[ ٩ أ] قال أرسطاطاليس : السفسطائي الذي هو بطريق العرض ، متى علمنا بعلة الشيء وبعلة العلة الموجبة لوجوده وعلمنا أنها علته ولا يمكن أن يكون من دونها . ومن البين الظاهر أن معنى أن يعلم الشيء هو هذا . وذلك أن الذي يعلم والذي لا يعلم كلاهما يزعمان أنهما قد علما الشيء من قبل العلم بعلته ، سوى أن الذي لا لا يعلم يظن أنه قد علم بالعلة وليس ظنه بحق . والذي علمه على التحقيق فإنما علمه بالعلة . » التفسير لما علم أن كل تعلم وتعليم فإنما يكون عن معرفة متقدمة ، وحل الشكوك الواقعة في هذه المقدمة ، وهو شك « مانن » وتغليط السفسطائي - شرع في تعريف شروط مقدمات البرهان المطلق ، أعني الذي يعطر الوجود ، والسبب الذي هو أوثق أصناف البراهين يقينا وأكملها معرفة ، وهو المقصود أولا في هذا الكتاب ، فقال : « وقد يظن بأنا قد علمنا واحدا من الأمور علما محققا لا على النحو السفسطائي ، الذي هو بالعرض ، متى علمنا العلة الموجبة لوجوده وعلمنا أنها علته وأنه لا يمكن أن يكون دونها » - فاشترط في العلم المقول بتقديم ، أعني الحاصل لنا من البرهان التام ، ثلاثة شروط : أحدها : أن يكون الشيء المعلوم قد حصل لنا وجوده من قبل العلم بوجود علته . والشرط الثاني : أن نكون ، مع علمنا بوجوده من قبل علته ، قد علمنا أنها علته . والثالث : أن نكون قد علمنا أنه لا يمكن أن يوجد من دون تلك العلة . وإنما اشترط في هذا العلم أن يكون وجود المعلوم فيه حصل لنا من قبل العلة لأنه الذي به ينفصل هذا البرهان من البرهان الذي يسمى الدليل . وإنما اشترط ثانيا أن نكون مع هذا قد علمنا أنها علته لأنا قد نعلم وجود شيء من قبل شيء غير علته من غيرأن نعرف أنه علته . وإنما اشترط ثالثا أن نكون قد علمنا أنه لا يمكن أن يوجد ذلك الشيء دون تلك العلة للفرق بين العلة الذاتية والعرضية ، والعلة المظنونة واليقينية . وقوله : « محققا » إنما قاله بدل قوله : بتقدم وفي الغاية . فكأنه قال : وهو من الظاهر أنا إنما نعلم واحدا واحدا من الأشياء المجهولة علما مقولا بتقديم ، لا علما مقولا بتأخير مثل العلم الذي يكون عن الدلائل ، ولا علما باشتراك الاسم مثل العلم الذي توجبه الأقاويل السفسطائية متى عرفناه بعلته ، أي عرفنا وجوده من قبل المعرفة بعلته . ولما أتى بهذه المقدمة على أنها معروفة بنفسها [٩ ب ] < . . . . . . > بالشهادة على عادته في إردافه الأقاويل اليقينية بالشهادة على جهة الاستظهار فقال : « ومن البين الظاهران معنى < أن يعلم > الشيء هو هذا » إلى آخر ما كتبناه - يريد : ومن الدليل أن العلم المحقق إنما يصل لنا بالشيء من قبل المعرفة بسببه أن كل من يزعم أنه قد عالم الشيء علما محققا فإنما زعم ذلك من قبل أنه يرى أنه إنما علمه من قبل علته ، سواء كان علمه صحيحا ، أولم يكن . إلا أن الفرق بينهما أن الذي علمه علما صحيحا فهو الذي علمه بعلته . وأما الذي لم يعلمه علما صحيحا فهو يظن أنه قد علمه بعلته وهو لم يعلمه بعلته . قال أرسطاطاليس : « فهذا هو معنى أن يعلم الشيء على التحقيق . وغير ممكن أن يكون بغير هذا الوجه . وقد يوجد نوع آخر من العلم المحقق ، وسنتكلم فيه بأخرة . ألا أن الذي يجب أن يصرف العناية إلى النظر فيه من العلوم على التحقيق هو البرهان . وأعني بالبرهان : القياس اليقيني الذي يعلم به الشيء على ما هو عليه ، لا الذي يعلمه بما هو موجود لنا . » التفسير يقول : وهذا الذي ذكرناه هو حد العلم المحقق ، أي المقول بتقديم . وهو معلوم أيضا بنفسه أنه غير ممكن أن يكون هذا العلم بغير هذا الوجه الذي ذكر . وقوله : « وقد يوجد نوع آخر من العلم المحقق - وسنتكلم فيه بأخرة » - يعني التصور التام الذي يكون بالحدود التامة ، وهو يتكلم فيه في المقالة الثانية . ولما أعلم أن قصده في هذه المقالة إنما هو التكلم في نوعى العلم المحقق الذي هو التصديق والتصور في الشيء الذي يقع به التصديق التام ، وهو البرهان المطلق أخذ يحد ما البرهان المطلق الذي يقصد في هذا الكتاب التكلم في مقدماته وتعريفها فقال : « وأعني بالبرهان القياس اليقيني الذي يعلم به الشيء على ما هو عليه ، لا الذي يعلمه بما هو موجود لنا . » فالقياس يتنزل من هذا الحد منزلة الجنس ، وذلك أن البرهان هو قياس صحيح الشكل . وقوله : « اليقيني » هو قول بدل قوله : القياس الذي يأتلف من مقدمات يقينية » . وهذا الفصل هو الذي ينفصل به القياس البرهاني من القياس الجدلي ، أي نوع كان من أنواع البراهين الثلاثة ، أعني برهان الوجود ، أو برهان