فندت مني ضحكة باردة وقلت: إن أسرتنا مصابة بداء قتل الوالدين، ولقد حاول والدنا أن يقتل جدنا فأخفق، وأعدت الكرة على أمنا فنجحت، وهكذا ترى أنني كنت أعظم توفيقا من أبي.
فلاح القلق في وجه الشاب ونهض قائما، ثم ثبت عينيه في وجهي وتساءل: ماذا تنوي أن تصنع بنفسك؟ .. لم يبق إلا ساعة على تشييع الجنازة.
فقلت في دهشة: أتسمح بتشييع الجنازة دون تحقيق؟ يا لك من أخ رحيم! ولكن الواجب فوق الأخوة .. ادع النيابة، وسأدلك على الطريق إليها فقد عرفته بنفسي أمس، وقل لوكيل النيابة إنك تدعوه للتحقيق مع الشخص الذي دعاه أمس للتحقيق في مقتل زوجه.
وبدا أخي كأنه تذكر أمرا مزعجا فصاح: يا له من حدث أليم! كيف لم تبرق إلي يا كامل؟ لقد أخبرتني الخادم اليوم فلم أكد أصدق!
فقلت فيما يشبه الهذيان: صدق يا أخي، إنك إذا لم توطن نفسك على تصديق هذه المآسي وأمثالها خرجت من الدنيا كما دخلتها غرا جاهلا، لقد قتلت زوجي أيضا ولكن كان معي شريك هذه المرة هو عشيقها.
وضرب مدحت كفا بكف وهتف بي: لا يمكن أن تغادر الحجرة وأنت على هذه الحال!
فهززت رأسي في غضب ونهضت قائما وأنا أقول: هلم بنا.
ولم أكد أتم هذه الجملة حتى غبت عن الوجود!
67
لا علم لي بالساعات الطوال التي قضيتها في غيبوبة تامة، ولكن ثمة أويقات أخريات كنت أتخبط في ظلمات بين الغيبوبة واليقظة. إنها دنيا غريبة معتمة، تتوزعها الأحلام، فكان يداخلني شعور أنني حي، ولكن حي كميت وهنا وعجزا، وكم من مرة جهدت في شقاء ويأس كي أحرك عضوا من أعضائي، فأعياني الجهد وسلمت للضغط الحانق والخوف المبهم، وفي أحوال أخرى عابثني الوهم فخيل إلي أني غير بعيد من اليقظة، وأني أكاد أميز أصواتا مألوفة وأرى وجوها أعرفها حق المعرفة، فاستصرختها أن تهرع إلى نجدتي، وناديت أمي كثيرا حتى أحنقني تقاعدها عني وعجبت له عجبا شديدا، وطافت برأسي المحموم أحلام غريبة، فرأيت فيما يرى النائم أنني ممتط منكب أمي وأنها تذهب بي وتجيء كما كانت تفعل على عهد طفولتي، ورأيتني حينا آخر ممسكا بتلابيب أخي مدحت في نضال عنيف في جو صاخب وهو يصيح بي: لا تقتلني. وخيل إلي أني رأيت أحلاما كثيرة ولكن ابتلعتها الظلمة. وطالت غيبوبتي حتى ظننتها لا تنتهي، ثم تفتحت عيناي، وعدت إلى نور الدنيا، وتنهدت من الأعماق، ووقع بصري على مرآة تعكس صورتي، وشعرت بوجود شخص عند رأسي فحركت عيني نحوه فرأيت أختي راضية جالسة على الفراش ويدها على رأسي، والتقت عينانا فابتسمت أساريرها ولاحت في عينيها نظرة إشفاق وغمغمت بصوت حنون: كامل!
Shafi da ba'a sani ba