فهم لا يعرفون القمح ولا يزرعونه وإنما يأخذون لب القرع الذي ينمو عندهم بكثرة وينقعونه في آنية مصنوعة من لحاء الشجر، ثم يقشرونه ويتركون اللب في الماء حتى تذهب عنه مرارته، ثم يصفونه ويمزجونه بالبلح، ثم يجففونه ويطحنونه دقيقا يخبز مع اللحم فيكون طعاما.
ولهم عادات غريبة في الميراث، فإذا مات أحدهم اجتمع أقاربه وحملوه إلى قبره في الجبانة التي تقع عادة خارج الحلة أو القرية التي يعيشون فيها، فإذا دفن وقفوا مستعدين فتشار لهم إشارة خاصة فيعدون إلى بيت الميت متسابقين، فمن بلغه قبل غيره غرز رمحه أو قوسه، فيصير بذلك الوارث الوحيد لما ترك الرجل من مال ونساء ما عدا أم المتوفى، وله الحق عندئذ في أن يتزوج النساء أو يسرحهن حسب حالته المالية، فإن عدد النساء يتوقف على غنى الرجل أو فقره.
ووصلنا أخيرا إلى كامو حيث أخبرني الزغاوة الكبير الشيخ صالح دنقوسة بأن رؤساء عرب البادية سيحضرون في الغد، واتفقت معه على أن تكون شجرة الهجلك مكان اللقاء والمفاوضة، وأن يكون ميعاد المفاوضة بعد ساعة من شروق الشمس، ويكون هو ترجمانا بيني وبينهم، وأمرت رجالي بنصب خيامهم على بعد نصف ميل من شجرة الهجلك ثم صففتهم في صباح اليوم التالي؛ استعدادا للقاء رؤساء البادية الذين أخبرنا صالح المذكور بقدومهم، ووقفت مع ضباطي ومع السنجق عمر واد دارهو متقدمين على الجنود بنحو مائة ياردة ومعنا الخدم وقوفا إلى جانب الخيول، ثم ظهر لنا رؤساء البادية قادمين إلينا ومعهم صالح وأيديهم مكتوفة إلى صدورهم ورءوسهم منكسة، وقد أحضروا معهم ترجمانا فتبادلنا التحية بواسطته، ثم أمرت ببسط السجاد على الأرض ودعوتهم إلى الجلوس عليه، أما أنا وضباطي فقد جلسنا على الكراسي ثم تناولنا شيئا من السكر والماء والملح وشرعنا في المفاوضة.
وكان رجال البادية أربعة كلهم طويل شريف الهيئة ذو ملامح حسنة في سن الكهولة، وكانت ملابسهم جلابيب بيضاء أحضرها لهم صالح، وكانوا يحملون السيوف العربية المستقيمة، وكانت أسماؤهم: جار النبي، وبوش، وعمر، وكركرة. ولكني لست متأكدا بأنهم لم يتخذوا هذه الأسماء العربية المطنطنة وقتيا للظرف الحاضر فقط، وكان أتباعهم يبلغون من ستين إلى سبعين رجلا يلبسون القمصان والجلود وقد وقفوا وراءهم على بعد منهم، وقعد صالح دنقوسة قريبا من الشيوخ ومن المترجم.
وتكلم جار النبي مخاطبا المترجم قائلا: «كرسي سلم». فقال المترجم سلم يعني أنه مستعد للترجمة، ثم شرع في المفاوضة قائلا:
نحن من قبيلة البادية، وقد كان آباؤنا وأجدادنا يدفعون الخراج لسلطان دارفور كل سنتين أو ثلاث عندما كان يرسل جباته لجمعه، وأنتم الأتراك قد تغلبتم الآن على دارفور ولم تسألونا قط أن ندفع لكم خراجا، وأنت (لسلاطين) قد صرت حاكما للبلاد كما أخبرنا بذلك صديقنا وأخونا دنقوسة، ونحن نقر بطاعتنا لك، وقد أحضرنا معنا رمزا لهذه الطاعة عشر خيول وعشر جمال وأربعين بقرة، فهل لك الآن أن تقرر قيمة الخراج المطلوب منا؟
وصارت النوبة إلي في الكلام، فبعد أن قلت «كرسي سلم» قلت: «أنا أشكركم على خضوعكم وسأطلب خراجا صغيرا، ولكني جئت هنا لكي أطلب منكم أن تردوا إلى المهرية جمالهم التي سرقتموها وتردوا إليهم أسراهم الذين تحبسونهم الآن.»
فتريث جار النبي هنيهة ثم قال: «منذ عهد آبائنا ونحن في ثارات مع العرب المحيطين بنا، فإذا قاتلناهم وأسرنا منهم أسرى فمن حقنا أن نطلب فداءهم، وكثيرا ما قبلنا قبلا فكاك أسرى المهرية.»
فسألت الشيخ حسب الله عن صحة هذه الدعوى فأجاب بالإيجاب، فسألته ثانيا: «هل كانت هذه العادة تجري مدة سلاطين دارفور فقط، أو أنها جرت أيضا بعد دخول دارفور في حكم الحكومة المصرية.»
فأجاب: «قبل أن تفتحوا البلاد ومنذ سنتين غزت المهرية بلادنا فصددناهم فارتدوا عنا.»
Shafi da ba'a sani ba