السبب ، أو الذي جمع الأمرين جميعا ، أعني الذي يعطى الوجود والسبب معا . وذلك أن القياس الجدلي هو الذي يأتلف من مقدمات مشهورة لا يقينية - وقوله : « الذي يعلم به الشيء بما هو عليه ، لا الذي يعلمه بما هو موجود لنا » : هو الفصل الذي ينفصل به البرهان المطلق ، أعني الذي يعطى الوجود والسبب معا من برهان الدليل . وذلك أن [١٠ أ] قوله هذا بدل قوله : من مقدمات يقينية يعلم بها الشيء المطلوب من جهة ما هي علة لذلك الشيء المطلوب في الوجود ، لا من جهة ما هي علة لمعرفتنا بوجود ذلك الشيء فقط دون أن تكون علة لوجوده خارج النفس . وذلك أن البرهان المطلق يجب أن تكون مقدماته بهذين الشرطين ، أعني : علة للنتيجة ، وعلة لعلمنا بالنتيجة ، مثل أن نعلم أن هذا الموضع فيه ضوء لأن فيه نارا . فإن علمنا بأن فيه نارا هو علة لعلمنا بأن فيه ضوءا وعلة لوجود الضوء . وإنما تكون المقدمات بهذه الصفة في القياس البرهاني إذا كان الحد الأوسط هو علة للنتيجة في الوجود ، وعلة لعلمنا بها . وأما الدليل فإن الحد الأوسط فيه إنما هو علة لعلمنا فقط بالنتيجة ، لا علة لوجود النتيجة خارج الذهن ، مثل أن نبين أن هذا الموضع فيه نار ، لأن فيه دخانا . فإن علمنا بوجود الدخان فيه إنما هو علة لعلمنا بوجود النار ، لا علة لوجود النار . بل الأمر بالعكس وهو أن النار علة لوجود الدخان . فكأنه قال : الذي يعلم به الشيء بما هو به موجود في نفسه ، لا الذي يعلمه بما هو به عندنا موجود دون أن يكون به موجودا في نفسه . قال أرسطاطاليس : « فإن كان معنى أن نعلم الشيء علما محققا بحسب ما تقدمنا ووضعنا هو أن تكون مقدمات البراهين صوادق وأوائل غير ذات أوسط ، وأن تكون أعرف من النتيجة وأن تكون علات ، فإنها على هذا الوجه تكون مناسبة للأمر الذي يتبين بها . وقد يكون قياس من غير اجتماع هذه الشروط . فأما البرهان فلا ، من قبل أنه من غير اجتماع هذه الشروط لا يعلم الشيء علما يقينيا . » التفسير أنه لما وضع ما هو العلم المطلوب بالبرهان ، تطرق من ذلك إلى معرفة شروط مقدماته فقال : « فإن كان معنى أن يعلم الشيء علما محققا بحسب ما تقدمنا ووضعنا » - يريد : فإن كان قصدنا بالبرهان أن نعلم الشيء علما محققا في الغاية من اليقين بحسب ما وضعنا ، وكان يلزم عن ذلك أن تكون مقدمات البرهان الذي يفيد هذا العلم صادقة ومبادئ أولى معروفة بنفسها غير معروفة بوسيط ، أي بقياس ، وأن تكون ثالثا أعرف من النتيجة ، وأن تكون رابعا عللا للنتيجة ، فإنه بهذه الجهة تكون مناسبة للأمر الذي تبين بها ، أعني بكونها علة . ثم قال : « وقد يكون قياس من غير اجتماع هذه الشروط » - يريد : إما قياس اقناعي ، أو جدلي أو دليل . وقوله : « فأما البرهان فلا يريد به البرهان المطلق . وقوله : « من قبل أنه من غير اجتماع هذه الشروط لا يعلم الشيء علما يقينيا » - يعني اليقين الذي في الغاية . ولما أخبر بوجوب وجود هذه الشروط في المقدمات [ ١٠ ب ] أخذ يعرف جهة وجوب اشتراط هذه الشروط في مقدمات البرهان . قال أرسطاطاليس : « وكون مقدمات البرهان صادقة واجب ضرورة ، من قبل أن كونها كاذبة يؤدينا أن نعلم ما ليس بموجود ، مثل أن نعلم أن القطر مشارك للضلع . وواجب أيضا أن تكون مقدمات البرهان غير ذات أوساط وغير محتاجة إلى برهان . وذلك أنه أن كانت ذوات أوساط ، فلا سبيل إلى أن تعلم إلا بالبرهان ، لأن معنى أن نعلم الشيء علما محققا ، لا بالعرض ، هو أن يعلم بالبرهان . » التفسير قوله : « من قبل أن كونها كاذبة يؤدينا إلى أن نعلم ما ليس بموجود » - يريد : أن المقدمات متى كانت كاذبة ، كانت النتيجة عنها كاذبة ، وذلك في الأكثر ، لأنه قد تبين في كتاب « القياس » ، أنه قد تكون نتيجة صادقة عن مقدمات كاذبة ، لكن ذلك بالعرض . وقوله : « وواجب أن تكون مقدمات البرهان غير ذوات أوساط » - يعني البراهين البسيطة وهي التي يقال عليها اسم : « البرهان بتقديم » ، وهي البراهين التي تأتلف من المقدمات اليقينية الأوائل بالطبع ، وذلك أن هذه البراهين هي التي ليست تحتاج إلى غيرها ، وغيرها محتاجة إليها . وكل ما كان سببا لوجود شيء بحال ما ، فهو أحق بتلك الحال ، أعني أن كانت البراهين الأول هي السبب في أن وجد هذا المعنى للبراهين الثواني ، أعني التي مقدماتها ذوات أوساط ، فلا سبيل أن تعلم ألا بالبرهان . فكأنه قال بدل هذا : فليس تكون براهين بذاتها ، بل بغيرها . و« البرهان بتقديم » إنما هو الذي هو برهان بذاته . وإنما قال : « فلا سبيل أن تعلم إلا بالبرهان » لأن المعلوم علما محققا إما أن يعلم بذاته ، وإما أن يعلم بالبرهان ، لا بنوع العرض . وأيضا فإذا فرضنا أن أوائل البرهان ليست معلومة بنفسها أوجب أن تكون معلومة بالبرهان . فإن كان ذلك موجودا للبرهان بما هو برهان ، لزم أن يمر الأمر إلى غير نهاية وان يكون البيان دورا ، على ما سيبينه بعد . فإذن مقدمات البرهان ، بما هو برهان وبالذات ، يجب أن تكون أوائل غير معروفة بوسط ، وأن تكون البراهين التي مقدماتها معروفة بوسط براهين مقولة مع هذه باشتراك الاسم . ويشبه أن يكون هذا المعنى هو الذي يقصده بقوله : « واجب أن تكون مقدمات البرهان غير ذوات أوساط » - إلى آخر ما كتبناه . قال أرسطاطاليس : « وواجب ضرورة أن تكون مقدمات [ ١١ أ] البرهان عللا ، وان تكون اقدم وأعرف وأما علة فمن قبل أنه من رام أن يعلم الشيء علما محققا فإنما يعلمه بعلته . وأما كونها أقدم فمن قبل أنها علل . وأما أعرف فعلى ضربين : أحدهما أن يعلم على ماذا تدل ، والثاني هو أنها موجودة ، أي صادقة . » التفسير لما وضع أن العلم الحقيقي يجب أن يحصل عن مقدمات تلك الصفات التي وضعها ، يروم أن يبين ذلك . فقوله : « وواجب أن تكون مقدمات البرهان عللا » ، يعني أن يكون الحد الأوسط فيها علة للطرف الأعظم ، أعني لوجود الأعظم نفسه ولوجود الأصغر ، لا علة لوجوده في الأصغر فقط كما يقول ابن سينا ، ولا علة للأصغر كما يظن أن أبا نصر يجوز ذلك في البراهين المطلقة ، أعني البراهين التي تفيد السبب والوجود معا ، وهي التي الكلام فيها هاهنا . وأما كون البرهان يوجد الحد الأوسط فيه علة للطرفين - أعني الأكبر والأصغر- فهو أمر عارض له . ولذلك من يظن أن من شرط البرهان المطلق أن يكون الحد الأوسط فيه علة للطرفين - فليبين ذلك بصواب . وإنما هو شيء عرض لبعض البراهين المطلقة . ولذلك ليس ينبغي أن يقسم البرهان إلى هذه القسمة حتى يقال إن البراهين المطلقة هي التي يكون الحد الأوسط فيها سببا لأحد الطرفين أو كليهما . وذلك أن كونه سببا لكليهما هو بالعرض ، وكونه سببا للأوسط فقط غير واقع أصلا . وذلك أنه متى لم يكن يلزم عن وجوده وجود الأكبر في الأصغر من جهة أنه علة له ، أعني للأكبر، فليس ببرهان مطلق . وإنما مكان التغليط في ذلك أن يحمل ، ما قيل من ذلك ، أعني من كون الحد الأوسط سبيا في البراهين على الإطلاق ، ولا على التقييد . فإنه إذا أخذ هذا القول بإطلاق ، أمكن أن يتصور على ثلاث جهات وأما إذا أخذ من جهة أنه سبب يلزم عن وجوده في الأصغر وجود الأكبر فيه من جهة أنه سبب للأكبر ، ارتفع هذا الغلط . ومن هنا يبين أيضا خطأ ما يقوله ابن سينا وهو يظن أنه يأتي في ذلك بأمر مستدرك من أنه قد يتفق أن يكون الحد الأوسط معلولا عن الطرف الأكبران الأكبر إذا أنزل موجودا لزم أن يكون الأوسط موجودا من قبل أنه علة له ، فليس يمكن الحد الأوسط في مثل هذا البرهان أن يكون سببا لوجود الأكبر في الأصغر ، إلا أن يؤخذ نوعان من الأسباب يلزم عن وجود كل واحد منهما وجود الآخر . وعلى هذا فيكون الحد الأوسط علة للأكبر - وإن كان أراد أن يكون الحد الأكبر علة [ ١١ ب ] وجود الأوسط على الإطلاق ، أعني من غير أن يلزم عن وجود الأكبر وجود الأوسط ، ويكون الأوسط علة لوجود الأكبر في الأصغر ، لا علة لوجود الأكبر نفسه ، فبذلك يوجد كثيرا - مثل قول القائل : الإنسان حيوان ، والحيوان جسم . لكن أمثال هذه هي علل بالعرض . فإنه ليس السبب الأول الذاتي في كون الإنسان جسما أنه حيوان ، إذ كان الإنسان هو بما هو إنسان حيوان ، فضلا عن أن يكون جسما . وسيبين هذا المعنى بيانا أكثر بعد . ولما عرف أنه يجب أن تجتمع فيها أن تكون عللا وأقدم وأعرف ، أتى بالسبب الموجب لكل واحد من هذه الشروط فقال : « وأما علة فمن قيل أنه من رام أن يعلم الشيء علما محققا فإنما يعلمه بعلته » - وإنما كان هذا العلم هو في الطور التام ، من العلم لأمرين اثنين : أحدهما : أن من علم الموجود من قبل سببه فعلمه أوثق من علم الموجود بدليل . والثاني : أن من هذا النوع من البرهان هي البراهين التي تتضمن بالقوة مطلوب ما هو الذي هو الحد ، وهو المشوق إليه بالطبع والذي من أجله تشوقت معرفة الأسباب . ثم قال : « وأما كونها أقدم فمن قبل أنها علل » - يريد : اقدم في الوجود ، فإن العلة متقدمة في الوجود على المعلول . ثم قال : « وأما أعرف فعلى ضربين : أحدهما أن يعلم على ماذا يدل ، والثاني هو أنها موجودة ، أي صادقة » - يريد : وأما كون المقدمات أعرف من النتيجة ، فإنه يجب أن