تمهيد
1 - تمهيد
2 - إقامتي في دارفور وتاريخها السابق
3 - حكومة دارفور
4 - رواية الخليفة عن المهدي
5 - الثورة في جنوبي دارفور
6 - حصار الأبيض وسقوطها
7 - المهدية في دارفور
8 - حملة هكس باشا
9 - سقوط دارفور
Shafi da ba'a sani ba
10 - حصار الخرطوم وسقوطها
11 - حكم الخليفة عبد الله
12 - بعض الحوادث الأخرى
13 - حملة الأحباش
14 - تشتت وتفرق
15 - ملاحظات متنوعة
16 - ملاحظات متنوعة
17 - وسائل النجاة
18 - فراري
19 - الختام
Shafi da ba'a sani ba
تمهيد
1 - تمهيد
2 - إقامتي في دارفور وتاريخها السابق
3 - حكومة دارفور
4 - رواية الخليفة عن المهدي
5 - الثورة في جنوبي دارفور
6 - حصار الأبيض وسقوطها
7 - المهدية في دارفور
8 - حملة هكس باشا
9 - سقوط دارفور
Shafi da ba'a sani ba
10 - حصار الخرطوم وسقوطها
11 - حكم الخليفة عبد الله
12 - بعض الحوادث الأخرى
13 - حملة الأحباش
14 - تشتت وتفرق
15 - ملاحظات متنوعة
16 - ملاحظات متنوعة
17 - وسائل النجاة
18 - فراري
19 - الختام
Shafi da ba'a sani ba
السيف والنار في السودان
السيف والنار في السودان
تأليف
سلاطين باشا
تمهيد
وعدنا في التمهيد الذي وضعناه لكتاب «التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر» لمستر ويلفرد سكاون بلنت؛ أن نصدر من بعده كتاب «السيف والنار في السودان» لسلاطين باشا، وهذان الكتابان يعدان من المستندات التاريخية التي لا بد من الاطلاع عليها؛ لمعرفة الحوادث التي تقلبت على مصر والسودان من خمسين سنة؛ وهي الحوادث التي ما زلنا نعاني نتائجها إلى الآن.
فاليوم ها نحن نبرز كتاب «السيف والنار في السودان»؛ وفاء بذلك الوعد، ورغبة في أن تكون له الفائدة المرجوة في خدمة تاريخ مصر الحديث.
وسلاطين باشا، مؤلف هذا الكتاب، هو ضابط نمساوي ولد سنة 1857 في فينا، وجاء إلى مصر سنة 1878 ودخل في خدمتها، فعينه غوردون باشا حاكما لدارفور سنة 1884، ولكن لم يمض عليه في منصبه هذا قليل حتى اعتقلته جيوش المهدي؛ فبقي أسيرا يدعي الإسلام والإيمان بالمهدوية إلى سنة 1895، وحينئذ فر إلى الجيش المصري واشترك معه في استرداد دنقلة وأم درمان.
وبقي سلاطين باشا بعد ذلك موظفا في حكومة السودان بين سنة 1900 وسنة 1914، ثم أعلنت الحرب العالمية فترك الخدمة في السودان وعاد إلى النمسا، ودخل في خدمة الصليب الأحمر، ولما عقدت الهدنة سنة 1918 انتدب عضوا في بعثة الصلح في باريس.
وقد نقل هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية السر ونجت باشا، الذي كان حاكما للسودان ثم معتمدا لإنجلترا في مصر، وهذه الترجمة الإنجليزية هي التي اعتمدنا عليها في التعريب.
Shafi da ba'a sani ba
26 يوليو سنة 1930
البلاغ
الفصل الأول
تمهيد
في يوليو سنة 1878، عندما كنت ملازما في ألاي ولي العهد رودلف عند حدود البوسنة، تسلمت خطابا من الجنرال غوردون؛ يدعوني فيه أن أذهب إلى السودان وأشتغل في خدمة الحكومة المصرية تحت إداراته.
وكنت في سنة 1874 قد سحت في السودان عن طريق أسوان، فذهبت إلى كورسكو وبربر، ووصلت إلى الخرطوم في شهر أكتوبر من تلك السنة، وعرجت على جبال النوبة، وبقيت مدة قصيرة في دلين؛ حيث كان مركز الرسالة الكاثوليكية النمسوية. ومن هنا خرجت في اكتشاف جبال جولفان نايمة وجبال كاديرو، وكنت أود أن أطيل بقائي في هذه الأصقاع، ولكن حال دون ذلك قيام عرب الحوازمة.
ولما لم تكن لي مهمة سوى السياحة، فإن الحكومة طلبت عودتي إلى الأبيض عاصمة كردوفان. وكان قيام هؤلاء العرب ناتجا عن جباية الضرائب الفادحة التي فرضتها عليهم الحكومة، وقد أخمدت الحكومة هذه الحركة بسرعة، ولكني لهذه الظروف لم أر من الصواب الرجوع إلى النوبة؛ وعلى ذلك قررت السفر إلى دارفور.
وفي ذلك الوقت كان حاكم السودان العام إسماعيل باشا أيوب مقيما في الفاشر عاصمة دارفور، وعندما بلغت الكاجة والقاطول وجدت ما خيب رجائي؛ فإن الحكومة نشرت منشورا منعت فيه دخول الأجانب في هذا القسم من السودان؛ لأنه كان حديث العهد بالخضوع للحكومة، وكان يخشى على حياة الأجانب فيه، فرجعت بلا توان إلى الخرطوم حيث عرفت أمين باشا - وكان في ذلك الوقت الدكتور أمين - وكان قد أتى من مصر حديثا في صحبة من يدعى كارل فون جرم.
وكان الجنرال غوردون حاكما عاما لمديريات خط الاستواء، وكان مقيما في لادو، فكتبنا إليه نطلب منه أن يشير علينا بما يراه. وبعد شهرين جاءنا جوابه يدعونا إلى زيارته، ولكن في هذا الوقت وافاني خطاب من أسرتي في فينا وهم يحثونني على الرجوع إلى أوروبا. وكنت أعاني مرض الحمى، وكان لا يزال باقيا علي سنة في الخدمة العسكرية، فقررت الرجوع والنزول على رأي أفراد أسرتي.
أما الدكتور أمين فقد قبل دعوة غوردون وشرع في السفر إلى الجنوب، كما شرعت أنا في السفر نحو الشمال، وقبل الافتراق رجوت أمين أن يذكرني بالخير أمام غوردون وقد فعل، وكان إيصاؤه بي لديه سببا في ذلك الخطاب الذي ذكرت أني تسلمته وأنا بالبوسنة بعد ذلك بثلاث سنوات.
Shafi da ba'a sani ba
وبعيد وصول أمين منحه غوردون رتبة بك وعينه حاكما لمدينة لادو، وعند سفر غوردون تعين حاكما عاما لمديريات خط الاستواء، وبقي في هذا المنصب إلى سنة 1889، حيث عين مستر ستانلي مكانه.
وعدت أنا إلى مصر عن طريق صحراء بيوضة، ثم دنقلة ووادي حلفا، وبلغت النمسا حوالي أواخر سنة 1875.
وقد فرحت عندما تسلمت خطاب غوردون الذي وصل إلي ونحن في حرب البوسنة، واشتقت إلى أن أعود إلى السودان معينا في منصب ما، ولكن لم يؤذن لي بالسفر إلا في ديسمبر سنة 1878 عندما انتهت الحرب وعادت فرقتي إلى برسبرج، فأخذت في التهيؤ مرة أخرى للسفر إلى أفريقيا.
وكان أخي هنري في الهرسك فقضيت ثمانية أيام في فينا أودع أفراد أسرتي، ثم ذهبت إلى تريستا في 21 ديسمبر سنة 1878 وأنا أجهل تماما أنه سيمضي علي 17 سنة أرى فيها الأهوال والغرائب قبل أن أرى بلادي ثانيا، وكان عمري إذ ذاك 22 سنة.
ولما بلغت القاهرة تسلمت تلغرافا من جيجلر باشا بالسويس، وكان قد عين مديرا لمصلحة التلغرافات بالسودان، وكان على وشك أن يسافر إلى مصوع؛ لكي يفتش على الخط بين هذه البلدة وبين الخرطوم. وقد دعاني إلى السفر معه إلى سواكن، فقبلت بكل سرور الانتفاع بهذه الفرصة التي تكرم فأتاحها لي. وافترقنا في سواكن؛ فذهب هو على ظهر الباخرة إلى مصوع، وشرعت أنا أهيئ نفسي للسفر إلى بربر على الجمال، وقد عاونني علاء الدين باشا الذي كان حاكما في ذلك الوقت، والذي كان بعد ذلك في صحبة هكس باشا، الذي قتل مع الجيش المصري بأجمعه عندما اصطدم به جيش المهدي في شيكان في نوفمبر سنة 1883.
ولما بلغت بربر وجدت في انتظاري ذهبية بأمر الجنرال غوردون، فنزلت إليها ووصلنا إلى الخرطوم في 15 يناير سنة 1879، وقد لقيت هنا احتراما ورعاية؛ إذ قد خصني غوردون بدار ليست بعيدة عن القصر، وأنفذ إلي من يدعى علي أفندي لكي يقوم بقضاء ما أحتاج إليه، وكنت في اجتماعي بالجنرال غوردون أسمعه يتحدث عن الضباط النمسويين الذين عرفهم في طولطشة، عندما كان في بعثة الدانوب، وكان يحفظ لهم في قلبه أجمل ذكرى، وأتذكر قوله لي: إنه من الخطأ أن نغير ملابسنا البيضاء السابقة بملابسنا الزرقاء الراهنة.
وعينني غوردون مفتشا ماليا وطلب إلي أن أقوم بالتفتيش في البلاد، وأفحص شكايات السودانيين الذين كانوا يعارضون في دفع الضرائب التي لم تكن تعتبر فادحة. وإطاعة لهذه الأوامر قمت إلى سنار وفازوغلي عن طريق المسلمية، وعرجت على جبال قوقيلي ورجرج وكاشانكيرو القريبة من بني شنغول، ثم رفعت تقريري إلى الجنرال غوردون وأوضحت في هذا التقرير أن الضرائب غير عادلة، وأن معظمها يقع على عاتق أصحاب الأملاك الصغيرة من الأرض، أما كبار الملاك فكان من السهل عليهم أن يرشوا الجباة بمبالغ صغيرة فينجوا من الضرائب إلا ما قل منها، وعلى هذا كان مقدار كبير من الأرض لا تؤخذ عليه الضريبة، بينما يقوم الفقراء بسد العجز ودفع ضرائب ثقيلة عن أملاكهم. وأبنت - فضلا عن هذا النظام السيئ - أن الأهالي مستاءون من الطرق الجائرة التي يتبعها جباة الضرائب، وجلهم من الجنود والباشبوزق والشايجية، ولم يكن هم هؤلاء الموظفين سوى الحصول على الثروة بأسرع ما يمكنهم على حساب السكان التعساء، الذين كانوا يخضعون لسلطتهم الوحشية القاسية.
وكنت كثيرا ما أجد خلال أسفاري أن الأراضي التي يملكها الموظفون - ومعظمهم من الأتراك والشايجية - لا تجبى عليها ضرائب ما، وعندما كنت أسأل عن علة ذلك كان يقال إن هذا الامتياز للموظفين لما يقومون به من الخدمة للحكومة. وقد كانوا يستاءون أشد الاستياء عندما كنت أقول لهم إنهم يتناولون أجرا على هذه الخدمة.
ولكني عندما قبضت على البعض منهم أقروا جميعا بأنهم متأخرون في دفع الضرائب. ووجدت في المسلمية - وهي بلدة تجارية كبيرة تقع بين النيلين الأبيض والأزرق - جماعة من النساء في سن الشباب، وكان يملكهن أغنى التجار وأكثرهم اعتبارا، ويؤجرونهن للأغراض السافلة بأجور عالية، وكان هذا العمل من التجارات الرابحة، ووقعت في حيرة لا أدري كيف أفرض الضرائب على هذه المنازل، ولا أية خطة يجب إقرارها. وإني أعترف بأن تجاربي الماضية ومعارفي قد خذلتني في هذا الموضوع، وشعرت عندئذ بعجزي التام عن القيام بأي إصلاح، ولم يكن لي من الخبرة بالشئون المالية سوى القليل أو العدم؛ فلذلك وجدت من العبث أن أستمر في عملي وقدمت استقالتي.
