ثمن الكتابة
الرواية
ثمن الكتابة
الرواية
الرواية
الرواية
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
Shafi da ba'a sani ba
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
Shafi da ba'a sani ba
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
الرواية
Shafi da ba'a sani ba
أحدثت الرواية غضبا عارما، الفتاة في الثالثة والعشرين من عمرها، مجهولة الأب، ليس لها أسرة ولا شهادة ولا بطاقة مختومة، كانت هي روايتها الأولى، تكتبها بقلمها دون أن تكون كاتبة، دون أن تقرأ أساطير الأنبياء ولا الشعراء ولا الأدباء، لم يندرج اسمها ضمن الكاتبات.
قوامها ممشوق من طول المشي سعيا وراء الرزق، يرتكز على عمود فقري صلب، تقاطيع وجهها بارزة حادة من شدة النحافة، منحوتة في عظام قوية كالصخرة.
كان موسم الانتخابات على الأبواب، تسبقه فضائح الجنس والفساد للمرشحين والمرشحات، تحظى النساء بنصيب أكبر بطبيعة الحال.
وكان هناك مجلس للشيوخ يسمونه مجلس الشورى، يضم الحكماء من الذكور المسنين، والحكيمات من النساء المسنات، بطل الرواية عضو بالمجلس، في الرابعة والخمسين، أصغر الأعضاء سنا، يبدو شابا رياضيا، يمارس لعبة الجولف كل يوم، بشرته ملوحة بالشمس، عيناه يكسوهما بريق، يرتدي بدلة أنيقة، وربطة عنق زاهية الألوان، حليق الوجه بلا شارب ولا لحية، تفوح منه رائحة معجون الحلاقة «لافندر»، خطوته واسعة سريعة يعمل في مؤسسة صحفية كبيرة، صدرت له ثماني روايات، مشغول بكتابة الرواية التاسعة، اسمه «رستم».
كان رستم يتمشى على كورنيش النيل في الليالي القمرية الدافئة، يتوقف أمام الكشك على الناصية، يسمونه «بوتيك»، صاحبه شاب من أبناء الشهداء، يرتدي جلبابا أبيض ولحية طويلة سوداء، تتدلى المسابح فوق واجهة البوتيك، والمصاحف ذات الأغلفة الذهبية، والمباخر وإمساكيات رمضان وأحجبة النساء.
يتهلل وجه الشاب كعادته حين يرى رستم قادما: أهلا سعادة الباشا!
يناوله الشاب القطعة الصغيرة مما توضع في الشيشة أو تحت اللسان، والرواية الملفوفة داخل حجاب سميك من الورق لا يشف العنوان، وإمساكية الصيام. كان شهر رمضان على الأبواب، ومعه معركة الانتخابات. - الأخبار إيه يا محمد؟
صوت رستم فيه بحة ذكورية خشنة، مملوءة بالرجولة مع الدخان الكثيف، تجذب الشابات الصغيرات القارئات لرواياته الشائعة. - الدولار طالع يا سعادة الباشا والجنيه نازل يرف.
يناوله رستم مظروفا بني اللون مرسوما عليه رأس النسر، مغلفا بشريط من السيليوتيب، يحمله الشاب بيديه الاثنتين بعناية شديدة، كأنما طائر يخشى أن يحلق بأجنحته ويطير، ثم يختفي وراء قبو خشبي داخل البوتيك، بعد دقائق قليلة يخرج حاملا كيسا من البلاستيك الأسود. - عدهم يا سعادة الباشا. - أعد وراك يا محمد؟ - يلزمك كم إمساكية يا باشا؟ - حسب الناخبين ... ألفين ... ثلاثة ... أربعة. - الناس كلها معاك وربنا معاك. - ربنا فوق الجميع.
في الليل قبل أن ينام ينزع رستم الغلاف السميك عن الرواية، كأنما ينزع الملابس عن امرأة، يعشق القراءة مع الدخان والكأس، تتحرك شهوته للمحرمات، مثل الآخرين والأخريات، وكل ممنوع مرغوب كما يقولون.
Shafi da ba'a sani ba
فوق ظهر الغلاف كانت صورة المؤلفة الشابة، داخل مربع صغير، تسمرت عيناه فوق ملامح الوجه، التقاطيع الحجرية البارزة، عيناها ثابتتان في عينيه ثاقبتان قاطعتان كحد السكين، في الثالثة والعشرين، تصغره بواحد وثلاثين عاما، ولدت في الجائزة الأولى، تسلمها في حفل كبير من يد الرئيس قبل اغتياله بخمسة شهور.
وأصبحت صورة الفتاة تظهر له في الحلم وهو نائم. •••
هربت الفتاة إلى مكان بعيد تكتب فيه الرواية، لم تأخذ معها إلا حقيبة بها ملابسها وأوراقها، والجنين تحمله في أحشائها، سافرت إلى الشاطئ البعيد لتقترب من البحر المفتوح، تنشد الفرار من ظلام الجدران، وقرار القبض والإعدام. أرادت أن تهب الحياة لطفلتها، ثمرة الحب المقدس، النطفة الإلهية في رحم العذراء.
في الليل حين تسكن الريح وتنام مياه البحر، ترقد الطفلة غير المولودة في أعماقها، غير المعروفة النسب، مثل روايتها الأولى، لا تعرف اسمها.
كان الناس يعيشون في رعب. أكثر ما يرعبهم المجهول، والأشياء غير المعروفة الاسم، حتى الشيطان عرفوا اسمه «إبليس»، والآلهة أيضا عرفوا أسماءها، وسقطت عنها الحجب.
تضغط الفتاة على مفتاح النور بجوار سريرها، تعود بذاكرتها إلى مدينتها ... اجتازت عرض البحر من الجنوب إلى الشمال لتبتعد عنها، تحتاج الرؤية إلى بعد المسافة، بعيدا عن الضجيج والأصوات الزاعقة، بعيدا عن الأزقة ولهيب الصيف، تنزع التلافيف الملفوفة حول رأسها، تنظر إلى وجهها المكشوف لضوء الشمس، جسدها يسبح في البحر كالسمكة الفضية، عيناها مفتوحتان على الأفق دون سقف.
في أذنها طنين يذكرها بالذباب في حي السيدة زينب، ودقات المنبه القديم بجوار وسادتها، وابتهالات الشحاذين والشحاذات أمام باب المسجد، يطلبون الرحمة والعدل من السماء، دون جدوى، تبقى السماء ممدودة فوق رءوسهم في صمتها الأبدي، إلا بعض لحظات نادرة في الشتاء، تنذر بصوت الرعد، يتساقط رذاذ مطر خفيف، لا يلبث أن يجف.
كانوا يجلسون في المقهى الصغير بالقرب من ميدان التحرير، يرشفون النبيذ. بعد الكأس الأولى تنتابها نشوة حزينة. إلى جوارها يجلس سميح، داخل بدلة رمادية من دون ربطة العنق، وجهه شاحب نحيف، عيناه خضراوان. أمامها تجلس كارمن، داخل ثوبها الملون، شعرها بني اللون كثيف، يهتز مع رأسها وضحكاتها المنطلقة. إلى جوارها رستم بوجهه الملوح بالشمس، داخل بدلة سماوية، وربطة عنق حمراء بها دوائر زرقاء، عيناه شاردتان، يملأ الكئوس الفارغة، يناولها كأسها، تتلاقى عيونهما في لحظة سريعة ثم يعود إلى شروده، تبقي عيناها في عينيه، وإن غابت، ثابتتين ثاقبتين قاطعتين كحد السكين ... مقلتان كبيرتان زرقتهما سوداء، مثل أعماق المحيط، تذوب فيهما الألوان والأجناس تكسبهما جاذبية خاصة تعلو فوق الجنس.
مدينة القاهرة في الليل مؤنثة الاسم، عقلها الظاهر في النهار يؤمن بالإله الذكر، عقلها الباطن تعيش فيه الإلهة الأنثى، تجوب شوارعها سيرا على قدميها، أو داخل السيارة المرسيدس، بلون البدلة، يقودها رستم، أول مرة يدعوها وحدها، كانت كارمن في نيويورك تشارك في مؤتمر عن الرواية «ما بعد الحديثة»، سميح كان في أسيوط يلقي محاضرة في الجامعة عن «بيولوجيا الثقافة».
في شارع الهرم تعلقت عيناها بقمم الأهرامات، تلمح وجه رستم ... أنفه مرفوع فيه كبرياء، شفتاه ممتلئتان غليظتان كالشفاه الأفريقية، يداه كبيرتان يغطيهما شعر أصفر ملوح بالشمس، تتحركان فوق عجلة القيادة في ثبات وثقة.
Shafi da ba'a sani ba
المرة الأولى يدعوها وحدها، تعودوا أن يكونوا معا هم الأربعة، شيء خفي يحدث بينهما، تيار من الأحاسيس المبهمة تثير القلق.
حين تكون الفتاة وحدها يجتاحها إحساس جارف بالحزن، من حولها جدران الشقة الضيقة في الزقاق المسدود، تشاركها الشقة «جمالات»، صحافية متوسطة العمر، ضخمة الجسم، شعرها المصبوغ بالحنة الحمراء ملفوف بطرحة بيضاء، وجهها أبيض سمين تغطيه بالمساحيق والألوان، عيناها سوداوان ترسمهما بالكحل، حاجباها رفيعان مرسومان بسن القلم على شكل قوس، أنفها عريض، وشفتاها رقيقتان مصبوغتان باللون الأحمر.
الشقة من غرفتين، واحدة للفتاة والثانية لجمالات، بكل غرفة سرير عريض من الخشب الكالح، ودولاب قديم للملابس، ومنضدة صغيرة للأكل والكتابة، والضرب عليها بقبضة اليد عند الغضب، الصالة ضيقة مظلمة، نافذة واحدة تطل على المنور، والمطبخ أشد ظلمة، لا يتسع إلا لغسل الصحون في الحوض، والوقوف أمام النار للطبخ.