تكون أعرف في جهتين : أعني : أعرف فيما تدل عليه أسماؤها ، وفي أنها موجودة. قال أرسطاطاليس : « والأقدم والأعرف يقال على ضربين : وذلك أنه ليس معنى أن يكون الشيء متقدما عندنا [72 a]* ، ومعنى أن يكون متقدما عند الطبيعة - معنى واحدا بعينه . والتي هي أعرف وأقدم عندنا هي الأشياء المحسوسة ، والتي هي أقدم واعرف عند الطبيعة هي الأشياء البعيدة من الحس . والأشياء البعيدة من الحس هي الأمور الكلية ، والقريبة منه هي الأشياء الجزئية والوحيدة ، وهذان متقابلان . » التفسير لما كان من شروط مقدمات البرهان المطلق الذي فيه الكلام ، وهو برهان السبب والوجود ، أن تكون المقدمات فيه مع أنها أعرف عندنا من النتيجة أعرف عند الطبيعة من قبل أنها أسباب ، والأسباب أعرف عند الطبيعة من المركبات - أخذ يذكر أن الأقدم في المعرفة يقال على وجهين : أحدهما الأعرف عندنا ، والآخر الأعرف عند الطبيعة ، وأن الأعرف عندنا هي الأمور المحسوسة المشار إليها ، وأن الأعرف عند الطبيعة هي الأشياء [ ١٢ أ] البعيدة من الحس ، وهي أسباب الأشياء المحسوسة ، أعني الأسباب المشتركة لأشياء أكثر من واحد . ولم يرد هاهنا أن يقايس بين المحسوس والمعقول في أيهما أعرف ، فإن المحسوسات غير معروفة عند الطبيعة أصلا . وأيضا فإنه ليس المحسوس أعرف عندنا من المعقول ، أعني المعقولات الأول . وإنما أراد أن يقايس في ذلك بين المعقولات القريبة من الأمور المحسوسة والبعيدة . فكأنه قال : ومعقولات الأشياء القريبة من المحسوس مثل معقولات المركبات والآثار الموجودة فيها أعرف عندنا من معقولات الأشياء البعيدة منها ، وهي معقولات الأسباب ، وأسباب الأسباب . وأما عند الطبيعة فالأمر بالعكس ، أعني أن الأشياء البعيدة من الحس أعرف عندنا من القريبة . وقوله : « والأشياء البعيدة من الحس هي الأمور الكلية ، والقريبة منه هي .الأشياء الجزئية والوحيدة ، وهذان متقابلان » - ليس يعني به أن الجزئي أعرف عند الحس من الكلي ، فإن الحس لا يدرك الكلى . ولا يعنى به أيضا أن الكلي أعرف عند الطبيعة من الذي هو أقل كلية ، فإن هذه هي حالنا ، أعني أن الأعم عندنا أعرف من الأخص ، كما قال في أول « السماع » . وإنما أراد بالأمور الكلية الأسباب الواحدة بالعدد المشتركة لأشياء كثيرة ، مثل : الفاعل الأول ، والمادة الأولى ، فإن هذه الأسباب هي أعرف عند الطبيعة منها عندنا . وأما الأمور الكلية الموجودة لكثيرين فهي عندنا أعرف . قال أرسطاطاليس : « ومعنى أنه من الأوائل ، أي من مبادئ مناسبة . ولا فرق بين قولنا : « أوائل » ، وبين قولنا : « مبادئ » ، من قبل أن الأول والمبدأ يدلان على معنى واحد . ومبدأ البرهان هو مقدمة غير ذات وسط . والمقدمة غير ذات وسط هي التي ليس توجد مقدمة أخرى أقدم منها . فأما المقدمة فهي أحد جزئي « الأفوفانسيس » ، أعني الحكم بواحد على واحد . فأما الديالقطيقية ، يعني الجدلية ، فهي اقتضاب أحد جزئي النقيض ، أيهما كان . فأما الفودقطيقة فهي أحد جزئي المناقضة على التحديد ، وهو الصادق . فأما الحكم فهو أي جزء كان من المقابلة . وأما المناقضة ، أنطيفاسيس άνθίφασις أعني التقابل الذي لا وسط له بذاته . » التفسير يريد : ومعنى قولنا في البرهان أنه القياس المؤتلف من الأوائل ، أي من مقدمات مناسبة ، ومعنى مناسبة : ألا يتجاوزها الجنس المنظور فيه ، على ما سيظهر بعد. ولما حد البرهان بأنه مقدمة غير ذات وسط ، احتاج أن يحد المقدمة على الإطلاق ، ثم يقسمها [ ١٢ب ] < إلى البرهانية > والجدلية ، ويرسم كل واحدة منهما ، لأن المقدمة الغير ذات وسط هي نوع من أنواع المقدمات البرهانية ، إذ قد تكون من مقدمات البرهان ما هي نتائج . ولما استعمل في حد المقدمة الحكم والمقابلة ، احتاج أيضا أن يحد الحكم وما هي المقابلة . وذلك كله إنما يذكر به تذكيرا مما سلف . فابتدأ بحد مبدأ البرهان بأن قال : « هو مقدمة غير ذات وسط » . ثم عرف ما هي المقدمة الغير ذات وسط فقال : « هي التي ليس توجد مقدمة أخرى أقدم منها » - يعني في المعرفة والوجود . ثم حد المقدمة بإطلاق فقال : « وأما المقدمة فهي أحد جزئي القول الجازم ، يعني الايجاب أو السلب » . وهذا الحد هو نظير ما حدها به في كتاب « القياس » وهي أنها : « قول يوجب شيئا لشيء ، أو يسلب عن شيء » وقد قيل في قوة هذا الرسم هناك . ويشبه ألا يكون ذلك حدا للمقدمة من جهة ما هي مقدمة ، بل للشيء الذي عرض له أن كان مقدمة ، لأن المقدمة إنما تقال بالإضافة إلى القياس . ثم حد المقدمة الجدلية