وكان غردون قد سافر في هذه الأثناء إلى دارفور بخصوص البحث عن الحملة التي أرسلت لمقاتلة سليمان بن الزبير باشا، ولكنه كان قبل أن يسافر قد رقي جيجلر إلى رتبة باشا وعينه حاكما عاما مدة غيابه، فانتهزت الفرصة وأرسلت إليه مع البريد تقريري واستقالتي، وتسلمت بعد مدة قليلة تلغرافا منه يوافق فيه على استقالتي من منصب المفتش المالي.
Shafi da ba'a sani ba
وقد ارتحت كثيرا إلى تخلصي من هذا الواجب الكريه، ولم أشعر بوخز الضمير لتركي هذا المنصب؛ لأني شعرت بعجزي التام عن معالجته؛ إذ كان فاسدا من الرأس إلى العقب.
وبعد ذلك بأيام تسلمت من غردون تلغرافا عينني فيه مديرا لدارة، وهي تحتوي على الجزء الجنوبي الغربي لدارفور، وأمرني بأن أقوم إليها في الحال؛ لأنه كان علي أن أقود حملة عسكرية لمقاتلة السلطان هارون ابن السلطان السابق، وكان يسعى للاستقلال ببلاده والخروج على الحكومة المصرية. وطلب مني غردون أيضا أن أوافيه حين رجوعه من سفره إلى مكان بين الأبيض وطرة الحضرة على النيل الأبيض، فأرسلت جمالي إلى هذا المكان؛ حيث كانت باخرة غردون في انتظاره، ونزلت أنا إلى الباخرة التي سارت بنا إلى طرة الحضرة؛ حيث خرجت وركبت مدة ساعتين حتى بلغت محطة أبي جراد التلغرافية، وعلمت من هناك أن غردون لا يبعد عنا سوى أربع ساعات أو خمس، وأنه كان في طريقه قاصدا بلوغ النيل، فركبت ثانيا وسرت ولم يمض علي بضع ساعات حتى لقيته قاعدا في ظل شجرة كبيرة، وكان يبدو عليه التعب والإعياء ويشكو من تورم قدميه، وكان معي لحسن الحظ قليل من الكونياك أحضرته معي من الباخرة، فانتعش منه واستعد لاستئناف السفر، وطلب مني أن أرجع معه إلى الحضرة لكي نتباحث معا في مسألة دارفور، ولكي يعطيني التعليمات الضرورية، وقد عرفني إلى شخصين من حاشيته؛ وهما حسن باشا حلمي الجويزر الحاكم العام السابق لكردوفان ودارفور، ويوسف باشا الشلالي؛ وكان هذا آخر من انضم إلى جيشي في حملته لمقاتلة سليمان زبير والنخاسين. وامتطينا الدواب ولكن غوردون حث دابته حتى ما استطعنا أن ندركه، وبلغنا طرة الحضرة، ووجدنا جمالنا التي تحمل أمتعتنا، والتي كنا قد أرسلناها قبل قيامنا، قد وصلت قبلنا. وأرست الباخرة في وسط النهر وعبرنا نحن إلى البر في قوراب، وكنت أنا في مؤخرة القارب ويليني يوسف باشا الشلالي، ولما كنت أنا عطشان وكان بجانبه كوز رجوته أن يملأه من النهر ويناولنيه حتى أشرب، ورأى غوردون ذلك فابتسم والتفت إلي وقال لي بالفرنسية: «ألا تعرف أن يوسف باشا، على الرغم من وجهه الأسود، في مركز أعلى من مركزك؟ كان يجب ألا تطلب منه أن يسقيك.» فاعتذرت بالعربية إلى يوسف باشا، وقلت له إني طلبت منه الماء وأنا غائب الذهن، فأجابني بأنه مسرور لأن يخدمني.
ولما وصلنا نزلت أنا وغوردون في الإسماعيلية ونزل يوسف وحسن باشا في الباخرة الثانية بردين، وأخذ غوردون يشرح لي حالة دارفور شرحا وافيا، وقال لي إنه يرجو أن توفق الحملة في الانتصار على السلطان هرون؛ لأن البلاد مضى عليها مدة طويلة من الزمن وهي في حروب وسفك دماء، وأنها لذلك في أشد الحاجة إلى السلام والراحة، وأخبرني أيضا أن حملة جسي الموجهة ضد سليمان زبير ستنتهي قريبا، وأنه لن يمضي عليه زمن طويل حتى يقتل أو يهزم؛ لأنه قد فقد معظم من عنده من البازنجر أو حملة الأقواس، وأنه من المحال أن يصمد أمام الخسائر التي أوقعها به جسي، وكانت الساعة فوق العاشرة عندما ودعني غوردون، وكان قد أمر بإشعال النار؛ لأنه كان ينوي السفر إلى الخرطوم، وعندما سلمت وتنحيت قال لي: «فلترافقك السلامة يا عزيزي سلاطين وليباركك الله، إني واثق بأنك ستعمل جهدك مهما كانت الظروف، وربما عدت أنا إلى إنجلترا، ولعلنا نتلاقى بعد.»
وكانت هذه الكلمات آخر ما سمعت منه، ولكن من كان يمكنه أن يتصور ذلك القدر الذي كان مدخرا لكل منا؟! وشكرته أنا لتلطفه ومعاونته، وعندما بلغنا الشط انتظرت هناك حتى تقوم الباخرة، ثم ما هي إلا دقائق حتى سمعت ذلك الصفير الحاد ورفعت المرساة وتحركت الباخرة، وولت ومعها غوردون وقد ذهب بعيدا عني إلى الأبد.
وفي صباح اليوم التالي ركبت الجواد الذي أعطانيه غوردون، وقد حملني أربع سنوات بعد ذلك، فذهبت إلى أبوجراد، ومنها سافرت إلى أبي شوقة وخوصي، ثم إلى الأبيض حيث يوجد الدكتور زوربخين المفتش الصحي، وكان على وشك أن يسافر إلى دارفور، فاتفقنا على السفر معا إلى دارة، ثم استأجرنا الجمال بمساعدة علي بك شريف حاكم كوردفان، وبينما نحن على وشك الرحيل إذا به يناولني رسالة تلغرافية تنبئ بسقوط سليمان زبير في دارة في 15 يوليو سنة 1879، كما كان قد تنبأ غوردون عندما قال لي إنه لا بد خاضع أو مهزوم.
وهنا يجب أن أذكر أنه عندما فتح زبير باشا دارفور تركها لعناية ابنه سليمان وسافر هو إلى القاهرة، وفي سنة 1877 عين غوردون سليمان هذا حاكما على بحر الغزال، ولكن فشا خلاف بينه وبين من يدعى إدريس أبتر؛ أحد أهالي دنقلة، وكان زبير باشا قد وكل إليه العناية ببعض المسائل، ولكن أسرة الزبير تنتمي إلى قبيلة الجعالين، الذين كان بينهم وبين الدناقلة تحاسد وتباغض، وإني أعتقد أن كثيرا من القلق في السودان يرجع إلى هذه الحقيقة.
فإن سكان مديرية بحر الغزال خليط من قبائل الزنوج التي كانت مستقلة كل منها عن الأخرى، حتى جاءهم عرب الدناقلة وعرب الجعالين فاتحين بغية الاتجار بالعبيد. وينسب عرب الجعالين أنفسهم إلى العباس عم النبي، وهم يفخرون بهذا النسب ويباهون الدناقلة به. والدناقلة ينتمون في زعمهم إلى العبد دنقل، والمأثور أن هذا الرجل - على الرغم من أنه كان عبدا - قد ارتفع إلى أن صار حاكم النوبة، وإن كان مع ذلك يدفع خراجا لبهنسة الأسقف القبطي للبلاد الواقعة بين سراس ودبا.
وقد أسس دنقل هذا بلدة سماها دنقلة، وصار سكان هذا القسم بعد ذلك يدعون دناقلة، وغالبيتهم من أصل عربي ولكنهم لاختلاطهم بالسكان قد فقدوا مرتبتهم، وهم بالطبع يؤكدون انتسابهم للعرب، ولكن الجعالين لا ينفكون يذكرون أن أصلهم من العبد دنقل ويعاملونهم بالاحتقار والازدراء. ويجب على القارئ أن يذكر هذه العلاقة بين الجعالين والدناقلة؛ لأنه يتوقف على فهمها فهم كثير من حوادث السودان التي وقعت بعد ذلك.
وانتهى الخلاف بين سليمان زبير وإدريس إلى شجار، فشكا إدريس سليمان في الخرطوم وطلب معاونة الحكومة وحصل على جيش بقيادة جسي باشا، ثم تلا ذلك تلك الحملات التي انتهت بسقوط سليمان في بحر الغزال، وكان جسي قد وعده بالإبقاء على حياته، ولكن الدناقلة دسوا له فأعدم. وكان له شريك يدعى رابح لم يسلم معه خوفا من انتقام الدناقلة، فأخذ كوكبة من الجنود وسار بهم في الشمال الغربي، فأخذ يجازف ويقتحم الأهوال حتى بلغ قطرا قريبا من بحيرة تشاد، فاستولى عليه وصار ذا خطر عظيم في حظوظ القارة السوداء.
وهناك مسألة أخرى يجب علي ذكرها بخصوص الخلافات بين القبائل؛ لما لها من الأثر في حوادث السودان التي وقعت بعد ذلك، والتي يحسن لذلك شرحها مع بعض التفصيل.
Shafi da ba'a sani ba
لما زار غوردون دارفور زيارته الثانية، عرف وتحقق من أن تجار الأبيض السودانيين يبيعون الأسلحة والبارود للثائر سليمان، وكانوا بالطبع يعطفون عليه لما ينالون منه من الربح، وكانت هذه الذخائر الحربية ترسل بواسطة الجلابة أو صغار التجار بين الأبيض وبين بحر الغزال، وكان هؤلاء يربحون منها ربحا عظيما؛ مثال ذلك أن ثمن البندقية ذات ذات الأنبوبتين كان من ستة عبيد إلى ثمانية، وكان ثمن صندوق الخراطيش عبدا أو عبدين، وقد حاول الموظفون في الأبيض وقف هذه التجارة، ولكن الصعوبات كانت عظيمة، وكانت قبائل العرب الرحل تسكن المراكز الواقعة بين كردوفان وبحر الغزال، وكان بين هؤلاء العرب قبائل الرزيفات والحوازمة والحمر والمصيرية، وكان من السهل على التجار الجلابة أن يخرجوا قوافل صغيرة، وأن يجتازوا ويختبئوا في الغابات الكثيرة التي لم يكن يسكنها أحد، وإذا اتفق أن موظفا مصريا التقى بهم فإنه كان يمكن التغلب عليه برشوة صغيرة.
وكان غوردون يعرف كل هذا؛ ولذلك أمر بوقف التجارة بكل أنواعها بين بحر الغزال والأبيض، وأمر كذلك التجار بترك المراكز الواقعة جنوب الأبيض والطويشة وطريق دارة، وحصر تجارتهم في الجزء الشمالي والغربي ما دامت الحرب دائرة في بحر الغزال. ولكن على الرغم من الدقة التي اتبعت في تنفيذ هذه الأوامر، كان الربح الناتج عن التجارة مع سليمان أكبر وأقوى إغواء من أن تقفه هذه الأوامر؛ حتى كان التجار لا يعبئون باكتشاف أمرهم، ولم يكن في يد الحكومة ما يمكنها من أن تقف هذه التجارة التي زادت بدلا من أن تنقص بعد ذيوع هذه الأوامر، فعمد غردون لهذا السبب إلى وسائل حاسمة، وأمر المشايخ والعرب بأن يقبضوا على التجار الجلابة، ويرسلوهم بالقوة إلى دارة وطويشة وأم شنجة والأبيض، وألقى عليهم تبعة وجود الجلابة في بلادهم بعد تاريخ معين.
