بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين، وعليه أتوكل
الفن التاسع من الجملة الأولى من كتاب «الشفاء» لأبى على حسين بن عبد الله بن سينا البخارى
فصل فى الشعر مطلقا وأصناف الصيغ الشعرية، وأصناف الأشعار اليونانية
Shafi 161
ونقول نحن أولا: إن الشعر هو كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة. ومعنى كونها موزونة أن يكون لها عدد إيقاعى. ومعنى كونها متساوية هو أن يكون كل قول منها مؤلفا من أقوال إيقاعية، فان عدد زمانه مساو لعدد زمان الآخر. ومعنى كونها مقفاة هو أن يكون الحرف الذى يختم به كل قول منها واحدا. ولا نظر للمنطقى فى شىء من ذلك إلا فى كونه كلاما مخيلا: فان الوزن ينظر فيه: أما بالتحقيق والكلية فصاحب علم الموسيقى، وأما بالتجزئة وبحسب المستعمل عند أمة أمة فصاحب علم العروض. والتقفية ينظر فيها صاحب علم القوافى. وإنما ينظر المنطقى فى الشعر من حيث هو مخيل. والمخيل هو الكلام الذى تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالا نفسانيا غير فكرى، سواء كان المقول مصدقا به أو غير مصدق. فان كونه مصدقا به غير كونه مخيلا أو غير مخيل: فانه قد يصدق بقول من الأقوال ولا ينفعل عنه؛ فان قيل مرة أخرى وعلى هيئة أخرى انفعلت النفس عنه طاعة للتخييل لا للتصديق. فكثيرا ما يؤثر الانفعال ولا يحدث تصديقا، وربما كان المتيقن كذبه مخيلا.
وإذا كانت محاكاة الشىء بغيره تحرك النفس وهو كاذب، فلا عجب أن تكون صفة الشىء على ما هو عليه تحرك النفس وهو صادق، بل ذلك أوجب. لكن الناس أطوع للتخييل منهم للتصديق، وكثير منهم إذا سمع التصديقات استكرهها وهرب منها. وللمحاكاة شىء من التعجيب ليس للصدق، لأن الصدق المشهور كالمفروغ منه ولا طراءة له، والصدق المجهول غير ملتفت إليه. والقول الصادق إذا حرف عن العادة وألحق به شىء تستأنس به النفس، فربما أفاد التصديق والتخييل معا، وربما شغل التخييل عن الالتفات إلى التصديق والشعور به. والتخيل إذعان، والتصديق إذعان، لكن التخيل إذعان للتعجب والالتذاذ بنفس القول، والتصديق إذعان لقبول أن الشىء على ما قيل فيه. فالتخييل يفعله القول لما هو عليه، والتصديق يفعله القول بما المقول فيه عليه، أى يلتفت فيه إلى جانب حال المقول فيه.
Shafi 162
والشعر قد يقال للتعجيب وحده، وقد يقال للأغراض المدنية. وعلى ذلك كانت الأشعار اليونانية. والأغراض المدنية هى فى أحد أجناس الأمور الثلاثة، أعنى: المشورية والمشاجرية والمنافرية. وتشترك الخطابة والشعر فى ذلك، لكن الخطابة تستعمل التصديق، والشعر يستعمل التخييل. والتصديقات المظنونة محصورة متناهية يمكن أن توضع أنواعا ومواضع. وأما التخييلات والمحاكيات فلا تحصر ولا تحد. وكيف، والمحصور هو المشهور أو القريب! والقريب والمشهور غير كل ذلك المستحسن فى الشعر، بل المستحسن فيه المخترع المبتدع.
والأمور التى تجعل القول مخيلا: منها أمور تتعلق بزمان القول وعدد زمانه، وهو الوزن؛ ومنها أمور تتعلق بالمسموع من القول؛ ومنها أمور تتعلق بالمفهوم من القول؛ ومنها أمور تتردد بين المسموع والمفهوم. — وكل واحد من المعجب بالمسموع أو المفهوم على وجهين: لأنه إما أن يكون من غير حيلة بل يكون نفس اللفظ فصيحا من غير صنعة فيه، أو يكون نفس المعنى غريبا من غير صنعة إلا غرابة المحاكاة والتخييل الذى فيه. وإما أن يكون التعجب منه صادرا عن حيلة فى اللفظ أو المعنى: إما بحسب البساطة أو بحسب التركيب. والحيلة التركيبية فى اللفظ مثل التسجيع ومشاكلة الوزن والترصيع والقلب وأشياء قيلت فى «الخطابة». وكل حيلة فإنما تحدث بنسبة ما بين الأجزاء: إما بمشاكلة، وإما بمخالفة. والمشاكلة إما تامة، وإما ناقصة؛ وكذلك المخالفة: إما تامة، وإما ناقصة. وجميع ذلك إما بحسب اللفظ، وإما بحسب المعنى. والذى بحسب اللفظ: فاما فى الألفاظ الناقصة الدلالات، أو العديمة الدلالات كالأدوات والروف التى هى مقاطع القول؛ وإما فى الألفاظ الدالة البسيطة؛ وإما فى الألفاظ المركبة. والذى بحسب المعنى. فاما أن يكون بحسب بسائط المعانى، وإما أن يكون بحسب مركبات المعانى.
ولنبدأ من القسم الأول، فنقول : إن من الصيغات التى بحسب القسم الأول تشابه أواخر المقاطع وأوائلها. والنظام المسمى المرصع كقوله:
فلا حسمت من بعد فقدانه الظبى
ولا كلمت من بعد هجرانه السمر
Shafi 163
ومنها تداخل الأدوات ومخالفتها وتشاكلها: «من» و«إلى» من باب المتخالفات، و«من» و«عن» من باب المتشاكلات.
