وأعاد ڤاجنر الكرة بتأليف أوبرا ثانية هي «ممنوع الحب
Liebesverbot »؛ غير أن الفشل لاحقه في كل مرة حاول عرضها فيها، واضطر عندئذ إلى الهرب من الميدان؛ لا يأسا من إخفاقه الفني؛ فقد احتفظ بثقته بنفسه على الرغم من هذا الفشل المتلاحق - وإنما جزعا من مركزه المالي. وكان فراره في هذه المرة إلى مكان قصي، هو «كينجزبرج» عاصمة بروسيا، حيث كانت تقطن صديقته الجميلة فلهلمينا بلانر
Wilhelmina Planner ، أو «مينا
Minna » كما كانت تلقب. كانت معرفة ڤاجنر بها ترجع إلى تلك الأيام التي عمل بها قائدا للفرقة الموسيقية في «لوخشتيت»، وكانت «مينا» هي الممثلة والمغنية الأولى في الفرقة. وسرعان ما توطدت دعائم الصداقة بينه وبين الممثلة الجميلة منذ اللحظة الأولى. وتطورت تلك الصداقة إلى ما بدا له في تلك الأيام حبا، فلما أنبأته بأنها قد نجحت في الحصول على عمل في كينجزبرج، أسرع إلى اللحاق بها. وهناك، قبل أن يوقن من حصوله على عمل، استقر عزمه على الزواج منها، وخطا الخطوة الحاسمة دون تفكير أو تدبر. وفي الرابع والعشرين من نوفمبر عام 1836م، تم الزواج الذي عده ڤاجنر أحد أخطائه الكبرى.
والواقع أن خطأ ذلك الزواج لم يكن ينحصر في عدم الاستعداد المادي وحده، بل كان يرجع إلى ما هو أعمق من ذلك؛ فقد كانت «مينا» من أصل ريفي ساذج، وكان ذهنها سطحيا وثقافتها محدودة إلى أبعد حد. كانت امرأة جميلة فحسب، وربما كان في ذلك ما يكفيه في ذلك الحين؛ فقد تزوجها وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وفي فترة لم تكن للعوامل العقلية فيها القدرة على مقاومة جمالها.
وفي خلال فترة الهدوء المؤقت التي أعقبت زواجه، عمل ڤاجنر على إتمام أوبرا جديدة هي «رينزي
Rienzi »، التي أودعها خلاصة تجاربه وخبرته في ذلك الحين. ورغم أن تلك الأوبرا لا تقارن بدرامات ڤاجنر التالية؛ فقد فتح فيها آفاقا موسيقية جديدة لم يسمع بها من قبل. أما من حيث الموضوع؛ فقد كانت الأوبرا صورة للتقاليد الشائعة في عصره؛ إذ كان موضوعها تاريخيا كأغلب الأوبرات الشائعة حينئذ، مستمدا من قصة «رينزي» كما كتبها «بولفر
Bulwer »، وصور فيها ذلك القائد الروماني الكبير ذا القلب النبيل الذي يهفو دائما إلى الحرية، ويصبو إلى إعادة مجد روما القديمة، بينما تخونه الجماعة المنحلة التي تحيط به، فيروح في نهاية الأمر ضحية إخلاصه لوطنه وانخداعه بمن حوله. فليس في ذلك الموضوع اهتمام بذلك العالم الباطن الذي كان محور قطع ڤاجنر فيما بعد، حين أصبح ينقد الأوبرا التاريخية على أساس أنها تضحي بالجانب العاطفي من أجل العرض التاريخي، مع أن حوادث التاريخ لا يعبر عنها بالموسيقى تعبيرا صحيحا؛ وإنما تغدو الموسيقى في هذه الحالة ضوضاء سطحية ليس بينها وبين الكلمات أي ارتباط. فلم يكن من الغريب إذن أن يرفض ڤاجنر فيما بعد تلك الأوبرا ويتبرأ منها بعد نضوج نظرياته الجمالية، ويعدها «خطيئة من خطايا الشباب».
ولكن «رينزي» كانت وقت تأليفها إنتاجا ضخما يفوق جميع نظائره، فهي بالقياس إلى غيرها من الأوبرات الشائعة تمثل تقدما كبيرا؛ لذا صمم ڤاجنر على أن يعرضها في مدينة كبرى بالقياس إلى بلدة «ريجا» الصغيرة التي كان قد انتقل إليها في تلك الآونة.
وهكذا بارح ڤاجنر ريجا ساخطا عليها، وكانت رحلته البحرية منها محفوفة بالمخاطر، حتى أوشكت السفينة الصغيرة التي كان يستقلها على الغرق مرارا، ولم تقاوم العواصف الجبارة والصخور الضخمة التي اعترضتها إلا بمعجزة. ولكن ڤاجنر الذي يعرف كيف يستفيد من أسوأ ظروفه، استمد من أهوال سفرته البحرية إلهاما شعريا وموسيقيا تبدت آثاره واضحة في «الهولندي الطائر»؛ وهي إنتاجه الفني الأول بعد «رينزي». •••
Shafi da ba'a sani ba