قال ارسطاطاليس : [71a ]* « كل تعليم وتعلم ذهني إنما يكون من معرفة متقدمة الوجود . وهذه القضية يظهر لنا صدقها بالاستقراء . وذلك أن العلوم التعاليمية إنما يوقف على مطالبها بهذا الوجه ، وكذلك كل واحدة واحدة من الصنائع البواقي . وعلى هذا المثال يجري الأمر فيما يقع التصديق به بالقول ، أعني بالقياس والاستقراء . فإن سائر ما يدرك بهذين الطريقتين أنما يدرك بأشياء يتقدم علمها : فالشيء الذي يعلم بالقياس إنما يقع < العلم > به بعد أن يتقدم العلم بالمقدمات . والمقدمة الكلية التي تظهر بالاستقراء إنما يمكن إظهارها بالاستقراء [٤ أ] بعد أن يتقدم عندنا ظهور سائر الجزئيات . والخطباء إنما يمكنهم أن يأتوا < بأحكام مقنعة > بأن يتقدموا فيستقرئوا ويوردوا الأمثلة ، أو بأن يأتوا بالمقاييس المضمرة . » التفسير هذه القضية ، كما يقول أبو نصر ، تحتوي بموضوعها على جميع ما في هذا الكتاب . وذلك أن قوله : « كل تعليم وكل تعلم ذهني » تدخل تحته جميع أصناف المطالب التي على طريق التصديق والتي على طريق التصور . وقوله : « إنما تكون عن معرفة متقدمة » تدخل فيه جميع أصناف المقدمات وجميع أصناف أجزاء الحدود الفاعلة للتصور . وليس في هذا الكتاب شيء غير أصناف المطالب وأصناف المقدمات . بل يمكن أن تكون هذه القضية تعم الصنائع المنطقية الخمس ، وأصناف الحدود ، وأجزاء الحدود . وقوله : « ذهني » استعمله بدل قوله : « وكل تعلم بقول » - لأن التعليم منه ما يكون بقول ، ومنه ما يكون بفعل ، وهي الصنائع التي تتعلم بالاحتذاء . ونعني بقولنا : « بقول » أي بحجة . وبهذا يفارق تعليم التقليد فإنه تعليم بغير حجة . وأما ثامسطيوس فيجعل هذه القضية عامة في الصنائع والعلوم ، أعني الصنائع التي تتعلم باحتذاء . وذلك أنه يقول أن الذي يتعلم البناء إنما يمكنه تعلمه من معلمه بعد أن يكون قد تقدم فعرف الطين والحجارة وسائر ما يصفه له ويشير له إليه معلمه . وهذا الذي قاله لم يقصده أرسطو . وأيضا فإنه ليس بصحيح من جميع الوجوه ، لأن المتعلم الأصم الأخرس يمكنه أن يتعلم صناعة البناء بالاحتذاء ومحاكاة فعل المعلم ، من غير أن يتقدم عنده علم ، كما يفعل كثير من الحيوانات التي تقبل التعليم . وإنما القضية صادقة وضرورية في الأشياء التي تتعلم بقياس . نعم إذا تقدم المتعلم فعرف أسماء الأشياء التي في الصناعة التي يتعلمها على طريق الاحتذاء من معلمه ، كان اسهل لتعليمه ، لأن ذلك شيء ضروري كالحال في التعليم الذي يكون بالقول . وقد ينبغي أن ينظر من هذه القضية فيما يقوله أبو نصر وغيره من أنها عامة للتصديق الحاصل والتصور ، فإن ظاهر كلام أرسطو ومثالاته التي استعمل في ذلك هى من مواد التصديق ، لا من مواد التصور . وعلى هذا المعنى نجد ثامسطيوس قد لخص هذا الموضع ، وهل تتضمن المعرفة أيضا المعرفة الموطئة للتصديق والتصور مع المعرفة الفاعلة لهما ، أم إنما قصد المعرفة الفاعلة فقط فنقول : أما أن غرضه على القصد الأول في هذه القضية إنما هو تبيين وجوب تقديم المعرفة الفاعلة للتصديق نفسه - فذلك [٤ ب] < بين من الأمور التي > استقرى في تصحيحها ، وذلك أنه لم يستقر فيها شيئا من الأشياء الفاعلة < للتصور > وقد يظن أنه عدد منها من الأشياء الموطئة للتصور والأشياء الموطئة للتصديق . وأيضا فإن نحن جعلنا الأشياء الفاعلة للتصور داخلة تحت هذه القضية ، كانت قضية مشتركة . وذلك أنه ليست جهة فعل المقدمات الأول للتصديق بالنتيجة المجهولة بالطبع وتيقننا بها من قبل المقدمات الأول المعلومة بأنفسها هي بعينها جهة فعل أجزاء الحدود للتصور المجتمع من الحدود ، وذلك أن كليهما ليس السير فيه من الأعرف الى الأخفى على مثال واحد . وذلك أن المقدمات قد تكون معلومة بالطبع والنتيجة مجهولة . وإذا ألفنا المقدمات ، حصلت النتيجة عنها معلومة . وأما أجزاء الحدود ، فليس يمكن أن تكون عندنا معلومة بعلم أول ، وتكون الحدود مجهولة عندنا على مثال ما يكون في المقدمات مع النتيجة . بل إذا كانت عندنا معلومة إما بنفسها وأما بقياس ، كان الحد معلوما بنفسه وإن كان قد يتفق أن يكون اقل ظهورا . ولذلك يحتاج في أمثال هذه الحدود الى استنباطها بطريق القسمة وطريق التركيب . وهذا أحد ما يقول أرسطو من قبله أنه ليس على الحد برهان ، أي على وجوده للمحدود إذا كان المحدود معلوم الوجود ، والحد مجهولا . وذلك أن الحد إذا كان مجهولا بالطبع ، والمحدود معلوم الوجود ، فإنما يلزم تصوره على البرهان بضرب من العرض ، لأن البرهان إنما يعطى بالذات التصديق بأجزاء الحد ، على جهة ما يعطى المعروف بنفسه التصديق بالمجهول بالطبع وبنفسه . وأما أجزاء الحدود فإنما تعطى الحدود ، لا على جهة ما يعطى المعلوم التصور بنفسه المجهول التصور بنفسه . فإنه ليس يوجد في التصور هذا النوع من الطريق ، أعني أن يصار فيه من التصور المعلوم بنفسه إلى التصور المجهول بالطبع حتى يستنبط المجهول منها من المعلوم . فإنه لو كان ذلك ، لما احتيج في الحدود المجهولة بالطبع إلى استعمال القياس في استنباطها . وسنقف على هذه المعاني كلها - إن شاء الله - في المقالة الثانية . ولذلك ليس يلفى في الحدود مصادرة على الإطلاق ، كما يتوهم ذلك كثير من الناس ، بل إن وجدت فيها مصادرة فمن جهة التقدم والتأخر في الوجود ، أعني أنه يصير المتقدم متأخرا والمتأخر متقدما ، مثل من يأخذ النهار في حد الشمس ، والشمس في حد النهار ، لا من جهة تبيين المجهول بالمجهول . وإذا كانت المعرفة المتقدمة على التصديق ، أعني الفاعلة له ، ليس يقال لها فاعلة على نحو ما يقال في المعرفة للتصور إلا باشتراك الاسم ، فبين أنه ليس ينبغي أن يعتقد أنه تشملها قضية واحدة . وهذا كله [ ٥ أ] مما يوجب عندي ألا يحمل قول أرسطو هاهنا إلا على المعرفة < الفاعلة للتصديق ومعاني > الأسماء وبخاصة المفصلة وكذلك شك مانن الذي يأتي بعد . وقوله :« وكذلك < كل واحدة واحدة > من الصنائع الباقية » - يعني سائر العلوم النظرية . وثامسطيوس يفهم عنه العملية ، وهو كما قلنا . وقوله : « وعلى هذا المثال يجرى الأمر فيما يقع التصديق به بالقول ، أعني بالقياس والاستقراء » - يريد : وعلى هذا المثال يلفى الأمر بالجملة في كل ما يقع التصديق به بالقول بالإطلاق ، برهانيا كان أو غير برهاني ، يعنى به باقي الصنائع الخمس ، إذ أنه إنما يكون العلم الحاصل فيها من معرفة متقدمة . وذلك أنه لما