وأما الصيغات التى بحسب القسم الثانى فالتى بالمشاكلة التامة: فهى أن يتكرر فى البيت ألفاظ متفقة التصريف متخالفة الجوهر، أو متفقة الجوهر متخالفة التصريف. والتى بالمشاكلة الناقصة فأن تكون متقاربة الجوهر، أو متقاربة الجوهر والتصريف: ومثال الأول: العين والغين، ومثال الثانى: الشمل والشمال، ومثال الثالث والرابع: الفاره والهارف، أو العظيم والعليم، والصابح والسابح، أو السهاد والسها. — وهذا هو التشاكل الذى فى اللفظ بحسب ما هو لفظ. وقد يكون ذلك فى اللفظ بحسب المعنى، وهو أن يكون لفظان اشتهرا مترادفين وأحدهما مقولا على مناسب الآخر أو مجانسه واستعمل على غير تلك الجهة، كالكوكب والنجم ويراد به النبت، أو السهم والقوس يراد به الأثر العلوى. — وأما الذى بحسب المخالفة فاذ ليس لفظ من الألفاظ بمخالف للفظ بجهة لفظيته، فاذن إن خالف فمعناه ما يخالف وهو المعنى الذى يكون اشتهر له. فتكون الصيغة التى على هذا السبيل فى ألفاظ أو لفظين يقع أحدهما على شىء، والآخر على ضده أو ما يظن به أنه ضده وينافيه، أو ما يشاكل ضده أو يناسبه ويتصل به، وقد استعمل على غير تلك الجهة، كالسواد التى هى القرى، والبياض والرحمة وجهنم وما جرى مجراه.
وأما الصيغات التى بحسب القسم الثالث فالذى منه بالمشاكلة فأن يكون لفظ مركب من أجزاء ذوات التصريف فى الانفراد وتجتمع منها جملة ذات ترتيب فى التركيب ويقارنه مثله، أو يكون التركيب من ألفاظ لها إحدى الصيغات التى فى البسيطة ويقارنه مثله. — والذى بحسب المخالفة فالذى يكون فيه مخالفة ترتيب الأجزاء بين جملتى قولين مركبين: إما فى أجزاء مشتركة فيهما، أو أجزاء غير مشتركة فيهما.
Shafi 164
وأما الصيغات التى بحسب القسم الرابع: أما الذى بحسب المشا كلة التامة فأن يتكرر فى البيت معنى واحد باستعمالات مختلفة؛ وأما الذى بحسب المشاكلة الناقصة فأن يكون هناك معان مفردة متضادة أو متناسبة، كمعنى القوس والسهم، ومعنى الأب والابن. وقد يكون التناسب بتشابه فى النسبة، وقد يكون بجهة الاستعمال، وقد يكون باشتراك فى الحمل، وقد يكون باشتراك فى الاسم. مثال الأول: الملك والعقل. مثال الثانى: القوس والسهم. مثال الثالث: الطول والعرض. مثال الرابع: الشمس والمطر.
وربما صرح بسبب المشاكلة، وربما لم يصرح. وإذا صرح فربما كان بحسب لأمر فى نفسه، وربما كان بحسب الوضع. والمخالفة إما تامة فى الأضداد وما جرى مجراها، وإما ناقصة وهى بين شىء ونظير ضده أو مناسب ضده، أو بين نظيرى ضدين أو مناسبيهما. وربما كانت المخالفة بسبب يذكر، وربما كانت فى نفس الأمر.
وأما الذى بحسب القسم الخامس: فأما فى المشاكلة فأن يكون معنى مركب من معان وآخر غيره يتشاكل ترتيبهما أو يشتر كان فى الأجزاء. وأما الذى بالمخالفة فأن يتخالفا فى التركيب أو الترتيب بعد الشركة فى الأجزاء، أو بلا شركة فى الأجزاء: ويدخل فى هذه القسمة كقولهم: إما كذا كذا، وإما كذا كذا. والجمع والتفريق كقولهم: أنت وفلان بحر، لكن أنت للغمارة، وذاك للزعاقة. وجمع الجملة لتفصيل البيان كقولهم «يرجى»، «ويتقى»:
يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق
فهذه هى الصيغات الشعرية على سبيل الاختصار.
واليونانيون كانت لهم أغراض محدودة يقولون فيها الشعر، وكانوا يخصون كل غرض بوزن على حدة. وكانوا يسمون كل وزن باسم على حدة:
Shafi 165
فمن ذلك نوع من الشعر يسمى طراغوذيا، له وزن لذيذ ظريف، يتضمن ذكر الخير والأخيار والمناقب الانسانية — ثم يضاف جميع ذلك إلى رئيس يراد مدحه. وكانت الملوك فيهم يغنى بين أيديهم بهذا الوزن. وربما زادوا فيه نغمات عند موت الملوك للنياحة والمرثية.
ومنه نوع يسمى ديثرمبى، وهو مثل طراغوذيا، ما خلا أنه لا يخص به مدحة إنسان واحد أو أمة معينة، بل الأخيار على الاطلاق.
ومنه نوع يسمى قوموذيا وهو نوع يذكر فيه الشرور والرذائل والأهاجى وربما زادوا فيه نغمات لتذكر القبائح التى تشترك فيها الناس وسائر الحيوانات.
ومنه نوع يسمى إيامبو، وهم نوع تذكر فيه المشهورات والأمثال المتعارفة فى كل فن. وكان مشتركا للجدال وذكر الحروب والحث عليها والغضب والضجر.