وقال : « فأما الديالقطيقية ، أعني الجدلية ، فهي اقتضاب أحد جزئى النقيض ، أيهما كان » - يريد أن الجدلي لما كان إنما يضع المقدمة التي تسلمها من المجيب من جهة ما يتسلمها ، كان كل واحد من جزئي النقيض فيه إمكان على التساوي بأن يسلم بالسؤال ، فيوضع جزئي قياس . وكان المبرهن ليس من شأنه أن يضع أي جزء اتفق من جزئي قياس في برهانه ، وإنما يضع من جزئي النقيض : الصادق . وأخذ هذا المعنى فصلا بين المقدمة الجدلية والبرهانية فقال : « إن المقدمة الجدلية هي التي يكون كل واحد من جزئي النقيض » - ويريد بالنقيض هاهنا : المتضادة ، لا النقيض المقول بخصوص . وإنما قال إن « المقدمة الجدلية هي اقتضاب أحد جزئي النقيض » أي تسلم أحد جزئي النقيض ، لأن المقدمة هي التي تقتضب جزء قياس ، أي توضع . وهذا هو رسمها من جهة ما هي مقدمة . فكأنه قال إن المقدمة الجدلية هي اقتضاب أحد جزئي النقيض أيهما كان يجعل جزء قياس . ثم حد القول الجازم فقال : « وأما الحكم فهو أي جزء كان من المقابلة » . وينبغي أن يعلم أن الحكم والمقدمة والمطلوب واحدة بالموضوع ، متعددة بالقول . وذلك أن القول الجازم إذا أخد من حيث يصدق ويكذب ، سمى « قولا جازما » . وإذا أخذ من حيث هو جزء قياس ، سمي « مقدمة » . وإذا أخذ من حيث هو مجهول ، سمى « مطلوبا » . وأرسطو لما رسم المقدمة هاهنا [ ١٣ أ] بقسمتها الى نوعيها ، وذلك أنه قال فيها إنها أحد جزئي القول الجازم ، يعني إما السلب وإما الإيجاب ، رسم القول الجازم أيضا بنوعيه ، فقال : « فأما الحكم فهو أي جزء كان من المقابلة » . وإنما فعل ذلك كله طلبا للأعرف . وإلا فليست هذه في الحقيقة لا حدودا ولا رسوما . وقوله في حد « النقيض » : أعني المقابل الذي لا وسط له - فيشبه أن يكون إنما حده بهذا لأن هذا الرسم يشمل النقيض والمضاد . وهو الذي استعمل اسم النقيض هاهنا عليه ، أعني أنه كما أن الأوسط بين النقيض المقولين بخصوص ، كذلك الأوسط بين المتضادين . ويخص النقيض أنه يقسم الصدق والكذب في جميع المواد . وأما المتضادة فإنما تقسم الصدق والكذب في المادة الضرورية . وإنما اختصت المتضادة بالبرهان لأن البرهان في المواد الضرورية ، واختص النقيض بالجدل ، لأن النظر الجدلي يعم جميع المواد . قال أرسطاطاليس : « ومبدأ البرهان الذي هو مقدمة غير ذات وسط : أما ما. لم يكن سبيل إلى برهانه ، ولا هو أيضا في فطرة عقل المتعلم ، فإنه يسمى « أصلا موضوعا و« وضعا » . وما كان في فطرة عقل المتعلم ، فإنه يسمى « العلم المتعارف » . والوضع فقد ينقسم : فمنه ما يؤخذ أخذا على أنه جزء من المناقضة ، أيهما كان : إما الموجب وإما السالب ، ويسمى الأصل الموضوع . فأما ما هو خارج عن هذا ، فالحد ، فإن الحد هو من الوضع ، وذلك بمنزلة حد الوحدة التي يضعها صاحب علم العدد في صدر علمه ، وهو : مالا ينقسم بالكم . وليس التحديد والأصل الموضوع شيئا واحدا ، وذلك أنه ليس معنى ما هي الوحدة ومعنى أنها موجودة معنى واحدا . » التفسير قوله : « ومبدأ البرهان الذي هو مقدمة غير ذات وسط : أما ما لم يكن سبيل إلى برهانه ولا هو أيضا في فطرة المتعلم ، فإنه يسمى أصلا موضوعا ووضعا » يريد : وأما ما كان منها ليس في فطرة المتعلم قبوله : إما لقلة ارتياض ،وإما لنقصان في فطرته ، فإنه يسمى أصلا موضوعا ، ووضعا ، إذ كان لا سبيل إلى برهانه . فكأنه قال : ومبدأ البرهان الذي هو مقدمة غير ذات وسط : أما ما كان منها قد عرض لها ، مع كونها لا سبيل إلى برهانها ، إن لم تكن في فطرة المتعلم بنفسه ، فإنها تسمى « أصلا موضوعا » ، أي توضع للمتعلم إلى أن يقوى ذهنه فيقع له التصديق بها . وما كان من هذه التي لا سبيل إلى برهانها ، في فطرة المتعلم أن يعلمه ، فإنه يسمى « العلم المتعارف » . ويحتمل أن يريد بقوله : « ما لم يكن سبيل إلى برهانه ولا هو أيضا في فطرة المتعلم » - المبادئ التي تتسلمها [١٣ ب ] < صناعة > من صناعة ، فإنه لا سبيل إلى برهانه في تلك الصناعة ، ولا هي أيضا في فطرة المتعلم . وبقوله : « وما كان في فطرة عقل المتعلم » - أي : وما كان من المبادئ لا سبيل إلى برهانها لا في تلك الصناعة ولا في غيرها ، وهي التي في فطرة المتعلم ، فإنها تسمى « العلم المتعارف » . وعلى هذا ينبغي أن يفهم من قوله : « أما ما لم يكن سبيل إلى برهانه » : الأمرين جميعا . فكأنه قال : ما لم يكن سبيل إلى برهانه ، ولا هو أيضا في فطرة المتعلم ، وهو الذي ليس له سبيل إلى برهانه في تلك الصناعة وله في أخرى سبيل - فهو