيقيا في العقول المصرية تشف عنه عبارات الكاتبين في الصحف الذين ليس لهم مرانة بقراءة الكتب الاجتماعية باللغات الأجنبية.
نؤكد ذلك لا إظهارا لاعترافنا بجميل المعرب فقط ولا تذرعا لمطالبته بأن يزيدنا من مؤلفاته ومعرباته فإنا نحسبه في غنى عن ذلك، ولكن لنبين بالحس مقدار المنفعة التي نجنيها في تصحيح أفكارنا الاجتماعية من نقل مثل هذه الكتب إلى لغتنا، ولنتخذ هذه المشاهدة دليلا جديدا على أن أساس رقينا ليس شيئا آخر إلا نقل قواعد المدنية إلى بلادنا.
فإلى كاتبنا الكبير فتحي زغلول باشا نقدم التهنئة على أن غرسه قد أثمر، ذلك هو خير جزاء يجزاه من يصل الليل بالنهار في نفع قومه من أقوم طريق وهو طريق القلم.
الحرية الشخصية1
نسير يحدونا الرجاء إلى تحقيق سلطة الأمة، فيسلم شرفها، وننعم نحن بما نعتقده سعادة الاستقلال، غرض كثير العقبات ليس منا على مقربة، ولكنه هو الذي يصح أن يسمى غرضا حقيقا بالأمة المصرية الكريمة، وهو وحده الذي ينبغي أن يكون مرمى نظر الجمعية والأفراد، ووسيلتنا إليه الاستمرار على العمل والصبر على نتائجه ومحاولة جعل خطة الحكومة المصرية بأطرافها غير معاكسة لرقي الأمة في فروع الرقي المختلفة من حيث النظامات والفضائل الاجتماعية، وإنماء الكفاءات الاقتصادية والسياسية.
لهذا الغرض نحاول تنبيه الأذهان إلى أي خطط الحكم أقرب للاتفاق مع ما تطلب هذه الأمة في معالجة أمراضها الاجتماعية والوصول بالزمان إلى غرضها الكبير، أخطة الجماعيين، أم خطة (الحريين)، فقد دلتنا المشاهدات العامة على أن الحكم الماضي قد جعلنا عيالا على الحكومة رعية لها معتمدين عليها في كل إصلاح حتى في التربية، حتى في حماية الفضائل الشخصية، نطلب منها كل شيء نطلب منها حتى التوسط في أن تصلح بين فردين متخاصمين أو عائلتين مختلفتين، ونظن هذه المداخلة من حقها وإصلاح ذات البين من واجباتها كأنما الحكومة هي لنا كل شيء ونحن لأنفسنا لا نملك نفعا ولا ضررا، ولا شك في أن السير على هذه القاعدة الاشتراكية يوصل حتما إلى نتيجة سوداء، هي قتل فكرة اهتمام الناس بأمورهم العامة إلا ما يكون من الانتقاء اللفظي لما يتم عمله من جانب الحكومة، وتحديد حركات الفرد في دائرة ضيقة جدا هي دائرة أسوار داره، ولا غرابة إن تمشت هذه القاعدة وتسربت إلى داخل الدور أيضا، فتناط الحكومة بترتيب دار الفرد على ما تشاء لا على ما يشاء هو، نتطلب من الحكومة أن تحمي أطفالنا من جهل أمهاتهم وتسهر عليهم فتطعمهم بمادة الجدري وتراقبهم في الشوارع أن تدوسهم العربات، ثم تقوم هي بتربيتهم وتعليمهم فإذا رأينا فسادا في الأخلاق ألقينا عليها مسئولية ذلك، ثم إذا وجدنا الحركة العلمية في البلاد بطيئة، رميناها بسوء القصد أو سوء التدبير، ثم نطلب إليها بعد ذلك أن توجد عملا للشبان الذين لا يريدون اتخاذ الزراعة مهنة لهم، ثم نطلب إليها أن تنقي من غيطاننا دودة القطن وأن تجبرنا بالإكراه على زرع ثلث الأرض قطنا، نطلب منها أن تزرع هي لترينا كيف نزرع ونطلب منها ردم البرك التي حفرناها بأيدينا تحت دورنا في القرى، نطلب منها كل شيء ولا نطلب من أنفسنا شيئا.
ولا شك في أن كل مسئولية تستدعي لصاحبها سلطة تكافئها، فإذا نحن تنازلنا عن واجباتنا لأنفسنا وألقيناها على عاتق الحكومة فإنما نحن بهذا العمل نفسه نتنازل عن جميع حقوقنا وحريتنا لنضعها بين يدي الحكومة، ولا يبقى لنا منها إلا ما يبقى للعبد أمام سيده أو للخادم المطيع أمام مخدومه القوي، نعمل ذلك ثم نطلب الحرية الشخصية للفرد، فما هي تلك الحرية إلا أن يحيى الفرد ويعمل كما يشاء بشرط أن لا يضر بالغير، ولست أدري إلى أي بعد تقف حدود هذه المشيئة إذا كان للحكومة أن تجعل ميدان هذه المشيئة أضيق ما يكون!
قد تكون هذه الخطة مفهومة قليلة الضرر عند أمة حكومتها ديموقراطية (أي حكومة الشعب أو حكومة الأكثرية)، ولكنها طريقة ما أكثر أضرارها في أمة كأمتنا ليست فيها مشيئة الشعب هي مرجع الأمور، هذا المذهب الذي هو مذهب «الجماعيين» إذا استمر تنفيذه في بلادنا على أنه خطة حكومتنا يعوقنا كثيرا فيما نحاول من تكوين أفراد أحرار مسئولين ينهضون بالبلاد إلى طلبتها من الارتقاء؛ لأن كل فرد سيعيش ويموت تحت وصاية القوي، وبعيد أن يستوي في الرجل ملكاته وهو تحت الوصاية أو في حظيرة الحجر، لا أظن أن في هذا التعبير خفاء؛ لأن كل قانون يكسب الحكومة حقا أو رقابة، فإنما هو يخسر الفرد من الحقوق ومن الحرية بمقدار ما أخذت الحكومة لنفسها، وكل مداخلة للحكومة فيما ليس لها أو فيما لا توجبه ضرورة النظام تعتبر ضغطا على حرية الفرد وتضييقا في دائرة عمله.
ونحن في بلادنا أحوج ما نكون إلى مداوة الأمراض التي لحقت الأفراد من جراء الضغط عليهم، فإذا كان هذا المذهب مفيدا عند بعض الكتاب الاشتراكيين لبعض الأمم، فإنه غير مفيد لنا؛ لأن من البلاد ما تمتع فيها الفرد بحرية العمل في حدود واسعة، فقويت ملكاته ونبغ إلى حد أخل الموازنة بينه وبين من دونه في الصفات حتى خيف على حياة الجماهير وسعادتهم من تسلط الأفراد القادرين، فأراد الاشتراكيون أن يسووا بين الناس فيما يمكن التسوية فيه وهو الثروة، وقسمة الثروة بينهم على مذهب (القسميين) أو أن يعيشوا متساوين على الشيوع كما هو مذهب (الروكيين) ... إلخ، ولا طريقة لتنفيذ هذه المذاهب إلا أن تكون الحكومة (حكومة الشعب) هي كل شيء وإرادة الفرد وحريته لا شيء ... أما نحن فإني لا أزال أكرر أننا أحوج ما نكون إلى تربية الفرد وإزالة العقبات من طريقه حتى تنقه نفسه من الضعف الذي أورثه إياه الحكم الماضي، وليستكمل قسطه من القوة حتى يستطيع المزاحمة مع أفراد الأمم الأخرى، وعلى ذرارينا في الأجيال المقبلة أن ينظروا بعد ذلك فيما إذا كانت المبادئ الاشتراكية هي اللازمة لجمعيتهم وقتئذ، فإن خطة الحكم يجب أن تتغير بتغير الزمان والمكان وطبائع السكان.
أما مذهب (الحريين) أو (الفرديين) فإنه يعتبر الحكومة ضرورة من الضرورات، يعتبرها كذلك أيا كان شكلها أرسطوقراطية (حكومة الأشراف) أو ديموقراطية (حكومة الشعب) أو حكومة فرد، ولهذا الاعتبار ينبغي أن يكون عمل الحكومة داخل دائرة محدودة بحدود الضرورة، فلا يكون على الحكومة إلا واجبات ثلاث: البوليس وإقامة العدل وحماية البلاد، وكل ما يخرج عن هذه الدائرة لا يحل لها المداخلة فيه، ويعجبنا قول أحد كتاب الإنجليز في هذا الصدد: إن الحكومة لم تدخل في عمل خارج عن هذه الدائرة إلا أثبتت عدم كفاءتها له، مذهب معقول؛ لأن الإنسان خلق حرا حرية غير محدودة، فلا يكون حدها بضرر الغير إلا ضرورة من ضرورات الجمعية، وعلى ذلك فليس من الصواب التوسع في تطبيق هذه الضرورة إلى حد أن يكون القسر هو الأصل الواسع وحرية الفرد هي الاستثناء الضيق، وإلا فما فائدة المرء من أن يعيش في الجمعية إذا كان يخسر بالجمعية أعز ما وهب الله في هذه الدنيا وهي الحرية.
وماذا يكون المقابل الذي تعطيه الجمعية إذا هي سلبت منه كل حريته اعتمادا على أن هذا السلب إنما هو لمصلحة الجمعية؟ أظن أن هذا المقابل ليس شيئا كثيرا؛ لأن الأمثلة اليومية تدلنا على أن الجمعية لم تحم من القتل أولئك الأفراد الكثيرين الذين يقتلون ظلما وعدوانا في بيوتهم وفي غيطانهم وفي الطرقات العمومية، سيقولون: كلا، إن الحكومة تجد في طلب القاتل وتعاقبه، فنقول: هب أنها فعلت ذلك، فماذا استفاد القتيل من ذلك العقاب؟!
ومن الأمثلة أن الحكومة أو الجمعية لم تحم مال جميع الأفراد الذين سلبت من حريتهم ما سلبت، فسيقولون: إن بوليسها يخف في طلب السارق، هب أنها فعلت ذلك فما فائدة المسروق منه من وضع السارق في الحبس مدة يعود بعدها إلى ارتكاب الجنايات، على أن إحصاء المحاكم يدل في بلادنا على أن أكثر حوادث القتل لم يعاقب فيه القتيل، أما في السرقات فما أظن أن البوليس رد إلى المجني عليه ما سرق منه ولو في واحدة من المائة، فإذا كانت الحكومة أيا كان شكلها أعجز من أن تحمي حياة الفرد دائما وماله في بعض الأحيان، أفلا يكون من الغبن الفاحش أن تأخذ الحكومة بقوانينها من حرية الأفراد أكثر من القدر الذي توجبه الضرورة، ضرورة البوليس، أو ضرورة إقامة العدل، أو ضرورة الدفاع عن البلاد!
الفرد والجمعية من حيث القوانين طرفان متضادا المنفعة، يجب التوفيق بينهما ولا توفيق إلا التصالح أو التنازل من الجانبين، ولا شيء يبرر ذلك إلا ضرورة الجمعية أي ضرورة النظام، فلا يجوز للحكومة - ما دامت هي ضرورة - أن تعمل عملا أو تشرع قانونا فيه معنى التسلط على الفرد إلا في حدود الضرورة القصوى، خذ مثلا على ذلك: بعث قانون المطبوعات، هب أن بعض الصحف تطرفت في النصح إلى الدرجة المضرة بالجمعية، فما ذنب بقية أفراد الأمة يرمون بقانون يحد أعلى مظهر من مظاهر الحرية الشخصية وهي حرية القلم وحرية الرأي؟ أظن أنه لم يكن ثمة ظل ضرورة يلجئ الحكومة إلى هذا القانون؛ لذلك يرجو الذين يظنون بها الخير أن تلغيه اليوم وغدا.