قال رستم وهو يقود سيارته المرسيدس، القاهرة مدينة لا تقهر إلا الضعفاء، يتخفى فيها الفساد تحت حجاب الشرع، ويرتدي حاكمها ثوب الإله الرب. كانت تشعر بتأنيب الضمير؛ لماذا قبلت دعوته؟ كانت تبحث عن عمل مثل الشباب العاطلين والعاطلات، أملهم الوحيد هو الهجرة، أو السفر خارج الوطن، كلمة الوطن تقف في حلقها كالغصة.
كانت كارمن تأخذها بسيارتها حين يسافر زوجها، لم تكن تركب سيارته المرسيدس الكبيرة، تفضل سيارتها الفيات الصغيرة، تخرجها من جراج البيت في جاردن سيتي، تجتاز شارع قصر العيني إلى شارع المبتديان، تدخل الزقاق المسدود في حي السيدة زينب، تتوقف أمام الباب الخشبي الكالح، تضغط على بوق السيارة مرتين، تهبط الفتاة السلالم المظلمة، تتفادى الدرجة المكسورة قبل الدور الأرضي، تركب إلى جوارها، تنطلق بهما إلى صحاري سيتي، تركن كارمن السيارة أمام الشاليه الصغير وسط الصحراء، تخلعان الأحذية وتمشيان فوق الرمال الناعمة، تحكي لها كارمن عن رواية قرأتها، أو نكتة سمعتها، أو حادث وقع لها ...
توقفت فجأة عن الكلام، دوى صمت الصحراء في أذنها كالصفير الحاد، منذ طفولتها تخاف الظلام. التلال الرملية تبدو من بعيد كالأشباح، كارمن واقفة ثابتة، عيناها تنظران بعيدا ناحية قمم الأهرامات.
جاءها صوتها خافتا: رستم يحبك. - زوجك؟ - أيوه .
رغم مرور الأيام بقي صوتها في أذنها، «رستم يحبك»، الارتجافة مع المفاجأة، القشعريرة والرعشة تحت ضلوعها، كيف عرفت ما لم تعرفه هي؟ - أنا لا أعرف شيئا، أقسم. - لا داعي للقسم، أنا أصدقك.
في غرفتها في زقاق السيدة فكرت كيف نطقت الكلمتين «أقسم بالله»، ليس من عادتها أن تقسم بالله، لا تحترم الناس الذين يقسمون بالله، فهم كاذبون لا بد، وإلا ما كانوا في حاجة إلى القسم.
عاد رستم من السفر، جاءها صوته عبر أسلاك التليفون يدعوها إلى ندوة عن رواية «بحر سارجوسا»، لكاتبة من الكاريبيان اسمها «جين ريس». كانت تحب حضور هذه الندوات، تعقد في دار النشر في مصر الجديدة، ورثها سميح عن أبيه، تفرغ لها وجعلها مركز إشعاع للأدب والفن. كان سميح يملأ حياتها على نحو ما، تجمعها به علاقة حب، زال عنها الوهج والشوق الجامح، أصبحت مثل نهر هادئ، لا شيء يدق تحت الضلوع، ولا شيء يثير الخيال. •••
Shafi da ba'a sani ba
على الشاطئ البعيد كانت المدينة الأخرى، اسمها برشلونة، في الربيع تتغطى شوارعها بالشباب والشابات، أجسام ممشوقة رشيقة، لا تعرف نوع الجنس من الملابس أو الشكل الخارجي، لا شيء يفرق الأنوثة عن الذكورة إلا المشاعر العميقة غير المدركة بالعقل بالواعي، برشلونة مؤنثة الاسم والجسم، وإن ظل عقلها ذكوريا، تؤمن بالإله الأب وابنه الذكر، المحمول فوق صدر أمه العذراء، اختفى كيانها تحت اسم الشبح أو الروح القدس.
لم تستطيع كارمن أن تتخلص من إيمانها بالمسيح، كما أن زوجها رستم لم يؤمن بإله سماوي، فقد ساعدته علوم الفلسفة على ذلك، سميح أدرك هذه الحقيقية في طفولته، قبل أن يدخل المدرسة.
كانت الفتاة تعاني ما يشبه عقدة النقص، لم تدخل الجامعة ولم تحصل على شهادة، نشأت في الفقر والحاجة إلى العمل، تنظر إلى الكون باعتباره موجودا منذ الأزل، وباقيا إلى الأبد، لم يشغلها كثيرا كيف جاء، لم تقرأ الكتب الدينية، كانت تفضل قراءة الأدب والروايات، تحرر عقلها وانطلق في الأفق الواسع، بقيت روحها حبيسة الجسد، يستهويها الحوار بين سميح ورستم وكارمن، تشترك فيه بقلب بارد خال من الإيمان، أحشاؤها ترتعش حين ينطق أحدهم بكلمة إلحاد.
كان ذلك في الأيام الأولى لعلاقتهما، قبل أن تعرف أنه يحبها، وقبل أن تعرف كارمن، أول من عرف هو سميح، كانوا يجلسون كعادتهم في المقهى الصغير، يرشفون النبيذ على مهل، سميح يتحدث عن بيولوجيا الفلسفة وكيمياء المشاعر.
بعد أن تركها رستم وكارمن تمشت مع سميح على كوبري قصر النيل، الموجات على سطح الماء تلمع تحت الضوء كالأسماك الفضية ... كان سميح يقول ممسكا يدها: ألم تلاحظي شيئا على رستم؟ - تقصد إيه؟ - أظن أنه يحبك.
اهتز حديد الكوبري تحت قدميها، توقفت، كيف يلاحظ سميح ما لم تلاحظه هي، مع أن الأمر يتعلق بها. •••
تطل الفتاة من نافذتها العالية على ميناء برشلونة، مياه البحر الأبيض تتابعها، تسبح معها جنوبا وشرقا حتى شاطئ الإسكندرية، مهما ابتعدت يظل الحنين، ليس لها وطن أو مسقط رأس، ليس لها أهل تعود إليهم، لم تكن لها طفولة ولا حكايات المارد والغولة، ينتابها الحنين أحيانا إلى القضبان، ورائحة الأرض الأسفلت والمجاري تترامى رائحتها عبر البحر، يمحو الزمن عفونة الماضي، ويستحيل الألم لذة على نحو ما.
تعيش الفتاة في غرفة صغيرة فوق سطح عمارة عالية، تملكها امرأة اسمها «يولاندا»، تسكن الدور الأول، وتملك محلا لبيع الخمور في الدور الأرضي يطل على الميدان، ومطعما صغيرا يشتهر بوجبة «باييلا مارنيرا»، خليط من قواقع البحر والجمبري والطماطم والبصل والثوم، مع الأرز المطبوخ، لونه ذهبي أصفر، يلمع تحت الضوء، يتصاعد منه البخار، يثير شهيتها وهي تمشي أمام المطعم، ثمن هذه الوجبة تسعة يورو، لم يكن لها عمل ولا مورد رزق.
يولاندا قصيرة سمينة، حول عينيها دوائر رمادية، بشرتها مترهلة بيضاء، تلف شعرها الأصفر بشريط أسود، تبعثر أولادها وبناتها في بلاد العالم، إلا ولد واحد اسمه فرانسيسك، يتقمص شخصية «سلفادور دالي» بشاربيه الضخمين، يقف في «الرامبلا» مثل تمثال، جسمه مدهون بمسحوق أبيض، يؤدي حركات البانتوميم الصامتة، ثم يتجمد فجأة، يصبح تمثالا مصنوعا من الحجر أو الجرانيت، يمر به الناس يرمقونه بإعجاب لا يخلو من الإشفاق، قد يلقي أحدهم بقطعة من النقود في القبعة الراقدة فوق الأرض أمام قدميه.
أول مرة رأت يولاندا كانت جالسة في المطعم، تلتهم صحن الباييلا مارنيرا، رأتها ترمق الجمبري المقلي والأرز الذهبي يتصاعد منه البخار، عقدت معها صفقة قبلتها بحكم الضرورة، أن تشتغل في المطعم أربعة أيام في الأسبوع مقابل الغرفة فوق السطوح. - ومن أين آكل يا يولاندا؟
Shafi da ba'a sani ba
قالتها باللغة الكاتالانية الركيكة، مع الإشارات بيدها إلى فمها. هزت يولاندا رأسها وأشارت إلى الغرفة الداخلية في المطعم. رمقت جسمها الناحل ووجهها الشاحب الطويل: لا أظن أنك تأكلين كثيرا يا ابنتي.
نطقت كلمة ابنتي بصوت أمومي، لا ينم عنه مظهرها القاسي، له رنين معدني يشبه الآلة الحاسبة، قدمت لها صحنا من الباييلا الساخنة، بدأت الفتاة العمل في هذا اليوم الأول حتى منتصف الليل، ثم أخذت المصعد إلى الدور الأخير، ومنه صعدت السلالم إلى السطح، توقفت لحظة تستنشق هواء البحر، تشهد ميناء برشلونة من بعيد، أطراف السفن الراسية عند الشاطئ، تمثال كريستوفر كولومبس من طرفه، رافعا ذراعه مشيرا بإصبعه إلى البحر، ناحية الشاطئ الجنوبي، شمال أفريقيا.
جاءها فرانسيسك ذات ليلة، وقف إلى جوارها فوق السطح يشمان الهواء، بدأ يعلمها الكاتالانية وهي تعلمه العربية، قال إن كريستوفر كولومبس يشير بإصبعه إلى الاتجاه الخاطئ، لأنه سافر شمالا إلى أمريكا وليس جنوبا إلى أفريقيا، أمسك يدها بيده، ينظر في عينيها تحت ضوء القمر، عيناه زرقاوان تلمعان، تصبحان في الليل سوداوين، تشبهان عيني رستم، وأحيانا عيني سميح. •••
في النوم تسافر عبر البحر لتعود إلى غرفتها في الزقاق المسدود بحي السيدة زينب، تشبه غرفتها في برشلونة، تطبق جدرانها الكالحة على روحها، والسرير الخشبي القديم يئن تحت الجسدين المتلاطمين في الظلمة، تتعرف على أحدهما، إنه جسدها، تحمله معها منذ طفولتها حيثما ذهبت، تعرفه عن يقين، تلامسه بأطراف أصابعها بالحنين القديم، تغترب عنه لحظة كأنما جسد امرأة أخرى، ثم تعود إليه تتعرف عليه، الأصابع النحيلة السمراء، الأظافر الشاحبة المقصوصة بحسب أوامر يولاندا، الرعشة الخفيفة الناجمة عن الحزن الغامض الغائر في أعماقها.