وانتهز العرب الحريصون هذه الفرصة وأخذوا ينبهون الجلابة، بل التجار الوادعين الذين عاشوا بينهم زمنا طويلا، والذين لم يكن لهم أقل دخل في تجارة المهربات الحربية، فجمعوا القمح والزوان بلا تمييز وربحوا بذلك ربحا عظيما، فما هو أن ذاعت أوامر غوردون حتى حمل العرب على التجار حملة عامة، فلم يأخذوا منهم تجارتهم فقط بل أخذوا كل ما يملكونه؛ حتى جردوهم من كل شيء، وساقوهم كالبهائم وهم تقريبا عراة يعدون بالمئات إلى طويشة ودارة وأم شنجة، وكان هذا عقابا عظيما لهم على مساعدتهم أعداء الحكومة.
وكان كثير من هؤلاء التجار قد أقاموا بين العرب سنوات، وكان لهم زوجات وأولاد وسريات وأملاك كبيرة وقعت كلها في أيدي العرب. والحق أن هذا الانتقام من هؤلاء التجار الذين كانوا يتجرون بالمهربات الحربية وبالعبيد؛ كان هائلا، وإن كانوا هم يستحقونه على مبدأ السن بالسن والعين بالعين، وكانت نتائج هذا العمل بعيدة المدى؛ وذلك لأن معظم هؤلاء الجلابة كانوا من الجعالين الذين ذكرناهم، فانغرست بينهم من ذلك الوقت وبين العرب الذين أذلوهم وأباحوا تجاراتهم عداوة لا تزال مستمرة للآن، والدلائل تدل على أنها في ازدياد لا في تناقص.
ولو اعتبرنا المروءة والإنسانية لقلنا إن هذا الاعتداء على الجلابة يستحق المناقشة من حيث عدالته، ولكن عند تدقيق الفحص نجد أن الظروف لم تكن تسمح بمعالجة هذا الظرف الاستثنائي بالوسائل السياسية أو بروح العطف الإنساني؛ فإنه لم يجد في الحالة وقتئذ سوى اتخاذ إجراءات شديدة فعالة، والعرب أنفسهم يقولون: «نار الغابة تلزمه الحريقة!» يعنون بذلك أنه إذا شبت النار في الغابة لم يكن سبيل النجاة منها إلا بإحراق جزء من الغابة؛ بحيث إذا وصلت النار الكبرى لا تجد ما تأكله؛ فينجو الإنسان منها بوقوفه في المكان الذي أحرقه هو نفسه. وهذا المثل يقبل التطبيق على الحالة التي ذكرناها.
ولما كان لهؤلاء التجار الجلابة - وجلهم من الجعالين والشايجية والدناقلة - أقارب في وادي النيل، وكان لهم أصدقاء يشتركون معهم في النخاسة وسائر التجارة، أوجدت أوامر غوردون سخطا بينهم؛ إذ لم يكادوا يفهمون العلة في ضرورة اتخاذ هذه الإجراءات الشديدة.
الفصل الثاني
إقامتي في دارفور وتاريخها السابق
غادرنا الأبيض أنا والدكتور زربوخين المفتش الصحي الذي كنت قد قابلته في القاهرة، وكانت مغادرتنا للأبيض في يوليو سنة 1879، فأخذنا طريقنا إلى الفوجة آخر محطة تلغرافية، وهنا تسلمت رسالة تلغرافية من غوردون يقول لي فيها إنه مسافر إلى الحبشة في مهمة مع الملك يوحنا.
ولما بلغنا أم شنجة وجدناها مزدحمة بالجلابة الذين طردوا من الجنوب، وكانت حالتهم تبعث على الشفقة، ومن الغريب أنه شاعت عني إشاعة مقتضاها أن غوردون خالي؛ ولعل سبب ذلك زرقة عيني وأني كنت حليقا، وكان الجلابة ينظرون إلي بعين الخوف لهذا السبب، وكانوا يعدون غوردون أصل بلائهم الحاضر، وأخذوا يغمرونني بالعرائض لمعاونتهم، فأخبرتهم بأن أم شنجة ليست داخلة ضمن نطاق أعمالي؛ ولذلك لا يمكنني مساعدتهم، وقلت أيضا إنه لو كان في مقدوري مساعدتهم من مالي الخاص لما فعلت.
Shafi da ba'a sani ba
وقد خالفت هذه القاعدة في حالة واحدة، ولكن قبل أن أقص هذه الحادثة يجب أن أقول إنه لا ينبغي الحكم على عملي من وجهة الآداب المسيحية فقط، بل أنا أقر بأني خرجت عن حدود الشريعة الإسلامية، ولكن عندما يقرأ القارئ القصة بأجمعها سيوافقني على جميع ما عملته، ويشترك معي في العواطف التي بعثتني على هذا العمل.
فقد زارني في أحد الأيام طائفة من التجار، وطلبوا مني أن أتوسط في مسألة شاب عمره 19 سنة وأصله من الخرطوم، وقصوا علي أن هذا الشاب قبل مغادرته الخرطوم كان قد خطب ابنة عم له جميلة ولكنها فقيرة، وتواعدا على الزواج بعد أن يسافر الشاب في تجارة ويجمع بعض المال، فلما وصل إلى أم شنجة عرف عجوزا غنية افتتنت به أشد الافتتان، ولم يخبرني هؤلاء التجار عن الشاب هل هو طمع في أموالها أو لا، ولكن المسألة انتهت بأن تزوجته هذه العجوز، ووجد هو نفسه أنه أصبح ثريا فلم يكن له رغبة في الرجوع إلى الخرطوم وتطليق امرأته، وبلغت أخباره ابنة عمه في الخرطوم فاستولى عليها ذهول، وطلب إلي أن أحل هذه المسألة، فماذا أفعل؟
فاستدعيت الشاب وكان جميلا وجماله فوق المألوف، فتنحيت به في ناحية وأخذت أكلمه بكل جد ووقار، وأظهرت له سوء عمله في التزوج بعجوز أجنبية عنه، وكيف أن خطيبته تبكي حتى كاد يذهب بصرها، وهي وإن كانت فقيرة ولكنه يجب شرفا أن يرعى مودتها ووعده لها، فتردد مدة طويلة ولكنه أخيرا رضي بأن يذهب إلى القاضي ويطلق هذه العجوز، وكنت قد استدعيت القاضي وأخبرته أنه إذا طلق الشاب زوجته يجب عليه أن يخبر المرأة بهذا الطلاق بكل رفق ولطف؛ لأني لا أرغب في ضوضاء، واستوثقت من أقارب الشاب بأنه بعد طلاقه يجب أن يسافر إلى الخرطوم، ثم أوصيت موظف الحكومة في أم شنجة بأن ينفي هذا الشاب بعد يومين من طلاقه ويأمر بعدم بقائه في البلدة بعد هذين اليومين، وأوعزت له بأن يقول ما شاء أمام العجوز ويلقي علي تبعة الخلاف، بشرط أن يجتهد في أن تعطي الشاب مبلغا من المال يقوم بحاجته مدة سفره إلى الخرطوم، ولم أكن أتصور وأنا أعمل هذا العمل الزوبعة الهائلة التي أثرتها على رأسي؛ ففي الساعة الرابعة بعد الظهر وأنا منسطح على العنجريب في عشتي، سمعت صوت امرأة غاضبة ترغب في أن تراني، فحدست من تكون هذه المرأة واستعددت للقائها وأمرت بدخولها، وما هو أن صارت في العشة حتى رأت الدكتور زربوخين الذي كان معي وقتئذ، فصاحت فيه وهي هائجة مجنونة: «لن أقبل الطلاق، هو زوجي وأنا زوجته، تزوجني على أصول الشريعة وأنا أرفض الطلاق.»
فدهش الدكتور زربوخين وتمتم كلمات مكسورة باللغة العربية وأخبرها بأنه لا يعرف شيئا عن هذه المسألة، وأن التبعة تقع علي أنا وحدي، ولم أتمالك من النظر والتأمل في هذه المرأة الغريبة؛ فقد كانت ضخمة قوية عنيدة، وكانت من الغضب بحيث لم تراع أدب اللياقة الذي تراعيه الشرقيات في مخاطبة الرجال؛ فقد انفتل برقعها لشدة هياجها، وبدا رأسها مغطى بمنديل حريري عديد الألوان وقع بعضه على كتفيها، وكان وجهها يضرب إلى الصفرة وقد كسته الأسارير، وفي كل من خديها ثلاثة خطوط من الوشم، بين الواحد والآخر نحو نصف بوصة، وكان معلقا بأنفها قطعة من المرجان الأحمر، ويتدلى من أذنيها قرطان كبيران من الذهب، أما شعرها فكان حلقات صغيرة عديدة قد شمطت لتقدمها في السن، وظننت وأنا أنظر إليها أني لم أر قط امرأة أكثر دمامة منها، وأنا في هذه التأملات وإذا بنعيبها الذي تحول إلي تسألني السؤال نفسه الذي سألته للدكتور المرعوب، فتركتها حتى هدأت قليلا ثم قلت: «إني أدرك تماما ما تقولين، ولكن لا بد من الخضوع لما لا مفر منه؛ فإن زوجك سيتركك وأنت لا يمكنك أن تتركي البلدة معه، وتقولين إنك لا ترغبين في الطلاق، ولكن تذكري أن الشريعة تحل للرجل الطلاق.»
فصاحت بي: «لو لم تتوسط لما طلقني، لعنة الله على يوم جئتنا فيه.»
فقلت: «أرجوك أن لا تقولي ذلك، فأنت امرأة غنية وأظن أنك لن تجدي صعوبة في الحصول على زوج أكبر سنا من زوجك الذي طلقك.»
فصرخت: «لا أريد أحدا غيره.»
فقلت بحدة: «اسكتي، أقارب زوجك السابق يريدون أن يتركك ويسافر، وقالوا إنه لا يربطه بك إلا أموالك، والآن مهما قلت فإنه سيغادرك غدا، ألست تخجلين من التزوج بشاب صغير قد كان يمكن أن يكون أحد أحفادك وأنت عجوز؟!»
فجنت جنونها عندما فهت بهذه العبارة ولم تستطع ضبط نفسها، فمزقت برقعها ورفعت يديها، لا أدري ماذا كانت تريد أن تفعله لو لم يدخل القواص ويجليها عن الغرفة بالقوة وهو يحذرها من الفضيحة التي تجلبها على نفسها بأعمالها هذه، وفي اليوم التالي سافر الزوج وهي في غم شديد.
وبعد سنوات لقيت هذا الزوج وكان قد تزوج ابنة عمه، فشكر لي صنيعي وتخليصي له من مخالب تلك العجوز، وكان في ذلك الوقت أبا سعيدا له أولاد عدة، وليس لي حاجة بأن أقول بأني نمت تلك الليلة مرتاحا لهذا الصنيع الذي لم يكلفني شيئا.
Shafi da ba'a sani ba
وبعد ذلك بيومين برحنا أم شنجة وبتنا في جبل الحلة، فاستقبلنا هناك حسن بك أم كادوك شيخ قبيلة برني، وكان على ولاء كبير للحكومة، وقد منحه غوردون رتبة بك، وكان رجلا كهلا سمينا جدا عريض المنكبين ووجهه مستدير دائم الابتسام، وقد يمكن أن نسميه «فولسطاف السودان»؛ جريا على شكسبير الذي سمى أكبر شخص مضحك في دراماته «فولسطاف»؛ فإننا بعد سنوات عندما انقلبت الأحوال وصار السادة عبيدا، صرنا أنا وهو ياورين عند الخليفة، وكان مزاجه البهيج هذا كثيرا ما يخفف عنا أعباء حياتنا التي كنا لا نتحملها أحيانا. وكان أخوه إسماعيل، على النقيض منه، رجلا طويلا نحيفا يميل إلى الجد، ولم يكن يتفق هذان الأخوان في شيء إلا في مسألة واحدة؛ هي حب المريسة - الجعة السودانية - والتهالك على شربها، وكان لكل منهما إناء يدعي أنه بلبل توضع فيه هذه المريسة فيتسابقان أيهما يفرغ إناءه قبل الآخر.