ومنه نوع يسمى دراماطا، وهو نوع مثل إيامبو، إلا أ نه يراد به إنسان مخصوص، أو ناس معلومون.
ومنه نوع يسمى ديقرامى وهو نوع كان يستعمله أصحاب النواميس فى تهويل المعاد على النفوس الشريرة.
ومنه نوع يسمى اىى، وهو نوع مفرد يتضمن الأقاويل المطربة لجودتها وغرابتها.
ومنه نوع يسمى افيقى ريطوريقى، وهو نوع كان يستعمل فى السياسة والنواميس وأخبار الملوك.
Shafi 166
ومنه نوع يسمى ساطورى، وهو نوع أحدثه الموسيقاريون خاصة فى إيقاعه والتلحين المقرون به. وزعم أنه يحدث فى الحيوان حركات خارجة عن العادة.
ومنه نوع يسمى فيوموتا، وكان يذكر فيه الشعر الجيد والردىء، ويشبه كل بما يجانسه.
ومنه نوع يسمى ايفيجانا ساوس وأحدثه انبدقلس، وحكم فيه على العلم الطبيعى وغيره.
ومنه نوع يسمى أوقوستقى، وهو نوع تلقن به صناعة الموسيقى، لا نفع له فى غيره.
فصل فى أصناف الأغراض الكلية والمحاكيات الكلية التى للشعر
والآن، فانانعبر عن القدر الذى أمكننا فهمه من التعليم الأول، إذ أكثر ما فيه افتصاص أشعار ورسوم كانت خاصة بهم، ومتعارفة بينهم يغنيهم تعارفهم إياها عن شرحها وبسطها. وكان لهم — كما أخبرنا به — أنواع معدودة للشعر فى أغراض محدودة، ويخص كل غرض وزن.
وكانت لهم عادات فى كل نوع خاصة بهم كما للعرب من عادة ذكر الديار والغزل وذكر الفيافى وغير ذلك؛ فيجب أن يكون هذا معلوما مفروضا. فنقول:
Shafi 167
قال: أما الكلام فى الشعر وأنواع الشعر وخاصة كل واحد منها ووجه إجادة قرض الأمثال والخرافات الشعرية، وهى الأقاويل المخيلة، وإبانة أجزاء كل نوع بكميته وكيفية — فسنقول فيه إن كل مثل وخرافة فاما أن يكون على سبيل تشبيه بآخر؛ وإما على سبيل أخذ الشىء نفسه لا على ما هو عليه، بل على سبيل التبديل، وهو الاستعارة أو المجاز؛ وإما على سبيل التركيب منهما. فان المحاكاة كشىء طبيعى للإنسان، والمحاكاة هى إيراد مثل الشىء وليس هو هو، فذلك كما يحاكى الحيوان الطبيعى بصورة هى فى الظاهر كالطبيعى. ولذلك يتشبه بعض الناس فى أحواله ببعض ويحاكى بعضهم بعضا ويحاكون غيرهم. فمن ذلك ما يصدر عن صناعة، ومن ذلك ما يتبع العادة، وأيضا من ذلك ما يكون بفعال، ومن ذلك ما يكون بقول.
والشعر من جملة ما يخيل ويحاكى بأشياء ثلاثة: باللحن الذى يتنغم به، فان اللحن يؤثر فى النفس تأثيرا لا يرتاب به، ولكل غرض لحن يليق به بحسب جزالته أو لينه أو توسطه، وبذلك التأثير تصير النفس محاكية فى نفسها لحزن أو غضب أو غير ذلك. وبالكلام نفسه، إذا كان مخيلا محاكيا. وبالوزن، فان من الأوزان ما يطيش ومنها ما يوقر. وربما اجتمعت هذه كلها؛ وربما انفرد الوزن والكلام المخيل: فإن هذه الأشياء قد يفترق بعضها من بعض، وذلك أن اللحن المركب من نغم متفقة، ومن ايقاع قد يوجد فى المعازف والمزاهر. واللحن المفرد الذى لا إيقاع فيه قد يوجد فى المزامير المرسلة التى لا توقع عليها الأصابع إذا سويت مناسبة. والايقاع الذى لا لحن فيه قد يوجد فى الرقص، ولذلك فان الرقص يتشكل جيدا بمقارنة اللحن إياه جتى يؤثر فى النفس.
Shafi 168
وقد تكون أقاويل منثورة مخيلة، وقد تكون أوزان غير مخيلة لأنها ساذجة بلاقول. وإنما يوجد الشعر بأن يجتمع فيه القول المخيل والوزن. فإن الأقاويل الموزونة التى عملها عدة من الفلاسفة، ومنهم سقراط، قد وزن إما بوزن 〈إيلا〉 جيا الثالث المؤلف من أربعة عشر رجلا، وإما بوزن 〈التروكى الربعى〉 المؤلف من ستة عشر رجلا، وغير ذلك. وكذلك التى ليست بالحقيقة أشعارا، ولكن أقوالا تشبة الأشعار، وكالكلام الذى وزنه أنبدقليس وجعله فى الطبيعيات، فان ذلك ليس فيه من الشعر إلا الوزن. ولا مشاركة بين أنبدقليس وبين أوميرس إلا فى الوزن. وأما ماوقع عليه الوزن من كلام أنبدقليس فأمور طبيعية، وما يقع عليه الوزن من كلام أوميرس فأقوال شعرية. فلذلك ليس كلام أنبدقليس شعرا. وكذلك أيضا من نظم كلاما ليس من وزن واحد، بل كل جزء منه ذو وزن آخر فليس ذلك شعرا. ومن الناس من يقول ويغنى به بلحن ذى إيقاع.