ومثلا آخر: قانون الاتفاقات الجنائية، هب أن ثلاثة أو أكثر اتفقوا على ارتكاب جناية سياسية تهدد الحكومة في وجودها، عاقبوهم بما شئتم، ولكن ما ذنب جميع أفراد الأمة يرمون بقانون الاتفاقات الجنائية من غير مسوغ، إن ضرورة النظام لا يكفي فيها مجرد توهم الحكومة أن رجالها في خطر، فتبالغ في تشديد الخناق على حرية الأفراد حتى تحظر عليهم اليوم ما كان مباحا لهم بالأمس، وتعاقبهم على ما لم يكونوا يعاقبون عليه من غير ضرورة ظاهرة.
يبين مما نقول أننا نفضل مذهب (الحريين) أو (الفرديين) على مذهب (الجماعيين) الذين يضحون الفرد ومصلحته للمجموع من غير قيد ولا شرط، ويعتبرون الفرد ليس له وجود ولا راحة وسعادة، إلا بوصف كونه جزءا من المجموع، يقولون ذلك وينكرون المحسوس، والواقع أن لكلا المذهبين منافع ومضار، ولكن مذهب الفرديين أنفع في بلادنا في الظروف الحاضرة من كل ما عداه، ولكننا مع ذلك لا نرى تطبيق هذا المذهب على إطلاقه، فإنه لا يزال في حال الأمة ما يدعو إلى أن تهتم الحكومة بالمداخلة في بعض الأمور غير الداخلية في واجباتها الثلاث المتقدمة مداخلة حث وإرشاد لا مداخلة حكم وإكراه، فإن المداخلة من هذا النوع قد تبررها أيضا ضرورة علاج الأمة من الخمول الماضي العميق.
نقدم هذه المقدمات الطويلات لا لمجرد الانتصار لنظرية علمية على أخرى؛ بل لأننا نشعر في البلاد بتيار قوي من جانب الحكومة ومن جانب بعض الأفراد مآله قرب السير على مذهب (الجماعيين) فإنهم يطلبون من الحكومة التقنين والمداخلة الفعلية في أمور لا تبررها الضرورة، والحكومة تطاوع في ذلك فتتدخل فيما تقل كلفته عليها وتكثر به سلطتها إجابة لطلب الأمة، ولكنها مع ذلك لا تجيب طلب الأمة فيما طلبت من الدستور.
ومن المضحك في هذا المقام أن نذكر السبب الذي أبدته الحكومة لتبرر به بعث قانون المطبوعات، السبب أن الجمعية العمومية كانت طلبته في قديم الزمان، كأنها تقول يعز على الحكومة أن لا تخف لإجابة رغبة الجمعية العمومية الممثلة للأمة في تضييق الخناق على دائرة الحرية الشخصية التي هي أساس كل صلاح للأمم؟! للأمة أن تطلب الإشراف على أعمال الحكومة وتجد في هذا الطلب ولكننا نحن الأفراد نطلب من الحكومة - والحكومة في بلادنا سمو الخديو والوزارة والجمعية التشريعية - أن لا تفرط في التعدي على حريتنا بالإكثار من القوانين إلا في حدود الضرورة، وأن تعاوننا نحن الأفراد على أن نستكمل حظنا من القوة العملية بالكف عن المداخلة في الشئون التي من شأنها أن تترك لعمل الأفراد مهما كان أثر المداخلة مفيدا لمصالحهم؛ لأنه لا مصلحة للفرد تعدل مصلحته من القوة والاستعداد للمزاحمة للحياة.
مثال ذلك مداخلة الحكومة في مراقبة حال الطلبة المصريين في أوروبا، فإننا إذا رضينا بقيام الحكومة في مصر بأمر التربية والتعليم وهما من عمل الأفراد؛ وإذا رضينا بذلك اعتمادا على أن الأمة لا تزال محتاجة إلى مثل هذه المساعدة، فلا يمكننا أن نفهم ما الذي يسوغ لنظارة المعارف المداخلة في التوسط بين الرجل وبين ابنه الذي يتعلم في أوربا على نفقته مداخلة لم يرضها الطرفان، أو التوسط بين التلاميذ المصريين ومدارسهم ولم يطلب منها أحد الطرفين هذه المعونة، إذا رضينا أن الحكومة تكون تاجرة تمسك بين يديها السكة الحديد، وإذا رضينا بذلك اعتمادا على أنه ليس في البلاد شركة مصرية صرفة يمكنها أن تقوم بهذا العمل العظيم تشتري السكة وتديرها، فإننا لا يعجبنا مثلا ما يشاع من أن الحكومة ستزرع على ذمتها أرضا من خارج الزمام وأنها تبقي في يدها أطيان الدومين تستغلها وتزاحم الأفراد المزارعين في الاستغلال ... إلخ.
لذلك نكرر أن التيار الذي يتمشى الآن في الحكومة وفي الأمة نخشى أن يفضي إلى جعل خطة الحكومة هي خطة التسلط على الأفراد والتضييق عليهم للمصلحة الموهومة للجمعية، وما مصلحة الجمعية إلا في أن الحكومة - وهي موجود ضرورة - لا يحل لها أن تخرج في قوانينها ولا في تصرفاتها عما تلزمها به الضرورات احتراما لحرية الأفراد ومصالحهم.
خبز السجون1
هذا الخبز الضار لا ندري أنكال فوق العقاب أريد بأهل السجون، أم محض اقتصاد في النفقات! شكا منه أهل السجن وجيء لنا منه بعينة ذات لون قاتم وملمس خشن تقطع شهوة النهم وتعافها الكلاب، فشكونا منه إلى أولي الأمر فيه، ووعدنا من بضعة سنين بتحسين حاله فخفت صوت الشكوى ثم زال، وكان الناس في اطمئنان على صحة ذلك العدد الكبير من المسجونين، فإذا بنا اليوم نسمع صوت الدكتور نيدل ترجعه رصيفتنا (البروجريه) إن خبز السجون سم قاتل: قالها الدكتور لا أخذا بظاهره المؤذي، ولكن بعد بحث وتحليل، قولة تخلع قلوب الناس على أبنائهم، وتفزع منها أهل العدل وأولي الرحمة بعباد الله فلا مناص للحكومة من تغييره في الحال أو تحليله ونشر نتيجة التحليل.
ما سمعنا إلى اليوم في حكم هذا القانون الذي بأيدينا أن الغذاء جزء العقاب يأكله الأثيم سما قاتلا كما يقول الدكتور، بل العقاب بين في الحدود وفي حكم القاضي حبس بسيط ومع التشغيل، حبس بالأشغال الشاقة مؤقتا أو مؤبدا، ومن عقوبات السجن الجلد وليس منها الطعام الضار، على أن عقوبة السجن لمن يتعدى حدوده لا لجميع المسجونين على السواء؛ لذلك يستحيل الظن بأن هذا الخبز الذي يطعمه أهل السجن هو العذاب جزاء على سيئة المسيء، إلا أن تكون مصلحة السجون تزيد على حكم القاضي، وليس لها إلا تنفيذه هو لا غيره بذاته ووصفه، وما يطعم السجين إلا من غالب قوت أهل البلد، كان يطعم السجناء خبز القمح، فقالوا: بل خبز الذرة هو غالب قوت أهل البلاد، وما كان لنا أن نجعل الإجرام ميزة للمجرم على البريء، وفضلا للسجين يأكل خبز القمح على الطليق يكاد لا يطعم إلا خبز الذرة، قالت مصلحة السجون ذلك عند شكوانا الأولى، فقلنا: تلك كلمة حق وإنصاف لا نخال أحدا من غير أهل السجن إلا يقرها على ذلك، ولكن خبز الذرة ليس سما قاتلا، ولا هو بلونه وملمسه وطعمه رديء يعافه الجائع، فماذا عساه يكون هذا الخبز الجديد؟!
حسب الإنسانية عذابا علمها بأن العدل الذي يؤخذ به الناس ليس في الحقيقة إلا الطريقة الممكنة للنظام، وأنه أشبه بالظلم منه بالعدل المطلق، وأنها تعرف أن من السجناء مظلوما حقيقا بالتمتع بحريته، ومن الطلقاء أثيما أولى به ظلمات السجون.
حسب الإنسانية عذابا علمها بأن من الجناة عددا كبيرا لا يجوز أن يحمل كل مسئولية جنائية، وأن للانتقال الوراثي والبيئة ودوافع الطبيعة التي لا قبل لأحد بردها، لكل أولئك معظم المسئولية على الجنائية، ومع ذلك هي تعاقب الجاني كأنما هو حر في تصرفاته يحمل وحده عدلا جميع نتائجها.
حسب الإنسانية ما هي فيه من القلق الدائم والشقاء المستمر، فما كان أغناها عن هذا القلق الجديد الذي سببته مصلحة السجون رجاء اقتصاد تافه في النفقات أو تهاونا في معاملة المسجونين بالتي هي أدنى للرحمة والرفق ببني الإنسان.
ليس بالحكومة من حاجة لأن نؤكد لها أن هذه التهمة هي أشنع ما رميت به حكومة في الدنيا، ونطلب إلى نظارة الداخلية أن تحقق تصرف مصلحة السجون وتنشر على الناس العناصر الداخلة في تركيب هذا الخبز ليطمئنوا على أن الرفق والقانون كليهما آخذ نصيبه في السجون.
من أجل ذلك نطلب الدستور1
طلبنا الدستور ونطلبه لتكون الوزارة مسئولة عن تصرفاتها مسئولية، ذات أثر فعلي أمام المجلس لتكون الأمة في أمن على حقوقها وحريتها، فلا ينفى أحد من السودان من الليمان أو من غير الليمان إلا بحكم قضائي بالأوضاع القانونية.
وطالما قيل عنا إننا نقول بسلطة الأمة لمجرد تقليد الأمم المتمدنة، نقول بذلك ونطلب الدستور؛ لنتخذه زخرفا، ولنرضي شهواتنا من العزة المجردة عن كل منفعة حقيقية، يقولون ذلك، ويقولون: إن المصريين في أمان الله، لهم حكومة عادلة، وإن كانت غير دستورية بالقانون، إلا أنها لفرط عدلها وتناهيها في العفة وبعدها عن الاستبداد كالحكومة الدستورية أو أقوم سبيلا، فيها منافع الحكومة الدستورية وليس فيها أضرار البطء في سير الأعمال ولا المشاغبات الحزبية التي تؤدي في كثير من الظروف إلى ضرر البلاد، حكومة هي المثل الأعلى للحكومات؛ لأن فيها شدة الحكومة المستبدة، وعدل الحكومة النيابية، فماذا ينقص المصريين إلا الفخفخة والمباراة بأنهم أمة ذات حكومية دستورية، وإلا فإن الأمة المصرية متمتعة فعلا بنتائج الدستور لها غنم الحكم العادل وليس عليها منه شيئا من المسئولية.
لو كان ذلك صحيحا لرضينا بحالنا كارهين، فماذا يكون شأننا والأمثلة اليومية في أعمال الحكومة لا تزيدنا إلا اقتناعا بالحاجة إلى الدستور، نتخذه، لا زينة في الحياة، ولكن مرقاة للتقدم وأمانا من الاستبداد.
ها نحن أولاء أمام تصرف من أحدث تصرفات الحكومة عهدا وأشدها أثرا في الطمأنينة على الحرية الشخصية وادعاها إلى التظنن في تطبيق القوانين، ذلك الممثل هو نفي المسجونين إلى السودان من غير حكم النفي وفي غير حدود القانون.