الذي يسمى « أصلا موضوعا » . وأما ما كان لا سبيل إلى برهانه وهو في فطرة المتعلم وهو الذي لا سبيل إلى برهانه على الاطلاق ، لا في تلك الصناعة ولا في غيرها ، فهو الذي يسمى « العلم المتعارف » . وهذا التفسير أشبه من الأول . ولما عرف أقسام الوضع الذي هو بالجملة مقابل الأصل المعروف بنفسه ، أخذ يقسم « الوضع » من جهة نحوي المعرفة : أعني التصديق ، والتصور ، فقال : « والوضع فقد ينقسم » - إلى قوله : « ويسمى الأصل الموضوع » - يريد : والوضع ينقسم من جهة أخرى إلى ما يسلم فيه وجود أحد جزئي المناقضة ، أيهما كان : إما الموجب وإما السالب ، وهذا هو الذي يسمى « وضعا » بالحقيقة ، وهو الذي دل عليه بقوله : « ويسمى الأصل الموضوع » يريد : بالحقيقة . ثم قال : « فأما ما هو خارج عن هذا : فالحد ، فإن الحد هو من الوضع » - يريد : فأما القسم الثاني الذي يسمى وضعا بتأخير فهو الحد ، من قبل أن الحد ليس يتضمن أن شيئا موجود لشيء إلا بالعرض ، ولذلك لا يقوم عليه برهان ، فهو من حيث ليس يقوم عليه برهان يشبه الوضع ، ومن حيث هو قول جازم لا يشبهه . ولذلك قد يشك في الحدود المعروفة بنفسها ، كما يقول هو فيما بعد : هل ينبغي أن تعد في المقدمات الأوائل بأنفسها ، أو في الأوضاع ؟ وعلى هذا التأويل فكأنه جعل الحدود داخلة في الأوضاع بالعرض . ويحتمل أن يريد بقوله : « فإن الحد من الوضع » : أي أن شرح دلالات الأسماء هو من الوضع ، إذ كانت دلالات الأسماء بالوضع . ويؤيد هذا التأويل قوله : « وأما ما هو خارج عن هذا : فبالحد » - فإن الظاهر من هذا أنه يريد : وأما الذي يسمى وضعا بمعنى خارج عن هذا فهو الحد . وإنما قال : « وذلك بمنزلة حد الوحدة الذي يضعها صاحب علم العدد في صدر علمه ، وهو : مالا ينقسم بالكم » - أما التأويل الأول فلأن وجود الوحدة خارج الذهن غير معروف بنفسه ، ولا يبرهن في الصناعة العددية . وأما على الثاني فإن معنى تحديد الوحدة هو اصطلاح على دلالة اسمها . ولما عرف من أي جهة تدخل الحدود في الأوضاع [ ١٤ أ] وأنها ليست تسمى أوضاعا بالحقيقة ، إذ كانت ليست تتضمن بالذوات وجود الشيء أو لا وجوده ، وهو الشيء الذي يسمى وضعا بالحقيقة ، إذ كانت تتضمن معنى الوضع الذي في الأسماء - أخذ يعرف أن الحدود في الأوضاع وأنها ليست هي بذاتها من جنس الأوضاع التي هي أوضاع بالحقيقة إما لأن معنى الوضع منها غير معنى الوضع الحقيقي ، وإما لأنها تتضمن معنى الوضع الحقيقي بالعرض ، فقال : « وليس التحديد والأصل الموضوع شيئا واحدا ، وذلك أنه ليس معنى ما هي الوحدة ومعنى أنها موجودة شيئا واحدا » - يريد أن حد الوحدة وما أشبه ذلك من الحد ليس يدل من المحدود على أنه موجود فيدخل الجازم بالعرض . وأما الأصل الموضوع فهو قول جازم يدل على أن الشيء موجود . قال أرسطاطاليس : أن لنا عليه مثل هذا القياس الذي يدعى « برهانا » ، وكان تصديقنا بالبرهان من أجل تصديقنا بالمقدمات التي منها البرهان - فيجب من ذلك ألا تكون معرفتنا بالشيء المعلوم بالبرهان بمقدمات البرهان : إما جميعها ، وإما بعضها ، على وتيرة واحدة ، لكن معرفتنا بالمقدمات أكثر . وذلك أن الشيء الذي من أجله توجد الأشياء هو في باب الوجود أحق ، بمنزلة محبتنا للمعلم من أجل محبتنا للصبي الذي من أجله نحب اكثر . » التفسير لما كان قد عرف أن المقدمات من البراهين يجب أن تكون أعرف من النتيجة ، لأن من قبل معرفتها يسار إلى العلم بالنتيجة ، يريد أيضا في هذا القول أن يعرف أنها ليست أعرف من النتيجة في حين الجهل بالنتيجة فقط بل وفي حين العلم بها ، من قيل أن العلم بالنتيجة إنما يحصل من قيل العلم بالمقدمات . وما هو السبب في وجود شيء ما فهو أحق بذلك الوجود من ذلك الشيء - مثال ذلك أن النار لما كانت السبب في كون الأشياء الحارة حارة ، كانت هي أحق بالحرارة . فقوله : « ولما كان الشيء المعلوم بالبرهان قد يجب أن يكون مصدقا به ومتيقنا من أجل أن لنا عليه مثل هذا القياس الذي يدعى برهانا » - يريد : ولما كان الشيء الذي يعلم بالبرهان بعد الجهل به إنما يقع لنا التصديق اليقيني به من قبل أنه قد كان وجد عندنا عليه قياس من نوع هذا القياس الذي يسمى برهانا . ولما وضع هذا المقدم ، أتى بالتالي اللازم عنه فقال : « فيجب من ذلك أن تكون معرفتنا بالشيء المعلوم بالبرهان وبمقدمات البراهين : إما جميعها ، وإما بعضها ، على وتيرة واحدة ، لكن معرفتنا بالمقدمات اكثر » - يريد : فيجب أن تكون معرفتنا [ ١٤ ب ] بالبرهان أكثر من معرفتنا بالذي