وسألتها أن تقرب أذنها مني، ثم قلت لها بحزن: خذيني إلى حجرتها لألقي عليها نظرة!
فأظلمت عيناها واغرورقتا بالدمع، وقالت لي همسا: لا يمكن أن تفارق الفراش الآن، ثم إنه لم يعد بالحجرة شيء.
تخيلت الحجرة الخالية؛ أربعة جدران وسقفا وأرضا .. ما أشبهها بحياتي! وتنهدت محزونا وتمتمت: ما أشقاني!
فقالت راضية برجاء وضراعة: هلا أجلت الحزن حتى تبرأ! •••
ولازمت الفراش زهاء شهر، وأقامت راضية عندي أسبوعا، ثم عادت إلى بيتها مضطرة، ولكنها دأبت على زيارتي كل يوم عصرا، ولم تكن تفارقني قبل أن يغمض النوم جفني .. وعاد مدحت كذلك إلى الفيوم، ولكنه كان يمضي عندي نهاية الأسبوع.
ولما دخلت طور النقاهة كانت الحمى قد عرقتني وخلفتني جلدا على عظم. ولم تكد تبقي ثمة حياة إلا في خيالي، فازدهرت حيويته وامتلأ قوة ونشاطا فكاد يبلغ حد الهوس. ولم يكن شعور الوحشة والخوف ليفارقني ساعة من ساعات اليقظة. فبدت لي الحياة شاقة مرعبة لا قبل لي بها، وامتلأت أذناي بذاك النداء القديم الذي يهيب بي - عند الشدائد - أن أولي فرارا. ولكن أين المفر؟ ليتني أخلق شخصا جديدا، سليم الجسم والروح، لا يعشش بأركان نفسه الخوف والجفاء، فألقي بنفسي في خضم الحياة الإنسانية بلا خجل ولا نفور، أحب الناس ويحبونني، وأعينهم ويعينونني، وآلفهم ويألفونني، وأندمج في كائنهم الكبير عضوا عاملا نافعا! ولكن أين مني هذه السعادة؟! وفيم أعلل النفس بالأماني الكاذبة؟ لم أخلق لشيء من هذا، وإنما خلقت للتصوف، ومن عجب أن وردت هذه الكلمة على ذهني بغير قصد، لكن سرعان ما تشبثت بها بدهشة وحيرة .. التصوف؟ لست أدري ما هو على وجه التحقيق! ولكنه وحدة وعزوف وتفكير، وما أحوجني للوحدة والعزوف والتفكير! عجبا ألم أكن أشكو الوحدة طوال رقادي؟ الحق أنني لم أشك الوحدة التي ألفتها العمر كله؛ ولكنني استوحشت الوحدة التي خلفتها أمي. أما الوحدة المعهودة فما أشد لهفتي إليها؟ ينبغي قبل ذلك أن أطهر جسمي ظاهره وباطنه، ثم أكرس قلبي للسماء. لقد خلقت في الواقع متصوفا، ولكن أضلتني نوازع الحياة، وتصورت نفسي في طهر عجيب، يستحم جسدي بماء عطر، وتتسامى روحي في صفاء ونقاء، فلا مشهد أرنو إليه إلا السماء، ولا خاطر ينبثق في نفسي إلا الله، وهذه بلابل الجنة تسجع في أذني، وتلك طمأنينة السلام تقر في قلبي! كان خيالي نشيطا ولكنه كان غادرا في كثير من الأحايين، فلم يكن يصعد بي إلى ذاك المرتقى حتى يتخلى عني بغتة فأهوي من عل، ثم أعود إلى قلقي القديم وخوفي المقيم. •••
وفي ذات صباح من أيام النقاهة الأخيرة جاءتني الخادم العجوز وقالت لي: جاءت سيدة تريد مقابلتك وقد أدخلتها الاستقبال.
فرفعت إليها عيني في دهشة وسألتها: ألا تعرفينها؟
فهزت المرأة رأسها قائلة: لم أرها يا سيدي قبل اليوم.
ووثب إلى خاطري طيف فانتفض قلبي الضعيف واشتدت ضرباته حتى انبهرت أنفاسي. رباه أتكون هي حقا؟ وهل واتتها الجرأة على اقتحام البيت؟ ألم تقدر العواقب؟ ونظرت إلى الخادم في حيرة شديدة ثم تمتمت: ادعيها إلى حجرتي!
Shafi da ba'a sani ba