Shaytan Bantaur
شيطان بنتاءور: أو لبد لقمان وهدهد سليمان
Nau'ikan
فكفكفت دمعي وقلت: لا يكونن إلا ما أمرت يا مولاي.
قال الهدهد: ثم مررنا بهيكل يأخذ العين ويتملك النفس ويأسر الخاطر، ويستوقف اللب قبل الناظر، فتوجه النسر وجهته، ثم دخل بين حراس ينحنون له تعظيما وإجلالا، وكهان يوفونه تحية واستقبالا، وهنالك جعل يطوف بي حول القواعد والأركان، ويرفع بصره إلى دعائم البنيان، ويتنقل بي من مكان إلى مكان، ويذهب بي صعدا وصببا، في حجر عالية غالية، ومقاصير خالية من عيب حالية، منها الداجي المظلم الحالك، وبعضها منور للشمس إليه مسالك، وهو يقول: هذا يا بني الهيكل الأشهر، بيت «فتاح» الإله الأكبر، حامي حمى هذه المدينة، وملبسها الأمن والنعمة والزينة، تنقل معي من حجر إلى حجر، ومل معي عن أثر إلى أثر، وأنعم النظر في هذه النقوش والصور، ترها في ضمائر الجفن أدق من الخواطر والفكر، وما صنعت في نور الشمس ولا في ضياء القمر، لكن في ضوء سراج ضئيل غير وهاج، ثم تأمل في الحجر بجانب الحجر، كأنهما واحد انقسم على نفسه شطرين. انظر إلى هذه الجبال كيف قطعت، وإلى الآساس كيف وضعت، وإلى العمد كيف رفعت، وإلى الزخارف كيف جمعت! هل ترى في جميع ذلك إلا معرفة في العلم، ودراية في الفن، ومهارة في الصناعة؟ وغير إحكام في الصنع، وإتقان في العمل، ورغبة في الثناء، وهمة عالية في الأمر، وذكاء فائق في الأمور، وطاعة واجبة للملك على الرعايا، وعدالة مفروضة للرعايا على الملك؛ وهذه يا بني أسس الآداب، ورءوس الأخلاق، وقوى الحياة في الأمم، وسر نجاح الشعوب.
قال الهدهد: وكنت أراعي النسر وفكرتي في الملك، أتمنى أن أراه مرة واحدة، فناجيته بذلك، فغضب من هذه المفاجأة، وقال: الملوك أيها الهدهد في كل مكان من ممالكهم، إذا تغيبوا حضرت مآثرهم، وإذا احتجبوا سفرت مفاخرهم، فحيث نقلت القدم في هذه العاصمة، حدثك عز الملك عن الملك ووصفته لك هذه الدولة الكبرى كأنك تراه؛ على أني سأنيلك سؤلك، وأجعلك من رمسيس بحيث تسمع وترى، فلا تعجل علي، ولا تكن كمن يزورون الآستانة ولا أرب لهم إلا «حفلة السلاملك»، وإذا قضوا أربهم من حضورها رجعوا إلى أوطانهم متبجحين بما لم يعلموا من أبهة ذلك الملك، وعظمة ذلك السلطان!
قلت: أفيرضيك أن أكف عن السؤال يا مولاي؟
قال: اسأل ما شئت إلا الصغائر، فإنها تقتل النفوس، وتطفئ نور العقول، وما اشتغل بها شعب إلا هلك حيا. إن لرمسيس وجها كبعض الوجوه، وجسما كسائر الأجسام، لكن إذا وقفت على شيء من بسطة ملكه، وامتلأت نفسك مهابة من سعة دولته، ورأيت آثار نعمته على رعيته، ثم لقيته بالذات لقيت إلها في زي إنسان، تنحسر في جلالته العينان، ويخفق لأدنى لحظة منه الجنان.
قلت: مررنا في مجيئنا إلى الهيكل بعمائر شتى، وأبنية تشيد، وهياكل تعمر، فكنت أرى العمال صنفين، والصناع فريقين مختلفين، فما شرف من الأعمال وكان للعقل والرأي معظم الأثر فيه، تولاه المصريون بأنفسهم، وما خس منها وكان شاقا يشترك فيه الساعد والجسم، كعمل الطوب، وجر الأثقال، قام به طوائف من الناس زرية أزياؤهم، مختلفة صورهم، مسودة وجوههم، فمن هؤلاء يا مولاي؟
قال: غرباء أسروا في الحروب وجيء بهم إلى مصر، فأرواحهم مباحة للملك، ينهب منها ما يشاء، ويسخر من استبقى فيما يشاء، ويجود ببعضها على قواد جيوشه الذين جنوا معه ثمر الوقائع، وشهدوا بجانبيه المعارك والمعامع.
قلت: عجبا لكم معشر الآباء، تبلغون هذه المبالغ من المدنية، وتأخذون هذا النصيب من الحضارة ، ثم تقسوا قلوبكم فهي كالحجارة أو أشد قسوة؛ فلو اطلع الإفرنج - خلفاؤكم في الأرض - اليوم على سيرتكم هذه في معاملة الغريب والأسير؛ لأنكروها عليكم إنكارا، ثم لولوا منكم فرارا.
قال: يبقى الحيف ما بقي السيف، وليس ما نسبت إلى أصحابك من الرحمة المتناهية، وعزوت إليهم من الفلسفة العالية إلا ضلة من حلمك، وقلة في علمك؛ ينكرون على ملوكنا أن يلعنوا من ليس من دينهم من الأمم، وما أشبههم في ذلك بإدوارد السابع، يوم ذم المذهب الكاثوليكي بمسمع من الأشراف تباع هذا المذهب؛ ويرموننا بفرط الكراهية للغريب واقتناء الحقد له، ولنا في ذلك أعذار مقبولة، فما بششنا في وجهه قط، ولا استنمنا إليه مرة، إلا طمع في ملكنا وأفسد علينا أمرنا؛ على أننا علمنا الأمم من بعدنا شرع الوطنية، وعرفناهم كيف يطول عمر الدولة عند قوم، وتمد برهة الحكم بينهم، إذا هم اعتمدوا في جميع أمرهم على أنفسهم، وضربوا على يد الأجنبي أن تعبث في شئونهم، ولئن بالغنا للغرباء في سوء المعاملة، فلنا من موقع بلادنا الطبيعي عذر واضح؛ فما مصر إلا سهل سهل غزوه والإغارة عليه، وواد مكشوف للأبصار الطامحة إليه؛ فلو لم يسهر عليه منا الساهرون لما لبث في قبضتنا طوال تلك القرون؛ أما أسير الحرب عندنا فأشقى منه أسير الاستعمار عندهم، يزرع لهم ويحصدون، ويبني لهم ويسكنون، ويسهر عليهم وينامون، ويفتح لهم البلاد ويمتلكون، وإلى بعض هذا ينتهي الشقاء والصغار والهون.
قلت: يكاد علمك يسع الأشياء كلها يا مولاي، فلو علمت ما مراد الملك رمسيس من مواصلة الغزو ومتابعة الغارة، والخروج من حرب والدخول في حرب، ومنزلته بين الملوك الغابرين منهم والحاضرين ما لا ترى أبصارهم خلفها مطرحا، فهلا أقر السيف وحقن الدماء؛ فقد ملك الأرض فهل يريد أن يملك السماء!
Shafi da ba'a sani ba