وعلى هذا كان شعرهم المسمى ديثورمبى، وأظنه ضربا من الشعر كان يمدح به لا إنسان بعينه أو طائفة بعينها، بل الأخيار على لاطلاق، وكان يؤلف من أربعة وعشرين رجلا وهى المقاطع.
وكذلك كان شعرهم الذى يستعملة أصحاب السنن فى تهويل المعاد على النفس الشريرة، وأظنه الذى يسمى ديقرامى.
وكذلك كان يعمل بطراغوذيا وهو المديح الذى يقصد به إنسان حى أو ميت، وكنوا يفنون به غناء فحلا، وكانوا يبتدئون فيذ كرون فيه الفضائل والمحاسن ثم ينسبونها إلى واحد. فإن كان ميتا زادوا فى طول البيت أو فى لحنه نغمات تدل على أنها مرثية ونياحة.
وأما قوموذيا وهو ضرب من الشعر يهجى به هجاء مخلوطا بطنز وسخرية، ويقصد به إنسان، وهو يخالف طراغوذيا، بسبب أن طراغوذيا يحسن أن يجمع أسباب المحاكاة كلها فيه من اللحن والنظم، وقموذيا لا يحسن فيه التلحين، لأن الطنز لا يلائم اللحن.
Shafi 169
وكل محاكاة فاما أن يقصد به التحسين، وإما أن يقصد به التقبيح، فان الشىء إنما يحاكى ليحسن أو يقبح. والشعر اليونانى إنما كان يقصد فيه فى أكثر الأمر محاكاة الأفعال والأحوال لا غير، وأما الذوات فلم يكونوا يشتغلون بمحاكاتها أصلا كاشتغال العرب، فان العرب كانت تقول الشعر لوجهين: أحدهما ليؤثر فى النفس أمرا من الأمور تعد به نحو فعل أو انفعال؛ والثانى للعجب فةط، فكانت تشبه كل شىء لتعجب بحسن التشبيه. وأما اليونانيون فكانوا يقصدون أن يحثوا بالقول على فعل أو يردعوا بالقول عن فعل. وتارةٔ كانوا يفعلون ذلك على سبيل الخطابة، وتارة على سبيل الشعر. فلذلك كانت المحاكاة الشعرية عندهم مقصورة على الأفاعيل والأحوال والذوات من حيث لها تلك الأفاعيل والأحوال. وكل فعل إما قبيح، وإما جميل. ولما اعتادوا محاكاة الأفعال انتقل بعضهم إلى محاكاتها للتشبيه الصرف، لا لتحسين وتقبيح. وكل تشبيه ومحاكاة كان معدا عندهم نحو التقبيح أو لتحسين، وبالحملة المدح أوالذم . وكانوا يفعلون فعل المصورين، فان المصورين يصورون الملك بصورة حسنة، ويصورون الشيطان بصورة قبيحة. وكذلك من حاول من المصورين أن يصور الأحوال كما يصور أصحاب مانى حال الغضب والرحمة: فانهم يصورون الغضب بصورة قبيحة، والرحمة بصورة حسنة. وقد كان من الشعراء اليونانيين من يقصد التشبيه للفعل وإن لم يخيل منه قبحا وحسنا، بل المطابقة فقط.
فظاهر أن فصول التشبيه هذه الثلاثة: التحسين، والتقبيح، والمطابقة، وأن ذلك ليس فى الألحان الساذجة، والأوزان الساذجة، ولا فى الايقاع الساذج بل فى الكلام.
Shafi 170
والمطابقة فصل ثالث يمكن أن يمال بها إلى قبح وأن يمال بها إلى حسن، فكأنها محاكاة معدة، مثل من شبه شوق النفس الفضبية بوثب الأسد، فان هذه مطابقة يمكن أن يمال إلى الجانبين: فيقال توثب الأسد الظالم، أو توثب الأسد المقدام فالأول يكون مهيئا نحو الذم، والثانى يكون مهيئا نحو المدح. فالمطابقة تستحيل إلى تحسين وتقبيح بتضمن شىء زائد، وهذا نمط أوميرس. فأما إذا تركت على حالها ومثالها، كانت مطابقة فقط. وكل هذه المحاكيات الثلاث إنما هى على الوجوه الثلاثة المذكورة سالفا. فكان بعض الشعراء اليونانيين يشبهون فقط، وبعضهم كاوميرس يحاكى الفضائل فى أكثر الأمر فقط، وبعضهم يحاكى كليهما: أعنى الفضائل والقبائح.
ثم ذكر عادات كانت لهم فى ذلك.
فهذه هى فصول المحاكاة، ومن جهة ما يقصد بالمحاكاة: وأما المحاكيات فثلاثة: تشبيه، واستعارة، وتركيب. وأما الأغراض فثلاثة: تحسين، وتقبيح ومطابقة.
فصل فى الاخبار عن كيفية ابتداء نشأ الشعر وأصنافه
إن السبب المولد للشعر فى قوة الانسان، شيئان: أحدهما الالتذاذ بالمحاكاة واستعمالها منذ الصبا، وبها يفارقون الحيوانات العجم من جهة أن الانسان أقوى على المحاكاة من سائر الحيوانات، فان بعضها لا محاكاة فيه أصلا، وبعضها فيه محاكاة يسيرة: إما بالنغم كالببغاء، وإما بالشمائل كالقرد.
