على أية حال، كنت في مستهل ذلك العام شديد الثقة، وقد جال بخاطري هاتف يناديني بقرب الإفراج عني من ذلك الأسر، فكان قلبي يحدثني بأن أصدقائي المخلصين الكثيرين في الخارج سيوفقون لا محالة إلى إنقاذي، وأنهم سيكسرون أغلال الأسر ويمكنونني بفضلهم وكرمهم من مشاهدة أفراد أسرتي مرة أخرى على الأقل قبل موتي، وأني سأنعم بالعودة إلى الوطن ومشاهدة رفاق الصبا وأماكن سروري القديم.
في ليلة من ليالي النصف الأول من شهر يناير عام 1895، مر بي في الشارع شخص لم تقع عليه عيناي من قبل، وقد أشار لي هذا الرجل إشارة فهمت منها أنه يقصد سيري حيث يسير، فخشيت أن يكون جاسوسا، فأظهرت له علامة التذمر والاستياء، فأجابني بعد ذلك: «إني الرجل الذي يحمل الإبر الصغيرة.» فلم أكد أسمع ذلك حتى عمني البشر والسرور، فقدت الرجل إلى زاوية مظلمة صغيرة مجاورة لكوخي، وهناك رجوته أن يسرع في شرح مهمته لي، فبدأ بتقديم ثلاث إبر صغيرة وورقة صغيرة، ثم قال لي بعد ذلك: «إن الفرار مستحيل في الوقت الحالي.» وأضاف إلى ذلك قوله: «قد أتيت بعد أن اعتزمت عزما أكيدا حملك معي إلى كسلا، ولكن الفرار إلى تلك الناحية أصبح في الوقت الحالي عسيرا؛ بعد إنشاء محطات حربية في كل من الفاشر وأسوبري وخور رجب والعطبرة المتصلة بعضها ببعض اتصالا مباشرا إلى كسلا.» وزاد على ذلك قوله بأن أحد جماله قد مات، وأنه خسر كثيرا من ماله بالنظر إلى كساد الشئون التجارية؛ وإذن ليست لديه وسائل كافية لإنقاذي في الوقت الحالي، وتبعا لذلك طلب مني أن أعطيه خطابا للماجور ونجت أسأله فيه تسليمه (الرجل المذكور) مقدارا جديدا من المال، وقد وعدني هذا الشخص وعدا أكيدا بأنه سيرجع إلي في بحر شهرين.
أما أنا شخصيا فقد وثقت أن الرجل لن يسمح بتعريض حياته للخطر في سبيل إنقاذي، وبما أنه أخبرني بعزمه الأكيد على السفر وعدم تمكنه من التأخير، طلبت منه بإلحاح أن يقابلني في المسجد الكبير مساء اليوم التالي، وعندئذ افترقنا، فرجعت إلى مكاني العادي عند باب الخليفة.
أما الورقة التي سلمها إلي الرجل من سواكن فتحتوي على توصية ومدح فيه (الرجل) من الأب أوهروالدر، وقد أجبت على هذه الورقة إجابة مختصرة شرحت فيها كل ما وقع لي. وعندما تقابلنا في الليلة التالية سلمت شيخنا هذا خطابي، فأسرع في ضمه إلى جيبه أملا منه أن فيه ما يضمن له الحصول على مقدار جديد من المال حسب طلبه، وفي الحق كنت شديد الفزع كثير القنوط. وعلى هذه الحالة عدت إلى منزلي حيث مررت فجأة بمحمد ابن عم صديقي عبد الرحمن، وكأنما قدرت الاتفاقات أن يسير إلى جانبي في تلك اللحظة حيث همس في أذني «نحن على استعداد»، وأضاف إلى ذلك «اشترينا الجمال وأحضرنا المرشدين في الطريق، والوقت المعد لنجاتك هو الربع الأخير من القمر في الشهر القادم، فكن مستعدا.» ولم يضف إلى ذلك شيئا، وقد شعرت هذه المرة شعورا صادقا بأنه من الواجب الابتعاد عن اليأس الذي يتخلل الأمل في فترات مختلفة.
قبل أن ينتهي شهر يناير من عام 1895 وصل إلى أم درمان حسين واد محمود مزودا بتعليمات وتوصيات البارون هيدلر والماجور ونجت، وقد أخبرني هذا الرجل العربي الجديد أنه على أهبة الاستعداد لحملي على الفرار، وقد رجاني حسين هذا أن أكتب لأصحاب الشأن في مصر بحقيقة ما عمله «حسين»، وأن يحمل ما أكتبه إلى مصر أحد أشقاء حسين أثناء رحيله للقطر المصري. وبما أني كنت مقيدا باتفاقي مع عبد الرحمن، اضطررت إلى الانتظار للوقوف على ما يعمله لعله يوفق إلى النجاح، ففي حالة فشل مساعيه (عبد الرحمن) عولت على الاستناد إلى حسين هذا، وحتى لا أصدم الأخير - بدلا من تقديم الشكر له على الأقل - أخبرته بأني في الوقت الحالي أرى صحتي غير قادرة على موالاة رحلة كبيرة، وأني سأخبره بعزمي النهائي في آخر شهر فبراير، وفي الوقت نفسه أعطيته خطابا لأصدقائي في مصر ذكرت لهم عامة ولهيدلر خاصة بأني عولت على الفرار مع عبد الرحمن، متمنيا في سعيي هذا توفيقا تاما، وفي حالة فشلي - وقد دعوت الله الرحمن أن يحول دون هذا الفشل - لا أجد غير «حسين» وسيلة لفراري. وإني لا أكتم القارئ حقيقة ما دار في نفسي بعد أن كثر عارفو سري والواقفون على رغبتي؛ فقد خشيت أن يفتضح السر عند الخليفة، وإذ ذاك تنزل علي صواعق عسفه وغضبه، فإني لم أكن أتردد لحظة واحدة في الثقة بأن الخليفة في حالة ريبة جزئية وشك بسيط في مسعاي سيقدمني إلى أشق صنوف الموت بعد أن يلقيني في السعير (السجن)، وبطبيعة الحال كان عبد الله يتلمس أي ظرف للفتك بي؛ لأنه كان فيما بينه وبين نفسه يخافني كثيرا.