عليه البرهان لكون معرفتنا بمقدمات البرهان اكثر من معرفتنا بالذي عليه البرهان ، وذلك إما جميع المقدمات وإما بعضها . وإنما قال : « إما كلها وأما بعضها » لأنه ليس يلزم من وضعنا أن تصديقنا بالبرهان أكثر من تصديقنا بالنتيجة - أن يكون تصديقنا بكلتا مقدمتي البرهان أكثر . فأما هل من شرط البرهان أن تكون كلتا مقدمتيه أعرف من النتيجة ، فأمر لم يتبين بعد من هذا القول . ولما أتى بالتالي اللازم عن المقدم ، شرع في تبيين جهة لزومه فقال : « وذلك أن الشيء الذي من أجله توجد الأشياء هو في باب الوجود أحق . وهذا القول مقدمة قد استعملها في هذا الموضع ، أعني أن كل ما هو سبب في وجود شيء ما إما بحالة ما ، وإما بإطلاق فإن الشيء الذي هو سبب الشيء هو أحرى بذلك الوجود . فإذا أضيف إلى هذا أن المقدمات هي السبب في أن وجد الصدق للنتيجة ، أنتج عن ذلك في الشكل الأول أن المقدمات الأول أحرى من النتيجة بوجود الصدق لها . والمثال الذي ذكره إنما أتى فيه من الأمور المشهورة المشترك وقوع التصديق بها للكل ليكون أوضح في التعليم . وذلك أنه من المشهور المعترف به عند الجميع أن من يحب شخصا من أجل شخص ما آخر أن حبه للشخص الذي من اجله حب ذلك الشخص الآخر- أكثر . مثال ذلك ، كما قال ، المعلم والصبي يعني الابن ، فإن الأب إنما يحب معلم الصبي الذي هو ابنه من أجل محبته للصبي . ولذلك كانت محبته للصبي أكثر . قال أرسطاطاليس : « فإذا كان علمنا بالنتيجة وتصديقنا وتيقننا لها إنما هو من أجل المقدمات ، فتصديقنا وعلمنا وتيقننا بالمقدمات يكون أكثر ، إذ كان تصديقنا بالنتيجة إنما يكون من أجلها ، فإنه غير ممكن أن يكون تصديق الإنسان بالشيء الذي لا يعرفه اكثر من الشيء الذي يعرفه ، ولا أن يكون في علمه أفضل من الشيء الذي يعلمه ، ولو اتفق له علمه . فإن هذا قد يلزمه أن لم يتقدم الإنسان فيعلمه بالأشياء التي تعلم وتصدق بالبرهان . فواجب من الاضطرار أن تعلم المبادئ كلها أو بعضها - أكثر من النتيجة . » التفسير لما وضع أن الأسباب التي هي علل الأشياء في باب الوجود هي أحرى بذلك الوجود من تلك الأشياء ، وهو الذي يتنزل من هذا القول منزلة المقدمة الكبرى - أتى بالمقدمة الصغرى وهي أن المقدمات هي علل للنتيجة في باب وجوب التصديق بها ، فقال : « فإذا كان علمنا بالنتيجة وتصديقنا وتيقننا لها إنما هو من أجل المقدمات ، فتصديقنا بالمقدمات يكون أكثر ، إذ كان تصديقنا بالنتيجة إنما يكون من اجلها » يريد : وإذا وضعنا أن الأسباب - التي هي علل في باب الوجود لشيء ما - أنها أحرى بذلك الوجود [ ١٥ أ] من ذلك الشيء ، وكان من المعروف عندنا أن علمنا بالنتيجة وتيقننا لها إنما السبب فيه تيقننا بالمقدمات ، فيجب عن هاتين المقدمتين أن يكون تصديقنا بالمقدمات أكثر . ثم إنه أكد هذه النتيجة بمعنى كأنه حجة قائمة بنفسها فقال : « فإنه غير ممكن أن يكون تصديق الإنسان بالشيء الذي لا يعرفه أكثر من الذي يعرفه ، ولا أن يكون في علمه أفضل من الشيء الذي يعلمه ولو اتفق له علمه » - يريد : وهذا المعنى قد يظهر ، أعني كون المقدمات أكثر تصديقا عندنا من النتيجة ، من قبل أنه من الظاهر بنفسه أنه غير ممكن أن يكون تصديق الإنسان بالشيء الذي لا يعرفه أكثر من الذي يعرفه أولا ، وإن اتفقت له بعد ذلك معرفته . ولا يكون علمه له أفضل من علمه الشيء الذي يعلمه أولا ، وذلك إذا اتفق له علمه أخيرا . وهذه كلها مقدمة أخرى وهي أنه ليس يمكن أن تكون معرفة المجهول لنا بالطبع في وقت من الأوقات أفضل من معرفة المعلوم لنا بالطبع ولا مساوية لها ، بل معرفة المعلوم بالطبع أكثر وأفضل . ولابد من معرفة المجهول بالطبع إذا اتفق أن علمناه . وإذا أضفنا لهذه المقدمة أن المقدمات معروفة بالطبع وأولا ،والنتائج مجهولة بالطبع ومعروفة بأخرة ، أنتج لنا من ذلك أن المقدمات أكثر تصديقا عندنا من النتائج . وهذه القياسات هي على طريق الاستظهار . والأمر إما أن يكون معلوما بنفسه ، أو قريبا من المعلوم بنفسه . وقوله : « فإن هذا يلزمه إن لم يتقدم الإنسان فيعلمه بالأشياء التي تعلم وتصدق بالبرهان » - يريد : فإن الجهل يلزم المجهول بالطبع إن لم يتقدم الإنسان فيعلمه بالأشياء التي تعلم بالبرهان ويصدق به من اجلها ، أي من قبل التصديق بالبرهان . ولذا لزمه الجهل حتى يعرف بغيره . فالذي لا يعرف بغيره أعرف . قال أرسطاطاليس : « فمن أراد أن يقتني علما بالبرهان فإنه ليس يكفيه أن يصدق بالمبادئ وتكون عنده أعرف من الأشياء التي يصدق بها من أجلها