لو أن السلطة الشرعية والسلطة الفعلية متفقتان على أن السودان جزء غير منفصل عن مصر، وأنه لا فرق بين مديرية الخرطوم وبين مديرية أسوان، وأن عقد الاتفاق المبرم بين الحكومة المصرية وبين الحكومة الإنجليزية باطل، وأن السودان ليس وطنا خاصا ومستعمرة بل هو إقليم من الأقاليم المصرية وجزء من الوطن المصري تحت سلطة القانون المصري، لو كان الأمر كذلك لما كان إبعاد المسجونين فيه نفيا لا تبيحه قوانين البلاد، ولكنا نحن أول المبررين لعمل الحكومة من هذا القبيل، فأما والاتفاق السوداني منفذ بين الحكومتين، والسودان غير خاضع للقوانين المصرية، فإنه لا يجوز اعتبار السودان جزءا من مصر فيما يضرنا، واعتباره منفصلا عن مصر فيما ينفعنا.
يضحكنا أن يرد على بعض الأذهان أن تصرف الحكومة هذا قد يعتبر سابقة تنفعنا هي ومثيلاتها يوم إقامة الدليل على أن السودان جزء من مصر! كلا إنه لا مصلحة للضعيف من مجاوزة الحق إلى ميدان القوة؛ فإن الحق هو قوة الضعيف، فإذا جاوزه إلى غيره، فإنما هو يجرد نفسه من كل سلاحه، ليحارب القوة بالضعف المجرد.
ومهما كانت العيوب الأصلية في اتفاق السودان، فإن الواقع أن العمل جار عليه، فإذا كانت الحكومة المصرية توافقنا على أن فيه من العيوب القانونية ما يبطله وتعدل عن تنفيذه، يصبح قولها مقبولا في أن إبعاد المسجونين إلى السودان ليس فيه مجاوزة لحدود القانون ولا اعتداء على الحرية وحقوق الإنسان، ونحن نعيذ الحكومة من أن تعمد في تبرير عملها هذا إلى التحدي بهذه النظرية؛ لأنه لا يفسر في البيئات المصرية إلا بأنه استخفاف بالرأي العام، وحكومتنا أعلى مقاما وأكثر بصيرة من أن تعرض نفسها إلى مثل هذه النتيجة.
وكل ما يقال في الموضوع أن الحكومة تعجلت في الأمر، وفي قدرتها أن ترجع أولئك المنفيين من السودان احتراما للقانون، أما نحن من جهتنا فنقول: لو أن لنا دستورا لما أمكن أن يقع من ذلك شيء.
ومن أجل ذلك نطلب الدستور.
حقوق الأمة1
قد تجاوز الحكومة عندنا حدود القانون، لا حبا في إذلال الشعب ولا إظهارا لعظمتها واستهانتها به، ولكن لما يظهر لها من وجوه المنفعة العامة كأنها ترى أن المنفعة هي كل شيء وغير المنفعة لا شيء، صحيح أن منفعة الأمة بوجوهها المادية والمعنوية هي كل شيء؛ ولكن من هو الحكم مرضي الحكومة في تقدير منفعة الأمة؟ تلك هي المسألة، وذلك هو الفرق بيننا وبين الذين يظنون أن حكومة المستبدل العادل هي خير الحكومات.
نقول: إن نظرية الاستبداد بالأمر على مبادئ العدل نظرية خيالية؛ لأنه لا يعرف التاريخ حكومة من هذا الصنف، بل كانت الحكومات المرضية كحكومة الخلفاء في صدر الإسلام، بعيد عليها أن تكون مستبدة؛ لأنها كانت خاضعة في كل تصرفاتها الاجتماعية والسياسية لكتاب الله وسنة نبيه، ولا نعرف عن الخلفاء الراشدين أنهم تعدوا في تصرفهم حدود الله ولا غمطوا حقوق الأمة ولا حقوق الأفراد المقررة في الشريعة الغراء بحجة أنهم إنما يتعدون حدود الله لمصلحة الرعية؛ لأنه لا مصلحة للرعية من تعدي الحاكم حدود الشرع، وغير هذه من الحكومات المستبدة ما كانت عادلة، فما أظن مذهب (الاستبداد العادل) في عقول أنصاره إلا أمنية يتمنونها لمثل أعلى من حكومة موحدة الكلمة قوية البطش بعيدة عن الشهوات الحزبية والفردية سريعة الحركة لا بطيئة كالحكومات النيابية، عادلة لا تنحرف عن جادة العقل أبدا، تصوروا هذا المثل الأعلى فلم يجدوا له صيغة إلا ما سموه (حكومة المستبد العادل)، وها نحن أولاء قد جربنا الاستبداد ورأينا تجارب الأمم في الاستبداد وفي الحكومة النيابية، فخرجنا من هذه الأمثلة نمقت الاستبداد ونحب الحرية ونود بكل شيء لو نخرج من حكومة الاستبداد إلى الحكومة النيابية أو حكومة الأمة.
هذا هو الواقع من أمرنا ومن أمر كل الأمم، وبعيد أن نرجح ذلك المذهب التصوري الصرف على هذا المذهب، مذهب الحكومات النيابية التي أثبتت التجربة أنه أفضل طرائق الحكم.
على أن منافع الأمة ليست كلها منافع مادية، إنما الأمة أفراد ليست حياتهم في الحقيقة إلا مشاعر، فهم في الحكومة الاستبدادية في شعور بالذل والعبودية يقبض الصدر ويحبس الملكات ويكره المرء في عيشته، يكرهه في عيشة ليست له، فإنه إنما يعيش على خطر أن يصلب أو ينفى أو يجرد من ماله لما تراه الحكومة من منفعة الأمة في الصلب أو النفي أو التجريد من المال، حياة جربت، فكانت نتيجتها اللازمة جمود القرائح وفساد القلوب، فلو أننا قارنا حال الأمم المتمدنة تحت حكومات الاستبداد وتحت الحكومات النيابية، لوجدنا أنها تحت الأولى كانت في نوع من الجمود أكبر مظاهر الرقي فيها التقدم الصناعي لإرضاء شهوات الملوك والحكام من الزينة والزخارف في العمارات، أما تحت الحكومات النيابية فكان العقل البشري قد فك من عقله فنشط يأتي بالمعجزات الواحدة تلو الأخرى، والواقع أننا لا نعرف سببا جديا لهذه الروح الجديدة التي تجلت على مدينتنا الحديثة فجعلت الإنسان ملكا حقيقيا يسخر كل قوى الطبيعة لمنفعته حتى حقق خيال الكتاب السابقين، فإن كتاب العصور الأولى كانوا يظنون طيران المرء في الهواء حلما جميلا وخيالا عن الحقيقة بعيدا، ولكنه اليوم وما سبقه من المعجزات الحديثة حقائق راهنة.
وما السبب في ذلك إلا الخلاص من الاستبداد والاستعاضة عنه بحكومات الحرية، فقدنا بالاستبداد ينابيع السرور التي من شأنها أن تنفجر في النفس الإنسانية، وفقدنا به حرية العقل التي أتت للعالم بهذه المعجزات ثم تجيء بعد ذلك في القرن العشرين ونسمح لنفوسنا أن يرد على خاطرنا الرجوع إلى الاستبداد على أي وجه كان؟!
نسوق هذا القول لبيان أن الحكومة الاستبدادية لا تستطيع بحال من الأحوال أن تشعر بمشاعر الأمة لتقدر منافعها، ولذلك فإنها مهما كانت بعيدة عن الهوى لا يكون أمرها في التصرف إلا أنها تخلص من خطأ لتقع في خطأ مثله .
بعيد علينا أن نتهم حكومتنا بشهوة الاستبداد وتجاوز حدود القوانين لإظهار عدم احترامها للرأي العام، ولكنها تفعل ذلك اعتقادا منها - كجميع الحكومات الاستبدادية - بأنها انفردت بمعرفة منافعنا دوننا، وعلى هذا النحو جرت في إرسال الليمانية إلى السودان وفي منع الموكب الذي كان يريد الطواف في المدينة لمناسبة عيد الجلوس، ويلقي خطباؤه الخطب في الأحوال العامة، ولعل المنع كان مقرونا بالمجاملة في المعاملة أو بإحلال الإرشاد والنصيحة محل الأمر والإكراه، ولكنه على كل حال منع من التمتع بحقوق الأفراد، حتى الاجتماع والسير في الشوارع العامة وحرية الخطابة في جنينة الأزبكية، وذلك كله مجاوز لحدود القوانين.
ليس إرسال الليمانية ولا منع المظاهرة هو وحده الذي يخيفنا على حقوق الأمة، فإن هذه المجاوزة تكررت في هذا الصيف الماضي، فشرعت الحكومة القانون النظامي من غير أن تأخذ رأي مجلس الشورى مجاوزة لحق الأمة الثابت بالقانون القديم، ثم أخذت تصدر القوانين بعد صيرورة القانون النظامي واجب التنفيذ، فأنشأت نظارة الزراعة وأنشأت نظارة الأوقاف، كل ذلك من غير انتظار رأي الجمعية التشريعية، وذلك مجاوز أيضا للقانون النظامي فلا تكون المسألة إلا مجاوزة تتبعها محاوزة، قولوا ما شئتم من أن تلك المجاوزة في مصلحة الأمة ونحن مع أننا لا نعرف وجه هذه المصلحة، نؤكد أنه لا يوجد للأمة في الدنيا مصلحة تعادل مصلحتها من الحرية والمحافظة على حقوق الفرد وحقوق المجموع.
لذلك نرفع للحكومات النصيحة، ونكرر الالتماس بأن الأمة هي وحدها التي تعرف منافعها دون غيرها، وأنها مع ذلك لا ترى لنفسها منفعة ألزم لحياتها من الاحتفاظ بالحرية وسلامة حقوق الإنسان.
الكفاءة الاقتصادية1
ليست حاجتنا من إنماء الكفاءات الموصلة إلى الاستقلال قاصرة على إنماء الكفاءة الأخلاقية والكفاءة السياسية، بل لا بد لمطلبنا من الرقي إنماء الكفاءة الاقتصادية التي في توفرها عزة الأمم وفي فقدها الذل وسوء الحال.
منذ فتح للأمة طريق الاقتصاد؛ أي: منذ إلغاء الالتزامات، لم يثبت الفلاح المصري في أية طبقة من طبقاته الثلاث الفقيرة ومستورة الحال والغنية، أنه يحفل كثيرا بمبادئ الاقتصاد، أو أنه يحاسب نفسه حسابا عسيرا عندما تحضره شهوة المباراة في عدد الأفدنة أو في الإنفاق على عرس أو على مأتم أو على اكتتاب من اكتتابات الخير والشر، أو في الإدلاء بالمال إلى الحكام في غرض مشروع أو غير مشروع، إنه مبالغ في التفاؤل بالخير، فهو لا يحب أن يقيس حاصلات السنة الآتية على حاصلات السنة الماضية، ولا يحب أن يجعل قاعدة قياسه النظر الصحيح المرتكن إلى الحس، ويغفل عمدا أن يجعل لظرف السوء محلا من الملاحظة في تقديره، كان يتزوج كلما تيسر له ذلك، ولا يحفل بما سيفتح عليه تعدد الزوجات من النفقات، كأنه اتخذ عند الزمان عهدا أن يدور دائما لمصلحته، أو كأنما هو يصرف من تحت السجادة، فهو بذلك المثل الأعلى لمذهب المتفائلين، متفائل غال في التفاؤل إلى ما يكون أشبه بالغفلة منه بالاتكال على الله، الواجب عليه أن يقدر ويعمل ويتكل على الله، فهو لا يقدر وإن قدر يخطئ عمدا في التقدير ويعمل إلى درجة محدودة ويجعل الاتكال يقوم مقام التقدير والعمل جميعا؛ لأنه أقل كلفة وأسهل عذرا عندما يلوم نفسه أو يلومه غيره على ما فرط في واجب الاقتصاد.