الجسد الآخر لا تكاد تعرفه، يتقمص في السرير حركات البانتوميم، قد يهمس في أذنها باسم يشبه اسمها، ترد عليه من دون أن تعرف اسمه، تناديه فرانسيسك، وأحيانا رستم، أو سميح، أو اسما آخر عالقا بالذاكرة. •••
رغم تحررها تقبع في أعماقها امرأة حبيسة، انطلق عقلها وجسدها خارج القضبان، بقي جزء من كيانها أسيرا، ربما هي الروح العاجزة عن التحرر. كلمة «الروح» مؤنثة في لغة القرآن ومع ذلك ترمز إلى إله السماء.
كان رستم يقول: اللغة أقدم من الدين، حواء هي أصل الوجود، آدم ليس إلا الفرع ... ثم يرمقها بعينيه ذات البريق، يدرس أثر كلماته عليها، تسبقها زوجته كارمن في الإعجاب به، تصفق بيديها البيضاوين الناعمتين كالطفلة: برافو! أنت أجمل رجل في العالم يا رستم.
يرمقها بنظرة سريعة، تتلاقى عيونهما في لحظة ثم تشرد بعيدا، تنتابها أحاسيس غامضة، بعضها حزن، بعضها فرح، عيناه عسليتان كبيرتان، مزيج من دماء الشمال والجنوب، كيمياء الشرق والغرب ... درس الفلسفة في كامبريدج، ثم تركها ليكتب الرواية، في كيانه المزدوج تناقض الحياة، شفتاه ممتلئتان بشهوة متدفقة، في عينيه نظرة محايدة باردة تشبه القضاء والقدر.
سميح كان مختلفا، عيناه الخضراوان فيهما نظرة دافئة، شفتاه رفيعتان باردتان، كانت أمه راقصة في ملاهي الإسكندرية، تعشق الفن المصري القديم، بعد أن ترقص لا تعطي جسدها للرجال، تشاركهم الحديث عن الفن والفلسفة حتى يطلع الفجر، وقع في حبها ضابط جيش يملك دارا للنشر، قتلته قنبلة أثناء العدوان الثلاثي على بورسعيد عام 1956، كان سميح عمره ثلاثة أشهر، واصلت أمه مهنة الرقص حتى تخرج في جامعة الإسكندرية، أرسلته إلى باريس حيث حصل على الدكتوراه في علم الأنثروبولوجيا وثقافة الأجناس، في أعماقه حنين إلى الفن يشبه الحنين إلى الأم، ورث عنها شقة على البحر في الإسكندرية، وشقة على النيل في جاردن سيتي، وورث عن أبيه دار النشر في مصر الجديدة.
كانت كارمن تترك سيارتها الفيات في الجراج أحيانا، لا تحب القيادة في شوارع القاهرة أثناء النهار، تفضل القطارات تحت الأرض: مترو الأنفاق، من محطة سعد زغلول إلى حديقة الحيوان في الجيزة، تكتب رواية بطلها طبيب بيطري يعالج الحيوانات، كان اليوم دافئا في شهر أبريل، ترتدي ثوبا ربيعيا يكشف عن ذراعيها وجزء من الصدر، شعرها البني الداكن مسدل فوق كتفيها، في المترو كانت تجلس امرأة تختفي تحت عباءة سوداء، لا يظهر منها إلا عينان سوداوان مشتعلتان بالغضب.
Shafi da ba'a sani ba
فجأة أخرجت المرأة من حقيبة يدها منديلا كبيرا أسود، اندفعت بحركة سريعة نحو كارمن لتغطي شعرها وعنقها وهي تصيح: الحجاب مثل الصلاة واجب عليك! انتفضت كارمن واقفة، خلعت عن رأسها المنديل وقذفت به المرأة، نشب العراك بينهما، نزعت كارمن عن المرأة حجابها، فانكشف رأسها الأصلع أمام الناس.
ضحك رستم حين سمع الحكاية. ظل سميح صامتا واجما، ثم قال: اللعب بالدين في السياسة كاللعب بالنار. القاهرة تعيش فوق بركان مكتوم.
عناوين الصحف ترمقها كارمن بطرف عين: بعض أعضاء مجلس الشورى يؤيدون عقوبات الرجم والجلد وقطع يد السارق وتحريم شرب الخمر، أربعة عشر من الشباب المهاجرين يغرقون في البحر قرب شاطئ برشلونة، الفتاة الشابة تقدم للمحاكمة بتهمة القتل والحمل السفاح وانعدام مشاعر الأمومة ... انهيار الأخلاق في عصر الديمقراطية والإصلاح.
يرمقها زوجها رستم بطرف عين، يتبادلان النظرات من تحت الجفون نصف المغلقة، يتبادلان الاتهامات دون صوت، في الليل يتبادلان العناق في صمت، أصبح للزوجة حاسة شم أقوى من الكلاب، تعرف رائحة المرأة الأخرى، خاصة رائحة الفتاة، عطر الصابون الرخيص في الأسواق، وغسول الشعر الشامبوه من أرخص الأنواع، مع قطرات العرق والتعب، وذرات الشراب في الزقاق المسدود بحي السيدة. •••
يتألق سطح البحر عند شاطئ برشلونة، تتمدد الأجسام تحت أشعة الشمس الذهبية، ترتدي الفتاة المايوه الأبيض من قطعتين، تسبح تحت الماء كالسمكة الفضية، مياه البحر دافئة في الربيع، نسيت الفتاة حياتها الماضية، تلاشت الوجوه من ذاكرتها، إلا وجه القاضي الجالس فوق المنصة في المحكمة، يدق بالمطرقة فوق المنضدة.
كل شيء في برشلونة يتفتح في شهر الربيع والزهور، عيون القطط المغمضة، عذراوات الشرق والطيور المهاجرة، السماء زرقتها شفافة، سحابة واحدة داكنة تخفي وراءها العين الساهرة التي لا تنام، تراقب سلوك البنات، لا ينافسها في يقظتها إلا عين إبليس، تتخفى أيضا وراء السحابة.
تراقب الفتاة السحابة وهي تزحف، تقترب بحذر من رأس كريستوفر كولومبس، من ورائه الجبل اليهودي، لا يرتفع إلى رأس التمثال الشامخ، في شارع الرامبلا، تتمشى الفتاة بين أكشاك الزهور، تحرك ذراعيها وترقص على لحن تعزفه مجموعة من الشباب تقوم بأعمال بهلوانية، تطير في الهواء مثل عصفورة، تنثني على الأرض مثل قطعة من العجين، في المقاهي يجلس الرجال والنساء، يرشفون النبيذ والبيرة المثلجة، تلمع عيونهم تحت ضوء الشمس، يأكلون على مهل من صحون تتصاعد منها رائحة السمك المشوي وقواقع البحر.
ترتدي الفتاة قميصا ربيعيا خفيفا وبنطلونا أسود واسعا، تنتعل حذاء كاوتش، تجري تسابق الريح، من ميدان كاتالونيا حتى شاطئ الأولمبيك، رائحة العشب واليود تعيدها إلى شاطئ سيدي بشر، كانت تسبح بجوار سميح، يسبقها إلى صخرة ميامي، تحبه داخل البحر أكثر مما تحبه وهو يمشي فوق الأرض. أما هي! لم تعرف البحر في طفولتها، ولدتها أمها بين الجدران السوداء، مسقط رأسها قطعة من الأسفلت.
بعد العشاء يسيرون هم الأربعة في شارع النيل - رستم وكارمن وسميح وهي - مروا بواحدة من بنات الليل، واقفة تستند بجسمها الناحل إلى عمود النور، عيناها المكحلتان تتسعان لحزن الكون، رمقها رستم وسميح بنظرة طويلة من الساقين إلى النهدين، مزيج من الشهوة والإشفاق.
قالت كارمن: ينجذب الرجال إلى بنات الهوى، من الإله آمون حتى سيدنا موسى وعيسى ومحمد.
Shafi da ba'a sani ba
رنت كلمة «محمد» في أذنها فانتفض جسدها بالخوف، لم تتخلص من رعب الطفولة والأجسام المحروقة في نار جهنم.
تذكرها الأزقة في برشلونة بأزقة القاهرة، الفوانيس المعلقة فوق أبواب البيوت العتيقة، الأنوار المتلصصة من الدكاكين تحت الأعمدة الحجرية، تشبه البواكي في شارع محمد علي، أشباح رجال تمشي في العتمة، بنات الليل يتسكعن فوق كعوبهن المدببة، وجوههن مدهونة بلون الشمع، عيونهن المكحلة تشوبها حمرة، تدندن إحداهن بأغنية مجهولة الكلمات تنتمي لكل اللغات. •••
لم تدم قطيعتها لرستم طويلا، جاءت كارمن إلى غرفتها في زقاق السيدة، فتحت جمالات لها الباب، الفتاة في غرفتها تعاني من الصداع، تبتلع نوعين من الحبوب المانعة للحمل المضادة للاكتئاب، أخرجت جمالات الزجاجة من صندوق تحت سريرها، قالت كارمن وهي ترشف النبيذ من حبات الفول السوداني: أنا لا أملك رستم، وهو لا يملكني.
قاطعتها جمالات: ربنا هو الذي يملكنا يا كارمن!
رنت كلمة ربنا بصوت جمالات الحاد، ارتطمت بزجاجة النبيذ فاهتزت فوق المنضدة، ثم استعادت توازنها، انفرجت شفتا كارمن عن ابتسامة ضيقة: رستم إنسان حر يملك نفسه، لا أستطيع أن أمنعه، فالحب يقع دون إرادتنا، هذه لذته وألمه في وقت واحد.
هتفت جمالات بعد أن أصابتها نشوة النبيذ: كلامك عين العقل يا كارمن!