Shafi 171
وللمحاكاة التى فى الانسان فائدة، وذلك فى الاشارة التى تحاكى بها المعانى فتقوم مقام التعليم فتقع موقع سائر الأمور المتقدمة على التعليم، وحتى إن الاشارة إذا اقترنت بالعبارة أوقعت المعنى فى النفس إيقاعا جليا، وذلك الأن النفس تنبسط وتلتذ بالمحاكاة فيكون ذلك سببا لأن يقع عندها الأمر أفضل موقع. والدليل على فرحهم بالمحاكاة أنهم يسرون بتأمل الصور المنقوشة للحيوانات الكريهة والمتقذر منها، ولو شاهدوها أنفسها لتنكبوا عنها، فيكون المفرح ليس نفس تلك الصورة ولا المنقوش، بل كونه محاكاة لغيرها إذا كانت أتقنت.
ولهذا السبب ما صار التعليم لذيذا، لا إلى الفلاسفة فقط، بل إلى الجمهور، لما فى التعليم من المحاكاة، لأن التعليم تصوير ما للأمر فى رقعة النفس. ولهذا ما يكثر سرور الناس بالصور المنقوشة بعد أن يكونوا قد أحسوا الخلق التى هى أمثالها، فان لم يحسوها قبل لم تتم لذتهم، بل إنما يلتذون حيذئذ قريبا مما يلتذون من نفس [كيفية] النقش فى كيفيته ووضعه وما يجرى محراه. والسبب الثانى حب الناس للتأليف المتفق والألحان طبعا؛ ثم قد وجدت الأوزان مناسبة للألحان، فمالت إليها الأنفس وأوجدتها.
فمن هاتين العلتين تولدت الشعرية، وجعلت تنمو يسيرا يسيرا تابعة للطباع. وأكثر تولدها عن المطبوعين الذين يرتجلون الشعر طبعا. وانبعشت الشعرية منهم بحسب غريزة كل واحد منهم وقريحته فى خاصته وبحسب خلقه وعادته، فمن كان منهم أعف مال إلى المحاكاة بالأفعال الجميلة وبما شاكلها، ومن كان منهم أخس نفسا مال إلى الهجاء. وذلك حين هجوا الأشرار. ثم كانوا إذا هجوا الأشرار بانفرادهم يصيرون إلى ذكر المحاسن والممادح لتصير الرذائل بازائها أقبع. فان من قال إن الفجور رذالة، ووقف عليه، لم يكن تأثير ذلك فى النفس تأثيره لو قال: كما أن العفة جلالة وحسن حال.
قال: إلا أنه ليس لنا أن نسلم ذكر الفضائل فى الشعر لأحد قبل أوميرس وقبل أن بسط هو الكلام فى ذكر الفضائل؛ ولا ننكر أن يكون آخرون قد قرضوا الشعر بالفضائل، ولكن أوميرس هو الأول والمبدأ.
ومثال أشعار المتقدمين من الهجاء قول بعضهم ما ترجمته: إن لهذاك شبقا وفسقا وانتشار حال — وما يجرى مجرى ذلك مما يقال فى الأشعار المروفة؛ ب«يامبو»، وهى وزن يخص بالمجادلات والمطانزات والاضجارات من غير أن يقصد به إنسان بعينه، وهو وزن ذو اثنى عشر رجلا، وكان يستعمله شعراء «ديلاذا» و«فاروديا».
Shafi 172
ثم إن أوميرس وإن كان أول من قال طراغوذيا قولا يعتد به وبسط الكلام فى الفضائل؛ فقد نهج أيضا سبيل قول دار مطرايانات وهى فى معنى إيامبو، إلا أنه مقصود به إنسان بعينه أو عدة من الناس بأعيانهم. ونسبة هذا النوع إلى قوموذيا نسبه «أودوسيا» إلى طراغوذيا؛ يعنى أن كل واحد منهما أعم من نظيره وأقدم، والثانيان أشد تفصيلا وأبطأ زمانا؛ وإنما تولدا بعد ذلك.
ويذكر بعد هذا ما يدل عليه من كيفية الانتقال، بحسب تأريخاتهم التى كانت لها، من نوع إلى نوع إلى أن تفصل طراغوذيا وقوموذيا واستفادا الرونق التام. فان طراغوذيا نشأ من ديثورمبو القديمة. وأما قوموذيا فنشأ من الأشعار الهجائية السخيفة المنشأة عند الأماثل الباقية — قال — إلى الآن فى الرساتيق الخسيسة.
ثم لما نشأ الطراغوذيا لم تترك حتى أكملت بتغيرات وزيادات كانت تليق بطباعها، ثم أضيف اليها الأخذ بالوجوه، واستعملها الشعراء الذين بخلطون الكلام بالأخذ بالوجوه، حتى صار الشىء الواحد يفهم من وجهين: أحدهما من حيث اللفظ، والآخر من حيث هيئة المنشد.
ثم جاء أسخيلوس القديم فخلط ذلك بالألحان، فوقع للطراغوذيات ألحانا بقيت عند المغنين والترقاصين. وهو الذى رسم المجاحدة بالشعر، يعنى المجاوبة والمناقضة، كما قيل فى «الخطابة».
وسوفوقليس وضع الألحان التى يلعب بها فى المحافل على سبيل الهزل والتطانز، وكان ذلك قليلا يسيرا فيما سلف.
ثم إنه نشأ من عمل ساطورى من بعد؛ وساطورى من رباعيات إياهبو. ثم استعمل ساطورى فى غير الهزل، ونقل إلى الجد وذكر العفة.