تلك هي إحدى المشخصات التي قد يمتاز بها الفلاح المصري عن غيره من الفلاحين في البلاد الأخرى، يقولون: إن من أخص الرذائل في أهل الفلاحة الأنانية والبخل والحسد، والظاهر أن الفلاح المصري بريء من هذه الرذائل إلى نقائضها أي إلى فضيلة كرم النفس وكرم اليد وعدم النظر إلى ما في أيدي الناس من نعم الله، بل الظاهر أيضا أنه بالغ حتى أسرف على نفسه فظلمها بعدم المبالاة وظلم قومه أيضا فألقى البلاد تحت أعباء ثقيلة من الديون، لا فكاك لها منها إلا بعمل عظيم وزمن طويل.
ذلك الذي نسميه النقص في الشعور بمسئولية الحياة الجديدة التي دخلنا فيها، هو السبب الأول لهذه الضائقة الحائقة بالفلاحين، بل هو السبب الأول للنتائج السيئة التي يجعلها المتطيرون البائسون علامات الخراب، ولكن المعتدلين في النظر لا يرونها موجبة للقنوط بل موجبة لشدة الالتفات إلى إصلاح النظام الاقتصادي في مصر ونشر المبادئ الاقتصادية والأمثلة الاقتصادية، لنستطيع أن نستفيد في حياتنا المدنية الجديدة من الثروة المالية القدر المناسب لما نستفيده من الثروة الأخلاقية والفنية والعلمية.
ليس من الغالين في سبيل الاقتصاد من يقرن الكفاءة الاقتصادية بغيرها من الكفاءات الأخرى في العناية والرعاية ويجعل العمل لها لازما لتربية الأمة بل هو ألزم من العناية بالكفاءات الأخرى؛ لأننا يجب أن نعيش قبل أن نكون علماء أو فنيين يجب أن نعيش قبل كل شيء، ولقد نرى بالمثل أن العلم يخدم الاقتصاد والفن يخدم الاقتصاد والسياسة لا تستعمل حيلة ولا تثير حربا إلا لتخدم الاقتصاد.
فعلى أي وجه نظرنا إلى الحركة الاقتصادية في البلاد نجد أن العناية بنظامها في عمومها والإرشاد إلى إنمائها في كل أجزائها ومظاهرها الجزئية، هي من أول الواجبات على كل جمعية تغذي نفسها بآمال الرقي وعزة الاستقلال.
على الحكومة أن تضع قواعد النظام الاقتصادي، وعلى الأفراد الانتفاع بهذا النظام كل لمنفعته، ولقد يظهر على الحكومة أنها استعملت طرقا وقامت بمشروعات من شأنها تنظيم الحال الاقتصادية في مصر، ولكن الطرق التي استعملتها والمشروعات التي شرعتها من بضعة عشر عاما إلى الآن، لم تأت بفائدة أو على الأقل لم تأت بالفائدة المقصودة منها، فإن البنك الأهلي والبنك الزراعي لم يأتيا بالنتائج التي يأتي بها أمثالها في البلاد الأخرى، والسبب في ذلك راجع إلى أن هذين البنكين أجنبيان في الحقيقة لا مميز بينهما وبين غيرهما إلا أنهما ممتازان عند الحكومة، ولم نجد من كليهما أو من أحدهما خدمة أداها للبلاد أكثر من الخدمات التي يؤديها أي بنك من البنوك الأخرى، كذلك قانون خمسة الأفدنة، لم يأت بالفائدة المنتظرة، بل ربما يستمر على الإتيان بنتيجة عكسية حتى يتم إنشاء النقابات الزراعية التي كان يجب إنشاؤها قبل قانون خمسة الأفدنة بزمن كاف، كذلك إنشاء صندوق التوفير والحلقات؛
2
لأنها كلها كأنها وضعت لمعالجة الأعراض دون الداء الأصلي، ولا نجد من بين أعمال الحكومات عملا يفيد حقيقة في الحال الاقتصادية إلا أعمال الري والصرف، ولكن ذلك يستحيل أن يعد تنظيما لحالنا الاقتصادية.
نقول: إن مداخلة الحكومة في تنظيم الحال الاقتصادية قد لا يتفق تماما مع مذهب الحرية، ولكننا نبهنا إلى ذلك بأنه من غير الممكن أو على الأقل من الصعب أن ينفذ مذهب من مذاهب الحكم برمته من غير استثناء، على أنه في بلادنا التي هي حديثة العهد بالنهضة الجديدة يجب أن تأخذ الحكومة على عاتقها تشجيع الحال الاقتصادية، وإنماء الكفاءة الاقتصادية بحال تتفق في مظاهرها مع روح الحرية، وهذا ميسور مجرب في كثير من البلاد.
ولا شك عندنا في أن الحكومة إذا أرادت معالجة الحال الاقتصادية من أصولها، عمدت إلى تشجيع إنشاء بنك مصر والنقابات الزراعية، وذلك هو الحجر الأول في النظام الاقتصادي المطلوب.
النظام الاقتصادي1
الفلاح في ضيق شديد وحاجة مستمرة للاقتراض، والوسطاء والبنوك الصغرى وبقية الشركات ذوات رؤوس الأموال الوهمية تلعب في السوق بثقة البنوك الكبرى وبأموال الناس.
والبنوك الكبرى تقبض يدها خشية أن تقع فيما وقعت فيه من الخسائر التي جرتها عليها حوادث الإفلاس المتتالية، فاتسع المجال لصغار المرابين في القرى.
ذلك هو نظامنا الاقتصادي إن صح أن تسمى الفوضى الاقتصادية نظاما، إنها نظام في الجملة عند عدم النظام.
ليست الحكومة وحدها هي المسئولة عن هذه الفوضى؛ لأن عقبة الامتيازات الأجنبية مانعة من توحيد النظام الاقتصادي في مصر على طريقة تكفل مراقبة السوق مراقبة فعلية وضرب المثل العنيف بعقاب الذين يأكلون أموال الناس ويلعبون بثقة البنوك، وأسهل ما عليهم آخر الأمر أن يقدموا دفاترهم ويشهروا إفلاسهم، ومن الصعب أن يوضع في مصر نظام اقتصادي يكفل حياطة السوق من الخيانة حياطة تامة، إلا بعد إلغاء الامتيازات الأجنبية وتوحيد سلطة القضاء التي إليها المرجع في جميع الأحوال.
غير أن عقبة الامتيازات ليست هي العلة الوحيدة للفوضى الاقتصادية، بل قد تكون الامتيازات في كثير من الأحيان هي العامل الأول في الوقت الحاضر لثقة الماليين الأوربيين الذين تشتغل أموالهم في مصر، تلك الثقة التي كان من شأنها أن تكون سعدا على مصر والمصريين، لو أننا أحسنا التصرف وراعينا قواعد الاقتصاد واستطعنا أن نتقي شر الوسطاء والبنوك الصغيرة، ليست عقبة الامتيازات مانعة من إيجاد نظام اقتصادي إن لم يكن كاملا، فليكن مخففا للفوضى الاقتصادية، كافلة للفلاح أن يستدين بفائدة معقولة في فصل العسر استدانة مناسبة لحاله من الثروة حتى لا يقع في الإسراف والفقر المستديم.
يتوقف النظام الاقتصادي المحلي على استعداد من جانب الفلاحين وإرادة صحيحة من جانب الحكومة لحمايتهم، بشرط أن تكون هذه الإرادة خالصة من كل الاعتبارات التي خالطتها في الماضي عند تفكير الحكومة في إنشاء بنوك أهلية يكون لها من الامتياز ما للبنوك الأهلية في البلاد المتمدنة، وعليها من الواجبات ما على تلك البنوك.
أما استعداد الفلاحين للانتفاع من النظام الاقتصادي، فذلك رهن بالتربية الاقتصادية، وأفضل أنواعها أثرا في بلادنا هو النقابات الزراعية الحرة التي ليس للحكومة في أمرها إلا حمايتها وتشجيعها من غير أن تكون تابعة للحكومة تبعية قريبة؛ لأن النقابة إذا كانت تحت رئاسة المدير أو المأمور يصعب جدا أن تأتي بالغرض المقصود منها، تتعطل فيها همة الأعضاء، ويقتل فيها روح الاستقلال، ويتطرق إليها من كل ناحية أغراض المحسوبية، ويصبح الاشتراك في رأس مال النقابة أشبه بضريبة لا يأتيها الشريك إلا كارها، ولا يدفع من ماله لها إلا من يكون له حاجة يبغي قضاءها بسلطة الحاكم الإداري، وتكون النقابة بذلك بؤرة جديدة لإفساد الأخلاق كبقية الاكتتابات التي يقوم بها الحكام الإداريون.
وفوق ذلك فإن الحاكم الإداري خلو في الغالب عن المعلومات الاقتصادية، ولكنه بوصف أنه حاكم يجب أن يطاع أمره وينفذ رأيه، نقابات من هذا النوع أولى بها أن لا تكون، إنما تنفعنا النقابات الحرة التي يقوم بها الناس بأنفسهم لا بأمر المدير، ويديرونها بأنفسهم تبعا للنظام المرسوم والقانون المشروع لا بواسطة المدير، وكل ما على الحكومة الإرشاد والتضحية وتسهيل السبل لهذه النقابات في معاملة البنك، فإن كانت المراقبة لازمة فلتكن على الحسابات بمعرفة العمال الماليين لا الحكام الإداريين، هذا النوع من النقابات هو وحده الذي يقوم بأمر التربية الاقتصادية العملية ويجعل الفلاحين مستعدين للانتفاع ببقية النظامات الاقتصادية في البلاد.
أشرنا إلى إرادة الحكومة إرادة صحيحة خير الفلاحين من الجهة الاقتصادية، ونعني بالإرادة الصحيحة أن يكون عملها كله أو جله موجها لمصلحة الفلاح غير ملحوظ فيه ترويج مصالح أرباب الأموال في البنوك التي اعتبرتها وطنية، وليس فيها من الوطنية إلا الاسم المجرد، فلو أن الحكومة أرادت أن تجعل للمصريين صوتا في السوق المالية في بلادهم لاستعاضت بالاكتتابات التي يقوم بها عمالها كل يوم بطريق التوريط والتجبية وشبه الإكراه لمشروعات ما أنزل الله بها من سلطان، باكتتاب حر عام تحت حمايتها لإنشاء بنك وطني تعطيه من الامتيازات ما أعطت للبنك الأهلي وللبنك الزراعي، ليكون هو المشجع للنقابات الزراعية والمشروعات الاقتصادية الوطنية، ولم يفت الوقت على ذلك؛ فإن الحكومة الحاضرة تستطيع أن تصحح خطأ الحكومة الماضية ولعلها فاعلة؛ لأنها ستعرض على الجمعية التشريعية قانون النقابات الزراعية عند افتتاحها، خطوة حسنة في سبيل الإصلاح، ولكنها لا تتم هذه الخطوة ولا تأتي بالمقصود منها إلا إذا قرنتها الحكومة بالمساعدة الفعلية لإنشاء بنك مصري بالمعنى الصحيح، وفي هذا المقام تصريح بأن كثيرا من أولي الأموال في مصر مستعدون تمام الاستعداد لتنفيذ قرار «المؤتمر المصري» والقيام بإنشاء البنك في حجر الحكومة وتحت إشرافها ومساعدتها.
وإنا نسارع إلى التصريح بأن البنوك الكبرى في مصر تستقبل هذا المشروع بعين الرضى وتساعده، فقد حادثنا بعض مديري أكبر البنوك في مصر في هذا المشروع الذي تحلم البلاد بتحقيقه من أكثر من ثلاثين عاما، فأظهروا لنا استعدادا تاما لمساعدة المشروع ما دام حقيقا بالثقة، والواقع أن مصر لا تزال قطرا بكرا من حيث الاستغلال تحتمل المزاحمة المالية في سوقها عشرات من البنوك الجديدة، بل لا يزال ينقصها المال اللازم لإحياء الأرض الموات وتجفيف المستنقعات والبحيرات وإعدادها للزراعة واستخراج ما في بطن الأرض الجبلية من كنوز الرصاص والنحاس والبترول، وكل هذه المشروعات لا تتحقق إلا بأموال البنوك، فالقول بأن المزاحمة المالية لا تمكن بنكا مصريا وطنيا برؤوس أموال كلها أو جلها مصرية من الوجود والبقاء، قول لغو لا محل له من الاعتبار ولا يتوقف هذا المشروع إلا على الشروع فيه تحت حماية الحكومة وبمساعدتها.
