رنت كلمة «محمد» في أذنها فانتفض جسدها بالخوف، لم تتخلص من رعب الطفولة والأجسام المحروقة في نار جهنم.
تذكرها الأزقة في برشلونة بأزقة القاهرة، الفوانيس المعلقة فوق أبواب البيوت العتيقة، الأنوار المتلصصة من الدكاكين تحت الأعمدة الحجرية، تشبه البواكي في شارع محمد علي، أشباح رجال تمشي في العتمة، بنات الليل يتسكعن فوق كعوبهن المدببة، وجوههن مدهونة بلون الشمع، عيونهن المكحلة تشوبها حمرة، تدندن إحداهن بأغنية مجهولة الكلمات تنتمي لكل اللغات. •••
لم تدم قطيعتها لرستم طويلا، جاءت كارمن إلى غرفتها في زقاق السيدة، فتحت جمالات لها الباب، الفتاة في غرفتها تعاني من الصداع، تبتلع نوعين من الحبوب المانعة للحمل المضادة للاكتئاب، أخرجت جمالات الزجاجة من صندوق تحت سريرها، قالت كارمن وهي ترشف النبيذ من حبات الفول السوداني: أنا لا أملك رستم، وهو لا يملكني.
قاطعتها جمالات: ربنا هو الذي يملكنا يا كارمن!
رنت كلمة ربنا بصوت جمالات الحاد، ارتطمت بزجاجة النبيذ فاهتزت فوق المنضدة، ثم استعادت توازنها، انفرجت شفتا كارمن عن ابتسامة ضيقة: رستم إنسان حر يملك نفسه، لا أستطيع أن أمنعه، فالحب يقع دون إرادتنا، هذه لذته وألمه في وقت واحد.
هتفت جمالات بعد أن أصابتها نشوة النبيذ: كلامك عين العقل يا كارمن!
بعد أن خرجت كارمن وتلاشى أثر النبيذ، قالت جمالات: كارمن يمكن تقتلك يا عزيزتي، ما فيش واحدة في الدنيا ما تغيرش على جوزها، ربنا خلقنا من لحم ودم، نأكل ونشرب ونحب ونكره ونموت من الغيرة، ونقتل كمان، ربنا رفع الإنسان فوق الملايكة، ربنا حملنا مشقة جهاد النفس الأمارة بالسوء، هي دي الأمانة، حملها الإنسان ولم تحملها الجبال، إيه رأيك نروح السينما الليلة؟ فيه فيلم هايل اسمه «لهيب الحب»، يلا قومي من السرير خلينا نفرفش شوية قبل ما نموت ونروح النار. •••
جلست جمالات إلى جوارها في الظلمة، أحداث الفيلم تتتابع فوق الشاشة، الرجل العجوز يقع في حب الخادمة الصغيرة، يستولى الحب على قلبه وعقله، تهدده زوجته، يطلقها ويتزوج الفتاة، تهرب منه في الليل، تخاف العودة إلى أهلها في القرية، تتخلص من الجنين في بطنها وتشتغل راقصة في أحد الملاهي حتى القبض عليها.
جمالات تسمع خفقات قلبها إلى جوارها، تلهث أنفاسها مع مشاهد الحب، تضغط بيدها على يد الفتاة، يرتج جسدها لحظة اغتصاب الخادمة في المطبخ، أنينها خافت غير مسموع، تمسح دموعها في الظلام، بعد انتهاء الفيلم وإضاءة الأنوار ترى عينيها محتقنتين بحمرة الدم، تحرك وجهها بعيدا عنها، تحكم الحجاب من حول رأسها، تظل صامتة واجمة حتى تعودا إلى البيت.
تحت السرير في غرفتها سجادة الصلاة ملفوفة على شكل أسطوانة، جوارها يقبع الصندوق من الكرتون، لم يبق به إلا زجاجة واحدة، تشدها جمالات من عنقها، تضعها فوق المنضدة، تنحني مرة أخرى لتشد سجادة الصلاة من تحت السرير، تفرشها على الأرض، تسير إلى الحمام لتتوضأ، بعد أن تؤدي الصلاة تظل راكعة رافعة كفيها إلى السقف، تدعو الله أن يغفر ذنوبها.
Shafi da ba'a sani ba