Shafi 173
وأظن أنا أن الرباعيات هى الأوزان القصيرة التى يكون كل بيت فيها من أربع قواعد، وكل مصراع من قاعدتين. وليس يجب أن يصغى إلى الترجمة التى دلت على أن الرباعيات هى التى تضاعف الوزن فيها أربع مرار، بل الترجمة الصحيحة ما يخالف ذلك، فان ذلك النقل يدل على أن هذه الرباعية قديمة وتشبه الرقص المسى ساطوريقا. والأقدم من الأشعار هو الأقصر والأنقص، والمستعمل للرقس هو الأخف. — قال: وإنما سمى هذا النوع ساطورى لأن الطباع صادفته ملائما للرقص المسمى ساطوريقا. وكأن الطباع تسوق إلى هذا النوع من القول ذلك النوع من الوزن، وخصوصا حينما كانت الأجزاء تشغل بوزن، وهذا هو أن تلحن فيكون فى كل جزء من أجزاء البيت الموزون وزن تلحينى.
قل: والدليل على أن ذلك طبيعى أن الناس، عند المجادلات والمنازعات، ربما ارتجلوا شيئا منها طبعا ارتجالا لمبلغ مصراع منه وهى ستة أرجل؛ فأما تمام الوزن فعلى ما تذبعث اليه القريحة بتمامها.
وإنما يقع المتنازعون فى ذلك إذا انحرفوا فى المنازعات عن الطريق الملائم للمفاوضة، أو مالوا عنها إلى محبة للتفخيم والزينة، فان العدول عن المبتذل إلى الكلام العالى الطبقة والتى تقع فيها أجزاء هى نكت نادرة — هو فى الأكثر يسبب التزيين، لا بسبب التبيين. ولا يشك فى أن الناس تعبوا تعبا شديدا حتى بلغوا غايات التزيين فى واحد واحد من أنواع الكلام.
Shafi 174
والقوموذيا يراد بها المحاكاة التى هى شديدة الترذيل، وليس بكل ما هو شر، ولكن بالجنس من الشر الذى يستفحش، ويكون المقصود به الاستهزاء والاستخفاف. وكان قوموذيا نوعا من الاستهزاء، والهزل هو حكاية صغار واستعداد سماجة من غير غضب يقترن به، ومن غير ألم بدنى يحل بالمحاكى. وأنت ترى ذلك فى هيئة وجه المسخرة عند ما يغير سحنته ليطنز به من اجتماع ثلاثة أوصاف فيها: القبح الأنه يحتاج إلى تغير عن الهيئة الطبيعية إلى سماجة؛ والنكد لأنه يقصد فيه قصد المجاهرة بما يغم عن اعتقاد قلة مبالاة به وعن إظهار إصرار عليه، ولذلك فى وجه النكد هيئة يحتاج اليها المستهزىٔ. والثالث: الخلو عن الدلالة على غم، لا كما فى الغضب، فان الغضب سحنته مركبة من سحنة موقع متأذ ومغموم جميعا؛ وأما المستهزىء فسحنته سحنة المنبسط والفرح دون المنقبض والمغتم أو المتأذى.
قال: فأما مبدأ الأمر فى حدوث طراغوذيا وآخره فأمر مشهور لا يحوج إلى شرح.
وأما قوموذيا فلما لم يكن من الأمور التى يجب أن يعتنى بها أهل العناية وأهل الفضل والرواية، فقد وقع الجهل بنشأه ونسى مبدؤه وكيفية تولده. وذلك أن المغنين لما أذن لهم ملك أسوس أن يستعملوا القوموذيا بعد تحريمه إياه عليهم، كانوا يستعملون شيئا يخترعونه بارادتهم مما ليس له قانون شعرى صحيح ولم يكون بجنبتهم والقرب منهم من يستمد منه أشكال الأقوال الشعرية حتى كانوا يصادفون شعرا ويكسبونه غناء وايقاعا فكانوا يقتصرون على بعض الوجوه الموزونة من الأقاويل القديمة أو من جهة الاستعانة بصناعة الأخذ بالوجوه. فكان أمثال هؤلاء لا يتحققون المعرفة بالقوموذيا فى وقتهم، فكيف يكون حالهم فى تحقيق نسبة قوموذيا إلى من سبقهم!
فصل فى مناسبة مقادير الأبيات مع الأغراض، وخصوصا فى طراغوذيا وبيان أجزاء طراغوذيا
إن إجادة الخرافات هى تقفيتها بالبسط دون الايجاز، فذلك يتم أكثره فى الأعاريض الطويلة، فان قوما من الآخرين لما تسلطوا على بلد من بلادهم وأرادوا أن يتداركوا الأشعار القصار القديمة ردوها إلى الطول وتبسطوا فى إيراد الأمثال والخرافات. ولذلك رفضوا إيامبو لقصره.
Shafi 175
وأما وزن أفى، وهو أيضا إلى القصر، فانه من ستة عشر رجلا، فشبهوه بطراغوذيا، وزادوه طولا — وهو نوع من الشعر تذكر فيه الأقاويل المطربة المفرحة لجودتها وغرابتها وندرتها؛ وربما استعملت المشوريات والعظات. وينبغى أن يكون الوزن بسيطا، أى من إيقاع بسيط، فان ذلك أوقع من الذى يكون من إيقاع مركب. ولتكن الأوزان البسيطة موقتة توقيتات مختلفة لكل شىء بحسبه. وأما ما سوى هذين الوزنين فيكاد بعض الناس يجوز مد الوزن فى الطوال ما تسعه مدة يوم واحد، لكن أفى مع ذلك لم يحدد قدره فى تكثيره إلى قدر لا يجاوز، ولذلك اختلف عندهم.
قال: ولكنه وإن كان قد زيد الشعر هذه الزيادة فى آخر الزمان، فقد كانت الطراغوذيات فى القديم على المثال المذكور، وكذلك القول فى أفى.
وأما أجزاء أفى وطراغوذيا فقد كان بعضها المشتركة بينها، وبعضها ما يخص الطراغوذيات. فانه ليس كل ما يصلح لطراغوذيا يصلح لأفى.