ويعرفها بها ،[72 a ]* لكن ألا يكون يصدق بشيء من مقابلاتها ، وهذه هي التي ينبنى منها قياس السفسطائيين . والسبب في ذلك هو أن من رام أن يعلم شيئا بالبرهان على الاطلاق ينبغى ألا يشوب صدقه تغير . » التفسير لما كان كون المقدمات أعرف من النتيجة فشيء يعم القياس الجدلي والبرهاني والخطبى ،أعني أن يكون تصديقه بها أكثر من تصديقه بالنتائج ، يريد أن يعرف التصديق الأعرف الذي يخص المقدمات اليقينية فقال : « فمن أراد أن يقتني علما بالبرهان » - إلى قوله : « من مقابلاتها » - يريد : فمن أراد أن [ ١٥ ب ] يكتسب العلم . اليقيني وأن يقتنيه ، فقد ينبغي له ألا يكتفي في المقدمات التي يقتني من قبلها العلم بالنتيجة بأن تكون أعرف في التصديق فقط ، بل ويشترط مع هذا أن يكون التصديق بها أعني الأعرف الموجود فيها يعتقد فيه المصدق به أنه لا يمكن أن يكون بخلاف ما هو عليه ولا في وقت من الأوقات ، وهو الذي أراد بقوله : « لكن ألا يكون يصدق بشيء من مقابلاتها » وهذا الشرط الذي اشترط في التصديق هو الذي ينفصل به التصديق اليقيني من غيره ، أعني أن يعتقد فيه المصدق أن مقابله غير ممكن أصلا . وأما إذا اعتقد الإمكان ، فإنه يكون إما جدليا وإما بلاغيا . وقوله : « وهذه هي التي ينبنى منها قياس السفسطائيين ، يعنى مقابلات الأمور الصادقة ، وهي الكاذبة . فإنه إذا صدق الإنسان بالصادق ، أعتقد فيه أنه لا يمكن مقابله الذي هو الكاذب . فقد حصل له التصديق اليقيني . وأما إذا صدق به وكان عنده مقابله الذي هو الكاذب ممكنا ، فبين أنه لم يصدق به التصديق اليقيني . فالتصديق إذن قد يكون بالكاذب ، وقد يكون بالصادق . فإذا كان بالكاذب ، كان سفسطائيا . وإذا كان بالصادق ، وكان مع ذلك لا يصدق بمقابله ، كان يقينيا . وأما إذا كان المقابل عنده ممكنا ، فإن كان الإمكان أقليا كان جدليا ، وأن كان على السواء مع مقابله ، كان بلاغيا . وهذا النوع من التصديق قد يعرض في الصادق من قبل المصدق بنفسه ، وقد يعرض في الشيء نفسه من أجل مخالطة الكذب له . فإن كان < كذبه اقليا ، كان صدقه أكثريا وكان > معدودا في الأقاويل الجدلية . وإن كان الكذب فيه مساويا للصادق ، كان التصديق به بلاغيا . لكن ليس يعرض هذا لطبيعة الكذب بما هو كذب ، لأنه لو كان الأمر كذلك ، لكانت كل مقدمة جدلية كاذبة بالجزء الأقل ، وكل خطبية كاذبة بالجزء المساوي . ولذلك من قسم ، من الأدباء ، المقدمات البرهانية والجدلية والخطبية من قبل أنحاء الصدق والكذب نهي قسمة عرضية . وذلك أنهم قالوا إن المقدمات اليقينية هي التي تكون بالصادق ، وسائر المقدمات فهي بالكاذب . فإن كان الكذب فيها اقليا ، كانت جدلية ، وإن كان على التساوي كانت خطبية . وإن كانت كاذبة بالكل ، أو في أكثر أجزائها ، كانت سفسطائية . وهذا القول هو صادق في المقدمات اليقينية . لكن ذلك شيء عرض لها . فإن التصديق اليقيني هي حالة في النفس تقع للمصدق في الصادق . وكذلك الظن في المقدمات السفسطائية يشبه أن تكون من قبل شيء عارض لها ، لا من قبل الكذب نفسه ، فإن الكاذب لا يقع به تصديق من حيث هو كاذب . وأما ما قالوا في المقدمات الجدلية والخطبية فقول كاذب . والصادق من هذا هو شيء بالعرض . وقوله : « والسبب في ذلك » [ ١٦ أ] إلى قوله : « لا يشوب صدقه تغير » يريد : والسبب في كون التصديق اليقيني يشترط فيه هذا الشرط ، أعني بذلك ألا يصدق بمقابلاتها في وقت من الأوقات ، ولا أن ينتقل عن اعتقاده في ذلك الشيء أنه من المعروف بنفسه أنه يجب أن يكون من خاصة المصدق بالتصديق اليقيني ألا ينتقل عن اعتقاده في وقت من الأوقات ، وهو الذي أراد بقوله : « ألا يشوب صدقه تغير » فأما أن هذا الحد معروف بنفسه وجوده لليقين فبين بنفسه ، إذ من خاصية التصديق اليقيني ألا يمكن فيه التغير ، لأنه إن أمكن فيه التغير ، والمصدق ذاكر سليم الذهن ، فبين أنه لم يكن عنده يقينا . وأما متى يكون التصديق في النفس بهذه الصفة فإنه الأوائل المعروفة بنفسها . وغرضه في هذا الكتاب إنما هو إحصاء العلامات والشروط التى إذا اعتبرت في المقدمات الأول فوجدت فيها ، علم أن التصديق بها هو من هذا النحو من التصديق ، مثل أن تكون ذاتية ، وبغير ذلك من الشروط التي يذكرها في هذا الكتاب . ولذلك ما ينبغي ألا يعدد منها في هذا الكتاب ألا ما كان أعرف عدنا في المقدمات من كونها بهذا الحال الذي وصفنا . وينبغي أن يكون هذا أصلا معدا لما نريد أن نقوله بعد في شرح كلامه .
٣ - < آراء القدماء في العلم والبرهان >
Shafi 200