وأدرك ڤاجنر عندئذ أن التعليم الموسيقي أمر لا مفر منه، وأن أنغامه الوحشية في حاجة إلى الصقل والتهذيب، وواتاه الحظ في شخص تيودور فينلش
Theodore Weinlich
الذي تتلمذ عليه ڤاجنر حينا من الدهر، واستطاع دون سواه أن يقدر المواهب الكامنة وراء ذلك الجهل المطبق بقواعد الموسيقى، فأمكنه أن يحسن توجيهه، ويجعله يستوعب في فترة بسيطة كل ما هو في حاجة إليه من تلك القواعد دون أن يشعر بأي عناء من جراء تمريناتها المرهقة، وما إن أحس الأستاذ أن تلميذه قد تلقى ما يكفيه من القواعد، وأن في وسع عبقريته أن تسير في طريقها المستقل، حتى قال له: «الآن تستطيع أن تمضي في طريقك وحدك؛ إذ إن في وسعك أن تؤلف تبعا لقواعد الفن حيثما يكون ذلك ضروريا.» ولكم كان في تلك الجملة الأخيرة حكمة بالغة من ذلك الأستاذ الذي حض تلميذه دائما على الاستقلال، وإن لم ينس أن يزوده بالعتاد الضروري الذي يمكنه من البدء في شق طريقه الخاص بعبقريته الخالقة التي لا تعبأ كثيرا بالتقاليد والقواعد.
تلك خلاصة التعليم الموسيقي الذي تلقاه ڤاجنر. فهل نستطيع بعد ذلك أن نقول إنه كان مستقل التعليم؛ أي إنه ممن علموا أنفسهم بأنفسهم
autodidacte ؟ الواقع أن الفترة التي سبقت عهد تعلمه المنظم، لم تشهد أية قطعة معقولة ألفها؛ فقد رأينا أن كل محاولاته الأولى كانت شذوذا وانحرافا لا معنى له. أما بعد قضاء تلك الفترة التعليمية المثمرة؛ فقد بدأت الموسيقى المعقولة تنساب من ريشته. وإذن فهو قد تلقى تعليمه على أساتذة يدين لهم بالكثير، وفي هذا ما ينفي صفة التعليم المستقل عنه؛ غير أنه من جهة أخرى لم يكن ليكتفي بتلك القواعد التي تلقاها، بل صمم على دراسة الأعمال الفنية من مواردها الأصلية؛ ولذا كان يقتني مدونات القطع الموسيقية المشهورة أو ينسخها إن لم يكن في طاقته اقتناؤها، ويعكف على دراستها بحماس محموم.
وهنا تظهر ناحية فذة في عبقريته الموسيقية؛ فكثيرا ما قيل إن ڤاجنر لم يبد عبقرية مبكرة مثل موتسارت مثلا. ولكن الواقع أن عبقرية ڤاجنر لم تكن براعة في العزف تحمل الألوف على التصفيق والتهليل، ولم تكن مهارة في سرعة انتقال اليد على أصابع البيانو أو على أوتار الكمان، بل كانت عبقريته أعمق وأصدق من تلك البراعة العملية الاستعراضية؛ فالمقدرة الموسيقية الأصيلة تتبدى أوضح ما تكون في ذلك الصبي الذي يعكف ليل نهار على مدونات القطع المشهورة يدرسها نغمة نغمة، وتتشرب بها روحه الفنية، وتتغلغل في ذهنه كل دقائقها، ويكشف أعمق أسرارها، ويحيا بها حياة كاملة لها قوامها وكيانها الخاص - كل ذلك دون أن يجيد عزفها! ومعنى ذلك أن ڤاجنر قد توفرت له منذ صباه موهبة هي أعمق المواهب الموسيقية وألزمها للفنان الخالق؛ وهي القدرة على «تصور الألحان والأنغام نغمة نغمة بمجرد قراءتها»، وتذوق نواحي الجمال في اللحن وفي الهارموني على السواء بالعقل وحده، وتكوين فكرة صحيحة شاملة عن القطعة التي تدون أجزاؤها تبعا لتقسيمها على فرقة موسيقية كاملة من مجرد النظر بالعينين إليها. وفي هذا يكون ڤاجنر هو «الصبي المعجز» بحق.
المحاولات الأولى
ظهرت ثمرة التعليم الموسيقي المنظم عند ڤاجنر بسرعة تدعو إلى الدهشة، فلم تمض فترة قصيرة حتى توالت الافتتاحيات البسيطة المقبولة التي لا تنفر منها الآذان، وعزفت إحداها في حفل عام فقوبلت من الجمهور بالاستحسان، وبدأت أمه اليائسة من مستقبله تبتسم ابتسامة أمل. وفي سن التاسعة عشرة ، ألف سيمفونيته الوحيدة، التي أودعها كل ما لصق بذهنه من القواعد المدروسة والتقاليد الموروثة عن كبار الموسيقيين؛ ومن هنا كان نصيب التقليد فيها أكبر من نصيب الابتكار. لكنها مع ذلك كانت قطعة جميلة يسمعها المرء فلا يتصور أنها من تأليف فتى لم يبلغ العشرين، ولم تمض سنوات قلائل على اقتحامه عالم الموسيقى؛ وأذكر منها بوجه خاص، الجزء الثاني البطيء الذي ينساب في هدوء ورشاقة تذكرنا بالجزء الثاني من سيمفونية بيتهوفن السابعة.
وكانت أولى محاولات ڤاجنر في التأليف للأوبرا هي تلحين قصة ألفها هو بعنوان «الجنيات»، ولكن هذه الأوبرا لقيت فشلا ذريعا. واضطر ڤاجنر إلى الاستدانة لسداد ديونه المتراكمة.
والحق أن ظاهرة الاستدانة من الظواهر المألوفة في حياة ڤاجنر؛ فقد لازمته خلال الجزء الأكبر من حياته، ولم يتخل شبحها عنه حتى في فترة ازدهاره الأخيرة. بل لقى روي عنه في عهد صباه، أنه توجه في رحلة طويلة مع واحد من رفاقه، وفي خلال الطريق أعوزتهما النقود، وكان لا بد من الاهتداء إلى وسيلة للحصول على أي مبلغ، فوقف رفيقه مبهوتا يفكر في حيلة تعين على كسب بعض المال. ولكن ڤاجنر لم يطل به التفكير؛ إذ مرت بالطريق في تلك اللحظة عربة خاصة فاخرة، فتقدم منها بلا تردد وطلب من ركابها إحسانا، بينما اختفى صديقه على جانب الطريق. وهكذا امتدت يد ڤاجنر تطلب المال وهو في عهد صباه، ولم تكن تلك هي المرة الوحيدة، فطالما امتدت تلك اليد تطلب المال بأي شكل وتستدين على أي نحو. ويبدو أن احتقار ڤاجنر للمال جعله ينظر إليه نظرة عدم اكتراث به وبمن يمتلكونه؛ فلا يرى لصاحب المال فضلا عليه، ولا يرى في افتقاره إليه نقصا يحط من قدره؛ وعلى ذلك فلا لوم عليه إن سعى إلى الحصول عليه بأية وسيلة. لقد كان لديه شعور «بأن العالم مدين له بما هو في حاجة إليه»، فليأخذ المال إذن من أي امرئ كان، ولا يضيره إن أخذ دون أن يعطي؛ لأنه يقدم إلى العالم ألحانا جميلة، فلا أقل من أن يتكفل العالم بحاجاته؛ هكذا كان تبريره العجيب لمسلكه!
Shafi da ba'a sani ba