بعد أن خرجت كارمن وتلاشى أثر النبيذ، قالت جمالات: كارمن يمكن تقتلك يا عزيزتي، ما فيش واحدة في الدنيا ما تغيرش على جوزها، ربنا خلقنا من لحم ودم، نأكل ونشرب ونحب ونكره ونموت من الغيرة، ونقتل كمان، ربنا رفع الإنسان فوق الملايكة، ربنا حملنا مشقة جهاد النفس الأمارة بالسوء، هي دي الأمانة، حملها الإنسان ولم تحملها الجبال، إيه رأيك نروح السينما الليلة؟ فيه فيلم هايل اسمه «لهيب الحب»، يلا قومي من السرير خلينا نفرفش شوية قبل ما نموت ونروح النار. •••
جلست جمالات إلى جوارها في الظلمة، أحداث الفيلم تتتابع فوق الشاشة، الرجل العجوز يقع في حب الخادمة الصغيرة، يستولى الحب على قلبه وعقله، تهدده زوجته، يطلقها ويتزوج الفتاة، تهرب منه في الليل، تخاف العودة إلى أهلها في القرية، تتخلص من الجنين في بطنها وتشتغل راقصة في أحد الملاهي حتى القبض عليها.
جمالات تسمع خفقات قلبها إلى جوارها، تلهث أنفاسها مع مشاهد الحب، تضغط بيدها على يد الفتاة، يرتج جسدها لحظة اغتصاب الخادمة في المطبخ، أنينها خافت غير مسموع، تمسح دموعها في الظلام، بعد انتهاء الفيلم وإضاءة الأنوار ترى عينيها محتقنتين بحمرة الدم، تحرك وجهها بعيدا عنها، تحكم الحجاب من حول رأسها، تظل صامتة واجمة حتى تعودا إلى البيت.
تحت السرير في غرفتها سجادة الصلاة ملفوفة على شكل أسطوانة، جوارها يقبع الصندوق من الكرتون، لم يبق به إلا زجاجة واحدة، تشدها جمالات من عنقها، تضعها فوق المنضدة، تنحني مرة أخرى لتشد سجادة الصلاة من تحت السرير، تفرشها على الأرض، تسير إلى الحمام لتتوضأ، بعد أن تؤدي الصلاة تظل راكعة رافعة كفيها إلى السقف، تدعو الله أن يغفر ذنوبها.
Shafi da ba'a sani ba
تحفظ جمالات بعض أبيات عمر الخيام، تنشدها بصوت متهدج، تنشد بعدها قصيدة لأبي نواس، تذكر المرحوم زوجها، تقول عنه المجحوم، تؤكد أن الله سوف يجحمه في نار جهنم، كان واحدا من الدعاة الإسلاميين المشهورين، أصابته سكتة قلبية في اجتماع مع الرئيس، اكتشفت بعد موته أنه متزوج من امرأة أخرى له منها ثلاثة أولاد ذكور، كتب لهم كل أملاكه، لم ترث عنه إلا البيت القديم في زقاق السيدة.
دخل رستم حياة الفتاة وهي تعيش الاستقرار مع سميح، كانت حياتها مسرحا لتقلبات شتى، قشة في الهواء تتنازعها الرياح، فتاة بلا عائلة ولا مال ولا جمال، ترمقها جمالات من قمة رأسها حتى القدمين، تمط بوزها إلى الأمام تضرب كفا بكف: اللي اسمه إيه بيحب فيكي إيه؟ سودة زي البرابرة وجلدة على عضمة، لله في خلقه شئون!
جمالات ترى نفسها جميلة، بشرتها بيضاء، جسمها مدكوك باللحم، شفتاها رقيقتان، ردفاها سمينان، تحتفظ في مفكرتها بأرقام المعجبين بها بحسب الحروف الأبجدية، «أحمد أحمد أسامة»، يأتي أول الأسماء، يليه «بهاء بهي الدين برعم»، تأتي صديقتها «مريم» الشاعرة تحت حرف الميم. تدعوهما «مريم» في ليالي الصيف إلى السفينة الراسية على شاطئ النيل، الثلاثة يجلسن حول المائدة القريبة من الماء، مفرشها ناصع البياض، يرص الجرسون أمامهن أكواب البيرة، جمالات ومريم تفضلانها في الصيف على النبيذ، تتغنى مريم بأشعارها وهي ترشف البيرة المثلجة، وتقول، نحن نشرب البيرة لأننا نعطش، لكننا نشرب النبيذ لأننا نحبه، يكسو البريق عينيها السوداوين، بشرتها خمرية بلون الطمي، شعرها أسود بلون الليل، صوتها وهي تنشد الشعر ينساب هادئا كموجات النيل.
ليالي الصيف في القاهرة يغلفها شيء من السحر، نسمة النيل الدافئة، يتخفى ضوء القمر وراء سحابة شفافة، تلمع القطرات المكثفة فوق الكئوس البلورية، يرشفن البيرة المثلجة على مهل، نشوة التلامس بين البارد والساخن، لذة الارتواء بعد الظمأ، تمدد الفتاة ساقيها فوق سور السفينة الخشبي، تستمع إلى مريم تنشد الشعر، يقترب طفل يبيع عقود الفل والياسمين. وجه طويل مبقع بنقط رمادية، فوق عينه اليسرى دائرة بيضاء، أصابعه نحيفة محروقة بالشمس، تبدو سوداء مشققة إلى جوار الزهور الناعمة البيضاء، تفوح رائحة الياسمين، يملأن بها صدورهن، تتنهد مريم، وتناوله ورقة بخمسة جنيهات، تلمع أسنانه البيضاء في ابتسامة عريضة، يناولها ثلاثة عقود من الياسمين، تردها إليه برقة وحنان: خليهم لك يا شاطر.
تختفي الابتسامة في الوجه الأسمر الداكن، تنفرج شفتاه الشاحبتان عن صوت خافت، مبتور الكلمات: أنا ... مش ... شحات.
يضع عناقيد الياسمين الثلاثة أمامهن فوق المائدة، ويجري مبتعدا ينادي بصوت العصافير، الفل والياسمين، الفل والياسمين.
على امتداد شارع الكورنيش تسير أسراب الشباب والشابات في نزهاتهم على شاطئ النيل، الذكور رءوسهم محلوقة، البنات رءوسهن ملفوفة بالطرحة أو الإيشارب الأبيض أو الملون، العيون مكحلة، الشفاه مصبوغة باللون الأحمر، السيقان داخل البنطلون الجينز الضيق، يتأرجحن فوق الكعوب العالية الرفيعة، أيديهن متشابكة مع أيدي الشباب، فوق المقاعد يتبادلون القبلات والعناق تحت الضوء المتسلل من وراء السحابة، وتتغنى مريم الشاعرة بكلمات من تأليفها:
يكسر الحب قوانين الأرض والسماء،
ويسقط الحجاب عن وجه القمر.
تنتفض جمالات وهي نصف مغمضة، تفيق لحظة من غيبوبة النشوة، تتمتم بصوت خافت: «أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.»
Shafi da ba'a sani ba
كان رستم يدعو الفتاة إلى العشاء في مطعم صغير فوق هضبة الأهرامات، تدخل متأخرة عن الموعد، تتبع نصيحة جمالات.
يتأجج شوق الرجل إلى المرأة مع الانتظار،
الانتظار يشعل الحب مثل الزيت على النار.
تراه جالسا في يده كتاب، عيناه شاردتان، تتجاوزان رأس أبي الهول والأهرامات، ترك كارمن في البيت تكتب روايتها، يحكي لها عن علاقاته باسم الصدق، يعود إليها بعد منتصف الليل يعانقها في الفراش، يضاعف لها القبلات أملا في الغفران، يؤدي الصلاة بحكم العادة، ينشد التوبة والإيمان.
حين يراها تدخل ينهض واقفا، يطبع فوق خدها قبلة بشفتيه، تحسها دافئتين فوق بشرتها، أطراف أصابعها باردة رغم حرارة الجو، تقول لها كارمن، الأصابع الباردة تعني القلب الدافئ، بحسب المثل الإنجليزي، لم تعرف كارمن أنها كانت تعاني فقر الدم أو الأنيميا، الناتجة عن غياب فيتامين «ب» في الغذاء، مع نقص الحديد وزيادة الحزن.
يشد رستم الكرسي لها، لا يجلس حتى يراها جلست واستراحت، لم يعودها سميح على هذه المعاملة الرقيقة، ربما فعل ذلك في أيام الحب الأولى، ثم سقطت علاقتهما في بئر الأيام العادية، أصبحت الحياة فاترة مثل ماء الصنبور، راحت رعشة الجسد وخفقة القلب، نسي سميح وعد الزواج أيام الخطوبة وهي تناسته تحت اسم الحرية والاستقلال. •••
بدأت الفتاة روايتها في الأسبوع الأول لمجيئها إلى برشلونة، الجنين في أحشائها يتحرك، قدم صغيرة ناعمة تدق جدار الرحم من الداخل، دقة وراء دقة، كلمة وراء كلمة، رواية مجهولة تحاول أن تكتبها، تستعيد ملامح سميح، كان يعد حقيبته ليمضي دون عودة، كارمن كانت ترقد في المستشفى النفسي، مربوطة بالحبال في أعمدة السرير، رأتها تدخل من الباب فأشرق وجهها بالابتسامة، فقدت الكثير من وزنها، انطفأ البريق في عينيها، راحت رنة المرح من صوتها، كانت تشكو من جهل الأطباء بحالتها: يتصورون أن زوجي هو مشكلة حياتي، وأنا أقول لهم ليس رستم، وليس أي رجل، المشكلة أكبر من كل الرجال، المشكلة تتعلق بي، أنا كارمن، الكاتبة، وليس المرأة!
تفادت الفتاة النظر إلى عينيها، بدت عيناها مرهقتين يشوبهما حزن دفين منذ الطفولة، تبذل جهدا كبيرا في الكلام، مدت يدها الناحلة وأمسكت يدها، لا يمكن لرستم أن يفرق بيننا، الصداقة بين النساء أقوى من الحب بين الجنسين، رستم يحبك يا كارمن، أنت حبه الوحيد. - لا يوجد شيء اسمه حب وحيد، الحياة بالطبيعة متعددة، الوحدانية مرض موروث منذ العبودية.
