على الشاطئ البعيد كانت المدينة الأخرى، اسمها برشلونة، في الربيع تتغطى شوارعها بالشباب والشابات، أجسام ممشوقة رشيقة، لا تعرف نوع الجنس من الملابس أو الشكل الخارجي، لا شيء يفرق الأنوثة عن الذكورة إلا المشاعر العميقة غير المدركة بالعقل بالواعي، برشلونة مؤنثة الاسم والجسم، وإن ظل عقلها ذكوريا، تؤمن بالإله الأب وابنه الذكر، المحمول فوق صدر أمه العذراء، اختفى كيانها تحت اسم الشبح أو الروح القدس.
لم تستطيع كارمن أن تتخلص من إيمانها بالمسيح، كما أن زوجها رستم لم يؤمن بإله سماوي، فقد ساعدته علوم الفلسفة على ذلك، سميح أدرك هذه الحقيقية في طفولته، قبل أن يدخل المدرسة.
كانت الفتاة تعاني ما يشبه عقدة النقص، لم تدخل الجامعة ولم تحصل على شهادة، نشأت في الفقر والحاجة إلى العمل، تنظر إلى الكون باعتباره موجودا منذ الأزل، وباقيا إلى الأبد، لم يشغلها كثيرا كيف جاء، لم تقرأ الكتب الدينية، كانت تفضل قراءة الأدب والروايات، تحرر عقلها وانطلق في الأفق الواسع، بقيت روحها حبيسة الجسد، يستهويها الحوار بين سميح ورستم وكارمن، تشترك فيه بقلب بارد خال من الإيمان، أحشاؤها ترتعش حين ينطق أحدهم بكلمة إلحاد.
كان ذلك في الأيام الأولى لعلاقتهما، قبل أن تعرف أنه يحبها، وقبل أن تعرف كارمن، أول من عرف هو سميح، كانوا يجلسون كعادتهم في المقهى الصغير، يرشفون النبيذ على مهل، سميح يتحدث عن بيولوجيا الفلسفة وكيمياء المشاعر.
بعد أن تركها رستم وكارمن تمشت مع سميح على كوبري قصر النيل، الموجات على سطح الماء تلمع تحت الضوء كالأسماك الفضية ... كان سميح يقول ممسكا يدها: ألم تلاحظي شيئا على رستم؟ - تقصد إيه؟ - أظن أنه يحبك.
اهتز حديد الكوبري تحت قدميها، توقفت، كيف يلاحظ سميح ما لم تلاحظه هي، مع أن الأمر يتعلق بها. •••
تطل الفتاة من نافذتها العالية على ميناء برشلونة، مياه البحر الأبيض تتابعها، تسبح معها جنوبا وشرقا حتى شاطئ الإسكندرية، مهما ابتعدت يظل الحنين، ليس لها وطن أو مسقط رأس، ليس لها أهل تعود إليهم، لم تكن لها طفولة ولا حكايات المارد والغولة، ينتابها الحنين أحيانا إلى القضبان، ورائحة الأرض الأسفلت والمجاري تترامى رائحتها عبر البحر، يمحو الزمن عفونة الماضي، ويستحيل الألم لذة على نحو ما.
تعيش الفتاة في غرفة صغيرة فوق سطح عمارة عالية، تملكها امرأة اسمها «يولاندا»، تسكن الدور الأول، وتملك محلا لبيع الخمور في الدور الأرضي يطل على الميدان، ومطعما صغيرا يشتهر بوجبة «باييلا مارنيرا»، خليط من قواقع البحر والجمبري والطماطم والبصل والثوم، مع الأرز المطبوخ، لونه ذهبي أصفر، يلمع تحت الضوء، يتصاعد منه البخار، يثير شهيتها وهي تمشي أمام المطعم، ثمن هذه الوجبة تسعة يورو، لم يكن لها عمل ولا مورد رزق.
يولاندا قصيرة سمينة، حول عينيها دوائر رمادية، بشرتها مترهلة بيضاء، تلف شعرها الأصفر بشريط أسود، تبعثر أولادها وبناتها في بلاد العالم، إلا ولد واحد اسمه فرانسيسك، يتقمص شخصية «سلفادور دالي» بشاربيه الضخمين، يقف في «الرامبلا» مثل تمثال، جسمه مدهون بمسحوق أبيض، يؤدي حركات البانتوميم الصامتة، ثم يتجمد فجأة، يصبح تمثالا مصنوعا من الحجر أو الجرانيت، يمر به الناس يرمقونه بإعجاب لا يخلو من الإشفاق، قد يلقي أحدهم بقطعة من النقود في القبعة الراقدة فوق الأرض أمام قدميه.
أول مرة رأت يولاندا كانت جالسة في المطعم، تلتهم صحن الباييلا مارنيرا، رأتها ترمق الجمبري المقلي والأرز الذهبي يتصاعد منه البخار، عقدت معها صفقة قبلتها بحكم الضرورة، أن تشتغل في المطعم أربعة أيام في الأسبوع مقابل الغرفة فوق السطوح. - ومن أين آكل يا يولاندا؟
Shafi da ba'a sani ba