إنا إذا شرعنا في إنشاء البنك الوطني والنقابات الزراعية، أمكننا أن نخفف وطأة الفوضى الحاصلة في مصر، وأن نوجد في البلاد حركة اقتصادية ذاتية يمكن تنظيمها بغاية السهولة.
وفاة فتحي زغلول باشا1
بلونا من موت الأصدقاء والأحباب ومن فقد العلماء والنبغاء، بلونا من ذلك الضربة على الضربة، وذقنا طعوم الحسرات الحسرة تلو الحسرة، وتجرعنا عليه الصبر بالكأس الكبير وبالصغير ، فما أفاد التمرس ولا أجدى الاعتياد، ولا نزال نلقى المصيبة ينخلع لها القلب وتبكي لها العين وتجزع لها النفس بأكثر من أولى المصائب وباكورة الأحزان، فلا ندري أرقت عواطفنا لما جربت من لوعات الأسى وحسرات الأسف، أم لم يفد النفس اقترانها بالمصائب، ولم يغن عنها وقت الشدة ما تجرعت من كؤوس الصبر! شأننا في الحياة هو هذا:
سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص
تنزل بنا النازلة، وكلنا يجزع خياله من تصورها، وكلنا قائل إذا وقعت:
فليت فمي إن شام سني تبسمي
فم الطعنة النجلاء تدمى بلامس
ومع ذلك يستوي الصابر والجازع وتأخذ الحياة مجراها.
لا لبيد بأربد مات حزنا
وسلت عن شقيقها الخنساء
ذلك شأننا نحن الأحياء في أمر عواطفنا، أسف مبرح وبؤس يقع على بؤس، كأنه قد كتب علينا أن ندفن بأيدينا أصدقاءنا ومحل عطفنا وأهل ثقتنا ومعقد آمالنا الواحد تلو الآخر، فمتى آخر هذه الحال! آخرها يوم الخروج من دار ما سرنا منها قدر ما أحزننا فيها، ولا تحقق فيها خير نرجوه على نسبة ما وقع من شر نتوقعه، ذلك هو:
ما لقينا من غدر دنيا فلا كا
نت ولا كان أخذها والعطاء
أيها الصديق:
لم يملك أصدقاؤك من دون الله لك فداء، إلا الدموع الحارة، لو رأيتهم - يا فتحي - أمس حول قبرك لرأيت ثم معنى الحزن العميق يتجسم في وجوه واجمة عليها غبرة وعيون شاخصة غارقة أحداقها في دموعها وألسن معقودة أرتج عليها من هول الموقف، وأي موقف أكبر هولا من موقف صديق ينزل صديقه بيده في قبر سحيق يودعه تحت الجنادل فيفارقه الفراق الأبدي الذي ليس فيه رجاء، أي موقف أقسى على النفوس من موقف الوداع لراحل لا أمل في رجوعه، دفنوك بأيديهم ودفنوا معك لذة الصداقة، تلك اللذة التي كان ينهل منها مجالسك ومحادثك ومماشيك، دفنوا ذلك الصفاء الذي كان يتجلى على مجالسك، ودعوك فودعوا معك أعز ما عندهم وهو الصداقة، ذلك لم يغن شيئا إلا ذكرى تبقى لك في قلوب أصحابك التي كانت مغرسا طيبا للوفاء، رحمة الله عليك فكم كنت المثل الصالح للصديق، والصديق قليل.
أيها العالم العامل:
لقد كنت في الربيع الماضي على المنابر والصحف، نكرم ذاتك ونتوج مؤلفاتك ونعلن فضلك، فما دار الحول حتى جئنا ننعي وفاءك وأنت في الحالين كبير، إن مظاهر الاعتراف بفضلك التي شهدتها بنظرك ليست بأكبر مظاهر الجلال التي قام بها من يبكونك لمقامك العلمي والعملي.
جاء القدر المحتوم فنكست الأعلام الخافقة على ربوع هليوبوليس وسرت في الناس جميعا روح أسف هادئة تظهر على وجوههم بسكون عميق، شأن الناس إذا نزلت بهم مصيبة عامة، كذلك كانت مصيبة مصر في نابغتها وفقيد العلم والارتقاء فيها حزن فاتر، لا يشبه حزن أصدقائه الجازعين، ولكنه أشمل منه أثرا وأعلى منه مقاما، لكل امرئ أصدقاء يبكونه، وليس كل عالم يعتبر موته مصيبة عامة.
جيء بجنازته إلى القاهرة من بيت أخيه الأسيف صاحب السعادة سعد باشا زغلول، شيعت بما يتفق مع مكانته العلمية وآثاره العملية ومشى فيها كل الرجال الرسميين ورجال الأمة وأهل العلم والأدب، فكان هذا الموكب من أكبر ما وجد في مصر، ولكن فتحي باشا له هذه الخصوصية، أن فضله أشهر من أن تدل عليه حفاوة الناس وآثاره أبين من أن يكون تشييع العلماء، والجنازة برهانا على أنه من العلم وبيئة العلماء.
كان فتحي باشا حديد الفهم يتوقد ذكاؤه نورا تضرب به بيننا الأمثال، بليغ العبارة حتى إنك لو كتبت عنه ما يقول في مجلسه عن أي موضوع من الموضوعات لكان ما كتبت درسا من دروس الإنشاء وقطعة من قطع البيان، فصيح اللسان يتكلم الساعات الطوال ارتجالا كلاما ممتعا لا يمل ولا يمل، نقادا لا تفوته فائتة ولا يخدع على نظره الصحيح، غزير المادة في علمه الخاص وفي العام، له ذوق صاف فلم يلهه الاشتغال بالعلم والتأليف عن تعرف الجمال فيما يقع عليه نظره من الأشياء، كأنه من أهل الفنون الجميلة كما كان على علمه من أكابر الأدباء، له عقل راجح، عاشرته زمانا غير قليل، فما علمت لسانه يسبق علمه، ولا علمه يسبق عقله.
وأما آثاره العلمية فلا حاجة بها لأن تذكر بعد أن توجت في مجلس حافل لم يبق في البلاد أحد من أهل العلم إلا شهده، وأما شأنه العملي فإنه كان في الحكومة واضع المشروعات والمدخر لحل المشكلات، وكان بمجموع مزاياه وفواضله أحق الناس بأن يسمى النابغة على التحقيق.
أيها النابغة:
نم في قبرك آمنا مطمئنا فإنك قد قدمت بالواجب عليك في خدمة وطنك وخدمة العلم، نم سعيدا فإن وراءك من أهل بيئتك ومن اهتدوا بهديك من يسيرون على سننك الاجتماعية وينفذون وصيتك الأخيرة؛ تلك الوصية التي أوصيت بها العلماء والفضلاء والوجهاء من قومك، تلك الوصية التي أوصيت بها على منبر الجامعة يوم تتويج كتبك فبلغت بها قلوب الناس جميعا إذ قلت لهم: «علموا الأمة، علموا الأمة، علموا الأمة» إنهم قد سمعوا ووعوا، وهم يعملون كما تقول، فلئن فاتك أيها النابغة العمر الطويل، فما فاتك المجد الأثيل، ولئن قصرت حياتك عن إدراك ثمرة جهادك فإن أهل بيئتك سيتممون عملك، فنم في سلام الله ورحمته، عزى الله قومك على فقدك خير العزاء.
وداع الوزارة1
قد يكون اليوم هو آخر عهد الوزارة السعيدية
2
بالحكم، إن لم يكن هذا هو الحق في الواقع، فهو على الأقل الحق في أمانينا، ليس بأمانينا أن تسقط الوزارة، ولكن ذلك لا يمنع من أن البلاد قد شبعت منها ومن أعمالها وتلقت خبر سقوطها بالارتياح سواء في ذلك خصومها وأنصارها ومن هم في شأنها على الحياد التام، تستغفر المروءة أن يكون قولنا هذا تشفيا في أشخاص الوزراء، فإنا نعد من بينهم كثيرا من أصحابنا ومحل جاذبيتنا واحترامنا، نستغفر الرفعة للوزراء أن يكون سقوطهم مصيبة عليهم يألمون لها من جهة ما فيها من قطع المرتبات الكبيرة، كلا! إن وزراءنا يعلمون أن المناصب ضرائب يدفعها الأكفاء وتكاليف يقوم بأعبائها الأصلحون، وأنها تقليد إلى زمن محدود يستعمله الوزير في تنفيذ المبادئ التي يراها صالحة لرقي البلاد.
وما هي تخليد يصح اعتبارها موردا من موارد الرزق، فلا يهم الوزير الشريف من أمر سقوطه إلا الحسرة على عدم إتمام ما يكون قد بدأ فيه من المشروعات النافعة للأمة لا لشخصه، وما يخشى أن يفوت الناس من المنافع إذا لم يخلفه من يستمر على تحقيق مبادئه، وزراؤنا يعلمون ذلك كله على الرغم مما شاع عن أحدهم أنه كان يقول حين تكلم معه زملاؤه في أمر الاستقالة: أنا ثابت في مركزي ومحتفظ «بحقوقي» فلا أستقيل مع المستقيلين، كأن الوزارة حق له لا واجب عليه، وكأنما هو مستعد لأن يشتغل مع كل رئيس بصرف النظر عن اختلاف المشارب أو تباين المبادئ، ذلك لا يهم، لكن المهم هو أن يشتغل بأية طريقة والسلام.
على الرغم من ذلك فإن الواجب علينا في حق وزرائنا الأماثل أن نعتبرهم غير مستائين من سقوط الوزارة سقوطا كليا أو بعضيا، فلا يكون هناك أوفى معنى لأن يحمل ما نكتبه في هذا الشأن على الاشتفاء أو الشماتة، فإن كليهما لا يكون إلا من الأعداء ولا نحسب منهم إلا معارف وأصدقاء فما يكون قولنا إلا ورادا على الوزارة باعتبار أن لها شخصية متميزة عن شخصية أفراد الوزراء، ولها خطة مرسومة طالما أفضى بعض الوزراء في مجالسهم بأنها خطة غير مفيدة لمصلحة البلاد، ولكنهم مع ذلك لم يستقيلوا! لم يستقيلوا؛ لأنهم على ما يقال لا يعرفون في البلاد أكفأ منهم أو بعبارة أقل ادعاء، لا يظنون أن السلطات ترضى باستيزار الأشخاص الذين هم أكفأ منهم، فهم ببقائهم يخدمون البلاد، يخدمونها خدمة سلبية بقطع الطريق على من هم أقل منهم كفاءة، ومهما تكن الخدمة السلبية عديمة القيمة، فإنها مع ذلك - على ما يقال - كانت هي وحدها التي تربط النظار بمراكزهم دون غيرها من بقية الاعتبارات الشخصية، ومع ذلك فإن الأمة لم يبن عليها أنها أقامت وزنا لهذه الخدمة ولا اعترفت بفضل الوزارة، فهي أسعد ما تكون أن ترى هذه الوزارة تسقط من أساسها وتخلفها غيرها، كما يكون من حال المرء يرجو من صاحبه الصلاح، والإصلاح، ثم يرجو ثم يؤمل ثم يتمنى ثم يقنط بعد ذلك ويأخذه الملل، كذلك ملت الأمة هذه الوزارة.
