المرة الأولى يدعوها وحدها، تعودوا أن يكونوا معا هم الأربعة، شيء خفي يحدث بينهما، تيار من الأحاسيس المبهمة تثير القلق.
حين تكون الفتاة وحدها يجتاحها إحساس جارف بالحزن، من حولها جدران الشقة الضيقة في الزقاق المسدود، تشاركها الشقة «جمالات»، صحافية متوسطة العمر، ضخمة الجسم، شعرها المصبوغ بالحنة الحمراء ملفوف بطرحة بيضاء، وجهها أبيض سمين تغطيه بالمساحيق والألوان، عيناها سوداوان ترسمهما بالكحل، حاجباها رفيعان مرسومان بسن القلم على شكل قوس، أنفها عريض، وشفتاها رقيقتان مصبوغتان باللون الأحمر.
الشقة من غرفتين، واحدة للفتاة والثانية لجمالات، بكل غرفة سرير عريض من الخشب الكالح، ودولاب قديم للملابس، ومنضدة صغيرة للأكل والكتابة، والضرب عليها بقبضة اليد عند الغضب، الصالة ضيقة مظلمة، نافذة واحدة تطل على المنور، والمطبخ أشد ظلمة، لا يتسع إلا لغسل الصحون في الحوض، والوقوف أمام النار للطبخ.
قال رستم وهو يقود سيارته المرسيدس، القاهرة مدينة لا تقهر إلا الضعفاء، يتخفى فيها الفساد تحت حجاب الشرع، ويرتدي حاكمها ثوب الإله الرب. كانت تشعر بتأنيب الضمير؛ لماذا قبلت دعوته؟ كانت تبحث عن عمل مثل الشباب العاطلين والعاطلات، أملهم الوحيد هو الهجرة، أو السفر خارج الوطن، كلمة الوطن تقف في حلقها كالغصة.
كانت كارمن تأخذها بسيارتها حين يسافر زوجها، لم تكن تركب سيارته المرسيدس الكبيرة، تفضل سيارتها الفيات الصغيرة، تخرجها من جراج البيت في جاردن سيتي، تجتاز شارع قصر العيني إلى شارع المبتديان، تدخل الزقاق المسدود في حي السيدة زينب، تتوقف أمام الباب الخشبي الكالح، تضغط على بوق السيارة مرتين، تهبط الفتاة السلالم المظلمة، تتفادى الدرجة المكسورة قبل الدور الأرضي، تركب إلى جوارها، تنطلق بهما إلى صحاري سيتي، تركن كارمن السيارة أمام الشاليه الصغير وسط الصحراء، تخلعان الأحذية وتمشيان فوق الرمال الناعمة، تحكي لها كارمن عن رواية قرأتها، أو نكتة سمعتها، أو حادث وقع لها ...
توقفت فجأة عن الكلام، دوى صمت الصحراء في أذنها كالصفير الحاد، منذ طفولتها تخاف الظلام. التلال الرملية تبدو من بعيد كالأشباح، كارمن واقفة ثابتة، عيناها تنظران بعيدا ناحية قمم الأهرامات.
جاءها صوتها خافتا: رستم يحبك. - زوجك؟ - أيوه .
رغم مرور الأيام بقي صوتها في أذنها، «رستم يحبك»، الارتجافة مع المفاجأة، القشعريرة والرعشة تحت ضلوعها، كيف عرفت ما لم تعرفه هي؟ - أنا لا أعرف شيئا، أقسم. - لا داعي للقسم، أنا أصدقك.
في غرفتها في زقاق السيدة فكرت كيف نطقت الكلمتين «أقسم بالله»، ليس من عادتها أن تقسم بالله، لا تحترم الناس الذين يقسمون بالله، فهم كاذبون لا بد، وإلا ما كانوا في حاجة إلى القسم.
عاد رستم من السفر، جاءها صوته عبر أسلاك التليفون يدعوها إلى ندوة عن رواية «بحر سارجوسا»، لكاتبة من الكاريبيان اسمها «جين ريس». كانت تحب حضور هذه الندوات، تعقد في دار النشر في مصر الجديدة، ورثها سميح عن أبيه، تفرغ لها وجعلها مركز إشعاع للأدب والفن. كان سميح يملأ حياتها على نحو ما، تجمعها به علاقة حب، زال عنها الوهج والشوق الجامح، أصبحت مثل نهر هادئ، لا شيء يدق تحت الضلوع، ولا شيء يثير الخيال. •••
Shafi da ba'a sani ba