أشارت بإصبع شاحب بلون الضباب إلى الدولاب في الحائط، افتحيه وخذي أوراق روايتي، أخذوها مني بالقوة، أغلقوا عليها بالقفل، يقولون إنها من وحي الشيطان، الفنون كلها من وحي الشيطان، حتى قصائد الشعر، الدكاترة في المستشفى مثل البوليس ... لولا رستم لأدخلوني السجن. - لازم تتأكدي يا كارمن من حب رستم. - الحب لا يشغلني، عندي أشياء أهم. - رستم لم يكذب عليك أبدا يا كارمن. - الحب لا يعرف الكذب أو الصدق، الحب فوق الأخلاق.
ابتسمت في إعياء، شردت عيناها الزرقاوان تكسوهما سحابة شفافة، من خلال النافذة الزجاجية كانت صحراء حلوان، بحر من الرمال الصفراء الممدودة إلى الأفق، تلمع كمياه البحر الأبيض المتوسط تحت الشمس.
Shafi da ba'a sani ba
ظلت يدها ممسكة في يد الفتاة، أصابعها الطويلة الرشيقة ترتعش قليلا، إلى جوار سريرها منضدة تحمل زجاجات الأدوية، أسماء كثيرة بالحروف اللاتينية، التقطت عيناها اسم سيروكزات، لمحت هذه الكلمة فوق زجاجة دواء في غرفة جمالات، تأخذ منها حبة قبل النوم تعالج الأرق، أو الكوابيس والخوف من نار جهنم بعد الموت. •••
كان يوما من أيام الصيف، بعد رحيل سميح الأخير، تصورت الفتاة أن رستم سوف يعود إلى كارمن، كلمة الفقدان كانت ترعبها، يمكن أن تحتمل فقدان رستم وليس سميح، الصداقة مطمئنة أكثر من الحب، سفينة هادئة في بحر متقلب، جياش، كان سميح يقول: كارمن تحب رستم من دون شريك، رغم إيمانها بالاشتراكية، أو الشراكة. ويضحك ساخرا: الأحادية سمة العقل الناقص، التناقض بين الحب والحرية، الثنائية ومرض الانفصام، كان يتحول في خيالنا إلى الحزن أو الشجن مع النسيان. •••
في ليالي الوحدة داخل غرفتها الصغيرة لا تعرف الفتاة أين تكون، لا تسمع إلا النبض في عنقها، ودقات المنبه بجوار رأسها، تفقد النطق باللغة العربية والكاتالانية، تمتنع عنها الكلمات، لا تستطيع أن تكتب حرفا واحدا فوق الورق، تهجرها الرواية كما هي هجرتها، أشياء كثيرة شغلتها عن الكتابة، هتاف المتظاهرين في شوارع برشلونة، في ميدان كاتالونيا، أصواتهم تخترق نافذتها المغلقة، جيرانو جيرانو إيراك بالاستين، جورج بوش أساسين، توني بلير أساسين، أزنار أساسين. كلمة «أساسين» تعني قتلة سفاحين، يندفع الدم في عروقها، تحس سخونته في رأسها، تهبط إلى الشارع، تسير بخطوتها السريعة من ميدان أنتونيو لوبيز إلى شارع كولومبس، على جانبيه الأشجار الباسقة، المباني على الطراز الكاتالوني القديم، الأعمدة الضخمة تعلوها التماثيل، أبراج مستديرة تنطح السماء مدببة القمم، تمثال كولومبس ينتصب شامخا من بعيد، تحوطه تماثيل لها شكل الملائكة ونساء بأجنحة، الأرض تغطيها أجساد البشر، حشود لانهائية من النساء والرجال يسيرون من الراميلا حتى ميدان كاتالونيا، في كل الشوارع يسيرون، من الراميلا حتى ميدان كاتالونيا، في كل الشوارع يسيرون، في كل الميادين يتجمعون، آلاف، ملايين، يحملون اللافتات مكتوب عليها بالكاتالانية: جيرانو (لا للحرب) جيرانو. أصواتهم ترج الأرض والسماء، أساسين، أساسين ...
يذوب جسدها في الأجساد، يرتفع صوتها مع الأصوات سفاحين، أساسين، تنهمر الدموع من عينيها، تمسحها بيدها خلسة، منذ طفولتها تخجل من دموعها، كأنما هي عورة، تنهمر وحدها لحظة الفرح، ولحظة الحزن تجف وتنحبس، يذوب الفرح في الحزن وتسيل الدموع في هدوء النهر، تعود إليها صورة كارمن مربوطة بالحبال في السرير، عيناها شاردتان في رمال الصحراء، إلى جوارها زجاجة سيروكزات، تسألها بصوتها المتلاشي: أقراص منومة يا كارمن؟ - يسمونها مضادة للاكتئاب، ثلاثة ممرضين يفتحون فمي بالقوة، أخفيها تحت لساني أو في حلقي، الحياة مع الاكتئاب أحسن من الحياة في المستشفى، يقولون عني مجنونة. - عقلك يوزن بلد يا كارمن. - أفكر في الانتحار! - هذا هو الجنون. - بل قمة العقل!
يترامى لها صوت كارمن في الليل عبر البحر، أمواج برشلونة تلامس الشاطئ برقة ثم تنسحب عنه، كأنامل الأم الناعسة، تمد يدها لتلمس طفلها، تتأكد من وجوده، تخشى أن تفقده في النوم، تمتد ذراعها فوق السرير، تتحسس الجنين في أحشائها، تتأكد أنه حقيقة ملموسة باليد، ليس خيالا ولا وهما، قبل أن يدركها الوعي ارتفع بطنها بالحمل، أخذوها إلى عيادة طبية تحت الأرض، ربطوها بالحبال، حقنوها بالمخدر، فتحت عينيها بعد زمن لا تعرفه، رأت قطعة من جسدها في جردل الدم.
الجرح الغائر في أحشائها، تكاد تحسه تحت الجلد، كان رستم يقبله بشفتيه قبل أن يقبلها. تبتلع كارمن حبوب منع الحمل، وتقول: العالم فيه ملايين الأطفال يموتون بالجوع وفي الحرب، رستم يريد طفلا يحمل اسم أبيه وجده، يهمس في أذنها وهو يعانقها، عاوز طفل يحمل ملامحك يا كارمن. •••
من فوق السطح تطل الفتاة على البحر والجبل، وتمثال كولومب «كولومبس» والسفن الصغيرة الراسية عند الشاطئ، الشوارع والميادين تطل منها رءوس التماثيل، لا يخلو شارع من تمثال لرجل أو امرأة من الشخصيات التاريخية، أدباء وشعراء وفنانين، معارضهم في كل مكان. تضم لوحات سلفادور دالي، بمناسبة مرور مائة عام على مولده، إعلانات عن فيلم بيدرو ألمودوفار بعنوان «تعليم سيئ» (لا مالا إيديو كاسيون).
أناجيل تدق جرس الباب، طالبة في جامعة برشلونة، تأتي يوم الأحد لتمسح السطح والسلم، تدفع لها يولاندا بصحون الباييلا وليس باليورو، تتطوع بمسح غرفة الفتاة دون أجر، تصنع لها كوب شاي أخضر مع قطعة من الكيك، تجلسان فوق الدكة الخشبية على السطح، تغمرهما أشعة الشمس وهما ترشفان الشاي الساخن، تحكي أناجيل بقصتها بالإشارة مع الكلمات، خليط من العربية والكاتالانية، والفتاة تحكي لها قصتها.
اسمها أناجيل كارلوس إيزابيل، تحمل اسم أبيها كارلوس، واسم أمها إيزابيل، بحسب القانون في كاتالونيا. - أنا أعتز باسم أمي أكثر من اسم أبي، وأمي هي التي ربتني بعد أن هجرها أبي، وأنت أتحملين اسم أمك؟ - القانون عندنا لا يعترف باسم الأم. - هذه كارثة.
تحركت عينا أناجيل الزرقاوان فوق ارتفاعة بطن الفتاة غير الواضحة تحت القميص الواسع: من أجلها جئت إلى برشلونة؟
Shafi da ba'a sani ba
وأشارت إلى أوراق روايتها المكومة في غرفتها على الأرض. - ومن أجلها أيضا جئت.
لم تكن الكتابة في حياتها شيئا هاما، تبدو لها عملا عديم الجدوى، كلمات على الورق مثل كلمات في الهواء، لا تتحول إلى فعل حقيقي مثل كلمات الحب.
أول من نبهها إلى الكتابة هي مريم الشاعرة. كانت تقول: لا يمكن لجروحنا أن تلتئم إلا بالكتابة، لا شيء يهزم الجنون أو الموت إلا الكتابة.
تستعيد صوتها وهي تنطق هذه الكلمات، عيناها السوداوان تتألقان بالضوء في الليل المظلم، لا قمر ولا نجوم، كأنما الضوء ينبع من بؤرة في رأسها خلف العينين، كانت كارمن أقل قوة تستعيدها قبل أن تدخل المستشفى، تريدها أن تكون كما كانت، أن يعود الضوء إلى عينيها، وتستعيد وجه سميح الأسمر الشاحب، عيناه خضراوان صافيتان مثل الزرع في الربيع.
قبل لقائها برستم كانت تعيش حياة هادئة، يمنحها سميح من الحب ما يكفيها ويزيد، تجمعها به علاقة ناعمة متينة كخيط من الحرير الممدود إلى الأبد، ينالها السأم من الأشياء الدائمة إلى الأبد، لم يستطع سميح أن يكسر الشرنقة حول روحها، لم يفجر في أعماقها الينبوع المجهول، يستبد بها الضجر من الحياة وهو معها، تشتاق إليه وهو غائب، تختفي من حياته فترة لتفهم نفسها، ثم تعود إليه، تلوذ به من اليأس والرغبة في الموت، تتهم نفسها بالجحود وتطلب منه الصفح، يتلقاها بين ذراعيه كالأم، لا يلومها ولا يؤنبها، يقول لها أنت إنسانة حرة تذهبين وتعودين كما تشائين ... لكن الحرية تبدو لها مثل المرض تريد الخلاص منها، وتمشي في الشوارع جائعة، لا عمل ولا أمل، ولا مكان آمن تنام فيه بعمق، أو تحمي نفسها من عيون الرجال، تمر الأيام دون أن تأكل، يملأ أنفها وفمها تراب الأزقة والشوارع.