ألا يكون الحال أن الأمة تحل كل وزارة من الوزارات تفرح لسقوطها من غير أن تتدبر في أمر من يليها، كأنما هي تفضل التغيير لا لنفع فيه ولكن حبا في التغيير.
قد يكون من ذلك شيء، ولكن الواقع هو أن الوزارة الحالية كانت سيئة الطالع، سيئة الطالع إلى غاية النحس، نصبت في ظروف صعبة محزنة، فكانت بذلك وزارة ضرورة أو وزارة وقتية، ولكن استعدادها لاعتناق كل المبادئ والسير في كل الخطط والتفاني في الاتفاق مع كل قوى لمصلحة البلاد وتسليم أمرها وأعمالها لكل من يخدم البلاد بصرف النظر عن الفكرة في أي برنامج يجب اتباعه، والتصريح بأنها تقصر همها على اكتشاف وسائل الإصلاح: كل ذلك أطال بقاءها وثبت مركزها إلى هذا اليوم، ولو كان عمل الوزارة قاصرا على ذلك لخفت على الأمة ريحها ولما ثقل عليها وجودها، وألمت استمرارها وملت عشرتها واستقبلت أخبار سقوطها بالدعوات الصالحات لولاة الأمور، ولكن الأمة والسلطتين حين التقوا جميعا إلى تاريخ أربع السنين الماضيات، رأوا أن ما يجري في البلاد هو غير ما يرضي الجميع، فإن السلطة لم تأمر بالمحسوبية، ولم تأمر بانتشار الرشوة في الإدارات من أقصى البلاد إلى أقصاها، حاشا أولي الأمر أن لا يجدوا كل الوجد على إفساد اخلاق الأمة إفسادا يتعذر عليها إصلاحه إلا في زمان بعيد، ومهما يكن من بعد أشخاص وزرائنا المحترمين على مقارفة هذه الآثام أو الرضى بها، فإن الوزارة دون غيرها هي المسئولة عن كل فساد ويقع في مدتها من الموظفين التابعين لها ومن أعوانها وأنصارها، ولو افترضت براءتها إلى حد الجهل المطبق بما يقع من الحوادث في البلاد، فإن الرأي العام والسلطة كليهما ليست محكمة من المحاكم النظامية التي تصوغ الآثام صيغا محدودة، وتطلب على كل منها دليلا قضائيا خارجا عما جاء القاضي بطريق علمه الذاتي، كلا إنهما ليسا كذلك، ولكن كليهما يحكم على الوزارة بنتائج الرقي أو الانحطاط الذي وقع في البلادة مدة ولايتها الأحكام .
فإذا خاب في الوزارة أمل السلطة العليا التي تنصبها، فلم تستطع تنفيذ ميولها الشريفة ومقاصدها الوطنية، ولم تستطع إعلاء شأن الحكومة وتحرير مشروعاتها القانونية في الجمعية التشريعية انعدمت منفعة الوزارة وكان سقوطها واجبا.
وإذا انقطعت آمال الرأي العام من الوزارة في تأييد كلمة الحق والعدل ونشر راية الأمن على رؤوس الأفراد وحماية مصالح الأمة، أو رأي الرأي العام أن عهد الوزارة مملوء بالجرائم على الأعراض والأنفس والأموال، واتسع ميدان الرشوة للحكام وملأهم التغرض والمحسوبية، إذا رأى الرأي العام ذلك، ثقل عليه احتمال الوزارة وصفق لسقوطها تصفيقا.
كليات طبيعية يلزمنا الواجب أن نذكرها، نذكرها على مضض، ولكن الحق أحق أن يقال ويتبع، وإن كان احترام الوزارة والأسف على ما فرطت يأخذ منا كل مأخذ على أن الإدارة في مصر صارت إلى أبعد مما نشير إليه وشكوى الناس في مجالسهم الخصوصية أدهى من ذلك وأمر.
لا يهمنا أن تلي الحكم بعد سقوط الوزارة الحاضرة وزارة زيد أو وزارة عمرو، ولكن الذي يهم البلاد أن تعتقد بالمثل الحسي أن السلطة العليا لا تسمح بالسكوت على تأخير البلاد في حالها الأخلاقي ولا على أن تكون الوزارة كل عملها - كما يقال - اكتشاف وسائل الإصلاح وأن تبقى الوزارة هذه المدة الطويلة دون أن يكون لها مشروع واحد ينسب إليها دون سواها، إلا مشروع المؤامرات أو اكتشاف المؤامرات!
يهمنا أن تأتي وزارة مطلوبة للولاية لا طالبة لها، ذات مركز أعلى من مركز اكتشاف وسائل الإصلاح، وزارة تؤيد حرية الشعب لا تقصص ريشها ولا تطعنها في قلبها، تعمل لمصلحة المحكومين، ذات برنامج معين وخطط معروفة، تأخذها العزة بالاستقالة قبل أن تغلب على أمرها وتعيين الأفراد والمجاميع على استكمال حظوظها من الرقي المدني بهدوء وسكينة فلا ينجم عن أعمالها مؤامرات صادقة أو كاذبة ولا تحتاج في حمايتها إلى قوانين استثنائية تذهب بمظاهر الحرية وتشوه جمال الإصلاح الذي يزاوله المصلحون، وزارة ذات روح عامة مؤتلفة الأجزاء متضامنة الوزراء، لا يسعى أحدهم بالآخر إلى السلطة ولا يصك بعضهم صدره للسلطة، لينفرد بإتيان عمل من وراء الآخرين، وزراء لا يقبل أحدهم الوزارة إلا بعد التدبر والحساب، وبعد أن يعرف شركاءه في المسئولية ويرضى بهم، فإن الوزير هو ذلك الذي يعرف أن يقيس قواه لحمل أعباء الأمة على كاهله لا الذي سرعان ما يجري الطمع المتواضع إلى أن يقدر ما يربحه في المنصب.
إلا أن الوزارة غرم لا غنم، إنها مفقدة الصديق ومضرب العدو وكد الضمير وخسارة الاسم، فمن قبل الوزارة لمال يكسبه فما أقل حسابه! أو لجاه يحصله فقد فات زمن الجاه، ومن قبل الوزارة وأعد لها عدتها من الكفاءة والاستقلال لمجد مخلد في خدمة أوطانه، فذلك وحده هو الوزير ضحى ماله ووقته وحريته ولذته لمنفعة قومه وبلاده.
على أننا من جهة أخرى يعز علينا أن وزارة سعيد باشا التي استقبلناها بقليل من التفاؤل وكثير من الجاذبية، لم تنجح في أداء وظيفتها فلم توفق إلى إرضاء مصلحة البلاد ولا إلى إرضاء الأمة ولا السلطة التي نصبتها، نأسف لذلك لأن الوزارة مؤلفة من أبناء مصر وليس فشلهم في السياسة يشرفنا كثيرا، ونحن أمة ناهضة كل مثل من أمثلة الفشل يتخذ حجة علينا لا حجة لنا، فلسنا من هذه الجهة كغيرنا من الأمم الراقية التي تعد من يصلح فيها للوزارة بالمئين لا بالعشرات، نأسف لذلك ويرضينا أن نودع الوزارة الحاضرة لنستقبل الوزارة الآتية بالآمال الكبار، فإن كانت الوزارة الفهمية فأهلا وسهلا وحبا وكرامة، فإن ذلك الشيخ المحترم يكاد يكون في مصر الرجل الوحيد الذي لا فائدة له من الوزارة، فلا يكون قبوله لها إلا لمحض نفع البلاد، ولقد أظهر مصطفى فهمي باشا في المفاوضات على ما يتغافله الثقات من رفعة الأخلاق وعلو المكانة ما يجعل الأمة تستبشر خيرا بوزارته وما يجعل السلطة ترى نهائيا أنه هو الرجل الأول اللازم للحالة الحاضرة، والقادر بنفوذه الأدبي على إصلاح ما فسد من أحوال البلاد.
تأبين أحمد فتحي زغلول باشا1
أيها السادة:
إن أحمد فتحي باشا زغلول هو أصغر أنجال المرحوم الشيخ إبراهيم زغلول من أعيان إبيانه، ولد في تلك القرية في 4 ربيع الأول سنة 1279ه، مات أبوه رحمه الله إذ كان رضيعا، وكان شقيقه سعد زغلول فطيما، خلفهما أبوهما في حضانة والدتهما التي هي إحدى عقائل عائلة بركات الشهيرة بالغربية، وكانت وقت وفاة زوجها لا يتجاوز عمرها العشرين، فقامت على ولديها ووقفت نفسها على تربيتهما تحت إشراف أخيهما الكبير لأبيها المرحوم الشناوي أفندي زغلول الذي عني بتعليمهما على أحسن ما تعلم به أبناء الأعيان.
تعلم فتح الله الصغير في كتاب البلد، ثم في مدرسة رشيد، ثم المدرسة التجهيزية، ثم في مدرسة الألسن، فاتفق أن زارها المرحوم أحمد خيري باشا ناظر المعارف العمومية، فأعجب بذكاء الشاب فتح الله صبري وأعطاه اسم أحمد، ونحت من «فتح الله» فتحي، وأصدر أمرا رسميا إلى المدرسة بتسميته أحمد فتحي وبأن يرد إليه ما دفع من المصاريف وباعتباره طالبا مجانيا، فلما كانت 1884م أرسلته نظارة المعارف إلى فرنسا لدرس الحقوق فحصل على شهادة الليسانس ورجع سنة 1887م. وظف بقلم قضايا الحكومة، ثم رئيسا لنيابة أسيوط، ثم رئيسا لنيابة إسكندرية، ثم مفتشا بلجنة المراقبة، فرئيسا لمحكمة الزقازيق، ثم رئيسا لمحكمة مصر، ثم وكيلا لنظارة الحقانية، وظيفته الأخيرة التي مات وهو قائم بها.
كان فتحي باشا كما سمعتم اليوم وقبل اليوم وكما قرأتم في التقارير الرسمية مثال الموظف الفاني في الاشتغال بأداء واجباته القائم بعمله وعمل غيره أحيانا ولم يمنعه ذلك من أن يكون مترجما ممتعا أمينا ومؤلفا كبيرا، عن هذا الوصف ومن هذه الجهة وقفت أمامكم أؤبن فقيد العلم والعلماء.
أيها السادة:
إن شدة الذكاء، وقوة النفس، وحسن الإخلاص، تلك الصفات التي ظهرت آثارها على فتحي باشا منذ شبابه الغض راجعا معظمها إلى التأثير الوراثي من أبويه وعلى الأخص والدته التي أفاضت عليه من صفاتها بما يفيض الأصل، وما غرست من المبادئ الصالحة مما جعل لفتحي شخصية ممتازة منذ صباه.
لا يأخذكم العجب من قولي؛ فإن من أمهاتنا نحن القرويين، منهن مع بساطة في المدارك العقلية وبعد عن العلوم والمعارف، على جانب عظيم من الذكاء الفطري ورفعة الأخلاق وعزة النفس وذوق سليم في الحكم وطيبة وتقوى في المعاملات، ينقلن هذه الصفات لأبنائهن بحكم قانون الانتقال الوراثي، فتكون لهم رأس مال في الحياة العملية، ولولا هذه الصفات لهلك القرويون غير المتعلمين بما هم فيه من جهل عميق وما عانوا من استبداد طويل، ولكن هذه الصفات الأولية قد قامت في نجاحهم مقام المعارف زمنا طويلا ولا يزال الاتكال عليها وحدها يؤدي إلى الآن نتائجه المتواضعة في بلادنا، فإذا جاءت العلوم والمعارف على هذه الصفات الأولية، ظهر النبوغ قلة وكثرة تبعا لقوة الاستعداد أي لقوة تلك الصفات الوراثية.