تبين أن الأمر يظهر أنه كذلك في العلوم النظرية بالاستقراء ، قال أنه بين أنه كذلك أيضا في جميع ما تقع فيه حجة وقول . ويعني هاهنا بالاستقراء شيئا يعم الاستقراء والمثال . وذلك أنه على هذا يصدق أن كل ما يتعلم بقول - أعني يقع التصديق به فإنما يكون ذلك باستقراء أو قياس ، فيأتلف القياس هكذا : كل ما يتعلم بقول فإنما يتعلم بقياس أو استقراء . وكل ما يتعلم بقياس أو استقراء فإنما يتعلم من معرفة متقدمة . أما ما يعرف بالقياس : فبالمقدمات ، وهي المتقدمة فيه بالمعرفة . وأما ما يعرف بالاستقراء فبالجزئيات وهي المتقدمة عليه في المعرفة . وقوله : « والمقدمة الكلية التي تظهر بالاستقراء إنما يمكن إظهارها بالاستقراء » - يريد : وأما المقدمة الكلية التي يلتمس تصحيح كليتها بالاستقراء ، فإنما يمكن ذلك فيها باستقراء الجزئيات المعروفة قبل غير المستقرى ،أعني قبل معرفة الكلية التي تصح بالاستقراء . أما أن كانت الكبرى ، فإنها تستعمل في الجدل . وأما إن كانت الصغرى ، فقد تستعمل في العلوم إذا كان استقراء يفيد اليقين . والقياس أيضا في قوله : « أعني بالقياس والاستقراء » - ينبغي أن يفهم منه شيء يعم القياس والضمير ، أعني القياس الخطبي ، كما قلنا إنه يجب أن يفهم من قوله « الاستقراء » شيء يعم الاستقراء الجدلي والمثال . ولذلك قال : « والخطباء إنما يمكنهم أن يأتوا بأحكام مقنعة بأن يتقدموا فيستقروا ويوردوا الأمثلة ، أو بأن يأتوا بالمقاييس المضمرة » - يعني بأن يوردوا الأمثلة المعروفة عند السامعين لإقناعهم ، المعروفة المقدمات أيضا عندهم والمعروفة الشكل . قال أرسطاطاليس : « ومما يجب أن يتقدم فيعرف من الاضطرار فهو على ضربين : أحد الضربين هو أن بعض الأشياء يحتاج الى أن يعلم من أمرها أنها موجودة . والضرب الآخر هو أن بعض الأمور الأولى فيها أن ننظر على ماذا يدل اسمها . وبعض الأمور تحتاج أن تعلم من الوجهين جميعا ، مثل القضية القائلة : على كل شيء يصدق الإيجاب أو السلب ، فإنه [٥ ب ] < يحتاج إلى > أن يعلم من أمرها أنها موجودة ، والمثلث المتساوي الأضلاع يحتاج الى أن يعلم من أمره الوجهان جميعا : على ما يدل اسمها ، وأنها موجودة . وذلك أن العلم بأن الشيء موجود والعلم على ما يدل اسمه ليس هما على مثال واحد . » التفسير إنه لما عرف أن كل علم وكل تعلم فإنما يكون عن معرفة متقدمة ، وكانت هذه المعرفة المتقدمة الفاعلة هي المعرفة بالمقدمة والأوائل التي ينبني البرهان عليها - أخذ يعرف الأنحاء التي يجب أن تتقدم معرفتها من أمر الأوائل التي هي مبادئ البرهان ، فقال : « وما يجب أن يتقدم فيعرف من الاضطرار فهو على ضربين » يريد : وما يجب أن يتقدم فيعرف من أمرها صدق وجودها ، وهذه هي القضايا الواجب قبولها ، أعني المعروفة بالطبع مثل القضية القائلة إن كل شيء إنما يصدق عليه الايجاب أو السلب . وبعضها يجب أن يعرف من أمرها على ماذا يدل اسمها فقط ، وتلك هي الأشياء - التي إذا شرح ما يدل عليه أسماؤها عادت حدودا ، وذلك مثل ما يفعله ، في صدر كتابه ، المهندس من حد الدائرة والمثلث وغير ذلك ، فإنه شبيه أن تكون الأقاويل الشارحة لأمثال هذه الأشياء التي إذا فهمت عادت