وأما السداسيات والقوموذيات فيؤخر القول فيها. فان امديح وما يحاكى به الفضائل أولى بالتقديم من الهجاء ولاستهزاء.
ولنحد الطراغوذية فنقول: ان الطراغوذية هى محاكاة فعل كامل الفضيلة على المرتبة، بقول ملائم جدا، لا يختص بفضيلة فضيلة جزئية، تؤثر فى الجزئيات لا من جهة الملكة، بل من جهة الفعل — محاكاة تنفعل لها الأنفس برحمة وتقوى. وهذا الحد قد بين فيه أمر طراغوذيا بيانا يدل على أنه يذكر فيه الفضائل الرفيعة كلها بكلام موزون لذيذ، على جهة تميل الأنفس إلى الرقة والتقية. وتكون محاكاتها للأفعال، الأن الفضائل والملكات بعيدة عن التخيل وإنما المشهور من أمرها أفعالها. فيكون طراغوذيا يقصد فيه لأجل هذه الأفعال أن يكمل أيضا بايقاع آخر والتفاق نغم ليتم به اللحن. ويجعل له من هذه الجهة إيقاع زائد على أنواع أوزانه فى نفسه. وقد يعملون عند إنشاء طراغوذيا باللحن أمورا أخرى من الاشارات والأخذ بالوجوه تتم بها المحاكاة.
Shafi 176
فأول أجزاء طراغوذيا هو المقصود من المعانى المتخيلة والوجيهة ذات الرونق. ثم يبنى عليها اللحن والقول. فانهم إنما يحاكون باجتماع هذه. ومعنى القول: اللفظ الموزون. وأما معنى اللحن فالقوة التى تظهر بها كيفية ما للشعر كله من المعنى. ومعنى القوة هو أن التلحين والغناء الملائم لكل غرض هو مبدأ تحريك النفس إلى جهة المعنى، فيحسن له معه التفطن، وتكون فيه هيئة دالة على القدرة، لأن التلحين فعل ما، ويتشبه به بالأفعال التى لها معان. إذ قلنا إن الحدة من النغم تلائم بعضا من الأحوال المستدرج اليها، والثقيل يلائم أخرى. وكذلك أجزاء الألحان تلائم أحوالا أحوالا، ويكون من الألحان فى أمور متحدث بها عند أناس ينشدون ويغنون على الهيئة التى يضطر أن يكون عليها صاحب ذلك الخلق وذلك الاعتقاد الذى يصدر عنه ذلك الفعل. فلذلك يقال إنه أنشد كأنه واحد ممن له ذلك فى نفسه، أو واحد شأنه أن يصير بتلك الحال. ونحو هيئات المحدث نحوان: نحو يدل على خلق، كمن يتكلم كلام غضوب بالطبع أو كلام حليم؛ ونحو يدل على الاعتقاد كمن يتكلم كلام متحقق، أو من يتكلم كلام مرتاب. وليس لهيئات الأداء قسم غير هذين. ويكون الكلام الخرافى الذى يعبر عنه المنشد محاكاة على هذه الوجوه.
والخرافة هو تركيب الأمور والأخلاق بحسب المعتاد للشعراء والموجود فيهم. ويكون كل مذشد هو كواحد من المظهرين عن اعتقادهم الجد: فانه وإن هزل حقا فينبغى أن يظهر جدا، ويظهر مع ذلك هيئة دقة فهم، فانه ليس هيئة من يعبر عن معنى معقول عبارة كالخبر المسرود — هو هيئة من يعبر عنه ويظهر أنه شديد الفهم فى وقوفه عليه والتحقيق لما يؤديه منه.
Shafi 177
وكما أن للخطابة على الاطلاق أجزاء، مثل الصدر والاقتصاص والتصديق والخاتمة — كذلك كان للقول الشعرى عندهم أجزاء. وأجزاء الطراغوذيا بالتامة عندهم ستة: الأقوال الشعرية والخرافية والمعانى التى جرت العادة بالحث عليها، والوزن، والحكم، والرأى بالدعاء إليه، والبحث والنظر، ثم اللحن. فأما الوزن، والخرافة، واللحن: فهى ثلاثة بها تقع المحاكاة. وأما العبارة والاعتقاد، والنظر فهو الذى يقصد محاكاته. فيكون الجزآن الأولان له: أحدهما ما يحاكى، والثانى ما يحاكى. ثم كل واحد منهما ثلاثة أقسام؛ ويكون المحاكى أحد هذه الثلاثة، والمحاكى به أحدتلك الثلاثة. والمحاليات: أما العادة الجميلة والرأى الصواب فأمر لابد منه. وأما النظر فهو كالاحتجاج والابانة لصواب كل واحد من العادة والخراقة؛ ويؤدى بالوزن واللحن، وكذلك الابانة لصواب الاعتقاد: تؤدى بالوزن واللحن.
وأعظم الأمور التى بها تتقوم طراغوذيا هذه. فان طراغوذيا ليس هو محاكاة للناس أنفسهم، بل لعاداتهم وأفعالهم وجهة حياتهم وسعادتهم. والكلام فيه فى الأفعال أكثر من الكلام فيه فى الأخلاق. وإذا ذكروا الأخلاق ذكروها للأفعال، فلذلك لم يذكروا الأخلاق فى الأقسام، بل ذكروا العادات التى تشتمل على الأفعال والأخلاق اشتمالا على ظاهر النظر. لأنه لو قيل: «الأخلاق»، لكان ذلك لا يتناول الأفعال. وذكر الأفعال ضرورى فى طراغوذياتهم؛ وذكر الأخلاق غير ضرورى فيه. فكثير من طراغوذيات كانت لهم يتداولها الصبيان فيما بينهم يذكر فيه الأفعال، ولا يفطن معها لأمر الأخلاق. وليص كل إنسان يشعر بأن الفضيلة هى الخلق، بل يظن أن الفضيلة هى الأفعال. وكثير من المصنفن فى الفضائل والشاعرين فيها لم يتعرضوا للأخلاق، بل إنما يتعرضون لما قلنا.