فللأمهات القرويات أن يقبلن أيضا شكر الجيل الحاضر، وعلينا أن نعترف علنا ومن غير تردد بما للأمهات من الأهمية العظمى من حيث توريث البنين والقيام على تربيتهم الأولى، وأمامنا المثل الحسي أن والدة فتحي باشا ينسب إليها الفضل الأكبر في أن أخرجت لمصرنا نابغتين: نابغة نرجو له العمر الطويل، ونابغة فقدناه آسفين، فقدناه ونقدم اليوم للتاريخ منه صورة هي أقوم صور نوابغنا حجة لحسن الاستعداد وعلو الكفاءة العلمية والعملية جميعا.
إن الصفات الأولية لفتحي من شدة الذكاء وقوة النفس وحدة المشاعر هن أساس نبوغه، كان يحمل نفسا على قوتها الهائلة، رقيقة المشاعر قلقة لا تستقر أو تبلغ من خدمة العلم مناها، هيهات أن تبقى طويلا أمثال هذه النفس في البيئات التي لا تلائم بقاءها ونجاحها، وهيهات أن تبلغ منى، كلما تقدمت اتسع أمامها أفق الأغراض وكلما انقضى سبب جاءها سبب جديد.
تعلم فتحي فصادفت القواعد العلمية من عقله مقاما رحبا وقرت فيه أصولها، ووجدت منه نفسا طلعة قوية في مركزها ميالة للانتشار في مظاهرها الخارجية يناديها صوتها الخفي: أن وف حق العلم، وآت زكاة النبوغ.
فأقدم منذ حداثة سنه على نشر العلم إجابة لداعي الضمير، أقدم على هذا المركب الخشن وكان الواجب عليه أن يقدم لأنه استكمل عدة الإقدام: ذكاء مضيء وعقل عاصم وعلم هاد ولسان عضب ذلق غواص على موضع الحجة، وقلم سيال، ومركز نبيل! كيف لا يكون مقداما من جمع بين كل هذه الأسباب؟
لا أكاد أبرئ فتحي من الوقوع في حيرة اختيار الطريقة التي يجب عليه اتباعها لخدمة العلم في مصر: التأليف أو الترجمة وأيهما أنفع، وإذا كانت الترجمة، فعلى أي نوع يقع الاختيار؟ حيرة لا بد منها لشاب خارج من المدرسة تتضرم بين ضلوعه نار الشوق إلى مجد الوطن العلمي، خلو من التجارب لا يملك إلا كفاءته العلمية.
نظر فتحي نظرة صادقة إلى حال الأمة المصرية وحكومتها فرأى أننا أحوج ما نكون إلى معرفة المثل الأعلى الذي نبغي الوصول إليه من نظاماتنا السياسية والاجتماعية، حتى تتحد أطماعنا الوطنية على طريقة عامة واضحة.
ورأى فوق ذلك أن أول خطوة يخطوها المصلحون العلميون هي نقل العلم إلى أوطانهم بالترجمة، إن هذه الطريقة كانت هي ألف باء النهضة العلمية في كل أمة وفي كل زمان.
هذا النظر المزدوج كان رائد فتحي باشا في ترجمته منذ خرج من المدرسة إلى أن مات فإنه في سنة 1888م يترجم (العقد الاجتماعي) لجان جاك روسو فلم يتمه، ولكنه ترجم بعد ذلك «أصول الشرائع» لبنتام، و«خواطر وسوانح في الإسلام» للكونت هنري دي كلتزي، و(سر تقدم الإنجليز السكسونيين) لأديمون ديمولان، و(روح الاجتماع)، و(سر تطور الأمم) لجوستاف لوبون، و(خطاب مصطفى فاضل باشا) نشر ذلك من مترجماته، وله فوق ذلك (جوامع الكلم) لجوستاف لوبون، وقد وزع عليكم الليلة، وكتاب بورجار في الاقتصاد السياسي، و(تمدن العرب ) لجوستاف لوبون، و(جمهورية أفلاطون)، و(الفرد ضد المملكة) لسبنسر، وكلها لم يتم تعريبها، أما مؤلفاته المنشورة فهي: كتاب المحاماة، ورسالة في التزوير، وشرح للقانون المدني، وقد ألف أخيرا كتابا «في التربية العامة» كنت أعلم أنه قد تم ولكنه لم يطبع.
قرأت مترجماته المنشورة، وتصفحت من غير المنشورة، وأستطيع بعد ذلك أن أقول من غير تردد: إن فتحي كما كان نابغة في الفقه، كذلك كان نابغة في الترجمة، يمسك الكتاب يقرأه أولا ثم يدخل بنظره الحاد في طيات نفس الكاتب فيظهر أسرارها بقلمه العربي المبين.
ومن التراجم ما يترجم الألفاظ تحمل معانيها خالية من روح الكاتب وحرارته فلا يكون لها التأثير المطلوب، إلا مترجمات فتحي فإنها تقرأ فيها المعاني والأغراض كأنك تقرأ كاتبها من غير فرق.
لفتحي باشا شخصية تامة ممتازة في طريقته وفي أسلوبه البياني.
أما نحوه في الترجمة فليس هو الالتزام الحرفي للأصل ولا مجافاة الأصل، ولكن نحوه بين ذلك وسط مرض.
أما أسلوبه فهو عربي خالص، لا يعنى فيه بفضلة لزخرف المحسنات اللفظية، ولكنه مع ذلك متين الرصف ظاهر الرشاقة جذاب جدا.
لم يكن فتحي باشا يترجم ليترجم، ولا طلبا للشهرة أو المال من وراء التعريب، فإنهما ليس سبيلهما في بلادنا العلم والكتابة، وكان حسبه شهرة مناصبه العالية وكفاءته التي ما كانت يوما واحدا موضعا للشك من أحد سواء في ذلك أصدقاؤه وحساده، عارفوه وغير عارفيه، ولكننا إذا جمعنا مترجماته دلنا مجموعها على أن فتحي كان له غرض ثابت يرمي إليه من وراء نشر هذه الكتب.
غرضه نشر مبادئ الحرية: حرية الفرد، وحرية الأمة، وتنبيه أطماع الأفراد والأمة جميعا إلى اتخاذ مثل أعلى قبلة لهم في أطماعهم الوطنية، منذ سنة 1888م كان يرى الأمة تتقلب في أغراض أحيانا متعاكسة ودائما مبهمة فكان يسيئه هذا النظر ويود لو أن الشعور الوطني الذي كان وقتئذ في حذر مستمر - يولي وجهه قبل الاستقلال على نحو منتج، كان يود لو يدركون أن إبهام الفرض وعدم إدراكه بوضوح، يجعله مستحيل المثال؛ لذلك أراد أن يقدم للجمهور، (عقد الاجتماع) لروسو حتى يتبين الجمهور حق الفرد وحق الأمة، وما يجب أن يكون لها من السلطان، وللأسف لم يظهر هذا الكتاب مع أنه بلغ من ترجمته مبلغا كبيرا، ولكنه أصدر بعد ذلك ترجمة بنتام في أصول الحقوق والواجبات، حتى جاء الزمن الأخير وظهور الشعور الوطني بمظهر جميل، ولكن لا يزال في مقاصده بعض اللبس حتى فيما هو مكتوب من المبادئ في الصحف، وما الصحف إلا ترجمان الرأي العام.
ولعل فتحي باشا أمام هذه المشاهدة أشفق على حرية الأفراد، وتربية الأمة من الميل الظاهر إلى ما يشبه الاشتراكية، فإن الناس لم يقصدوا في طلبتهم على حقوق الأفراد من الحرية وحق الشعب من السلطة، بل أخذوا مع ذلك كله يطالبون الحكومة أن تقوم لهم بكل شيء، ومهما كان في أساليب هذه المطالب من الانتقاد الضمني، إلا أن مثل هذه الحركة من شأنها أن تجعل الحكومة هي كل شيء والفرد لا شيء، الاشتراكية قد تكون معقولة إذا كان للأفراد شأن في تنصيب الحكومة، وإلا فإنما هي اشتراكية معكوسة النتائج، فأخذ فتحي باشا عن بعد يهدي الأفراد إلى وجوب الاستمساك بشخصيتهم، ويبين لهم أن التربية الشخصية هي التي كانت (سر تقدم الإنكليز السكسونيين)، يطلب إلى المصريين أن يتشبهوا بهؤلاء وأن لا يفنوا شخصيتهم فيفنى وجودهم، واستطرادا في هذا النظر تصدى إلى ترجمة (الفرد ضد المملكة) وروح الاجتماع وسر تطور الأمم، كل ذلك ليبقي في الجمهور الأسس العلمية للرقي حتى يطبق الناس حالهم على هذه الأصول فينتفعوا بتجارب الأمم.
أيها السادة:
إن التوفيق بين منتخبات فتحي باشا للترجمة فوق ما قدمنا أنه كان يعتنق مذهب الحريين سواء كان ذلك في التربية والتعليم أو في الأصول الاجتماعية والسياسية بل الاقتصادية أيضا؛ لأنه لو كان اشتراكيا في الاقتصاد لما عمد إلى ترجمة بورجار بل كان عمد إلى ترجمة أحد الاقتصاديين الاشتراكيين الظاهرين بالاشتراكية.
ولو شئنا أن نبين عقائد فتحي باشا من منتجاته ومن أحاديثه لضاق بنا المقام، ولكني أكتفي الآن بالإشارة إلى أن بين اختيار فتحي لتلك المؤلفات وبين مذهبه الحري في محاولة الإصلاح الاجتماعي والسياسي نسبا متصلا جد الاتصال.
حسبي الإشارة إلى ذلك وإلى أن فتحي باشا كان ذا مبادئ ثابتة وطرائق معينة في كل شيء، فكما أنه ابتدأ في خدمة العلم الابتداء الطبيعي، وهو نقل العلم إلى البلاد، كذلك كان يرى أن البدء في الارتقاء الاجتماعي والسياسي لا يكون بأخذ ثمرات آخر تطور للمبادئ الاجتماعية والسياسية في الأمم التي تمدنت من قبلنا؛ ولا شك في أن إدخال المبادئ الاشتراكية في آخر تطورها الحاضر على أمة ناهضة من عقال الاستبداد نتيجة اضطراب خطر قد يكون ضرره أكثر من نفعه.
من ذلك نأخذ أن فتحي باشا كان رجل ارتقاء لا رجل ثورة، إنه كان يكره الثورة، يكرهها بكل مظاهرها حتى الفكرية منها، فكما إنه كان يرى أن خير القوانين ليس هو القانون الحسن في ذاته، ولكنه القانون الذي يحتمل الشعب تطبيقه، كذلك كان يرى أن خير المبادئ الاجتماعية والسياسية هو ما كان بينه وبين طبائع الشعب وعاداته نسب، تكمل ما فيها من نقص وتقوم ما بها من اعوجاج.
كان فتحي يسترشد بهذه الآراء الحرة العريقة في الحرية، فإذا لم يكن نشرها ليتفق مع مركزه في الحكومة، فلقد نشرها بالترجمة والعقل ليرضي دواعي ضميره وليثابر على تربية قومه تربية صالحة على قواعد ثابتة مع معرفة الحقوق والواجبات، فليس فقيدنا رحمه الله من أرباب المناصب، بل هو على ذلك من أرباب المذاهب ومن هو كذلك، من شأنه أن يكون شقيا بغرضين معذبا ضعفين، يكاد لا يكون له من وقته شيء، فهو يقسم بين الأعمال الرسمية الشاقة وبين خدمة العلم، يعمل لها بالتأليف والترجمة شطر الليل وأحيانا طول الليل ومدة العطلة، فإذا لامه في ذلك أصدقاؤه هز كتفه هزة فيلسوف لا يبالي مات اليوم أو مات غدا.
نعم كان المؤلف فتحي يعتقد أن الحياة تقدر بما يتم فيها من العمل الصالح لا بعدد السنين.