أخبرني محمد يوم الأحد 17 فبراير سنة 1895 في كلماته القليلة، أن الجمال المعدة للفرار ستصل في اليوم التالي، على أن تستريح من تعبها يومين، وفي ليل 20 فبراير نتمم مشروعنا الخطير. وزاد على ذلك أنه في مساء الثلاثاء 19 فبراير سيشير إلي إشارة أفهم منها أن كل شيء قد انتهى على أحسن صورة، وأدركت أنا سنقوم بالرحلة الطويلة الشاقة التي تحتاج إلى صبر طويل وعزم ثابت.
ظللت أنتظر بأمل وخوف؛ فالأمل يدفعني إليه ما قضيته من أعوام طوال في عيش مرير قد ينتهي بعد يومين إلى حرية مطلقة، وأما الخوف فمما قد يعترضنا في سبيلنا. وعلى أية حال كنت شديد الشوق إلى مساء الثلاثاء حتى جاء ذلك الليل والتقيت بمحمد على باب المسجد الكبير؛ حيث همس في أذني بسرعة داعيا إلى الاستعداد للسفر، ثم افترقنا على أن نتقابل الليلة القادمة.
إني أعترف للقراء أني قضيت القسم الأكبر من تلك الليلة في حالة اضطراب شديد؛ فكنت بين آن وآخر أقول: «هل يفشل ذلك التدبير كسابقه؟» وما زلت أردد القول: «هل يعترض سبيلنا حادث غير منظور يقضي على كل ما لدي من آمال؟» وإزاء ذلك الاضطراب الفكري، لم أستطع النوم لحظة واحدة حتى بدا الفجر، فمن شدة التعب أغرقت في النوم العميق ساعتين أو ثلاث ساعات، تمنيت بعدها أن أكون في نشاط يمكنني من الابتداء في رحلتي الخطيرة.
حان صبح اليوم التالي الذي كان معدا لعملنا الخطير، فبدأت في تنفيذ المشروع بالحيلة الوحيدة المعقولة؛ وهي ادعاء المرض، فوقفت لدى باب الخليفة، وهناك ظهرت بمظهر الضعيف المريض وطلبت من رئيس ضباط حرس عبد الله السماح لي بالتغيب عن صلاة الفجر في يومنا هذا، بعد أن أخبرت هذا الضابط المذكور أني تناولت مقدارا من الشاي والتمر الهندي لتخفيف ما بي من ألم، على أن أبقى هادئا في منزلي في اليوم التالي. وقد حمدت الله لأني تمكنت من الحصول على الإذن بالتغيب عن الصلاة، وزيادة على ذلك وعد عبد الكريم بأنه سيعتذر عني لدى الخليفة في حالة سؤال الأخير عن تغيبي. ولم أكن في شك من أن الخليفة عندما لا يراني في صلاة الفجر سيسأل عني بطريقة ماكرة، يريد بواسطتها الوقوف على حقيقة عملي والتثبيت من وجودي في المنزل، إلا أنه سيدعي طلب الاستفسار عن صحتي بإرسال من يراني من قبله، وإذن فالمسألة خطيرة. ومهما يكن الأمر فلم تكن أمامي أية وسيلة خلاف هذه للاعتذار عن الامتناع عن صلاة الفجر.
قبل غروب شمس ذلك اليوم جمعت خدمي، وبعد أن أقسم أولئك على الاحتفاظ بالسر وعلى عدم ذكر ما أقوله لهم لأي شخص آخر، أخبرتهم أن شقيق الرجل الذي أحضر لي رسائل ونقودا مالية وساعات صغيرة من أقربائي منذ سبع سنوات، قد وصل أخيرا بأشياء أخرى جديدة، وبما أنه وصل بدون علم الخليفة فقد اضطررت إلى عدم إفشاء سر مجيئه الأخير؛ حتى لا تحوم حوله أية شبهة بدون وجه حق. وعلاوة على الكلمات السابقة قلت لخدمي إني اعتزمت زيارة الرجل المذكور في تلك الليلة؛ لأني اعتزمت الإفضاء إليه بأقوال يذكرها لأقربائي بعد عودته إلى مصر ومقابلة قنصل النمسا في القطر المصري. وللإسراع في تنفيذ الرغبة وابتعاد الرجل عن عيون الرقباء، فضلت الإفضاء إليه بما عندي في أقرب ساعة ممكنة من الليل. وبطبيعة الحال صدق الخدم أقوالي؛ لأنهم اعتادوا في السنوات الطويلة التي قضوها معي سماع الأقوال والأنباء الصادقة مني، وعلاوة على ذلك طمع أولئك الخدم في الحصول على أشياء من الطرائف التي أحضرها الرجل معه من الخارج؛ وإذن اضطروا إلى الاحتفاظ بما سمعوه وعدم إذاعة سر ذلك الرجل.
Shafi da ba'a sani ba