عاودته بعودتها طمأنينة وسلام، وشعر بأنه يستطيع الآن أن يطلب ما يشاء دون حرج: أيصح أن تتركيني وحدي كل هذا الوقت؟! - أنت أذنت لي يا سيدي، لم أغب طويلا، ولكنها الضرورة يا سيدي، ما أحوجنا إلى الدعاء، توسلت إلى سيدي أن يرد إليك صحتك حتى تروح وتغدو كما تشاء، كما دعوت لعائشة وللجميع ..
وجاءت بكرسي وجلست، ثم سألته: هل تناولت الدواء يا سيدي؟ أنا نبهت على أم حنفي .. - ليتك نبهتها على شيء أحسن! - بالشفا يا سيدي، سمعت في المسجد درسا جميلا من الشيخ عبد الرحمن، تحدث يا سيدي عن الكفارة عن الذنب وكيف تمسح السيئات، كلام جميل جدا يا سيدي، ليتني أستطيع أن أحفظ كأيام زمان .. - وجهك شاحب من المشي، كلها كم يوم وتصبحين من زبائن الدكتور! - ربنا الحافظ، أنا لا أخرج إلا لزيارة آل البيت، فكيف يقع لي سوء؟!
ثم متداركة: آه يا سيدي، كدت أنسى، يتحدثون في كل مكان عن الحرب، يقولون إن هتلر هجم؟!
تساءل الرجل باهتمام: متأكدة؟ - سمعتها بدل المرة مائة مرة، هتلر هجم .. هتلر هجم ..
فقال الرجل ليفهمها أنها لم تسبقه بالأخبار: كان هذا متوقعا من لحظة لأخرى. - بعيد عنا إن شاء الله يا سيدي؟ - قالوا هتلر فقط؟ وموسوليني؟ ألم تسمعي هذا الاسم؟ - اسم هتلر فقط .. «بعيد عنا؟ من يدري؟» - ربنا يلطف بنا، إذا سمعتم نداء عن ملحق البلاغ أو المقطم فاشتروه.
فقالت المرأة: كأيام غليوم وزبلن، أتذكر يا سيدي؟ سبحان من له الدوام ..
28
كانت زيارة جامعة وذات معنى كما قالت خديجة فيما بعد، فعندما فتح باب الشقة ملأ فراغه ياسين في بذلة بيضاء من تيل المحلة ، تتقدمه الوردة الحمراء والمنشة العاجية، يكاد جسمه الضخم يدفع الهواء بين يديه، وتبعه ابنه رضوان في بذلته الحريرية آية في الأناقة والجمال، ثم زنوبة في ثوب سنجابي تعلوها الحشمة التي صارت جزءا لا يتجزأ منها، وأخيرا كريمة في فستان أزرق بديع كشف عن أعلى النحر والذراعين، وقد تبلورت أنوثتها المبكرة - لم تكن تزيد عن الثالثة عشرة - فبدت جاذبيتها صارخة. وضمتهم حجرة الاستقبال مع خديجة وإبراهيم وعبد المنعم وأحمد، وسرعان ما قال ياسين: أسمعتم عن شيء كهذا من قبل؟ ابني سكرتير الوزير الذي أنا في وزارته مجرد رئيس قلم في المحفوظات، تنهد له الأرض إذا سار، وأنا لا يكاد يشعر بي إنسان!
كان مدلول كلامه الاحتجاج، ولكن لم يخف على أحد ما انطوت عليه نفسه من تيه وفخار بابنه. وفي الحق قد حصل رضوان على الليسانس في مايو من هذا العام، وما لبث أن تعين في يونيو سكرتيرا للوزير، في الدرجة السادسة، على حين يتعين خريجو الجامعات في الدرجة الثامنة الكتابية. وقد حصل عبد المنعم على الليسانس في نفس التاريخ، ولكنه لم يكن يدري ما المصير. قالت خديجة باسمة، وكانت تشعر بشيء من الغيرة: رضوان صديق الحكام، ولكن العين لا تعلو على الحاجب. فسأل ياسين في سرور لم يفلح في مداراته: ألم تروا صورته مع الوزير في أهرام أمس؟ بتنا لا ندري كيف نكلمه! ..
فأشار إبراهيم شوكت إلى عبد المنعم وأحمد قائلا: هذان الولدان خائبان، ضيعا عمرهما في مناقشات حادة لا معنى لها، وكان خير من عرفا من رجالات البلد الشيخ علي المنوفي ناظر مدرسة الحسين الأولية، وسخام البرك عدلي كريم صاحب مجلة الضوء أو الهباب لا أدري ..
Shafi da ba'a sani ba