دخل سميح حياتها مثل نسمة تدخل صدر المرحوم من الهواء، ألقت نفسها بين ذراعيه بحكم الضرورة، بالرغبة في الحياة والطمأنينة، بالحنين إلى الحب غير الموجود، كالأرض الصحراء تحن إلى قطرات المطر، تلتقطها هدية من السماء، تعجز عن رد الهدية، لانعدام الماء وليس عجزا عن العطاء.
تعودت أن ترى سميح، أصبحت عيناه الخضراوان جزءا من حياتها، يحملها بسيارته الرمادية الرينو إلى مكتبها، حصلت على وظيفة في ملجأ الأيتام، مبنى آيل للسقوط في زقاق مسدود، تفضل السير على قدميها على ركوب السيارة، تقطع المسافة بين بيتها ومكتبها في عشرين دقيقة بالخطوة السريعة، من الزقاق المسدود في حي السيدة إلى الزقاق المسدود في فم الخليج.
في الصباح الباكر يكون الهواء منعشا قليلا، تبدأ العمل من الثامنة صباحا حتى الرابعة مساء، ثماني ساعات تقضيها وسط هياكل أشباح لها وجوه أطفال وعيون عجائز، تجلس معهم في الغرفة المعتمة ذات الجدران السوداء، أو في الفناء الضيق تلفحهم الشمس والتراب، يتغذى بدمائهم الذباب والبراغيث، ترتدي قميصا واسعا وسروالا من الكتان، وحذاء جلديا قديما تمشي به، تدخر ثمن الأوتوبيس لتشتري كتابا أو رزمة ورق أبيض، في خيالها رواية مجهولة، لا تعرف كيف تكتبها وما بدايتها.
مكتبة الشرق كانت عند الناصية، حيث تقاطع شارع قصر العيني مع فم الخليج، صاحبها اسمه «حافظ»، قصير نحيف مقوس الظهر، عيناه جاحظتان تتذبذبان من وراء قعر زجاجة، يرشف الشاي الأسود مع شفطات من دخان الشيشة، يرفع وجهه عن الكتاب حين تدخل، تمر على الرفوف تتطلع إلى العناوين، يمسح التراب عن الكتاب قبل أن يناولها إياه، تدس يدها في جيوبها تبحث عن النقود غير الموجودة، تعيد إليه الكتاب، يدفعه إلى يدها في ضجر. - ادفعي اللي معاكي، والباقي المرة الجاية.
إن لم يكن معها شيء يبتسم في إعياء. - خذيه على سبيل الاستعارة بشرط أن ترجعيه بعد أسبوع واحد.
Shafi da ba'a sani ba
قابلت الفتاة سميح أول مرة في هذه المكتبة، كان يتردد عليها لشراء الكتب القديمة، يدعوه «حافظ» إلى كوب شاي، يجره إلى الحديث عن الفلاسفة العرب، أهمهم عنده ابن سينا، صاحب القانون في الطب، يسأم سميح الحديث معه، يتأمله طويلا كأنما يتأمل قطعة من الآثار القديمة في المتحف، يرشف الشاي الأسود على مضض، دون أن يظهر الضيق، نوع من المجاملة أو الرقة، والإحساس المرهف بمشاعر الآخرين.
في يوم كانت تتصفح كتابا قديما بعنوان «مقدمة ابن خلدون»، سمعت الصوت من خلفها: إيه رأيك أهديك الكتاب ده؟
لم تكن تعرف شيئا عن ابن خلدون، ولا تعرف شيئا عن سميح، رأته مرة وأكثر في المكتبة من دون أن تنتبه، ملامحه هادئة لا تثير الدهشة، لا تحدث صدمة الإفاقة من بحر الحياة اليومية، كان اليوم يمضي وراء اليوم من دون أن يستوقفها شيء خارق للعادة، لا وجها يثير خيالها، ولا كتابا يحرك عقلها، يمضي بها الزمن ساكنا مثل سطح بركة ماء لا يتحرك، مثل النيل في أيام الحر، لا نسمة واحدة تحرك أوراق الشجر، الهواء معدوم والشجر مقطوع، البيوت متلاصقة بالخرسانة المسلحة، الخضرة متلاشية، الشوارع من الزفت أو القطران الأسود، مدينة القاهرة تقول عنها مريم الشاعرة مدينة الأسمنت المسلح، في قصيدة لها بعنوان، قاهرتي.
قرأت الفتاة مقدمة ابن خلدون من الغلاف إلى الغلاف، لم تفهم من الكتاب إلا القليل، كان هو أول من جمعهما هي وسميح، داخل مكتبة الشرق المكتومة الهواء، المكتظة بالكتب والتراب ودخان الشيشة من رائحة الحشيش.
كان سميح يختلف عنها، أنيق الشكل والملابس، هي لا تنظر إلى المرآة، تعيش القلق وعدم الاستقرار، يتمتع هو بالهدوء والراحة، يسكن في شقة واسعة تطل على النيل في جاردن سيتي، بجوار بيت كارمن ورستم، هي تعيش في غرفة مظلمة داخل الزقاق تحوطها الميكروفونات الزاعقة ليل نهار.
انجذب سميح إليها كما ينجذب الشيء إلى نقيضه، وهي انجذبت إليه كالفراشة تنجذب إلى النور، ليس كالمرأة تنجذب إلى الرجل. •••
الطلقة ترمقها بعينها الواسعتين كأنما هما عيناها، رأتهما وهي طفلة في المرآة وفي الخيال، جلبابها بلون الأرض، ذراعاها الناحلتان بلون الخشب المحروق، عظام ركبتيها بارزة صخرة، يتيمة وحيدة في الصحراء، مقلتاها السوداوان نجمتان تلمعان في سماء مظلمة.
مديرة الملجأ وراء مكتبها الخشبي الكالح، يحتل نصف مساحة الغرفة، يختفي جسمها الضخم تحت خيمة سوداء من الرأس إلى القدمين. عيناها ثقبان غائران داخل الخضم الأسود، عينا ثعلب أو فأر داخل المصيدة، لا تكفان عن الحركة والذبذبة، في يدها عصا من الخيزران طويلة رفيعة مثل الكرباج، تلسع بها أرداف الأطفال، تشبه الغولة والمارد الأسود الجبار في الأساطير وقصص ألف ليلة وليلة، وحكايات الجان والعفاريت الزرق.
في أيام الحر ولهيب الصيف، تجلس في الفناء تحت ظل شجرة الكافور، ترفع نقابها الأسود عن فمها لترشف الشاي الأسود، تمسح حبات العرق عن أنفها بيد داخل القفاز الأسود، تدس بوز الشيشة في فتحة فمها، ليخرج الدخان من ثقبي عينيها. لو رآها «سلفادور دالي» يرسمها على شكل خفاش ضخم أو قنفد أسود. - شايفة البنت اللي واقفة هناك وعينيها بتطق شرار خلي بالك منها، أصلها بنت حرام، شوفي واقفة تبحلق إزاي وكل عين تندب فيها رصاصة! - دي بنت غلبانة يا أبلة بعبع. - إيه؟ بتقولي إيه؟ - متأسفة يا ست المديرة، زلة لسان! - يعني إيه زلة لسان يا اسمك إيه؟ - غلطة يا ست المديرة، سبحان من لا يسهو.
اشتعلت عيناها المدفونتان في الحفرتين بالغضب، كان الأطفال ينادونها «أبلة بعبع» من وراء ظهرها، كلمة البعبع تعني المرعب، نادتها الفتاة بالاسم من دون أن تنتبه، بسبب السهو، وسبحان من لا يسهو، تردد هذه العبارة حين تنسى شيئا، الله سبحان وتعالى هو الذي لا يسهو. تتظاهر المديرة بنسيان اسمها، تحت حجة مشاغلها الكثيرة:
Shafi da ba'a sani ba
اسمعي يا اسمك إيه، أنا لا أسمح مطلقا إنك تنطقي كلمة أبلة بعبع دي تاني ... مفهوم؟
تظل شفتاها مطبقتين، لا تهز رأسها وتقول، أيوه مفهوم، لا تريد الاستسلام لجبروتها كما تفعل المرءوسات، يظل جسدها الضخم ينتفض تحت الخيمة السوداء ... مفهوم؟!
زوجها يشبهها على نحو مدهش، ضخم الجثة، يرتدي عباءة سوداء فوق جلباب أبيض، رأسه كبيرة يغطيه شعر أسود أكرت، يختفي وجهه تحت غابة سوداء من الشعر الكثيف، عيناه ضيقتان غائرتان داخل خضم السواد، لحيته كثيفة طويلة تتدلى فوق صدره، شعرها نافر منتصب كالأسلاك.
يجلس في غرفة مكتبها، ينتظرها حتى تنتهي من أعمالها الهامة، تتعمد أن تنشغل عنه بالأوراق المكدسة فوق مكتبها، تدق الجرس وتنادي على الشغالات والمرءوسات، تصدر إليهن الأوامر والنواهي، يرتفع صوتها بالتأنيب والتوبيخ، ترمق زوجها بطرف عين، تنتفض أحشاؤها بالبهجة، تمارس السلطة أمام عيني زوجها، يمارس عليها السلطة في البيت، لا تعرف كيف تنتقم منه إلا بهذه السلطة في مكتبها وبطريقة غير مباشرة.
اختفت الطفلة من الملجأ ذات يوم، عيناها انحفرت في ذاكرة الفتاة، البريق مثل لمعان النجم، تقاطيع الوجه الصخرية، كان اسمها صباح، سألت عنها المديرة، تذبذبت عيناها داخل الثقبين، شوحت بيديها داخل القفاز الأسود: هربت راحت في ستين داهية!
