فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذه طريق ضلال ، ومن تلاعب الشيطان بمن أراد ( 4 ) الله تعالى به الخذلان ، ولو وجب أن لا يرجع أحد إلى ما قام به البرهان خوف أن يأتيه غيره بحجة أخرى ، لما وجب أن يؤمن كافر أبدا ، ولا أن يتوب مبتدع أبدا ، ولا أن يرجع مخطئ إلى حقيقة أبدا ، لأنه يقول اليهودي والنصراني والمجوسي والثنوي إذا أخذته الحجة ، وقام عليه البرهان : كيف أرجع إليك ولعل غيرك يلقاني يوما ما فيأتيني بحجة وبرهان ودليل يقهرني ، بخلاف ما أوضحت أنت وبينت ، فأرجع إليه أيضا ، وهكذا أبدا ويقول الخارجي والرافضي والمرجى والمعتزلي إذا قامت عليه الحجة ، واثبت له البرهان : كيف أرجع إلى قولك ، ولعل غيرك يلقاني يوما فيأتيني بحجة وبرهان ، ودليل يقهرني بذلك بخلاف ما أضحت أنت وبينت فأبقى حيران ويقول الحنفي والشافعي والحنبلي كذلك أيضا سواء سواء ، فعلى هذا القول الباطل يجب أن يبقى اليهودي على دينه ودين أبيه ، والنصراني كذلك والمجوسي كذلك والثنوي يجب ان يبقى اليهودي على دينه ودين أبيه ، والنصراني كذلك والمجوسي كذلك والثنوي كذلك والمعتزلي كذلك والخارجي كذلك والرافضي كذلك ، فأي قول في الأرض أبعد عن الهدى من قول أدى إلى هذه الطريقة وهذا [ 185 / أ ] باب لا تنجلي الحيرة فيه عن الممتحن بها بكلام يسير ، ولا بد لطالب الحقائق من أن يسمع حجة كل قائل ، فإذا أظهر البرهان لزمه الانقياد والرجوع إليه ، وإلا فهو فاسق . والبرهان لا يجوز أن يعارضه برهان آخر ، فالحق لا يكون شيئين مختلفين ولا يمكن ذلك أصلا ، والحق مبين في الملل والديانات بموجب العقل والبراهين الراجعة إلى أول الحس والضرورة . فلا بد لمن أراد الوقوف على الحقائق من طلب العلم المؤدي إلى معرفة البرهان ، والحق يستبين في النحل بالرجوع إلى القرآن الذي اتفقت عليه الفرق ، وإلى الإجماع المتيقن . فلا بد لمن أراد الوقوف على الحقائق في ذلك من الوقوف على ما أوجبه القرآن وصح به الإجماع . والحق يتبين فيما اختلف فيه العلماء بالرجوع إلى ما افترض الله تعالى الرجوع إليه من أحكام القرآن والسنن المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فواجب على كل مسلم طلب ما يلزمه من ذلك والبحث عنه واعتقاده الحق إذا صح عنده ، وكل هذا لا يدرك بالأماني الفاسدة ولا بالأهذار الباردة ولا بالدعاوى الكاذبة ، لكن بطلب أحكام القرآن والبحث عن الحديث وضبطه والاشتغال به عما لا يجدي ولا يغني ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . [ أما قولهم ] : إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم متسع جدا أكثر من أن يحصى أو يحاط به ، ويدعي غيرك أن الحديث الذي ترويه أنت منسوخ والذي يرويه هو هو [ الناسخ ] بأصح أسانيد - فكلام باطل ؛ بل حديث النبي صلى الله عليه وسلم محصى مضبوط مجموع مستقصى ( 1 ) ولله الحمد . ومن ادعى في حديث انه ناسخ أو منسوخ لم يصدق ألبتة إلا بأن يأتي على ما يدعيه بذلك بنص صحيح يخبر ( 2 ) انه منسوخ ، أو بإجماع صحيح يخبر انه منسوخ ، أو بتقدم تاريخ مع تعذر الجمع بينهما ، وكل هذا سهل ممكن لمن طلبه لا لمن قعد يهذر ويشتغل بالحديث البارد ، وبالله [ 185 ب ] تعالى التوفيق . وأما قولهم : ' إذ كل ما ذكرتم مانع من الرجوع إلى ما قامت به البينة ' ( 3 ) . فالحجة ( 4 ) عندكم فيما اعتقدتم مذهب مالك ولعل غيره أصح منه . فإن قالوا : وجدنا عليه من وثقنا به من شيوخنا . قيل لهم : وهكذا يقول أهل كل مذهب فيما هم عليه ، وهكذا يقول أهل كل ملة فيما هم عليه ، وهكذا يقول أهل كل نحلة فيما هم عليه : انهم كلهم وجدوا على ما هم عليه من وثقوا به ، ومن لا يتهم بأنه ما جهل الحق ، ولا انه قال الباطل . فحصلنا من هذا الجنون على لزوم الضلال وعلى قوله تعالى : { إنا اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } ( الأحزاب : 67 ) . ويقال لهم : لا يخلو السائل عن هذا من أن يكون ممكنا منه طلب العلم وفهمه ، أو يكون غبيا ( 1 ) لا يقدر على الطلب . فإن كان ممكنا منه طلب العلم ، فليطلب وليبحث حتى يقف على البرهان ويعرفه . وإن كان غبيا ، فليقل لمن أفتاه بشيء فيما نزل به : أهكذا أمر الله تعالى ورسوله فإن قال له : نعم ، أخذ به ، وإن قال : لا ، أو قال له : هذا قول فلان ، وذكر أحدا من دون النبي صلى الله عليه وسلم من صاحب أو تابع أو فقيه أو سكت عنه ، لم يلزمه اتباعه ، وطلب عند غيره ، وبالله تعالى التوفيق
22 - ثم قالوا : ' ومما ( 2 ) يحتج به عليك أيضا أن أسماء الرجال والتورايخ تختلف في الآفاق والأسانيد ، فمنها ما فيه الضعيف قوي ، والقوي ضعيف ، فكيف لك بالتغليب في الأحاديث المتضادة المتعارضة وقد يكون الرجال في الحديث الذي يرونه في طريق النهي ، هم الذين يرونه من طريق الأمر ، أو يتفرقوا فيكونوا هم ثقات لا داخل فيهم ، إن غلبت أصحاب النهي ، فقد كذبت ( 3 ) أصحاب الأمر وليسوا أهلا للتكذيب ' .
Shafi 99