يكاد كلامي يلقى في الأذهان من فتحي باشا صورة عالم استغرقته أغراضه وشغلته همومه فزهد في الجمعية وفرط في القيام بالاصطلاحات المدنية، كلا! إن فتحي باشا على ذلك كان مترفا في عيشته متأنقا في مظاهرها المختلفة، كثير الاختلاط لا تفوته عيادة مريض من أصدقائه، ولا رد لزيارة ولا مؤاساة معارفه في أحزانهم، كذلك لا ينقبض عزمه عن شهود حفلة أنس، ولا تلوي به همومه ومشاغله عن الاعتناء باقتناء التحف والطرف وتعرف أوضاع الجمال حيث كان، رحمه الله، كان على علمه العميق ومنزلته العالية رجلا غاية في الوداعة والظرف.
من ذلك يظهر لي أن فتحي باشا كان يعتقد الحياة الفردية كلا واحدا من حقه أن يكون متعادلا في جميع مظاهره، وأن اعتدال السلوك لا يتم إلا بهذا التعادل فكما يجب على المرء أن يخدم عقله كذلك يجب عليه أن يخدم مشاعره، حتى لا تعطل ملكة من الملكات تضحية لملكة أخرى، ولا شك في أن خير قاعدة تنتج المثل الأعلى للرجل الكامل بمعنى الكلمة هي قاعدة تنمية ملكات الإنسان وقواه بنسبة واحدة.
كذلك كان فتحي باشا، وعلى هذا كنا نراه في شئونه، غير أن الاستثناء كان يلحق لديه هذه القاعدة أيضا، فإنه يظهر لنا من جهة أخرى أنه كان يضحي قواه الجثمانية في سبيل شهوته العلمية.
وهذا المثال مع الأسف هو وقلة الحرص على المال كأنهما أمران عامان في كثير من أبطال العلم وخدمة الأوطان.
عفوا! أيها السادة، ليس فتحي في عداد الموتى الذين يؤبنون بقولة واحدة تردد لكل منهم على السواء: كان وكان ... وعليه الرحمة والرضوان. إن فتحي ليس ملكا لأهله وأصدقائه بل هو ملك التاريخ، وبهذا العنوان يجب علينا دراسته، إنه صورة كبرى من أكبر صور النبوغ المصري بروزا وأولاهم بالعناية والدرس، إنه رجل كبير، كبير في عقله وفي عواطفه بل في أطماعه أيضا، وما كان يبين عليه أن اقتناء المال داخل في برنامج أطماعه، أقول وليس هو في هذا المعنى استثناء من عظماء الرجال أمثاله، أولئك الذين ماتوا ولا أصفر ولا أبيض، كأنهم الأنبياء لا يورثون، فإن لم يتركوا تراثا تركوا مجدا خالدا.
نعم إن أطماع فتحي باشا كانت كبيرة متناسبة مع كفاءته وثقته بنفسه ولكنها لم تكن من الأطماع الشخصية في شيء، إنه كان يألم لما نحن فيه ويرجو أن يكون له من السلطة ما يسهل لقومه سبيل التقدم إلى الأمام، قد تكون هذه العلة هي العذر العام الذي ينتحله كل المغرمين بالمناصب العالية.
ولكن فتحي ليس من هؤلاء؛ لأنه كان ينفذ الخطة التي رسمها لمشاغله العمومية، فأخذ يسهل التقدم بقلمه، ومن الطبيعي أن يرجو أن يسهله بعمله أيضا، فيكون بذلك قد جمع بين سببي النفع، لا كصديقه روسو الذي قال: لو كنت شارعا أو أميرا لاعتضت عن الكتابة في السياسة بتحقيق ما أقرر من المبادئ، على أني يجب علي في هذا الموقف أن أسارع إلى التصريح بأن فتحي لم يقدم بين يدي أطماعه إلا كفاءته، أما شخصيته واستقلاله في الرأي فلا دخل لهما في هذه الصفقة، بل ربما كان حجر عثرة في سبيل ارتقائه.
على أن فتحي باشا مهما كان محسود القدرة، فإنه كان دائما عمدة الحكومة في كثير من المشروعات الدقيقة التي تحتاج إلى مفاوضات بين جهات مختلفة وموضع الاستشارة عن نظارته وغير نظارته في وضع القوانين، كما تشهد به الألسن الرسمية والتقارير الرسمية.
أيها السادة، كنا نكرم فتحي باشا في نحو هذا الأوان من العام الماضي ونتوج مؤلفاته، وها نحن أولاء جئنا اليوم نؤبنه ونتأسف على وفاته، فما أقل هذا الوجود حرصا على الرجال النافعين!
أيها السادة، إن صورة فتحي باشا الذي اشترك في رسمها جميع خطباء هذه الحفلة الممثلين للمعاني والطبقات المتباينة، صورة ندخرها عند الزمان على أنها طليعة النهضة العلمية وأثر من آثار المجد المصري الفخيم، ولتكون قدوة للنابغين من أبنائنا على مر الزمان، فاللهم لعبدك الأمين في خدمة العلم رحمة، ولبلاده عزاء، إنك أنت السميع المجيب.
الحرب1
وقع ما كان يخشاه العالم بأسره، وعم الخطب ولم يبق بعد سبيل إلى السلام، فلم يكن لينتظر أن الخلاف المحلي الذي قام بين النمسا والصرب يصل إلى هذه النتيجة السوداء على العالم، وهنا مورد المثل المشهور: ومعظم النار من مستصغر الشرر.
اليوم وإلا أبدا، وفي هذا الحادث وإلا فلا، تلهب أوربا شرارة واحدة ويعم العالم بأسره الضرر البليغ بحجة أن صربيا والنمسا لم تتفقا على الوسائل القضائية لمحاكمة في جناية!
عجزت السياسة والمفاوضات السياسية والوساطات الملوكية والإمبراطورية عن تأييد السلم وحقن الدماء وحماية مصالح الناس، وانفرد الشر بالحكم في أوروبا إذ نفخ في صوره ففزعت لدعوته الملايين من الناس انقلبوا عن صورهم المدنية، فأصموا آذانهم عن دعوة الإخاء الإنساني، واستدبروا نهائيا مبادئ المحبة والغفران والسلام، وغشي الغضب أبصارهم ، فلم يعودوا يفكرون في الخسارة العظمى التي يجنيها المحاربون من وراء الحرب، يكتسبونها جميعا سواء فيهم الغالب والمغلوب، واستهانوا بالأضرار التي تلحق العالم بأسره من وراء هذه الحركة التي فيها ليس من البركة شيء.
تلك حرب ولا كالحروب يجب أن يشفق كل من في العالم من جرائها على المحاربين وغير المحاربين والمضطلعين بأسبابها ونتائجها والغافلين فإن حروب هذا القرن ليست كحروب القرون الأولى.
فإن المدنية الحاضرة قد جعلت الكرة الأرضية أشبه بالوطن الواحد في المنافع الاقتصادية التي هي أساس العمران بل علة الحياة، أجزاؤه متضامنة في الخير والشر، أقفلت أسواق أوروبا وميزان الحركة الاقتصادية العامة معلق بين أصابعها فأخلت بالموازنة في كل شيء حتى في أسعار الأقوات في كل البلاد، وأصبحنا في مصر ونحن بمركزنا الاستثنائي بعداء عن هذه الحركة الحربية، أصبحنا في أول يوم من إعلان ألمانيا الحرب نشعر تماما بالرجات الشديدة التي حصلت في سوقنا المالية بل في أبعد الأسواق علما بأن في أوروبا حربا، وعلى هذا القياس كل أنحاء الكرة الأرضية، أفلا يعلم الذين تعلن الحرب بكلمة من أفواههم مقدار المسئولية التي يحملونها بهذه الكلمة الكبرى التي تسفك الملايين من دماء الأبرياء، الأبرياء بالمعنى الصحيح الذين يتمثلون بقول القائل:
لم أكن من جناتها علم الل
ه وإني لحرها اليوم صالي
يقاد أحدهم من الدار إلى النار لا دفاعا عن وطن مهدد ولكن إرضاء لشهوات العظماء ، إرضاء لرؤساء الأحزاب، إرضاء لكلمات ضخمة مجوفة برن رنين (آمون) وليس في بطنها من الحقيقة شيء كبير ولا صغير، رحم الله جوريس أول قتيل لهذه الحرب وأول ضحية من الضحايا الذاهبة اليوم وغدا في سبيل الحق والسلام.
يا لله من مسئولية هذه الحرب عديمة المثال! كيف يستطيع رجل أو جماعة احتمالها؟ لا أحد؛ لأنها إذا أمكن تبريرها كيف يمكن تبرير جرائرها وجرائها، علم ذلك إمبراطور ألمانيا فأخذ يتنصل من مسئوليتها ويلقيها على عاتق روسيا، وأخذت المصادر الألمانية تعلن للعالم أن روسيا هي التي يجب أن تحتمل مسئولية توسيع ميدان النار عن النطاق الذي كانت محدودة به، ولن نعدم غدا إعلانا من روسيا يلقي التبعة على ألمانيا، وربما قامت الحرب وخربت ما قدرت على تخريبه من العالم ووضعت أوزارها ولا تجد في الممالك من تعترف بأنها الذي أذكت نارها واحتملت مسئولية نتائجها، ومهما كانت المسئولية فوق كل طوق، ومهما كانت النتيجة على كل حال أسوأ ما يكون، فمن الأسف أن كل ما كان، منطبقا على طبائع الإنسان، وما كان للإنسان أن يخرج عن طباعه العامة، وكما أن أوروبا تقلبت في نعمة العز والسلام، كذلك من الطبيعي أن تتمرغ في جحيم الأرزاء والأكدار، وكلا الحالين من صنعة يديها: جنتها ونارها، سلامها وحربها، إذ إن الإنسان لا يصبر على حال واحدة، قتل الإنسان ما أكفره!
هذا، وإن لنا في مصرنا مصالح تجب علينا رعايتها في هذه الظروف الصعبة، نحن على الحياد بالضرورة وسنظل كذلك مهما اتسعت دائرة الحرب عما هي عليه الآن، ولكن الحيطة في خفارة الثغور والحدود على قدر الحياد ضرورية جدا، فإن التجارب دلت على أن استبعاد وقوع السوء غير مبعد له بالفعل، ولا هو يعتبر وقاية منه، فلا نحن ولا غيرنا يستطيع أن يعلم الآن بالضبط عند أي الحدود يقف هذا الحريق الأرضي العام.
أما من الجهة السياسية فإن مركز مصر الاستثنائي يحتم على ولاة الأمور فيها اتباع تقاليدنا في الحياد التام مهما كانت الظروف، وقد جربنا الثمرات الطيبة التي جنتها مصر من حيادها.
وأما الجهة الاقتصادية فقد علمنا أن الوزارة تشتغل بالوسائل اللازمة لوقايتها، والواجب هو العمل لمنع تصدير الذهب ومنع تصدير مواد القوت منعا نهائيا.
لسنا ندري إلى أي وقت يطول عمر الحرب، ولقد يظن أن الاستعداد السابق وتلاحق المحاربين في الحدود من شأنهما أن يجعلا مدة الحرب قصيرة نوعا، ولكنه ليس بعيدا أن تطول أشهرا، ولقد يظن المتفائلون أن إنكلترا تكون على الحياد ويرجحون أن حيادها وحياد إيطاليا فيهما بريق الأمل في تقصير مدة الحرب، ومقدمة إلى أن إنكلترا تتوسط بين المتحاربين، يقولون ذلك على الرغم من أن سفير إنكلترا قد أكد لرئيس جمهورية فرنسا تعضيد دولته لفرنسا وفرنسا داخلة غمار الحرب لا محالة، على أن اشتباك النمسا وروسيا وألمانيا وفرنسا في حرب واحدة كلها تدخل إلى ساحاتها بملايين العساكر والبنادق وبالمدافع البرية والعمارات البحرية، كفيل بالخطر العام على العالم أجمع.
Shafi da ba'a sani ba