حدودا لها ، لأن الوجود فيها معروف بنفسه. وبعضها يجب أن يجتمع فيه الأمران جميعا ، وهو ضرب ثالث مركب من الضربين البسيطين ، أي ينبغي أن يتقدم فيعرف من أمره أنه موجود ، وعلى ماذا يدل اسمه ، مثل الوحدة التي هي موضوع العدد . فإنه إذا أراد أن ينظر ناظر في العدد ، فيجب أن يتقدم فيعرف على ماذا يدل عليه اسم « الوحدة » أولا ، وأن ذلك المعنى هو شيء موجود ، وسواء كان الوجود فيها معلوما بنفسه أو متسلما من صناعات أخر ، فإن موضوعات الصناعات تلفى بهذه الثلاثة أقسام : بعضها تحتاج إلى أن يعلم من أمرها أنها موجودة فقط ، وبعضها تحتاج إلى أن يعلم من أمرها على ماذا يدل اسمها فقط إذا كان الوجود لها معروفا ، وبعضها تحتاج أن يعلم منها الأمران جميعا . وكذلك المقدمات : بعضها تحتاج أن يعلم من أمرها أولا صحة وجودها ، وبعضها تحتاج أن يعلم من أمرها على ماذا يدل اسمها ، وبعضها على الأمرين جميعا . فأرسطو أتى بمثال واحد من هذه الثلاثة ضروب من المقدمات ، وهو الذي يحتاج أن يعرف من أمره أنه موجود فقط حين قال : « مثل القضية القائلة : على كل شيء يصدق الايجاب أو السلب وأتى بمثال [ ٦ أ] الضربين الآخرين من الموضوعات . وإنما قال على ضربين وعدد < ثلاثة لأن الضرب > الثالث هو مركب من الاثنين ، والبسيطة هي اثنان . وثامسطيوس < يرى أن > هذه المعارف المتقدمة التي عددها أنها أنحاء يجب أن تتقدم في المطلوبات أنفسها ، لا في الأوائل التي يبنى عليها البرهان . فيقول إن بعض المطالب تحتاج أن يعلم من أمرها أنها موجودة . وحينئذ يطلب المجهول فيها ، وهي جميع الأشياء التي تطلب أسبابها على ما سيأتي بعد . وبعضها تحتاج أن يعلم من أمرها على ماذا يدل الاسم ، أعني القول الشارح له ، وحينئذ نطلب : هل هي موجودة ، أو غير موجودة ؟ مثل أن الذي يطلب هل الخلاء موجود ، أو غير موجود - فيجب أن يتقدم فيعرف على ماذا يدل اسم الخلاء . والذي قاله صحيح . وينبغي أن يفهم هذا في المقدمات أولا ، وفي موضوعات الصنائع ثانيا ، وفي المطالب ثالثا . فهذه الأنحاء من المعارف هي أنحاء المعارف الأول التي يجب أن تتقدم في المعارف الفاعلة للتصديق والمعارف الموطئة له . وكذلك يشبه أن يكون الأمر في أنحاء المعارف المتقدمة على التصور ، أعني الفاعلة ، والموطئة . لكن كلامه ، على القصد الأول ، إنما هو في أنحاء المعارف الموجودة في الأشياء الفاعلة للتصديق . وإنما قال : « وذلك أن العلم بأن الشيء موجود والعلم على ما يدل اسمه ليس هما على مثال واحد » - ليعرف بذلك أن العلمين معنيان متغايران ، ومع أنهما متغايران غير متلازمين . وذلك أنه قد يعرف على ماذا يدل الاسم ، أعني القول الشارح ، ولا يعرف أنه موجود ، مثل الحال في اسم الخلاء واسم الطبيعة عند من يرى أنها غير معروفة الوجود بنفسها . وكذلك أيضا قد يعلم أن الشيء موجود ، ويجهل شرج اسمه ، أعني رسمه أو حده . قال أرسطاطاليس : « وقد يتعرف الإنسان بعض ما كان حصلت له المعرفة به قديما . وبعض الأمور قد يحصل له علمها ومعرفتها معا ، بمنزلة جميع الأشياء الموجودة تحت الأشياء الكلية التي قد أفتى العلم بها ، مثل طبيعة المثلث : قد كان العلم بأن