وقد دعوانا إلى العشاء معهما وشوي لنا خروف كامل على فحم الخشب، يصحبه عدة من الدجاج المشوي، وطبق من العصيدة التي تؤكل في كل وجبة في السودان. وكان أيضا على المائدة عدة آنية من المريسة، وقد طاب لنا الطعام فأكلنا، وتركنا المريسة لهما وشربنا نحن شيئا مما عندنا من النبيذ الأحمر، وقد شرب حسن وإسماعيل كلاهما من النبيذ والمريسة ما شاءا، وكان أثر الخمر في الأول عندما صدمته حمياها أن جعلته يتدفق في الحديث، أما الثاني فقد انعقد لسانه وصمت! وكان حسن يروي لنا بعض ما يعرفه عن غوردون، وقد اكتأب وحزن عندما عرف بسفره للحبشة.
وقال لي بلهجة الحزن: «قد لا يرجع غوردون من الحبشة، وقد يسافر إلى بلاده فلا نراه ثانيا.» ومن الغريب أن قولته هذه كان فيها شيء من الصحة، ثم ترك الغرفة وعاد بعد برهة ومعه سرج وسيف وهو يقول: «انظر، هذا هو آخر ما أعطانيه غوردون لما رافقته إلى الفاشر، ما أكرمه وأرأفه!» وعرض علينا إسماعيل سترة مطرزة بالذهب أهداها إليه غوردون، وقال حسن: «كان غوردون لا يعرف الكبر؛ في أحد الأيام ونحن في الطريق إلى الفاشر صاد أحد الخدم طائرا، فلما حططنا رحالنا في الظهر وضع الطباخ قليلا من الماء على النار، حتى إذا غلى غمس فيه الطائر لكي ينزع ريشه، ورآه غوردون يفعل ذلك فذهب إليه وأخذ يساعده في نزع الريش، فاندفعت أنا إليه ورجوته أن يكف عن ذلك وأنا أقوم بدلا منه بهذا العمل، ولكنه قال لي: «وهل تظنني أخجل من العمل؟ إني قادر على أن أخدم نفسي، ولست في حاجة لأن يقوم بخدمتي رجل حائز لرتبة بك مثلك».»
ولم يكف حسن عن مسامرتنا حتى ساعة متأخرة من الليل، وقد حكى لنا عن تجاريبه لما فتح الزبير دارفور، ثم ما تلا ذلك من الثورة إلى حالتها الحاضرة، وكان كثيرا ما يعود إلى ذكر غوردون، ومما قاله: «كنت مرة مسافرا مع غوردون فمرضت وجاء غوردون يعودني في خيمتي، وبينما هو يحدثني قلت له إني كنت منغمسا في الشراب، وإن وعكتي الحاضرة لم تحدث لي إلا لانقطاعي عنه منذ أيام، وكان قولي هذا هو الصيغة الغير المباشرة التي أردت منها أن يعطيني غوردون شيئا من الشراب، ولكن ساء فألي؛ فإن غوردون وبخني وعنفني وقال لي: «أنت مسلم وديانتك تحرم تناول الخمر، إني في غاية الدهشة، أقلع عن هذه العادة فكل منا يجب أن يطيع أوامر دينه.» فقلت له: «لقد اعتدت الشرب طول حياتي، فإذا انقطعت عنه الآن فإني أمرض، ولكني سأعتدل في المستقبل.» فبانت أمارات الرضى على وجه غوردون وهز يدي مسلما وودعني وخرج، وفي صباح اليوم التالي أرسل لي ثلاث زجاجات من الكونياك وأوصاني بالاعتدال في شربه.»
وكان أخو حسن صامتا لا ينبس بكلمة، وكان مرتفقا يملأ كوبا وراء آخر من المريسة ويشربه بجد ووقار ونظام كأنه نظام بساعة، ولما انتهى من الشراب وقف في روية وتؤدة ومسح شاربيه وقال بلهجة الحزن: «نعم، نعم، الكونياك شراب طيب، وهو ليس خمرا بل دواء، وغوردون رجل عظيم بار ولن نراه ثانيا.»
وذهبنا إلى الفراش في ساعة متأخرة وأمرنا قبل نومنا أن تعد الدواب للقيام في الفجر، فلم ننم إلا وقتا قصيرا. ولما استيقظنا وأردنا الركوب أنا والدكتور زربوخين، نظرنا حوالينا نبحث عن أهل البيت لكي نودعهم قبل سيرنا، ونحن في ذلك وإذا بإسماعيل يعدو إلينا ورأسه يميل من أثر الشراب السابق، وقال لنا: «أيها السادة إننا سمعنا على الدوام بأن في بلادكم عدلا، وأنا واثق بأن الضيف هناك لا يسيء إلى رب البيت، وأمس عندما أمرتم الدواب التي تحمل أمتعتكم بالسفر سرق رجالكم السجادة التي وضعتها لكم لتقعدوا عليها.»
فبحثت وتأكدت بأن أحد رجالي قد سرق هذه السجادة الثمينة، وأرسلت وراء الجمال قواصا لكي يدرك هذا اللص ويحضره، وقعدت أنتظر، وبعد مدة جاء القواص ومعه السجادة ووراءه عسكري زنجي من الحرس الثمانية الذين كانوا في صحبتا، ولما استجوبنا هذا العسكري قال إنه حملها خطأ، ولكني لتأكدي من جريمته أمرت بجلده وإرساله سجينا إلى أم شنجة، وقد تعكر مزاجي لهذه الحادثة؛ لأني كنت أعرف أن الناس هنا يحكمون على الأسياد بما يرون من الخدم، وكنت واثقا بأني إذا لم أعاقب هذا الخائن، فإن مثل هذه السرقات ستكرر في المستقبل.
واعتذرنا إلى حسن وأخيه، ثم شرعنا في السفر إلى الفاشر التي بلغناها بعد خمسة أيام، ومررنا في طريقنا على بروش وأرجود.
وقد كانت الفاشر طول مدة القرن الماضي عاصمة دارفور، وهي مبنية على قارتين أو رابيتين واحدة في الشمال وأخرى في الجنوب، يفصلهما واد عرضه نحو 400 ياردة يدعى وادي تندلتي، وفي الغرب قلعة على تل حولها حائط من الطوب النيئ عرضه ثلاثة أقدام، وحول الحائط خندق عمقه 15 قدما، وكان في الأركان أربعة أبراج وبها مدافع تطلق قنابلها من فتحات صغيرة.
وكان هذا الحائط يحتوي على مباني الحكومة ومساكن الضباط وثكنة الجنود، وكان الخيالة غير النظاميين يسكنون خارجا، وكان سكان القلعة يستقون الماء من آبار في الوادي تبعد عنهم بنحو خمسين ياردة.
Shafi da ba'a sani ba
وكان مسدجاليه بك، وهو رجل إيطالي، حاكما على الفاشر، وقد تلقانا بالبشر وخصص لنا أمكنة في مباني الحكومة، وكنا قد أصبنا بحمى من مسيرنا في الأمطار، فقر رأينا على أن نرتاح بضعة أيام.
وبعد أن استرحنا استأنفنا السفر أنا والدكتور زربوخين إلى دارة، ورافقنا على سبيل التشييع مسدجاليه بك، وأخبرنا أن زوجته ستحضر إلى الخرطوم، وأنه قد طلب إجازة لكي يسافر ويستقبلها فيها ثم يحضر وإياها إلى الفاشر، فاقترحت عليه أن ينتظر حتى تنتهي مسألة السلطان هارون ثم يحضر وزوجته بعد ذلك، ولكنه أجابني بأنه ليس هناك أقل خوف، وأن في البلاد جيوشا كافية لقمع أي حركة، ولكني كنت سمعت بأن نفوذ هارون عظيم، وأن هناك خوفا على جنود الحكومة من ضغطه عليهم. ولما كنت حديث العهد بالمجيء إلى السودان وقليل الخبرة بأحواله، لم أقدر على أن أعطي رأيا باتا في الموضوع، فودعته هو وسعيد بك جمعة الحكمدار وسرنا إلى دارة عن طريق كريوت ورأس الفيل وشعيرية.
وكان لزربوخين هيئة تدل على أنه أكبر مني سنا، وكانت له لحية طويلة سوداء، وكان يضع على عينيه نظارة سوداء. أما أنا فكانت هيئتي تدل على أني أقل عمرا من الحقيقة؛ فلم يكن شاربي قد نبت إلا قليلا، وكانت لي سحنة الصبيان، فكنا لا نسير في أي مكان حتى يظنه الناس أنه هو الحاكم والطبيب أو الصيدلي، ولما قاربنا غاية سفرنا كان الدكتور زربوخين مريضا بالحمى؛ ولذلك تأخر بدابته عني ومشى وئيدا حتى وصلت إلى شعيرية قبله، وشعيرية هذه على سفر يوم من دارة، وكان أهل القرية يستعدون لاستقبالنا، فكنسوا المنازل ووضعوا الحصير، ووضع القاضي والشيخ سجادا لكي يستريح الحاكم القادم، وبرك جملي ونزلت عنه، ولما سألوني عن شخصي قلت إنني أحد حرس الحاكم، وأخبرت من معي من الحرس بألا يقولوا شيئا، وأخذ القرويون يسألونني عن الحاكم الجديد، فقلت لهم: «أظنه سيجتهد بأن يعمل ما في جهده وأنه يميل للعدل والتسامح.»
فقال واحد منهم: «ولكن هل هو شجاع طيب القلب؟» وكان هذا السؤال تصعب الإجابة عليه، فقلت: «يبدو عليه كأنه لا يخاف، ولكني لم أسمع شيئا عن شجاعته، وله هيئة الرجال، وأظن أنه طيب القلب، ولكنه بطبيعة الحال لا يمكنه أن يرضي كل أحد.»
فقال آخر: «لو كان لنا حاكم مثل غوردون باشا لرضي كل واحد، وأمنت البلاد بأنه لم يتوقف قط عن الإنعام على الناس وإلطافهم، وما جاءه فقير قط وعاد خائبا، ولم أسمعه يتكلم بقسوة إلا مرة واحدة؛ وذلك حين كان سليمان زبير في دارة؛ فإنه التفت إلى القاضي وقال إن بين السودانيين من لا يستحق أن يعامل بالرأفة به، فقال القاضي: «أجل سمعته يقول ذلك، ولكنه كان يشير بقوله هذا إلى الجلابة وتجار النيل، الذين كانوا يشتركون مع الزبير وابنه في جميع التجارات غير الشرعية التي كانوا يتكسبون منها».»
وقال شيخ القرية واسمه مسلم ولد كباشي: «غوردون بطل؛ فقد كنت أنا أشتغل معه في القتال مع عرب ميمة والخوابير في سهل فافة في يوم شديد الحر، وتقدم العدو وأجلانا عن الخط الأول، وكانت الحراب تقع علينا كثيفة من كل جانب، ورأيت حربة تقع على قيد شعرة من غوردون فما بالى، ولم ننل النصر إلا لثباته هو واحتياطيه المؤلف من مائة رجل، ولما كانت المعمعة على أشدها أخرج سجارة وأشعلها، إني مارأيت شيئا قط في حياتي مثل هذا. وفي اليوم التالي عندما شرع في توزيع الغنائم لم يغب عن ذهنه أحد، ولم يحفظ لنفسه شيئا، وكان رفيقا بالنساء والأطفال، ولم يأذن بسبيهم كما هي عادتنا في الحرب، بل كان يطعمهم ويكسوهم على نفقته، أو كان يردهم إلى منازلهم عند انتهاء الحرب. وفي أحد الأيام سبينا عدة نساء بدون علمه وحجزناهن، ولو علم بفعلتنا لرأينا منه الويل.»
وبعد سكوت سألت عن الأحوال في دارة وصفات الموظفين؛ لأني كنت سمعت أنهم لا يوثق بهم، وأنهم لا ينظرون بعين الرضا إلى مجيئي.
