وأشارت إلى أوراق روايتها المكومة في غرفتها على الأرض. - ومن أجلها أيضا جئت.
لم تكن الكتابة في حياتها شيئا هاما، تبدو لها عملا عديم الجدوى، كلمات على الورق مثل كلمات في الهواء، لا تتحول إلى فعل حقيقي مثل كلمات الحب.
أول من نبهها إلى الكتابة هي مريم الشاعرة. كانت تقول: لا يمكن لجروحنا أن تلتئم إلا بالكتابة، لا شيء يهزم الجنون أو الموت إلا الكتابة.
تستعيد صوتها وهي تنطق هذه الكلمات، عيناها السوداوان تتألقان بالضوء في الليل المظلم، لا قمر ولا نجوم، كأنما الضوء ينبع من بؤرة في رأسها خلف العينين، كانت كارمن أقل قوة تستعيدها قبل أن تدخل المستشفى، تريدها أن تكون كما كانت، أن يعود الضوء إلى عينيها، وتستعيد وجه سميح الأسمر الشاحب، عيناه خضراوان صافيتان مثل الزرع في الربيع.
قبل لقائها برستم كانت تعيش حياة هادئة، يمنحها سميح من الحب ما يكفيها ويزيد، تجمعها به علاقة ناعمة متينة كخيط من الحرير الممدود إلى الأبد، ينالها السأم من الأشياء الدائمة إلى الأبد، لم يستطع سميح أن يكسر الشرنقة حول روحها، لم يفجر في أعماقها الينبوع المجهول، يستبد بها الضجر من الحياة وهو معها، تشتاق إليه وهو غائب، تختفي من حياته فترة لتفهم نفسها، ثم تعود إليه، تلوذ به من اليأس والرغبة في الموت، تتهم نفسها بالجحود وتطلب منه الصفح، يتلقاها بين ذراعيه كالأم، لا يلومها ولا يؤنبها، يقول لها أنت إنسانة حرة تذهبين وتعودين كما تشائين ... لكن الحرية تبدو لها مثل المرض تريد الخلاص منها، وتمشي في الشوارع جائعة، لا عمل ولا أمل، ولا مكان آمن تنام فيه بعمق، أو تحمي نفسها من عيون الرجال، تمر الأيام دون أن تأكل، يملأ أنفها وفمها تراب الأزقة والشوارع.
دخل سميح حياتها مثل نسمة تدخل صدر المرحوم من الهواء، ألقت نفسها بين ذراعيه بحكم الضرورة، بالرغبة في الحياة والطمأنينة، بالحنين إلى الحب غير الموجود، كالأرض الصحراء تحن إلى قطرات المطر، تلتقطها هدية من السماء، تعجز عن رد الهدية، لانعدام الماء وليس عجزا عن العطاء.
تعودت أن ترى سميح، أصبحت عيناه الخضراوان جزءا من حياتها، يحملها بسيارته الرمادية الرينو إلى مكتبها، حصلت على وظيفة في ملجأ الأيتام، مبنى آيل للسقوط في زقاق مسدود، تفضل السير على قدميها على ركوب السيارة، تقطع المسافة بين بيتها ومكتبها في عشرين دقيقة بالخطوة السريعة، من الزقاق المسدود في حي السيدة إلى الزقاق المسدود في فم الخليج.
في الصباح الباكر يكون الهواء منعشا قليلا، تبدأ العمل من الثامنة صباحا حتى الرابعة مساء، ثماني ساعات تقضيها وسط هياكل أشباح لها وجوه أطفال وعيون عجائز، تجلس معهم في الغرفة المعتمة ذات الجدران السوداء، أو في الفناء الضيق تلفحهم الشمس والتراب، يتغذى بدمائهم الذباب والبراغيث، ترتدي قميصا واسعا وسروالا من الكتان، وحذاء جلديا قديما تمشي به، تدخر ثمن الأوتوبيس لتشتري كتابا أو رزمة ورق أبيض، في خيالها رواية مجهولة، لا تعرف كيف تكتبها وما بدايتها.
مكتبة الشرق كانت عند الناصية، حيث تقاطع شارع قصر العيني مع فم الخليج، صاحبها اسمه «حافظ»، قصير نحيف مقوس الظهر، عيناه جاحظتان تتذبذبان من وراء قعر زجاجة، يرشف الشاي الأسود مع شفطات من دخان الشيشة، يرفع وجهه عن الكتاب حين تدخل، تمر على الرفوف تتطلع إلى العناوين، يمسح التراب عن الكتاب قبل أن يناولها إياه، تدس يدها في جيوبها تبحث عن النقود غير الموجودة، تعيد إليه الكتاب، يدفعه إلى يدها في ضجر. - ادفعي اللي معاكي، والباقي المرة الجاية.
إن لم يكن معها شيء يبتسم في إعياء. - خذيه على سبيل الاستعارة بشرط أن ترجعيه بعد أسبوع واحد.
Shafi da ba'a sani ba