ونقول نحن أولا: إن الشعر هو كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة. ومعنى كونها موزونة أن يكون لها عدد إيقاعى. ومعنى كونها متساوية هو أن يكون كل قول منها مؤلفا من أقوال إيقاعية، فان عدد زمانه مساو لعدد زمان الآخر. ومعنى كونها مقفاة هو أن يكون الحرف الذى يختم به كل قول منها واحدا. ولا نظر للمنطقى فى شىء من ذلك إلا فى كونه كلاما مخيلا: فان الوزن ينظر فيه: أما بالتحقيق والكلية فصاحب علم الموسيقى، وأما بالتجزئة وبحسب المستعمل عند أمة أمة فصاحب علم العروض. والتقفية ينظر فيها صاحب علم القوافى. وإنما ينظر المنطقى فى الشعر من حيث هو مخيل. والمخيل هو الكلام الذى تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالا نفسانيا غير فكرى، سواء كان المقول مصدقا به أو غير مصدق. فان كونه مصدقا به غير كونه مخيلا أو غير مخيل: فانه قد يصدق بقول من الأقوال ولا ينفعل عنه؛ فان قيل مرة أخرى وعلى هيئة أخرى انفعلت النفس عنه طاعة للتخييل لا للتصديق. فكثيرا ما يؤثر الانفعال ولا يحدث تصديقا، وربما كان المتيقن كذبه مخيلا.
وإذا كانت محاكاة الشىء بغيره تحرك النفس وهو كاذب، فلا عجب أن تكون صفة الشىء على ما هو عليه تحرك النفس وهو صادق، بل ذلك أوجب. لكن الناس أطوع للتخييل منهم للتصديق، وكثير منهم إذا سمع التصديقات استكرهها وهرب منها. وللمحاكاة شىء من التعجيب ليس للصدق، لأن الصدق المشهور كالمفروغ منه ولا طراءة له، والصدق المجهول غير ملتفت إليه. والقول الصادق إذا حرف عن العادة وألحق به شىء تستأنس به النفس، فربما أفاد التصديق والتخييل معا، وربما شغل التخييل عن الالتفات إلى التصديق والشعور به. والتخيل إذعان، والتصديق إذعان، لكن التخيل إذعان للتعجب والالتذاذ بنفس القول، والتصديق إذعان لقبول أن الشىء على ما قيل فيه. فالتخييل يفعله القول لما هو عليه، والتصديق يفعله القول بما المقول فيه عليه، أى يلتفت فيه إلى جانب حال المقول فيه.
Shafi 162