زواياه الثلاث تعادل قائمتين ، فحصلت الكلية . فأما المثلث الموضوع في نصف الدائرة فساعة كشف عنه حصل له علمه وتعرفه معا . » التفسير لما كان هاهنا أشياء قد تعلم لا بعلم متقدم ، أو بعلم متقدم بجهة غير الجهة التي تعلم منها المطالب المجهولة بالمعارف الأول المتقدمة - وتلك هي التي تعلم على جهة التذكر ، أو التي تعرف بالحس - أخذ يعرف أن هذا النوع من العلم [٦ ب ] < وهو الذي > يعلم بعلم متقدم لما أمكن أن يعلمه الإنسان ، لا بعلم متقدم ، بل ابتداء - هو غير النوع الذي تضمنته القضية القائلة إن كل علم وتعلم فهو عن معرفة متقدمة - فقال : « وقد يتعرف الإنسان بعض ما كان حصلت له المعرفة به قديما » - يريد : وقد يعلم الإنسان أشياء كثيرة قد كان حصل له علمها قديما فنسيها ، ثم إنه تذكرها . وهذا النوع من العلم ، أعني الذي يكون على طريق التذكر ، وإن قيل فيه أنه معرفة متقدمة ، فهو على نحو غير نحو تقدم علم المقدمات على علم النتائج . وذلك أن العلم المتقدم في التذكر هو بعينه العلم الحاصل بعد ، وليس العلم بالمقدمات هو العلم بالنتيجة إلا بالقوة فقط . - وأيضا فإن العلم الحاصل بالتذكر علم قد حصل بالنعل . وأما علم النتيجة فلم يحصل قط بالفعل في الذهن قبل عمل القياس عليه . وذلك أمر بين . وإنما قصد بهذا ليعلم فيما بعد أن حل أفلاطون شك « مانن » - بوضعه أن التعلم تذكر- بر يكن صوابا . ولما كان ها هنا إدراكات لا عن معرفة متقدمة ، وهي علم الحواس ، وكان هذا الإدراك غير الإدراك بالعلم المتقدم ، وكان متى وضع الادراكين واحدا لزم عنه شك في المقدمة المذكورة ، وذلك أن المحسوس مجهول قبل أن يحس ، فإذا أحس علم بعلم متقدم . وكان أيضا للسفسطائيين تغليط من قبل هذا في أن الشيء الواحد بعينه يعلم ويجهل معا على ماسيحكيه عنهم بعد ، أعني متى لم يفرق بين هذين العلمين ، قال : « وبعض الأمور قد يحصل لنا علمها وتعرفها معا - بمنزلة جميع الأشياء الموجودة تحت الأشياء الكلية التي قد أفتى العلم بها » يريد: وبعض الأمور قد يحصل للإنسان علمها عن غير معرفة متقدمة ويعرفها بالحس معا ، وهما المعرفة التي تكون عن معرفة غير متقدمة ، وذلك مثل جميع الأشياء الجزئية الغائبة عن الحس الداخلة تحت أمر كلي قد علم . مثال ذلك أنه قد يكون عندنا علم كلي بأن المثلث زواياه مساوية لقائمتين ، ولا نكون نعلم بوجود مثلث ما مشار إليه أو مخصوص أنه بهذه الصفة ، كأنك قلت : المثلث المرسوم في هذه الدائرة المحسوسة لأنا لم نحسه بعد ولا كان عندنا علم بوجوده ، فإذا أحسسناه بأن كشف لنا مثل عنه حصل لنا عند الكشف عنه معرفة وجوده بالحس وعلمه معا ، أعني أن زواياه مساوية لقائمتين ، وذلك أن كونه مثلثا يحصل عن الحسن ، وكون زواياه مساوية لقائمتين يحصل عن العلم الكلي وهو أن كل مثلث فهو بهذه الصفة . قال أرسطاطاليس : « وقد توجد بعض الأمور علمها على ما ذكر أولا بالمشاهدة ، وليس إنما يعرف الأخير بوسط ، وهذه هي صورة الجزئيات [ ٧ أ] والتي لا تقال على موضوع . لكن قبل أن يكشف عن المثلث المستور ويعمل < عليه > القياس ، فإن معرفته تكون حاصلة لنا بنحو ما ، وأما بنحو آخر فلا ، من قبل أن الشيء الذي لا