وحاولت أن أبتسم، وندت عنها تنهدة حارة وتمتمت: أشهد أن لا إله إلا الله.
تشهدت بصوت ينم عما برح بها من خوف وعذاب، ووجدتها لا ترفع يدها عن رأسي، ثم شعرت في اللحظة التالية بوجود شيء تحت راحتها، فسألتها بصوت ضعيف وقع في أذني كالصفير المكتوم: ما هذا الشيء على رأسي؟
فجاءني صوت آخر يقول: كيس ثلج يا سيدي!
فالتفت إلى الناحية التي جاء منها الصوت فرأيت أخي مدحت جالسا على المقعد الطويل، وأدركت في تلك اللحظة أين أكون، وهجمت علي الذكريات التي فررت منها بهذه الغيبوبة الثقيلة، وطالعتني الحياة بوجهها الكالح مرة أخرى، ووقع بصري على المنبه فإذا بعقربه قد جاوز العاشرة بقليل؛ العاشرة صباحا كما يدل عليه ضوء النهار. وإذن فقد انقضت الليلة الكئيبة وأنا في نوم عميق! ونظرت إلى أخي بطرف كسير وتساءلت: هل شيعت الجنازة؟
فألقى علي نظرة طويلة ثم قال باقتضاب: طبعا!
وصمت مليا ثم استدرك قائلا: لعلك لا تدري أنك غبت عن الوجود ثلاثة أيام كاملة.
ورنوت إليه بدهشة، ثم أغمضت جفني في ذهول، وتمتمت في حزن بالغ: قضى الله بألا أشيع لا أمي ولا زوجي إلى مرقدهما الأخير.
وتحول بصري إلى أختي فرأيت عينيها مغرورقتين بالدموع، فغشيتني كآبة موحشة بدت الحياة خلالها كالموت. لشد ما بدت لي الحياة في تلك اللحظة الرهيبة غريبة خالية. وشعرت بفراغ مخيف جدا؛ فقد خلا البيت، وخلت حياتي، وخلت الدنيا جميعا. وكنت في حياتها أجد طمأنينة راسخة، وأشعر في أعماق قلبي بأنه مهما نكدت الدنيا فلي فيها حجرة دائمة الإشراق بالابتسام والحنان، أما الآن فما أشبهني بقارب تمزقت حبال مرساته في بحر هائج عاصف. وحتى شقيقتي التي تحنو علي في مرضي فما أسرع أن تعتذر لي غذا أو بعد غد ببيتها وأولادها وتتركني وحيدا! رباه هل خلقت - أنا الطفل المدلل - لمثل هذه الحياة؟!
ونظرت إلى أختي طويلا في حب وامتنان، وأنعمت النظر في وجهها بشوق لا تدريه مجذوبا إلى مشابه فيه من وجه أمي، فاهتز صدري ودر حنانا وحزنا عميقا. وألقيت على ما حولي نظرة حائرة فوجدت أثاث رباب يحدجني بنظرات غريبة، فقلت في ضيق: هيهات أن تطيب لي الإقامة في هذا البيت. سأقيم عندك يا أختاه.
فقالت أختي بصدق وإخلاص: هذا ما كنت عقدت العزم عليه .. أهلا بك وسهلا.
Shafi da ba'a sani ba