كان في الملجأ مئات الأطفال، يلفظهم العالم إلى الملجأ كما يلفظ الكلاب المشردة، لا أحد يزورهم، لا أحد يعالجهم إن مرضوا، لا أحد يدفنهم إن ماتوا، لا أحد يبحث عنهم إن هربوا، أو تم بيعهم في سوق الرقيق ... عصاباتها داخل المافيا، تحت الأرض وفوق الأرض، تشبه سوق السلاح والمخدرات والجنس، يتغير أسعار الأطفال مع تغيرات العملة والبورصة، ورحلات النساء العاقرات من الشمال إلى الجنوب، لشراء طفل أو طفلة، سمراء عيونها سوداء، تحت اسم الأمومة.
تقبض السيدة المديرة المبلغ بالعملة الصعبة، تشتري تذكرة إلى مكة كل عام، تطوف بالكعبة، تقبل الحجر الأسود، ترمي إبليس بالجمرات في منى، تشرب من بئر زمزم، تعود طاهرة الذيل، ذنوبها ممسوحة كالمولودة من بطن أمها.
قال سميح وهو يعانقها: الوظيفة في الملجأ لا تليق بك، تستحقين عملا أفضل. قالت: العمل الأفضل يحتاج إلى واسطة كبيرة! قال: سأبحث لك عنها.
كان رستم قد دعاهم لتناول الغداء في النادي حول المائدة في «الليدو»، حمام السباحة الصغير، جلست هي وسميح ورستم، كانت كارمن تسبح في البيسين، جسمها ممشوق داخل المايوه الأحمر فيه زهور بيضاء، تتحرك ذراعاها وساقاها تحت الماء كزعانف السمكة الذهبية.
ترفع الفتاة وجهها نحو الشمس وعيناها مغمضتان، تترك الأشعة الدافئة تمشي فوق جفونها، الهواء محمل برائحة الشجر والماء والكلور، أجسام النساء والرجال ممدودة فوق الكراسي، يتجاذبون أطراف الحديث، يدلكون بشرتهم بالكريم، يرشفون الليمون المثلج على مهل، أمامهم صحون الفراخ المشوية، مكرونة في الفرن، ريش ضاني محمرة، صلاطة خضراء يلمع فيها الخيار والخس والطماطم الحمراء، تتصاعد رائحة الشواء مع الضحكات، تنتقل الفتاة من زقاق السيدة إلى الليدو في النادي كأنما تسافر من بلد إلى بلد، يأتي الجرسون حاملا قائمة الطعام «المينيو»، شاب نحيف طويل، تلمع أسنانه البيضاء في وجهه الأسمر، يناولها رستم «المينيو»، مكتوبا بلغة لا تعرفها، وأنواع أطعمة لم تسمع عنها. تتطلع إلى سميح. مستغرق في الحديث مع رستم حول رواية بحر سارجوسا، للكاتبة «جين ريس»، من منطقة الكاريبيان.
Shafi da ba'a sani ba
الإحساس بالغربة يزحف على جسدها كالهواء البارد، ينتابها الحنين إلى غرفتها في الزقاق، رائحة شوربة العدس تتصاعد من المطبخ، صوت جمالات يرتفع يناديها: أنا عملت شوية شوربة تاكلي صوابعك وراها.
جاءها الجرسون يسألها ماذا تطلب. من فضلك، شوربة عدس وصلاطة خضراء. سميح طلب سمكا مقليا وصلاطة طحينة، رستم طلب لنفسه ولكارمن مكرونة اسباجتي وإسكالوب بانيه، وشيئا آخر لم تلتقط اسمه.
خرجت كارمن من الحمام، تمددت تحت الشمس يتقاطر من جسمها الماء دهنت ذراعها وساقيها بالكريم، يتحرك جسمها داخل المايوه على نحو طبيعي، كأنما ترتدي ملابسها كاملة، التهمت الطعام بشهية الطفلة، ثم ألقت بنفسها في الماء من جديد، غطست مسافة طويلة ثم ظهرت. سمعتها تناديها: تعالي خدي غطس المية حلوة!
همس سميح في أذنها: تحاول أن تغيظك، تجاهليها.
غربتها كانت أشد في ملجأ الأيتام، معلقة كالقشة بين الأجواء، لا تحب الفقر ولا الثراء، تريد أن يضمها قلب كبير دافئ وبيت صغير هادئ، تريد أن تنام بعمق دون أن تلدغها البراغيث، دون أن تزعجها الميكروفونات، تريد أن ترى الشجر من نافذتها ومياه البحر، تريد أن تحقق حلم طفولتها الذي لا تعرفه، لم تكن لها طفولة، لا أم ولا أب، لا إخوة ولا أخوات، ولا جدة تحكي لها قصة الشاطر حسن، وتلعب معها التعلب فات فات.
كان سميح يقول: أنت تتكلمين عن الحرية دون أن تتحرري، تفكرين في المستقبل وتعيشين في الماضي، أنا وأنت تعاهدنا على الصدق والاختيار الحر، لا أجبرك على شيء، أنت حرة تماما، حرة!
كلمة «حرة» ترن في أذنها «عرة»، الفرق بين حرف الحاء والعين يتلاشى. في أعماقها ترقد المرأة الأسيرة، لا تعرف الحرية، لا تملك جسدها، لا تعطي نفسها دون ورقة مختومة ومبلغ من المال، المهر والخاتم، ودفع ثمن الكهرباء والسرير والإيجار.
جمالات تقول: الرجل لا يعرف قيمة امرأة لا يدفع فيها ثمنا غاليا، كلما ارتفع ثمنك ارتفعت قيمتك، تعترض مريم الشاعرة، لا! أنا قيمتي تعلو فوق العقارات والمال، أنا لست بضاعة في السوق للبيع والشراء.
تضحك جمالات في سخرية وتهز رأسها الملفوف بالحجاب: ومن أنت يا عزيزتي؟ - أنا مريم الشاعرة!
يرن صوتها في أذن الفتاة قويا مملوءا بالكرامة: أنا مريم الشاعرة. عيناها السوداوان يشتد بريقهما، بشرتها الخمرية بلون طمي النيل، شعرها يهتز بثقة فوق كتفيها، يتحرك رأسها بكبرياء وهي تنشد:
Shafi da ba'a sani ba
أنا مريم الشاعرة،
خرجت كالزرع من بطن الأرض،
لا أسرة ولا أم ولا أب،
لا وطن ولا عشيق ولا زوج،
إلا الشعر!
جالسة في كازينو النيل، تحس جسدها يرتفع فوق المقعد، ومعه روحها وعقلها، كأنما قوة مجهولة ترفعها فوق السفينة والنهر، فوق أسطح البيوت والعمارات العالية، فوق مدينة القاهرة وحقول الدلتا، تغمض عينيها كأنما في النوم، تحلق في الفضاء دون أجنحة، تطير فوق السحاب، فوق مياه البحر الأبيض المتوسط، ترسو على شاطئ جديد لا تعرف اسمه، كل شيء من حولها جديد حتى وجهها.
تنظر إلى وجهها في المرآة، ليس هو الحزين القديم، تهبط السلالم جريا تلتهم الباييلا الساخنة، تجتاز شارع كولومبس، تسير في الرامبلا بين الزهور وأسراب الشباب، تدخل من شارع إلى شارع، تتأمل المباني التي تشبه المتاحف، لا بيدريرا، بالوجويل، كازاميلا في شارع جراسيا، الفنان أنتونيو جاودي مات منذ سنين، لكنه يعيش في كل عمل تركه وراءه، حتى البناء الضخم الجديد، يسمونه «ساجرا فاميليا» مات قبل أن يكمله.
في المكتبة الكبيرة خلف ميدان كاتالونيا تقضي الساعات، تقرأ قصة دون كيشوت، أشعار كارلوس باربل ولوركا، تتأمل لوحات بيكاسو، وسلفادور دالي، وجون ميرو. قبل العودة إلى بيتها تسير إلى شاطئ الأولمبيك، تخلع ملابسها إلا المايوه الصغير، لا يخفي عن أشعة الشمس إلا شعر العانة الأسود، تأخذها أناجيل إلى شاطئ آخر لا يرتدي فيه الناس المايوه، تسري الأشعة الذهبية الدافئة إلى الجسد كله، نساء ورجال يسبحون في البحر كالأسماك، يتمددون تحت الشمس دون غطاء، لا أحد ينظر إلى أحد، يتحركون على نحو طبيعي، كما ولدتهم أمهاتهم، أقدامهم تترك على الرمال علامات متشابهة، لا فرق بين ذكر وأنثى وفقير وغني وملحد ومؤمن وأسود وأبيض.
تنهيدة طويلة تخرج من أعماقها، راقدة فوق ظهرها تتلقى شعاع الشمس، يتخلل ثنايا جسدها ويفتح المسام المسدودة، منذ آلاف السنين، منذ الفرعون الأول حتى الفرعون الأخير، يطاردها وجهه في النوم، تتسرب صورته في الجريدة من تحت عقب الباب، تلتقطها جمالات بأطراف أصابعها من فوق البلاط، كأنما تلتقط صرصارا ميتا، تمر بعينيها نصف المغلقتين على الصورة في الصفحة الأولى، تفتح فمها الواسع تتثاءب، تطقطق عظامها بصوت مسموع، وتقول: الطاغوت ربنا يأخذه ... يا رب!
ثم تلقي بالجريدة على الأرض، تدوس عليها بكعب شبشبها البلاستيك كما تدوس على الصرصار. كانت الشقة مليئة بالصراصير، مثل غيرها من الشقق في حي السيدة، تنتمي إلى فصيلة الحشرات الزاحفة، تطورت عبر الزمن وأصبح لها أجنحة مثل الفراشات، لونها أسود أو أصفر داكن كالحديد الصدئ، تتغذى بالبراغيث والنمل والجبن والزبدة، تدخل البالوعة وتسبح في الماء دون زعانف، شواربها مثل قرون الاستشعار، تعرف رائحة الطبيخ الحامض، تمر عليه دون أن تأكل، تجذبها رائحة المسك في وسادة جمالات، قبل أن تنام تخلع شبشبها البلاستيك، تنهال فوق الصراصير، تضربها واحدا وراء الآخر، وهي تصرخ: إلهي تأخذ الصراصير يا رب ... ومعاهم الطاغوت.