يعلم وجوده على الإطلاق كيف يعلم أن زواياه تعادل قائمتين على الإطلاق ! لكن العلم لهذا المعنى يكون موجودا له بوجه وهو : من حيث هو حاصل تحت الكلي . أما على الإطلاق ، فلا . » التفسير قوله : « وقد يوجد بعض الأمور علمها على ما ذكرأولا بالمشاهدة » - يريد : والسبب في أن كان بعض الأشياء يحصل العلم به بصفة من صفاته وبوجوده معا أن بعض الأشياء يدرك وجودها بالحس ، لا بقياس أصلا ، وتعرف أحوالها بقياس . وقوله : « وليس إنما يعرف الأخير بوسط » - يعني : وليس يعرف هذه الأشياء التي هي آخره في الحمل بوسط ، أي ليس تحمل على شيء أصلا ، أعني حملا كليا وعلى المجرى الطبيعي . ثم قال : « وهذه هي صورة جميع الجزئيات والتي لا تقال على موضوع » ويعني : وهذه هي جميع الجزئيات الشخصية التي حدت في كتاب « المقولات » التي لا تقال على موضوع أصلا . ثم قال : « لكن قبل أن يكشف عن المثلث المستور ويعمل عليه القياس ، فإن معرفته تكون حاصلة بنحو ما ، وأما بنحو آخر فلا » - يريد : وإذا تبين أن معرفة الشيء بالقياس غير معرفته بالحس ، فإنا نقدر من قرب أن نحل المغالطة المشهورة التي كان يغالط بها السفسطائيون ، فيلزمون أن يكون الشيء مجهولا معلوما معا - بأن نقول للسفسطائيين إنه قبل أن يكشف المثلث ويعمل عليه القياس ، فإن المعرفة بأن زواياه مساوية لقائمتين تكون حاصلة له قبل كشفه من جهة ، وغير حاصلة من جهة ، فنحن نجهله من جهة ، ونعلمه من جهة ، وليس نجهله ونعلمه من جهة واحدة ، وهو المحال الذي ألزمتم . وذلك أن المثلث المستور قبل كشفه لنا نعرف أن زواياه مساوية لقائمتين بالقوة ، من جهة انا نعرف وجود ذلك الكلي المحيط بهذا المثلث المشار إليه ، وهو علمنا بوجود الزوايا مساوية لقائمتين للمثلث كما هو مثلث . فنحن نعرفه بالقوة ، ونجهله بالفعل ، أي نعرفه من جهة الأمر الكلي ، ونجهله من جهة الأمر الجزئي المغيب عنا ، فإذا كشف لنا عنه حصل لنا العلم بالأمرين جميعا . ووجه هذه المغالطة - على ما سنذكره بعد - أنهم كانوا يعمدون فيصورون مثلا - مثلثا بحيث لا يظهر للذي يريدون أن يسألوه ، ثم يقولون له : يا هذا ! ألست تزعم أنه قد حصل لك العلم بأن كل مثلث فزواياه مساوية [٧ ب ] لقائمتين . فإذا قال : « نعم ! » - أخرجوا له ذلك المثلث المستور فقالوا له « يا هذا ! هل كنت تعلم أن هذا المثلث زواياه معادلة لقائمتين من قبل أن يكشف لك عنه ، أم كنت لا تعلم ذلك ؟ » فإذا قال : « بل كنت لا أعلم ذلك » قيل له : « فقد كنت تعلم أن هذا المثلث زواياه مساوية لقائمتين ولا تعلمه معا » . فحل هو هذا الشك بان قال لهم : « كنت أعلمه من جهة ، وأجهله من جهة قبل أن يكشف عنه » ، أي اعلمه من جهة الكلى المحيط به ، وأجهله من جهة الجزئي الخاص . ثم أتى بالسبب الذي من أجله كان المثلث المستور بهذه الصفة ، أعني مجهولا بالفعل ، معلوما بالقوة ، فقال : من قبل أن الشيء الذي لا يعلم وجوده على الإطلاق كيف يعلم أن زواياه تعادل قائمتين على الإطلاق » - يريد أنه لا يمكن أن يكون قد حصل العلم الذي بالفعل بهذا المثلث المستور من قيل أن يكشف ، لكن من قبل الأمر الكلى . وذلك أن هذا المثلث قبل أن يكشف عنه هو