وهنا وصل الدكتور زربوخين وسائر القافلة، فوقف الشيخ والقاضي وأعيان القرية في نصف دائرة لاستقباله، أما أنا فقد تنحيت جانبا واختفيت، وأخذت أنصت لما يقول مسلم ولد كباشي الذي بدأ يحيي الوالي الجديد ويصف له فرحه بقدومه، وكان زربوخين لا يعرف من العربية إلا القليل، فارتبك أشد الارتباك لهذه التحية وقال لهم: «الحقيقة إنني لست الحاكم، أنا مفتش الصحة، ولا بد أن الحاكم قد وصل قبلي، ولكن بالنسبة لأن الرجال الذين معه قليلون ربما لم يحسبه أحد لذلك أنه هو الحاكم.» فتقدمت أنا عندئذ وشكرت للقرويين، وأنا أضحك، لطفهم وحسن استقبالهم، وأكدت لهم بأني سأعمل جهدي لكي أرضيهم، وأني منتظر منهم أن يعاونوني على إنفاذ الأوامر، وأخذوا بالطبع يعتذرون إلي عن خطئهم، ولكني وضحت لهم أنه ليس هناك ما يدعو إلى هذا الاعتذار، وقلت لهم إني أرغب في أن تكون علاقتي بهم متينة حميمة، وإني أرجو أن تكون هذه رغبتهم أيضا، ومن هذا الوقت صار مسلم ولد كباشي من أعز أصدقائي، وبقي كذلك في أوقات الفرح والحزن على السواء حتى برحت البلاد.
وقد هاجت هذه الحادثة الصغيرة شهوتنا للطعام، وقعدنا وتناولنا طعاما فاخرا من الضأن المشوي، ولما انتهينا امتطينا الدواب واسترحنا في الليل تحت شجرة على مسير ساعتين من دارة، وعند شروق الشمس أرسلت رسولا لكي يخبر بقدومنا، ولما صرنا في أرباض المدينة خرجت الحامية واصطفت واستقبلتنا استقبالا عسكريا وأطلقت سبع قنابل إكراما لنا، وكان معها حسن حلمي الحكمدار وزوجال بك نائب الحاكم والقاضي وبعض أعيان التجار، وذهبنا جميعا إلى القلعة حيث دار الحكومة، وقضينا نصف ساعة في التفتيش، ثم ذهبت إلى مسكني وأمرت بتهيئة بعض الغرف للدكتور زربوخين في مسكني؛ لأني أردت أن ينزل عندي ضيفا بضعة أيام.
وما كدنا ننتهي من العشاء حتى سمعت ضوضاء بين الخدم الذين كانوا يدافعون رجلين من الدخول إلينا، وكان هذان الرجلان رسولين يحملان خطابا من أحمد قاطنج وجبر الله؛ وهما الرئيسان للحامية غير النظامية في بير جوى، وهي على مسيرة ثلاثة أيام في الجنوب الغربي من دارة، وقد قالا في الخطاب إنهما علما أن السلطان هارون سيغير عليهما، وأنهما بالنسبة لقلة عدد الحامية قد قررا إخلاء مكانهما ما لم تأتهم أمداد من الحكومة، وقالا أيضا إنهما إذا تركا مركزهما فإن جميع القرى ستنهب.
Shafi da ba'a sani ba
ولم يكن ثم متسع من الوقت لتأجيل، فأمرت حسن أفندي رفقي بأن يعد مائتي جندي نظامي وعشرين فارسا للقيام في الحال معي إلى جوى.
وما انتصف الليل حتى كان قد أعد كل شيء، وودعت الدكتور زربوخين وقلت له إني أؤمل أن أراه بعد أربعة أيام أو خمسة، وخرجت متوجها نحو الجنوب الغربي، وكنت شابا قويا في اشتياق إلى الحرب، وإني أذكر الآن مقدار فرحي الشديد للقاء السلطان هارون ومناجزته، ولم يخطر ببالي شيء عن المشاق، وإنما كل ما كنت مشتاقا إليه أني كنت أرغب في أن أبين لجنودي أني قادر على قيادتهم، وفي الصباح حططنا رحالنا، وكان جميع الجنود زنوجا حتى ضباطهم، أما الجنود الراكبة فكانوا من الأتراك والمصريين، وخطبتهم جميعا وقلت لهم إني الآن غريب عنهم، ولكن عليهم أن يعرفوا أني مستعد لأن أشاركهم مشاقهم في كل وقت، وإني أرجو أن يكونوا ممتلئين حماسة وأن نسرع للقاء العدو، وكانت خطبتي بسيطة ولكن كان لها وقع في نفوس الجند، وعندما انتهيت منها رفعوا أسلحتهم في الهواء فوق رءوسهم على الطريقة السودانية، وصاحوا بأنهم لن ينثنوا عن الظفر أو الموت.
وفي الظهر حططنا قرب قرية فأخذت أراقب رجالي وأفحصهم، وكانوا كلهم على أهبة ومعهم ذخيرة كافية، وكان مع كل جندي زمزمية من جلد المعز أو الغزال، واسمها سن - وجمعها سنين - ولكن لم يكن معهم طعام، ولما سألت عن سبب ذلك قيل لي: «أينما ذهبت في دارفور تجد الطعام.» فذهبت إلى شيخ القرية وطلبت منه تقديم كمية من الدخن، وكانوا ينقعون الدخن في الماء ثم يعصرونه ويمزجونه بالتمر الهندي ثم يأكلونه، أما العصارة فكانوا يشربونها وكانت لمزازتها تطفئ الظمأ، والغالب أن الأوروبيين لا يستطيعون هضم هذا الطعام ولكنه مغذ جدا، والجنود السودانيون لا يأكلون تقريبا شيئا غيره وهم سائرون إلى القتال، وقد اعتدت تناوله بالتدريج، ولكني وجدت أنه إذا لم يكن الإنسان في صحة تامة فإنه يعقبه سوء هضم شديد، وأحضر لنا شيخ القرية الدخن ومعه عصيدة وزعت على الرجال، وبينما هم يأكلون دعوت الضباط لأن يأخذوا شطرا من اللحم المحفوظ بالعلب الذي كان معي، فأخذوه واستطابوه قائلين إنه أفضل من الدخن والعصيدة. وبعد ذلك طلبت من الكاتب أن يكتب لشيخ القرية صكا بمقدار ما تسلمناه منه من الدخن لكي يحط ثمنه من مقدار ما يدفعه لجابي الضرائب، ولكن هذا الرجل رفض قائلا إن إطعام الجنود ليس فقط من واجباته بل إن أصول الضيافة والكرم تقتضيه، فقلت له إني أعرف أن أهالي دارفور أسخياء ولكني أجد أن طعام 200 نفس يعدو حدود السخاء، وإنه لذلك يجب عليه أن يتسلم ثمن طعامه، فرضي أخيرا واطمأن إلى حديثي، وقال إنه لو سار الجنود على هذا المبدأ لسر السكان، ولكن لسوء الحظ قد اعتاد الجنود اقتحام المنازل وأخذ ما فيها؛ حتى إن الأهالي صاروا يخشونهم، وعندما ينزلون قراهم يجتهدون في إخفاء ما عندهم، فشكرت للشيخ قوله هذا ووعدته بأني سأصلح هذه الحالة.
وعند غروب الشمس وصلنا إلى بير جوى وكان بها حامية غير نظامية عددها 120 رجلا يقودهم أحمد قاطنج وجبر الله، وقد أخبراني بأنهما بعثا جواسيسهما لكي يعرفوا حركات السلطان هرون، وأنهما لا يظنان أنه قد نزل بعد من جبل مرة إلى الوادي، وكنت في غاية الإعياء وقد تملكني النعاس فذهبت إلى فراشي لأنام، ولكن اطراد قرع الطبول إكراما لي وضربان رأسي منعاني من النوم، وفي الصباح شعرت أني مريض، ولما جاءني أحمد ورأى ما أنا فيه قال لي: «يمكننا معالجة هذا بأيسر سبيل، عندي رجل يقف ضربان الرأس في الحال، وهو أفضل من الدكتور الذي في دارة والحقيقة أنه ليس في دارة دكتور وإنما هو صيدلي يقال له دكتور على سبيل التأدب والتجمل.»
فقلت: «ولكن كيف يمكنه أن يعالجني؟»
فقال: «هذا شيء بسيط، يضع يديه على رأسك ثم يقول شيئا فتبرأ، بل تعود أحسن مما كنت قبل أن تمرض!»
فقلت: «إذن ادعه الآن.»
وكنت شابا وجاهلا في تلك الأيام، وخطر ببالي أن أحد هؤلاء العرب ربما قد زار أوروبا وعرف شيئا عن العلاج المغنطيسي، وأنه قد أرصد حياته لفائدة الناس وشفائهم، وإني أعترف بأني شعرت بشيء من القلق لما قاله أحمد لي، وبعد دقائق قليلة أدخل أحمد إلى غرفتي رجلا طويلا أسود له لحية بيضاء، يظهر عليه أنه من سكان بورنو، وقال لي: «هذا هو الطبيب الذي سيشفيك من ضربات الرأس.»
ولم يتردد الطبيب لحظة بل وضع يده على رأسي وضغط صدغي بإبهامه وسبابته، ثم تمتم جملة كلمات لم أفهمها وبصق في وجهي! فهببت واقفا لهذه الفظاعة وضربته ضربة ألقته على الأرض، وكان أحمد واقفا بجانبي متكئا على عكازته، فرجاني ألا أنظر للمسألة هذه النظرة، وقال لي: «ليس بصقه قلة أدب، بل هو جزء من العلاج وستستفيد منه.» ولكن الطبيب المسكين الذي زايلته ثقته بنفسه وقف بعيدا عني وقال: «وجع الرأس من الشيطان ويلزمني أن أطرده، وفي القرآن آيات تدل على إمكان طرده بالنفث، وبذلك يقف عمله السيئ في رأسك.»
ولم أتمالك من الضحك على الرغم من مضايقتي وقلت: «وأنا إذن علي عفريت! وعلى كل حال أرجو أن يكون عفريتا صغيرا، وأن تكون قد نجحت في طرده.» ولم أسمح له بإعادة الرقية وأعطيته ريالا وأمرته بالخروج، فخرج وهو يدعو لرأسي بالشفاء، ولكن بقي - على الرغم من هذا الدعاء - يؤلمني.
Shafi da ba'a sani ba
ولم تأتني إلى هذا الوقت أخبار عن هرون، فبقيت طول اليوم في فراشي، وزارني صديقاي قاطنج وجبر الله عدة مرات، وقد عرض علي أولهما جواده فرفضت قبوله، أما الثاني فقد عرض علي إحدى خدمه وقال لي: «إنها صغيرة جميلة وقد تربت تربية حسنة في منزلي، وهي تعرف الطبخ وأعمال البيت وتفهم في الأمراض.» فرفضت أيضا قبولها، وتركني جبر الله وهو مكسور الخاطر لأني لم أقبل هديته، ولكني كنت مضطرا إلى هذا الرفض؛ لأني بعد أن جربت رقية الطبيب لم أكن شديد الرغبة في أن أسلم نفسي لمراحم آنسة سودانية، مهما كانت براعتها!
وفي صباح اليوم التالي استيقظت وقد عادت إلي عافيتي، ولما لقيني أحمد وأخبرته بأني تعافيت قال لي فورا: «أنا كنت متحققا من أنك ستشفى؛ لأن عيسى - الطبيب - لم يضع يده على أحد إلا شفاه.»
ومضى يوم آخر بدون أن يأتينا خبر عن هارون. وفي اليوم التالي رجع إلينا حوالي الظهر أحد رسل جبر الله، وقال لنا إن هارون قد جمع رجاله ولكنه لم ينزل بعد من التلال التي اتخذها مقرا له وقت الصيف، وفي اليوم الرابع - من وصولنا لبير جوى - جاءنا رسول آخر وقال إن هارون لما بلغه أني تركت دارة وجئت إلى بيرجوى لمقاتلته، سرح رجاله الذين ذهبوا إلى جبل مرة.