Shafi da ba'a sani ba
لا يستجيب الله لدعائها، بل يرسل إليها مزيدا من الصراصير، يتوالدون في غرفتها تحت السرير، ويظل الطاغوت جالسا فوق العرش، يسير الله معه في كل خطوة، يبارك أعماله المجيدة، يتدخل عند اللزوم لإنقاذه من ورطة، يضاعف خيراته وأصواته في الانتخابات الحرة. تصرخ جمالات وهي تضرب الصرصور: الحرة وإلا العرة؟!
مريم الشاعرة تندهش حين تسمع جمالات تخاطب الصراصير، أو حين تسمعها تدعو الله أن يأخذ الطاغوت. - يا جمالات ربنا مع كل الطواغيت بره وجوه! - أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم!
تنطلق ضحكة مريم الشاعرة في الجو، ترن في أذن الفتاة صافية رقيقة كالماء المقطر، تخرج من قلبها وأعماق صدرها، لا تستطيع أن تضحك مثلها، إن ضحكت تخرج ضحكتها مبتورة، مكتومة، ترتفع يدها إلى فمها، تكاد تخفيه، تحول بينه وبين الضحك، كأنما الضحك متراكم في صدرها منذ الطفولة، ما إن تفتح فمها حتى ينطلق متدفقا دون توقف.
حين تشكو جمالات من الصراصير، تقول لها مريم، احمدي ربك لأنها مجرد صراصير وليست عقارب ولا تعابين. - أعوذ بالله يا مريم من العقارب والتعابين، جسمي يرتعش إذا سمعت اسمها، كأني أسمع اسم إبليس. - عمرك شفتي إبليس؟ - أبدا والحمد لله. - عمرك شفتي عقرب أو تعبان؟ - أبدا والحمد لله. - عشان كده بتخافي منهم يا جمالات.
تقرأ مريم قصيدتها بعنوان «الخوف» ... نحن نخاف الله لأننا لا نراه ، نحن نخاف الشيطان لأننا لا نراه، نحن نخاف الموت لأننا لا نراه ... لهذا يتخفى الله وراء السحابة، ويتخفى الشيطان، ويتخفى الموت، ويتخفى صاحب العرش داخل القصر العالي الجدران، يتمكن الخوف منا في الطفولة، ومعه الجهل، تغيب عن عقولنا البديهيات، ولا نعود نرى الضوء في النهار.
قبل أن تنام الفتاة تجلس جمالات على طرف سريرها، تقدم لها النصائح كالأم: لا تسمعي كلام مريم الشاعرة، الشعراء يغويهم الشيطان، الله أمرك بتغطية كل شيء إلا وجهك وكفيك، الحجاب قبل الحساب، واجب عليك مثل الصلاة، إن أردت دخول الجنة يا عزيزتي.
لم تؤمن جمالات بالنقاب الذي يغطي الوجه، حجابها من النوع الحديث، يتطور مع العصر ويتغير شكله وألوانه، تعشق الزينة والتجميل، الله جميل يحب الجمال يا عزيزتي، وإذا بليتم فاستتروا، القبح عورة تستوجب الستر مثل رأس المرأة.
تنتقل جمالات من الدنيا إلى الآخرة بكلمة أو حرف، هزة واحدة من رأسها المحجب، تصبح في السماوات العليا، حركة خفيفة برمشها الصناعية تعود إلى الأرض. تغمز بعينيها المكحلتين وتقول: ساعة لربك وساعة لقلبك، اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
كانت جمالات تعمل في جريدة حكومية إسلامية، مكتبها في عمارة عالية بالقرب من الكوبري، نافذتها تكشف القاهرة من قمم الأهرامات إلى جبل المقطم وقلعة محمد علي، فوق مكتبها تتكدس الأوراق والصحف والمجلات، تختلط صور رؤساء الدول بصور الراقصات والحاملات سفاحا، لها عمود أسبوعي بعنوان «يا رب العالمين»، فوق الجدار كلمة الله جل جلاله، معلقة داخل برواز ذهبي، المصحف الكريم غلافه مشغول بخيوط الذهب، يرقد في أحد أدراجها إلى جوار علب البودرة والكحل، وأقلام الروج والحنة الحمراء، والمسك والعطور والقرنفل والنعناع واللبان الدكر والنتاية.
لا يكف جرس التليفون عن الرنين، ولا يكف الزوار عن الدخول والخروج، صحافيون وأدباء وشعراء، نساء ورجال من نجوم القاهرة، يتبادلون الأخبار والفكاهات، يحكي أحدهم آخر نكتة، يهمس بها في أذنها، يدب الصمت لحظة، ثم تدوي ضحكتها العالية كاشفة عن صفين من الأسنان البيضاء بين الشفتين الحمراوين الرقيقتين: الله يجازي شيطانك يا بهي!
Shafi da ba'a sani ba
اسمه بهي الدين برعم، يندرج في مفكرتها تحت حرف الباء، له باب ثابت في الجريدة بعنوان «النقد الأدبي»، مربع الجسم الأبيض البشرة، أنيق الملابس، حذاؤه لامع بوزه طويل مدبب، أنفه طويل ومدبب يشبه بوز حذائه.
مريم الشاعرة هي التي اكتشفت التشابه، تقول: يمكن الكشف عن شخصية الرجل من شكل أنفه وحذائه ... تخالفها جمالات، تقول: لا يكشف عن شخصية الرجل إلا أصابعه. - أصابع يديه يا جمالات؟ - أعني أصابع قدمه، على العموم هناك تشابه بين الاثنين.
كانت كارمن ترى الأمر على نحو آخر، ربما لأنها تعيش في جاردن سيتي، تتمشى على الكورنيش حيث يتمشى الأثرياء مع كلابهم، تتريض في النادي حيث تتريض الطبقة العليا ... كل منهم يجر كلبا مربوطا في السلسلة. - أنا لاحظت الشبه الكبير بين الكلب وصاحبه يا جمالات. - هذه نكتة يا كارمن. - لأ، حقيقة علمية، لأن الكلب وصاحبه يعيشان في مناخ واحد تحت سقف واحد، مثل الرجل وزوجته، بعد العشرة الطويلة يتشابهان. تقهقه مريم بالضحك وتسألها جمالات: يعني رستم يشبهك يا كارمن؟ - أنا ورستم لا نعيش تحت سقف واحد، لا يمكن أن أعيش إلا وحدي، مع أوراقي وكتبي، رستم يفهمني، لأنه بيكتب، وفاهم يعني إيه الكتابة.
يعني إيه الكتابة؟ السؤال يدور في رأس الفتاة وهي نائمة، تبدو الكتابة عسيرة على الفهم، أغلب الناس يعيشون دون كتابة، يتزوجون وينجبون دون كتابة، ينجحون في أعمالهم ويمتلكون العقارات والأراضي والأموال دون كتابة، يعيشون ويموتون ويذهبون إلى النار أو الجنة دون كتابة، وفي جنة عدن لا توجد أوراق ولا أقلام.
يعني إيه الكتابة؟
يدق السؤال رأسها كالمطرقة وفوق الأرض بجوار سريرها ترقد الرواية، أكوام من الأوراق المتراكمة يغطيها التراب، جثة هامدة فاقدة الحياة، إن لمحتها بنظرة خاطفة تسري في جسدها قشعريرة باردة كالموت.
لم تعد بها رغبة في الحياة، تفتقد القوة على المقاومة، مشلولة العقل والجسم والروح، عاجزة عن كل شيء حتى الحب، انقطعت عن رؤية سميح ورستم وكارمن ومريم، تغلق باب غرفتها في وجه جمالات، الحياة لا تساوي شيئا، لا تستحق أن تعيشها! فما بال أن تبذل جهدا في الكتابة.
دق جرس الباب، كان ساعي البريد يحمل رسالة مسجلة، مكتوبة بحبر أسود، مختومة بالنسر، موقعة من مديرة الملجأ: «نظرا لتغيبكم أكثر من خمسة عشر يوما، فقد تم الاستغناء عن خدماتكم، وتفضلوا بقبول وافر الاحترام. المديرة العامة».
أمسكت الورقة بإصبعين كما تمسك جمالات الصرصار الميت، ألقت بها في بالوعة المرحاض، تنفست الصعداء، أخذت حماما بالماء الساخن والصابون، تغتسل من وظيفتها بالحكومة، تمسح عن ذاكرتها خيمة المديرة السوداء، ووجوه الأطفال الأحبة، وعيونهم الذابلة، إلا عينين محفورتين في ذاكرتها، تطلان عليها في النوم، في الحلم، في المرآة وهي طفلة، كأنما هما عيناها. •••
تسير جمالات إلى مكتبها على قدميها، تخرج من الزقاق إلى شارع المبتديان، يعرفها الجميع في الحي، أصحاب الدكاكين والبوابين، أكشاك السجائر والصحف والمجلات، مطاعم الفول والطعمية، محلات عصير القصب والباعة الجائلين والشحاتين. تسكن جمالات هذا الحي قبل أن يشتهر اسمها في عالم الصحافة، يلجأ إليها العاطلون من الشباب، يعتبرونها واسطة لدى السلطان للحصول على وظيفة بالحكومة أو القطاع الخاص، أو عقد عمل بالخارج، يقبلون عليها وهي تمشي بحجابها الأبيض الملفوف حول رأسها، وثوبها من القماش السميك الذي لا يشف ولا يرف، صيف شتاء، يرتج تحته جسمها السمين، وحقيبة يدها الجلدية الصفراء، بلون حذائها ذي الكعب العالي، وجهها المستدير الأبيض، حاجباها الرفيعان المقوسان، عيناها الكبيرتان المكحلتان، شفتاها الحمراوان منفرجتان في ابتسامتها الدائمة وهي تحييهم بالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تبدو جمالات كأنما هي روح من السماء نزلت إلى الأرض لتحقق أحلامهم، ثم تصعد إلى السماء، حيث تخلع عنها جسدها وتصبح روحا غير مرئية، لم يكن أحد في الحي يعرف شيئا عن حياتها الأخرى، إلا أن زوجها مات شهيد الله والوطن وهي أرملته الطاهرة أخلصت له في الحياة والموت ولم تتزوج من بعده أبدا.
Shafi da ba'a sani ba