تحفظ جمالات بعض أبيات عمر الخيام، تنشدها بصوت متهدج، تنشد بعدها قصيدة لأبي نواس، تذكر المرحوم زوجها، تقول عنه المجحوم، تؤكد أن الله سوف يجحمه في نار جهنم، كان واحدا من الدعاة الإسلاميين المشهورين، أصابته سكتة قلبية في اجتماع مع الرئيس، اكتشفت بعد موته أنه متزوج من امرأة أخرى له منها ثلاثة أولاد ذكور، كتب لهم كل أملاكه، لم ترث عنه إلا البيت القديم في زقاق السيدة.
دخل رستم حياة الفتاة وهي تعيش الاستقرار مع سميح، كانت حياتها مسرحا لتقلبات شتى، قشة في الهواء تتنازعها الرياح، فتاة بلا عائلة ولا مال ولا جمال، ترمقها جمالات من قمة رأسها حتى القدمين، تمط بوزها إلى الأمام تضرب كفا بكف: اللي اسمه إيه بيحب فيكي إيه؟ سودة زي البرابرة وجلدة على عضمة، لله في خلقه شئون!
جمالات ترى نفسها جميلة، بشرتها بيضاء، جسمها مدكوك باللحم، شفتاها رقيقتان، ردفاها سمينان، تحتفظ في مفكرتها بأرقام المعجبين بها بحسب الحروف الأبجدية، «أحمد أحمد أسامة»، يأتي أول الأسماء، يليه «بهاء بهي الدين برعم»، تأتي صديقتها «مريم» الشاعرة تحت حرف الميم. تدعوهما «مريم» في ليالي الصيف إلى السفينة الراسية على شاطئ النيل، الثلاثة يجلسن حول المائدة القريبة من الماء، مفرشها ناصع البياض، يرص الجرسون أمامهن أكواب البيرة، جمالات ومريم تفضلانها في الصيف على النبيذ، تتغنى مريم بأشعارها وهي ترشف البيرة المثلجة، وتقول، نحن نشرب البيرة لأننا نعطش، لكننا نشرب النبيذ لأننا نحبه، يكسو البريق عينيها السوداوين، بشرتها خمرية بلون الطمي، شعرها أسود بلون الليل، صوتها وهي تنشد الشعر ينساب هادئا كموجات النيل.
ليالي الصيف في القاهرة يغلفها شيء من السحر، نسمة النيل الدافئة، يتخفى ضوء القمر وراء سحابة شفافة، تلمع القطرات المكثفة فوق الكئوس البلورية، يرشفن البيرة المثلجة على مهل، نشوة التلامس بين البارد والساخن، لذة الارتواء بعد الظمأ، تمدد الفتاة ساقيها فوق سور السفينة الخشبي، تستمع إلى مريم تنشد الشعر، يقترب طفل يبيع عقود الفل والياسمين. وجه طويل مبقع بنقط رمادية، فوق عينه اليسرى دائرة بيضاء، أصابعه نحيفة محروقة بالشمس، تبدو سوداء مشققة إلى جوار الزهور الناعمة البيضاء، تفوح رائحة الياسمين، يملأن بها صدورهن، تتنهد مريم، وتناوله ورقة بخمسة جنيهات، تلمع أسنانه البيضاء في ابتسامة عريضة، يناولها ثلاثة عقود من الياسمين، تردها إليه برقة وحنان: خليهم لك يا شاطر.
تختفي الابتسامة في الوجه الأسمر الداكن، تنفرج شفتاه الشاحبتان عن صوت خافت، مبتور الكلمات: أنا ... مش ... شحات.
يضع عناقيد الياسمين الثلاثة أمامهن فوق المائدة، ويجري مبتعدا ينادي بصوت العصافير، الفل والياسمين، الفل والياسمين.
على امتداد شارع الكورنيش تسير أسراب الشباب والشابات في نزهاتهم على شاطئ النيل، الذكور رءوسهم محلوقة، البنات رءوسهن ملفوفة بالطرحة أو الإيشارب الأبيض أو الملون، العيون مكحلة، الشفاه مصبوغة باللون الأحمر، السيقان داخل البنطلون الجينز الضيق، يتأرجحن فوق الكعوب العالية الرفيعة، أيديهن متشابكة مع أيدي الشباب، فوق المقاعد يتبادلون القبلات والعناق تحت الضوء المتسلل من وراء السحابة، وتتغنى مريم الشاعرة بكلمات من تأليفها:
يكسر الحب قوانين الأرض والسماء،
ويسقط الحجاب عن وجه القمر.
تنتفض جمالات وهي نصف مغمضة، تفيق لحظة من غيبوبة النشوة، تتمتم بصوت خافت: «أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.»
Shafi da ba'a sani ba