فلما سقط في يدي وذهب أملي في القتال عدت إلى دارة، وكان الدكتور زربوخين قد برحها وترك لي خطابا يقول لي فيه إنه يرجو لي النجاح، ووجدت أيضا الكاتب الذي صحبني منذ أن كنت مفتشا ماليا وجاء معي إلى دارة؛ قد جن مدة غيابه ووضعوه في منزل بجوار منزلي، فلما ذهبت إليه لكي أراه وقف وعانقني وهو يصيح: «الحمد لله ، لم يفعل السلطان هارون شيئا لك، زوجال بك رجل خائن احترس منه، لقد أمرت بإيقاد النار في القاطرة لكي يحملك القطار إلى أوروبا؛ حيث تتمكن من رؤية أهلك، وسأذهب معك، ولكن يجب الحذر من زوجال بك؛ فإنه وغد سافل.»
وكان ظاهرا أنه قد فقد عقله، ولكن المجانين أحيانا يقولون الحق، فأخذت في تهدئته حتى رقد وسمع صفير القاطرة، وأوهمته أني معه في القطار، ثم تركته لعناية الخدم وخرجت، وبعد خمسة أيام مات هذا المسكين، وأظن أن سبب موته انفجار عرق في دماغه.
وشرعت أنا في تدبير أمور مديرية دارة، وبعد شهر تسلمت خطابا من مسدجاليه بك، يقول لي فيه - وكان مكتوبا بالفرنسية - إنه قد عزم على أن ينتهي من هرون؛ ولذلك هو يأمرني بأن أخرج سرا عن طريق منواشي وقبة بقسم من الجنود النظامية، وأتجه نحو جبل مرة وأغير على نيورنه، حيث مقام السلطان هرون، وقال لي إنه قد أرسل قوة من الفاشر عن طريق طرة، وقوة أخرى من قلقل عن طريق أبي حرز، وسيلتقي الجميع في مكان واحد ويعملون معا في مقاتلة هارون.
فأذعنت للأمر وغادرت دارة ومعي 220 جنديا نظاميا و60 من البازنجر، وسرنا حتى بلغنا نيورنه، حيث السلطان هارون في جبل مرة، فوجدناه قد جلا عنها، وفي صباح اليوم التالي خرجت بفصيلة من الجنود أبحث عن هرون، ولكننا لم نذهب بعيدا حتى سمعنا عيارات نارية تطلق بسرعة من ناحية نيورنه، فركضت جوادي راجعا فوجدت الجنود الذين تركتهم قد اشتبكوا في قتال مع قوة أخرى معادية، فأدركت حالا أنها إحدى القوات التي أرسلت لمساعدتي من الفاشر، ولكنها لم تصل في الوقت المعين لها. فلما وصلت إلى نيورنه ووجدت قوة مرابطة تحتلها، أطلقت عليها النار وهي تحسبها أنها تابعة لجيش السلطان هرون، وقد تكلفت مشقة كبيرة في وقت إطلاق النيران التي قتل بسببها سبعة وجرح أحد عشر، ومر عيار في ملابسي وأصيب جوادي بعيارين.
وبقينا في نيورنه عشرة أيام، ولما لم يكن في مقدورنا أن نحصل على أخبار صحيحة عن هارون قررت العودة، وكنا نحن في عودتنا نمر على عدة قرى فنفاجئها؛ لأن أهلها لم يكونوا ينتظرون مجيئنا من الغرب، وكان السلطان هارون قد جند معظم الرجال، أما الباقون فقد فروا إلى التلال، ولكن رجالي تمكنوا من القبض على نحو ثلاثين امرأة سرن معنا مدة قصيرة، وقد فوجئ أهالي إحدى القرى بنا فلم يتمكنوا من الهرب، ولما رأيت أن جميعهم من النساء أمرت الجنود بالوقوف حتى أتيح لهن الفرصة للفرار، ثم أمرت الجنود أيضا بأن يسيروا صفا واحدا حتى لا يتفرقوا في القرى ويعيثوا فيها.
ومما حدث أن أما مسكينة كانت تحاول الهرب، فباغتناها ففرت تاركة وراءها طفلين على صخرة، وأخذت هي تعدو كالغزال على سند الجبل، فذهبت إلى حيث الطفلين فوجدتهما عاريين ليس عليهما شيء سوى عقد من المرجان حول عنقيهما وحزام من المرجان أيضا حول وسطيهما، وكان كلاهما أسود كالغراب، والأرجح أنهما كانا توأمين يبلغ عمر كل منهما 18 شهرا، فنزلت عن الجواد وذهبت إليهما، فأخذا في الصراخ وكل منهما يمسك بالآخر، فحملتهما وأمرت خادمي بأن يحضر قليلا من السكر، فسكتا في الحال وصارا يبتسمان خلال الدموع ويقرضان السكر، الذي كان في الأرجح أحلى ما ذاقاه مدة حياتهما الصغيرة الماضية، وكان عندي مناديل حمر أحملها على الدوام معي لكي أقدمها هدايا، فلففت كلا منها في منديل ووضعتهما على الصخرة كما كانا وسرت بعيدا عنهما، ونظرت إليهما بعد مدة فرأيت إنسانا - هو أمهما - يزحف على الصخر إليهما، فلما بلغتهما عانقتهما ودهدهتهما بعد أن كانت قد يئست من حياتهما، وأخذت هذين الولدين في لباسهما الجديد وعلى شفتيهما أثر السكر الحلو.
وبعد أيام ونحن لم نبلغ بعد دارة، جاءتني الأخبار بأنه في مدة غيابي عن هذه البلدة أغار عليها هارون وانتهبها وفر ثانيا إلى التلال ومعه الغنائم والسبايا العديدة، فأخذت أدلاء من القرى المجاورة وخرجت أتعقبه، ولما أن صرنا على مسافة سفر يومين في الجنوب الشرقي من الفاشر لقيت جنوده الذين لم يتوقعوا مجيئنا.
Shafi da ba'a sani ba
وقد وفقت للاقتراب منهم بدون أن يروني، ثم حملنا عليهم حتى مزقناهم شر ممزق، واستولينا على مقادير كبيرة من الأسلحة وأفرجنا عن السبايا اللواتي كن في حوزتهم، وقتل جواد هارون ولكن هارون نفسه مع بضعة من أتباعه تمكنوا من الهرب، وبعد أيام قليلة انهزموا أمام جيوش قلقل التي كان يقودها نور أنجرة، وقتل هرون، وبقتله عاد السلام إلى البلاد وانتهت الثورة.
ولما عدت إلى دارة وافاني خطاب من جسي باشا من بحر الغزال، يقول فيه إن الدكتور فلنكن والقسيس ولسون، مبعوث الرسالة الكنسية الإنجليزية، في طريقهما من أوغندا إلى الخرطوم عن طريق دارة ومعهما وفد من الملك متيسا إلى جلالة ملك إنجلترا، ورجاني جسي أن أقدم لهما جميع المساعدات التي في مقدوري، وقال إنهما قد شرعا في السفر إلى دارة في اليوم الذي كتب فيه هذا الخطاب، وقد وصلا إلى دارة بعد ذلك بأيام قليلة وتمتعت بصحبتهما مدة وجودهما عندي.
وقد أخبراني عن أشياء مهمة، أما أنا فقد حكيت لهما عن آخر الأنباء الأوروبية، وهي وإن كانت قد مضى عليها أشهر قد كانت مع ذلك جديدة عندهما.
وفي الصباح سمعت أن رجال وفد الملك متيسا لما رأوا الجمال أول مرة خافوا منها وفروا، فقلت للدكتور فلنكن: «بما أنك ستضطر إلى إتمام سفرك على ظهر الجمال، فمن الصواب أن تعتاد ركوب الجمال أنت ومن معك، فأحضر رجال الوفد حتى ندربهم على ركوبها.»
فذهب وأرسلت أنا في إحضار جمل من أحد التجار، وكان جملا سمينا ضخما، وحضر رجال الوفد وآخرون غيرهم، فما رأوا الجمل حتى طار صوابهم وفروا هائمين، ولم يقفهم عن الاستمرار في العدو سوى ثباتنا أنا والدكتور فلنكن، وأوضح لهم الدكتور فلنكن أن الجمل حيوان وديع صبور، وأنهم سيستأنفون السفر إلى مصر عليه، وليس فيه ما يدعو إلى الخوف، ولكنهم مع ذلك لم يتقدموا إلا على حذر ووقفوا على مسافة منه لا يجسرون على لمسه، وكان تعجبهم عظيما عندما رأوا القواص يمتطيه ويسير به وينيخه، وأخيرا تطوع أشجعهم لأن يركبه وساعدناه على تسنمه، وقام به الجمل وهو خائف ، ولكنه أخذ ينظر إلى رفقائه من مكانه العالي ويوضح لهم سهولة ركوب الجمال وملاذه، والظاهر أنه دعاهم إلى ركوبه؛ فقد برك الجمل وتكأكئوا عليه جملة، وأرادوا جميعا الركوب، وحاول بعضهم أن يركب عنقه، وتعلق آخرون بذنبه، وتعلق نحو ستة برجله، ودهش الجمل لأول وهلة لهذا الازدحام حوله، ثم تنبه وأخذ يضرب برأسه يمينا وشمالا حتى نفض جميع هؤلاء «الوجنديين» عنه، وهب واقفا وهم مبعثرون حوله، وأظنني لم أضحك في حياتي قدر ما ضحكت في هذه الفرصة؛ فقد ظن رعايا الملك متيسا - الوجنديون - أن الجمل جبل يتحمل أي عبء ويقوى على النهوض به، ولبثوا مدة ذاهلين خائفين لا يقوون على الاقتراب منه ثانيا، ولكن أخذوا بالتدريج يتعلمون ركوبه؛ فبدأ واحد ثم آخر يقترب منه ويركبه، حتى إنه عندما جاء ميعاد سفرهم كانوا جميعا يعرفون كيفية قيادته.
وكان في منزلي عدة أولاد من الذين استخلصناهم من أيدي النخاسين، ولما لم يكن للدكتور فلنكن خادم يخدمه، فقد اقترحت عليه أن يأخذ معه أحد هؤلاء الأولاد، فقبل ذلك مسرورا، وأعطيته صبيا من الغرتيت يدعى كبسون، وكان ذكيا، فعزم الدكتور على أن يربيه في أوروبا، وبعد سنتين ونصف سنة وأنا بالفاشر جاءني خطاب مكتوب بالإنجليزية من كبسون هذا، يشكرني فيه لأني أذنت له بالسفر مع الدكتور فلنكن إلى «بلاد كل من فيها طيب القلب رءوف»، ويقول إنه قد تنصر وإنه أسعد الأولاد، وأرسل مع الخطاب صورته في ملابس إفرنجية.
وجاء ميعاد سفر صديقي وكانا في اشتياق إليه، فركب الجميع جمالهم وقاموا إلى الخرطوم عن طريق طويشة.
وبعد مدة جاءني خطاب من مسدجاليه بك، يقول فيه إنه مسافر إلى الخرطوم لكي يحضر زوجته، ولكنه ما كاد يصل إلى الخرطوم حتى نشب خلاف بينه وبين ولاة الأمور هناك، فاستقال وعين بدلا منه مديرا على دارفور علي بك شريف، الذي كان قبلا مديرا على كردفان.
وقريبا من ختام سنة 1879 أو في أوائل سنة 1880 تسلمت خطابا مكتوبا بالفرنسية من غوردون، كتبه منذ شهرين قبل وصوله إلى ضبرة طابور في الحبشة ، وقد مزق الخطاب منذ سنين ولكني أتذكر كلماته بالحرف تقريبا وهي:
عزيزي سلاطين
Shafi da ba'a sani ba
لما انتهت مهمتي مع الملك يوحنا عزمت على أن أرجع في الطريق التي جئت منها، ولكني وأنا بالجلابات أدركني رجال تابعون للرأس عدل وأجبروني على الرجوع، وسيأخذونني محروسا إلى كسلة ومنها إلى مصوع، وقد أحرقت جميع الأوراق التي يخشى منها، وسيسقط في يد الملك يوحنا عندما يعرف أنه ليس رئيس بيته.
