ظلت يدها ممسكة في يد الفتاة، أصابعها الطويلة الرشيقة ترتعش قليلا، إلى جوار سريرها منضدة تحمل زجاجات الأدوية، أسماء كثيرة بالحروف اللاتينية، التقطت عيناها اسم سيروكزات، لمحت هذه الكلمة فوق زجاجة دواء في غرفة جمالات، تأخذ منها حبة قبل النوم تعالج الأرق، أو الكوابيس والخوف من نار جهنم بعد الموت. •••
كان يوما من أيام الصيف، بعد رحيل سميح الأخير، تصورت الفتاة أن رستم سوف يعود إلى كارمن، كلمة الفقدان كانت ترعبها، يمكن أن تحتمل فقدان رستم وليس سميح، الصداقة مطمئنة أكثر من الحب، سفينة هادئة في بحر متقلب، جياش، كان سميح يقول: كارمن تحب رستم من دون شريك، رغم إيمانها بالاشتراكية، أو الشراكة. ويضحك ساخرا: الأحادية سمة العقل الناقص، التناقض بين الحب والحرية، الثنائية ومرض الانفصام، كان يتحول في خيالنا إلى الحزن أو الشجن مع النسيان. •••
في ليالي الوحدة داخل غرفتها الصغيرة لا تعرف الفتاة أين تكون، لا تسمع إلا النبض في عنقها، ودقات المنبه بجوار رأسها، تفقد النطق باللغة العربية والكاتالانية، تمتنع عنها الكلمات، لا تستطيع أن تكتب حرفا واحدا فوق الورق، تهجرها الرواية كما هي هجرتها، أشياء كثيرة شغلتها عن الكتابة، هتاف المتظاهرين في شوارع برشلونة، في ميدان كاتالونيا، أصواتهم تخترق نافذتها المغلقة، جيرانو جيرانو إيراك بالاستين، جورج بوش أساسين، توني بلير أساسين، أزنار أساسين. كلمة «أساسين» تعني قتلة سفاحين، يندفع الدم في عروقها، تحس سخونته في رأسها، تهبط إلى الشارع، تسير بخطوتها السريعة من ميدان أنتونيو لوبيز إلى شارع كولومبس، على جانبيه الأشجار الباسقة، المباني على الطراز الكاتالوني القديم، الأعمدة الضخمة تعلوها التماثيل، أبراج مستديرة تنطح السماء مدببة القمم، تمثال كولومبس ينتصب شامخا من بعيد، تحوطه تماثيل لها شكل الملائكة ونساء بأجنحة، الأرض تغطيها أجساد البشر، حشود لانهائية من النساء والرجال يسيرون من الراميلا حتى ميدان كاتالونيا، في كل الشوارع يسيرون، من الراميلا حتى ميدان كاتالونيا، في كل الشوارع يسيرون، في كل الميادين يتجمعون، آلاف، ملايين، يحملون اللافتات مكتوب عليها بالكاتالانية: جيرانو (لا للحرب) جيرانو. أصواتهم ترج الأرض والسماء، أساسين، أساسين ...
يذوب جسدها في الأجساد، يرتفع صوتها مع الأصوات سفاحين، أساسين، تنهمر الدموع من عينيها، تمسحها بيدها خلسة، منذ طفولتها تخجل من دموعها، كأنما هي عورة، تنهمر وحدها لحظة الفرح، ولحظة الحزن تجف وتنحبس، يذوب الفرح في الحزن وتسيل الدموع في هدوء النهر، تعود إليها صورة كارمن مربوطة بالحبال في السرير، عيناها شاردتان في رمال الصحراء، إلى جوارها زجاجة سيروكزات، تسألها بصوتها المتلاشي: أقراص منومة يا كارمن؟ - يسمونها مضادة للاكتئاب، ثلاثة ممرضين يفتحون فمي بالقوة، أخفيها تحت لساني أو في حلقي، الحياة مع الاكتئاب أحسن من الحياة في المستشفى، يقولون عني مجنونة. - عقلك يوزن بلد يا كارمن. - أفكر في الانتحار! - هذا هو الجنون. - بل قمة العقل!
يترامى لها صوت كارمن في الليل عبر البحر، أمواج برشلونة تلامس الشاطئ برقة ثم تنسحب عنه، كأنامل الأم الناعسة، تمد يدها لتلمس طفلها، تتأكد من وجوده، تخشى أن تفقده في النوم، تمتد ذراعها فوق السرير، تتحسس الجنين في أحشائها، تتأكد أنه حقيقة ملموسة باليد، ليس خيالا ولا وهما، قبل أن يدركها الوعي ارتفع بطنها بالحمل، أخذوها إلى عيادة طبية تحت الأرض، ربطوها بالحبال، حقنوها بالمخدر، فتحت عينيها بعد زمن لا تعرفه، رأت قطعة من جسدها في جردل الدم.
الجرح الغائر في أحشائها، تكاد تحسه تحت الجلد، كان رستم يقبله بشفتيه قبل أن يقبلها. تبتلع كارمن حبوب منع الحمل، وتقول: العالم فيه ملايين الأطفال يموتون بالجوع وفي الحرب، رستم يريد طفلا يحمل اسم أبيه وجده، يهمس في أذنها وهو يعانقها، عاوز طفل يحمل ملامحك يا كارمن. •••
من فوق السطح تطل الفتاة على البحر والجبل، وتمثال كولومب «كولومبس» والسفن الصغيرة الراسية عند الشاطئ، الشوارع والميادين تطل منها رءوس التماثيل، لا يخلو شارع من تمثال لرجل أو امرأة من الشخصيات التاريخية، أدباء وشعراء وفنانين، معارضهم في كل مكان. تضم لوحات سلفادور دالي، بمناسبة مرور مائة عام على مولده، إعلانات عن فيلم بيدرو ألمودوفار بعنوان «تعليم سيئ» (لا مالا إيديو كاسيون).
أناجيل تدق جرس الباب، طالبة في جامعة برشلونة، تأتي يوم الأحد لتمسح السطح والسلم، تدفع لها يولاندا بصحون الباييلا وليس باليورو، تتطوع بمسح غرفة الفتاة دون أجر، تصنع لها كوب شاي أخضر مع قطعة من الكيك، تجلسان فوق الدكة الخشبية على السطح، تغمرهما أشعة الشمس وهما ترشفان الشاي الساخن، تحكي أناجيل بقصتها بالإشارة مع الكلمات، خليط من العربية والكاتالانية، والفتاة تحكي لها قصتها.
اسمها أناجيل كارلوس إيزابيل، تحمل اسم أبيها كارلوس، واسم أمها إيزابيل، بحسب القانون في كاتالونيا. - أنا أعتز باسم أمي أكثر من اسم أبي، وأمي هي التي ربتني بعد أن هجرها أبي، وأنت أتحملين اسم أمك؟ - القانون عندنا لا يعترف باسم الأم. - هذه كارثة.
تحركت عينا أناجيل الزرقاوان فوق ارتفاعة بطن الفتاة غير الواضحة تحت القميص الواسع: من أجلها جئت إلى برشلونة؟
Shafi da ba'a sani ba