مجهول الوجود . وإذا كان مجهول الوجود ، فكيف يمكن أن يعلم أن زواياه مساوية لقائمتين قبل أن يعلم وجوده ! فهو مجهول من هذه الجهة ، وهو معلوم من قبل أنه بالقوة منطو تحت الأمر الكلي الذي كان لنا العلم به ، وهو أن كل مثلث فزواياه مساوية لقائمتين . قال أرسطاطاليس : « وإن لم تكن الصورة كذلك ، وإلا فقد تلزمنا الحيرة المذكورة في كتاب « مانن » وهي إما أن يكون الإنسان لا يعلم شيئا أصلا ، وإما أن يتعلم ما يعلم . وليس ينبغي أن يحل الشك كما رام غيرنا حله ، فإنهم سألوا فقالوا : أترى البرهان حصل أن كل ثنائية زوج ، أو لا ؟ فمع الإجابة ب « نعم » كشفوا عن ثنائية لم يعلم بوجودها وقالوا : هذه لم يشعر بوجودها ، فكيف يعلم أنها زوج ؟ فإنهم حلوا هذه الحيرة بأن قالوا : لم يقل إن كل ثنائية زوج ، [71a]* ولكن على الشيء التي يعلم أنها ثنائية. » التفسير يقول : وإن لم ينزل أن جميع المطلوبات هي بهذه الصفة ، أعني أنها تجهل من جهة ، وتعلم من جهة - أي تعلم من جهة الأمر العام وتجهل من جهة الخاص - فقد يلزمنا الشك المذكور في كتاب « مانن » في التعليم : وهو الملزم : إما أن يكون الإنسان لا يتعلم شيئا يجهله ، وإما أن يتعلم ما قد علمه . وسكت عن الشك لأنه كان مشهورا عندهم . والشك هو هكذا : لا يخلو المتعلم للشيء أن يكون إما عارفا به ، وإما جاهلا . فإن كان عارفا به فلا حاجة إلى تعلمه ، وإن كان جاهلا [ ٨ أ] به فمن أين إذا صادفه يعرف أنه مطلوبه ؟! . ومثال ذلك أن العبد < الآبق إذا كان الباحث عنه > لا يعرفه ، لم يعرفه إذا صادفه . وهذا الشك قصد به ابطال التعليم . وقد كان أفلاطون أجاب عن هذا الشك بأن وضع أن التعلم تذكر ، وسلم أن المطلوب قد كان معلوما قبل أن يعلم . وهو بين أن المطلوب المجهول الطبع لم يكن لنا قط معلوما بالفعل ، وإنما كان معلوما بالقوة . فوجه حل هذا الشك أن يقال له : إن المطلوب لو كان مجهولا على الإطلاق ومن جميع الجهات لما كان سبيل إلى علمه . ولو كان أيضا معلوما على الاطلاق ، لكان تعلمه عبثا . لكنه معلوم من جهة ، وهو الأمر الكلي العام ، ومجهول من جهة وهو الأمر الخاص ، فنحن نطلبه من قبل الجهة المجهولة فيه ، ونعرفه إذا صادفناه من قبل الجهة المعلومة عندنا منه . ولما كان ذكر شك السفسطائيين المشارك في وجه الحل لهذا الشك ، ذكر أنه ليس ينبغي أن يحل بما حله به غيره فقال : « وليس ينبغي أن نحل الشك كما رام غيرنا حله » - ثم ذكر وجه الشك وحل الغير له . وما يقوله في ذلك مفهوم بنفسه . وذلك أن هؤلاء كانوا يسألون كما قال : « أترى حصل العلم بالبرهان بأن كل ثمانية عدد زوج ؟ فإذا قال المجيب : « نعم » كشفوا له عن ثمانية قد أخفوها له فقالوا له : أكنت تعلم هذه الثمانية أنها زوج ؟ فإذا قال : « لا » ، قالوا له : فأنت تعلمها ولا تعلمها » . وكذلك كانوا يسألون عن المثلث ، وفي غير ذلك من الأشياء الجزئية المنطوية تحت المعلوم بالبرهان . ورام غيره حله بأن قال لهم : لم أكن أعلم أن كل ثمانية بأطلاق هي عدد زوج ، وإنما الذي علمته بالبرهان أن كل ثمانية ، علمت أنها ثمانية ، فهي عدد زوج . ولما عرف وجه حلهم أخذ يعرف ما فيه من الخطأ . قال أرسطاطاليس : « لكن البرهان الذي حصل عندهم لم يحصل مبينا على أنه الشيء الذي يعلمون أنه مثلث أو عدد لكن على طبيعة المثلث وطبيعة الثنائية ، لا ولا في واحد من المقدمات التي أقتضبها باستثناء بمنزلة العود الذي يعلم ، والمستقيم الخطوط الذي يعلم لكن على الاطلاق . سوى أنه ليس مانع يمنع أن نعلم الشيء من جهة ، ونجهله من جهة . والقبيح الشنيع ليس هو أن يكون ما يتطرق الإنسان إلى علمه يعرفه بوجه من الوجوه . لكن القبيح أن يتطرق فيتعلم من جهة ما هو عالم به . » التفسير يقول : وليس الأمر على ما قال هؤلاء ، فإن البرهان الذي قام عندهم على مساواة زوايا المثلث لقائمتين ، لم يقم على هذه [ ٨ ب ] الشريطة التي زعموا ، وهو أن يقوم على المثلث الذي يعلمون أنه مثلث ، بل إنما قام على المثلث بإطلاق . وكذلك أيضا هذه الشريطة ليسر توجد في شيء من المقدمات المأخوذة في هذا البرهان . وإذا لم توجد هذه الشريطة لا في النتيجة ولا في المقدمات - فما قالوه باطل . فقوله : « ولكن البرهان الذي حصل عندهم لم يحصل مبينا على أنه الشيء الذي يعلمون أنه مثلث أو عدد ، لكن على طبيعة المثلث وعلى طبيعة العدد ، لكن البرهان الذي حصل عند الذي تبرهن عنده أن زوايا المثلث مساوية لقائمتين وأن الثمانية عدد زوج لم يحصل مبينا عنده على أنه موجود للمثلث الذي يعلم أنه مثلث أو للثمانية التي يعلم أنها ثمانية ، لكن إنما حصل عندهم للمثلث على الإطلاق وللثمانية على الاطلاق . وقوله : « ولا في واحد من المقدمات التي اقتضبوها باستثناء » - يريد : ولا يوجد في واحد بين المقدمات التي وضعت في هذه البراهين مقدمة وضعت باستثناء ، أي استثنى فيها مثل هذا المعنى ، مثل أن يوضع في مقدمات البرهان على أن الثمانية عدد زوج العدد الذي يعلم ، لا العدد المطلق ، حين يقولون : كل ثمانية عدد ينقسم بنصفين ، ومثل أن يضعوا في البرهان على أن المثلث زواياه مساوية لقائمتين ، وفي رسم المثلث أنه الشكل المستقيم الخطوط الذي يعلم أنه كذلك وهذا هو الذي دل عليه في قوله : « بمنزلة العدد الذي يعلم والمستقيم الخطوط الذي يعلم » . وقوله : « لكن على الاطلاق » : لكن إنما وضعوا هذه المقدمات على الاطلاق لا بهذا الشرط . ثم قال : « سوى أنه ليس يمنع مانع من أن نعلم الشيء بجهة ، ونجهله بجهة » - يريد : غير أنه وإن لم ينحل هذا الشك من هذه الجهة فهو ينحل من جهة أنه ليس يمنع مانع من أن يعرف الشيء من جهة ، ويجهل من جهة أخرى . والقبيح الشنيع ليس هو أن يكون ما يتطرق الإنسان إلى علمه يعرفه بوجه من الوجوه . لكن القبيح هو أن يتطرق فيعلم الشيء من جهة ما هو عالم به - هو إعلام منه إلى أنه بهذا الحل بعينه ينحل شك « مانن » وذلك أنه ليس بقبيح ولا شنيع أن يتطرق من الجهة التي يعلمها منه الى الجهة التي لا يعلمها ، بل ذلك هو الواجب . وإنما الشنيع القبيح أن يتطرق الإنسان فيتعلم الشيء الذي يعلمه من الجهة التي يجهله . وهذا هو الذي ظن « مانن » أنه يلزم عن قوله . وإنما اللازم الوجه الآخر الذي ليس بممتنع بل هو واجب ، وهو أن يتطرق من الجهة المعلومة من الشيء إلى الجهة المجهولة فيه .
٢ - < في العلم والبرهان وعناصرهما >
Shafi 179