صديقك غوردون
الفصل الثالث
حكومة دارفور
كانت سنة 1880 سنة سلام وهدوء نسبيين في دارة، وكانت أهم أعمالي إدارية؛ فقد زرت تقريبا جميع القرى بنفسي، وعرفت جميع القبائل العربية القوية التي كانت على الدوام مشتبكة بعضها مع البعض في قتال متواصل أو موشكة على القتال، وقد قمت بينها عدة مرار بالصلح.
ووجدت في ختام سنة 1880 أن لدي عدة أشياء تستحق مراجعة الحاكم العام، فطلبت الإذن بالذهاب إلى الخرطوم لكي أقابل رءوف باشا الذي صار حاكما عاما بعد سفر غوردون، وقد أجيب طلبي فبرحت دارة في سنة 1881 وبلغت الخرطوم بعد أسبوعين.
هناك وجدت زربوخين الذي رحب بي وأنزلني بمنزله القريب من مكان الرسالة الكاثوليكية الرومانية، وكان ملكا للمرحوم لطيف دويونو، وهو رجل ملطي كان نخاسا شهيرا.
وفي مدة إقامتي في الخرطوم كنت أحادث رءوف باشا كثيرا عن أحوال دارفور، واقترحت أنه يحسن عدلا وإنصافا أن تخفض الضرائب في الفاشر وفي كبكبية، وطلبت منه أيضا أن يأذن لي بأن أجبر العرب على أن يعطوني كل عام عددا من العبيد؛ لكي أملأ بهم الفراغ الذي يقع في الجيش بالأمراض والوفيات والحوادث، وطلبت أيضا منه أن يأذن للعرب بأن يدفعوا الضرائب عبيدا بدلا من المواشي؛ لأني أؤمل بهذه الطريقة أن أسترجع إلى جيشنا جنود «البازنجر»، الذين كانوا ملتحقين بجيش سليمان زبير وصاروا الآن متفرقين في القبائل، وقلت إن معرفتهم بالأسلحة من أسباب الخطر الدائمة للحكومة، فوافق رءوف على جميع طلباتي وأعطاني صكا مكتوبا بذلك.
ولما كنت في الخرطوم جاءني في يوم ما من يدعى حسن ولد سعد النور، وهو دارفوري ، وكان أبوه قد قتل مع وزير أحمد شحاتة في شقة، فرجاني أن أتشفع له لكي يعود إلى دارفور، فقابلت رءوف باشا وطلبت ذلك منه فرضي، ولكنه بعد أيام أرسل لي وقال إنه عاد فألغى أمره، وإنه لا يسمح بعودة هذا الرجل إلى دارفور، فقلت إن كل جنايته أنه اشترك في الثورة وقد فعل غيره ذلك، وإنه لا سبيل له الآن إلى إيصال الأذى بالحكومة، ولكن رءوف باشا أبى أن يوافقني على رجوعه، وشعرت أنا بالإهانة لأني كنت وعدت هذا الرجل بأنه سيرجع، فقلت لرءوف باشا إنه بين اثنتين؛ إما رجوع الرجل وإما قبول استقالتي، وخرجت مغضبا فاستدعاني بعد ذلك بيومين، وقال لي إني كنت مخطئا في وعد هذا الرجل بالرجوع فأقررت بذنبي، فقال لي إنه سمح برجوعه وإنه يعتقد أني موظف عنيد ولكني ذو كفاية؛ ولذلك طلب من الخديو توفيق باشا أن يعينني حاكما لدارفور وأن يمنحني لقب بك، فشكرته وأكدت له أني سأعمل جهدي لكي أحقق ثقته في.
ثم طلب مني رءوف باشا أن أكتب له ضمانا أتحمل فيه تبعة مسلك نور في المستقبل، فكتبت هذا الضمان وأنا مسرور؛ لأني شعرت أنه بعد كل ما تحملت من المشاق لأجل رجوعه إلى وطنه سيحسن سلوكه ويثبت ولاءه وأمانته، ولما عدت إلى منزلي أرسلت في حضور نور، وكان قد مضى عليه يومان وهو لا يدري ما تنتهي إليه مسألته، فلما أخبرته بأنه قد أذن له بالرجوع إلى وطنه انكب على قدمي وأخذ يشكرني ويكثر من الدعاء لي، وشعرت بأنه رجل شريف يمكن الاعتماد عليه، ولكني كنت وقتئذ أجهل أني قد ضممت إلى صدري ثعبانا.
Shafi da ba'a sani ba
وانتهت إجازتي بالخرطوم بسرعة بين الأصدقاء الكثيرين، وقد وصل إلينا في أواخر يناير سنة 1881 الأسقف كومبوني والأب أوهروالدر والأب دختل، وكانوا قد جاءوا من القاهرة، ووصل إليها أيضا حسن باشا رئيس المالية وبوساني وهانسل القنصل، وقد نزل أوهروالدر ودختل في منزلي، وكم كان لنا من حديث معا عن وطننا المحبوب.
وفي 25 يناير 1881 وصل جسي باشا إلى الخرطوم وصحته في غاية السوء، قد برح مشرى الرق وركب النيل قاصدا إلى الخرطوم فحجز السد سفينته؛ والسد هو تلك النباتات التي تنمو في النيل بحيث يحتاج أحيانا إلى قطعها بالفئوس لكي يشق طريقا للسفينة، وبقي ثلاثة أشهر وهو يعالج اجتياز السد، ولقي الأمرين من جوع وأمراض بين رجاله، ومات أكثر رجاله وصار بعضهم يأكل بعضا للجوع، ثم أنجده أخيرا ملنرو في الباخرة بردين وحمله عليها إلى الخرطوم حيث عنيت به الراهبات، ولكن الصدمة التي نالت جسمه كانت قد هدته، فلم ينجح الدكتور زربوخين مع كل ما بذله في رد عافيته إليه، ثم قررنا جميعا أن يرسل إلى مصر وبذلنا كل مجهود لكي يشعر بالراحة والرفاهية في سفره، وكان يرغب في أن يأخذ معه خادمه ألماظ وكان خصيا، ولكن رءوف باشا خشي أن تتقول الأقاويل عن إدارته في السودان بوجود هذا الخصي مع جسي باشا، فرفض أن يأذن له بمرافقته، ولكن إلحاحي وإلحاح زربوخين عليه جعلاه يلين في النهاية ويسمح له بالسفر معه، وفي يوم 11 مارس حملنا جسي إلى ذهبية الحاكم العام حيث سارت به إلى بربر، ومن هناك حمل إلى سواكن ونزل في الباخرة التي نقلته إلى السويس، وكان قد تغلب عليه الضعف حتى لم يكن يقوى على الحركة، ووصل إلى السويس في 28 مارس ونقل إلى المستشفى الفرنسي، ولكنه مات بعد وصوله بيومين.
ولم تكن الحال في هذه الأثناء على ما يرام في دارفور؛ فقد كتب إلي زوجال بك يقول إن عمر واد دارهو قد سار سيرة سيئة في شقة، وقدمت خطابه هذا إلى رءوف باشا فأرسل إليه في الحال تلغرافا يأمره فيه بأن يسافر إلى الفاشر.
ولم يعد لي في الخرطوم ما يؤخرني عن السفر فعزمت على أن أقوم بأسرع ما يمكن لكي أتسلم أعمالي، ووضع رءوف باشا باخرة تحت تصرفي فتركت الخرطوم في 29 مارس، ورافقني الأسقف كومبوني والأب أوهروالدر الذي وعدته بأن أحمله على جمالي إلى الأبيض، وقد شيعنا هانسل القنصل وماركو بولي بك وزربوخين وماركيه إلى طرة الحضرة حيث ودعناهم، ولم أفكر وأنا أودعهم أنني لن ألاقي منهم بعد ذلك سوى واحد وأن تقدر لي العودة إلى عاصمة السودان في ظروف غريبة، وكنت شابا يملؤني إحساسي بالمركز الجديد الذي شغلته والتبعات العظيمة التي تحملتها بحماسة وأمل في المستقبل، ولكن الأقدار كانت تخفي عنا حظا آخر.
وبعد مسيرة خمسة أيام بلغنا الأبيض فبرحها الأسقف وقام بسياحة في جبل نوبة، أما الأب أوهروالدر فقد بقي فيها مدة ثم سافر في أعمال الرسالة إلى دلين في جنوبي كردفان، ومكثت في الأبيض بضعة أيام ثم تسلمت تلغرافا لكي أقوم إلى فوجة فودعت صديقي وسافرت إليها، وكان مقدرا لي ألا أرى صديقي الأسقف؛ فإنه مات في الخرطوم في سنة 1881.
أما الثاني أوهروالدر فقد حكم علينا القدر بأن يمنى كل منا بمحن عديدة قبل أن نتلاقى أسيرين عند المهدي، الذي كان يوشك أن يقلب وقتئذ كل نظام أو حكومة في السودان.
ولما برحنا الأبيض أغذذنا السير حتى وصلنا دارة ومنها إلى الفاشر حيث بلغتها في 20 أبريل، ووجدت الأحوال الإدارية قد بلغت درجة عظيمة من الارتباك والفوضى، فقضيت بضعة أشهر وأنا أجتهد في إيجاد شبه نظام فيها، ونجحت في ذلك بعد أن جلت في أنحاء المديرية، وباشرت عدة أعمال بنفسي وكبر رجائي في الإصلاح.
ولم أكن قد رأيت بعد الجزء الشمالي الغربي من المديرية، فتعللت بأخبار القتال بين عرب البادية وعرب المهرية وعولت على زيارة هذا الجزء، وفي منتصف شهر ديسمبر سنة 1881 برحت الفاشر ومعي 200 من الجنود المشاة وبعض الخيالة غير النظاميين، وكان يقودها عمر واد درهو.
وبعد مغادرتنا الفاشر حططنا رحالنا للمبيت قرب آبار مدجوب، وهي تقع في منتصف الطريق إلى قبة، فلما خيم الظلام خرجت أتمشى نحو الآبار وكانت ملابسي تشبه ملابس الجنود، فلم يكن من السهل معرفة شخصي، وقعدت قريبا من الآبار أنظر إلى النساء وهن يستقين، وجاء بعض الخيالة لكي يسقوا خيولهم وطلبوا من النساء أن يعطينهم دلاءهن، فرفضت النساء وقلن لهم: «سنملأ جرارنا أولا ثم نعطيكم الدلاء.»
فقال أحد الجنود : «لكأنكن تحكمن علينا بالعقاب من الله، وهذا جزاء منح الحرية للبلاد، والله لو لم يكن سلاطين معنا لأخذناكن أنتن وجراركن ملكا لنا.» فأجبنه قائلات: «الله يطول عمره.»
Shafi da ba'a sani ba
فرجعت وأنا في غاية السرور لأني سمعت بأذني شهادة السودانيين بارتياحهم إلى الأوروبيين الذين نجوهم من المظالم التي كانت تتسم بها حكومة البلاد السابقة.
ولما برحنا كبكبية وصرنا على مسيرة نصف يوم منها، أدركتنا رسل أرسلها إلينا آدم عمر برسالة مكتوبة بالشفرة الفرنسية بعثها إلي مركو بولي بك باسم الحاكم العام، وكانت قد أرسلت ليلا إلى فوجة ثم إلى كبكبية عن طريق الفاشر وهذا نصها:
أغار درويش يدعى محمد أحمد بدون مسوغ على راشد بك وجنوده، قريبا من عذير، وأباده هو والجنود، الثورة خطرة جدا، اعمل اللازم في مديريتك حتى لا ينضم إلى هذا الدرويش أي واحد من الساخطين.
فكتبت الرد في الحال وهو:
وصلت إلي الرسالة، وسأتخذ الإجراءات اللازمة لإنفاذ أوامرك.
وقد كنت سمعت قبل وصول هذه الرسالة إلي بمدة أن شيخا من مشايخ الدين قد ظهر وأخذ يناوئ الحكومة ويحث الناس على العصيان، ولكني لما لم أسمع شيئا عنه من الحكومة بصفة رسمية استنتجت أن مسألته قد سويت، ولكن إبادة المدير راشد بك وجنوده صارت تبدو لي الآن في غاية الخطر، والظاهر أن الحركة قد امتدت فجأة ولكن من كان يمكنه وقتئذ التنبؤ بالنتائج الهائلة التي بلغتها فيما بعد هذه الحركة.