وإن كان التعرض للخرافات والعادات والمعاملات وغيرها وجمعها فى الطراغوذيات مما فد سبق إليه أولوهم وقصر عنه من تخلف ووقع فى زمان المعلم الأول، فكأن المتأخرين لم يكونوا يعملون بالحقيقة طراغوذيا، بل تركيبا ما من هذه الأشياء لا يؤدى إلى الهيئة الكاملة لطراغوذيا، فان المعمول فديما كانت فيها خرافات واقعة وكان ساثر ما تقوم به الطراغوذيا موجودا فيه، وكان يؤثر أثرا قويا فى النفس حتى كان يعزى المصابين ويسلى المغمومين.
Shafi 178
وأجزاء الخرافة جزآن: «الاشتمال» وهو الانتقال من ضد إلى ضد، وهو قريب من الذى يسمى فى زماننا «مطابقة»، ولكنه كان يستعمل فى طراغوذياتهم فى أن ينتقلوا من حالة غير جميلة إلى حالة جميلة بالتدريج، بأن تقبح الحالة الغير الجميلة وتحسن بعدها الجميلة — وهذا مثل الخلف والتوبيخ والتقرير.
واجزء الثنى: «الدلالة»، وهو أن يقصد الحالة الجميلة بالتحسين، لا من جهة تقبيح مقابلها.
وكان القدماء من شعرائهم على هذه أقدر منهم على الوزن واللحن، وكان المتأخرون على إجادة الوزن واللحن أقدر منهم على حسن التخييل بنوعى الخرافة. فالأصل والمبدأ هو الخرافة، ثم بعدها استعمالها فى العادات، على أن يقع مقاربا من الأمر حتى تحسن به المحاكاة، فان المحاكاة هى المفرحة. والدليل على ذلك أنك لا تفرح بانسان ولا عاند صنم يفرح بالصنم المعتاد وإن بلغ الغاية فى تصذيعه وتزيينه ما تفرح بصورة منقوشة محاكية. ولأجل ذلك أنشئت الأمثال والقصص.
والثالث من الأجزاء هو «الرأى»: فان الرأى أبعد من العادات فى التخييل، لأن التخييل معد نحو قبض النفس وبسطها، وذلك نحو ما يشتاق أن يفعل فى أكثر الأمر؛ وكأن الكلام الرأىى الحمود عندهم هو ما اقتدر فيه علع هحاكاة الرأى، وهو القول المطابق للموجود على أحسن ما يكون.
Shafi 179
وبالجملة، فان الأولين إنما كانوا يقررون الاعتقادات فى النفوس بالتخييل الشعرى. ثم نبغت الخطابة بعد ذلك فزاولوا تقرير الاعتقادات فى النفوس بالاقناع. وكلاهما متعلق بالقول. ويفارق القول فى الرأى القول فى العادة والخلق أن أحدهما يحث على إرادة، والآخر يحث على رأى أن شيئا موجود أو غير موجود، ولا يتعرض فيه للدعوة إلى إرادته أو الهرب منه. ثم لاتكون العادة والخلق متعلقين بأن شيئا موجود أو غير موجود، بل إذا ذكر الاعتقاد فى الأمر العادى ذكر ليطلب أو ليهرب منه. وأما الرأى فانما يبن الوجود أو اللاوجود فقط، أو على نحو.
والرابع: «المقابلة»، وهو أن يجعل للغرض المفسر وزنا يقول به، ويكون ذلك الوزن مناسبا إياه. وأن تكون التغيرات الجزئية بذلك الوزن تليق به: فرب شىء واحد يليق به الطى فى غرض، وفى عرض آخر يليق به التلصيق وهما فعلان يتعلقان بالايقاع يستعملهما.
وبعد الربعة: «التلحين»، وهو أعظم كل شىء وأشده تأثيرا فى النفس.
وأما «النظر والاحتجاج» فهو الذى يقرر فى النفس حال المقول ووجوب قبوله حتى يتسلى عن الغم وينفعل الانفعال المقصود بطراغوذيا. ولا يكون فيها صناعة، أى التصديق المذكور فى كتاب «الخطابة» فان ذلك غير مناصب للشعر. وليس طراغوذيا مبنيا على المحاورة والمناظرة، ولا على الأخذ بالوجوه. والصناعة أعلى درجة من درجات الشعر، فان الصناعة هى تفيد الآلات التى بها يقع التحسين والنافعات معها. والشعر يتصرف على تلك تصرفا ثانيا؛ والصانع الأقدم أرأس من الصانع الذى يخدمه ويتبعه.
واعلم أن أصول التخييلات مأخوذة من الخطابة على أنها خدم للتصديقات وتوابع، ثم التصرف فيها بحسب أنه أصل هو للشعر، وخصوصا للطراغوذيات.
فصل فى حسن ترتيب الشعر، وخصوصا الطراغوذيا؛ وفى أجزاء الكلام المخيل الخرافى فى طراغوذيا
وأما حسن قيام الأمور التى يجب أن توجد فى الأشعار، فينبغى أن نتكلم فيه، فان ذلك مقدمة طراغوذيا وأعم منه وأعلى مرتبة.
Shafi 180