ولم يكن من الممكن الآن أن أرجع بعد أن شرعت في السير نحو عرب البادية وعرب المهرية بدون أن أثير القلق في النفوس عن علة رجوعي في نصف الطريق، فعولت على أن أتمم هذه المهمة قبل رجوعي.
ومن الغريب أن عرب البادية هؤلاء مع أنهم محاطون من كل جانب بالمسلمين، يكادون يؤلفون القبيلة الوحيدة التي لا تزال متعلقة بعادات الوثنية القديمة في وسط أفريقيا، فإذا سئل أحد رؤسائهم أن يصرح بدينه قال: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ولكنه لا يعرف شيئا غير هذه العبارة؛ فهو يجهل القرآن ولا يصلي مع المسلمين.
وكانت عرب البادية يجتمع رجالها تحت شجرة كبيرة جدا من شجر الهجلك وقد فرشت أرضها بالرمل، فيتمنون على إله مجهول ما يريدون ويدعونه إلى حمايتهم.
ولهم أعياد دينية تقع في أوقات غير معينة، فيصعدون إلى التلال ويقفون على القمة التي يطلونها بالجير ثم يذبحون أضحياتهم، وهم طوال الأجسام لهم هيئة شريفة ولونهم أسود شديد السواد، ولكن أنوفهم دقيقة وأفواههم صغيرة؛ وهم لذلك أشبه بالعرب منهم بالزنوج، ونساؤهم مشهورات بشعرهن الطويل السبط، وبينهن جميلات يشبهن جميلات العرب، وهم يلبسون وزرة من جلود الحيوان، ولكن النساء والطبقة العالية من الرجال يلبسون ملابس طويلة مصنوعة من قطن دارفور، وطعامهم غاية في البساطة.
Shafi da ba'a sani ba
فهم لا يعرفون القمح ولا يزرعونه وإنما يأخذون لب القرع الذي ينمو عندهم بكثرة وينقعونه في آنية مصنوعة من لحاء الشجر، ثم يقشرونه ويتركون اللب في الماء حتى تذهب عنه مرارته، ثم يصفونه ويمزجونه بالبلح، ثم يجففونه ويطحنونه دقيقا يخبز مع اللحم فيكون طعاما.
ولهم عادات غريبة في الميراث، فإذا مات أحدهم اجتمع أقاربه وحملوه إلى قبره في الجبانة التي تقع عادة خارج الحلة أو القرية التي يعيشون فيها، فإذا دفن وقفوا مستعدين فتشار لهم إشارة خاصة فيعدون إلى بيت الميت متسابقين، فمن بلغه قبل غيره غرز رمحه أو قوسه، فيصير بذلك الوارث الوحيد لما ترك الرجل من مال ونساء ما عدا أم المتوفى، وله الحق عندئذ في أن يتزوج النساء أو يسرحهن حسب حالته المالية، فإن عدد النساء يتوقف على غنى الرجل أو فقره.
ووصلنا أخيرا إلى كامو حيث أخبرني الزغاوة الكبير الشيخ صالح دنقوسة بأن رؤساء عرب البادية سيحضرون في الغد، واتفقت معه على أن تكون شجرة الهجلك مكان اللقاء والمفاوضة، وأن يكون ميعاد المفاوضة بعد ساعة من شروق الشمس، ويكون هو ترجمانا بيني وبينهم، وأمرت رجالي بنصب خيامهم على بعد نصف ميل من شجرة الهجلك ثم صففتهم في صباح اليوم التالي؛ استعدادا للقاء رؤساء البادية الذين أخبرنا صالح المذكور بقدومهم، ووقفت مع ضباطي ومع السنجق عمر واد دارهو متقدمين على الجنود بنحو مائة ياردة ومعنا الخدم وقوفا إلى جانب الخيول، ثم ظهر لنا رؤساء البادية قادمين إلينا ومعهم صالح وأيديهم مكتوفة إلى صدورهم ورءوسهم منكسة، وقد أحضروا معهم ترجمانا فتبادلنا التحية بواسطته، ثم أمرت ببسط السجاد على الأرض ودعوتهم إلى الجلوس عليه، أما أنا وضباطي فقد جلسنا على الكراسي ثم تناولنا شيئا من السكر والماء والملح وشرعنا في المفاوضة.
وكان رجال البادية أربعة كلهم طويل شريف الهيئة ذو ملامح حسنة في سن الكهولة، وكانت ملابسهم جلابيب بيضاء أحضرها لهم صالح، وكانوا يحملون السيوف العربية المستقيمة، وكانت أسماؤهم: جار النبي، وبوش، وعمر، وكركرة. ولكني لست متأكدا بأنهم لم يتخذوا هذه الأسماء العربية المطنطنة وقتيا للظرف الحاضر فقط، وكان أتباعهم يبلغون من ستين إلى سبعين رجلا يلبسون القمصان والجلود وقد وقفوا وراءهم على بعد منهم، وقعد صالح دنقوسة قريبا من الشيوخ ومن المترجم.
وتكلم جار النبي مخاطبا المترجم قائلا: «كرسي سلم». فقال المترجم سلم يعني أنه مستعد للترجمة، ثم شرع في المفاوضة قائلا:
نحن من قبيلة البادية، وقد كان آباؤنا وأجدادنا يدفعون الخراج لسلطان دارفور كل سنتين أو ثلاث عندما كان يرسل جباته لجمعه، وأنتم الأتراك قد تغلبتم الآن على دارفور ولم تسألونا قط أن ندفع لكم خراجا، وأنت (لسلاطين) قد صرت حاكما للبلاد كما أخبرنا بذلك صديقنا وأخونا دنقوسة، ونحن نقر بطاعتنا لك، وقد أحضرنا معنا رمزا لهذه الطاعة عشر خيول وعشر جمال وأربعين بقرة، فهل لك الآن أن تقرر قيمة الخراج المطلوب منا؟
وصارت النوبة إلي في الكلام، فبعد أن قلت «كرسي سلم» قلت: «أنا أشكركم على خضوعكم وسأطلب خراجا صغيرا، ولكني جئت هنا لكي أطلب منكم أن تردوا إلى المهرية جمالهم التي سرقتموها وتردوا إليهم أسراهم الذين تحبسونهم الآن.»
فتريث جار النبي هنيهة ثم قال: «منذ عهد آبائنا ونحن في ثارات مع العرب المحيطين بنا، فإذا قاتلناهم وأسرنا منهم أسرى فمن حقنا أن نطلب فداءهم، وكثيرا ما قبلنا قبلا فكاك أسرى المهرية.»
فسألت الشيخ حسب الله عن صحة هذه الدعوى فأجاب بالإيجاب، فسألته ثانيا: «هل كانت هذه العادة تجري مدة سلاطين دارفور فقط، أو أنها جرت أيضا بعد دخول دارفور في حكم الحكومة المصرية.»
فأجاب: «قبل أن تفتحوا البلاد ومنذ سنتين غزت المهرية بلادنا فصددناهم فارتدوا عنا.»
Shafi da ba'a sani ba
فنظرت إلى حسب الله ووجدت من عينيه أن الرجل يقول الحق فقلت: «قد يكون ذلك ولكني في ذلك الوقت لم أحكم هذه البلاد، وأنا أعرف أنكم في تلك الأيام كنتم تعملون ما كنتم تظنونه صوابا، ولست ألومكم على ما فات ولكني أنا الآن الحاكم وأطلب منكم السير على رغبتي، فيجب إذن أن تردوا الأسرى، ولكن بما أن المهرية قد بدءوكم بالهجوم فأنا أسمح لكم بأن تحتفظوا بنصف الجمال برهانا على شجاعتكم في رد غارتهم.»
فخيم سكوت طويل ثم أخذ الأربعة يتفاضلون معا، وأخيرا أجاب جار النبي بقوله: «سنطيع أمرك، ولكن بما أن جمع الجمال يحتاج إلى مدة طويلة لتفرقها في أنحاء البلاد، فإنه من الأسهل علينا أن نرد الأسرى.»
فقلت: «إذن التفتوا لما أقول ونفذوا هذه الأوامر بأسرع ما يمكنكم، ردوا الجمال وأنا أعفيكم من خراج هذا العام؛ لأني أعرف أن من الصعب أن تدفعوا الخراج وتردوا الجمال في وقت واحد.»
ورأينا أن هذه التسوية قد وافقتهم حتى صاروا يكثرون من الشكر والدعاء، فطلبت منهم البقاء لصباح اليوم التالي وقلت: إن صالح سيعنى بكل حاجاتكم. ثم امتطينا خيولنا وأمرت الجنود بأن يطلقوا ثلاث طلقات، وقد ذعروا عندما صكت آذانهم؛ لأنهم لم يسمعوا إطلاق العيارات النارية قبلا، ثم أمرت صالحا بأن يحضرهم لي في صباح اليوم الثاني، وركضت جوادي إلى مضرب خيامنا.
وقضيت طول النهار وأنا مشغول البال بشأن رجوعي إلى الفاشر بدون أن يؤثر رجوعي في نجاح بعثتي، ولم يكن من المتيسر لي أن أبقى حتى أرى رد الأسرى، وكنت أيضا قلقا بشأن قرب الماء الذي أعطاه لنا المهرية، وقد وبخت حسب الله لعدم إتقانه هذه المهمة.
ولما جاءوا في صباح اليوم التالي سألتهم هل أرسلوا الرسل لجمع الأسرى والجمال، فأجابوني بالنفي، فقلت لهم في لهجة التغيظ إني لن أقدر على الانتظار لكي أرى تنفيذ أوامري بنفسي، فقال جار النبي: «نحن هنا يا مولاي لكي ننفذ أوامرك، فيمكنك أن تسافر حين تشاء، ونحن نسلم الأسرى والجمال إلى دنقوسة وحسب الله.»
فقلت: «عندي اقتراح آخر، فإني لا أشك في إخلاصكم وولائكم، ولكني أحب أن أزيد معرفتي بكم؛ ولذلك أرى أن تصحبوني أنتم ومن تريدون أن يرافقكم إلى الفاشر، وفي أثناء غيابكم تنتدبون من ترغبون في ندبه لكي يسلم الرجال والجمال لحسب الله الذي سيبقى هنا مع دنقوسة، وعندما تبلغني الأخبار وأنا بالفاشر بأن مندوبيكم قد فعلوا ذلك، أردكم أنا إلى بلادكم مثقلين بالهدايا، إنكم لم تزوروا الفاشر قبلا، ويلذ لكم رؤية عاصمة المديرية وقوة الحكومة، وإني واثق بأنكم ستوافقون على اقتراحي هذا، وستسرون لما تشاهدونه هنالك؛ حتى إنكم ستوافقون بعد ذلك دائما على كل ما أطلبه منكم في المستقبل.»
فقال صالح إن الاقتراح حسن ولكنه قد سبق أن رأى الفاشر؛ ولذلك هو لا يرغب في زيارتها ثانيا، ورأيت من وجوه الآخرين أنهم يستحسنون الفكرة، وبعد محادثات طويلة وافقوني على السفر معي. وكانوا لعلمهم بأن سفرنا يتوقف على انتداب من يثقون به لتسليم الأسرى والجمال؛ أخذوا يتشاورون بسرعة في انتداب عدد منهم لكي يقوموا بهذا العمل، ولما انتهوا من ذلك زودوهم بستة رجال لخدمتهم وأخبروني باستعدادهم للسفر، ولكنهم قبل أن يسافروا طلبوا مني أن يقسموا يمين الولاء فوافقتهم على ذلك، وكان لأخذ هذه اليمين حفلة نظامها كما يلي:
أحضروا سرج جواد ووضعوه على الأرض، ثم وضعوا فوقه قدرا تحتوي على فحم خشبي متقد وغرزوا في السرج رمحا، ثم تقدم شيخ بعد شيخ منهم وصار يتلو كل منهم كلمات ثم يقسم في نهايتها اليمين التالية:
لا تمس ساقي هذا السرج، وليطعنني هذا الرمح، ولتأكلني هذه النار؛ إذا أنا نكثت بهذا العهد الذي أتعهد به أمامه.
Shafi da ba'a sani ba